المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير والأسرة
التوضيح
هو العليم
هل العارف لا يهتمّ بالمسائل الاجتماعيّة؟
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۷۰
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
کان البحث يدور حول تنظيم العلاقات والارتباطات، وطريقة ترتيب البرنامج خارج المنزل وداخله؛ هذا مع أنّنا لم نتحدّث بعدُ عن المنزل، حيث من المقرّر أن نتكلّم عنه قليلاً أيضًا، ونتحدّث إن شاء الله تعالى في بعض الجلسات عن كيفيّة ارتباط الإنسان بأفراد العائلة؛ أعمّ من الزوجة والأولاد والأقارب.
التوحيد هو الأساس الذي تتمحور حوله أحكام الإسلام والمعارف الإلهيّة
فالمسألة الأساسيّة والمحوريّة التي بنينا عليها البحث هي مسألة العبوديّة والتوحيد، بحيث إنّ كيفيّة تنظيم الأمور وترتيبها وتدبيرها تتمّ بواسطتها. فكما بيّنا سابقًا، فإنّ الأساس الذي تتمحور حوله أحكام الإسلام وكافّة المعارف الإلهيّة هو التوحيد؛ ففي كلّ مكان أو موقف أو موضع شعرنا بأنّ شخصًا ما أو تيّارًا ما ابتعد عن هذا الأمر، وطفق يخلط المسائل بنفسه، يتوجّب علينا أن ننتبه إلى أنّ المسألة بدأت تنحرف عن المسار الواقعيّ والطريق الحقيقيّ؛ وهذا الأمر لا يحصل للناس العاديّين فقط، بل إنّ هذه الحقيقة والواقعيّة قد تحدث حتّى للمشتغلين بهذه الأمور والعلوم والأخبار والمصنّفات؛ فلا يوجد لنا أيّ مسوّغ للقول: «بما أنّ فلانًا له اطّلاع على هذه المسائل، فإنّه لن يُواجه فيها أيّة مشكلة، ولن يقع في أيّ مأزق»؛ وذلك لأنّ وجدان هذه المسائل وإدراكها ينتمي إلى مقولة أخرى، وقد لا يتلازم أبدًا مع الإدراك الظاهريّ والعلوم الظاهريّة؛ هذا، مع أنّ الاطّلاع عليها قد يكون مفيدًا بالنسبة للذين يريدون تكييف أنفسهم مع القواعد والعقائد.
لا أعلم هل حدّثت الرفقاء بالمسألة التالية أم لا؛ فذات يوم، ذهبت في إحدى المدن لعيادة أحد المشايخ في مرضه، وكان من الأشخاص المشهورين جدًّا، وقد انتقل إلى رحمة الله، حيث كان يعقد جلسات في دروس الأخلاق، ويُقيم مجالس للذكر والتوكّل يتردّد عليها الناس، وكان كلامه جيّدًا وحديثه حلوًا. حينما جلست هناك، لاحظت أنّه يُعاني قليلاً؛ فكان من الواضح أنّ المسائل التي يذكرها تختلف من حين لآخر، وكانت طريقة حديثه تتغيّر، حيث كان يعيش حالة من المعاناة. وبعد مرور عشرين دقيقة أو نصف ساعة، جاء أحد المسؤولين الحكوميّين، وجلس هناك؛ إذ كان هو أيضًا من محبّيه؛ فما إن رآه، حتّى قال له من دون أن يلتفت إلى أنّ المجلس يحضره أفراد آخرون، وقد لا يكون من المناسب الحديث بهذا الكلام: «أيّها السيّد، إلى ماذا ستؤول القضيّة المتعلّقة بابني؟ فبعدما تبدّلت المكانة التي يحظى بها فلان، وفقد منصبه، ما هو مصير قضيّة ابني؟ فأنا أعيش قلقًا يوميًّا عليه، بحيث لم أنم البارحة حتّى الصباح!»؛ فكنت أنظر إليه، وأقول [مع نفسي]: «هذا هو معلّم الأخلاق الذي ألهى الناس طيلة سنة كاملة بالحديث عن التوكّل!!»، حيث كان يقول: لقد استُبدل الوزير الفلاني، واستُبدل المسؤول العلاّني، وفقد منصبه»؛ فانتابني الضحك، وقلت له: «يا عزيزي، هل إنّ ابنكم ينام في الشارع، حتّى تقلق عليه؟! متى ما ألقوا به في الشارع، تفضّلوا بتقديم طلباتكم وتزكياتكم».
فهذا الذي أريد قوله: إنّ الاطّلاع على هذا المسائل مفيد جدًّا بالنسبة للذي يسعى للحصول على هذه الحقائق، لكنّه لا يُمثّل كلّ المسألة؛ إذ تلزم العناية الإلهيّة والتوفيق الإلهيّ، حتّى يتمكّن الإنسان من تخطّي هذا الأمر، والتحقّق في ذاته بهذه المسائل، وهضمها وإيجادها في نفسه، ولمسها.
نزرٌ من أحوال العلاّمة الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه في تعامله مع المسائل الاجتماعيّة
حينما رجع المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه من النجف إلى إيران، فإنّه أوّلاً: كان رجوعه بأمر من أستاذه، حيث إنّ الرفقاء مطّلعون حتمًا على هذه القضيّة، وقرؤوها في الكتب، ووقعت أحداثها الدقيقة بالنحو الآتي: فبعدما التقى بالمرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه، وفي إحدى الزيارات التي قام بها بعد شهر رمضان لمزارات الأئمّة عليهم السلام، ذهب بداية إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، حيث أحتمل أنّه أشار إلى هذه المسألة في كتاب الروح المجرّد۱؛ وبعد أن خرج من الحرم، التفت السيّد الحدّاد في الإيوان الذهبيّ ـ رزق الله كافّة الرفقاء الزيارة إن شاء تعالى، لا سيّما زيارة حرم أمير المؤمنين عليه السلام، حتّى يرون ما هي الأخبار والأجواء السائدة هناك، وأيّ جلال وبهاء هناك! ـ وقال له: «لقد بعثك عليه السلام إلى إيران، وعليك الرجوع إليها، والسكن في طهران».
فجاء إلى إيران، وبدأ بمزاولة أعماله هناك، حيث استقرّ في طهران لمدّة إثنتي وعشرين سنة تقريبًا؛ لكنّ أسّ المسألة وبيت القصيد يكمن في أنّه: طيلة هذه الإثنتين وعشرين أو الإحدى وعشرين سنة التي قضاها في طهران، كانت طريقة عمله وارتباطه بمحيط عمله فيما يخصّ المسجد، والجلسات، والرفقاء، والغرباء، والأشخاص الذين يتردّدون عليه، ويسألونه، ويطرحون عليه الأسئلة الفقهيّة، وهكذا بالنسبة لبقيّة المسائل، حيث كنت أراه يقضي أوقاته في المطالعة بالليل، ويرجع إلى المصادر، ويستند إليها من أجل الإجابة عن الأسئلة؛ وهكذا، يُقيم جلسات للتفسير؛ وفي ليالي الثلاثاء، كان يعقد دروسًا للأخلاق، ويشرح الأحاديث القدسيّة، وكذلك الشأن بالنسبة لجلساته يوم الجمعة، وفي عصر الجمعة بشكل عامّ، والخطب التي كان يُلقيها من على المنبر في شهر رمضان وبقيّة الأيّام، حيث كان يتصدّى لها في العديد من الأحيان؛ ففي جميع هذه الموارد، لو اطّلع أحد على أحواله، لقال: إنّ جميع همّه واهتمامه منصبّ على إدارة المسجد وتسييره، ورعاية شؤون الناس والأحبّة والرفقاء، والاعتناء بهذه المسائل؛ كما جرت العادة على العمل به في هكذا أمور. وحتّى في بعض الأحيان، كانت له مسائل خاصّة؛ وذلك فيما يتعلّق بتردّده على المسجد، وارتباطه بالأصدقاء والمتّصدين [لإدارة المسجد]، حيث طرق أسماع الرفقاء والأحبّة بعضٌ من كثير ما حصل من هذه المسائل؛ والتي لا يجوز لي حتّى أنا الإفصاح عن أحواله فيها! إذ هي من الأسرار التي ترتبط به شخصيًّا، ولا يحقّ لي حتّى أنا الإفصاح عنها!
فبعدما سافر إلى مشهد، وتشرّف بلثم أعتاب حرم الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام، سألته ذات يوم بخصوص قضيّة معيّنة، فقال لي: «يا فلان! إنّني لم أتعلّق طيلة الإثنتي عشرة سنة التي قضيتها في طهران بذلك المسجد وتلك الأحوال، ولو بمقدار ذرّة؛ كما أنّني لم أمكث في طهران في تلك المدّة، ولو لساعة واحدة بإرادتي واختياري؛ وقد طلبت من أستاذي عدّة مرّات أن يعفيني من الذهاب إلى المسجد، ويسمح لي بالبقاء في البيت، والانهماك في مسائلي العلميّة وارتباطاتي الشخصيّة؛ لكنّ السيّد الحدّاد لم يُوافق طيلة تلك المدّة، وكان يحثّني ويُشجّعني على المحافظة على المسجد والذهاب إليه»؛ وهذه المسألة بمثابة ردّ على الذين يقولون: «في المسائل العرفانيّة، لا ينبغي على الإنسان أن يهتمّ بشؤون المجتمع!»، حيث يوجد هناك من يدّعي هذا الأمر؛ وحتّى أنّني سمعت البعض يقول في السنوات الأخيرة من عمره الشريف: «أجل، هناك جماعة تذهب إلى بعض المدن، وتختار الجلوس، من دون أن يكون لها أيّ شغل بالناس، ولا أيّ اهتمام بالمجتمع؛ وهي تدّعي العرفان!»؛ وبالنظر إلى القرائن المحفوفة بهذا الكلام، فإنّ مراد ذلك المتكلّم من حديثه هو المرحوم الوالد قطعًا؛ مع أنّه إجحاف كبير وجهل تامّ بإنسان جعل حياته بأجمعها وقفًا في سبيل الله تعالى؛ وكيف أنّه، ومع كلّ تلك المعاناة التي كان يُقاسيها ... ففي أحد الأيّام، قلت له: «يا سيّدي! ألم يكتمل ألبومكم الشخصيّ من الأمراض حتّى تتعرّضون كلّ يوم لمرض جديد؟!»؛ فقال لي: «أيّها السيّد! ما هي الفائدة من هذين اليومين من حياتنا حتّى نريد ... ففي نهاية المطاف، سينتهي هذان اليومان ويكتملان؛ فما هي قيمة أن نتألّم، أو لا نتألّم، أو نظلّ أصحّاء؟ وما هي قيمة أرواحنا؟! فتعال لنهتمّ بأعمالنا».
لقد كان يُؤدّي كلّ أشغاله فيما يرتبط بالناس والمجتمع والبحث والمنبر والخطابة وتدبير شؤون الأسر، وتسيير أمور العائلة بأمر من أستاذه المرحوم السيّد الحدّاد الذي كان عارفًا، ولم يكن له اهتمام بالأمور الاجتماعيّة، وانشغال بالقضايا العلميّة، واعتناء بالمسائل الفنيّة؛ هل التفتّم؟! وهذا يدل على صحّة الطريق واستقامة المسار، وكيف أنّ وليًّا من أولياء الله تعالى يُقرّر وضع تلميذه في طريق إدارة النظام التربويّ الإسلاميّ والاجتماعيّ بتلك الطريقة وتلك الدقّة وذلك التوازن، ويُحذّره من عدم تحمّل مسؤوليّة بعض المسائل، حتّى يتمكّن من القيام بذلك التكليف الإلهيّ المرتبط بتبليغ الناس وإبلاغهم.
لقد كان بإمكان المرحوم العلاّمة أيضًا ...؛ فأنا لديّ اطّلاع على ذلك، حيث كنت مشاركًا في إحدى الجلسات، وكان يحضرها العديد من الأفراد؛ فتركوا الصلاة في المسجد في أوّل الوقت، لمجرّد أنّهم كانوا يشعرون بالتعب، أو مثلاً أنّ أحوالهم لم تكن على ما يُرام، وقد اجتمعوا مع بعضهم؛ فجلسوا يتحدّثون مع بعضهم، وتركوا الصلاة في أوّل الوقت، إلى أن حلّت الساعة الحادية عشرة والنصف، وهم لم يُصلّوا بعد!! فهل هؤلاء هم الذين يهتمّون بشؤون المجتمع، وأمّا الأفراد مثل المرحوم العلاّمة هم الذين اختاروا العزلة، وتنحّوا جانبًا من دون أن يكون لهم أيّ شغل بالناس؟ فهل هذا هو مقتضى الإنصاف؟! فإذا كنتم لا ترغبون تكييف أنفسكم مع منهج الحقّ، لماذا تعمدون إلى استغلال الآخرين؟ فما هو دخلكم بهم؟ إذا كنتم لا تسعون إلى إصلاح أنفسكم، لماذا تُلصقون ذلك بالآخرين؟ ولماذا تُنقصون من هذا وذاك؟ فما هي ثمرته بالنسبة إليكم؟ هذا، مع أنّني أتذكّر أنّه حينما كان ينتهي من جلسة يوم الجمعة ... وهنا، أريد أن أحدّث الرفقاء بقضيّة ستُواجهنا عند التطرّق لمسألة العلاقة بالمنزل، حيث كان يعقد تلك الجلسة حينما كانت بالتناوب بين منازل الرفقاء في صباح يوم الجمعة؛ وحينما انتقلت هذه الجلسة إلى مسجد القائم، صارت تُقام في الساعة التاسعة والنصف أو العاشرة، وتستمرّ إلى الظهر، ثمّ يُصلّون جماعة، ويُغادرون المكان؛ وأمّا قبل انتقال الجلسة إلى المسجد، حيث كانت بالتناوب، فإنّهم كانوا في تلك السنوات يأتون في الصباح، ويتناولون الفطور، ويعقدون جلسة قرآنيّة، ثمّ يُلقي المرحوم العلاّمة كلمة، ويقرأ العزاء بنفسه، ويواصل [الجلسة] أحد الأشخاص الذين لهم اطّلاع إلى حدّ ما؛ وقد كانت جلسة جميلة جدًّا، وكانت المدّة الزمنيّة التي تفصلها عن موعد الذهاب إلى المسجد ساعة إلى ساعة ونصف تقريبًا؛ فكان يأتي المرحوم العلاّمة إلى المنزل في هذه الفترة، ثمّ يخرج بعد ذلك إلى المسجد؛ واحتفظوا بهذه المسألة إلى أن يأتي الوقت المناسب لكي نتحدّث عنها. وفي بعض الأحيان، كنت أرافقه إلى المسجد، فأراه يُصلّي النوافل حين اقتراب أوان الظهر، وعندما يحلّ وقت الصلاة، يأمر أحد الأشخاص بترديد الأذان؛ مع أنّه قد لا يكون بالمسجد سوى أربعة أو خمسة أفراد، ولم يأت الناس، ولم يجتمعوا بعدُ، حيث كان يقول: «تتعيّن إقامة الصلاة في أوّل الوقت، ولا ينبغي تأخيرها بحجّة اجتماع المأمومين والمريدين»؛ وحينئذ، هل يصحّ القول: إنّ هذا السيّد يسعى لجمع المريدين؟!
وعندما كان يحلّ الليل، كان يذهب إلى المسجد، وكان معظم سكّان الأحياء المحيطة بمسجد القائم في شارع "سعدي" ينتمون إلى الأقلّيات الدينيّة؛ فكان روّاد المسجد من التجّار وأمثالهم، حيث كان هؤلاء أحيانًا يقولون عند حلول وقت صلاة الظهر: «على الأرجح أنّه لا يزال هناك مشترون»، فإلى أن يأتي المشتري، ويقضون له حاجته، يلزم أن يأخذ الأمر مقدارًا من الزمان؛ وحتّى إذا أرادوا أن يصرفوا النظر عن ذلك، فإنّهم سيخسرون ذلك المشتري. وفي جميع التقادير، إلى أن يأتي هؤلاء إلى المسجد، تكون قد مضت عشرين دقيقة أو نصف ساعة تقريبًا؛ وحينما كان يصِلون إلى المسجد، كانت صلاة المغرب قد أقيمت؛ فكانوا يقولون: «يا سيّدي، اصبر قليلاً إلى أن يصل المؤمنون ـ وكنت أسمع البعض ينطق الهمزة عينًا فيقول "المعمنون" بدلاً عن "المؤمنون"!!! ـ،۱ ويصل المريدون، فتُقام الصلاة بحالة من العظمة والأبّهة»؛ لكنّه كان يقول: «الصلاة في أوّل الوقت مستحبّة، فكل من أراد المجئ، فليأت، وكلّ من لم يُرد ذلك، فهو حرّ»؛ وهنا يتّضح أنّه حينما كان يقول: «لم يكن لديّ أيّ تعلّق بهذا المسجد، ولو بمقدار ذرّة واحدة»، فإنّه كان صادقًا في كلامه؛ هذا، مع أنّه في الوقت ذاته كانت تصرّفاته وأعماله هي بنحو ـ وكما أشرت إلى ذلك آنفًا ـ بحيث إذا نظر أحد إلى ذلك الاهتمام، وتلك الدقّة، وتلك المتابعة، وذلك التدبير وإدارة الأمور المرتبطة بالمنبر والناس، ورأى تلك الحميميّة وذلك الكلام الذي كان يخصّ به الأفراد واحدًا واحدًا، فإنّه سيقول: «إنّ هذا السيّد يُريد توريث هذا المسجد لذريّته من بعده، ويترك موطأ قدم للأشخاص الذين سيأتون بعد ستّة أجيال من بعده!»؛ وانتبهوا، فإنّ هذه المسائل مهمّة جدًّا!
نظرة العارف الإلهيّة تمتدّ إلى أقصى نقاط العالم
لكن، بعد ذلك، التفت إلى أنّه صار ملزمًا بالرحيل إلى مشهد، حيث كان ذلك بدوره امتثالاً لأوامر أستاذه؛ وهي مسألة لم يطّلع عليها أيّ أحد؛ فقال له: «إنّ بقاءك في طهران لم تعُد فيه أيّة مصلحة، وعليك الذهاب إلى مشهد، والانهماك في تأليف هذه الكتب للأجيال التي ستأتي بعدك»؛ فمن قال له ذلك؟ إنّه رجل لا يهتمّ [على حدّ زعمكم] بالمجتمع! فيا أيّها السادة، لنفتح أعيننا جيّدًا، لكي نرى ما هو المدى الذي بلغته مدرسة العرفان، ومَن هم الأفراد الذين تهتمّ بهم؛ فهو [أي السيّد الحدّاد] لم يكن يهتمّ بأنّ هذا الشخص قد جاء عنده، فصار كاملاً، وبلغ مرتبة الفناء، وحصل له البقاء، لا! بل إنّ تلك النظرة الإلهيّة التي يمتلكها وليّ الله تمتدّ إلى يوم القيامة، وليس فقط إلى متر واحد أبعد من موضع قدميه.. إنّ تلك الرؤية الإلهيّة التي يتوفّر عليها العارف تمتدّ إلى أقصى نقاط العالم، فتصل إلى منزل تلك العجوز المسيحيّة التي تعيش في المكان الفلانيّ من أمريكا، أو أوربا، أو إفريقيا، أو الجزر البعيدة، أو المحيط الهاديء؛ وانتبهوا، فإنّ المسائل التي أعرضها على مسامعكم ليست مجرّد ألفاظ جوفاء! فالمرحوم العلاّمة قال لي: «يا فلان، لقد بسطنا مائدة لنجمع عليها جميع الناس من كافّة الأمم والشعوب»؛ فهذه العبارة عبارته هو، وهو لم يكن يُغالي في كلامه، حيث قال: «جمعنا عليها جميع الأمم والشعوب، فلا تظنّ بأنّ هذه الكتب ألّفتها لهذه الثلّة القليلة من الأصدقاء والرفقاء فقط، بل صنّفتها أيضًا لتلك العجوز المسيحيّة القاطنة بأقصى نقاط العالم، والتي سيبلغها كتابي هذا، ويقلب كيانها، ويُضيء قلبها بنور الإيمان، فتعتنق الإسلام، وتضحى من شيعة عليّ بن أبي طالب». فهذا هو الكلام الذي قاله لي في طريق عودتنا من زيارة الإمام الرضا.
فهذه المسألة لا تدخل في باب الهزل، بل إنّ هذا هو العرفان؛ فمن الذي قال إنّ العارف اختار العزلة؟! ومن الذي قال إنّ العرفاء يقتصرون على الاهتمام بشؤونهم الشخصيّة، ولا شأن لهم بأيّ إنسان آخر؟! ومن الذي قال إنّهم لا يهتمّون بالمسائل الاجتماعيّة؟! فما هذه الترّهات؟! فهل تجدون من بين المدّعين لنشر الدين وتبليغ مدرسة الرسول أحدًا ما إن رجع من المستشفى إلى البيت، حتّى حمل كتابه، وشرع في التأليف، هو راقد في السرير؟ دلّوني على هكذا شخص! فما هو سبب ذلك؟ سبب ذلك أنّ ما يراه ويُدركه هو يفوق تصوّراتنا وتخيّلاتنا؛ فنحن لسنا بهذا النحو، فلماذا نكذب على أنفسنا؟ لماذا؟ فإذا كانت أحوالنا سيّئة، فإنّنا سنقول: إنّ أحوالنا غير مناسبة، فلا رغبة لنا بذلك؛ لأنّنا الآن نشعر بالتعب، وكذا، وكذا؛ ومتى ما تحسّن مزاجنا، وتحسّنت أحوالنا، فإنّنا نحمل القلم، ونبدأ على بركة الله في الكتابة قليلاً، ثمّ نكتب سطرين، ونقول: «لقد تعبنا! فلنتوقّف الآن، ونرجع بعد ساعتين»؛ وأمّا أولئك العظماء، فإنّهم يشعرون في كيانهم بعين ذلك الاهتمام وتلك الهمّة اللذين كان يحسّ بهما عظماء الدين وزعمائه، بخلافنا نحن، فإنّنا لا نشعر بذلك، حتّى نقترب بأنفسنا من هذه المسألة، وتتجلّى هذه الحقيقة والنورانيّة عليها.
وتحضرني الآن مسألةٌ أرى من المؤسف ألاّ أحكيها للرفقاء؛ فقد اطّلعت عليها بعد وفاة [المرحوم العلاّمة]، وهي من أسراره الخاصّة، ولا إشكال في إفشائها الآن، حيث اكتشفت ذات يوم عن طريق إحدى القضايا والجهات أنّه ذكرها لأحدهم بشكل خاصّ وسرّي، فقال له: «حينما أكون مختليًا بالله تعالى أناجيه، فإنّني أشعر في سويداء قلبي بأنّني أريد منه تعالى ومن إمام الزمان ـ إذا كان ذلك ممكنًا ـ ألاّ تمنحني يا إلهي ذلك المقام الرفيع، وذلك الفناء والبقاء، وكلّ ما تحدّث عنه العظماء والعرفاء، وعوضًا عن ذلك، تُؤيّد دينك الذي أرسلته للناس؛ ومرادي من ذلك ما أنا في صدد بيانه، وطرحه في كتبي وكلماتي»؛ وأمّا نحن، فما الذي كنّا سنقوم به تجاه هذه المسائل؟ فلو قيل لكم الآن: «يا أيّها السيّد، لا توجد أيّة فائدة في مجيئكم إلى هنا»، فلن يوجد أيّ داع لمجيئنا؛ وحينئذ، لماذا سنقوم من مكاننا، ونأتي؟ ولو قيل لي: «يا أيّها السيّد، لا توجد أيّة فائدة متوخّاة من الكلام الذي تتفوّه به، ولن يُسجّله الله تعالى في ملفّك»، فإنّني سأقول: «أنا جالس في بيتي، فما الداعي لكي أقوم من مكاني، وآتي [إلى هنا]؟!».
العارف يُقدم على أعلى درجة من التضحية في سبيل هداية الناس
أنا أريد أن أتحدّث عن مسألة دقيقة جدًّا، ولا أعلم هل تمكّن الرفقاء من استيعابها أم لا؟ فما هو أعلى هدف وأرفع غاية يتوخّاهما الرجل الإلهيّ؟ أن يصل إلى ذلك الرضا الإلهيّ، ويحصل لنفسه على تلك المقامات، ويُفعّل لذاته تلك الاستعدادات، ويُبدّل لأجل نفسه تلك الجهالات إلى علم، ويصل إلى كلّ ما يُحوّله من إنسان عاديّ إلى إنسان فوق البشر؛ وهذه مسائل ليست دنيويّة، بل تنضوي بأجمعها في ضمن الأهداف الإلهيّة والروحانيّة، والتي خُلقنا ووُجدنا لأجلها أساسًا؛ ومع ذلك، فإنّنا نجده هنا يترقّى درجة أعلى من ذلك، ويقول: إلهي، إنّ ذلك الجانب من العطف والرحمة والمحبّة تجاه إرشاد الناس وهدايتهم، وتجاه ما تعب لأجله العظماء من الأنبياء والأولياء، وتحمّلوا في سبيله كافّة المشقّات، ورزحوا تحت القيود والأغلال لأجله ....
هل تعلمون أنّ الإمام السجّاد قطع المسافة من كربلاء إلى الشام في مدّة تتراوح بين ثلاثين إلى أربعين يومًا كحدّ أقلّ بحسب النقل التاريخيّ، وهو ينتقل من مكان إلى آخر في وضعيّة [مزرية]، ويقطع الصحاري والجبال مقيّدًا بالسلاسل والأغلال؟ فما الذي يحكيه لنا التاريخ؟ فالأمر عجيب حقًّا! فما هي الأوضاع التي كان يعيشها موسى بن جعفر؟! والأحوال التي كان عليها الإمام السجّاد؟! لقد كان الأئمّة يُعانون من السجن والنفي والتعذيب والسوط؛ فموسى بن جعفر لم يكن يُقاسي في سجن السندي بن شاهك من الحبس فقط، بل كان يرزح تحت التعذيب وضرب السياط أيضًا؛ فهل تعلمون ما الذي يعنيه ذلك؟ وهل رأيتم ما هي الأعمال التي يقومون بها في السجن؟ لقد كان موسى بن جعفر يُعاني من السوط والتعذيب، حيث نُقلت هذه الأمور في كلّ مكان.
فاحتجاز الإمامين الحسن والحسين، والتشرّد، وجميع المشاقّ، وأمثال ذلك من القضايا التي حصلت لهم أحدثت في المرحوم الوالد حالة، بحيث كان يقول: «إلهي، إن أمكن ألاّ تمنحني هذه المقامات، لكنّك تجعل ثمرةً لتلك المشاقّ التي تحمّلها هؤلاء العظماء، [فافعل]!»؛ فهذه هي حقيقة المسألة؛ وهي تُعبّر عن غاية التضحية التي يقوم بها إنسان ورجل إلهيّ شهمٍ في مقام الإيثار والفداء؛ أي أنّه لا يوجد ما هو أرقى من ذلك، ولا يُمكنني تصوّره؛ بمعنى أنّه لم تحصل لي أنا شخصيًّا حالة كهذه؛ فنحن فقط على نحو الإجمال والإبهام نستطيع تصوّر كيف أنّ أحدًا مستعدّ للتغاضي حتّى عن الرضوان الإلهيّ، في مقابل ألاّ يذهب تعب الأئمّة هدرًا؛ أفهل بوسع أحد القيام بذلك؟!
افرضوا أنّ إمام الزمان عليه السلام قال لأحدنا: «عليك القيام بهذا العمل، غير أنّك إذا قمت به، فلن أهبك أيّ شيء، لا سعادة الدنيا، ولا الآخرة، ولن أمنحك أيّ أجر عليه، لكنّ هذا العمل الذي ستقوم به يحظى برضانا»، فهل سنقوم به في هذه الحالة؟ لن نقوم به؛ فنحن نرغب في القيام بالفعل، حتّى نصل إلى نتيجة معيّنة! هذا، مع أنّنا لا نقول هنا إنّنا نريد من إمام الزمان أن يمنحنا الدنيا، بل إنّنا نتغاضى عن هذا الأمر؛ لكن، كحدّ أقلّ، فإنّنا نريد الآخرة، ونرغب في الجنّة، ومرافقة الأئمّة، ومصاحبة العظماء، ومخالطتهم؛ ولنفكّر بشكل جيّد؛ فلو جاء الإمام عليه السلام، وقال لنا: «إذا قمتم بالعمل الفلاني، فلن يكون ثوابه هو مرافقتي هناك، لكنّه سيحوز على رضاي»، فإنّنا لن نقوم به، بينما كان المرحوم العلاّمة سيقوم به؛ ولهذا، فإنّنا نقول إنّه لا يُمكننا أبدًا تصوّر المرتبة من الإيثار والفداء التي ينبغي على الإنسان الوصول إليها، حتّى يتسنّى له القول بهذا الأمر؛ فلا يُمكن لأحد تصوّر ذلك.
وكنت أريد القول هنا: حينما تقرّر أن يذهب [المرحوم العلاّمة] إلى مشهد، جاء العديد من الناس للاعتراض عليه، وقالوا له: «يا سيّدي، لقد بذلت كلّ هذه المشقّة في سبيل المسجد، وقمت لأجله بكافّة تلك الأعمال، فتمكّن هذا المسجد للتوّ من الرقيّ والازدهار»، حيث يعلم الرفقاء القدماء بأنّ أوضاع المسجد كانت في السابق بنحو مغاير؛ وقد كان [المرحوم العلاّمة] يتدخّل حتّى في الشؤون المتعلّقة ببناء المسجد، ويُبدي رأيه ويُقدّم خططه بشأنها، وكم كان يُدقّق في المسائل ذات الصلة بنظافة المسجد، فكان ينزعج من وجود شيء من القمامة في زاوية منه، ويُنادي على الخادم: «لماذا لم ترفع هذه القمامة أيّها السيّد؟ لماذا هذا المكان متّسخ؟»، ويقول له: «لقد ذهبت لكي أتوضّأ، فوجدت بأنّ المكان الكذائي من محلّ الوضوء متّسخ»، فيؤنّبه، ويوبّخه، ويُحاسبه.
لكن، حينما تقرّر أن يرحل إلى مشهد، تخلّى عنه دفعة واحدة؛ وكأنّه لم يكن هناك أيّ مسجد باسم مسجد القائم من الأساس؛ فكان يأتي عنده الأقرباء والمشايخ والأناس العاديّون والغرباء، ويقولون له: «يا سيّدي، هلاّ تركت هنا أحد أبنائك كحدّ أقلّ، فقد بذلت جهدًا كبيرًا يا سيّدي، ومن هذا الذي يُقدم على هكذا فعل؟ يا سيّدي، كذا وكذا ...».
خدمة المجتمع تتحوّل إلى فخّ عند الغفلة عن الهدف الأساس
ذات يوم، قال لي، ولا أعلم هل اختصّني بهذا القول أم أنّ بقيّة إخواني كانوا حاضرين أيضًا: «يا عزيزي، أو يا أبنائي، حينما أتيت إلى طهران، فإنّ وجودي فيها لم يكن برغبتي واختياري، ولو لساعة واحدة، فلا تدعوا هذا المسجد وهذا المحراب وكافّة هذه الأمور تخدعكم! ولا تسمحوا لها بإخراجكم عن طريقكم! ولا تجعلوها تُعلّقكم وتربطكم بها! ولا تدعوها تغلّ أقدامكم!»؛ فجميع هذه الأمور عبارة عن أفخاخ؛ لأنّه إذا تحقّقت في الطريق الصحيح والمسار الصحيح ـ أي عدم التعلّق بالمسائل الدنيويّة ـ لكن من دون الالتفات إلى ذلك الهدف الأساس، فإنّها تتحوّل إلى أفخاخ وشباك؛ هذا، مع أنّ حديثي هنا لا يختصّ بالمسجد، بل بكافّة الأمور «تو خود حديث مفصل بخوان از اين مُجمل»۱؛ ففي كلّ شيء، إذا أراد الإنسان [أن ينحرف] بمقدار ذرّة ... فحينما يرجع الإنسان إلى نفسه، يستطيع بمقدار معيّن [أن يطّلع على نيّته]؛ فلا يُمكننا القول إنّنا لا نستطيع ذلك، بل كلّ واحد منّا يستطيع، وأنا بدوري أستطيع ذلك؛ ففي بعض الأحيان، يبعث إليّ الأصدقاء برسائل يسألوني فيها: يا سيّدي، كيف نعرف هل نحن مخلصون أم لا؟ وكيف نكتشف بأنّنا عملنا في المسألة الكذائيّة مثلاً لأجل الله تعالى أم لا؟ لا، نحن بأجمعنا نعلم، لكن بشرط أن نخلص في ذلك؛ فحينما أرجع إلى نفسي، عليّ أن أرى هل إذا قيل لي فجأة: أيّها السيّد تنحّ جانبًا، فلا نريد منك بعدُ أن تعقد هذا المجلس، تفضّل، واسترح في بيتك قليلاً، ودع هؤلاء السادة يرتاحون بدورهم قليلاً، حتّى لا يُعانوا بعد ذلك من المتاعب، حيث نجدهم يأتون من هذه الناحية ومن تلك، ويجيؤون من المدن الأخرى معتقدين بوجود مسائل مفيدة هنا! لا، قم من هنا، وغادر هذا المكان! فإن قيل لي: «أيّها السيّد تنحّ جانبًا»، ولم يُحرّك فيّ ذلك ساكنًا، ... ؛ وأمّا إذا رأيت خلاف ذلك، ...؛ فإلى ماذا سيؤول إليه الأمر في الأخير؟ فقد بذلنا كلّ تلك الجهود، وأوقعنا الناس في المشاكل والمتاعب لسنوات مديدة، فإلى ماذا ستصير هذه المسألة؟ ما شأنك أنت بمصير الأمور؟ وما هو دخلك بذلك؟ أ فهل أنت وصيّ على الدين؟ أ فهل أنت صاحب الدين والقيّم عليه؟ ومن الذي منحك هذه السلطة؟ فليس فقط تنحيتُك جانبًا لا تأثير لها، بل تعال، ومُت هذا اليوم، ثمّ انظر هل سيؤثّر ذلك في الأمور أم لا؛ لا يا عزيزي، فالدين له صاحب، وصاحبه حيّ، وهو حيّ منذ ألف ومائتي سنة؛ ولن يحصل له أيّ شيء، وأنا أضمن لك ذلك!
فإمام زماننا لن يُصاب بأيّ مكروه، بل هو في صحّة جيّدة، فلا يضطرّ لتناول الأسبرين ولا الأستامينوفين، ولا أخذ حقنة البنسلين، ولا يُصاب بالصداع، ولا بالانزلاق الغضروفي، لماذا؟ لأنّه يُراعي أمور الصحّة والسلامة؛ فلا يحتاج بعدئذ للأستامينوفن، ولا للأقراص الكذائيّة، ولا للحقن، و... . أ فهل رأى أحدٌ إلى حدّ الآن إمام الزمان في الصيدليّة؟! أم هل إنّه اضطرّ لزيارة أيّ طبيب؟! بخلاف نحن؛ لأنّنا جاهلون، ولا اطّلاع لنا على الأمور؛ ولهذا، تجدنا نذهب إلى هنا وهناك. فالدين له صاحب؛ وحينئذ، ما معنى التدخّل والفضول والاغتمام؟ حيث تجد أحدهم يقول: «ماذا سيحصل إذا لم نوجد نحن؟ وما الذي سيُصيب الإسلام إذا لم نكن نحن؟»؛ ما معنى هذا الكلام؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ ما هذه الترّهات؟ فالدين له صاحب، ووليّ، وقيّم، وله سيّد؛ وقد أُمرت بأن آتي إلى هنا بمقتضى التكليف، وأتحدّث لمدّة ساعة واحدة، ثمّ أذهب بعد ذلك إلى حال سبيلي؛ هذا فقط، والسلام! وانتهى الأمر! فإذا قمت بذلك، فإنّ صاحب هذا الدين سيُوقّع على ملفّي؛ وإذا لم أقم بذلك، فإنّه لن يُوقّع عليه؛ فهذا الأمر يشملني أنا، ويشمل الرفقاء أيضًا.. كلٌّ بمقتضى حسابه وتكليفه الخاصّين.
ثمّ قال لي بعد ذلك: «يا عزيزي، ما عليك الخوض فيه هو دروسك، وليست أحجار المسجد ولبناته وحديده؛ فاذهب وانشغل بدراستك، واهتمّ بنفسك»؛ وهذا الكلام ممّن صدر؟ لقد صدر من رجل تمكّن من الوصول إلى متن الواقع والاعتباريّات، ومن تعيين الحدود القائمة بين الاعتباريّات والحقائق؛ فتجد أحدهم يقول: «أيّها السيّد، لولانا نحن، لبقي هؤلاء اليتامى جوعى! وإذا لم نكن نحن، فمن الذي سيؤدّي هذه الصدقات؟ وإذا لم نوجد نحن، فإنّنا نخاف ألا تُنجز هذه الأعمال! ولولانا نحن، لانفلت زمام الدين مثلاً! وإذا لم نكن نحن، فإن أساس الفقه والفقاهة والفتوى سينهدم!»؛ لا يا عزيزي، لن ينهدم أيّ شيء بتاتًا.
ذات يوم، حصلت قضيّة لأحدهم في إحدى هذه المدن، حيث جاء عندي، وقال: «يا سيّدي، أريد أن أعقد في اليوم الكذائيّ من الأيّام الفاطمّية مجلس عزاء في منزلي، وأقيم مائدة إطعام أيضًا بهذه المناسبة»؛ لكن، لم يتّضح لي كثيرًا الهدف والغرض من هذه المسألة، فقلت له: «حسن جدًّا، حاليًّا، قم بالإطعام»؛ فلمّا قام بذلك، رأى بأنّ الأمر ليس بسيّء، بل هو جيّد، فمرّ شهر واحد، وحلّت مناسبة أخرى، فقال لي: «يا سيّدي، هل تأذن لي بإقامة مائدة إطعام؟»، فقلت له: «هل تملك مالاً وفيرًا؟ إذن، امنحني أموالك، لكي أهبها لذاك المسكين الذي عقد مجلس عزاء في بيته لمدّة خمسة أيّام، ويُريد أن يقيم مائدة للإطعام، لكنّه يفتقر للمال»، فقال لي: «لكنّني يا سيّدي، عقدت نذرًا»، فقلت له: «أنا أتحمّل مسؤوليّة نذرك؛ أ فلم تكن تريد الاستفسار عن مسألة شرعيّة؟ أنا سأتكفّل يوم القيامة بإرضاء الله تعالى عنك! فمن هذا الذي تسعى لخداعه؟ فإذا كنت تريد الاستفسار عن مسألة شرعيّة، فأنا أقول لك: امنحني المال، وأنا سأتكفّل بنذرك»؛ لكنّه لم يقبل؛ فهذا امتحان مفاجيء! ونحن بوسعنا أن نمتحن أنفسنا، لكنّ الأمر صعب؛ فالمائدة ينبغي أن تُقام في بيتنا؛ فمع أنّ المائدة هي مائدة الإمام الحسين، أو السيّدة الزهراء، فيأتي الناس، ويذهبون، ونقول: «أنعم به وأكرم، فقد كانت المائدة ولله الحمد جيّدة»؛ لكن، ما هو باطن هذه التمجيدات والتحميدات؟ باطنها متّصل بأمور لا ينبغي أن تتّصل بها.. متّصل بالنفس! فالصورة صورة إلهيّة، لكن لها حدّ ومقدار معيّن ومراتب خاصّة؛ فأنا لا أريد أن أقول: إنّ كلّ إنسان هو بهذا النحو، وأنّ جميع أعماله ...؛ فبنفس ذلك المقدار يكون الإنسان أقرب.
أداء الأعمال ينبغي أن يكون وفق ما يقتضيه التكليف
ولهذا، حينما غادر المرحوم العلاّمة مسجد القائم، فإنّه فقد جميع تلك الشؤون والجوانب الاجتماعيّة؛ وأحيانًا، حينما كنّا نتحدّث عن هذا المسجد، ونقول: «يا سيّدي، لقد صار مسجد القائم بالنحو الكذائيّ، ويُقال إنّ بعض المسائل أصبحت بهذا الشكل»، فإنّه كان يقول: «لم أعُد أريد سماع أيّ شيء عن مسجد القائم»؛ هكذا، وبكلّ سهولة، وقاطعًا الطريق أمام كلّ معترض؛ وحينئذ، من سيكون هذا الشخص؟ سيكون شخصًا لو بقي في طهران، لكان عمله ممضى [من قبل الله تعالى]؛ ولو ذهب إلى مشهد، لكان عمله ممضى، ولو رحل إلى النجف، لكان عمله ممضى، ولو ذهب إلى أستراليا، لكان عمله ممضى، ولو رحل إلى إفريقيا، لكان عمله ممضى؛ وسيكون فعله ممضى في أيّة منطقة من الصحراء، وفي البحر، والمدينة، وفي كلّ مكان؛ فهذا أساس ومرتكز لحركة الإنسان وسلوكه.. هذه هي حقيقة المسألة.
ومن هنا، فإنّ ما يُريده الله تعالى منّا هو هذا المقدار فقط: أن نُؤدّي أعمالنا وفق ما يقتضيه التكليف فقط، من دون أن نلصق أيّ شيء بأنفسنا، أو نضيف شيئًا من عندنا، أو نتدخّل في الأمور، ونزيد على فعل الله تعالى؛ فلا ينبغي علينا أن نكون ملكيّين أكثر من الملك، بل علينا أن نتحرّك في ضمن الحدود الخاصّة بكلّ عمل نقوم به؛ فعلى التاجر أن يتحرّك في داخل حدوده الخاصّة، وعلى العالم أن يكون مطّلعًا ـ في حدوده الخاصّة ـ على ماذا يقول، وعلى نوع العلاقة التي يقيمها مع الناس؛ وحينئذ، سيضحى نوع هذه العلاقة مهمًّا جدًّا؛ كما عليه أيضًا أن يرى ما هي المسائل التي يتعيّن عليه أخذها بعين الاعتبار، بحيث يكون مُلزَمًا بجعل ارتباطاته قائمةً على أساس التوحيد، وليس على أساس العلاقات الشخصيّة؛ فلا ينبغي أن تتدخّل هنا هذه العلاقات؛ هذا، ويُمكن لكلّ واحد منّا الالتزام بهذه الأمور. وفي هذه الحالة، ستصير الارتباطات الخارجيّة والداخليّة، والارتباطات بالزوجة والأولاد والعائلة والأقرباء، والارتباطات بالخارج والعمل كلّها في مستوى واحد، بحيث إذا خرجت أيّة حلقة من هذه الحلقات عن مكانها الخاصّ، فإنّ ذلك سيترك تأثيره على الإنسان؛ فإذا تصرّف الإنسان بنحو أدّى به إلى التقصير في الاهتمام بالزوجة والأولاد، فإنّ ذلك سيُؤثّر على أحواله؛ فهذه الحلقة الآن لم توضع في موضعها المناسب.. لماذا؟ لأنّ للزوجة والأولاد مكانهم الخاصّ أيضًا.. شأنهم في ذلك شأن بقيّة الناس.
لاحظوا، فقد قمنا في البداية بوضع ذلك الأساس اعتمادًا على مسألة التوحيد؛ ونُريد الآن أن نُشيّد فوقه بناءً، فما هي الأمور التي علينا أن نُشيّدها فوقه؟ وما هي المسائل التي يتعيّن علينا أن نضعها فوق هذا الأساس الذي بنيناه الآن؟ افرضوا أنّه لدينا هنا أساسًا لجدار، وحينما نُريد بناء غرفة، فإنّنا نجعل الجدار أبعد من الأساس بمتر واحد؛ ففي هذه الحالة، فإنّ الجدار لن يكون موضوعًا على الأساس؛ فإذا أردنا صبّ الخرسانة في المكان ذاته، علينا أن نضع أساسات الجدار، وأساسات الدعائم والركائز في موضعها المناسب؛ ومن هنا، علينا في مثل هذه الظروف اعتبار كلٍّ من العلاقات العائليّة والخارجيّة، وجعلهما في مستوى واحد؛ فالعلاقات ينبغي عليها أن تكون في مستوى، والارتباط مع الأرحام ينبغي أن يكون في نفس المستوى، وكما يتعيّن أيضًا اعتبار التواجد بالبيت ونوع العلاقات القائمة بالمنزل في المستوى ذاته، وجعله بنفس تلك الطريقة؛ وحينئذ، لن يكون بالإمكان اعتبار المسائل العائليّة بنحو منفصل عن المسائل السلوكيّة، بحيث يكون من شأن التقصير في الشؤون الداخليّة إحداث آثار مهدّمة على المسائل النفسانيّة والسلوكيّة للإنسان.
تأثير التقصير في التكاليف العائليّة على سلوك الإنسان
جاء أحدهم عند أحد العظماء شاكيًا له أحواله، وأنّه لا يترقّى، ولا يتقدّم إلى الأمام، وأنّه يُعاني أحيانًا من هذه المسألة؛ فالتفت إليه ذلك العظيم، وقال له: «هل تُسيء معاملة زوجتك وأولادك؟!»؛ هذا، مع أنّه لم يكن لأيّ أحد اطّلاع على هذا الأمر، وقال له: «إنّ سبب ذلك يرجع إلى هذه المسألة».
أتذكّر أنّ إحدى المسائل التي كان المرحوم السيّد الحدّاد يوصي بها مررًا وتكرارًا المرحوم الوالد وكذلك أصدقاءه ـ ولينتبه الرفقاء إلى هذا الأمر ـ مسألة مراعاة شؤون العائلة والزوجة والأولاد خصوصًا، واحترام منزلتهم، ومصاحبتهم وموافقتهم، لكن فيما أراده الله تعالى من الإنسان، لا أن يقوم الإنسان بكلّ فعلٍ هكذا؛ كأن يُبدي رضاه ومحبّته لهم في موضع غير مناسب، أو يُقدّم لهم بعض الامتيازات في محلّ غير مناسب، بل عليه أن يلجأ إلى هذه الأمور في مكانها المناسب، ومع مراعاة المعايير التي حبّذها الله تعالى للإنسان. ومن باب المثال، في أغلب الأوقات التي كان المرحوم الوالد يتشرّف فيها بزيارة كربلاء، كان أحد أصدقاء المرحوم السيّد الحدّاد يُحبّه كثيرًا؛ وحينما يراه أتى إلى كربلاء، كان يرغب في المجيء إلى هناك، مع أنّ بيته يقع في النجف؛ وبما أنّ منزله يقع في البريّة بين النجف وكربلاء، فإنّ ذلك يفرض الحاجة إلى وجود شخص كبير في السنّ [بالبيت]؛ إذ من الممكن أن تُحدث بعض التخيّلات والأحاسيس والأمور الأخرى الخوفَ لدى الناس [أي العائلة هنا]؛ وهي مسألة طبيعيّة؛ فكان ذلك الشخص يُريد أن يأتي، ويبيت هناك؛ أي مثلاً أنّه كان يأتي صبيحة الخميس أو الجمعة، ويُريد البقاء ليلة السبت أيضًا بسبب مجيء المرحوم العلاّمة.
لقد كان حديث المرحوم الوالد مع السيّد الحدّاد يبدأ للتوّ بعد منتصف الليل؛ فكانا يجلسان، ويتحدّثان، ويُضيآن المصباح؛ هذا، مع أنّنا لم نكن نفهم عن ماذا يتكلّمان؛ فكان ذلك الشخص يجلس أيضًا، و...، فكان المرحوم السيّد الحدّاد يقول له: «اذهب أيّها السيّد عند زوجتك وأولادك!»، فكان يقول: «يا سيّدي، لقد جاء السيّد محمد الحسين!»، فكان يقول له: «فليأت السيّد محمّد الحسين؛ إنّ مجيئه يخصّه هو»، فكان يقول: «يا سيّدي، إنّ هذا يصعب عليّ كثيرًا»، فكان يقول له: «المسألة هي بهذا النحو!»؛ فكان المرحوم السيّد الحدّاد يذكر له ذلك مرّة واحدة، ولا يُعيد له الحديث مرّة ثانية، حيث كانت هذه هي عادته؛ أي أنّه يذكر المسألة مرّة واحدة، ولا يُكرّرها مجدّدًا؛ غير أنّه كان يُبدي حساسيّة شديدة تجاه مسألة مراعاة الشؤون العائليّة.
وقد حكى لنا المرحوم الوالد أنّ ذلك الشخص أتى في أحد الأيّام، فكنّا جالسين، وحينما انقضى وقت الغروب، قال له السيّد الحدّاد: «حسن جدًّا، لقد تأخّر الوقت، اذهب إلى بيتك! ارحل من كربلاء إلى النجف، ثمّ اذهب بعد ذلك إلى منزلك!»؛ ولا يخفى أنّ النجف والكوفة صارتا الآن متّصلتين، ويبدو أنّه لم يعُد هناك مكان فارغ بينهما؛ لكن، في تلك الأيّام، أتذكّر أنّه حينما كنت أبلغ السابعة عشرة من العمر، ذهبنا إلى بيت ذلك الرفيق للمرحوم العلاّمة، وذلك عند رجوعنا من زيارة العتبات المقدّسة بعد أدائنا للحجّ، فكانت تلك المنطقة بأجمعها وإلى منتهى حدّ البصر عبارة عن بريّة، ولم يكن هناك إلاّ بعض المنازل والأشجار؛ ففي هكذا أوضاع، سيشعر أهل المنزل بالخوف والاضطراب؛ بينما تُريد أنت أن تُقصّر في بعض الأمور بسبب علاقتك بالأستاذ، وحصولك على بعض الحالات، وارتباطك بالرفيق، والأنس به ومؤانسته؛ وحينما تُقصّر في مسألة ما، يأتي الامتحان! فحينما جلستَ هنا، ظانًّا أنّك تستمتع، وتتحدّث، وتضحك، وتستفيد بعض المسائل، فإنّ جلوسك هذا يتسبّب في اهتزاز قلب شخص آخر، وخوفه؛ فما الذي فعلته للحيلولة دون ذلك؟! ولذلك، فإنّ هذا الجلوس سيُؤدّي إلى قساوة القلب، لكنّ النفس تأتي وتُسلّيه بتلك الأمور، بينما يسعى الأستاذ لإخراج هذه النفس، وسحبها للخارج، ويُريد التقليل من التعلّقات، وإضفاء جانب الطهارة على النفس، غير أنّ ذلك الشخص يتسبّب بعمله في قساوة قلبه من دون أن يعلم، ظانًّا أنّه جلس يستمتع، ويتحدّث، ويستمع للأسرار، لكن، ما هي فائدة سماعه لهذه الأسرار؟ أجل، لقد كان يُصغي للأسرار، ومطّلعًا على العديد منها، حيث أشار المرحوم العلاّمة بنفسه إلى أنّ الله تعالى فتح بصيرته لرؤية الأسرار وسماعها، لكنّ مجرّد الإصغاء للأسرار لا يكون هو نهاية الأمر.
حقيقة السلوك في ترك التعلّقات وليس الاطّلاع على الأسرار
أ فلا توجد لدينا في القرآن الكريم آية تتحدّث عن قصّة بلعم بن باعورا، وتقول: ﴿عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾۱؟! أي أنّنا وهبناه من عندنا تلك العلوم التي لا نهبها للآخرين؛ وبسبب هذا العلم، صار مستجاب الدعوة، بحيث كان يُستجاب لكلّ شيء يدعو به؛ فأتى، وحاول استخدام هذا العلم ضدّ وليّ الله تعالى.. حضرة موسى عليه السلام، لكنّ غيرة الله تعالى لا تسمح بذلك.. لقد أخذت منّي ذلك، وأردت أن تستخدمه ضدّ وليّي!! هذا غير ممكن! وقد ابُتلي ذلك الشخص بنفس هذه المصيبة، حيث تمكّن من الاطّلاع على بعض المسائل، فصار يرى ويسمع مجموعة من الأسرار، ويقول: «إنّنا نجلس عند السيّد، ونستمتع، ونتحدّث، ونضحك.. أجل، لقد حضرنا عنده ذلك المجلس، فكم كانت جيّدة تلك المسائل التي تكلّم عنها! وكم استفدنا منها!»؛ يا أيّها المسكين، أنت لم تستفد شيئًا، بل المصائب تحلّ على رأسك من دون أن تشعر! فلو كنت قد قمت من مكانك، وذهبت، وتذوّقت مرارة عدم الصحبة، وتجرّعت غصص الفراق، وبَلَعتها، لنفعك ذلك، وأحدث فيك تأثيرًا؛ فهذه هي حقيقة السلوك يا عزيزي! وليس الجلوس، والاستمتاع، والحديث، والضحك، وقراءة الدعاء!
فمسألة السلوك عبارة عن سحب النفس عن كافّة التعلّقات، سواء كانت دنيويّة أو أخرويّة؛ وذاك الجالس هناك لم يكن يحكي عن قصّة كليلة ودمنة، بل كان يتحدّث عن مسائل إلهيّة؛ لكنّ المسائل الإلهيّة لا تكون كذلك إلاّ إذا كان إلهيّة فعلاً؛ وأمّا إذا جرى وضعها في غير محلّها المناسب، فإنّها ستصير شيطانيّة؛ وقد شاهدتم ما حلّ برأس ذلك الشخص؟ لماذا حلّ ذلك برأسه؟ بسبب تلك الليالي التي لم يمتثل فيها بالذهاب. وحتّى أنّ المرحوم العلاّمة قال إنّه كان في بعض الحالات يلجأ للردّ، ولا يُصغي لكلامه، ويبقى هناك؛ فكان أستاذه بدوره لا يفعل له شيئًا، ويتصرّف بطريقة أخرى لا يُمكننا الحديث عنها هنا؛ هذا، مع أنّ الأستاذ ينظر لكافّة جهات المسألة، علاوةً على أنّ الأمور التي يذكرها تعود بنفعها على ذلك الشخص بنفسه؛ فما علاقة الأستاذ بذلك؟ فهو سيظلّ حيًّا إلى سنتين، ثمّ يرتحل عن هذا العالم.. أ فلم يرحلوا عنّا؟ فذلك الشخص هو حيّ الآن، بينما أستاذه ارتحل عن الدنيا ولا ينفعه في شيء؛ فما الذي سيحصل عليه الأستاذ [من تلك المسائل]؟ فهو يذكرها لأجله هو.. فهذه المسائل هي لأجل طريقك ومسارك أنت، ولأجل تخلّصك من نقاط الفراغ تلك، ولأجل محوك لنقاط الجهل، وفي سبيل بلوغك الفعليّة والكمال؛ لكن، حينما نقول: إنّها جيّدة، فإنّك تقول: «لا، فأنا أريدها بذلك النحو»؛ حسن جدًّا، اذهب وافعل ذلك إذا كان يُعجبك.
كان هناك أحد الأصدقاء من الأطبّاء المشهورين انتقل إلى رحمة الله تعالى، وقد سنحت الفرصة لنتذكّره الآن رحمة الله تعالى عليه؛ وهو الدكتور منوشهر لاري، حيث كان طبيبًا أخصّائيًا في أمراض الدم بمشهد، وكان يُعالج المرحوم العلاّمة بعد إصابته بمرض اليرقان، فكان يقول: «ذات يوم، جاءت عندي امرأة، وأخبرتني بأنّ قلبها يُؤلمها، فقلت لها اسمحي لي الآن بفحصك، من دون أن تُخبريني بالموضع الذي يُؤلمك، ففحصتها، ورأيت بأنّ الألم يرتبط بمعدتها، وليس بقلبها».. عذرًا، فقد قالت إنّ قلبها أو معدتها تؤلمها، أو بالعكس، ويبدو أنّ قلبها هو الذي كان يُعاني من الألم، لكنّها اعتقدت أنّها معدتها، فقال الدكتور: «فوصفت لها دواء لعلاج القلب»، ثمّ قال: «ذهبتُ صدفة لصيدليّة الإمام الرضا الواقعة في جانب مستشفى الإمام الرضا الكائن في ساحة الإمام الرضا بمشهد، لكي أشتري دواء من هناك؛ فرأيت أنّ تلك المرأة جاءت بدورها إلى هناك، وسلّمت مسؤول الصيدليّة تلك الوصفة، لكنّها كانت تُحدّثه ببعض الأمور، فقال لي ذلك المسؤول فجأة: يا حضرة الدكتور، هل هذه وصفتكم؟ فقلت له: أجل، إنّها وصفتي، فقال لي: إنّ هذه السيّدة تقول إنّها تُعاني من ألم في معدتها، لكنّك وصفت لها دواء لعلاج القلب؛ فقلت: نعم أيّتها السيّدة، إنّ قلبكم هو الذي يُعاني من الألم، وليست معدتكم؛ فقالت لي: من الذي يعلم أكثر: أنا أو أنت؟ فقلت لها: لا.. أنت تعلمين أكثر، فخذي هذه الأدوية الموجودة هنا المختصّة بالمعدة، وتناوليها كلّها!!»؛ وحينئذ، تجدنا ندّعي أحيانًا بأنّنا نفهم الأمور بشكل أفضل؛ فهو يصف لنا الدواء، ويقول: «يا عزيزي، أنا أرى ما الذي يحدث في نفسك»، لكنّنا نقول له: «لا، أنت لا تفهم».. حسن جدًّا، إذا كنتُ لا أفهم، فاذهب، واعمل بمقتضى وصفتك أنت! وتجدنا نقول أيضًا: «أنا هكذا أرى الأمور، وهكذا أفهمها».
ولا يخفى أنّه بعدما وصلنا إلى هذا البحث، فإنّنا ندعو الله تعالى أن يُوفّقنا بحوله وقوّته لكي نبيّن للأصدقاء كيفيّة الارتباط بأمور المنزل، وتنظيم شؤونه، وطريقة الارتباط بالعائلة، والتكاليف والأوامر التي ذكرها العظماء بشأن هذه المسألة.
نرجو من العليّ القدير ألاّ ننحرف أبدًا عن صراط أهل بيت العصمة والطهارة يمينًا أو شمالاً، وألاّ يقصر أيدينا عن التشبّث بأذيال ولاء حضرة بقيّة الله أرواحنا له الفداء، وأن يهبنا دائمًا عناية هذا العظيم في الدنيا والآخرة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.