المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التاريخ 1432/01/21
التوضيح
بيّن سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ أنّ الأحكام والمباني الإلهيّة لا تختصّ بزمان فليست آنيّة ولا سياسيّة، وهي تراعي الاختلاف التكوينيّ للجنسين على مرّ العصور، ومَبنيّة على غايات وموازين وحسابات في غاية الإتقان. كما أوضح أنّ التفوّق المُدّعى في بعض المجالات للعصر الحديث على العصور القديمة باطل، فتجاوزات عصرنا لم تبلغها تجاوزات المتقدّمين. ثمّ استفاض في بيان قاعدة أنّ معيار حُسن الأمور هو موافقتها لإرادة ورضا الله تعالى، فقد يكون الفعل نفسه حسن في مقام وقبيح في مقام آخر. ثمّ أفصح عن وجه الإعجاز في قوله × «إن استطعت أن لا يعرفنَ غيرك فافعل». وبيّن بعض الدقائق في قوله تعالى حكاية عن الشيطان قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ. ثمّ عرّج (قدس الله سرّه) للإجابة على بعض الأسئلة الّتي ترجمنا منها ما يلي؛ معنى الرجعة – معنى حوض الكوثر – دور الحبّ والعشق في السلوك العقلانيّ.
هو العليم
الأحكام والمباني الإلهيّة عامّة لكلّ زمان
المرأة والأسرة - قم - الجلسة الخامسة والعشرون
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
عَقدتُ سابقًا في مدينة قمّ مجالس للسيّدات متعلّقة بكيفيّة سلوك النساء والبرامج السلوكيّة الّتي تُعطى لهنَّ؛ لِيستفِدْنَ منها في حياتهنَّ اليوميّة، ولِيبلغنَ الكمال، ولِيستثمرنَ ما يمتلكنَ مِن استعداد لإيصاله إلى مرتبة الفعليّة. وذكرتُ فيها أنّه توجد فوارق بين الكثير مِن برامج النساء وبرامج الرجال، وقلنا أنَّ هذه الفوارق تعود إلى اختلاف الشاكِلَة بين الجنسين، فلا يمكن أن يكون الاختلاف [بين البرامج] ناتج عن أمور اعتباريّة أو مجعولة، أو كونه ممّا يمكن أن يُستفاد منه في فترة زمنيّة دون غيرها.
الزواج المؤقّت تشريع إسلاميّ لا سياسيّ ظرفيّ
كنتُ أستمع يومًا إلى حديث أحد الجهلة غير المطّلعين على المباني الإسلاميّة، الّذي دار حول موضوع الزواج المؤقّت، فقال: إنّ موضوع الزواج المؤقّت هو موضوع سياسيّ في الأصل، وكان رسول الله قد أقرّه في فترة مِنَ الزمن وفقًا لظروف ذلك الزمان، ثمّ أقدم الخليفة الثاني عمر على إلغائه وإخراجه مِنَ الشريعة، بل جعل حكمه حكم الزنى، وقال صراحة: متعتان كانتا محلّلتان في زمن رسول الله وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما۱، فهذا تهديد منه بإقامة الحدّ على مَنْ يتزوّج زواجًا مؤقّتًا. والحال أنّ الحدّ يجب أن يقام على الزنا لا على النكاح [المحلّل]. وفي صدد هذه القضيّة قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو لم يحرّم عمر المتعة لَمَا زنى أحدٌ٢.
إنَّ مسألة زواج المتعة مسألة شرعيّة، ولها – طبعًا – شروطها الخاصّة بها؛ فلا يمكن أن يتمّ هذا الزواج – كما ذكرتُ سابقًا خلال حديثي عن هذا الموضوع – بأيّة كيفيّة كانت ولأيّ سبب كان. وعودًا إلى حديثنا حول كلام ذلك الجاهل، الّذي قال أنّ [الزواج المؤقّت] موضوع سياسيّ اقتضت الضروررة أن يُدخله رسول الله في الدين في فترة معيّنة، ثمّ بعد أن انتفت تلك الضرورة قام عمر بحذفه منه. [أقول] كم هو سخيفٌ هذا الكلام، وكم هو رجل بعيد عن العلم. وإن كان هذا الكلام يُعتبر تجاوزًا للخطوط الحمراء، غير أنَّ صدور مثل هذا الأمر ليس مستغربًا في هذه الأيّام إذ يُحتمل صدور كلّ ما هو مستبعد.
عندما يُشرِّع رسول الله حكمًا، سيكون كفرًا إن تمّ النظر إليه على أنّه سياسيّ. ثمّ هل اختلفت الظروف في زمن عمر عنها في زمن رسول الله؟ [وإن فرضنا اختلافها] فما هي وجوه الاختلاف؟! دعونا نتصفّح الكتب عسى أن نجد فيها ما نستطيع أن نزخرفه ونعطيه صبغة واقعيّة [هذا ازدراء مِن سماحته]!! فما الّذي تغيّر؟! لم يتغيّر أيّ شيء، فطول قامة الإنسان الّتي تتراوح بين المتر والنصف والمترين لم تتغيّر عمّا كانت عليه، وكذا الأمر بالنسبة إلى نوع الطعام الّذي يتناوله؛ بل لعلّ ظروف ذلك الزمان كانت أفضل مِن ظروف الزمان الذي جاء بعده.
بناءً على هذا، يجب على المتكلّم ألّا يطلق عنان لسانه ليتكلّم عن جهل بكلّ ما يريده، إذ المتكلّم سيعرّض نفسه للمحاسبة، فلدين رسول الله مَنْ يتولّاه الآن، وهو حيّ وسيُعاقب المتجاوزين. نعم، إنَّه يضرب بتلك العصا الّتي سيظهر ألم ضرباتها ولو بعد حين.
إختلاف الأحكام بين الجنسين راجع لطبيعتهما الماديّة والروحيّة
كنتُ قد كرّرت على مسامعكم أنَّ تشريع الأحكام الخاصّة بالرجال والنساء بالشكل الّتي هي عليه، لم يكن عن غرضٍ أو مرضٍ، بل شُرّعت بناءً على مصلحةِ كلٍّ مِنَ الرجل والمرأة، فلكلّ جنسٍ مِنَ الجنسين حكمه الخاصّ به؛ فلا يمكن للرجل أن يحمل وليدًا، فإن قال أحدهم: إنَّ هذا الكلام مِن نسج الخيال، إذ بإمكان الرجل أن يحمل إن أراد ذلك، ولكن هو الّذي لم يُرد ذلك! [أقول: إنَّ هذا الكلام غير واقعيّ] فلا يتأتّى للرجل أن يحمل وليدًا، وكذلك المرأة لا يمكنها أن تقوم بأعمال الرجال. فلكلّ منهما طبيعته الخاصّة به، سواء كان ذلك مِنَ الناحية الظاهريّة الجسمانيّة أو مِنَ الناحية الروحيّة والنفسيّة. فلكلّ منهما شاكِلته الخاصّة به، وكلّ جنسٍ منهما يطوي طريقه في هذه الدنيا بمقتضى تلك الشاكِلة. فلو تبادلا الأدوار، لحصل خَلل ونقص وانحراف في أساس النظام التكوينيّ. وهذه حقيقة واقعة لا يمكن لأحد مِنّا أن ينسبها إلى الظروف الزمانيّة.
[فما يُقال] مِنْ أنَّ الأحكام الّتي شرّعها رسول الله هي أحكام خاصّة بزمانه، وهي لا تناسبنا نحن الّذين جئنا بعد ألف وأربعمائة سنة مِنْ زمن رسول الله، [هو كلام غير حكيم]، فها أنا أقول هنا: لِنفرض أنَّه قد مضى على تلك الأحكام مليون عام [لا ۱٤۰۰ عام فقط، ستبقى تلك الأحكام سارية المفعول]. فما هي علاقة مرور الزمان بهذا الأمر؟! فتلك [الأحكام] أمور واقعيّة لا دخل لي ولك فيها؛ كما أنّه ليس لنا دور في حركة الشمس [مثلًا]، إذ ما علاقة هذا الأمر بي؟! فهل أستطيع أن أَحُولَ دون حركة القمر وأمنعه مِنَ الدوران حول الأرض ثلاثين يومًا؟! كلاّ، فذلك ليس بيدي. وهل أستطيع عندما أستيقظ صباحًا أن أجعل الشمس تتسمّر في مكانها؟! كلّا، فذلك ليس بيدي. فالشمس تُشرق وتتحرّك إلى وقت الزوال، ثمّ تواصل حركتها إلى العصر والغروب، [وتستمرّ في حركتها] لتعاود الكرّة في اليوم التالي. فهل أستطيع أن أمنع المجرّات مِنَ الحركة في أفلاكها؟ كلّا، إذ لا علاقة لي بهذه الأمور. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الألف والأربعمائة عام الّتي مضتْ، فما علاقتي بها، وما علاقتك أنت بها؟! فما الّذي حصل لكي يتم طرح الموضوع بهذا الشكل المغاير؟!
لقد طرحتُ عليكم هذا الموضوع مرّات عديدة؛ فما الّذي سيجعل الأحكام الّتي شُرّعت في ذلك الزمان مختصّة به، وما الّذي سيجعلها غير قابلة للتطبيق في هذا الزمان، كما يقول بعض جهلة هذه الأيّام؟! فأيّ شيء قد تغيَّر في العالَم لِيحول دون ذلك؟! أيكون ذكاء الناس قد ازداد عمّا كان عليه مِنْ قبل؟! وهل ترقّت علومهم الأدبيّة؟! وهل ارتفع مستواهم الثقافيّ عن مستوى تلك الأمم؟! كلّا، بل أنا أقسم بالله، بأنَّها قد انحطّت ألف مرّة عمّا كانت عليه.
التفاوت الأدبيّ الجسيم بين العصرين الحديث والقديم
سأضرب لكم مثالًا على ذلك؛ فلننظر إلى الشعر العربيّ – ولا كلام لي الآن عن الشعراء الإيرانيّين – فأيّ مِنْ شعراء العرب في القرون الأخيرة قد وصل إلى بلاغة وفصاحة شعراء الجاهليّة وفترة ما قبل الإسلام؟ لا يوجد أحدٌ منهم أبدًا، بل لم يصلوا حتّى إلى عُشر ما كان القدماء قد وصلوا إليه. فما وصل منهم أحدٌ في الأدب والبلاغة إلى ذرّة ممّا وصل إليه أولئك الّذين عاشوا قبل ألف وأربعمائة سنة. وأنا لا أقول هنا أنّ مستوى هؤلاء أقلّ بقليل مِن أولئك، بل أقول أنّهم لم يصلوا حتّى إلى ذرّةٍ ممّا وصلوا إليه.
هذا فيما يخصّ الجانب الأدبيّ؛ فعندما يقرأ أحدنا قصيدة لأولئك الشعراء القدامى أمثال الفرزدق وامرؤ القيس والمتنبيّ ولبيد ومجنون ليلى (وهو قيس بن عامر)۱، يضع يده على فمه مِنَ الحيرة .. فأيّ مستوى أدبيّ وبلاغيّ للرجل [منهم] .. فهو في سُموٍّ بحيث يجعله يُحلّق في فضاء أدبيّ ينتقي منه تلك الاستعارات الدقيقة والظريفة والعميقة. فمَن مِن شعراء العرب في القرون الأخيرة تمكّن مِنَ الإتيان بمثل ما أتى به قيس بن عامر أو لبيد أو الفرزدق أو امرؤ القيس؟
ولْنرَ الآن حال شعراء هذا البلد، أقصد إيران الّتي يقول عنها البعض أنَّها بلد الحضارة منذ آلاف السنين، فلو ألقينا بيتًا واحدًا مِن شعر الشاعر حافظ الشيرازيّ المعروف، فمَن مِن شعراء العصور المتأخّرة يستطيع أن يبلغ منزلته؟! بل سيكون أمرًا مضحكًا أن يُقارن به! ففي أيّ عصر عاش حافظ؟ إنَّه عاش قبل سبعمائة سنة تقريبًا. ومَن منهم استطاع أن يبلغ منزلة سعدي الشيرازيّ في الشعر والأدب؟ لم يتمكّن أحد مِن ذلك أبدًا! ومَن منهم استطاع أن يبلغ مبلغ العارف المشهور فريد الدين العطّار النيشابوريّ؟! فلْيؤلّف أحدهم ديوانًا كديوان منطق الطير، أو فلْيَقُل شعرًا يتضمّن شيئًا مِنَ الأسرار الغيبيّة! ومَن مِنَ شعراء هذا القرن الأخير – المسمّى بعصر الذرّة واكتشافات القوى الطبيعيّة الخارقة والآثار الكامنة في المادّة، الّتي تمّت على يد الغربيّين الّذين يتفاخرون بأنفسهم، والذين سنتحدّث عن فضائحهم لاحقًا – [استطاع أن يأتي بشعر كأشعار المتقدّمين] .. مَن مِنَ الشعراء استطاع أن يبلغ مقام مولانا جلال الدين محمّد البلخيّ صاحب الكتاب النفيس وإكسير السعادة (المثنوي)؟! فالكثير مِنَ الشعراء الإيرانيّين – سواء مَن يعيش داخل إيران أو خارجها – مِمّن قال شعرًا وادّعى تضلّعه في الأدب، عندما نقرأ أشعارهم ونقارنها بأشعار مولانا الروميّ – سواء ما جاء منها في ديوانه (شمس [التبريزيّ]) رضوان الله عليه أو في كتابه (المثنوي) – سنجدها بمثابة [الفرق بين] قراءة جريدة وقراءة كتاب (گلستان) للشاعر سعدي الشيرازيّ؛ فعندما يضع أحدكم أمامه كتاب (گلستان) وجريدة [ويقرأهما] سيعرف عندها الفرق بين الاثنين. فمتى استطاع أولئك المدّعين للأدب والثقافة والبلاغة أن يصلوا إلى مستوى سعدي الشيرازيّ؟! ومتى تمكّن واحد مِن شعراء العرب أن يأتي بشعر مثل شعر ابن الفارض المصريّ الّذي عاش قبل سبعمائة عام تقريبًا؟! لا يمكن المقارنة بينهم أبدًا.
بل حتّى الشعراء الإيرانيِّين القدامى الّذين لا تربطهم بالثقافة الإسلاميّة والعرفان صلة، كالّذين تحدّثوا في أشعارهم عن الأحداث التأريخيّة كالشاعر الفردوسيّ، [فهم أرفع في الجنبة الأدبيّة والشعريّة مِنْ المعاصرين]. لقد كان الفردوسيّ في عهد الملك محمود الغزنويّ، مِن مشاهير الشعراء، وكان مسلمًا شيعيّا، غير أنَّه ألّفَ كتابًا ضخمًا حول حروب (اسفنديار ورستم) وما شابه ذلك مِنْ تفاهات لا قيمة لها. واليوم يُطبع هذا الكتاب بنسخ مزخرفةٍ بأنواع الزخارف! كيف يمكن تبرير ما قام به الفردوسيّ؟! يتوجّب علينا هنا أن نذكر أنَّ الفردوسيّ أعلن في أواخر عمره عن ندمه على تأليف كتاب (شاهنامه) وتوبته عنه، وعلى تضييعه شطرًا مِن عمره في هذه المسائل الّتي لا طائل منها، ككتابة تلك القصص الخياليّة الّتي لا يتناسب ذكرها وهذا المجلس، وقد ذكر ندمه في كتاب شعرٍ ألّفه لاحقًا باسم (شيرين وفرهاد) على ما أظن. إلّا أنّه لو نظرتم إلى الجانب الأدبيّ للفردوسيّ وتمكّنه مِنَ الغَور في الدقائق الأدبيّة، فهو أمر إن دلّ على شيء إنَّما يدلّ على نبوغه الشعريّ، وهو ممّا لا شكّ فيه. وكذا انظروا إلى غيره مِنَ الشعراء الإيرانيّين [المتقدّمين] مِمّن لا يستهان بمستواهم، أمثال (النظامي الكنجوي).
الكثير – بل أستطيع القول الغالبيّة العظمى – مِنْ الشعراء [القدامى] تأثّر بالثقافة الإسلاميّة الّتي ساعدتهم على تأليف الأشعار الراقية ومكّنتهم مِنْ طرح الأفكار الرائعة. فلو جرّدتم مولانا الروميّ مِنْ الإسلام والتشيّع، فما الّذي سيبقى في كتابه (المثنوي). وما الّذي سيبقى لحافظ لو جرّدتموه مِنَ العرفان. وما الّذي سيبقى لسعدي، الّذي إن أراد الافتخار بشيء لافتخر بأنّه عالِم إسلاميّ.
يُقال أنَّ مجموعة مِنَ الشعراء اجتمعوا في إحدى ليالي الشتاء – وذلك قَبْل ستين أو سبعين عامًا – في مبنى جمعيّة الشعراء الواقع في بستان يسمّى بـ (إرم شيراز) في مدينة شيراز. فجلسوا حول موقد الفحم وأخذ كلّ واحد منهم يقرأ أشعاره ويقارنها بأشعار سعدي، ليفحصوا مدى قرب أشعارهم مِن مستوى أشعار وغزليات الشيخ الأجلّ سعدي الشيرازيّ. ثمّ – ومِن باب التفاؤل – فتح أحدهم [بشكل عشوائيّ] صفحة مِن ديوان (بستان) لسعدي الشيرازي، فظهر له غَزَل يبدأ بهذا البيت:
يك امشبم خوش است چو با شاهد شكَرم | *** | گَرَم چو عود بر آتش نهند غم نخورم۱ |
فقرأ حتّى وصل إلى البيت التالي:
ببند يك نفس اي آسمان دريچهء صبح | *** | بر آفتاب كه امشب خوش است با قمرم |
(يقول [في البيت الأول]: إنَّني مسرور هذه الليلة لاجتماعي مع محبوبتي الجميلة، فلذلك لا أشعر بأيّ غمٍّ، وإن حُرِّقتُ بالنار كما يُحرق عود البخّور بها).
([ويقول في البيت الثاني:] اسدِلِي ستارة على الشمس لكي يتأخّر بزوغ الصبح قليلًا، يا أيّتها السماء، أنا أمضي في هذه الليلة لحظات سعيدة مع قمري).
فعندما قرأ هذا البيت مِنَ الشعر، قام جميع الشعراء بإلقاء دواوين أشعارهم في الموقد، قائلين: لا ينبغي لنا أن نتفاخر بأشعارنا مع وجود مثل هذا الكتاب.
المتقدّمون متفوّقون علينا بدنيّا وعقليّا وثقافيّا واجتماعيّا
أنا لا أريد هنا – بنقلي لهذه الأمور – أن أستعرض لكم مسائل تأريخيّة، بل غرضي مِن نقلها هو أن تعلموا كم هي تلك الأقوال، الّتي نقلتها لكم، أقوال سخيفة وغير مستندة إلى أساس رصين، والأمر لله؛ فلو شاء أن تظهر المواهب في ذلك الزمان فستظهر حينها، وإن شاء أن تظهر الآن فستظهر الآن. ليس الأمر بالشكل الّذي [يُتوهّم] في هذا العصر، بأنّه ما إن يُولد فيه الإنسان ويخرج مِن بطن أمّه يصبح عالِمًا بدرجة تَفوق الشيخ حافظ الشيرازيّ، كلّا، فها نحن نشاهد آلاف الآلاف مِنَ الرجال الّذين لا يساوون فِلسًا؛
فلو قارنّا القوّة الجسديّة للرجال قبل ألف وأربعمائة عام مع رجال عصرنا الحالي الفارغين، لعلمنا أيّهما أشدّ بأسًا. أيّهما أقوى؛ أولئك الّذين قرأنا عنهم في التواريخ أم الّذين يعيشون في هذا العصر؟ كلاّ، لا يمكن المقارنة بين الجانبين أبدًا، نعم لا يمكن المقارنة بين الجانبين.
[ولو قارنّا] الناحية العلميّة والعقليّة، فأيّهما سيكون الأفضل، أأبناء ذلك الزمان أم أبناء هذا الزمان؟ نستطيع القول طبعًا أنَّ بعض أفراد القرون الأخيرة – لا جميعهم – يتمتّعون بقدرات علميّة أفضل وأعلى مِمّن سبقهم، غير أنَّه علينا أن نعلم كم هي نسبتهم في المجتمع، فإنَّ عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. إنَّ الكثير مِنَ عظماء علمائنا، الّذين اشتغلوا في المجالات العلميّة والعقليّة ولا زلنا ندرّس كتبهم في مدارسنا، عاشوا في تلك الأزمنة القديمة. فأنّى لنا أن نجد اليوم عالِمًا بمستوى ابن سينا؟! وهل نستطيع أن نعثر اليوم على عالِمٍ كالفارابيّ وأمثاله؟ وها نحن الآن نستفيد مِنْ تراثهم العلميّ.
يك امشبى كه در آغوش شاهد شكرم | *** | گرم چو عود بر آتش نهند غم نخورم. |
ثمّ لو نظرنا إلى الأمر مِنَ الناحية الثقافيّة والآداب العامّة، فمَن سيكون الأفضل بينهما، أأفراد تلك العصور أم العصور الحديثة؟ مَن يحترم الحقوق العائليّة أكثر؛ أأبناء العصر الجاهليّ أم أقوام العصر الحاليّ الّذين نشاهد ما نشاهد منهم؟ فهنا أمور لا يمكننا أن ننطق بها! فهي أمور لا مثيل ولا وجود لها في تلك العصور، لا أقل أنّه لم يكن في تلك العصور جهاز التلفون المحمول والإنترنت .. فكلّ ما يمكننا أن ننتقد به عرب الجاهليّة هو: أنّ رجالهم ونساءهم كانوا يطوفون عُراة حول الكعبة. ولكن إن كان عدد محدود يفعل ذلك في الجاهليّة، فإنّنا نرى اليوم – بعد ألف وأربعمائة عام – المئات يستعرضون أنفسهم عُراة في شوارع ألمانيا وفرنسا. وعندما تسأل عن السبب الّذي دفعهم للقيام بهذا العمل، يُقال لك أنَّهم يفعلون ذلك احتجاجًا على أمر ما، [فالسؤال الّذي يطرح نفسه:] ألا يمكنهم الاحتجاج بدون خلع ملابسهم؟! ألن يُستجاب لهم إن لم يخلعوا ملابسهم؟! إنَّها والله لثقافة حيوانيّة، بل إنَّ تلك التصرّفات أسوء مِن تصرّفات الحيوانات، إذ الكثير مِنَ الحيوانات تمتنع عن بعض الأفعال أمام الآخرين وعلى مرآهم، فليست جميع الحيوانات على شاكلة الخنزير.
ترون [في هذا الزمان] الرجل والمرأة في سنّ الثلاثين أو الأربعين يسيرون أمام أطفال بعمر خمس سنوات، وهم على تلك الكيفيّة، لماذا؟! ألأنّهم يُطالبون بحقّ مِن حقوقهم!! فماذا يُمكن أن يُطلق على هؤلاء؟! فهل يمكن أن يُسمّى أحدهم إنسانًا؟! إنَّهم لم يأتوا مِنْ كواكبَ أخرى ولم ينزلوا مِنَ القمر أو عطارد أو المريخ [حتّى يقال لا غرابة في تصرّفاتهم]، بل هم مِن مواليد هذا القرن ووُلدوا على هذه الأرض قبل عشرين أو ثلاثين عامًا، وهم أصحاب أفضل الثقافات بزعمهم، ويعيشون في أفضل بيئة مِن حيث الحريّة كما يدّعون؛ فبم سيُجيبون الآخرين، وكيف سيفسّرون خلعهم لثيابهم احتجاجًا على ما يحتجّون عليه؟!
ومع كلّ هذا نستشكل على طواف نساء المجتمع الجاهليّ عاريات حول الكعبة بهدف أداء منسك عباديّ. فعلينا أن نترحّم عليهنَّ ألف مرّة [عند مقارنتهنّ بنساء اليوم]، إذ على الأقل لم يفعلنَ ذلك خارج نطاق الكعبة، وكنَّ بذلك يقمنَ بما يتوافق مع ثقافة واعتقادات مجتمعهنّ – وإن كانت تلك الثقافة ثقافة خاطئة – فهنّ يقُلْنَ أنّ دخولهنّ المسجد الحرام بالملابس خطيئة، فلا بدَّ لنا مِن خلعها أثناء الطواف. وعندما يتمعّن أحدنا بهذا المنطق – وإن كان منطقًا خاطئًا – قد يجد له مبرّرًا ما، فمثلهم في ذلك مثل مَنْ أراد أن يُصلح الحاجب فأعمى العين. مضافًا إلى أنَّ تلك المرأة في قرارة نفسها تعتقد بصحّة ما تفعله في تلك اللحظة، فتراها تقول: هذا مكان مقدّس، وعندما أدخله عارية أرى نفسي على الهيئة الّتي ولدتني أمي عليها، إذ هذه هي حقيقتي، وبهذا لا إشكال في أن أكون على هذه الهيئة هنا، وإن أتيتُ إلى هذا المكان المقدّس مع ما هو خارج عن وجودي [كالملابس] ستكون خطيئة ومعصية لله، فلا يمكنني أن أرتدي الملابس هنا. ألا توجد لدينا روايات تحثّنا على ارتداء الملابس البيضاء في الصلاة، وأن لا تكون ممّا كنّا نرتديه عند ارتكابنا لمعصية ما. وقد جاء في بعض البرامج السلوكيّة ضرورة أن ينام السالك بملابس لم يكن قد ارتكب معصية وهو يرتديها، كمعصية الكذب أو إجراء معاملة محرّمة أو اتّهام الآخرين. بل وأكثر من ذلك، ففي بعض الظروف الخاصّة – لا دائمًا – يُأمر السالك بأن ينام وهو يرتدي ملابس لم يكن قد نام بها مِن قَبْل، وليس مِنَ المناسب ذكر تلك الظروف الخاصّة الآن؛ نعم، يصل الأمر أحيانًا إلى هذا الحدّ.
فذلك الّذي كان يطوف حول الكعبة عاريًا، كان يفعل ذلك بناءً على أنّها عقيدة، فهو لم يكن يريد أن يستعرض نفسه أمام الآخرين، بل كان يقول: ما دمتُ قد جئت إلى هذا المكان الطاهر، يجب أن أكون طاهرًا، ولا أُحضِر معي ما كنتُ قد عصيت الله به. وهناك مَنْ يكون أفق تفكيره أسمى فيقول: يجب علَيّ أن أرمي كافّة التعلّقات الدنيويّة جانبًا. ألا نفعل ذلك أيضًا؛ أفلا يجب على المُحْرم أن يرتدي قطعتين مِنَ القماش فقط، ويخلع حتّى الخاتم إن كان يضعه في أصبعه لغرض الزينة؟ بل أكثر مِن ذلك، ألا يجب على المُحرِم خلع حتّى العمامة الّتي هي مِن أشرف ما يضعه المرء على رأسه، إذ قال رسول الله: العمائم تيجان الملائكة۱، فحتّى تلك العمامة الّتي هي تاج الملائكة يجب أن تُخلع، لماذا؟ لأنَّ لابسها سيمتاز عن غيره، والحال أنّه لا ينبغي أن يتمايز الناس في هذا المكان. وجاء في الروايات ضرورة التحنّك في الصلاة، إذ قالت الرواية: مَن تعمَّمَ ولَم يَتَحَنَّك فأصابَهُ داءٌ لا دواءَ له، فَلَاَ يَلُومَنَّ إلاّ نَفسَهُ٢.
وبالرغم مِنْ أنَّنا نقرأ هذه الرواية للآخرين وننقلها في كتبنا، إلّا أنّ البعض عندما يتمّ تصويره أثناء الصلاة وتُبثّ صوره عبر التلفزيون، نراه لا يتحنَّك في صلاته! لماذا تراه لا يتحنّك؟! ذلك معلوم السبب، فهو يرى أنَّ تلك الهيئة الّتي سيظهر عليها تمسّ بشخصيّته. ولكنّك تنقل تلك الرواية في مؤلّفاتك يا هذا، فلماذا لا تلتزم عمليًّا بما جاء فيها؟! هو لا يفعل ذلك لأنَّه يرى أنَّ تلك الهيئة ستشوّه هندامه! بناءً على هذا، فقد كنتَ تكذب على الناس بنقلك لتلك الرواية.
فالعمامة يجب أن تُخلع عند الإحرام [وإن كان شأنها عظيمًا]، ويجب أن يكون المُحرم – كائنًا مَن كان – حاسر الرأس.
الأمر الحسن هو ما تطابق مع إرادة الله وأوامره
ولكن ما الّذي على المرأة أن تفعله عند الإحرام؟ [ففي غير الإحرام] على المرأة أن تستر وجهها عن الأجنبيّ. وقد سُئلتُ سابقّا عن هذا الموضوع، وكانت قد حصلتْ لدى البعض شبهة حول هذا الموضوع وعملتُ على رفعها. صحيح أنّ الوجه والكفين مستثنيان مِنَ التغطية بحسب ما سمحتْ به الشريعة الإسلاميّة للمرأة، وذلك مِنْ أجل أن تتمكّن مِنَ القيام ببعض الأعمال؛ كأن تمسك بيد طفلها أو بالزنبيل٣ أو بالعربة، مع أنَّ بعض النساء يقمنَ بتغطية حتّى الكفّين ..
على الأصدقاء أن يعلموا أنَّ جواز كشف الوجه يكون فقط في حالة عدم وجود مَنْ ينظر إلى المرأة. أمّا إن كان هناك رجل أجنبيّ يمكن أن يرى المرأة، فلا يجوز لها الكشف عن وجهها، فذلك حرام، بل عليها إمّا أن تغطي كامل وجهها، أو أن تُظهر عينيها فقط إن كانت لديها مشكلة في البصر، أمّا إن كانت تعاني مثلًا مِنْ ضيق التنفّس فيمكنها أن تتصرّف بالشكل الّذي يحفظها مِنْ نظرات الآخرين. فليس صحيح أن تمشي المرأة بين الناس بحيث تكون مَعْرَضًا لنظرات الآخرين، فعليها اجتناب ذلك. نعم، إن كانت المرأة في مكان آمن مِنْ نظرات الآخرين، كأن يكون الرجال في ذلك المكان مشغولين بأعمالهم، فلا مانع في مثل هذه الحالة مِنْ ظهور دائرة وجهها. كما أنّه لا مانع مِنْ كشف وجهها عند خروجها مِنَ المنزل مع زوجها ليلًا عندما يكون الشارع خاليًا مِنَ الرجال وخاليًا مِنْ كاميرات التصوير الّتي كانوا يوزّعونها – على حدّ عِلميَ السابق – في كلّ مكان. فإن انتفى احتمال رؤية الرجل للمرأة، فلا مانع عندها أن تكشف المرأة وجهها.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الرجال أيضًا؛ فلا صحّة لما يُقال هذه الأيّام مِنْ جواز عدم تغطية الرجل لجسمه، بل إنَّ ذلك حرام. فمَنْ قال بمثل هذا، وأيّ نبيٍّ قد أجاز للرجل أن يُظهر جسمه؟! بل إنَّ أمر الرجل لا يختلف عن المرأة في هذه المسألة؛ فإن كان الرجل في وضع لا يحتمل فيه أن تراه امرأة أجنبيّة فلا مانع مِن ظهور جزء مِنْ جسمه لا كامل جسمه. أمّا إن احتمل أن تقع نظرة امرأة أجنبيّة عليه، فحكمه حكم المرأة في هذه المسألة بلا فرق، أي يُحرّم عليه أن يكشف جسمه.
أمّا في موسم الحج فيجب على هذه المرأة – الّتي جرى على حجابها كلّ هذا التأكيد – أن تمتنع عن تغطية وجهها وإن احتملتْ أن يراها الرجال. وهذا التشريع عجيب حقّا [يستحقّ التأمّل]، إذ مع سعة المسجد الحرام واستيعابه لهذا العدد مِنَ الرجال [يحكم الشرع بوجوب أن تكشف المرأة وجهها]، ولكن هذا لا يعني أن تقوم المرأة باستعراض نفسها أمام الآخرين وتكون على مرأى منهم، كأن تقف على مرتفعٍ وتُرِي نفسها لهم، بل عليها أن ترتدي ملابسها البيضاء وتخْفِض رأسها.
يُشاهد هذه الأيّام كيف تتصرّف بعض النسوة اللواتي يدّعين القداسة ويدّعين العلم في دين الله أكثر مِنَ الله والأئمّة أنفسهم، فيُظهرنَ العفّة [الزائفة] ويُظهر زوجها غيرة [زائفة] عليها، هؤلاء لا يلتزمون بأمر الله ويخلطون دين الله مع أذواقهم الشخصيّة. لذا يجب علينا الالتفات إلى هذا الأمر جيّدًا.
أتعلمون لماذا أمر الله المرأة بكشف وجهها عند الإحرام؟ إنَّ ذلك يعني أنَّ على المرأة وزوجها أن يَدَعا الغيرة جانبًا [عند الإحرام]، لأنَّ الغيرة في هذا الموضع بمثابة الاعتراض على إرادة الله وعلى التكليف المترتّب على المُحرِم، فلا تُعدّ الغيرة مُستحسنة هنا. فأيّ شيء إنّما يكون ممدوحًا ومستحسنًا متى ما تطابق مع إرادة الله وأوامره.
كنتُ قد تحدّثت في بعض المجالس حول واقعة كربلاء وما جرى على الأسرى، ولعلّ ذلك كان في مجالس شهر رمضان، وذكرتُ هناك كيف دخلتِ النساء الأسيرات مِنْ ذريّة رسول الله مكشوفات الوجوه على مجالس ابن زياد ويزيد، وكان الناس يتفرّجون عليهنَّ. فمَنْ كان وليّ أمرهنَّ، ألم يكن هو الإمام الحسين، فلماذا رضي الإمام بذلك؟ مِنَ الواضح هنا أنَّ واقعة عاشوراء كانت مراسم حجٍّ .. ومَنْ كان وليّ أمرهنَّ بعد الإمام الحسين، ألم يكن هو الإمام السجّاد، فَلِمَ رضي بذلك، ألم يكن إمامًا، ألم يكن يرى عمّته زينب وأخته فاطمة بنت الحسين على تلك الحالة؟
فاطمة هذه هي الّتي يُقال أنه لا يضاهيها في الجمال امرأةٌ في جزيرة العرب، وهي الفتاة الّتي عقدها الإمام الحسين لابن أخيه الإمام الحسن في ليلة عاشوراء، وهي الّتي انحصر استمرار نسل الإمام الحسن فيها؛ وزَوجها (وهو ابن الإمام الحسن) سَقَطَ مِن شدّة جراحه في يوم عاشوراء بين القتلى، وكان يُعتقد أنَّه مات، وعندما جاء جيش بن سعد لفصل رؤوس الشهداء ووضعها على الرماح وجدوه يتنفّس، فأخبروا ابن سعد بذلك، فأمرهم بقتله، غير أنَّ مشيئة الله أذنتْ أن يَشفع له بعضُ أفراد قبيلة أمّ الحسن بن الحسن، المعروف بالحسن المثنّى، فقالوا لابن سعد: ها قد قتلتهم جميعًا، فما الّذي يعنيه لك هذا الشاب، ولعلّه يموت في طريق عودتنا إلى الكوفة؛ فإن مات تكون قد نِلتَ مرادك. فوافق عمر بن سعد على ذلك فلم يقطعوا رأسه، وحملوه معهم إلى الكوفة. ثمّ مَنَّ الله عليه بالشفاء وعاد بعدها إلى المدينة وتزوّج مِن ابنة عمّه فاطمة بنت الحسين. فالعقد الّذي جرى في ليلة عاشوراء كان للحسن بن الحسن، وليس للقاسم كما هو معروف، فما يُقال بهذا الشأن لا صحّة له ولا أساس.
فقد كان الحاضرون في مجلس يزيد يرون وجوه النساء [الأسيرات]، ولهذا طلب أحدهم مِنْ يزيد أن يهب له فاطمة [بنت الحسين] عندما رآها.. [وإلّا] كيف تمكّن الرجل مِن رؤية وجهها لو كانت فاطمة تغطي وجهها حينها، أكان ينظر مِن خلال مجهر؟! وكانت زينب قد اعترضت عندما قال الرجل ليزيد: هب لي هذه الجارية [يقصد فاطمة بنت الحسين]. فلم يستجب يزيد لطلبه، وقد سمعنا جميعًا بتلك المجريات. فلو لم يكن الرجل قد رأى وجه فاطمة، لَمَا طلب مِنْ يزيد ما طلب. ولو لم يكن الآخرون قد رأوا جمال زينب، لَمَا نقلوا ذلك في كتبهم، فهم قد رأوا ذريّة رسول الله في مجالس يزيد وابن زياد على تلك الحال. فمَنْ كان وليّ أمرهنَّ؟ لقد كان وليّ أمرهنَّ هو الإمام السجّاد، وهو إمام معصوم. فما الّذي يعنيه هذا؟
ذلك يعني أنَّه علينا أن نضع جانبًا كلّ ما يتعارض مع رضا الله. فتلك الغيرة الّتي تتعارض مع أمر الله، هي ليست بغيرة، بل هي كفر وأنانيّة وفرعونيّة. فالغيرة الصحيحة هي الغيرة الّتي تتوافق مع ما يريده الله، لا الغيرة الّتي يتصرّف فيها الإنسان زيادة ونقصًا مِن تلقاء نفسه.
فها نحن نرى بعض النساء يضعنَ على رؤوسهنَّ قبّعات تعمل على حجب جزء مِنْ وجوههنَّ في الحجّ، ولكن لا فائدة في حجٍ كهذا، فلن تجني تلك المرأة مِنْ طوافها وسعيها شيئًا. فلماذا لا تجني منه شيئًا؟ ذلك لأنَّ الله قد أمر المرأة بأن تحضر إلى هذا المكان في حالة ترى نفسها فيه وحيدة، ليس لها شأن بمَنْ ينظر إليها. إذ ما الّذي يعنيكِ إن كان عبدي يقوم بعمل خاطئ الآن [كأن ينظر إليكِ مثلًا]، فلماذا تُشغلين بالك بما يقوم به؟! يجب أن تصرفي ذهنك نحوي، ولا شأن لك بمَنْ ينظر إليك أو لا ينظر. كما ويُقال للرجل: بأيّ حقّ تأمر زوجتك بأن تتصرّف بالشكل الّذي يحتّم عدم رؤية وجهها [في الحجّ]؟! فإن كنتَ تفعل ذلك غيرةً، فعليك أن تغار عليها في مواقف أخرى – وهو ما لا تفعله عادة – لا في هذا الموقف. فهل أخذتكَ الغيرة في هذا المكان فقط؟! فالله يأمر المرأة بالكشف عن وجهها هنا، فما الّذي يعنيه هذا؟ كلّ ذلك مبنيّ على أُسُسٍ وحسابات دقيقة.
فتلك المرأة الّتي كانت تطوف عارية حول البيت [الحرام] في الجاهليّة، إنَّما كانت تفعل ذلك [بناء على العقيدة الّتي أشرنا إليها]. ولا أقول هذا مِنْ نفسي، فلست بصدد تأويل وتبرير مقاصدهم؛ فقد جاء في الآية القرآنية {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً}۱.
فقد كانوا يطوفون حول الكعبة عُراةً، وكان ذلك اعتقادًا منهم أنّهم يتخلّون عن جميع التعيّنات والتعلّقات، بحيث لا يبقى بينهم وبين الله أيّ حجاب. فطريقة تفكيرهم كانت صحيحة، غير أنَّ الخطأ كان في تطبيق الفكرة وفي المصداق العمليّ.
عندما يأمر الله بشيء إنَّما يأمر به لغرض ما. وقد أمر الله المرأة أن تكشف عن وجهها [في الحجّ]، ولكنَّه لم يأمرها بالكشف عن ساقها، فكلّ ما يأمر به الله خاضع لحساب وميزان. فقد أمر الله بالكشف عن الوجه لا غير، ولا بدّ أن يُنفّذ التكليف الإلهيّ بحذافيره. فانظروا الآن إلى هذا الجيل الّذي جاء بعد ألف وأربعمائة عام، إلى أيّة درجة مِنَ الانحطاط الثقافيّ قد وصل، وإلى أيّة درجة مِنْ انعدام الغيرة على الشرف قد بلغ!!
كان يؤخذ على ملوك إيران القدامى، في عهد (خسرو شيرين) و (الساسانيِّين) وغيرهم، أنَّهم يجمعون الفتيات الجميلات مِنْ جميع أنحاء البلاد ويضمّوهنَّ إلى قصر الحريم الخاصّ بالملك. هذا ما كنَّا نقرؤه في التواريخ. وهو – طبعًا – مِنَ الأعمال الشنيعة الّتي كانت تصدر عن حكّام الجور تجاه رعاياهم. ولكن انظروا ما الّذي يحصل هذه الأيّام، فالنساء في هذا العصر يتركْنَ بيوتهنَّ ويرتكبْنَ الخيانة، وكلّ ما تفكّر به المرأة هو في طُرق تجاوز حدود العفّة، فتتبرّج وتفعل تلك الأمور .. فها نحن نشاهد اليوم كلّ أنواع الفساد.
«إن استطعت أن لا يعرفنَ غيرك فافعل»
أنا مشغول هذه الأيّام بشرح وصيّة أمير المؤمنين٢، والّتي سأنتهي منها – إن وفقني الله – قريبًا. وقد ذكرتُ في مقدمة الكتاب – وسأكرّر ذكر ذلك في الكتاب نفسه ضمن شرح الوصيّة – ما يَستشكل به البعض على قول أمير المؤمنين «وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل». إذ يقولون: ما الّذي يعنيه هذا الكلام في العصر الحاضر، فهل علينا أن نضعهنَّ في كيسٍ في غرفة ثمّ نُقفل باب البيت عليهنَّ، حتّى نتمكّن مِنَ الخروج مِنَ البيت .. فما الّذي يعنيه هذا الكلام، وأيّ كلام هذا؟! لقد ذكرتُ هناك أنَّ كلام [أمير المؤمنين] يتلاءم تمامًا مع ظروف هذا الزمان بالذات، وإنَّها معجزةُ أمير المؤمنين الّتي تتجلّى لنا هذه الأيّام. فاليوم تتضّح لنا هذه الحقيقة وهي: أنَّ مجرّد ترك الصلاة وعدم الالتزام بالتعاليم الدينيّة ليس العامل الوحيد للانحراف والخروج عن حدود العفّة وانتهاك الحُرم، إذ الوسوسة للانجرار نحو الانحراف تطال حتّى المصلّين، بل حتّى مُقيمي صلاة الليل، وهذا ما يحصل بالفعل. فتلك الأمور ليست بمفردها باعثة على الانحراف، لأنَّ الشيطان شيطانٌ، وله يد طولى علينا، فمهما كنَّا أقوياء، فللشيطان يد طولى علينا. الله يعلم ماذا خلق، وأيّ خصائص واستعدادات منحها للإنسان. ومِنْ أجل المحافظة عليه وصيانته وإرشاده وبلوغه المعالي، جعل الله له قانونًا. فعليكم يا أعزائي أن تلتزموا بهذا القانون، وها هو أمير المؤمنين يضع هذا القانون بين أيديكم.
تحدّثتُ في مدينة الأهواز في مجلس حضره عدد مِنَ الأصدقاء وشاركتِ النساء فيه أيضًا، وقلتُ: عندما يتصّل رجل بالمنزل تلفونيًّا، فلماذا تتكلّم المرأة مع المتّصل؟! فالمتّصل يريد التحدّث إلى زوجك في أمر يهمّهما، فلماذا تجيبينه أنتِ؟! كان عليكِ أن تقولي له: إنَّه غير موجود. ثمّ تغلقين سماعة الهاتف .. فلماذا تطيلين معه الكلام، هل كان يريد التحدّث إليكِ أنتِ؟! كلّا، بل كان يريد التحدّث إلى زوجك بشأن موضوع ما، وليس لكِ أيّ شأن بالموضوع.
كان في نيّتي أن أتحدّث اليوم عن خروج المرأة مِنَ المنزل، غير أنَّ الحديث قد أخذ منحى آخر. لذا سأعمل على فهرسة المواضيع الخاّصة بهذا الشأن – إن شاء الله – وسأتحدّث عنها الواحدة بعد الأخرى؛ فسأتحدّث عمّا يجب على المرأة رعايته وفي المقابل عمّا يجب على الرجل الالتزام به؛ فإن خرجتِ المرأة مع زوجها لشراء حاجة ما، فعلى الزوج أن يتولّى التعامل مع صاحب المحل، ولِمَ لا يتمّ ذلك؟! ولماذا تنعدم غيرة الرجل إلى حدّ يسمح لزوجته بالتكلّم مع الرجال الّذين يريد أن يشتري منهم الفاكهة أو القماش أو أيّ حاجة [أخرى] مِنَ السوق؟! فلماذا لا يُظهر الرجل الغيرة في هذه المواقف؟! بينما نرى كيف تأخذه الغيرة على زوجته في مكّة فيأمرها بتغطية وجهها [والحال أنّ الله أمرها بكشف وجهها في الحجّ] .. يا عديم الغيرة، إنّ ألف رجل ينظر إلى زوجتك ويتكلّم معها .. ففي أيّ موقف يجب أن تَظْهر منك الغيرة عليها؟!
إنَّ زينب هذه الّتي رآها الجميع في مجالس ابن زياد ويزيد، لم يكن أحد قد رأى حتّى عباءتها طوال سفرها مِنَ المدينة حتّى كربلاء، وذلك لأنَّ محارمها مِنَ الشباب أمثال أبي الفضل وعليّ الأكبر والبقيّة كانوا يحيطون بهودجها ويُركبونها الهودج قبل أن يمتطوا جيادهم. فهل سمع أحد مِنَ الناس زينبَ تتكلّم عندما كانت في المدينة؟ متى حصل مثل هذ الشيء ؟! أين تذهب بنا المذاهب!! إنَّ الطرق الّتي نسلكها ستؤدِّي بنا إلى التهلكة، وستكون النتيجة هي ما نشاهده اليوم بأنفسنا، والّذي أعلم عنه بعض الشيء .. فمتى كان لمثل هذه الأمور وجود في السابق؟!
مَنْ [يتحجّج] مِن هؤلاء ويقول: ما الّذي علَيّ فعله فأنا كنتُ مشغولًا بعملي، أو بدروسي، وأصِل إلى البيت في وقت متأخّر ليلًا. [نقول له:] كان عليك أن تبكّر في عودتك بنصف ساعة، فهلّا أعطيتَ زوجتك هذا المقدار مِنَ الأهميّة، أفلا يجب عليك أن تمنحها مقدارًا مِنْ وقتك لتُنجز لها ما تحتاجه مِنْ أعمال، وتقوم بتوفير المستلزمات الضروريّة لها؟! ترى البعض يتكاسل في هذا الموضوع، ولا يعطيه الأهميّة المطلوبة، فما الّذي سيحصل عندها؟ إنَّ الشيطان متربّص، وكان قد أقسم قائلًا:{فبعزّتكَ}۱. فالشيطان لم يقل أنّه [سيحاول] حرْفهم عن جادّة الصواب، بل أقسم بعزّة الله على أنّه سيحرفهم.
بيان لبعض الدقائق في حكايته تعالى عن الشيطان قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ
وها أنا أخبركم هنا بأنَّه ما مِنْ أحد منَّا – ابتداءً من نفسي وكذلك أنتم وباقي الناس – يستطيع أن يفيَ بقسمه مثل جناب الشيطان. فهو ملتزم بقسمه أكثر منّا جميعًا؛ نعم، لقد التزم بما أقسم به عندما قال {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ}٢، فقد أقسم الشيطان بهذا قائلًا: لأغوينَّهم واحدًا واحدًا صغيرهم وكبيرهم، بل سأسعى لإغواء حتّى الأنبياء؛ فقد حاول إغواء نبيّ الله يوسف أيضًا، غير أنَّه لم يُفلح في ذلك بسبب أنّه {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ}٣. فقد قال [الشيطان]: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ}، أي لأُفتشنَّ في زوايا قلوبهم، فلكلّ واحد منهم نقاط ضعف خاصّة به، وأنا أستطيع أن أعلم ما هي نقاط ضعفهم. انظروا كم هو كلام عجيب! إنَّ هذا الكلام يعني أنَّ للشيطان تلك القدرة الّتي تمكّنه مِنَ التسلّل إلى جميع زوايا وجودنا، فمَنْ الّذي أعطاه تلك القدرة؟ إنَّ الشيطان يستطيع أن يكوّن ملفًّا عن نفوسنا بالشكل الّذي لا يستطيع أن يقوم به ألف جهازِ تصويرٍ بالرنينِ المغناطيسيّ؛ إذ يُقال أنَّ أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسيّ مِنَ الدقّة بحيث تستطيع تصوير حتّى الخلايا السرطانيّة الّتي في طور النموّ. ومع هذا فالشيطان أكثر دقّة مِنْ تلك الأجهزة، كما أنَّه أدقّ مِنْ أجهزة التصوير بالأشعة السينيّة. نعم، إنّه بهذا القَدْر مِنَ القُدرة!!
قد يقف أحدهم للصلاة، أو قد يُقيم مجلس عزاءٍ لسيد الشهداء، أو يُلقي خطبة، أو قد يُقدِم على عمل يجلب رضا الله؛ فينظر الشيطان إلى مكامِن الضعف في هذه الأعمال [فيستغلّها]؛ وعندما يتمعّن الإنسان في أعمال ذلك الرجل، سيجد أنَّ إحداها كانت استجابة لرغباته النفسيّة، والأخرى كانت لكسب رضا فلان مِنَ الناس .. وهكذا. فالشيطان يعرف الطُرق الّتي ينفذ منها إلى نفس الإنسان، لذا على الإنسان أن يلتجئ إلى الله ويستمدّ العون منه، وأن يَقْبَل ما يُقال له [مِن قول حسنٍ]. هذا هو الأمر المهمّ في الموضوع .. فلا يصحّ أن يضع كلّ إصبعه في أذنه حتى لا يسمع ما يُقال له، بل عليه الاستماع لكي يعينه الله ويهديه لِمَا فيه الخير.
جاءني أحد الأصدقاء قائلًا: أريد أن أقيم مجلسًا للعزاء لمدة خمسة أيّام. فقلت له: هل تريد أن تُقيم هذا المجلس لله أم مِنْ أجل نفسك؟ فقال: بل لله. قلتُ له: أعطني تلك النقود إذًا، وسيُقيم فلان هذا المجلس بدلًا عنك. فجاءني في اليوم التالي، وقال: حسنًا، سأعطيك النقود. ولكنّه قال كلمة «حسنًا» ببرود، فقلتُ له: لا أريد نقودك، وكان عليك أن تتكلّم معي بحزم [في قرارك هذا لا بفتور]. فهذا الرجل عندما جاءني [أوّل مرّة] قبل يومين كان يقول: سمعًا وطاعةً، سأعمل بكلّ ما تأمرني به. ولكنَّني لم أُعِرْ أيّ اهتمام لذلك الكلام، وطلبتُ منه أن ينصرف ليأتي بعد يوم أو يومين. ولكنَّه عندما عاد إليَّ لاحقًا، رأيتُ عدم جديّته في الأمر، فلذا قلتُ له: أقم المجلس بنفسك، فأنا أريد أن تكون حازمًا في قرارك. [هكذا كانت حالته بعد يومين] وهكذا ستكون وإن مضتْ عليه سبعة أيّام أُخر، بل وإن مضتْ عليه سنة كاملة [فلن يتبدّل حاله ما دام تحت نفوذ الشيطان]. فيجب على الإنسان أن يمنع نفوذ الشيطان إلى نفسه لكي يستفيد بشكل أكبر. أفلم تقُل [يا رجل] أنَّ نيّتك هي نيل الثواب مِنَ الإمام الحسين؟ فها أنا أضمن لك هذا الثواب وأكثر منه.
قامت إحدى النساء ببعض الحركات التمثيليّة والعروض المسرحيّة۱ في مدينة مشهد بعد ارتحال المرحوم العلّامة؛ وأوّل ما شهدناه مِنْ فعالها أنّها دعتْ جميع الإخوة إلى منزلها. فأخذتُ أراقب تصرّفاتها، إذ هذه طبيعتي وهكذا خلقني الله، فأنا مِنَ النوع الّذي لا يستطيع الجلوس بهدوء غير مبالٍ بما يجري مِنْ حوله. فما علاقتك أيّتها المرأة بالرجال حتّى تقومي بدعوتهم إلى منزلك!! فإن كنتِ تريدين اللقاء بالآخرين، فلماذا تدعينهم إلى بيتك، فباستطاعتك مقابلة النساء في حرم الإمام أو في الصحن أو في الشارع .. فما معنى مجيء [الرجال] إلى بيتك!! فعلمتُ عندها ما الّذي تخطّط له المرأة، وقلتُ في نفسي: لن أذهب؛ ولكن بما أنَّ ارتحال المرحوم العلّامة كان قد حصل للتوّ، ولم يمضِ عليه الكثير مِنَ الوقت بعدُ، رأيتُ أنَّه مِنْ غير المناسب أن أتعامل معها بحزم في هذا الوقت بالذات. ولقد كان همّها وغمّها أن تعرف إن كنتُ سأحضر المجلس أم لا. فصبرتُ حتّى ذهب الجميع إلى منزلها وجلسوا وأخذوا يتناولون الفاكهة والحلوى .. وكان بعض الرجال منهمكين في العمل في بيتها. وخلاصة الأمر أنّ سوق المكر والشعوذة كان ساخنًا، وكنتُ قد تعلّمتُ مِنَ الوالد [كيفيّة التصرّف] في مثل هذه المواقف. فلمّا حضر الجميع، ذهبتُ بدوري وجلستُ مع الجمعِ الحاضرِ، وكانت المرأة مسرورة جدًّا، فشربتُ الشاي وودّعتهم وانصرفتُ. وبعد مُضيّ أسبوع أو أسبوعين على ذلك، قامت المرأة بعقد مجلسِ عزاءٍ، وأعدّت وليمةَ غداءٍ، فقلتُ: يبدو أنَّ خيمة الألعاب قد نُصبتْ وأنَّ أعمال الشعوذة قد بدأتْ، وها هي تقوم بتنفيذ خططها الواحدة تلو الأخرى. فذهبتُ وقلتُ لأحد عباد الله: ما الّذي يحصل، وما هذا الّذي يجري؟! فقال: إنَّه ليس بالشيء المهمّ. فقلتُ له: أتقول إنَّه ليس بالشيء المهمّ، فسترى نتائجه مستقبلًا!! وبعد مرور أسبوع أو أسبوعين على ذلك، وجدناها تُقيم مجلسَ عزاءٍ لمدّة خمسة أيّام.
فذهبتُ لرؤية هذه السيدة وقلتُ لها: أريد التحدّث معك في أمر .. ما هذا الّذي تقومين به، وما هو هدفك مِن إقامة هذه المجالس؟ قالتْ: إنَّ هدفي هو أن يجتمع الإخوة حول بعضهم. فقلتُ لها: فلْيجتمعوا في بيتي، لماذا يجتمعون في بيتك؟! فقالتْ: ولكنَّني نذرتُ نذرًا. قلتُ لها: إن كنتِ قلقة بشأن الحكم الشرعيّ، فلا تقلقي مِنْ هذه الناحية، أعطني النقود وسأُقيم المجلس في بيتي وعلى أحسن ما يُرام، وأنا أتعهّد لك أنّه سيصلك الثواب كاملًا ومِنْ دون أن يكون لي أيّ نصيبٍ منه، فسأصبّ جميع الثواب في حقيبتك ولا آخذ منه شيئًا. قالتْ: ولكنَّه نذر، فكيف سيتمّ الوفاء به؟ قلتُ لها: إنَّ هذه القضية مسألة شرعيّة، فهي مِنْ مسؤوليّتي إذن، فتلطّفي وفوّضي هذا الأمر إليَّ، وسأكون المسؤول عن ذلك مِنَ الناحية الشرعيّة. ولكنّها لَمْ تستجب، وذهبتْ إلى أحد الأفراد وتكلّمت معه في هذا الموضوع، فقال لها: تستطيعين القيام بهذا العمل بنفسك. [أقول] هل مِنَ الصحيح فعل ذلك؟ يُلاحظ هنا كيف أنّ الشيطان ينفذ مِن هذه الطُرق، وقد نفذ بالفعل وفَعل ما فعل، وها نحن نُشاهد النتائج!
سر چشمه شايد گرفتن به ميل | *** | چو پر شد نشايد گذشتن به پيل۱ |
(يقول: قد تستطيع سدّ مجرى عين الماء النابع بالمجرفة، لكنّك لن تستطيع سدَّ ذلك المجرى إنْ امتلأ بالماء ولو سددته بفيل).
[والشاهد في الشعر أنّه] لو تمّ الوقوف بوجه تلك التصرّفات منذ بدايتها، لانتهى كلّ شيء.
سنواصل الحديث في مجلس آخر إن شاء الله، وما أردتُ قوله اليوم هو أنَّ الأحكام الإلهيّة والمباني الأخلاقيّة والسلوكيّة، لا تختص بذلك الزمان الّذي يعود إلى ما قبل ألف وأربعمائة عام. فأنَّى للجرائم الّتي كانت تُرتكب قبل ألف وأربعمائة عام أن تبلغ في بشاعتها الجرائم الّتي تُرتكب هذه الأيّام. وأنَّى للقسوة الّتي كانت تمارس في ذلك الوقت أن تبلغ القسوة الّتي تمارس في هذا العصر. وبهذا أكون قد عرضتُ بعض المواضيع في هذا المجلس، وسأعرض البعض الآخر في المجلس القادم إن شاء الله.
هناك بعض الأسئلة الّتي استلمتها مِنَ الأصدقاء، سأقوم بالإجابة عن بعضها، وسأجيب عن البعض الآخر في المرات القادمة إن شاء الله:
في معنى الرجعة وحوض الكوثر
السؤال: يا هو .. ما هي الرجعة؟
الجواب: أوّلًا عليك أن تكتبي (بسم الله الرحمن الرحيم) بدل (يا هو). ثمّ إنَّ مستوى هذه الأسئلة راقٍ وتحتاج إلى شرح طويل، فأرجوا أن تراعوا حال هذا العبد وتسألوا أسئلة تتناسب مع قابليتي.
إنَّ الرجعة – بحسب علمي – عبارة عن وصول استعدادات الأنفس في عالم الدنيا إلى مرتبة الفعليّة، حيث تتمكّن الأنفس مِنَ تنفيذ كافة الأحكام الإلهيّة عمليًّا على الوجه المطلوب. وهي مرحلة يكون ظهور إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف بمثابة المقدمة لها؛ وذلك لأنَّ الظلم سينتهي عند ظهور الإمام، غير أنَّ جذور الظلم لن تجفّ وتنقلع. وعليكم التدقيق في هذا الموضوع، فجذور الظلم ستبقى، رغم أنّ الظلم سيرتفع عن العالم، وسينتشر العدل والأمن ليعمّ كافّة أرجاء العالم، وحينها يستطيع كلّ إنسان أن يصل إلى ما يبتغيه. وهنالك درجة أعلى مِنْ زمان الظهور، وهي الدرجة الّتي يصل فيها الإنسان إلى الحدّ الّذي تنتفي لديه حتّى نيّة ارتكاب المعصية؛ فقد ينوي أحدهم ارتكاب المعصية في زمن الظهور، غير أنَّه سيمتنع عن ذلك، لأنّه سيرى عقاب مرتكبيها. فذلك الزمان لا يشبه زماننا الحاضر، الّذي يستطيع فيه البعض في الكثير مِنَ البلدان القيام بكلّ التجاوزات دون أن يناله عقاب، لأنّه يتمتّع بحصانة؛ أمّا في عصر الظهور لن يكون فيه شيء مِن هذا القبيل؛ فلن يتجرّأ أحد على ارتكاب المعصية مخافة أن يتعرّض للعقاب، لأنّه يوجد قانون ومؤاخذة؛ أمّا في عصر الرجعة، فستنتفي حتّى نيّة ارتكاب المعصية مِن ذهن الإنسان، وسيصل الإنسان إلى المرتبة الفعليّة، والّتي يتمثّل حدّها الأدنى في الإشراف الباطنيّ على المعصية، حيث تكون ظلمة وكدورة المعصية مكشوفة لديه.
ويوجد عندنا في بعض الأخبار أنَّ [كافّة] الأئمّة سيعودون، وفي بعضها الآخر أنَّ بعضهم سيعود، ولكنَّ القْدر المسلّم به مِنَ الأخبار هو أنَّ أمير المؤمنين والإمام الحسين والإمام الصادق سيعودون وسيعمّرون طويلًا.
السؤال: ما هي حقيقة حوض الكوثر؟ وماذا يعني الشرب منه؟
الجواب: إنَّ حقيقة حوض الكوثر تُمثّل الحياة وبقاء نفسِ الإنسانِ في العالَم الآخر وفي الجنّة، حيث تتحقّق الحياة الحقيقيّة وتستمرّ بدوام إفاضة الصفات الجماليّة، وسيتم التمتّع بالنعم الإلهيّة الّتي هي عبارة عن ارتباط الإنسان بالمبدأ الربوبيّ. فكلّ ذلك يتمثّل بحوض الكوثر في عالم القيامة، وهو ما يُعبّر عنه عادةً بآثار وترشّحات ولاية أمير المؤمنين عليه السلام والحقائق التوحيديّة. وسوف يُسقى مِنْ ماء الحياة هذا جميعُ أهل الجنّة ابتداءً مِنْ أصحاب اليمين وصولًا إلى المخلصين والأنبياء والمعصومين وذلك مِنْ أجل استمراريّة حياتهم في الجنّة.
دور الحبّ والعشق في السلوك العقلانيّ
السؤال: بلحاظ قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام «وهل الدين إلّا الحبّ»۱، فهل يعني أنَّ الإنسان يستطيع أن يبلغ مقصده عن طريق العشق والحبّ فقط، أم يجب أن يكون العشق توأمًا للعقل مِن دون التفكيك بينهما؟ وهل هناك مكانة للحبّ في السلوك العقلائيّ؟ وهل يعتبر العقل والعشق مرحلتان منفصلتان، وهل العشق بدون العقل ليس بشيء وليس سوى خيال؟ أرجوا منكم توضيح ذلك.
الجواب: نعم، سأقوم بتوضيح الأمر. الكلام في المقام مثل قولنا: لا يستطيع الإنسان أن يحيا بدون أوكسجين. فهل يدلّ هذا القول على عدم ضرورة تناول الطعام والماء؟ بل للأوكسجين أهميّته الخاصّة للجسم، وللطعام والماء أهميّتهما الخاصّتان أيضًا، فلكلّ منهم ضرورته الخاصّة.
إنَّ العشق والحبّ يجعلان المرء يسلّم نفسه لمحبوبه؛ فالعشق أمر واقعيّ، ومعه لا يمكن للعاشق أن يفعل ما لا يرضاه المعشوق، فالعاشق الّذي يسير في طريقٍ لا يرتضيه المعشوق لن يجنِيَ مِن عشقه شيئًا؛ فترى البعض يتظاهر بأنَّه مستعدّ للتضحية بنفسه مِن أجل معشوقه، ثُمّ تراه يقوم بألف عمل لا يرتضيه المعشوق؛ فأيّ عشق هذا، وأيّة محبّة تلك؟!
إنَّ معنى العشق هو أن يتخلّى المعشوق – نتيجةَ تعلّقه بمعشوقه ومحبوبه – عن إرادته ويستبدلها بإرادة المحبوب، هذا ما يُسمى بالعشق والحبّ. نعم، [هناك ما يسمى الميول] فقد يكون أحدهم يميل إلى آخر، ولا إشكال في ذلك، وهذا سيتبدّل إلى عشقٍ يوصله إلى المحبوب إن اقتفى صاحبه خطوات المحبوب. ونحن نسمع على لسان الأئمّة عليهم السلام أمثال هذه العبارة كما في دعاء كميل «واجعل قلبي بحبّك مُتيّمًا». فما معنى التيم هنا؟ إنَّه يعني أنَّني قد أصبحت في حال لا أرى نفسي فيها، فكلّ ما أراه هو أنت لا غيرك. نعم، قد يصل العاشق إلى هذه المرتبة.
إنَّ العشق والحبّ يُوصل الإنسان إلى هذه الدرجة حقًّا، غير أنَّ ما يُشاهد هنا وهناك [مِن مظاهر العشق] لا تتعدّى كونها أمورًا مجازيةً، إذ العشق الحقيقيّ هو الّذي يجعل الإنسان يُرجّح رضا المحبوب على أيّ شيء آخر؛ فإن كان هذا هو العشق، فكيف يمكن حينئذ للإنسان أن يأتي بعمل غير عقلائيّ وعمل يتنافى مع رضا المحبوب؟! وكيف يمكنه أن يأتي بما لا يتماشى مع نهج المحبوب؟!
أنا أقول لبعض الإخوة الّذين تربطني بهم علاقة أكثر مِن غيرهم، وبسبب بعض العوامل: عليكم أن تعلموا أنّه كلّما ازداد قربكم منِّي ستكون مسؤوليّتكم أكبر، وستكونون في موقف يزداد تعرّضكم فيه للخطر. فإن قبلتم ذلك، فعلى الرحب والسعة. وذلك لأنَّني لستُ رجلًا متسامحًا في هذه المواقف، ولا أتغاضى عن بعض الأمور، فها أنا أقول ذلك مِنْ بداية الأمر؛ فمَن شاء فليتفضّل وعلى الرحب والسعة. وذلك لأنَّ الإنسان إن أراد أن يتقرّب مِنَ الآخر بشكل أكبر، عليه أن يزيد مِنْ مراعاته لبعض الأمور. أمّا أن يقول الشخص: ما دمتُ قريبًا [مِن فلان]، فأنا أتمتّع بحصانة قانونيّة. فذلك تفكير غير صحيح، لأنَّ ذلك سيؤدِّي إلى إماتة حقٍّ مِن جهة، وهو أمر خاطئ في حدّ نفسه، ومن جهة أخرى، فإنَّ ما سيُرتكب مِنْ خطأ سيُحسب على الطرف المقابل.
بناءً على هذا، ما الّذي يتوجب فعله على مَن يرى نفسه أقرب إلى الله وأوليائه وطريق السير والسلوك؟ لا شكّ أنّ عليه استجلاب رضاه. فالأمر هنا يشبه قصّة الأمّ الحقيقيّة والأخرى المدّعية الّتي حصلت في عهد أمير المؤمنين، والقصّة هي: أن ادّعتْ كلّ منهما أمومة طفل، فأمسك أمير المؤمنين السيف بيده وقال: حسنًا، سأقسمه بهذا السيف إلى نصفين، فتأخذ كلّ منكما حصّتها – فجعل الأمر وكأنّه أرض متنازع عليها أراد تقسيمها بين متخاصمين – فقال أمير المؤمنين هنا: سأقوم بتنصيفه لكي تأخذ كلّ واحدة منكما نصفها إلى بيتها. فما إن رفع أمير المؤمنين السيف حتّى قالت الأمّ الحقيقيّة: لا أريده يا أمير المؤمنين، أعطه لها. أمّا المرأة المدّعية، فوقفت تنظر وكأنَّها جدار. ألم تدّعي أنَّك أمّ الطفل، فلماذا لم تنفعلي؟! هكذا يكون العشق، وهكذا يكون القرب. هل فكّرتم في هذا الأمر حتّى الآن، في أنّه كيف تمّ تشخيص الأمّ الحقيقيّة مِنَ تلك المدّعية. [لقد تمّ ذلك بواسطة ردّة فعلها] فالأمّ الحقيقيّة ترى طفلها جزءًا منها، فهي ترى أنّ السيف الّذي رفعه عَلِيّ سيأتي على رأسها هي، أمّا الأخرى فلكونها امرأة أجنبيّة عن الطفل فهي تقول: دعه يضرب الطفل. بل لو مات أمامها ألف نفر، لن تتأثّر. هذا في الوقت الّذي فزعت فيه أمّ الطفل، فهي تقول: إنَّ ضربةَ عَلِيٍّ هذه هي ضربة لرأسي أنا، إذ هذا الطفل هو عين وجودي. فيجب علينا أن نعمل على إيجاد هذه الحالة فينا، وهذا أمرٌ غايةٌ في الدقّة.
سنكمل الحديث عن هذه المواضيع في المجلس القادم بحول الله وقوته.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد