المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
وضع الخالق تبارك وتعالى – وهو أعلم بأنفسنا منّا – القوانين التكوينيّة والتشريعيّة بغية ارتقاء الروح وسلامة البدن، فكانت شروطًا في السلوك والرشد والكمال، فلا بدّ أن يكون الإنسان في هذا الطريق بصيرًا بالقوانين، فلا يعمل مِن تلقاء نفسه. والله تعالى لم يترك شأنًا مِن شؤوننا إلّا ووضع له قانونًا، سواء في العبادات والمعاملات أو في العلاقات الشخصيّة والاجتماعيّة؛ كالطهارة، وكيفيّة تناول الطعام، وحرمة الموسيقى، وحرمة بعض المشاهد، والحمل والرضاع، وتربية الأولاد، والحثّ على التفكّر والتعقّل، والرِّفقة بين الزوجين، والصداقة، وطاعة المرأة للرجل، وضوابط التواصل الاجتماعيّ، والعمل وفق برنامج العظماء، وغيرها. فمَن تبعها ظهرت عليه آثارها التكوينيّة
هو العليم
قوانين السلوك التكوينيّة
المرأة و الأسرة – قم – الجلسة الرابعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سره.
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن كان لدى السيّدات أسئلة تتعلّق بما دار في الجلسة السابقة، فليتفضّلنَ بطرحها!
سؤال: قد تقع حادثة في حياة الفرد اليوميّة، تجعله يتصرّف تصرّفًا لا يرضي الله، ويحصل أحيانًا أن يُسلَب الإنسان القدرة على التفكير السليم، فتصدر منه ردّة فعل [غير مناسبة! فهل يتعارض هذا] مع الصدق وإخلاص النيّة لله؟ وما هو العمل الّذي ينبغي فعله في مثل هذه الحالة؟
سماحة السيّد: هل يوجد سؤال آخر؟ علمًا أنّ إحدى السيّدات طرحت في الأمس هذا السؤال أيضًا وهو: يجب أن تكون الحياة مبنيّة على أساس الرِّفقة والصداقة، ومع وجود هكذا علاقة بين الزوجين، يبدو أن لا مبرّر لطرح مواضيع تتعلّق بالخلافات بينهما أو بضرورة تبعيّة المرأة للرجل أو تحديد العلاقة بينهما بإطارِ قوانين معيّنة! كان هذا سؤال سألته إحدى السيّدات، وسأجيب عليه إن شاء الله.
قبل أن أبدأ بالإجابة أشير إلى أنّ إحدى السيّدات أيضًا عرضت موضوعًا لا يرتبط بما تمّ الحديث عنه في المجالس السابقة، ولكن بما أنّ التذكير به لازم، فأرى مِنَ المناسب أن أطرحه الآن، وهو يتعلّق بما جاء في كتاب (الرسالة النكاحيّة) للمرحوم العلّامة، حيث قال فيه: إنّ قرْب المرأة يزداد مِنَ الله في حالات: أن تكون مُرضعةً [إذا] كان لديها ولد أو حاملًا.۱ أمّا الرجال فبسبب عدم ابتلائهم بما تُبتلى به المرأة، فحظّهم الإيمانيّ وارتباطهم بالله يكون محفوظًا في جميع الأوقات، إذ لا يحصل لهم ما يمنع هذا الارتباط وما يمنعهم مِنَ العبادة، فمِنَ الطبيعيّ حينئذ أن ينالوا غايتهم. والسؤال المطروح هو: بلحاظ ما قد يحصل مِن أمور ومِن أمراض تمنع المرأة مِنَ الحمل في بعض الأحيان، فكيف يتوافق هذا مع العدالة؟ وهل مِنَ الضروريّ للمرأة أن تحمل بأيّ نحو كان، فتسعى لرفع المانع مِنَ الحمل حتّى تحفظ لنفسها الجانب العباديّ ذاك؟ كيف ينبغي أن تتعامل مع هذا الأمر؟
القوانين التكوينيّة للفكر وأثرها على السلوك
أقول هنا بشكل عامّ: مِنَ الواضح أنّ المرأة عندما لا تتمكّن مِن مواصلة عبادتها في بعض الأيّام، فوضعها الروحيّ وكيفيّة إقبالها على المبدأ ومقدار نورانيّتها، يتفاوت في هذه الأيّام عن غيرها مِنَ الأيّام. وهذا أمر لا يختصّ بالمرأة وحدها، بل الرجال أيضًا ليسوا مستثنون مِن هذه القاعدة؛ والسبب الّذي يجعل العظماء يؤكّدون في برامجهم السلوكيّة على ضرورة أن يبقى الإنسان دائمًا على طهارة – مِن حين الاستيقاظ مِنَ النوم صباحًا وحتّى المساء باستثناء وقت النوم طبعًا إذ النوم بحدّ ذاته ناقض للطهارة وموجب للحدث – هو أنّ الله قد وضع نظامًا تكوينيًّا لا يتخلّف أبدًا، وجعل النظام التشريعيّ مبنيًّا عليه. وهذا أمرٌ في غاية الأهميّة؛ فمِن شأن هذا الأمر أن يجعل الإنسان شديد المراقبة في كثير مِنَ الموارد؛ فيراقب أفعاله وأقواله وأفكاره. وتُعتبر الأفكار على وجه الخصوص هي الأكثر أهميّة بين ذلك، لأنّها مصدر الأفعال والأقوال؛ فإن كانت أفكار الإنسان مِنَ النوع المتعلّق بالكثرة، وكانت منظّمةً على أساس معايير عالَم الكثرة، لا معايير التوحيد والأخلاق الحسنة، بل مبنيّة على الكثرة والتضادّ والاستبداد بالرأي وجلب المنافع للفرد ولِمَن تعلّق به، فسيَعمل كلّ ذلك حينئذٍ على إغلاق الطريق بوجه الإنسان، وسيترك النظام التكوينيّ تأثيره الواقعيّ والحقيقيّ هنا.
القوانين التكوينيّة للبدن وأثرها على السلوك
إنّ النظام التكوينيّ لأجسامنا، يقتضي أن تكون هذه الأجسام بوضع صحيّ وسليم، مع توفر شروط خاصّة وظروف مناسبة. يُقال في هذا المجال إنّ السلامة هي عبارةٌ عن شيءٍ واحد، أمّا الأمراض فلا نهاية لها؛ نعم، لا يوجد للأمراض حدّ تقف عنده، أمّا بالنسبة إلى السلامة فهي شيء واحد؛ فيكفي هنا أن يؤلمك ظفر إصبعك ليقضَّ مضجعك. بناء على هذا، فحتّى يحتفظ الجسم بصحّته وسلامته، لا يوجد طريقٌ غير الالتزام بقوانين ومقرّرات السلامة الّتي جعلها الله ودوّنها في نظام عالَم التكوين. والمقصود مِنَ التدوين هنا ليس الكتابة في كتاب، بل بمعنى الإيداع؛ مثلًا، فيما يتعلّق بالطعام، فإنّ كيفيّة تناول الطعام هي إحدى تلك القوانين؛ فقد نهانا الله عن الأكل قبل الشعور بالجوع، أي ينبغي أن لا نأكل عندما يكون هناك طعام في المعدة لم يُهضم بعدُ، فإنّ أكَل الإنسان في هذه الحالة سيكون قد خالف القوانين التكوينيّة، لأنّ هذا التصرّف يصيبنا بالقرحة الاثنا عشريّة، أو بتوّرم في المعدة، أو باضطراب في عمل الأمعاء، وما شابه ذلك، وهو يسبّب الضغط على القلب واختلال عمل الجهاز الهضميّ. ومِنَ القوانين الطبيعيّة والتكوينيّة أن يُقلّل مِن [مقدار] طعام العشاء؛ للأسف، إنّ الشائع بيننا نحن الإيرانيّون – ولا أدري إن كان ذلك رائجًا في بقيّة المجتمعات أم لا – أن نجعل ولائمنا ليلًا؛ فبدلَ الاكتفاء بلُقمٍ قليلةٍ ليلًا، يتمّ ملء المعدة بأغذية متنوّعة، رغم أنّ الليل جُعل للاستراحة. فالإكثار إذًا مِنَ الأكل ليلًا يتعارض مع القوانين التكوينيّة. هل التفتّم!
أتذكّر أنّني كنتُ عند المرحوم العلّامة يومًا، فجاءه شخصٌ يشتكي أنّه لا يُوفّق لأداء صلاة الليل، فسأله المرحوم العلّامة عن مقدار الطعام الّذي يتناوله ليلًا. فقال: أنا أجوع في الليل، فآكل حتّى أشبع. قال له: لا، هذا غير صحيح، بل عليك أن تكتفي بعدد مِنَ اللُّقم لا أكثر، فكُلْ بمقدار ما يُذهب عنك الجوع، ويُذهب عنك الشعور بالوهن، ثمّ تُعَوِّض بالوجبةِ الصباحيّةِ بين الطلوعين بمقدار ما يكفيك. ثمّ قال: لُقمةُ الصباحِ مسمار البدن.
إنّ هذا الوضع الّذي أقرّه الله هو وضع تكوينيّ، أي أنّه وضَع قانونًا في هذا الشأن، وهو أشبه بالكُتيّب الّذي يُرفقه مَصنع السيّارات مع السيارة عند صنعها، فيُكتب فيه مجموعة مِنَ التعليمات مثل: إنّ مقدار حمولة السيارة كذا، فلا تُحمّلها ثقلًا أكثر مِن هذا المقدار، وإنّ السرعة القصوى [المسموح] بها هو كذا، فلا تسرع أكثر مِن ذلك، وإنّ أقصى درجة مسموح بها لاستدارة الإطارات هي كذا، فلا تدرها أكثر مِن ذلك عند السرعة العالية، وإنّ قدرة تحمّل النابض الحلزونيّ هي كذا، فلا تحمل في السيارة وزنًا أكثر مِن هذا، وإنّ نوع الوقود الّذي يجب استعماله هو كذا.. فإنّ هذه القوانين قوانين تكوينيّة، وليست قوانين ارتجاليّة صدرت مِنَ المدير الفلاني لهذا المصنع، بحيث لو استُبدل هذا المدير بآخر، أمكنك أن تجعل سعة السيّارة خمسة أشخاص بدل أربعة، أو أنّ تشغّلها بالنفط الأبيض بدلَ البنزين، كلّا [لا يمكن ذلك] لأنّه سيُعطّل المحرّك. فقوانين السير وقوانين القيادة لا تتبدّل بتبدّل المدير، بل هي قائمة بذاتها، سواء تغيّر المدير، أم لم يكن هناك مديرٌ أساسًا. هذا ما يُسمّى بالقانون التكوينيّ.
هناك طبعًا بعض القوانين الاعتباريّة، كالقوانين الّتي يضعها مدير المصنع، كأن يجعل مسؤول المشتريات مسؤولًا للإنتاج، أو أن يُعيّن مسؤول الصيانة مسؤولًا لقسم آخر. إنّ هذه التغييرات الّتي يقوم بها هذا المدير هي تغييرات اعتباريّة. أمّا تلك القوانين الّتي تحكم طبيعة المُنتَج الّذي يخرج مِنَ المصنع، فهي قوانين تكوينيّة. إن التزم سائق السيارة بتلك القوانين، فستسلَم السيارة مدّة خمس عشرة سنة، أمّا إن لم يلتزم بها، فستُستهلك في مدّة سنة واحدة فقط؛ فسيرى أنّ نوابضها الرئيسيّة والثانويّة قد استُهلكت، وأنّها بدأت تتفكّك، ومحرّكها بدأ يتعطّل ويحرق الزيت بوتيرة متزايدة، خصوصًا عند صعود المرتفعات، حيث يزداد الضغط عليها، فتكون قد استهلكتْ كافّة أدواتها، ممّا يجعل الفرد غير مطمئن على سلامته [إذا ركبها، وعلى هذا] تُركن السيارة جانبًا في غضون سنة واحدة فقط. إنّ كلّ ذلك يحصل بسبب عدم الالتزام بالتعليمات والقوانين الخاصّة بالسيارة.
لقد أودع الله في الإنسان مجموعة قوانين؛ بعضها يختصّ بسلامته الجسديّة، وبعضها يختصّ بسلامته الروحيّة، وبعضها يشملهما معًا، فتسير هذه القوانين متوافقة مع بعضها البعض إلى الأمام. فالإنسان لم يُترك سدى فيما يخصّ علاقاته بالمحيطين به، فليس له أن يتعامل معهم بأيّ شكل أراد، فتنبسط أساريره يومًا، ويعبس يومًا! ويقطع علاقته بالناس بحسب هواه يومًا، ويصالحهم يومًا! ويغتاب ويتّهم الآخرين يومًا، ثمّ يصالحهم ويُداريهم يومًا آخر! لا يمكن أن تجري الأمور بهذا الشكل، بل إنّ الالتزام والعمل وفق القواعد، هو قانونٌ مِن القوانين التكوينيّة.
فكما أنّ مصنع السيّارات قد قرّر أنّ السرعة القصوى عند صعود المرتفعات هي ثلاثون كيلومترًا في الساعة، فإن سار بسرعة ثمانين كيلومترًا في الساعة سيتعطّل نظام نقل الحركة التفاضليّ، إذ مِن شأن هذا التصرّف أن يولّد ضغطًا إضافيًّا على المحرّك، ممّا يؤدّي إلى اختلال عمله. فكذلك هي البرامج التكوينيّة الّتي وضعها الله، فهي برامج كفيلة لإيصال الإنسان إلى الكمال، فمَن يعمل بموجبها يتقدّم في مسير الكمال، ومَن يُهملها: فإمّا أن يتوقّف عن السير، أو يَسقط، وهذا لا بدَّ منه شِئنا أم أبينا.
فمَن كان في حمّامٍ دافئ، سينسجم جسمه مع حرارة المحيط الّذي هو فيه، فلا يجوز له حينئذٍ أن يَخرج فجأة إلى المحيط الخارجيّ الّذي تبلغ حرارته خمس عشرة درجة تحت الصفر، لأنّ مِن شأن هذا التصرّف أن يسبّب اختلالًا في مزاج البدن. إنّ درجة حرارة جسم الإنسان الطبيعيّة هي سبعٌ وثلاثون درجة، فلو فرضنا أنّ درجة حرارة الحمّام [الّذي هو فيه] تبلغ أربعين درجة، فسيكون جسده متأقلمًا مع هذه الدرجة، فإن خرج مِنَ الحمّام مباشرة إلى المحيط الخارجيّ الّذي تبلغ درجة حرارته خمسة عشر درجة تحت الصفر، سيؤدّي هذا إلى خفض درجة حرارته بمقدار خمسٍ وخمسين درجة دفعةً واحدة، أتعلمون ما الّذي سيحصل له عندها؟ لقد حصل أن أُغمي على أحدهم جرّاء ذلك ومات. يجب في مثل هذه الحالة أن ينتقل الإنسان بشكلٍ تدريجيّ بين المكانين، حتّى تتأقلم درجة حرارة جسمه مع حرارة المحيط الخارجيّ تدريجيًّا، أمّا الانتقال المفاجئ، فيتعارض مع الطبيعة التكوينيّة للإنسان، وسيؤدّي إلى إصابته بالمرض.
القوانين التكوينيّة للروح وأثرها على السلوك
وهكذا الأمر بالنسبة للروح؛ فلروح الإنسان قوانينها الخاصّة بها في عالَم التكوين، وهي القوانين الّتي تعمل على تكاملها. يقول الله: ألستُ خالق هذه الروح! فما دمتُ أنا خالقها، فهل قوانينها التكامليّة بيدي أم بأيديكم؟ بل هي بيدي، وعليه، فما دمنا لم نصل إلى الكمال بعدُ، وما دمنا لم نُحِط بكافّة شؤوننا، فلا بدّ لنا مِن قوانين كفيلةٍ بتكاملنا، قد وضعها لنا خالقنا؛ وهي الّتي سمّاها بالشرع. فالشرع والتشريع عبارة عن سلسلة قوانين تسوق الإنسان مِن جميع جوانبه إلى الكمال. فإن وجدنا في الشرع قانونًا يتعارض مع الأمور الظاهريّة للإنسان، أو يتعارض مع ما فيه صلاح علاقاته الاجتماعيّة وعلاقاته بالمحيطين به، أو يتعارض مع ما فيه صلاح علاقته بنفسه، بحيث يرى الآخرون أنّ هذا القانون باعثٌ على النقص ويُوجد عوائق في مسير الإنسان، فلا يمكن لمثل هذا القانون أن يكون قانونًا إسلاميًّا.
على سبيل المثال، افرضوا أنّ فقيهًا لا يرى إشكالًا أبدًا في الاستماع إلى الموسيقى، ويقول: استمع إليها ما شئت الاستماع.. قبل عدّة سنوات طالعتُ كرّاسًا يتضمّن مقابلةً أجراها ممثّلي مجلّة ما مع أحد السادة المعروفين في قم، وخلال حديثه معهم قال: إنّ هذه الموسيقى الّتي تُبثّ الآن مِن إذاعة وتلفزيون هذا البلد – والّتي تُعتبر مِن أكثر أنواع الموسيقى استهجانًا – هي موسيقى عاديّة، فعليكم أن تبحثوا عن برامج وموسيقى أكثر جمالًا وإثارة للفرح والبهجة. [أقول:] هذا نوع آخر مِنَ الناس، وحسابه على الله؛ ولكنّك عندما تستمع إلى الموسيقى ترى أنّها تسبّب لك كدورةً وضيقًا في الصدر، فإن جاء حينئذ ألفُ فقيه وقالوا إنّه لا بأس في الاستماع إلى الموسيقى، فلن تقبل منهم ذلك، لأنّك تحسّ الضيق في صدرك الآن. فما دامت هذه الكدورة قد حصلت، فهذا يدلّ على أنّ هذا العمل يتعارض مع القوانين التكوينيّة.
وكذلك الحال عند النظر إلى بعض المشاهد الّتي تَعمل على تغليب الخيال، [هذا الخيال] الّذي يُشغل الذهن ويشتّته، ويعيق حركة الإنسان، في الوقت الّذي لا بدّ أن يركّز الذهن ويجتمع في نقطة واحدة، ويحافظ على صفائه في حال الصلاة والذِّكر وغير ذلك. لذا تُعتبر تلك الصور عائقًا يحول دون رشد الإنسان وتكامله.
فما هي موقعيّة هذه الأمور مِنَ القوانين التكوينيّة؟ إنّها تتنافى مع تلك القوانين. وعليه، سيكون لتلك الصور تأثيرٌ سلبيٌّ في أيّ مكان تُعرض فيه؛ سواء عُرضت على تلفزيون الجمهوريّة الإسلاميّة، أم على تلفزيون أمريكا، إذ لا فرق بين الحالتين. كالخمر، فهو حرام، سواء تمّ تناوله في الجمهوريّة الإسلاميّة، أم في بلاد الكفر وأمريكا. وكالزنا، فهو حرام، سواء كان ذلك في الجمهوريّة الإسلاميّة، أو حصل في زمان حكومة النبيّ وأمير المؤمنين، أو حصل في بلاد الكفر، فهو حرام. إنّ الحرام حرام، والحرام يحول دون وصول الإنسان إلى هدفه.
إنّ الغيبة، ومرور الأفكار الباطلة في الذهن كالأفكار المتعلّقة بعالَم الكثرة، والأفكار الّتي تنبعث منها رائحة التفرقة، جميعها تتعارض مع القوانين التكوينيّة الّتي جعلها الله لمساعدة الإنسان في سيره وحركته.
الالتزام بالقوانين التكوينيّة شرط في السلوك لا يقبل الانفصال
قد يمرّ عليك عامٌ كامل، وإذا قارنت حالك الآن مع حالك في العام الماضي، لن تجد أيّ تغيّر قد حصل لك في هذا العام، لماذا يحصل هذا الشيء؟ لأنّنا لم نعبر، فما نقوم به هو نفس ما قمنا به مِن أعمال، وأفكارنا السابقة لا تزال ملازمة لنا! وما دام الأمر كذلك، لن نستطيع أن نتحرّك، ولن نتقدّم خطوةً واحدةً إلى الأمام. فمِن أجل أن يسير الإنسان في هذا الطريق ويتكامل، لا بدّ أن يلتزم بالقوانين التكوينيّة.
نعم، لا بدّ أن يعمل بتلك القوانين الّتي وضعها الله، فإن لم نعمل بها في هذه الدنيا، سنعاقب في تلك الدار، فلا تظنّوا أنّنا سنتمكّن مِنَ الفرار – أنا أقصد نفسي والآخرين بهذا الكلام – نعم هكذا هو الأمر. وإن قمنا بحزم أمتعتنا وتمكنّا مِنَ العبور في هذه الدنيا سنصل إلى المطلوب، وإلّا سيُوقَف الإنسان هناك ويُحاسَب على كلّ خطوة خطاها. نعم، سيُوقِفون الإنسان هناك على كلّ خطوة خطوة، ويقولون له: لا تستطيع العبور. وحتّى إن سمحوا له بالعبور، فسيكون عبوره بلا فائدة، وسيُبتلى هناك بأنواع الشدائد، الّتي هي أشدّ مِن ابتلاءات الدنيا. وليس هذا فقط، بل لن يحصل على نتيجة كما هو الحال في الدنيا، لأنّه لم يكن قد عبَر بنفسه في الدنيا، ولم يَجْنِ مِن عمره أيّ نصيب.
إنّ العمل بالقوانين شرطٌ في السلوك لا يقبل الانفصال أبدًا، ويجب أن يُطرح على أنّه أحد الأُسس في سير السالك وحركته، أي علينا أن لا نطأطئ رؤوسنا وندفنها في الرمال، وعلينا أن نعلم أنّ التجاوز عن أمر ما وعدم الاهتمام به، هو عبارة عن طأطأةِ الرأس. فالأحكام والمقدّرات ليست بيدِي ولا بأيديكم، حتّى نقول: نتمنّى أن نكون كذا وكذا. فلا قدومنا إلى هذه الدنيا كان باختيارنا، ولا الكثير مِنَ الأمور الأخرى كذلك. فإن عَمِلَتْ أنفسنا على تطبيق ما قدّره الله لنا، فسيحصل المطلوب، وإلّا سنكون مِنَ المخدوعين، ولن نجني مِن أعمارنا أيّةَ فائدةٍ، نعم، سنكون مخدوعين.
إنّ هذا الموضوع الّذي أطرحه عليكم يعتبر أحد الأصول. وقد تطرّقتُ إليه باختصار هنا، وسأتناوله إن شاء الله بالبحث والتحليل، كما فعلنا مع الأصل السابق والّذي كان (الصدق في السلوك). فاتّباع القوانين التكوينيّة أصل مِن أصول السلوك المهمّة جدًّا، وسنتحدّث عنه وعمّا يتعلّق به في مجالسَ متعدّدةٍ قادمةٍ إن شاء الله.
الطهارةُ قانونٌ تكوينيّ للارتباط بالله تعالى
بالنسبة للسؤال المطروح حول موضوع خَلق الله للرجل على هيئة، وللمرأة على هيئة أخرى، بحيث إنّ هيئة كلّ واحد منهما صحيحة بلحاظ نفسه، وفي محلّها المناسب لها. فأريد الإشارة إلى أنّه لا فرق بين الرجل والمرأة مِن ناحيةِ طبيعة ارتباطهما بالله، إذ لا بدّ أن يكون هذا الارتباط مبنيّ على أساس الطهارة والتطهّر؛ فمَن لا يكون على وضوء، يكون ارتباطه بالله مقطوعًا، وإن لم يكن مقطوعًا بالمرّة، فهو ارتباط ضعيف على أقلّ تقدير. إن اتّفق وهيمن على مجلسٍ ما حالةٌ معنويّة معيّنة، فستشمل هذه الحالة جميع المتواجدين في المجلس عدا مَن لم يكن على وضوء، لأنّه ليس على طهارة، ولهذا السبب أُمر بالتيمّم مَن لا يتمكّن مِنَ الوضوء؛ ولقد تمّت توسِعة دائرة وسائل التيمّم، فالتيمّم يجب أن يكون بالتراب أو على الحجر، فإن لم يتيسّر ذلك فبالخشب، وإن لم يتمكن منه فليتيمّم بأيّ شيء آخر.
إن أراد الإنسان أن ينام، فعليه أن يتوضّأ قبل ذلك، وإن احتاج إلى تجديد وضوئه، فقالوا بعدم ضرورة النهوض مرّة أخرى للوضوء، بل يكفي وهو على فراش النوم أن يضرب بيديه على الغطاء أو غيره [ليتيمّم به]. نعم، إن لم يستطع النهوض ليتوضّأ مرّة أخرى أو كان في الأمر صعوبة، يمكنه أن يكتفي بالوضوء الأوّل ويتيمّم للمرّات الباقية، وسيُحسب له هذا التيمّم أنّه وضوء. هل التفتم! فلا بدّ مِنَ المحافظة على هذه الحالة.
مَن كان على جنابة، فعليه أن يبادر إلى الغسل فورًا دون تأخير، فإن لم يتمكّن مِنَ الغسل، فعليه أن يتيمّم ثمّ يغتسل عندما يتمكّن مِن ذلك، وإلّا ستنقطع علاقته بربّه إن كان فاقدًا للطهارة، هل التفتّم!
يجب أن يكون الدليل في الطريق شخصًا بصيرًا بالقوانين
إنّ هذا الأمر تكوينيّ، فليس حتّى للنبيّ أن يأتي ويقول لنا: لقد رفعتُ عنكم هذا التكليف! فليس له مثل هذا الحقّ، لأنّه لا يستطيع أن يعارض عالَم التكوين. أتلاحظون كم هو أمر في غاية الدقّة! فعَمَل النبيّ هو الهداية إلى طريق الكمال بواسطة القوانين التكوينيّة.
قلتُ لكم آنفًا، لو تبدّل مدير مصنع السيّارات، فليس للمدير الجديد أن يغيّر قوانين المصنع؛ فلو كانت حمولة السيارة ثلاثمائة أو أربعمائة كيلوغرامًا، لا يستطيع المدير الجديد أن يجعلها ألف كيلوغرامًا، فإن فعل ذلك: فإمّا أن يكون المدير السابق مخطئًا، أو المدير الجديد هو المخطئ، وذلك لأنّ الحديد هو ذات الحديد، والنوابض هي نفسها، ولم يتبدّل أيّ جزءٍ مِن أجزاء السيّارة؛ فإمّا أن يكون هذا هو المخطئ أو ذاك.
وهنا تتضّح ضرورة أن يكون دليلُ الإنسان في هذا الطريق، شخصًا بصيرًا وخبيرًا ومطّلعًا على القوانين. نعم، ولهذا السبب لا يستطيع أن يتلاعب بالقانون على أساس الاعتبار أو الخيال أو المنافع والمصالح الشخصيّة. فكيف يمكن أن يكون الشيء إلى الأمس حرامًا، فيصبح اليوم مِن أوجب الواجبات؟! وكيف لقضيّة أن تكون حتّى الأمس قبيحةً جدًّا، فتصبح اليوم مستحسنَة جدًّا؟! كيف يحصل ذلك، والحال أنّ شيئًا لم يتغيّر [حتّى يتغيّر الحكم]! فكيف لهذا الأمر أن يكون حتّى الأمس واجبًا وشديد الاستحسان، بل مِن أوجب الواجبات، ثمّ [يُسمح] اليوم بالعمل بخلافه، لماذا؟! ما الّذي يُفهم مِن هذا؟! مِنَ المعلوم أنّه: إمّا أن يكون حكم الأمس خاطئًا، أو أنّ الحكم الجديد هو الخاطئ. فالزمان لم يتغيّر، فها هي الشمس تدور كما كانت تدور، وكذا حال القمر، ودوران الأرض حول نفسها يتمّ في أربع وعشرين ساعة، ولم يصبح خمسًا وعشرين ساعة، فلم يتبدّل شيءٌ مِنَ الظروف المحيطة، كما أنّ القانون هو ذات القانون.
لو أنّ قانونًا معيّنًا قد تمّ إبلاغه لتلامذةِ وليٍّ مِنَ الأولياء، فهل يمكن أن يتبدّل هذا القانون بارتحال ذلك الوليّ، فيصير القانون المخالف له هو الراجح والمعتبر؟! كلّا، لا يمكن أن يحصل هذا الشيء. وبناءً على هذا: فإمّا أن يكون ما قاله الوليّ خاطئًا، أو أنّ ما أقوله اليوم هو الخطأ، إذ لا يمكن أن يكون كلاهما صحيحًا، بل لا بدّ أن يكون أحدهما مخالفًا للتكوين.
الحمل والرضاعة قانونان تكوينيّان لدوام ارتباط المرأة بالله
إنّ ما ذكره المرحوم العلّامة عن الارتباط بين العبد وربّه فيما يخصّ النساء هو التالي: في الأيّام الّتي تعاني فيها المرأة ما تعانيه، سيضعف ارتباطها بالله، وقد تمّت الإشارة إلى هذا الموضوع في الروايات أيضًا، ولكي تقلّل المرأة مِن ضعف هذا الارتباط وتوصِل الضعف إلى حدّه الأدنى، فقد جعل الله في النظام التكوينيّ طريقًا لحلّ هذه المسألة؛ فارتباط المرأة الحامل بالله في عالَم التكوين هو أشدّ مِن ارتباط غير الحامل [به]، وهذا أمرٌ واقعيّ. وهكذا هو الحال مع المرأة المُرضعة، فإنّ ارتباطها بالله أقوى مِن غيرها. فما السبب وراء ذلك؟ إنّ ذلك إمّا بسبب الطفل البريء الّذي تحمله بين أحشائها، أو الّذي تحمله على يديها بحيث يكون لها علاقة به؛ فتلك النفس البريئة، لا تقتصر براءتها على حالها فقط، بل تستفيد الأمّ أيضًا مِن بركات هذه البراءة، فيصير للأمّ نصيبٌ منها، وهذا أمرٌ مشهود في روح المرأة و[يظهر] على وجناتها وسيماء وجهها وصفاتها، وفي كيفيّة تعلّقها بربّها؛ إذ ارتباط المرأة بالله في فترة الحمل والرضاع يكون أكبر، وهذه حقيقة واقعة. إنّ المرحوم العلّامة أراد هناك أن يُذكّر بهذا الأمر.
مِنَ المعلوم أنّ المرأة لا تتمكّن مِنَ الصلاة لمدّة عشرة أو ثمانية أو سبعة أيّام في الشهر، وهي مدّةٌ ليست بقصيرةً، وهذا يعني أنّها تمضي ما يقارب ثلث عمرها بارتباطٍ ضعيف جدًّا بالله. فلا بدّ مِنَ البحث عن طريق لحلّ هذه المشكلة. فما هو هذا الحلّ؟ إنّه يتمثّل في ضرورة تقويّة هذا الارتباط بواسطة تلك الوسيلة الّتي هيّئها الله لها.
ولا بدّ طبعًا أن يُؤخذ بعين الاعتبار مسألة مهمّة جدًّا، وهي أنّ المرحوم العلّامة لم يقصد أنّه على المرأة أن تحمِل بأيّ شكل كان، [فلم يقصد أن تحمل] حتّى لو أدّى ذلك إلى ابتلائها بأنواع الأمراض والمخاطر، وهو ما تصوّرته بالفعل بعض النساء في ذلك الوقت، فابتُلينَ بأمراضٍ. أتذكّر أنّ المرحوم العلّامة قال لإحداهنَّ: أنا لم أقصدك أنت [وأمثالك] بما قلتُ، فلا بدّ مِن مراعاة الأمور العقليّة والمنطقيّة أيضًا. وطبعًا ليس المقصود مِنَ المنطق هنا ذلك المنطق المخادع، بل المقصود به المنطق الّذي يحكم به أهل الخبرة والأطباء، نعم الأطباء المخلصين منهم لا الّذين يحكمون بناء على الوهم والخيال والأهواء والشائعات، ولا المتأثّرون بالثقافة الغربيّة المنحطّة، وهم يعملون داخل المجتمعات الإسلاميّة. فإن رأى الطبيب المتخصّص أنّ الحمل سيضرّ بالمرأة، ويسبّب لها بعض الأمراض الّتي ستعيقها، ولن تستطيع أن تتحمّلها، فسيختلف الأمر في هذه الحالة. أمّا إن كان حال المرأة يسمح لها بالحمل ولم تفعل، فستكون قد ألحقت بنفسها الضرر. وإن كانت لا تستطيع الحمل لأمر خارج عن إرادتها، كأن تكون محرومة مِن هذه النعمة، فسيكون حكمها حكم المريض، والله يتعامل مع المريض بلطفٍ آخر.
فمَن يكون بصحّة جيّدة، يجب عليه أن يصلّي وهو واقف، أمّا مَن كان مريضًا فعليه أن يصلّي وهو جالسٌ. فإن كان المريض مصابًا بانزلاق في الفقرات، فصلاته عن وقوف باطلة، إذ يجب عليه الصلاة وهو جالس أو مضطجع على الفراش.. لماذا تكون صلاته باطلة [عن جلوس]؟ لأنّه قد خالف الحكم الإلهيّ، فالله هو الّذي أراد منه أن يصلّي بذلك الشكل.
كنت قد رافقتُ المرحوم العلّامة مرّات عديدة إلى المستشفى، وكان الأطباء أحيانًا يجيزون له الوضوء، فآتيه بإناء ليتوضّأ، وأحيانًا لا يجيزون له الوضوء، فآتيه بحجرٍ ليتيمّم به. وفي إحدى المرّات جلبتُ له ترابًا ليتيمّم به، فقال الطبيب: ليس مِنَ المناسب وجود التراب في المستشفى. فقال لي المرحوم العلّامة: أخرجه، واجلب لي حجرًا لِأتيمّم به. هذا ما يُسمّى بالعمل المنطقيّ والمطابق للعقل. فقد تعلّقتْ المشيئة الإلهيّة هذه الفترة بأن يكون وضع عبد الله هذا بهذا الشكل، فلا بدّ إذن أن يُعمل وفق القوانين الحاكمة في هذا الوضع، فإن عمِل بخلافها فسيتحمّل مسؤوليّة عمله. لقد صلّى المرحوم العلّامة عدّة مرّات وهو مستلقٍ على الفراش بدون أن يتحرّك، وحصل أن يمَّمْتُه بنفسي عدّة مرّات، لأنّه كان لا يستطيع أن يحرّك يديه، فهل صلاته هذه أدنى درجة مِن صلاته وقوفًا، والّتي تتوفّر فيها كافّة الشروط، وهو يتمتّع بكامل الصحّة والسلامة؟ كلّا، ليس الأمر كذلك، فلا يوجد فرق بين الحالتين.
في أوّل سفر لي إلى الحجّ، كنتُ في السابعة عشر مِن عمري، وكنتُ بمعيّة المرحوم العلّامة، وكان أحد أفراد القافلة معنا، يعاني مِن مرض (الاكزيما) فكان يخرج الدمّ والقيح مِن جسمه، كان الرجل وقورًا جدًّا، ومؤدّبًا ومثقّفًا ومتعلّمًا إلى حدّ ما، فجاء إلى المرحوم العلّامة يومًا عندما كنّا في المدينة ننوي الحركة باتجاه مكّة، وقال له: هذا سفر حجٍّ، ونحن على وشك الإحرام، فكيف علَيّ أن أحجّ والحال هذه، فأنا أعلم أنّ حكمي يختلف عن حكم الآخرين، ولكنّني أودّ أن أؤدّي حجًّا أكون مقتنعًا به، فكيف ألبس الإحرام ووضع جسمي بهذا الشكل، فأرجو أن تدعو لي الله لكي ترتفع عنّي هذه الحالة. فلم يقل المرحوم العلّامة في بادئ الأمر شيئًا، ثمّ نَقل له هذه الحكاية: كان أحد العظماء – ويبدو أنّه كان يقصد المرحوم الحاجّ الملّا فتح علِيّ السلطان آبادي – يعاني مِن نفس ما تعاني منه الآن، فكان مصابًا بيديه، وعندما وصل إلى الميقات ليُحرم توجّه إلى الله وناجاه قائلًا: إلهي، أريد أن لا تنشغل أفكاري في هذا الحجّ بمسائل التطهير وأمثالها، فاجعل حجّي هذا حجًّا بلا مشاكل. ثمّ نظر إلى يديه، وإذا هما سالمتان ليس فيهما أيّ أثر للمرض، فذهب واغتسل وأحرم وأكمل كافّة الأعمال، ثمّ ذهب إلى المدينة ورجع، وعندما وصل إلى نفس المكان الّذي دعا الله فيه، وهو في طريق عودته إلى بيته، عادت إليه الحالة السابقة، فالدم والتقرّحات عادت إلى يديه مرّة أخرى. نقل المرحوم العلّامة هذه الحكاية إلى ذلك الشخص، فقال الرجل: وهذا ما أريده منك، أريدك أن تفعل معي نفس هذا الشيء. فضحك المرحوم العلّامة، وقال له وجهة نظره.
صحيح أنّ السلطان آبادي كان مِنَ العظماء ومِن أهل المعرفة.. أتعلمون مَن يكون السلطان آبادي؟ كان يعيش في النجف قبل ما يقارب المائة سنة، في زمان المرحوم النائينيّ والمرحوم الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ، أو قبلهما، فهو قد جاء بعد عصر الشيخ الأنصاريّ أو ربما كان معاصرًا له. وكان الكثير مِن عظماء النجف يحضرون دروسه في التفسير – أنا إنّما أوضّح لكم هذا الموضوع لكي تعرفوا قدر وقيمة هذه المدرسة الّتي هيّأها لنا العظماء ولكي لا نتعامل مع مبانيها بشكل عابر، هذا هو قصد الحقير مِن ذِكر هذه الحكاية – قال المرحوم النائينيّ: سمعت في بداية شهر رمضان أنّ الآخوند الملّا فتح علِيّ السلطان آبادي، يقيم درسًا لتفسير القرآن في بيته في ليالي شهر رمضان، فقلت سأذهب لأرى ما يتحدّث به الرجل، فقد كانوا يمجّدونه كثيرًا! قال: ذهبت إلى بيته بمعيّة شخص أو شخصين، فوجدنا عددًا لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين شخصًا، فشرع بتلاوة آية مِنَ القرآن ثمّ بدأ بتفسيرها لمدّة ساعةٍ كاملة، ولقد فسّرها تفسيرًا [جعلني] أقول عنه عند خروجي: إنّ هذا المعنى لم يخطر على ذهني طوال حياتي، فأيّ تفسير عجيب وجميل قد ذَكره هذا الرجل العظيم! وفي الليلة القادمة ذهبنا إلى بيته أيضًا، فبدأ ببيان الآية نفسها مجدّدًا، ولكنّه فسّرها بشكل آخر، مستنبطًا منها معانٍ أخرى، فتعجّبنا كثيرًا وقلنا: أيّ تفسير هذا، فهو يختلف عن تفسير الليلة الماضية، والحال أنّ الآية هي نفسها، فيا له مِن أمر عجيب! وفي الليلة الثالثة، أخذ بتفسير نفس الآية لمدّة ساعة مِنَ الزمن، ولكن بتفسير آخر أيضًا. واستمرّ الأمر على هذا المنوال في الليلة الرابعة حتّى ثلاثين ليلة.. قد فسّر المرحوم الآخوند الملّا فتح علِيّ السلطان آبادي آيةً واحدة في ثلاثين ليلة مِن ليالي شهر رمضان، وكان التفسير الّذي يُبيّنه في كلّ مجلس يختلف عنه في المجالس الأخرى، وهو أمر يستبعده الذهن كثيرًا. وعند انتهاء المجالس الثلاثين قال الشيخ [سلطان آبادي]: ورد في الروايات المأثورة أنّ للقرآن سبعين بطنًا۱، وقد بيّنتُ حتّى الآن ثلاثين بطنًا منها، أمّا البطون الأربعين الأخرى، فعليكم أن تبحثوا عنها في مكانٍ آخر، أي عليكم أن تذهبوا إلى الإمام لكي يبيّنها لكم، فهو الّذي لديه البطون السبعون.
هذا هو المرحوم الآخوند الملّا فتح علِيّ السلطان آبادي، ومع كلّ هذا، تراه عندما ذهب إلى الحجّ طلب مِنَ الله أن يُذهِب عنه ذلك المرض، لكي يأتي بحجٍّ يكون فيه فارغ البال. ولكن ما الّذي قاله المرحوم العلّامة في هذا المجال، إنّه قال: هناك مَن يتصرّف بشكل آخر، فيرى جميع ذلك مِنَ الله – لاحظوا – فيقول: إلهي ما دمتَ قد أمرضتني، فسأقوم بأداء الحجّ بحال المرض هذا، فلماذا أطلب منك أن تشفيني منه، فها أنت ترى وضعي، فإن تعلّقت إرادتك بأنّ يكون حجّي بهذا الشكل، فلماذا أطلب منك غيره، لماذا أطلب أن تشفيني؟ فهل الحجّ الّذي يؤدَّى بطهارة كاملة هو أكثر ثوابًا مِن غيره؟ أفلو كانت يدي سليمة ليس فيها أيُّ جرحٍ، هل سيكون حجّي أرقى وأرفع درجة وأعلى [ممّا لو أدّيت الحجّ] في حالتي هذه الّتي أنا فيها؟! أليس هو المانح للدرجات، فإن كان الأمر كذلك، فلماذا أتدخّل في عمله، ولماذا أطلب منه أن يفعل بي كذا وكذا؟! فإنّ الله يقول إنّ كلّ شيء بيده، فما دام الأمر كذلك، فلماذا يطلب الإنسان أن تجري الأمور بخلاف ذلك المسير الّذي قدّره الله له؟!
ولهذا يُلاحظ أنّ السالكين الّذين يعانون مِن أمثال هذه الأمور، تكون فرصهم أكثر مِن الّذين لا يعانون منها. وعليه، فإن كانت المرأة في وضع، لا تقدر فيه على الحمل، كأن يكون ذلك متعسّرًا عليها، أو تكون مريضة بمرض في الأعصاب مثلًا بحيث يكون الحمل مضرًّا لها مِنَ الناحية الجسديّة، أو تكون غير قابلة للحمل أصلًا، فكلّ هذا يعتبر مِن موارد الاستثناء، أي أنّ الله يتعامل معها كما يتعامل مع الحامل. هذا فيما يتعلّق بجواب السؤال الأوّل.
الرِّفقة والقيّومية قانونان تكوينيّان في تكامل الحياة الزوجيّة
أمّا الموضوع الّذي طرحته إحدى السيّدات، والمتعلّق بكيفيّة العلاقة الزوجيّة وبتبعيّة المرأة لزوجها وطاعتها له، [حيث قالت:] يجب بناء كلّ ذلك في إطار الرِّفقة والصداقة، فإن حصلت الرِّفقة، فلن يبقى للمسائل الأخرى مكان للحديث عنها. [أقول:] لا شكّ أنّ أصل وأساس الحياة يجب أن يُبنى على الشراكة والصداقة، وهذا أمر صحيح مائة في المائة. فالعلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن تُبنى على أساس الصداقة، وإلّا سيكون البناء غير صحيح مِنَ الأساس. فالمرأة تستطيع أن تسير في هذا الطريق وتتكامل متى ما كانت صديقةً لزوجها وشريكةً له، وحياة الرجل تكون أكثر فائدة وثمرًا متى ما كانت علاقته مع زوجته مبنيّة على الرِّفقة والصداقة.
أتعلمون ما الّذي تعنيه الرِّفقة والصداقة؟ إنّها تعني أن لا يخطر على ذهن الزوجين أنّهما اثنين وأنّهما مفترقين، وأن يريد أحدهما الطرفَ الآخر لنفسه، فكلّ ذلك يتنافى مع مفهوم الصداقة. بل إن قام الزوج بعملٍ، فكأنّما المرأة هي الّتي قامت به، وإن قامتْ هي بعمل، فكأنّما هو القائم به، فيَتصوّران نفسيهما وجودًا واحدًا في جسمين. إنّ ما أعرضه عليكم الآن ليس كلامي، بل هو ما سمعته مِنَ المرحوم العلّامة (رضوان الله عليه) ومِن سائر العظماء، وهو ما تعلّمته مِن تجربتي السلوكيّة ومرافقة العظماء، فقد كانوا يصرّحون بذلك.
ذكرتُ مرارًا أنّه كلّما كانت العلاقة بين الزوجين أكثر خلوصًا، كان نزول الملائكة في تلك الحياة أكثر. وهذا قانون آخر مِنَ القوانين التكوينيّة، والله لا يخدع الزوج والزوجة بهذا الكلام، فليس هذا الكلام مِن أجل أن تمضي حياتهما الاجتماعيّة والمنزليّة بسلام وحسب، وأن ينشغلا في هذه السنوات الّتي يعيشان فيها معًا! كلّا، بل إنّ أصل وأساس سعادة الرجل والمرأة مبنيّة على أن يكونا صديقين في علاقتهما؛ فبهذا تتمثّل السعادة. لا يستطيع الإنسان أن يتقدّم خطوةً واحدة في الطريق إلى الله إن كان ذهنه مشوّشًا، ولن تتوفّر له الظروف المناسبة ما دام يحمل في ذهنه أفكارًا باطلةً.
مَن يلتزم بالقوانين التكوينيّة تظهر عليه آثارها التكوينيّة
قال لي أحد الأصدقاء الّذين فُتحت لهم عين الباطن: كلّما حصل خلاف في حياتنا، ونظرتُ إلى زوجتي أرى تغيّرًا في وجهها، وكأنّها ليست تلك المرأة السابقة، وعندما نتصالح يعود وجهها إلى وضعه السابق بسرعة كبيرة. لقد كان هذا الرجل ممّن يرَون الصور البرزخيّة للبعض على هيئة حيوانات. ولم يكن هذا الأمر خاصّ به، بل يوجد الكثير مِن أمثاله، وهذا أمر مشهود، ولعلّ بعضكم أو كلّكم قد تعرّف على أمثال هؤلاء، أو لعلّنا بشكل أو بآخر قد شاهدنا ذلك بأنفسنا، لأنّ مسائل النفس لا تبقى خافيةً دائمًا، فخصائص النفس ظاهرة، والآثار التكوينيّة المترتّبة على سير الإنسان ستظهر هي الأخرى، فهي غير قابلة للإخفاء.
فعندما كنتُ أرفع صوتي خلال السنوات الستّ الماضية وأقول: إنّ آثار وعلامات وليّ الله واضحة، إنّما كنت أفعل ذلك لهذا السبب. فالناس تستطيع أن تعرف الوليّ، شاء أم أبى، وتشخّص إن كان هذا الفرد الّذي أمامهم وليًّا أم لا. يوجد في هذا الإناء الّذي أمامي ماء، فإن قال لي أحد: إنّ هذا ليس بماء، فسأسكبه في القدح، وأقول له: تفضّل واشرب منه، لترى بنفسك هل هو ماء أم لا، وهل سيرفع عطشك أم ستبقى شاكًّا في أمره! إنّه ماء وهو يرفع العطش، وما دام كذلك سيُعلم أنّه ماء.
إنّ آثار وليّ الله هي آثارٌ تكوينيّة، فليس الأمر بالشكل الّذي يكفي أن يأتي فيه زيد بن أرقم۱ ويقول: هذا وليٌّ. وينتهي الأمر بذلك، بل كان عليه أن يُثبت هذا الأمر بنفسه. إنّ مَن كان يحضر لدى المرحوم العلّامة رضوان الله عليه، لم يكن على عِلم بوجود شخص باسم السيّد الحدّاد، الّذي هو أستاذه، ولم يكن يعلم إن كان السيّد الحدّاد قد أوصى للعلّامة أم لا، نعم، لم يكن الناس يعلمون عن هذا الأمر شيئًا، غير أنّهم ما إن يجلسوا مع المرحوم العلّامة ساعة مِنَ الزمن، حتّى يُدركوا أنّه رجل غير عاديّ، رغم أنّهم لم يعرفوا السيّد الحدّاد، بل [لعلّ بعضهم] لم يكن يقبل به. هل التفتّم! هذا هو الأثر التكوينيّ. أمّا الآن فقد تبدّل كلّ شيء وظهرت على السطح زخارف جديدة.
مَن ليس بوليٍّ فأمره واضح للناس، ويستطيع الناس أن يعرفوه عن بُعْد عشرة فراسخ، لأنّ ذلك سيكون واضحًا في حركاته وسكناته، وسينعكس على جبهته. فالأمر لا يستقيم بأن يقول زيد أو عَمرو أو بكر ما يخالف ذلك. نعم، ليس الأمر بهذا الشكل، بل إنّ لهذه الأمور آثارًا تكوينيّة، إنّ لتصرفات الإنسان آثارًا تكوينيّة؛ أي إن التزم الإنسان بالقوانين التكوينيّة الّتي أمر الله بها، ستظهر عليه الآثار التكوينيّة لتلك القوانين، ستظهر في أسلوب كلامه وفي نظراته وعلاقاته مع الآخرين، وستغيّر طبيعة أفكاره.
تحدّثتُ في إحدى ليالي شهر رمضان هذا، في شرحي لدعاء أبي حمزة [الثمالي]، عن كيفيّة تأثير ولاية الأئمّة عليهم السلام وولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وقلتُ: يوجد كتاب مطبوع سابقًا يحمل اسم (لماذا اخترتُ مذهب الشيعة مذهب أهل البيت)، وهو كتاب باللغة العربيّة لأحد قضاة سوريا، والّذي كان قاضي أنطاكية.٢ كان الرجل سنيًّا فاستبصر، وألّف هذا الكتاب حول أحقيّة مذهب أهل البيت، وعن سبب اختياره لهذا المذهب. إنّه كتاب ممتع جدًّا، وفي نظري أنّ مَن يبدأ بقراءته لن يدعه حتّى يُكمله. قرأت هذا الكتاب عندما كنتُ في العشرين مِنَ العمر، أي قبل ما يقارب الخمسة والعشرين عامًا. فعندما وقع الكتاب بيدي، لم أتركه حتّى أتممت قراءته. سمعت أخيرًا أنّ هذا الكتاب تُرجم إلى اللغة الفارسيّة. إن تصفّحتَ الكتاب ستجد على الصفحة الأولى منه صورة المؤلّف عندما كان قاضيًا، فستراه حينها وكأنّك تنظر إلى صورة عُمر؛ فالعيون حادّة والحواجب مقطّبة والوجه غاضب، فيُذكّرك بصدر الإسلام، أي بحقبة مَن يسمّونهم بالعظماء، الّذين اغتصبوا الخلافة مِن أمير المؤمنين! أمّا الصورة الموجودة في آخر صفحة مِنَ الكتاب، فهي صورته بعد الاستبصار، فستراه بوجه متواضع وعيون خافتة، قد تبدّل شكل عينيه بحيث يستسيغ الإنسان النظر إليها، وستقول: إلهي، هل يمكن أن يكون هذا الرجل هو نفسه الّذي رأيت صورته في الصفحة الأولى مِنَ الكتاب! فهو لم يأخذ حقنة ولا دواءً، ولم يكن مريضًا، فما الّذي حوّله مِن ذلك الشكل إلى هذا؟ إنّ كلّ ذلك قد حصل بفعل الولاية، فولاية أمير المؤمنين عليه السلام، هي الّتي تجعل وجه الإنسان بهذا الشكل. وهذا الأثر هو الأثر التكوينيّ. لعلّ الكتاب لا زال بحوزتي، نعم هو كذلك، ولكن لا أدري أين هو الآن. ولو كنتُ أعلم أنّني سأخبركم حكايته لجلبتُ بكلّ تأكيد معي الكتاب وأريتكم إيّاه، لتروا بأنفسكم أنّ التفاوت بين الصورتين، هو كاختلاف الأرض والسماء. ما السبب في ذلك؟ إنّه بسبب قبول الحقّ، فإنّ قبول الحقّ يترك أثره على وجه الإنسان، فإن رفض أحدهم الحقّ تغيّر وجهه وانقلب.
يحصل أحيانًا، قبل أن أتكلّم مع بعض الناس الّذين يحضرون إلى هنا، أن أنظر إلى وجوههم أوّلًا، لأرى الحال الّذي هم عليه، فهل يمتلكون القابليّة أم لا؛ فإن كان لا يمتلك القابليّة، كنتُ أصرفه في الحال، وإن كان يمتلك القابليّة، كنت أتكلّم معه. إذ لو تكلّمتُ مع مَن لا قابليّة له لعشر ساعات، لَما أثمرت تلك الساعات شيئًا.
قال لي المرحوم العلّامة يومًا: عندما تتحدّث على المنبر لماذا تدخل في تفاصيل الموضوع بالشكل الذي يتّضح فيه المصداق؟! على الإنسان أن يتكلّم بشكل عامّ، ولا حاجة إلى تعيين مصداق حديثه. فقلتُ له: إن لم أحدّد المصداق، فلن يفهموا حديثي يا سيّدي، فيعملون على تأويله بأشكال مختلفة، ويبدؤون بضرب أخماس بأسداس. فقال لي: يا سيّد محسن، ما عليك إلّا أن تطرح موضوعك ولا شأن لك بغيرك، فمَن كان يريد أن يقبل، فسيقبله ويفهم مغزاه، ومَن لا يريد أن يفهم، فلن يفهم وإن ذكرتَ له ألف مصداق. كانت تلك هي عبارته: لو عيّنتَ له المصداق ألف مرّة، فلن يفهم. لماذا؟ لأنّه لا يريد الانصياع إلى الحقّ، فهو قد ضرب ستارًا بينه [وبين الحقّ]، فأيّ كلام معه سيكون كالكلام مع الجدار، لن تجني منه إلّا تعب النفس والإرهاق. ففي مثل هذه الحالة، لا يجب على الإنسان أن يواصل الحديث.
لكلّ فعل قانون يجب تحكيمه فيه
أن تكون العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة رِفقة وصداقة، فهذا ممّا لا كلام فيه، ولكن الكلام في اتّباع الإنسان القوانين الخاصّة بأيّ نشاط يقوم به؛ ففيما يتعلّق بقضاياه الشخصيّة، عليه أن يتّبع القوانين الخاصّة بها، فليس له أن يقول: لا شأن لي بغيري، فسآكل وأفعل ما أشاء. بل عليه أن يعمل بموجب ما كلّفه الله به، فيجب أن يحسب حسابًا لعباداته ولسلامة جسمه ونومه ويقظته، ولكلّ عمل يقوم به.
وفيما يخصّ علاقاته مع الناس، عليه أن يعمل وفق القوانين والتعليمات المنطقيّة، فيضع في حسبانه القوانين الّتي تنظّم علاقاته مع الآخرين؛ فهل يجوز له أن يتكلّم مدّة ساعة ونصف على الهاتف؟! وهل يصحّ أن يطرق الباب في الساعة الثانية بعد الظهر حين يكون الناس نيامًا، فيقول: جئت لزيارتكم؟! هل هذا مِنَ القانون في شيء؟! أو يقول: أنا أفعل هذا مِن باب الصداقة الّتي تربطني به، فجئت أسلّم عليه! ليس صحيحًا أن تسلّم عليه في الساعة الثالثة بعد الظهر يا عزيزي، بل عليك أن تكون في بيتك في مثل هذا الوقت.. [وهل] يصحّ للمرء أن يتكلّم مع الآخر بأيّ نحوٍ أراد لمجرّد كونه صديقًا له؟! كلّا، فلطريقة الكلام أصول، ولا ينبغي أن يُتكلّم عن الآخرين في غيابهم. ويجب أن تكون زيارة الأصدقاء خاضعة للقوانين المنطقيّة. ويجب أن يكون نومه ويقظته وعلاقاته مع أصدقائه مبنيّة على القوانين المنطقيّة، تلك القوانين الّتي يؤيّدها العقل والموافِقة لسيرة العظماء.
وكذلك الأمر بالنسبة للقوانين الخاصّة بتربية الأطفال، فيجب أن تكون خاضعة للقوانين المنطقيّة والشرعيّة، فلا يجوز له أن يقول: ما دام هذا ابني، فلا مانع أن أتعامل معه بأيّ شكل أريد، فسأتعامل معه معاملة الصديق، فأنبّهه مرّة وأعفو عنه أخرى! كلّا، لا يجوز لك ذلك، بل عليك أن تنبّهه عندما يكون ذلك لازمًا، فإن لم ينفع معه التنبيه، فعليك أن توبّخه. نعم، إنّ للتعامل معه كصديق شروطًا خاصّة، سأذكرها.
مَن يريد أن يخطو خطوات صحيحة، عليه أن يقوم بتحكيم القوانين المنطقيّة جيّدًا، فهي بمثابة حجر الأساس للبناء الّذي يريد أن يبنيه. هل حصل حتّى الآن أن أحضرنا عمّال بناءٍ وقلنا لهم: اعملوا. فإن قالوا: ما الّذي علينا فعله؟ قلنا: ابنوا، ابنوا غرفةً ومطبخًا وحمّامًا. وإن قالوا: أين هي خارطة البناء؟ قلنا: اعملوا كيفما شئتم!! لا يمكن أن يحصل شيء كهذا، بل لا بدّ مِن تحديد عدد الطبقات المراد بنائها، ومواصفاتها، ولا بدّ مِن إعداد خريطة دقيقة، فإن تهيّأ كلّ ذلك سيتم البناء وفقًا للقوانين الخاصّة بذلك.
إنّ العامل الأساسيّ في حياة السالك، هو العمل وفق القانون؛ كان المرحوم العلّامة رضوان الله عليه يقول مرارًا: الإخوة الّذين يريدون التشارك في مشروع معيّن، عليهم أن لا يتّكئوا على الصداقة في ذلك، بل لا بدّ أن يبنوا ذلك على أساس قانون منطقيّ مدوّن، فعليهم أن يجلسوا ويحدّدوا ويقسّموا ساعات العمل، ويحدّدوا رأس مال كلّ واحد منهم، والوظائف الملقاة على عاتق كلّ منهم، وأن يضعوا برنامجًا لعملهم؛ فيحدّدوا المصدر الّذي سيُشترى منه، وكيفيّة التعامل مع الظروف الطارئة إن حصلت.
خلال حياتي السلوكيّة وعلاقاتي مع أصدقاء المرحوم العلّامة بصورة خاصّة، وكذلك بعد رحيله، لاحظتُ كيف تَعَدّى البعض على شركائهم الّذين بنوا عملهم على الصداقة في بداية أمرهم، فحصلت بينهم الكثير مِنَ المشاكل، وانتهى بهم الأمر إلى الافتراق والخصومة وتبادلِ كلامٍ غير لائق، ثمّ اضطرّوا لإنهاء تلك الشراكة في نهاية الأمر. لماذا؟ لأنّهم جعلوا الصداقة أساسًّا لعملهم، والحال أنّ الصداقة تمثّل ركنًا واحدًا فقط مِن أركان ثبات العلاقة بين الطرفين، إذ هناك أركان أخرى؛ فالشيطان متربّصٌ، والأذواق مختلفة، والظروف المعيشيّة للأفراد متفاوتة، وقابليّة تحمّل الناس للظروف الحياتيّة مختلفة. على سبيل المثال؛ قد يتحمّل أحدهم طريقة تعامل أحد الزبائن معه دون أن يتأثّر بها كثيرًا، أمّا غيره فتتوهّج نار غضبه مِن ذلك، فتحمّل الأفراد في مواجهة الظروف الخارجيّة ليست متماثلة بين شخصٍ وآخر. وترى إن غاب أحد الشريكين عن العمل، يضطرب ذهن الآخر، ويقول: لماذا لم يحضر؟! وفي اليوم التالي يستأذن مِن أجل إصلاح سيارته، ثمّ يغيب في اليوم الثالث، ويتأخّر في اليوم الرابع، حتّى يأتي اليوم الّذي لم يعُد الشريك الآخر [قادرًا على] تحمّل الأمر، فيقول: ها هو يستغلّ الصداقة، فسأعامله بالمثل.
فإن كان الأساس الّذي تُبنى عليه المعاملة هو الصداقة فقط، دون الاتّكاء على أساسٍ منطقيّ، فسيُحكَم عليها بالفشل في أسبوعها الأوّل بكلّ تأكيد. لذا يجب أن يكون الأساس الّذي تُبنى عليه المعاملات، هو القواعد المنطقيّة، بل الاعتباريّة أيضًا؛ والمقصود مِنَ الاعتبار هنا، هو أن يجلس الفردين أو الثلاثة، ويتّفقوا فيما بينهم على أمرٍ ما، وإلّا سيُحكم على تلك المعاملة بالفشل.
الرِّفقة بين الزوجين مبنيّة على طاعة المرأة للرجل
هل حصل أن بنَت حكومة مِنَ الحكومات عملها على الصداقة؟ وهل اجتمع مجلس الوزراء يومًا وقال: لكلّ وزارة أن تعمل وفق ما ترتئيه؟ كلاّ، لم يحصل مثل هذا الشيء، بل يتمّ التنسيق وتوزيع العمل بين الوزارات، فيكون لكلّ وزارة عملها الخاصّ بها. وهكذا الأمر فيما يخصّ العلاقة الزوجيّة، فلا بدّ أن يضع الطرفان قانونًا منطقيًّا يحكم بينهما. وهذا القانون يحدّد طبيعة عمل كلّ واحد منهما، فيتكفّل أحدهما بأمور المنزل الخارجيّة، ويتكفّل الآخر بتنفيذ الأشغال الداخليّة. وإن حصل أمر غير طبيعيّ، يتمّ التعامل معه بشكلٍ آخر. ثمّ بعد أن يتمّ تدوين هذا الإطار وتأييد هذه القوانين، تأتي الرَّفاقة لتضفي الحياة والروح والصفاء والسعادة، فيعيشان حياة هنيئة، وتتخلّص الحياة مِنَ الخشونة والفراغ والقسوة، إذ القسوة تتنافى مع أساس الحياة. فهذه ليست بدائرة حكوميّة، يحضر فيها الموظفون في الوقت المحدّد ويوقّعون على سجلّ الحضور، ثمّ ينصرفون إلى أعمالهم. بل إنّ أساس العلاقة بين المرأة والرجل مبنيّ على الشراكة، وهذه الصداقة والشراكة هي الّتي توجب الثبات، غير أنّ هذه الصداقة يجب أن تكون مبنيّة بدورها على أساسٍ منطقيٍّ، لا أن تكون صداقة عشوائيّة غير مبتنية على أساس.
مَن الّذي يضع مثل هذا الأساس؟ إنّه الشرع. [وبيان ذلك:] أنّه قد تتّفق الآراء بشأن أمرٍ معيّنٍ، فلا مشكلة هنا، غير أنّه قد يختلف الطرفان في تشخيص المصلحة، فيكون للرجل تشخيص معيّن وللمرأة تشخيص آخر، وموارد ذلك كثيرة؛ كأن يقرر الرجل دعوة ضيوف إلى بيته، وترفض المرأة دعوة فلان مِنَ الناس، فيصرّ الرجل على رأيه. وقد يقترح الرجل الذهاب إلى مكانٍ معيّن، فتعارضه المرأة وتقول: لا، أنا لا أريد أن أذهب إلى هذا المكان. لماذا يحصل ذلك؟ إنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ طبيعة علاقات المرأة تختلف عنها لدى الرجل، فدائرة علاقات الرجل تختلف عن دائرة علاقات المرأة، وعندما تريد هذه العلاقات أن تأخذ مصداقًا داخليًّا، يحصل الاختلاف دفعةً واحدة بين الطرفين نتيجة لذلك.
لهذا نرى الشرع يأتي هنا فيُوجب طاعة المرأة للرجل. فإن رفضنا وقلنا بوجوب طاعة الرجل للمرأة، فسيتعارض هذا مع الإسلام ومع القوانين، لأنّ الإسلام جعل حجر الأساس في هذه العلاقة هو طاعة المرأة للرجل، ثمّ تُبنى عليه الرَّفاقة والصداقة. فلا بدّ مِن تثبيت الإطار والقوانين أوّلًا، ليتمّ تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، ومتى ما تمّ ذلك يمكنهم بعدها أن يعيشوا كأصدقاء؛ فإن كان للرجل وقت فراغ، فليمدّ يد المساعدة والعون إلى زوجته، والعكس بالعكس. وإن كان هنالك أمر يحتاج إلى تشاور فيمكنهما التشاور فيه، لعلّهما يصلان إلى تفاهمات إيجابيّة ويرتفع الخلاف بينهما. أمّا إن لم يرتفع الخلاف، فما هو الأصل الّذي يجب الرجوع إليه، وما هو برنامج العمل الّذي يجب اعتماده؟ إنّه عبارة عن طاعة المرأة للرجل. هذا ما قصده الحقير مِن هذا الموضوع. وإلّا فالعلاقة على أساس الشراكة والصداقة ... لا تعتقدوا أنّ طاعة المرأة لزوجها يحطّ مِن منزلتها، بل على العكس، فإنّ بذلك رُشدها، وإن لم تفعل لن يحصل لها هذا الرُّشد. هناك الكثير مِنَ الروايات العجيبة الّتي تتحدّث عن هذا الموضوع، ولكن كلّ شيء قد تغيّر الآن، وانقلبتْ الكثير مِنَ الموازين، وأخذت الأمور تُطرح بشكل مغاير!
قبل فترة نقلتُ موضوعًا إلى عدد مِنَ الحاضرين، وهو أنّه قد صدر مؤخرًا كتابٌ مِن تأليف قاضية في إحدى المحاكم الأمريكيّة – والكتاب يُترجم في الوقت الحاضر إلى اللغة الفارسيّة – تنقل فيه ما يحصل مِن فجائع نتيجة اختلال العلاقات الرابطة بين الرجل بالمرأة، وتقول: سيؤدّي هذا الأمر بعد عدّة سنوات إلى اضمحلال المجتمع الأمريكيّ، والسبب في ذلك يعود إلى المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة. وتقول أيضًا: إنّ الحقّ في هذه المسألة هو مع الإسلام. وتقول مؤلّفة هذا الكتاب الضخم، وهي امرأة: لقد توصّلنا إلى نتيجة أنّ ما يقوله الإسلام في هذا المجال هو الصحيح.. هل لاحظتم؟!
كنتُ أتحدّث مع شخصٍ قبل يومين أو ثلاثة، فقلتُ له: ليس لله عداوة مع أحد، فالله ليس صديقًا للرجل وعدوًّا للمرأة. فلا معنى لمثل هذا الكلام، فهو إله الجميع وخالقهم، فلا يُعطي حقًّا إضافيًّا لطرف ويجور على الطرف الآخر فيبخسه حقّه. عندما يخلق الله مخلوقًا فهو يصدر معه كتيّب خاصّ به، فخذوا هذا الكتيّب مِنَ المُصنّع وطالعوه جيّدًا، واقرؤوا القوانين المدّونة فيه، وأنظروا ما جاء فيه؛ إنّها مسائل طرحها عظماء الدين الّذين وصلوا إلى حقيقة الأمر، فوجب العمل بموجبها؛ فإن حصل اختلاف في وجهات النظر، فلا ينبغي للمرأة أن تماطل وتقول: سأفعل هذا، ولن أفعل ذاك! فهي بمجرّد أن ماطلتْ في الأمر تكون قد خسرت.
القانون التكوينيّ يقتضي أن لا يقوم الإنسان بعمل مِن تلقاء نفسه
سمعت المرحوم العلّامة مرارًا يذكر قضيّة خاصّة بإحدى النساء، وهي تلك المرأة الّتي نراها لا تؤدّي عباداتها بمستوى أداء الأخريات مِن أصحاب الادّعاء، بل كانت امرأة عاديّة، [ولكنّها] كما يُقال كانت مِنَ الفائزات، فعندما نتفحّص أمرها، نلاحظ أنّها لم تقم بأزيد مِن تطبيق [تلك القوانين] في حياتها العائليّة. والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا: مِن أين علِم وليّ الله بذلك، والحال أنّ أحدًا لم يخبره عنها شيئًا؟! على أنّ أداء الصلاة والصيام والتهجّد، كلّ ذلك محفوظ في محلّه، ولا بدّ مِنَ الإتيان به، فمَن يتخلّف عنه يخسر. كان المرحوم القاضي يقول للعلّامة الطباطبائيّ: إن أردت خير الدنيا فعليك بصلاة الليل، وإن أردت خير الآخرة فعليك بصلاة الليل. وقد وبّخني المرحوم العلّامة يومًا وقال لي: لماذا تتساهل بصلاة الليل! نعم لقد وبّخني، لا أنّه نبّهني فقط.
ولكن ما يجب الالتفات إليه هنا هو: أنّ صلاة الليل هذه، يجب أن تكون توأمَ طاعةِ الحقّ، حتّى تترك أثرًا. فلو نهضتُ لصلاة الليل [هذه الليلة]، وخالفت أمر أستاذي في اليوم التالي أو ماطلتُ في تنفيذ ما أمر به، فهل سيكون لتلك الصلاة أثرٌ؟ كلّا، لن تترك أيّ أثر، وذلك لأنّ لِمَّ القضيّة وروحها وأصل الحياة والإكسير الّذي إذا مسَّ النحاس حوّله ذهبًا، يتمثّل في طاعة الأوامر ومتابعة ما يأمر به الأستاذ. فالتوفيق لأداء صلاة الليل وبقيّة العبادات، يحصل في ظلّ هذه الطاعة، وبذلك تحصل النورانيّة وغيرها مِن أمور، لماذا؟ لأنّ تلك قاعدة تكوينيّة، والقانون التكوينيّ يقتضي أن لا يقوم الإنسان بعمل مِن تلقاء نفسه.
كان الخوارج يُكثرون مِن الصلاة مِن تلقاء أنفسهم، حتّى أصبحوا مِن ذوي الثفنات۱. نعم، كانوا يفعلون ما يفعلونه مِن تلقاء أنفسهم، فزَيّنت لهم أنفسهم أن يقوموا تلك الليالي الطويلة في أداء صلاة الليل، وفي نفس الوقت نراهم يقطعون الطُرق ويوقفون المارّة؛ فقد أوقفوا مرّةً رجلًا يمشي مع امرأته، وقالوا لهما: هل أنتما مِن أتباع علِيٍّ، أم مِن أتباع معاوية؟ فقالا لهم: بل نحن مِن أتباع علِيّ. فأنزلوا المرأة وبقروا بطنها بالسكين وأخرجوا جنينها، وقالوا للرجل: كان الجنين ولدًا.٢ هكذا كان الخوارج، فما الّذي أوصلهم إلى ذلك؟ إنّ الّذي جعلهم يصبحون على هذا الشكل، هو أنّهم عملوا مِن تلقاء أنفسهم، فحوّلت صلاة الليل هذا المسكين إلى فرعون، فلو لم يصلّ الليل لكان خيرًا له. ليته لم يصلّ صلاة الليل، وليتها لم تصبح صنمًا له، وليتها لم تمنحه تلك القدسيّة الكاذبة، حتّى جعلته يقف بجرأةٍ بوجه الحقّ، وسوّلت له نفسه التمرّد على طاعة الحقّ. إنّ صلاة الليل هذه، هي الّتي فعلت كلّ تلك الأفاعيل. أمّا صلاة الليل الّتي تكون وفقًا لبرنامج عباديّ، فهي تعمل على تبديل حال الإنسان، وتغيير طريقة حديثه وعلاقاته مع الآخرين. فعندما ينظر إليه أحدنا، سيلاحظ كيف تغيّرت طريقة كلامه عمّا كانت عليه سابقًا، وتغيّرت طريقة حديثه، وتغيّرت أفكاره عمّا كانت عليه قبل أسبوع.
إنّ الأفكار التوحيديّة تحكي عن الوحدة ومقام الجمع، فإن لم يكن الأمر كذلك، فستكون أفكار المرء انزوائيّةً وانعزاليّة واستبداديّة وكَثْرة. والإنسان يستطيع أن يشخّص هذا الأمر بكلّ بساطة، فمعرفة هذا الأمر لا تحتاج إلى كثير مؤونة وإلى التعرّض للاختبار. لماذا؟ لأنّه قد تمّ العمل على أساس القانون.
للموضوع تتمّة، لذا سأديم الحديث عنه إن شاء الله. أمّا الآن، فقد استغرق حديثنا الكثير مِنَ الوقت.. وقد ضيّعنا وقتكم.. لذا سنكمل الموضوع ونواصل الحديث عن الأبحاث السابقة في فرصة أخرى إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد