المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
هو العليم
الصدق وعدم الازدواجيّة
المرأة والأسرة – قم - الجلسة الأولي
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآل محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
معنى الصدق ومقامه
كان المرحوم العلّامة (رضوان الله عليه) يتحدّث في بعض المناسبات إلى السيّدات وكذلك إلى الرجال، بمواضيع تترشّح عليه مِن حقيقة حيّة وأزليّة، أي غير قابلة للزوال والمحي. إنّ تلك المواضيع هي مواضيعٌ واقعيّة، ولم يكن يطرحها لمصلحة شخصيّة تقتضيها، أو لجلب منفعةٍ آنيّةٍ لنفسه. كيف ذلك؟ ذلك لأنّ وجوده ونفسه قد تجاوزت تلك الأمور، ولم تعد حقيقته تَعتبر للمصالح الشخصيّة وتراعيها؛ ولهذا كان يطرح في بعض الأحيان أمورًا قد تتعلّق حتّى بوضعه العائليّ، إذ قد أخرج مِن حساباته مجاملة أيّ شخص، فما إن يرى الصلاح في بيان أمرٍ ما، حتّى يُبيّنه دون أن يغفل عن أيّ جانبٍ، ومِن دون أن يغضّ الطرف عن أيّة جهة. لهذا السبب كان كلامه صدقًا.
أتعلمون معنى الصدق؟ الصدق يعني الكلام الّذي يُعتمد عليه؛ إنّني أتحدّث إليكم الآن، وأنتم لا تعرفون شيئًا عمّا يجري في نفسي، فالله هو العالِم بغاية ما أنا بصدد طرحه عليكم الآن؛ فإنّكم لا ترون الآن سوى ظاهر مرتّب – هذا إن كان مرتّبًا بالفعل فأنا لم أنظر إلى نفسي في المرآة قبل مجيئي إلى هنا – فطرحي لبعض المواضيع وادّعاء القدرة على إبداء وجهة نظري فيها، لهو أمرٌ معلوم للجميع بدرجةٍ أو بأخرى – وتقبُّل الآخرين لقولي وترحيبهم به لهو لطف منهم – أمّا ما يجري في نفسي تجاه هذا المجلس وهذا الحضور والترحيب، فلا يعلم به إلّا الله؛ فمِنَ المحتمل أن أكون غير مؤهّل لطرح مِثل هذه المواضيع، وقد لا أمتلك الخلوص والصفاء الكافيين لتولّي مِثل هذه المهمّة. فهذا كلّه محتملٌ فِيَّ، أمّا بالنسبة للمرحوم العلّامة فلا يُحتمل ذلك أصلًا. فعندما كنّا نحضر في مجالسه، لم نكن نلمس منه أنّه يراعي المصالح، بل كان يطرح أحيانًا بعض الأمور الّتي قد تمسّ بأفراد عائلته. نعم، لم يكن يراعي هذا الجانب في تصرّفه أبدًا، ولعلّه كان أكثر شدّةٍ مع أفراد عائلته [مِن هذه الجهة].
حصلتْ حادثةٌ في ذلك الزمان أدّت إلى التشويش والاضطراب وتغيير الأحوال، وكانت حادثةً شيطانيّة حقًّا. ففي إحدى المجالس حضر المرحوم العلّامة – ولعلّه كان مجلس عصر يوم الجمعة – وأتذكّر أنَّه بدأ حديثه بقراءة هذا الشعر
ما ز ياران چشم يارى داشتيم | *** | ... |
ولم يكمل الشطر الثاني منه وهو
... | *** | خود غلط بود آنچه ما پنداشتيم۱. |
[يقول بيت الشعر: كنّا نأمل أن نحصل على مساعدة مِنَ الأصدقاء، غير أنّنا أخطأنا في ظنّنا هذا].
ثمّ شرع المرحوم العلّامة بالكلام، ولقد كانت تلك القضايا مريرةً في ذلك الوقت، وعلى أيّة حال فقد كانت عبرةً لنا لنتعلّم كيف نتصرّف، وحتّى لا نكون مصداقًا لآية: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرينَ أَعْمالًا ، الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾٢، فلا نكون كمتسوّلي الأرمن، الّذين قال عنهم المرحوم العلّامة أنّهم يعيشون المسكنة في الدنيا والآخرة. فعندما كان يشرح هذه الآية كان يستشهد بهؤلاء ويقول: أترون هؤلاء الأرمن الّذين يستجْدون في الشوارع – هذا الكلام لا يشمل المستضعفين منهم الّذين سيكون لهم حسابهم الخاصّ – فهم مساكين في الدنيا والآخرة. إنّ المسكنة والخسران هما مِن نصيب مَن يُقحم نفسه في نشاط يؤدّي به إلى الهلاك، والحال أنّه يعتقد أنّه يعمل لله، فكم هو مسكين والحال هذه؟! غير أنّ هذا لا يعني أنّ الله لا يفتح الطريق أمام الإنسان، ولا يُريه الطُرق المؤدّية إلى المعرفة.
الصدق وحسن النيّة يتعارضان مع اقتحام المهالك
جرى اليوم حديثٌ بيني وبين أحد الأصدقاء، فسألني: كيف ينحرف عن جادّة الطريق بعضُ مَن لهم نيّة حسنة، وظاهر حالهم يُنبئ عن صدقهم وحسن نواياهم، ومع هذا يتنكّبون عن الطريق بشكل واضح كالنهار ويسلكون الطريق الخاطئ؟ فأجبته بإجابتين، ولا حاجة لذكر إحداهما، أمّا الثانية فكانت: أنّ الله قد وضع ميزانًا لكلّ إنسان، فلا نستطيع أن نقول أنّ صفاء الباطن وخلوص النيّة يسوقان الإنسان، كالأعمى والأصّم، في كلّ اتجاه، حتّى يحلّ عليه اليوم الّذي يجد فيه جميع أموره قد فسدت. نعم، لا نستطيع أن نقول هذا الكلام. ثمّ ضربتُ له مثالًا فقلتُ: أنت تعتقد أنّ لفلان باطنًا صافيًا ونيّةً خالصة، فأسألك الآن: كم ساعة أمضى فلان هذا، منذ ارتحال المرحوم العلّامة حتّى الآن، في العمل بالأنشطة الّتي ذكرتَها؟ ألم يشتغل على الأقل مئة ساعة في المسائل العائليّة والخارجيّة وفي الخلوات والجلوات وغيرها ممّا لا ينبغي تفصيله الآن؟! هذا ممّا ينطبق عليه قاعدة (قد مضى عليه الزمن)!
إنّ الأمور الّتي أطرحها عليكم الآن، هي أمورٌ أساسيّة، وهي بمثابة القواعد والأسس الّتي ترتكز عليها المطالب الّتي ستُطرح في المجالس القادمة، والّتي ستجمعني بالسيّدات ورفقاء الطريق.
[ثمّ قلتُ له:] لا بدّ أنّها لا تقلّ عن مئة ساعة، أليس كذلك؟ فقال: نعم. قلتُ: ألم يمتلك مِن تلك الساعات المئة، ساعةً واحدةً، يأتي فيها ليسألني شخصيًّا عن تلك القضايا؟! فلماذا تباطأ إلى هذه الدرجة؟! كان المفترض به أن يأتي لساعة واحدة ليستمع إليَّ، ثمّ فلْيقُل ما يشاء. ألا يفترض أن يجري الأمر بهذا الشكل؟! وعليه، فما نسمعه مِن امتلاك البعض للإخلاص والخلوص وكذا وكذا، لهو أمر كاذب، فهم ليسوا كذلك. ألم يكن [ينبغي عليك] أن تحضر لساعة واحدة فتستمع إلى تلك الأمور منِّي شخصيًّا؟! كان عليك، وإن كنتَ تعتبرني كيزيد أو عُمَر، أن تصرف مِن وقتك ساعةً واحدةً لتجلس مع يزيد هذا أو عُمَر وتستمع إليه، فما الضير في ذلك؟! ما الضير أن تجلس مع أناس يسيرون في طريق غير مناسب وغير صحيح؟! فأولئك الّذين [يدّعون الصفاء] كاذبون ومنافقون بأجمعهم، وهم يخدعون أنفسهم.
سبب عقد هذه المجالس وتحديد آليّتها
لم أوافق على إقامة هذا المجلس، إلّا بعد إصرار متزايد. وكنتُ قد قلت: مَن أكون حتّى أحدّث الناس، فعليكم أن تُثبتوا أهليّتي لذلك أوّلًا، ومِن ثَمّ يكون لنا حديث آخر. فأنا لست سوى طالب مِن طلبة العلوم الدينيّة، لا أُجيد سوى الدروس الحوزويّة مِن قبيل [تصريف الأفعال كـ] ضرب َيضربُ. غير أنّكم أنتم مَن ألقى هذه المسؤوليّة على عاتقي، وتصنعون منّي شيئًا بترديدكم عبارة (أيّها السيّد، أيّها السيّد)! وإلّا فأنا لا أتعدّى كوني ذلك الطالب الحوزويّ. نعم، أصرّ الآخرون على حضوري، فقلتُ: إن كان الأمر كذلك، فسأحضر وأتحدّث مِن باب أنّه مجلس أُنس، وهذا أقلّ ما يمكن جنيه مِن فائدة.
فإن كان لدى أحد الأصدقاء والمحبّين سؤال، فليطرحه بجديّة في المجالس القادمة، الّتي ستُعقد إن شاء الله. نعم، على رفقاء الطريق والأصدقاء الّذين يحضرون هذه المجالس، أن يطرحوا أسألتهم بكلّ صراحة، وبعيدًا عن المجاملة، وإلّا فمِنَ الأفضل عدم حضور هذه المجالس. نعم يجب أن تُطرح الأسئلة بكلّ صراحة وبدون مجاملة، لكي لا أشعر أنّني أُتلف وقتي. هل عرفتم ما أريد قوله؟! أي إنّ على رفقاء الطريق والأصدقاء أن يطرحوا المهمّ مِنَ الأسئلة والمطالب السلوكيّة والأخلاقيّة، لا المطالب الفنيّة والتخصّصية العرفانيّة، إذ لمِثل هذه المطالب زمانها وشرائطها الخاصّة، بل ينبغي أن تُطرح المسائل الأخلاقيّة والسلوكيّة والعائليّة وما يتعلّق بالعلاقات والعقائد. على أن تُطرح بصدق تامّ وبعيدًا عن أجواء المجاملة، وذلك لأنّ الشرط الأساسيّ للموافقة على حضور هذه المجالس كان هو الصدق.
سبب اصطدام المحاضِر مع أفراد عائلة المرحوم العلّامة
إنَّ هذا الشرط الأساسيّ [أي الصدق] هو الّذي جعلني اصطدم مع أفراد عائلة المرحوم العلّامة بعد ارتحاله؛ فقد كانت الأمور تجري في الداخل بشكلٍ وفي الخارج بشكلٍ آخر، فكنتُ أعترض قائلًا: لماذا تجري الأمور على هذا النحو؟! لا معنى لأن يكون هناك تعامل داخليّ وخارجيّ، متفاوتان، بين رفقاء الطريق، فأنا لا أتعامل مع أصدقائي بهذا الشكل، بل علينا أن نُظهر للآخرين ما نحن عليه، فليس مِنَ الصواب أن نتظاهر بحال، ثمّ نفعل في الخفاء ما يحلو لنا .. فكان هذا الأمر باعثًا على الخلاف بيننا. نعم، كان خلافي مع أفراد عائلة المرحوم العلّامة ناشئً مِن عدم الالتزام بهذه المسألة، فكانت هناك ازدواجيّة في التعامل مع مجريات الأحداث.
لقد كان السيّد فلان يأتي إليَّ ويتذمّر مِن بعض ما يُطرح، وكان يستفتيني [فيما يُشكل عليه مِن مسائل]، ثمّ يذهب ليطرح نفسه في الخارج بعناوين شتّى. فكنتُ أعترض وأقول: هذا غير صحيح، فلا يمكننا أن نغشّ أصدقاءنا، ولا ينبغي أن يتلوّث هذا الجوّ بالخداع والنفاق؛ فمِنَ الممكن أن تجري الأمور على هذا المنوال ليوم أو يومين، ولكن ماذا عن اليوم التالي واليوم الثالث وما يليه! نعم، لا يمكن أن تجري الأمور هكذا، ثمّ لماذا لا نطرح حقيقة الأمر بكلّ صدق فنقول: لقد كان مقام المرحوم العلّامة ما كان عليه، وها قد ارتحل عن الدنيا، فلْنجلس إذًا على مائدة واحدة كأصدقاء، مهما كان الطريق الّذي اخترناه.
مِن هنا ظهر الخلاف بيننا، وكنتُ قد أشرتُ إلى بعض المسائل في رسالة بعثتها السنة الماضية إلى الوالدة وآخرين، فقلتُ في تلك الرسالة ذات الصفحات الثلاث: ألم تقولِ لي كذا عندما كنّا في طهران في ذلك البيت وفي تلك الغرفة؟! ألم تقولِ لي كذا وكذا في سفري الّذي جئتُ به إلى مشهد؟! ألستِ أنتِ مَن طرح علَيَّ ذلك الموضوع في يوم كذا؟! ما الّذي حصل حتّى تنسِي كلّ ذلك الكلام؟! أنتِ الّتي قلتِ ما قلتيه لا أنا، وأنتِ الّتي طرحتِ ذلك الموضوع. نعم أنتِ الّتي قلتِ لي: يا فلان، عليكَ أن تجد مخرجًا لذلك الموضوع، وعليكَ أن تقوم بعمل كذا، فما الّذي حصل؟! لستُ أنا مَن طرح الموضوع، بل أنتِ مَن قاله لي! فلو كنتُ أنا مَن طرح ذلك الموضوع لَأمكنكِ تكذيبي، ولكنّني سمعتُ هذا الكلام منكِ شخصيًّا.
ويا أختاه، ألم تحكي معي حول هذه القضيّة، وحول ما جرى في المكان الفلاني، حيث قلتِ لي: عليكَ أن تتحرّك في هذا المجال. فما الّذي جعلكِ تكتبين لي وتقولين: إنّ التصرّف بمنزل المرحوم العلّامة يجب أن يكون مِن قِبَل وصيّه الرسميّ، السيّد فلان فقط، وأيّ تصرّف لأحدٍ غيره يُعتبر تصرّفًا غصبيًّا ومحرّمًا شرعًا. فإنّ هذا الكلام يعني أنّني كنتُ أقوم بعمل محرّم! كيف يمكن أن يصل الأمر إلى هذا الحدّ؟! حسنًا، ما دام الأمر كذلك، فأنا لم أكن أنوي التصرّف فيه، ولا أريد أن أتصرّف فيه بعد الآن، مع أنّني أمتلك منه الحصّة الأكبر المشاعة، فهي ملكي الشخصيّ، ومع هذا لن أتصرّف بخلاف رضا بقيّة الورثة.
يجب أن تكون علاقتنا مع رفقاء الطريق ومع الأصدقاء مبنيّةً على الصدق أوّلًا – فلا مكان لإخفاء الأمور هنا – وأن لا يُقْدم أحدٌ منّا على عمل مِن تلقاء نفسه. فلو كنتُ أقبل أنا بخلاف ذلك، لتمكّنتُ مِن حلّ كافّة مشاكلي معهم منذ البداية، ولَمَا سمحتُ للأمور أن تصل إلى هذا الحدّ. نعم، أنا قادر أكثر مِن غيري على تسويتها [بتلك الطُرق]، لأنّني أستطيع أن أرضيهم بما أمتلكه مِن قدرة على البيان ومِن وعِلم. ولكن لماذا وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه؟ ذلك لأنّني لم أستطع أن أتقبّل ما يجري، ولو مِن باب المجاز والادّعاء، ولم أستطع أن أنظر إلى الأمور وهي تجري على خلاف مسير العظماء ثمّ أرضى بها.
كان البعض يقول: على فلان أن يتنازل بعض الشيء، فهو حادٌّ جدًّا في حديثة ومعاملاته، عليه أن يكون هادئًا وأن يقدّم بعض التنازلات، وإلّا فكلامه صحيح وهو على حقٍّ. قلتُ: إن كان حقًّا، فالحقّ لا يعرف الحدّة والهدوء، ولا مجال فيه للمجاملة وأمثالها، إذ الحقُّ حقٌّ. فلِمَ لا تقبل بالحقّ عندما تراه، ولماذا لا تدافع عنه؟! إن كنتُ أنا حادًّا، فلْتكن أنت الهادئ، ولكن تقبّل الحقّ وقُل أمام الجميع: إنّ الحقّ مع فلان. ثمّ تعامل معهم أنت بهدوءٍ، وجاملهم واستقبلهم بوجه بشوش وأسلوبٍ لطيف. لماذا تنكر الحقّ، وتكتفي بالاعتراف به سرًّا أمام شخص واحد، فلِمَ لا تعترف به أمام الجميع؟! وأريد أن أقول هنا أنّ الله يُبيّن المطالب للجميع، وأنّ معيار تشخيص الحقّ عن الباطل موجود لدى الجميع، ولكنّنا نحن الّذين لا نعمل بموجبه.
قضيّة حصلت بين السيّد القاضي والسيّد الخوئيّ
عندما كان الشيخ بهجت حفظه الله۱ يتتلمذ على يد المرحوم آية الله الخوئيّ رضوان الله عليه في النجف، ذهب يومًا إلى المرحوم السيّد القاضي وطرح عليه مسألةً أصوليّةً وهي: هل يمكن للمتكلّم أن يقصد معانٍ مختلفة ومفاهيم متعدّدة بكلام واحد أم لا – كان المرحوم الخوئيّ يعتقد بعدم إمكانيّة ذلك وله أدلته، شأنه في ذلك شأن سائر الأفراد – فقال المرحوم السيّد القاضي (رضوان الله عليه) للشيخ بهجت: ولِمَ لا! فإنّ الأشخاص ذوي النفوس الضعيفة هم فقط الّذين لا يمكنهم ذلك – كأمثالنا – أمّا مَن وصل إلى مقام التجرّد، فقد تمكّن مِنَ الإشراف والسيطرة النفسيّة على كافّة المعاني والقوى في آنٍ واحد وبشكل متساوٍ، فلا مانع أن يريد عدّة معانٍ مِن لفظ واحد في نفس الوقت، فيكون هذا اللفظ مِن قبيل المشترك اللفظيّ ذي المعاني المختلفة. ثمّ ذهب الشيخ بهجت إلى السيّد الخوئيّ ونقل له كلام السيّد القاضي حول الموضوع الّذي تباحثوا فيه بالأمس، فقال له السيّد الخوئيّ: إنّ هذا الكلام ليس كلامك، أخبرني مِن أين جئت به. فقال له الشيخ بهجت أنّ هذا كان جواب السيّد القاضي، فقال السيّد الخوئيّ: توقّعتُ ذلك، ولكنّني أردتُ سماعه منك. ثمّ قال السيّد الخوئيّ ما خلاصته: أنا أنظر إلى السيّد القاضي بكلّ تعظيم وإجلال، ولكن ما يمنعني مِن مرافقته والتوفّق لزيارته، هو المطالب الصوفيّة والعرفانيّة الّتي تُطرح عنده، فهذا ما يقيّدني ويمنعني مِن مرافقته، وإلّا فأنا شغوفٌ جدًّا للاستفادة مِن محضره. ثمّ ينقل الشيخ بهجت ما قاله السيّد الخوئي إلى السيّد القاضي، فيقول له السيّد القاضي: ارجع إليه وقل له: أوّلًا إنّ هذا الكلام يُستبعد أن يصدر مِن جنابك وأنت أهل تحقيق.
أتلاحظون، كم هو رصين جواب السيّد القاضي. وهو الكلام نفسه الّذي نحن بصدد الحديث عنه الآن، [وهو يطابق ما] قلته سابقًا لذلك الرجل مِن أنّ فلانًا قد أضاع مئة ساعة مِن وقته، فلو أنّه صرف واحدًا بالمائة منها فقط بالمجيء إلى هنا، لَمَا أتلف التسع والتسعين ساعة الأخرى. [فلذا قال السيّد القاضي:] مِنَ المستغرب مِن جنابك، وأنت مِن أهل التحقيق والتدقيق، أن تتفوّه بهذا الكلام قبل أن تحقّق فيه. نعم، بما أنّك أهل تحقيق وتفحّص وبحث وتدقيق، فلا يمكن أن تَقبل بمطلب دون دليل على صحّته، فأنت تبحث في المسألة وتدقّق فيها مِن جهة علميّة، وتعقد المجالس للبحث حولها وتتناول أقوال الآخرين نقدًا وتجريحًا وتحليلًا وتعديلًا، فإمّا أن تؤيّد مطالب العظام أو تردّها، وفي نهاية المطاف تطرح رأيك النهائيّ بشأنها فتقبلها [أو ترفضها]. فما الّذي جعلك – والحال هذه – تحكم على مسألة كبيرة كهذه بناءً على ما يقوله هذا وذاك!! ما معنى هذا الكلام منك!! فهذا لا ينسجم مع النهج الّذي ينتهجه العالِم المحقّق!!
هذا أوّلًا، [وقال أيضًا:] ثمّ إنّ بابي ليس مغلقًا بوجه أحد، فباستطاعتك أن تأتي وترى بنفسك، هل أنّ تصرّفاتنا تشبه تصرّفات الدراويش المعروفة، وهل كلامنا يشبه كلامهم! أبواب مجالسنا مفتوحة أمام الجميع – قال لي البعض أنّ مجالس عنوان البصريّ يحضرها بعض مَن لا نعرفه. فقلتُ لهم: فليحضروا، فما الّذي نطرحه في مجالسنا تلك! فليأتوا وليستمعوا لقولنا، وليسجّلوه ويأخذوه إلى أيّ مكان، فما المانع مِن ذلك – فيقول المرحوم القاضي هنا: إنّ أبواب مجالسنا مفتوحةٌ أمام الجميع، فتعال واستمع بنفسك إلى قولنا، إن كان كفرًا أو مخالفًا للشريعة، أو إن كنّا ندعو الآخرين إلى طريق الباطل!! تعال واستمع، وتحقّق بنفسك ممّا نقول، ثمّ إن شئت قبلته وإن شئت رفضته.
لاحظوا كيف أنّ العارف لا يخاف أحدًا، ولا يعمل بالخفاء، فلا تراه يوصي بعدم إفشاء كلامه. على أنّ موضوع الأسرار هو موضوع آخر، فلا ينبغي إفشاء السّر، نعم، بل ويعتبر ذلك مِن كبائر الذنوب ويستعقبه ظهور مشاكل نفسيّة، وحصول بعض التغيّرات والتبدّلات. هذا ما يتعلّق بإفشاء السّر، أمّا ما يتعلّق بالعمل في الخفاء، فلا يتأتّى هذا مِنَ العارف؛ فالعارف لا يعمل في الخفاء، ولا يقوم بأعمال لا يريد أن يعرفها الآخرون. وعليه، فما الّذي يعنيه قول [البعض]: لا ينبغي لأحد أن يطّلع على هذا العمل؟! فالعمل؛ إن كان باطلًا فهو باطلٌ، وإن لم يكن كذلك فعليك أن تصرّح به أمام الملأ .. فما معنى هذه التصرفات!! وما معنى أن تقول: ليس مِنَ المصلحة البوح بكذا، ولا صلاح أن ينتشر هذا الأمر وذاك!! إن جرت الأمور على هذا النحو، فستصبح أوضاع هذه المدرسة كالمدارس الأخرى والدكاكين. فالطريقة الفُضلى هي أن يقوم الإنسان بالتحقّق مِن صحّة أو سقم ما يسمعه، لتتّضح له الأمور، فيكون على بيّنة مِن أمره، وكانت هذه الطريقة مشهودة في تصرّفات ومعاملات المرحوم العلّامة رضوان الله عليه.
العلّامة السيّد الطهرانيّ يعاتب المحاضِر وشخص آخر
تحدّث المرحوم العلّامة في مجلس انعقد في مشهد في بيت أحد الرفقاء عصر أحد الأيّام، بمناسبة حادثة حصلت في ذلك الوقت، فوجّه المرحوم العلّامة كلامه إليَّ معاتبًا وقال: إنّ فلانًا يستخدم طلبة العلوم الدينيّة للعمل في بيته الّذي يبنيه في مشهد، الأمر الّذي يجعلهم يتخلّفون عن دروسهم. فقلتُ: إنّ البيت الّذي بناؤه يضيّع أوقات الطلّاب، فإنّ عدم وجوده أفضل مِن وجوده و ... . ورأيتُ حينها أنّ هذا الاعتراض على تصرّفي وارد، وإن كان الّذي أتى للعمل في منزلي هو طالب واحد فقط، ولكن علَيَّ أن لا أُخفي أنّ هذا الطالب قال حينها أنّه لا يستطيع أن يفهم إن لم يحضر الدرس.
كما اعترض المرحوم العلّامة في ذلك المجلس على شخص آخر فقال: كما أنّ فلانًا قد تصرّف نفس هذا التصرّف، حيث كان يستخدم الطلّاب للعمل في بيته أيضًا. ثمّ قال: ولكن شدّة المؤاخذة على فلان [وهو الثاني] ليست بمقدار فلان الّذي هو أنا.
ولقد كانت المؤاخذة واردة [على كلّ حال]، ولا بدّ مِن قبولها، وليس في الأمر شيء، فسكتُّ ولم أتفوّه بشيء على الرغم مِن وجود ما يستوجب أن أتكلّم به معه، ومع كلّ هذا سكتُّ ولم أتكلّم بشيء، أمّا الشخص الآخر فقد امتعض كثيرًا وقال عند خروجنا: لقد فضحنا الوالد في هذا المجلس. فتبسّمتُ في وجهه وقلتُ له: إن كان مِنَ المفترض أن نصحّح تصرّفاتنا، فلم لا نعمل على تصحيحها، فهل لون دمنا أشدّ حمرة مِن غيرنا؟! فإن كان ذلك الإشكال واردًا، فما المانع أن يَرد علينا أيضًا؟! إلى جانب ذلك، ما هي هذه السمعة الّتي ستبقى مع وجود تصرّفٍ خاطئ، ثمّ تزول بكلمتَي [عتاب وتأنيب]، أهذه سمعة برأيك؟! فهدأ عبد الله قليلًا وانتهى الموضوع عند هذا الحدّ. وخلاصة المسألة أنّه إن كانت هناك مؤاخذة فعلى الإنسان أن يتقبّلها.
كيف تعامل المحاضِر مع ملاحظات وُجّهت له
قبل شهر مِنَ الآن، وقبل أن يبدأ العام الدراسيّ هذا، جاءني أحد الأصدقاء – الّذي كنتُ أنوي أن أذكر اسمه إلّا أنّني احتملتُ عدم رغبته بذلك – فجلس في نفس هذا المكان، وقال لي: هناك مطالب تدور في ذهني، أريد أن أطرحها عليك. ثمّ تغيّر لون وجهه ولحن صوته. فقلتُ له: ما هذا، هل رأيتني سابقًا أنفعل عند سماعي النقد، هات ما عندك. فقال: لا، بل أريد أن استأذنك لذلك أوّلًا. فقلتُ: لا يحتاج الأمر إلى استئذان، فعلى الإنسان أن يصحّح أخطاءه، فقل ما عندك، فإن رأيتُ كلامكم وجيهًا فعليَّ أن أقبله، وإلّا شرحت لكم وجهة نظري، وأنا لا أجامل.
فأخرج عبد الله هذا مِن جيبه ورقة وبدأ بقراءة الفقرات (أ – ب ... الخ) وهكذا حتى وصل إلى آخرها، وكانت بحدود سبع أو ثماني فقرات. فلمّا فرغ منها قلتُ له: إنّ جميع الأمور الّتي كتبتها صحيحة، وهي انتقادات في محلّها، غير أنّ لديّ جواب واحد يشملها جميعها، فاسمع منّي هذا الجواب .. فلمّا سمع جوابي قال: إن كان الأمر كذلك، فأنا أسلّم لك. قلتُ له: إنّ المطالب الّتي طرحتها كانت صحيحةً، وسأعمل هذا العام على الاهتمام بشكلٍ أكبر بالدروس وغيرها.
هذا هو النهج الّذي ننتهجه، والّذي لم نر فيه أيّ سوء، ولم نراه يتعارض مع أعمالنا وسمعتنا وغيرها مِن أمور لا ينبغي أن نتحدّث عنها.
ليس وراء الصدق أيّ ضرر دنيويّ أو أخرويّ
الأصدقاء ورفقاء الطريق يعلمون كم كنتُ أتعامل بحساسيّة مع ما يُطرح بعد عهد المرحوم العلّامة، تلك الحساسيّة الّتي جعلتني أتّخذ طريقًا مختلفًا عن طُرق الآخرين، ولا زالت تلك الحساسيّة على حالها لم تتغيّر أبدًا، دون زيادة أو نقصان. وأنا أرى حياتي تدور مدار الصدق، ولم أرَ أيّ ضرر لحقني بسبب الصدق، لا في أمور الدنيا ولا الآخرة. فعلى الإنسان أن يكون صادقًا في جميع المسائل والأحداث، سواء الحاليّة والماضية، وعليه أن لا يَغشّ، بل أن يتعامل مع الأمور على ما هي عليه، وهذا ما شاهدناه مِنَ المرحوم العلّامة رضوان الله عليه، وهو ما كان يجعلنا نثق به.
إنّ الأمور الّتي أطرحها عليكم، هي الحجر الأساس الّتي ستُبنى عليها المجالس القادمة، وذلك لنعرف الهدف مِن تشكيل هذه المجالس، وما سنحصّله منها؛ فهل هي مِن قبيل المجالس الّتي تقيمها الهيئات۱! فلو كان الأمر كذلك، لَما صحّ لي ولكم اتلاف أوقاتنا بها.
السيّدات على عِلمٍ بما كان يجري مؤخّرًا في مجالس طهران؛ لقد رأيتُ هناك عدم الاهتمام بما يُطرح. كنتُ أذهب مرّةً كلّ شهرين إلى طهران، وأتحدّث إلى السيّدات حول مواضيع مختلفة، ولكن بقيت كلّ واحدة منهنّ على نهجها السابق. فعندما رأيتُ الأمور تجري بهذا النحو قلت: أنا ليس عندي وقت فائض ... فلا ينبغي أن تستمرّ الأمور على ما هي عليه، لذا لا بدَّ مِن إصلاحٍ. ولله الحمد، استجاب الأصدقاء بكرمهم، وتحمّلوا جسارتي وجرأتي عليهم، وعملوا على ترميم النقائص بكرمهم، ووصلنا إلى نقطة ثابتة بحمد الله.
السلوك بعيدًا عن الإفراط والتفريط
ما يجب أن نركّز عليه هنا، هو السير بشكلٍ صحيحٍ بعيدًا عن الغلوّ والإفراط والتفريط. هذا ما أُؤكّد عليه في تشكيل هذه المجالس. فيجب أن تُطرح مباني المرحوم العلّامة رضوان الله عليه، والمباني الأخلاقيّة، والمواضيع المتعلّقة بالنساء أكثر مِنَ الرجال. إنّ المبنى السلوكيّ للمرحوم العلّامة يتمثّل في كيفيّة الحركة والسير في هذا الطريق، وكان يوضّح ذلك بقوله: إنَّ لدينا القدرة على الحركة وتجاوز رغبات النفس وعلى البذل. أي إنّ الّذين يحضرون هذه المجالس، فبالرغم مِن مشاغلهم الحياتيّة واليوميّة وتربية أطفالهم – الّذين أوكلوا العناية بهم [في هذه الساعات] للآخرين حتّى يتمكّنوا هم مِنَ الحضور – إلّا أنّهم حضروا باستعدادٍ كاملٍ وخصّصوا وقتًا لذلك، وهو أمر يستحقّ التقدير. فهذه الحركة والتضحية، لا بدّ أن تُعطي ثمارها في النتيجة، فلن تكون مجرّد حضور مجلس مِن أجل رؤية السيّد والاستفادة مِن محضره، فمِثل هذا الأمر ليس ممدوحًا، بل ستكون هناك استفادة ممّا يُطرح مِن مباني العظماء وتجاربهم في هذا المجال، وهو الأمر المهمّ في المقام.
تشرفنا مرّةً، بمعيّة المرحوم العلاّمة، وعدد مِنَ الأصدقاء، بزيارة الإمام علِيّ بن موسى الرضا عليهما السلام، وقد حصلت هناك قضيّة (...)۱ [فقيل لذلك الشخص:] إنّ هذا يتعارض مع المسألة الفلانيّة وزيارتك حرام، إلّا أنّ هذا الشخص مضى في زيارته ولم يستمع لِما قيل له.
فما أقصده هنا هو أنّه يجب على الإنسان أن يصل إلى طريق السلوك الصحيح، وأن يبلغ المقصد الّذي يجب عليه بلوغه، وأن لا يلتفت إلى كلام الناس عنه وإلى نظرتهم إليه، بل عليه فقط أن يأخذ بعين الاعتبار مكانته عند الله. هذا ما يقصده الحقير؛ فعلى كلّ واحد أن يسعى لتكون مكانته وحركته، الفكريّة والعلميّة والباطنيّة والنفسيّة، واضحةً، وذلك لكي لا يأتي عليه اليوم الّذي يقوم فيه – لا سمح الله – بعمل مِن تلقاء نفسه، ليكتشف خطأه بعد عدّة سنين، فتنتابه [حينئذ] الحسرة والندامة.
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مرآة صافية لعينيّة الوحي الإلهيّ
كنتُ أفكّر اليوم في قضيّة، خَطَرت على بالي، تتعلّق برسول الله، فقلتُ: ما الّذي جعلنا نتّبع النبيّ ونعتقد بنبوّته، فإنّ ذلك لم يحصل بدون سبب، فالنبوّة ليست لباسًا يَلبسه الرجل وخِلعة يرتديها، ثمّ يُجلَس به على كرسيّ الخلافة ويُعرّف للآخرين بأنّه نبيّ! بل إنّ وجود النبيّ هو وجودٌ للصدق، فهو مرآةُ حقٍّ صافيةٍ لا تموّج فيها، تعكس الصورة الّتي أمامها على ما هي عليه.
أرأيتم كيف تعكس بعض المرايا غير الصافية، صورَ الأشياء أمامها بشكل مشوّه، فبعض المرايا تكون متآكلة، فتعكس الصورة بشكل معوجّ؛ فالصورة [نفسها تكون] جيّدة، ولكن عندما يدقّق الإنسان في نفس المرآة يجدها محبّبة وطلاء ظَهْرها متآكلًا، وبعضها يكون متموّجًا، فتعكس الصورةَ بشكلٍ معوجٍّ. إنّها لمرايا رديئة.
أمّا المرآة الجيّدة، فهي تعكس الصورة العلميّة للشيء الخارجيّ؛ إنّ للجسم الخارجيّ صورةٌ عينيّة [وهي شكله الّذي هو عليه في الخارج]، أمّا صورته في المرآة فهي الصورة العلميّة. والوحي عبارة عن الصورة العينيّة لحقائق عالَم التكوين وعالَم الكون وعالَم الوجود، فعندما ينزل هذا الوحي على قلب النبيّ يكون النبيّ هو المرآة الّتي تعكس هذا الوحي، فما ينعكس هو عبارة عن الصورة العينيّة [للوحي]، أي هو عين الشيء الّذي نزل على قلب النبيّ دون أيّ اعوجاج فيه.
[والشاهد على ذلك] بعض ما نزل في القرآن مِن آيات في مدح النبيّ، كآية: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾۱، أي إنّ محمّدًا ليس أبا أحد منكم، حتّى تتكلّموا معه بمثل قولكم: يا محمّد حدّثني، ويا محمّد افعل كذا وكذا. بل عليكم أن تتعاملوا معه باحترام، فهو رسول الله وخاتم النبيّين. وآية: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمينَ﴾٢، وآية: ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ۱ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ﴾٣، أي تعظيمًا لك وإجلالاً لمقامك لا أستطيع أن أقسم بهذا البلد الّذي تسكنه. إنّ هذه الآيات تدلّ على عِظم مقام النبيّ، وعلوّ شأن حقيقته. وكذلك آية: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ۱ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ﴾٤، وآية: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبينِ﴾٥، هذه الآية تتحدّث عن المشاهدات الجلاليّة والجماليّة للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم. وهناك آية، تتحدّث عن المشاهدات الذاتيّة، وذلك في مقامٍ لا يستطع أحد [أن يصل إليه أحد، وهي آية]: ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ۸ فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى﴾٦. إنَّ هذه الآيات تدلّ على عِظم وجلال مقام رسول الله.
ومِن جانب آخر نجد آيات تُؤاخذ النبيّ وتحاسبه، وهي توضّح وضع النبيّ، فتقول: إن أراد هذا النبيّ أن يضيف أو يُنقص مِن عنده شيئًا، فسيُحاسَب على ذلك، كالآيات الّتي تقول: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاويلِ ٤٤ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ٤٦ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزينَ﴾۷، أي لو أنّ هذا النبيّ حاول أن يضيف مِن عنده أو ينقص كلمة، لسحقنا عظام ظهره، ولقطعنا عِرق حياته الرئيسيّ. أتلاحظون أيّة عبارات استُخدمت هنا [فهي تقول:] لا تتصوّر أنّك تستطيع أن تقوم بأيّ عمل تريد، فلا يحقّ لك أن تتسامح أو تتساهل في تطبيق الأحكام، وعليك أن تطبّق عين ما نقوله لك، ولا يجوز لك أن تزيد عليه أو تنقص منه شيئًا.
وعليه، نلاحظ كيف أنّ النبيّ يُبلّغ الناس بكلا النوعين مِنَ الآيات مِن دون مجاملة. هكذا يكون النبيّ؛ فلا الآيات الّتي تمتدحه وتمجّده تؤثّر في حاله شيئًا عندما يبلّغها للناس، ولا تلك الّتي تتحدّث عن محاسبته وتُظهر عزّة الله وغيرته [كذلك]، فهي تبيّن استواء كافّة الناس أمام مقام العظمة الإلهيّة، فيقول له الله هنا: أنت كبقيّة الناس، لا تَفرق عنهم شيئًا .. فالنبيّ لا يتأخّر عن إبلاغ مثل هذه الآيات، بل لعلّه يعجّل في إبلاغها – هذا كلامي أنا – فلا فرق عند النبيّ بين ذلك شيئًا. هذا هو مقام رسول الله، وهكذا يكون النبيّ، وهذا مقام مَن تجاوز النفس وأصبح مرآةً صافيةً لا تموّج فيها.
كما أنّنا جميعًا مرايا، غير أنّنا نضيف وننقص مِن عند أنفسنا، فنقوم باللفّ والدوران وتأويل بعض الأمور لتصبّ في مصلحتنا، أما ما يضرّنا فنتعامل معه بشكل آخر، فترانا نقول: لماذا تجري الأمور معنا بهذا الشكل، ولماذا أضرّ هذا الأمر بنا. ونبدأ بالتذمّر وإلقاء اللوم؛ والسبب في ذلك هو أنّ مرايانا مشوّهة، فما عليك إلّا أن تكون صريحًا أيّها السيّد، وما لم نصل إلى هذه النقطة، فلا فائدة ترجى مِن عملنا. أي علينا أن نصل إلى النقطة الّتي نتقبّل فيها الأمور على ما هي عليه، دون أن نزيد عليها أو ننقص منها شيئًا، وما لم نصل إلى هذا النقطة لن يفيدنا حضور هذه المجالس، نعم، قد تحصل فائدة ما للإنسان وقد تحصل له بعض الحالات، ولكنّنا لن نجد تلك النتيجة المرجوّة.
السلوك هو أداء التكاليف؛ قصّة أحد مرافقي العلّامة إلى الحجّ
أتعلمون أيّة عبارة يمكننا أن نلخّص بها معنى طريق السلوك والطريق إلى الله والحركة في الطريق إلى الله، هي أن يُقال: إنّ السلوك يعني أداء الإنسان لتكليفه. هذا هو السلوك، فلا [ينبغي] للمرء أن يقول: أنا أرغب في العمل بهذا الشكل؛ فحتّى لو لم يكن هناك ضررٌ في أن يعمل الإنسان طبق ما يميل إليه قلبه، غير أنّ هذا لن يكون سلوكًا ولا تطبيقًا للتكليف على النفس؛ بل كلّما عمل الإنسان على أداء التكاليف أكثر، كان النفع الّذي سيجنيه أكبر وكانت استفادته أكثر.
ذهب المرحوم العلّامة (رضوان الله عليه) إلى الحجّ الواجب مرّةً، مصطحبًا سبعة عشر أو ثمانية عشر فردًا مِن أصدقائه، واصطحب الكثير منهم زوجاتهم معهم، وكان ذلك في عهد ملك إيران السابق، ولم أكن معهم في تلك الرحلة. ولقد استفاد الجميع مِن فيوضات الحجّ، كلٌّ بقدر سعته، غير أنّ المرحوم العلّامة أشار إلى أحدهم قائلًا: لقد استفاد فلان كثيرًا. نعم، قد أشار المرحوم العلّامة إلى اثنين منهم، غير أنّ إشارته إلى الآخر كانت لأجل جهة أخرى، أمّا بالنسبة إلى الشخص الأوّل فقد قال المرحوم العلّامة عنه أنّه – ومِن بين الجميع – قد استفاد كثيرًا. أتعلمون سبب ذلك؟ السبب هو أنّه لم يكن يرى لنفسه مكانة؛ فإن قيل له افعل كذا، يفعله، وإن قيل له لا تفعل، فلا يفعل، وإن قيل له اذهب، فيذهب، وإن قيل له لا تذهب، فيتوقف. ولم يقل للمرحوم العلّامة يومًا: أين تنوي الذهاب لكي آتي معك؟ هل لاحظتم!
كنَّا نرى بأنفسنا حصول مثل هذه الأشياء في زمن المرحوم العلّامة، كانوا يقولون له: أين تريد أن تذهب لكي نأتي معك. [أقول:] ما علاقتك بهذا الموضوع يا هذا؟! فإن قيل لك تعال، فاذهب حينئذٍ. [أو يقولون:] هل نفعل هذا، وهل نفعل ذاك؟
أمّا ذلك الرجل فلم يعرض على العلّامة يومًا أن يرافقه، [فلسان حاله يقول:] لو تطلّب الأمر، لقال لي ذلك، فأنا بانتظار أوامره ونواهيه – وكان المرحوم العلّامة يستدعيه أحيانًا ليرافقه – فهو لم يحفظ لنفسه حقّ الاختيار في مقابل أوامر المرحوم العلّامة ونواهيه، ولم يَعتبر أنّ لنفسه منزلة، ولم يقُل: هل ما طرحه المرحوم العلّامة يتلاءم مع نفسي وشأني الشخصيّ، أم لا؟! [ولم يقل:] هل أخذني بعين الاعتبار أم لا؟! ولم يقل: ما دام كلامه يتعارض مع شأني فلن أقبله!
الأمور الّتي أطرحها عليكم الآن، هي أمور مهمّة جدًّا، فبمِثل هذه الاعتراضات كان يعترض الآخرون، ويقولون: لنذهب إلى المرحوم العلّامة ونوضّح له موقفنا، لكي يغيّر نظرته تجاهنا، إذ نحن لم نقم بعمل يستحقّ أن يؤاخذنا عليه، فلنطرح عليه الموضوع بالشكل الّذي يغيّر معه نظرته السابقة تجاهنا. فلنقُل: لقد نُقل لك الموضوع بشكل مغاير للواقع .. [أقول:] ما دام المرحوم العلّامة قد قال عنك هذا الشيء، فهو يعلم ما فيه مصلحة لك، فاطرق رأسك إلى الأرض وقل: سمعًا وطاعة. أمّا إن كنتَ لا تثق به، فللمسألة حينئذٍ شأنٌ آخر.
أمّا ذلك الرجل، فقد كان تصرّفه كما ذكرنا، وعندما عاد مِنَ الحجّ، رأينا آثار الحجّ ظاهرةً عليه .. فالسلوك يعني أن يعمل الإنسان على تطبيق التكاليف الّتي رسمها الله له على نفسه. نعم هذا هو السلوك.
السلوك هو الرضى بالتكاليف؛ قصّة سفر أحد محبّي السيّد الحدّاد للقائه
لم أقصد أن أطرح بحث السلوك والتطبيق في هذا المجلس، بل نويتُ طرحه في المجلس القادم، لأنّه يتطلّب [بعض الأمور]، فنكتفي هنا بالإشارة إليه.
كان أحد أصدقاء المرحوم الحدّاد (رضوان الله عليه) يحبّه كثيرًا، وكان حبًّا حقيقيًّا، ولا مجال للشكّ في محبّته وتفانيه في حبّ السيّد الحدّاد، غير أنّ والد هذا الشخص لم يكن يرغب في حصول هذا الارتباط [بين ولده] وبين السيّد الحدّاد. وكانت علاقة هذا الرجل بالسيّد الحدّاد إلى درجة دعته أن يقصد كربلاء للقاء السيّد – والحال أنّ ذلك لم يرق لأبيه بل كان خلاف أمره – فدفعته هذه العلاقة مرّة للسّفر إلى كربلاء بطريقة غير عاديّة، فعبر الحدود بطريقة غير رسميّة، والتقى بالسيّد الحدّاد.
وقد زرنا في إحدى المرّات السيّدَ الحدّاد بمعيّة المرحوم العلّامة، وكان ذلك الرجل عند السيّد الحدّاد، فقال السيّد الحدّاد: يا عزيزي، ما دمتَ تحبّني، فعليك أن تلتزم بما أحبّه أنا، وأن تحبّ نهجي – طبعًا لم يكن السيّد يخاطب ذلك الرجل مباشرة بل كان يوجّه الكلام للمرحوم العلّامة لأجل أن يسمعه ذلك الرجل – وعليك أن تحبّ طريقي وأفكاري والمبادئ الّتي أتبنّاها. فأنت عندما جئت بخلاف رضا والدك، ألم تحسِب لما يمكن أن يقوله والدك عنّي! فقد يقول: ألا يؤمنوا بأنّ إذن الأب في السفر هو أحد شروط صحّته؟! [وقد يقول:] وإن كان الأمر كذلك، فكيف استقبل ابني في بيته وقد سافر دون إذني، ولماذا استقبله؟! ألن يسبّب تصرّفك هذا سوء فهم عند الآخرين؟! فهل ما قمتَ به أحسن، أو [أنّ الأحسن هو] أن تطيع والدك حتّى يصلك الفيض منّي؟! ليس الأمر مقترنًا دائمًا بالظاهر، حتّى يُقال إنّ الإنسان لا يحصل على شيءٍ إلّا حضوريًّا.
إن قبلنا بالسيّد الحدّاد على أنّه السيّد الحدّاد وبالسيّد العلاّمة على أنّه السيّد العلّامة،۱ فلن يكون السيّد العلّامة هو السيّد العلّامة إن أوصل الفيض فقط في حال الحضور [الظاهريّ]. فإن كان الفيض لا يصل منه إلّا في حال الحضور [الظاهريّ] فلن يساوي قيمة حبّة شعير، ففي مِثل هذه الحالة ينبغي عدم اتّباعه لأنّك لن تستفيد منه شيئًا. إنّما نقبل الحدّاد عندما يتساوى حضوره وغيابه بالنسبة إلينا. هل لاحظتم! فيجب أن يكون حضوره وغيابه واحدًا، فكيفيّة اعتنائه بنا وفيضه علينا في حال حضوره هي نفسها [في حال غيابه]، فيرعانا ويوصل إلينا فيضه عن طريق الباطن والغيب. وعليه، فذلك المسكين الّذي حضر هناك [بتلك الحال]، إنّما حضر بناءً على متطلبات هواه النفسيّة والخياليّة، وبناء على هوى محبّته، وبذلك لم ينل النصيب الكافي [مِنَ الفيض]. لماذا؟ لأنّه لم يتطابق مجيؤه ذاك مع المباني.
فالسلوك إذن يعني أن يقوم الإنسان بمطابقة حركته مع المباني والتكاليف، وإن أدّى ذلك إلى حصول مشاكل ورافقته المصاعب. فلو كان اليُسر توأم السلوك لَمَا كان للسالك فضلٌ في عمله. لاحظوا؛ لو أمرنا – مثلًا – بتناول طعام لذيذ هذه الليلة، كأن يكون لحمًا مشويًّا، لكان ذلك رائعًا ولفرحنا بمثل هذه البرامج السلوكيّة وتقبّلناها بقَبول حسن. ولو قيل لنا أن نسافر للترفيه عدّة أيّام، لقلنا: وفّقكم الله، وإلى المزيد مِن أمثال هذه البرامج. [أقول] لا يمكن أن تكون هذه البرامج برامجًا سلوكيّةً، بل إنّ البرنامج السلوكيّ هو الّذي يؤدّي إلى تجاوز النفس، ودَوس الأهواء بالأقدام. فلا يمكن لأحد أن يتجاوز النفس بالتمتّع باللذائذ ومشتهيات النفس – هذا ما كنتُ أريد أن أقوله لكم – فالسلوك عبارة عن مطابقة كافّة أمور الإنسان ونشاطاته وأقواله مع التكاليف، وإلّا فالذهاب إلى الحج وزيارة الإمام الرضا عليه السلام وأداء العمرة وزيارة كربلاء واللقاء بأولياء الله، كلّ ذلك لن يترك أيّ أثر على النفس إن كان بخلاف التكليف. وقد يلتفت الإنسان لهذا الأمر، حيث يرى أنّ كافّة أنشطته وأسفاره وقيام الليل وقراءة القرآن، قد تمّت وفق مشتهيات النفس؛ فكان لجوؤه إلى قراءة القرآن هو فرار مِن أداء التكليف [في الواقع]، وإقباله على صلاة الليل كان فرارًا أيضًا، وإشباعًا لرغبات نفسه، ولذلك تراه يبكي في صلاة الليل ويجعلها تطول ساعتين. وقد رأيت بنفسي أمثال هؤلاء الناس.
السلوك هو التطابق مع الشريعة؛ منام العلّامة عن امرأة كانت تُحي المجالس
ذكرتُ حكاية في مجلس انعقد للسيّدات في ذلك اليوم، ولا أدري إن كنتنَّ حاضرات فيه أم لا، والحكاية هي: كانت إحدى أقارب المرحوم الوالد والقريبات منه، واحدةً مِنَ اللواتي يُقمنَ مجالس أسبوعيّة ويوميّة، ومجالس ختم سورة الأنعام، ومآدب الطعام، وقراءة دعاء الندبة وغيره، ومجالس العزاء، وكانت تقرأ العزاء بنفسها. فكانت مِمّن يُحي المجالس، شأنها في ذلك شأن غيرها مِنَ النساء الكثيرات اللواتي يُقمن المجالس. فكانت معروفةً بأنّها سيّدة مجلس الشارع الفلاني، وكانت محلّ مراجعة النساء في أسئلتهنَّ الشرعيّة وما شابه ذلك.
غير أنّي، لمّا كنتُ على ارتباط وثيق بها، وجدتُ أنّ عملها يخالف الشرع، وعلاقتها مع زوجها تجري على خلاف رضا الشرع، وتلك الأعمال الّتي تقوم بها وتصرّفاتها وتدخّلاتها في شؤون الآخرين، جميعها مخالف للشرع. فكنتُ أتعجّب مِن ذلك، وكنتُ أطرح هذا الموضوع مع البعض أحيانًا فأقول: كيف تتصرّف هذه المرأة بهذه التصرّفات، والحال أنّها تقيم مجالس ختم سورة الأنعام، ومجالس العزاء، وهي محلّ مراجعة النساء أيضًا؟! كيف يحصل هذا، والحال أنّه لا توافق بين الأمرين؟! كنتُ قد ذهبت في إحدى الليالي إلى بيتها، فقال لها زوجها: أطفئي ذلك المصباح. فأجابته: إنّ يدي ملوّثة، فأطفئه بنفسك. فقلتُ: هل مِنَ اللائق أن تتكلّم المرأة مع زوجها بهذا الشكل؟! ثمّ ماتت هذه المرأة.
وفي أحد الأيّام استدعى المرحوم العلّامة شخصًا مِن أقاربه، كانت أمّه قد توفّيت أيضًا، فقال له: رأيتُ في الليلتين أو الثلاث الأخيرة منامين، يتعلّق الأوّل منهما بأمّك، والثاني بتلك المرأة [صاحبة المجالس]، وعليك أن لا تقصّ هذين المنامين على أحد ما دمتُ على قيد الحياة. ولمّا توفّي المرحوم العلّامة، نَقل لي هذا الشخص هذين المنامين؛
فالمنام الأوّل الذي يتعلّق بأمّه، كان يدلّ على أنّه قد شملها العفو [الإلهيّ] وغض الطرف والتجاوز [عن السيّئات]، وأنّ وضعها أصبح جيّدًا ومرضيًّا بحمد الله.
أمّا المنام الثاني الّذي يتعلّق بتلك المرأة [صاحبة المجالس]، فقال له المرحوم العلّامة: رأيتُ في المنام كأنَّني في صحراء ممتدّة لا نهاية لها، وهي وادي برهوت – نعم إنّه برهوت – وقفتُ ورأيت شيئًا أسودًا بعيدًا يتحرّك نحوي، وعندما اقترب شيئًا فشيئًا عرفتُ أنّها امرأة عجوز ضعيفة، متشتّتة الذهن، ملابسها ممزّقة وقذرة، على جسدها أوساخ وتقرّحات، تتقدّم متكئةً على عصا، فقلتُ: يا إلهي مَن تكون هذه المرأة؟! وعندما اقتربتْ أكثر، عرفتُ بأنّها فلانة، لقد كان وضعها عجيب جدًّا، فقلتُ لها: أهذه أنتِ، أهذا حالك الّذي أصبحت عليه؟! لقد كانت مطأطئة الرأس، فنظرتْ إليَّ نظرة وقالتْ: أترى ما أنا عليه مِن حال!
[أتعلمون] مَن كانت تلك المرأة، إنّها المرأة الّتي قرؤوا على قبرها زيارة عاشوراء عند الدفن – وكنتُ موجودًا حينها – وقرؤوا زيارة وارث عند تغسيلها، وغيرها مِن أعمال فعلوها لها عند الدفن وقبله. فاعلموا أنّ ليس شيئًا مِن تلك الأعمال هو الملاك [في رسم العاقبة].
يقول المرحوم العلّامة: كانت المرأة ترجوني قائلةً: انظر إليَّ نظرةً واحدة، انظر إلى الوضع الّذي أنا فيه، هل مِن مساعدة؟ فأدخلتُ يدي في جيبي وبحثت، فلم أجد فيه شيئًا – قد رأى المرحوم العلّامة هذا المنام في السنة الأخيرة مِن حياته وذلك قبل وفاته بأشهر قليلة – وكلّما بحثت فيه لم أجد شيئًا، فقلتُ لها: لا أملك شيئًا. فنظرتْ إليَّ مرّة أخرى وقالتْ: أعطني شيئًا. فأدخلتُ يدي في جيبي مرّة أخرى، فعثرتُ على حبّة حمّص في إحدى زوايا جيبي، فوضعتها في كفّها، فرفعتْ رأسها وقالت: هذه فقط! فقلتُ لها: ليس لدي ما أعطيكِ، فماذا أفعل! فأطرقتْ رأسها وواصلتْ طريقها وانصرفتْ.
لا أتى علينا يومٌ نكون فيه على هذه الحالة؛ نُمضي أعمارنا نندب: يا حسين يا حسين، ثمّ يكون وضعنا على تلك الحالة. ونمضي أعمارنا ندعو: يا الله يا الله، ثمّ نكون على ذلك الوضع .. [فيا أيّتها] المرأة الّتي أمضيتِ عمرك مرتدية العباءة، تشدّين وسطها، وتدْعين الأخريات، وترشدين خلق الله، [احذري بعد كلّ هذا] أن لا تكون النتيجة سوى الابتعاد عن الله بكل خطوة تخطينها. فكلّ خطوة نخطوها في ذهابنا إلى المجالس، ينبغي أن لا تبعدنا عن مبدئنا وأنفسنا وسرّنا وحقيقتنا.
أردتُ، بما طرحته عليكم، أن أذكّر نفسي أوّلًا .. هذا المجلس بعيدٌ عن الرياء، وحاضروه مِنَ الأصدقاء والمحبّين، فلماذا نعمل – كما ذكرتُ آنفًا – على تضييعه .. هذا هو واقع الأمر. ولعلّكم تعترضون وتقولون: كم طبقّت أنت مِن هذا الكلام الّذي تطرحه؟! [أقول: لا أقل] افرضوني كأحد أجهزة التسجيل الصوتيّ الموجودة هنا، وأسأل الله أن يكون الأمر هكذا. [على كل حال] إن عمِلنا بما قلنا، نكون على الطريق الصحيح، وإلّا فلا.
السلوك هو الطلب مِنَ المُريد والعطاء مِنَ المُراد
قال المرحوم العلّامة في السنة الأخيرة مِن حياته لأحد الأصدقاء في لقاء جمعهما: إن طلب منّي السيّد محسن هذا أعطيته، وإن لم يطلب فلن أكون قادرًا على منحه شيئًا .. فعلى الإنسان أن يطلب، أمّا مِن جهتهم فلا بخل عندهم ولا إمساك، فلو كانوا مِنَ الممسكين لَمَا اختلفوا عن غيرهم. فالمرحوم العلّامة، حيث لم يكن بخيلًا ولا ممسكًا ولم يكن يراعي المحسوبيّات، فقد كان صادقًا. والصدق يعني الاستقامة، ولماذا يكون مستقيمًا؟ لأنّ الله صادقٌ، بل هو الصدق المطلق، فهو الحقيقة الّتي لا اعوجاج فيها ولا انحراف. فهذه هي حقيقة الله وأوليائه. وأولياؤه هم الّذين تجاوزوا النفس والنفسانيّات واندكّوا في تلك الحقيقة، فتبدّلت شاكلتهم على شاكلة الصدق.
نرجو أن تدعوا لأنفسكم، وادعوا لنا نحن المساكين الّذين نمضي أوقاتنا هباءً. فها هو شهر رجب على وشك الانتهاء، ولا زالت أيدينا خالية.
عندما كان شهر رجب وشهر رمضان يصلان إلى نهايتهما، كان المرحوم العلّامة يقول: انظر يا فلان، ها هي أيدينا خالية، وها هو الشهر على وشك الانقضاء. فإن كان العظماء يقولون هذا الكلام، فهم يقولونه مِن أجلنا؛ فنحن لا نعلم عن حالهم وشأنهم [شيئا]. وبالنسبة لي، فنَعم، هكذا هي حالتي، كنتُ أقول للمرحوم العلّامة: أنا مِن عباد الله المرخّصين لا المخلصين.
على أيّة حال، ادعوا الله، وإن كان مِن باب المجاز، فإنّ الله سيبدّل هذا المجاز إلى حقيقة بلطفه، وإن كنّا نقول ما نقوله ادّعاءً، إلّا أنّه ليس مستبعدًا أن يبدّل هذا المجاز والادّعاء إلى صدق وحقيقة بكرمه، فيمنحنا الاهتمام والعشق للحركة في طريقه. ومع وجود مثل هذه العناية والعشق والحبّ والاهتمام، لن يبقى وجودٌ لأيّ مشكلة، وستتذلّل كافّة المصاعب، وحينئذ كلّ ما يراه الآخرون صعبًا لن يكون صعبًا [بالنسبة لنا]، بل سيسهل الأمر، وسيتمكن الإنسان مِن تجاوز ما يواجهه بكلّ يسر. فالأمر الّذي كان يراه حتّى الآن صعبًا ولم يستطع أن يتجاوزه، وكان يعتبره سدًّا عظيمًا ومشكلًا عويصًا، إذا به يتخطّاه بكلّ يسر وهدوء. كيف يحصل هذا؟ إنّ ذلك يحصل لأنّ الله قد غرس في قلبه محبّةً، ليس في مِثل تأثيرها أيُّ إكسير. وبهذا يكون قد مَنَّ عليه بنعمة لا يطرأ عليها أيُّ نقصان، فيحصل على كلّ ما يريد، لأنّه يكون قد حصل على ذلك الإكسير وتمكّن مِن قلبه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد