المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
هو العليم
السلوك الصحيح والسلوك الباطل
مباني السير والسلوك – قم – الجلسة السادسة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سره.
أعوذ بالله مِنَ ال شيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى اللَه على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
إن كان لدى الأصدقاء سؤال يتعلّق بما تمّ طرحه في المجالس السابقة، فليتفضّلوا به.
سؤال: إنّ ما يبعث على التعجّب، ويجعل الإنسان يتأثّر كثيرًا، هو أن يخرج البعض عن هذا الطريق بسبب رؤيته لمنام واحد، والحال أنّ ألف دليل وبرهان لا يُحدث تبدّلًا في حاله.
جواب سماحة السيّد: نعم، هكذا هو الأمر، إنّه سؤال جيّدٌ جدًا، وهو يراود أذهان الكثيرين، خصوصًا في فترة ما بعد المرحوم العلّامة، فهذا الموضوع مُلفت للنظر كثيرًا.
هناك تفاوت بين مدرسة عرفان المرحوم العلّامة وأساتذته، الّتي هي مدرسة التوحيد ومعرفة الحقّ ومدرسة الأنبياء عمومًا، وهي طريقة ومرام النبيّ الأكرم والأئمّة عليه السلام خصوصًا، وبين سائر المدارس الّتي تدّعي الهداية وأنّها دليل طريق السعادة وتحصيل المَلَكات الفاضلة. إنّ الفَرق يتمثّل في أنّ هذه المدرسة تدعو لأن يكون العِلم والفهم مِن جهة والعمل والحركة مِن جهة أخرى، توأمان ومتزامنان، وما لم يتمّ الاهتمام بهاتين الجهتين معًا، ستحصل للأفراد مشاكل، ويقعون في المخاطر، وسيؤدّي ذلك إلى الركود والتوقّف عن الحركة.
إن لم يكن المرء على عِلم، وجاء إلى هذه المدرسة عن غير فهم وإدراك صحيحين وعن غير يقين، بل كان بسبب اندفاعٍ عاطفيٍّ أو نتيجة بعض المشاهدات، فإن لم يكن له تصوّر واضح وفكرة صحيحة عن الموضوع، سيُصيبه الانحراف والاعوجاج بمجرد أن يحصل تبدّل طفيف [في مجريات الأحداث].
علينا أن نصحّح طريقة تفكيرنا
كنتُ قد طرحت نفس هذا الموضوع يومًا بحضور المرحوم العلّامة في مشهد، وذلك – على ما يبدو – في الفترة الّتي لم يكن بإمكانه الخروج مِنَ المنزل، فكان يحضر مجالس أيّام النصف مِن شعبان وعيد الغدير فقط؛ ففي واحدة مِن هاتين المناسبتين، طرحتُ موضوع معرفة الإنسان الواقعيّة للأنبياء وأولياء الدين، وكيفيّة تصحيح الأفكار، فقلتُ حينها: إنّ رؤيتنا للأمور مبنيّة على أساسِ أنّ العظماء والأنبياء والأئمّة يُعمِلون دائمًا خوارق العادات لتيسير أمورنا، هذا ما عوّدنا أفكارنا عليه؛ فنحن ننتظر منهم دائمًا أن يشفوا مرضانا ويحلّوا مشاكلنا، وأن يؤجّلوا ساعة موتنا ويُسعدونا في الدنيا بأيّ وسيلة كانت، وأن يحلّوا نزاعاتنا العائليّة ويُوفّروا لنا أفضل ما يمكن. هذه هي توقّعاتنا الّتي ترسمها لنا أذهاننا وأفكارنا. ولكن هل حصل يومًا أن توقّعنا منهم عند لقائنا بهم، أن يفعلوا بنا ما أراده الله لنا – لا أعتقد أنّ شيئًا كهذا قد خطر على قلب أحدٍ – أو قبِلنا منهم أن يتعاملوا معنا بموجب ما يقتضيه التقدير والمشيئة الإلهيّة، دون أن يصيبنا الخمول والركود والألم والانقباض والقلق والتشويش، فنكون على استعداد لقبول مشيئة الله فينا بكامل الرضى؟!
أتذكّر حينها أنّني نقلت هذه الحكاية وهي: حلّ النبيّ يوًما ضيفًا في بيت أحد الأنصار في المدينة، ولم يكن الرجل موجودًا في البيت حينها، فاستقبلت امرأتُه النبيَّ بحفاوة وإجلال، وأظهرت كامل وُدّها له. وكان الوقت حينها ظهرًا، وما إن جلس النبيّ وانشغلت المرأة بإعداد الطعام، سقط ابنها في البئر – أي إنّ سقوط ابنها في البئر وموته تزامن مع دخول النبيّ إلى بيتهم – فعندما نظرت المرأة في البئر، وجدت ابنها ميّتًا فيه.. حينها لم تُخرج المرأة الطفل مِنَ البئر، إذ رأت أنّ أمره قد انتهى، فتركته في البئر ولم يصدر منها أيّ صراخ وعويل ولم يظهر عليها الامتعاض.. وهذا أمر عجيب حقًا! فهو سهل على اللسان فقط، فأنا الآن بنقلي وتفكيري في الأمر أجده صعبًا للغاية. عليكم أن تعرفوا هنا أيّ نوع مِنَ النساء هذه، فأمثال هؤلاء النسوة قد انتزعنَ مركز الصدارة مِنَ الكثير مِنَ الرجال.. فقد تكتّمت المرأة على الأمر، ولم يَظهر على قسمات وجهها شيء! وبعد مدّة حضر زوجها، فأخبرته بقدوم الرسول، فذهب وقدّم إليه شيئًا، ثمّ افتقد الرجل الطفل لأنّه لم يسمع صوته، وعندما سأل عنه قالت زوجته: أرسلته ليلعب مع أطفال الجيران لأنّه أحدث فوضى. وقد تعامل النبيّ بالظاهر، فتناول طعام الغداء ودعا لهم وغادر إلى بيته. وبعد مغادرة النبيّ، التفتت المرأة إلى زوجها وشرحت له ما حصل قائلة: كنتُ مشغولة بإعداد الطعام، فذهب الطفل إلى ساحة البيت بالقرب مِنَ البئر – إذ كانت جميع المنازل حينها تشتمل على آبار يستخرجون منها المياه – وسقط فيه. فاضطرب الرجل عند سماع ذلك، فأخرج الطفلَ مِنَ البئر ووجده قد مات مِن ساعات. ثمّ ذهب الرجل ليُخبر النبيّ بما حصل، فأرسل النبيّ أفرادًا ممّن كانوا معه في المسجد، وقال لهم: اذهبوا مع هذا الأنصاريّ وكفّنوا الطفل وادفنوه. فذهبوا ودفنوا الطفل، وعند عودتهم مِن دفنه، قال النبيّ: أنا أباهي الأنبياء السابقين وأفاخرهم بوجود مثل هذه المرأة في أمّتي. ألاحظتم ما هو عليه الأمر! كيف يمكننا تصوير ما حصل!
كان المرحوم العلّامة حاضرًا في المجلس حينها، ولقلّة أدبي، قلتُ في محضره: نحن نتصوّر أنّه إن زار أحد العظماء بيتًا وكان فيه مريض فسيُشفى، وإن كان لصاحب البيت مشكلة فستُحلّ. ثمّ قلتُ: لو أنّ أحد العظماء – ولم أسمّ المرحوم العلّامة – دخل منزلًا، ومات المريض في ذلك المنزل مِن ساعته، ألن نقول حينها: يا له مِن مَقدمِ شُؤمٍ – والعياذ بالله مِن هكذا قول – أهذا الّذي يقولون عنه (وليّ إلهيّ)! ألِمِثل هذا يُقال (رجل عظيم)، فما إن وضع قدمه في البيت حتّى مات مريضنا، أو انهدم سقف بيتنا، أو حصل لنا كذا!
إنّ أمثال هذه التصوّرات خاطئةٌ، وذلك لأنّه إن كان الموت حقًّا، فهو حقٌّ سواء على ابن رسول الله أو على غيره، وإن كان المرضُ حقًّا وهو مِن عند الله، فسيمرض العظماء والأولياء والأئمّة وغيرهم مِنَ الناس، وقد يموت أحدهم بهذا المرض، وقد تطول أحيانًا مدّة مرضه. وهكذا هو الحال بالنسبة إلى الصعوبات والضغوطات والضيق داخل المنزل وخارجه؛ فالكثير مِنَ العظماء عانوا مِن مشاكل عائليّة، وهذا ما نقرأه في تراجم أحوالهم، فهم يعانون كثيرًا في حياتهم اليوميّة، فتراهم يعانون مِنَ المشاكل الّتي يُسبّبها أبناؤهم وزوجاتهم. وبعض النساء يعانين مِن أزواجهنّ.. لماذا يحصل مثل هذا؟ لأنّه لم يَكتب أحد ضمانًا لوليّ الله بأن يكون مرفّهًا ورَغِد العيش، نعم، لا يوجد هكذا ضمان.
قد قُتل الإمام الحسن المجتبى عليه السلام على يد زوجته، كيف يمكن أن تفسّروا ذلك؟! وحصل نفس الشيء للإمام الجواد عليه السلام، حيث قُتل على يد زوجته أم الفضل بنت الخليفة العبّاسي المأمون۱. فالإمام المجتبى عليه السلام قُتل على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس – والأشعث هو الّذي تآمر مع وردان وابن ملجم المراديّ على قتل أمير المؤمنين في ليلة التاسع عشر مِن رمضان٢ – لقد كانت تلك المرأة ابنة هكذا شخص، كما أنّ أخاها محمّد بن الأشعث خرج في أربعة آلاف رجل لقتل ابن بنت رسول الله في كربلاء، نعم هذه هي عائلتهم المباركة [هذه العبارة للتهكّم]! فمَن كانت تلك المرأة؟ إنّها زوجة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.٣ وهكذا الأمر مع باقي الأئمّة، فلم تكن حياتهم العائليّة خالية مِنَ المشاكل.
وهذا ما كان يحصل مع مَن هو أعظم مِنَ الأئمّة، ألا وهو رسول الله، الّذي هو أشرف الكائنات والمخلوقات، فامرأته هي الّتي قتلته؛ لدينا رواية تقول إنّ استشهاد رسول الله كان بسُمّ دسّه له المنافقون عن طريق عائشة وحفصة؛ فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام إن كان موت النبيّ طبيعيًّا أم لا، فقال الإمام: «واللهِ لقد سمّتاه»٤. هذا ما حصل لأشرف الكائنات، فكم أُوذي النبيّ في بيته مِن قِبل هاتين المرأتين، وكم كان يغضب منهما، دون أن يتمكّن مِن فعل شيء، ففي بعض الأحيان لا يستطيع الإنسان أن يفعل شيئًا، وعليه أن يصبر على ما يحصل، وأحيانًا يكون التكليف بخلاف ذلك.
لقد جعل الله لكلّ شخص طريقًا خاصًّا به، ومسيرًا عليه أن يطويه، فيكون مُكلّفًا بالصبر أحيانًا، فيُقال له: عليك ألّا تُحرّك ساكنًا، وأن تصبر وتتحمّل الأذى مهما بلغ. هل التفتّم!
المعنى الحقيقيّ للسعادة
علينا أن نصحّح أفكارنا، والتصحيح يعني أن نقوم باستبدال الاعتبار والتصوّر والوهم بالواقع، وأن نُفرّغ أذهاننا مِنَ الأمور الاعتباريّة، وهذا هو معنى الحقيقة؛ فما نراه سعادة في هذه الدنيا، قد لا يكون كذلك في الجانب الآخر، وما هو سعادة بالفعل في تلك الدار، قد لا نحسبه سعادة هنا، بل قد نحسبه نكبة. إنّ السعادة في ذلك العالَم تتمثّل في إفراغ حمولة التعيّن والكدورة والتعلّق، واستبدالها بالتوجّه إلى الله، وحينها سيتنوّر القلب بنور الله وسيقلّ تعلّقه بغيره. نعم، هذه هي السعادة الواقعيّة. على أنّ تقليل التعلّق هذا، لا يُعطى بالمجّان، ولا يمكن الحصول عليه بدون ثمن، بل هو أمر يتطلّب إعداد بعض الأمور وتهيئة الأرضيّة المناسبة له، وكلّ ذلك بهدف التقليل مِن هذا التعلّق.
إنّ قَطْع التعلّق لا يُقدّم للإنسان كحلوى على طبقٍ، بل هو يتطلّب الاستعداد، ويعتمد على ما سيُقدّمه الله للإنسان وما سيُقدّمه الإنسان لنفسه مِن أمور تساعده على قطع التعلّق بغير الله. فالإنسان في عين قيامه بالتكاليف الملقاة على عاتقه، يجب أن يَنسب إلى الله – بلحاظ الجنبة التوحيديّة – كلّ ما يجري حوله؛ هذا ما يُسمّى بالسعادة في ذلك الجانب. ولكن ماذا عن هذا الجانب؟ إنّ السعادة في هذا الجانب، تتمثّل في إنجاب الأطفال، وامتلاك دار للسكن، وامتلاك بيت صيفيّ وآخر شتويّ، وامتلاك سيّارة فاخرة، ومكانة مرموقة، وعدم الابتلاء بالآلام، والعيش بكامل الصحّة والسلامة، وعدم التعرّض للغمّ والهمّ.. ما الّذي يعنيه كلّ هذا؟ إنّ ما يُنظَر إليه على أنّه سعادة في هذا الجانب، هو ممّا قد لا يحصل عليه المرء، هذا الكلام هو عبارة عن البحث عن السعادة في هذه الدنيا، والحال أنّ السعادة موجودة في ذلك الجانب.
هناك الكثير مِن أدعية الإمام السجّاد عليه السلام في الصحيفة السجّادية، تتحدّث عن هذا الموضوع، كما أنّ أمير المؤمنين يقول في دعاء كميل «قوِّ على خدمتك جوارحي، واشدُد على العزيمة جوانحي»۱، أي: أعطني يا ربِّ القوّة والقدرة في جسمي وروحي، وامنحني العزم والنيّة الخالصة في حركتي اتّجاهك، وثبّت قدمي، نعم ثبّت نيّتي الباطنيّة لأتمكّن مِنَ الوصول إلى الهدف المنشود مهما وقع مِن أحداث، حتّى إن أدّى ذلك إلى ابتلائي بأنواع البلايا، فأنا أريد أن أكون ذا نيّة مُحكمة، وأن لا أصاب بالتزلزل والهزيمة بمجرّد تعرّضي لأدنى ضغط، وأن لا أستسلم للخصم، وأريد أن لا أَنسى الهدف الّذي جئتُ مِن أجله بمجرد حصول بعض التبدّلات. هل انتبهتم إلى أهميّة الموضوع؟
إنّ تصحيح الفكر يُعتبر مِن أهمّ المسائل الّتي يجب أن يراعيها السالك في سلوكه. أمّا إن بنى المرء بنيانه على أساس المنامات والمكاشفات، وعلى أساس أنّ فلانًا عظيمٌ – مِن وجهة نظره – ومكاشفاته عظيمةٌ وأعماله تامّةٌ وكاملة، إن كان هذا هو المبنى، فما الّذي سيفعله إن رأى خلاف ما رآه منه سابقًا؟! وما الّذي سيحصل إن رأى يومًا شيئًا آخر مغايرًا؟!
السلوكُ يستقيم بالفهم والمعرفة ولا يُبنى على المكاشفات والظواهر
لقد شاهدت بنفسي كتابات بعض الأفراد للمرحوم العلّامة قبل أن يصل [نفس الكاتب] إلى المرحوم العلّامة، وأيّة عبارات كان يستخدم في رسائله، فكان يقول: لقد أُشبع وامتَلأ كلّ وجودي بك، ولم يبق لغيرك وجودٌ في حياتي، فأصبحتَ كلّ ذكري وفكري. هذا ما كان يكتبه البعض مِن تلك البلاد البعيدة، غير أنّه لَمّا وصل إلى المرحوم العلّامة ودخل تحت تربيته، ووجّه إليه القليل مِنَ الأوامر والنواهي، وتذبذبت بعض أموره المعيشيّة، تراجع الرجل في كلامه، ووصف هذه المدرسة بالمتجر! هل التفتّم! لماذا يحصل هذا؟ لأنّه لم يفكّر في الأمر جيّدًا [قبل التحاقه بهذه المدرسة]، بل بنى على المنام والمكاشفة؛ كان الرجل يذكر بعض مناماته في الرسائل الّتي يبعثها إلى المرحوم العلّامة، وقد كانت منامات جيّدة حقًّا، فلم تكن منامات عاديّة، غير أنّ الأمر لا يستقيم بالاعتماد على المنامات فقط، بل إنّ عامل الاستقامة هو الفَهم الصحيح والمعرفة الحقيقيّة.
إنّ الذين أزاحوا أمير المؤمنين عن منصبه بعد رسول الله، كانوا قد شاهدوا بأنفسهم معجزة شقّ القمر۱ وشهادة الشجرة والحصى والسحليّة للرسول برسالته٢، لقد سمعوا كلّ ذلك بآذانهم ورأوه بأعينهم، فلماذا نسوا كلّ ذلك، لماذا؟! لأنّهم رأوا بأعينهم فقط، واستولت على قلوبهم عظمة رسول الله لا غير؛ فرأوا أنّ النبيّ رجلٌ عظيم، وهو أعلى منزلة منهم.
كان المرحوم العلّامة يقول: إنّ أولئك الّذين نحّوا أمير المؤمنين والزهراء عن منازلهم، هم أنفسهم الّذين كانوا يتسابقون لأخذ ماء وضوء النبيّ، ويتدافعون للحصول عليه [والتبرّك به]. نعم، إنّهم هم الّذين أزاحوا أمير المؤمنين عن منصبه بعد وفات النبيّ، وعندما كان أمير المؤمنين يقول لهم: لماذا لا تدافعون عن الحقّ؟ كانوا يقولون: تجاوز عن حقّك يا علِيّ! لقد كانوا فاقدي الإحساس إلى درجة أنّهم تصوّروا أنّ أمير المؤمنين يفعل كلّ ذلك لأجل متاع الدنيا. هذا ما كانوا يتصوّرونه بحقّ أمير المؤمنين، الّذي كان يقول لابن عبّاس: إنّ هذه الحكومة والجيوش والرياسة والخلافة الّتي تراها، لا تساوي الحذاء الّذي أرقّعه الآن.٣ [أقول:] إمّا أنّه كان يكذب فيما يقول، أو كان صادقًا؛ أمّا مِن ناحية الكذب، فلا يمكن أن يكذب، إذن فقد كان صادقًا في قوله.. لماذا طاف على بيوت المهاجرين والأنصار قائلًا: ألم تروا الحقّ! ألم تشاهدوا تنصيبي للخلافة بأنفسكم! فلماذا لا تنصرونني؟! لماذا كان علِيٌّ يفعل ذلك؟ إنّه فعل ذلك ليُنقذ أولئك المساكين مِن مسكنتهم، وإلّا فعلِيٌّ.. لا فرق عنده أبدًا، سواء استلم زِمام الحكم أم جلس في بيته، فالله معه دائمًا أينما كان، سواء كان على قمّة جبل أو في قعر البحر، فإنّ الله معه، ومَن يكن الله معه سيتقيّأ إن فكّر بغيره، نعم يتقيّأ حقًّا؛ ولعلّ مثل هذا يحصل للكثير مِنَ الأصدقاء ورفقاء الطريق، أو سيحصل لهم، فاعلموا أنّ الإنسان أحيانًا يشعر بالحاجة إلى التقيّؤ إن أراد أن يتكلّم مع البعض.
قال لي بعض الأصدقاء أنّه عندما كانت تحصل له لطافة روحيّة، كان يشعر بالحاجة للتقيّؤ عندما يخرج مِن منزله لشراء بعض الجبن مِنَ البقّال المجاور – إنّه أمر واقعيّ فلم يكن يمزح – وعندما يعود إلى المنزل يرجع إلى وضعه السابق، فما سبب ذلك.. أمّا بالنسبة لأمير المؤمنين، فتستطيعون أن تنسبوا هذه الحالة إليه بعد ضربها بألف أو بمليون ضعف. كان أمير المؤمنين يقول: إنّ حكومتكم هذه أهون عندي مِن عفطة عنز.۱ وعلينا أن نقبل هذا الأمر مِن أمير المؤمنين ونصدّق به، فهو لم يُرِد الخلافة.
أنتم تتعجّبون الآن عندما ترون الناس يتنازعون على الحكومة، ونحن نشاهد هذا في وقتنا الراهن، فهل يُعتبر هؤلاء مِنَ العقلاء؟! ما الّذي يفعلونه؟! نحن لا نقول هنا بأن تحصل لنا حالة إعراض عن السلطة كحالة إعراض أمير المؤمنين عنها، ولكن لا أقلّ أن لا نكون مهتمّين كثيرًا بهذا الأمر، أي إن حصل أم لم يحصل فهو سواء. ولا نقول بأن تصيبنا حالة التقيّؤ مِنَ السلطة أو أن تكون عندنا بمثابة عفطة عنز – فهذه النظرة للدنيا خاصّة بأمير المؤمنين ولا نصيب لنا منها – ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول «ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك» ولكن عليكم أن تتقدّموا خطوة في هذا الطريق «ولكن أعينوني بورع واجتهاد»٢ [أي لا أقّل] كونوا غير مهتمّين بأمور الدنيا، فإن حصل ذلك ستصبح الدنيا بستان زهور. نعم، عليكم ألّا تكونوا كأولئك الناس، بل كونوا مُعرضين عن الدنيا شيئًا ما؛ فإن قيل لأحدهم: لقد عيّناك في منصب رئيس الوزراء. فليقل: ما داموا قد فعلوا ذلك، فليكن ما أرادوه. وإن جاؤوا غدًا وقالوا له: لقد عيّنا رجلًا آخر مكانك. فعليه أن يقول: حسن جدًّا، فليستلم المنصب. وإن رجعوا في قرارهم وقالوا له في اليوم التالي: نستميحك عذرًا، ونرجوك أن تعود إلى منصبك مرّة أخرى. فليقل: أشكركم. ثمّ لو فرضنا أنّهم قالوا له بعد ذلك: ها قد وجدنا مَن هو أفضل منك ... لو كنّا على هذا النحو حقًّا، كيف ستصبح حال الدنيا عندها؟ لأصبحت حديقة زهور وجنّة. ولكن ما الّذي يحصل بالفعل؟ إنّا قد ضللنا الطريق، فجعلنا مِنَ الله وسيلة نتذرّع بها للوصول إلى أهوائنا النفسيّة وأمانينا الدنيويّة. لقد ولّى الزمان الّذي كانت تُستغلّ فيه بعض الوسائل لبلوغ تلك الأغراض، وأصبح الله هو الوسيلة هذه الأيّام، وأصبح الإسلام والتكليف الشرعيّ والمسؤوليّة [الإلهيّة] هي الوسيلة! ما هذا الّذي يحصل الآن؟! لقد أصبحت هذه الأدوات هي الوسيلة، فتراهم يقولون: إنّ التكليف الشرعيّ يحتّم علينا ذلك. يا للعجب! ولماذا لم تشعر بهذا التكليف إلّا الأمس؟! أشعرتَ به فقط في اليوم الّذي منحوك فيه منصبًا؟! لقد كنتَ حتّى هذه اللحظة مشغولًا بتأليف كتاب تتهجّم فيه على هذا الموضوع، أمّا الآن وقد أعطوك هذا المنصب، فهل ستطبع هذا الكتاب أم ستمتنع؟! [لا شكّ] أنّك ستقول حينها: ليس مِنَ المصلحة أن يُطبع! [أقول:] لماذا ليس ذلك مِنَ المصلحة؟! فإن كان الأمر الّذي كنتَ تنتقده بالأمس أمرًا باطلًا٣، فاطبع الكتاب ليطّلع الناس عليه، وإن لم يكن كذلك، فلماذا كنت تنوي نشره؟! وكيف بمجرد أن مُنحت منصبًا معينًّا، تبدّلت المصلحة إلى ضدّها، وتبدّل الباطل إلى خلافه، وما هو مخالف للقِيَم تبدّل إلى قِيَم؟! إنّ كل هذا عبارة عن تسويلات شيطانيّة، يسعى الشيطان مِن خلالها إلى إغواء الناس وخداعهم.
هذا هو معنى (التصحيح) الّذي نتكلّم عنه. [هذا مِن جانب]، ومِن جانب آخر، قد يكون الرجل عالِمًا ولكنّه لا يعمل بعلمه، وهذا سيكفيه لأن يلطم رأسه بيَدِ الحسرة في تلك الدار الآخرة، ويرتفع صراخه مناديًا: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ}۱. هذا بالنسبة لمَن كان يعلم ولم يخط خطوة في الطريق، ولمَن كان يعلم ولم يستفد مِن علمه.
إنّ الموضوع الرئيسيّ في مدرسة المرحوم العلّامة رضوان الله عليه، هو الفَهم. فالفهم هو الموضوع الّذي له الصدارة، فبالفَهم يكون للبرهان والمنطق قيمةٌ. فإن عمل الإنسان على تنوير فَهمه ستتضح كلّ القضايا تباعًا، وإن لم ينوّر فَهمه، واشتغل بدل ذلك بمسائل أخرى، فسيتغيّر مسيره بمجرّد حصول بعض التغيّرات والتبدّلات في مجريات الأمور.
إنّ الشخص الّذي جاءني قبل عدّة سنوات وروى لي منامه الّذي يقول فيه بأنّ الأمر الكذائيّ سيقع، فها هو يأتي اليوم ليقول لي: رأيت كذا وكذا في المنام، وحصل لي كذا وكذا. إنّه الشخص نفسه وليس شخصًا آخر، هذا في الوقت الّذي كان عليه أن لا يعير اهتمامًا لا لمنامه الأوّل ولا الثاني. وقد قلتُ له: افرض أنّك لم ترَ أيّ منام.. لماذا تكلمتُ معه بهذا الشكل؟ لأنّ مناشئ المنامات كثيرة، فالكثير مِنَ المنامات والمكاشفات مبنيّة على الوهم والخيال. فلو كان المنام ملاكًا في التشخيص، فلماذا كان المرحوم العلّامة وباقي الأولياء والعظماء يؤكّدون كلّ ذلك التأكيد في مؤلّفاتهم وأحاديثهم على ضرورة عدم الاهتمام بالمنامات والمكاشفات. فقد كرّروا هذا الأمر مرارًا بشكلٍ لم نرَ منهم تأكيدًا على أمر أشدّ مِن تأكيدهم وتنبيههم على هذا الأمر.
المهمّ بالنسبة للسالك أن يضع قدمه في طريق اليقين والفَهم، وبهذا ينتهي الأمر، لأنّه [بذلك] يكون قد تيقّن فعلًا ولم يبق أمامه غير اليقين بأنّ هذا الرجل وليٌّ وعارف ومطّلع على كافّة الأمور، وله كذا وكذا مِنَ الصفات. ففي مثل هذه الحالة، فإن رأى منامًا [مخالفًا ليقينه]، فلعلّه يقول حينها: إنّ هذا منام شيطانيّ.. لأنّ الحقائق قد اتضحت وضوح أنّ حاصل ضرب الاثنين في الاثنين يساوي أربعة، فحينئذٍ سيعرف أنّ ما تيقّن به صادق ولن يجد ما ينقضه. أمّا لو كانت نفسه لا تزال ترفض الحقيقة، فحتّى لو رأى منامًا موافقًا للحقيقة، فسيقول عندها: كلّا، إنّ هذا المنام شيطانيّ. فحينئذٍ، ما الّذي تستطيع أن تقوله له؟!
هذا هو الموضوع المهمّ في مدرسة المرحوم العلّامة، وهو أنّه لا مكان للمنام أو المكاشفة، ولا محلّ لهما مِنَ الإعراب. فما هو مهمّ في مدرسة العظماء، هو الوصول إلى اليقين، والسير وفقَ ذلك اليقين.
ما ذُكر لصالح أحد الأطراف، بعد ارتحال المرحوم العلّامة، قد ذُكر أضعافه بمئة مرّة لصالح الطرف الآخر، فإن كان قد نُقل منامٌ أو مكاشفة هناك، فقد نُقل مئة ضعف منها هنا. وأنا لا أبالغ عندما أقول مئة ضعف، غير أنّني لم أكن أُعيرها اهتمامًا ولو بمقدار فلس واحد. لماذا لم أكن أعيرها اهتمامًا؟ لأنّني لا أتنازل عن يقيني بأحقيّة ما أنا عليه أبدًا.
إن كان أحدهم قد رأى منامًا أو مكاشفة، فذلك يخصّه، وإن وُصّي أحدهم عن طريق المنام أو المكاشفة بالرجوع إلى هذا الطرف، فليكن. فهناك مئة ألف مكان غير هذا المكان يُوصى بالرجوع إليه، فقد يحصل أن يُوصّى أحدهم بالرجوع إلى هذا الطرف أيضاً، إلّا أنّ هذه التوصية لا تغيّر في أصل القضيّة شيئًا، فالكلام المهمّ هو أنّ البعض يجب أن يُخدع، فتراه ما إن يحصل معه أمر كهذا حتّى يشعر أنّه قد أصبح رقمًا، ويعتبر نفسه ذا مكانة عالية، فهنا تكمن المشكلة، هل التفتّم! فما إن يحصل شيء مِن هذا القبيل، حتّى يتصوّر نفسه على الحقّ، فيتصوّر أنّ المُوصّى بالرجوع إليه ذو مكانة متميّزة. فمثل هذا التصوّر، ومع ظهور بعض المسائل المُسلّم بطلانها، يجعل الآخرين يعيشون جوًّا مِنَ التشويش والاضطراب والضياع، ولأجل الفرار مِن هذه التهلكة، تراهم يتمسّكون بأيّ تأويل محتمل، حتّى وصل بهم الأمر – كما هو واقع – إلى درجة أن يُلقى على عاتق المرحوم العلّامة كلُّ باطلٍ يفعلونه، وبهذا يُبرّؤون أنفسهم! هل التفتّم! لقد وصل بهم الانحراف إلى درجة أنّهم بدل أن يُصحّحوا أخطاءهم ويُنوّروا طريقهم وطريق غيرهم ويُبيّنوا الأخطاء الحاصلة، راحوا يُلصقون تلك الأخطاء بالمرحوم العلّامة مِن أجل الفرار مِن حيرتهم وارتباكهم، فتراهم يقولون: ما دام هو الّذي عيّنه في هذا المنصب، فهو المسؤول عن ذلك! [أقول:] يا للعجب! فهل يمكن أصلًا أن يُعيَّنَ مَن لا يعرف يمناه مِن يسراه، ومَن يمكن أن يُخدع مِن صبيّ في الثالثة عشر مِن عمره؟! وهل يمكن أن يُعيَّنَ أصلًا مَن...! دعونا مِن هذا! فهل يمكن أن يحصل شيء مِن هذا القبيل؟! لماذا نُفسد أمر الآخرين بدلَ أن نُصلح أمورنا؟! ولماذا نزيد مِن حيرة الآخرين وندفعهم للغوص في مستنقع الجهل، بدلَ أن نُبيّن لأنفسنا وللآخرين الطريق الصحيح؟! لماذا؟! إنّ كلّ ذلك يحصل لأنّنا لا نريد أن نُعرّض أنفسنا للانتقاد، وإن كان فينا عيب فلا نريد أن... ما الإشكال في ذلك؟!
جاءني أحدهم [يومًا] وقال: لقد أحصى عليك فلان خمسين خطأً، مِن قبيل أنّك نطقت بشيء وعملت بخلافه، وأنّه صدر منك كذبٌ وبهتان وأمثال ذلك، فجمع عليك خمسين موردًا ودوّنها. فقلتُ له: هاتها لأضيف عليها خمسمئة مورد آخر مِن عندي، حتّى تصبح خمسمئة وخمسين موردًا، وما [البال] في ذلك؟ أنت عندما أحصيت ذلك، هل كنتُ أنا مُدّعيًا الإمامة، حتّى يُعتبر ذلك منقصة لي؟ أنا لم أدّعها، وها قد ارتكبتُ خمسمئة وخمسين خطأً، فهل كنتُ قد ادّعيت الولاية، حتّى يُعدّ ذلك نقص فِيَّ؟ عليك أن تقوم بإصلاح الأعمال الّتي تورّط فيها الآخرون يا عبد الله! فأنا لم ادّعِ شيئًا. فدعني أجعل لك الخمسين خطأً خمسمئة. فأنا، ومع ارتكابي لتلك الأخطاء الخمسمئة، لم أكن قد ادّعيت شيئًا، حتّى أقوم بالدفاع عن نفسي تجاهها، كلّا، لن أدافع عن نفسي، بل أقول إنّني قمتُ بها فعلًا، فإن قلتَ إنّها خمسون موردًا، فها أنا أضيف عليها مئتين قائلًا: حسنٌ جدًّا، فأنا قد ارتكبتُ مئتين وخمسين خطأً، فكذّبتُ وافتريت وتكلّمت بكلام فاحش وتعدّيت وأخطأت، نعم، قد قمت بكلّ ذلك، ولكن ماذا بعد؟! فإنّ الأمر لا يمكن أن يستقيم بهذا الشكل، أمّا إن كان الطرف الآخر سيستقيم عن طريق تشويه سمعتي، فلا مانع لديّ!
لماذا حصلت تلك المشكلة الّتي اِلتهمت الجميع وأغرقتهم في مستنقع الجهل، وجعلتهم يرتكبون ذلك العمل المحرّم شرعًا، مع العِلم أنّ حُرمته واضحة كلّ الوضوح دون أيّ لبس، وهذا الأمر قد يتنبّه إليه البعض تدريجيًّا؟ حصل كلّ ذلك بسبب أنّهم سدّوا الطريق مِنَ البداية، فهم قد منعوا إعمال العقل والعِلم والفلسفة والعرفان النظريّ، ومنعوا اتّباع آثار العظماء الماضين. يا للعجب! لقد كان كلّ همّنا منصبًّا على الاطّلاع على سيرة العظماء، وإذا بأولئك يقولون الآن: لا يجب الاهتمام بسيرة العظماء!! إنّ هذا الّذي أقوله الآن قد طُرح بشكلٍ رسميّ على منابرهم، فقد قالوا: إنّ النظر في سيرة الأولياء الماضين يُسبّب الحيرة والإرباك. [أقول:] إن كان الأمر كذلك، فإلى مَن نتوجّه إذًا؟! لماذا تراهم يقولون هذا الكلام؟! ولماذا لم تُطرح في عهد المرحوم العلّامة مسألة عدم النظر في سيرة الأولياء الماضين؟! بل لماذا كان ذكر وفكر المرحوم العلّامة يدور حول السيّد الحدّاد والسيّد القاضي؟! لماذا؟! ذلك لأنّ الأمر كان يجري في غاية الشفافيّة هناك، ولا يمكن العثور فيه على أيّ إشكال، أمّا هنا، فنجد القوم يقومون بما يناقض أفعال العظماء؛ فما الّذي يجب فعله في هذه الحالة؟! نراهم يعمدون إلى قطع هذا الحبل أيضًا فيقولون: عليكم ألّا تنظروا إلى ما كان يجري في الماضي! حسن جدًّا، فها هم قد وضعوا كلًّا مِنَ العقل والعِلم جانبًا!
كان أحد الأصدقاء يتكلّم مع رجل منهم في طهران، فقال ذلك الرجل: إنّ فلانًا بارعٌ جدًّا في الفلسفة والحكمة، وهذا أكبر مأخذٍ عليه، فهو بهذا يحول دون [التباحث معه]. فقلتُ: يا للعجب! وهل يجب أن يكون سالكي طريق الله مِنَ الحمير حتّى يكونوا مؤهّلين لطيّ هذا الطريق؟! ألا ينبغي لمَن عنده فَهم أن يكون مِنَ السالكين، ألا يجب على المُتعلّم أن يكون مِنَ السالكين؟! هل يُفترض أن يُحيط الإنسان نفسه بمجموعة مِنَ الحمير يؤيّدون كلّ ما يقوله، ويطيعونه في كلّ ما يأمر به، لكي يكون طريقهم هو طريق السلوك؟! فهل هذا المسير هو الّذي يُوصل الإنسان إلى الله؟! كلّا، ليس هذا ما سمعناه مِنَ العظماء، وليس هذا ما قد أُوصِينا به. إن كانت مشكلتي فيما وصفوني به مِن أمر الفلسفة، وفي كوني مدرّسًا لها، فيجب أن يوجّه هذا الإشكال إلى والدي الّذي أرسلني إلى مدينة قُم، وإلى السيّد الحدّاد الّذي كرّر علَيّ هذه العبارة ثلاث مرّات، حيث قال لي: عليك أن تُتقن دروسك يا فلان، عليك أن تُتقن دروسك، عليك أن تُتقن دروسك. فمَن يجب أن يُلام على هذا الأمر حينئذٍ؟ هم هؤلاء، لا أنا!
أتلاحظون كيف أنّ الأمور تسير على نفس ذلك النهج الّذي كان سائدًا في الماضي.. ما الّذي حصل حينها؟ إنّ نفس هذا الأمر كان قد حصل هناك. إنّني لا أريد أن أتجاسر عليهم، غير أنّ الأمر واحد في كلتا الحالتين، فالموضوع هو نفس الموضوع، والطريق هو نفس الطريق، والكلام نفسه والمسير نفسه! أمّا مسير التوحيد هو مسير الخلوص، الّذي هو واضح كلّ الوضوح.
كنتُ أتكلّم اليوم مع صديقين جاءا هنا ظهرًا، فقلتُ لهما: إنّ الأمر الّذي يجب علينا الاهتمام به كثيرًا والقلق بشأنه وأن نكون ضنينين على تحصيله، هو طبيعة الخطوة الّتي نريد أن نُخطيها في هذا الطريق، فهذه الخطوة يجب أن لا تكون خطوة نفسانيّة والعياذ بالله. وضربتُ لهما مثالًا على ذلك، فقلتُ: إنّ المرحوم العلّامة مُنذ أن سكن في النجف، نذر بإقامة وليمة في ليلة أو يوم ولادة الزهراء سلام الله عليها، الّذي يصادف العشرين مِن شهر جمادي الثاني، فكان يدعو عددًا مِنَ الطلّاب والأصدقاء.. واستمرّ على ذلك بعد انتقاله إلى طهران، فأقام تلك المأدبة لسنوات عديدة، واستمرّ على هذه الحال إلى آخر عمره، وتلك المآدب كانت تكون كبيرةً أحيانًا ومحدودةً أحيانًا أخرى، ويحصل أحيانًا أن لا تُطبخ المواد الغذائيّة بل توزّع على الأصدقاء. فكان هذا النذر يُوفّى بأشكال مختلفة في تلك السنوات، واستمرّت الحالة على هذا النحو؛ حتّى أنّه في السنوات الأخيرة كان يذبح خروفًا ويصنع منه حساءً، فأصبح ذلك مرسومًا يجري، ويبدو أنّه لا يزال كذلك حتّى الآن. وبعد ارتحال المرحوم العلّامة، وفي الذكرى السنويّة الثانية على ما يبدو، تقرّر أن تُنقل هذه المراسم مِن بيت المرحوم العلّامة إلى مكانٍ آخر، فقلتُ لهم: إنّنا نجتمع هنا لأنّ المأدبة تُقام في بيت المرحوم العلّامة، فإن انتقلت إلى مكانٍ آخر فلن أحضرها، فانزعج الآخرون مِن طرحي هذا. فقلتُ: لقد جرت العادة مِن زمن المرحوم العلّامة على هذا النحو، فلماذا لا تستمرّ عليه؟! وبسبب اعتراضي هذا أُقيمت المراسم في تلك السنة في بيت المرحوم العلّامة، ثمّ نقلوها إلى مكان آخر في السنة الّتي تلتها على ما يبدو، ولم أحضرها.
قال لي الأصدقاء ورفقاء الطريق: أصدقاؤنا في مشهد يُقيمون هذه المراسم سنويًّا ويستفيدون منها، ونحن نطلب منك أن تُقيم لنا مراسم بمناسبة ولادة السيّدة الزهراء سلام الله عليها، فلتُقم مأدبةٌ يُقدّم فيها الحساء وما شابه ذلك. فقلتُ لهم: كلّا، فلأيّ سبب أقيمها، فأنا لم أنذر نِذرًا كهذا. قالوا: ولكن هذا الأمر يجري هناك باعتباره مناسبة. فقلتُ: إن كان يجري هناك كمناسبة، فليجرِ، فهل نحن موظّفون لكي نلتزم بأيّة مراسم تُقام هناك. قالوا: ولكنّ المرحوم العلّامة كان يقيمها. فقلتُ لهم: إنّ المرحوم العلّامة قد ارتحل عن الدنيا.
أتلاحظون كيف أنّ الأمر في غاية الأهميّة والدّقة! فعلى الإنسان أن يكون حذرًا جدًّا حتّى لا يُخدع! إنّ ما كان يقوم به المرحوم العلّامة، متعلّق به هو، أمّا بالنسبة لي، فأنا لست سوى طالب علمٍ لا أختلف عن غيري مِنَ الطلّاب، وحسابي منفصل عن حساب المرحوم العلّامة. فإن نذرتُ نذرًا فذلك أمر خاصّ بي، أمّا أن أربط نفسي بأفعال المرحوم العلّامة، فليس لهذا مكان في مدرسته، وليس مِنَ المعلوم إن كانت المفاسد المترتّبة أكثر مِنَ المنافع.
ولهذا السبب قلتُ إنّ الله والأئمّة والدين والتكليف الشرعيّ، أصبحوا أدوات ووسائل يستعملها البعض للوصول إلى الأماني والأهواء النفسيّة. فالأمر المهمّ في مدرسة المرحوم العلّامة هو الوصول إلى حاقّ المسألة وحصول الفهم الصحيح، فمَن يكون ذا فهم لن يستطيع أن يتخلّى عن أمير المؤمنين بعد ارتحال رسول الله، وإلّا [فلو كانت مشاهدة المعجزة كافية] فقد رأى الجميع المعجزات بأنفسهم.
خطورة الإصرار على الخطأ
إنّ مَن لديه فَهمٌ [سيكون كالرجل الّذي أرسلت إليه عائشة تدعوه لنصرتها في حرب الجمل]۱، حيث قال في جواب عليها: لو وقف جميع أهل العالَم في جانب، ووقف علِيّ في جانب آخر، فلن أتخلّى عنه. وعندما سُئل عن السبب، قال: لأنّني سمعتُ النبيّ يقول: «علِيٌّ مع الحقّ والحقُّ مع علِيّ، الّلهمَّ أدر الحقَّ معه حيثما دار»٢. أي إنّ علِيًّا والحقّ قرينان لا يمكنهما الافتراق، فلا الحقّ يمكنه الانفصال عن علِيّ والانحياز إلى مكانٍ آخر، ولا لعلِيّ أن ينفصل عن الحقّ أيضًا. اللهمّ أدر الحقّ مع عليّ حيثما [دار]، سواء في مشيه أو في قعوده أو قيامه، هذا ما سمعته مِنَ النبيّ، وفي هذا الكفاية. هذا ما يُسمّى بالفَهم، الّذي يعني اليقين بأمر معيّن؛ فلا شكّ بأنّه سمع هذا مِنَ النبيّ، ولا شكّ في صدق كلام رسول الله، وبهذا تكون [الُحجّة] تامّةً.
كما أنّ الآخرين سمعوا نفس هذا الكلام [مِنَ النبيّ]، لا أنّهم لم يسمعوه، ولكن لماذا لم يستقيموا عليه؟ تراهم يقولون: إن أذعنّا لذلك، سيُقاطعنا الآخرون، ولن يُسلّموا علينا بعد ذلك، وإن أردنا أن نتعامل معهم سيُديرون لنا ظهورهم، وإن أردنا إنجاز أمر فسيقطعون لنا علاقاتنا الداخليّة، وإن حصل كذا، وإن حصل كذا، إلى آخره مِن أمور! [وبقوا على هذا المنوال] حتّى تطوّرت بهم الأمور فقطعوا رأس ابن بنت النبيّ! فإنّ الّذي أوصلهم إلى هذا الحدّ هو تريددهم عبارات: إن حصل، وإن حصل!
عندما وقف سيّد الشهداء يعظ القوم في كربلاء، لم يتمكّن أحد مِنَ الردّ عليه. نعم، لم يتمكّن أيّ شخص أن يردّ على الإمام الحسين عليه السلام. فقد قال لهم الإمام: أخبروني هل حرّمتُ حلالًا، أو حلّلت حرامًا، فما الّذي ارتكبته، فأنا ابن رسول الله، ولا بدّ أن أقف بوجه يزيد، لأنّه وصل إلى الخلافة غصبًا. فلو استطاعوا الإنكار [حينها] لقالوا: إنّ يزيد خليفة بالحقّ، وهذا مُثبت في وثيقة الصلح. [ولكن لمّا كان هذا الكلام غير صحيح وكانوا عاجزين عن محاججة الإمام] سكتوا.۱
وعليه، فإن لم يكن لديكم ما تجيبون به، فتعالوا واقبلوا الحقّ أيّها الناس. لماذا لم يقبلوه؟! ما هو السبب وراء عدم القبول؟! وما هو العامل الّذي أوجد هذا المرض في الإنسان، هذا المرض الّذي يُخرسه عن الإجابة مِن جهة ويمنعه مِن قُبول الحقّ مِن جهة أخرى؟! إنّ الأمر يشبه تمامًا الأوضاع الّتي نعيشها الآن، فلا فرق بين الحالتين، إلّا أنّ تلك الأرض كانت أرض كربلاء وحصل فيها قتل الإمام الحسين؛ كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء٢، فها هو يحصل للناس كلّ يوم.
كان المرحوم العلّامة كثيرًا ما يردّد هذه العبارة، وهي: لا تتصوّروا أنّ الامتحان يأتي على هيئة غول بلا قرون ولا ذَنَب، فيتعرّض له الإنسان مرّة أو مرّتين في أوقاتٍ محدّدة، كلّا، بل نحن نمرّ بامتحان في كلّ لحظة مِن لحظات حياتنا، فإن تمكّن أحدنا أن يتجاوز إحداها، تأتي الّتي بعدها، وإن لم يستطع ذلك سيتوقّف في مكانه ويفقد الاستعداد لمواجهة الموضوع اللاحق. وعندما يتوقّف الإنسان سيقول له الله: ما دمت قد توقّفت، فسأختم عليك بختم يجعلك غير مستعدّ لتقبّل الأمر اللاحق. ثمّ تأتي مسألة أخرى، فتراه أيضًا غير قادر على تقبّلها، فيُختم عليه بختم آخر فوق الختم الأوّل، ثمّ يأتي الامتحان الثالث، وهكذا تتوارد الامتحانات حتّى يصل إلى درجةٍ تجعله لا يقبل الحقّ مهما تكلّمتَ معه، أي إنّ الكلام لم يعد يدخل أذنيه مهما تكلّمت معه، فكيف بالتفكير في محتواه! لماذا أُصيب بهذه الحالة؟ لأنّه أصبح مُغلقًا.. كان عليك أن تزن الكلام أيّها الأحمق، وتعرضه على المعايير والموازين، نعم، كان عليك أن تتفحّص الأمر منذ البداية، لكي لا تصل إلى درجة تجعل الله يُلقي عليك الغشاوة تلو الأخرى، بدلَ أن تجعله يُزيلها عنك.
السلوك يُبنى على العِلم المقترن بالمنطق والملازم لليقين
الأمر المهمّ في مدرسة عرفان المرحوم العلّامة، هو: أن يكون أمر الإنسان مبنيًّا على أساس العِلم المقترن بالمنطق والملازم لليقين، وهو اليقين الّذي لا يتحصّل بالمكاشفة والمنام وما شابه ذلك. فعلى الإنسان أن يجعل أساس بنائه مرتكزًا على اليقين، وأن تُختَم نفسه بهذا اليقين، وحينئذ سيكون منامه متناسبًا مع هذا الخَتم. نعم، إن حصل هذا اليقين واستقرّ في النفس ومضى الإنسان على أساسه، فسيتشكّل منامه بهذه الشاكلة، وسيُريه الطريق الصحيح، وكذلك الحال بالنسبة للمكاشفة. أمّا إن لم تكن نفسه قد صِيغت على اليقين، فسيغرق في الخيال، وسيتّبع الشعارات، وسيتّبع الطرف الّذي يكون لديه أتباع كُثُر، فتراه يقول: ما دام أتباع هذا الطرف أكثر، فلا بدّ أن يكون الحقّ معهم؛ مثلًا إن رأى أنّ الفريق الأوّل يضمّ عددًا أكبر مِن أقارب المرحوم العلّامة، أمّا الطرف الآخر فلا يوجد فيه سوى فرد واحد مِن أقاربه، سيقول: لا بدّ والحال هذه أن يكون الحقّ مع ذاك الطرف الّذي فيه عدد أكبر. وقد قيل مثل هذا الكلام بالفعل، ولكن هل يوزن الحقّ بميزان الأثقال يا عزيزي؟!
عندما تنظر إلى ما يجري، ستجده – لا أقصد التشبيه الحرفيّ هنا، فأنا لا أتجاسر، ولكن مِن حيث المبنى فهو واحد – شبيهًا بما حصل في معركة الجمل، حيث كان الناس يقولون: انظروا، ها هي عائشة زوجة النبيّ، وها هم طلحة والزبير بتلك العمائم الكبيرة واللِّحى الطويلة يقفون في هذا الطرف، أمّا في الطرف الآخر فلا يقف فيه سوى علِيّ وهو مجرّد صهر النبيّ، حيث يمكن لأيّ شخص أن يصير صهرًا للنبيّ [وهذا لا يُقاس] بعائشة الّتي هي زوجة رسول الله! فخُدعوا بذلك، نعم، هكذا خُدِع أولئك المساكين!
إنّ هذا المنطق هو منطق التصوّر والخيال والوهم، ولهذا السبب نرى كيف تتبدّل العبارات بعد مضيّ سنوات، فالّذين كانوا يُنعتون بالظلمانيّين، صاروا الآن يوصفون بالنورانيّين! يا للعجب! ما الّذي جرى، فقد كانوا [حتّى الأمس] ظلمانيّين وجهنّميّين؟! [فتراهم يقولون:] كلّا، بل مسيرهم صائب. [أقول] يا للعجب! فأين ذهبت كلّ تلك المنامات والمكاشفات [الّتي دلّتكم على خلاف ذلك]؟! أتلاحظون كيف تجري الأمور؟! يجب على الإنسان أن يكون صامدًا عند مواجهة بعض الأحداث والهزّات والتقلّبات في الأوضاع، وأن لا يخشاها.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام «أيّها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله»۱، أي لا تشكّوا أبدًا لقلّة سالكي هذا الطريق، ولا تظنّوا باطلًا لقلّة العدد في هذا الجانب وكثرته في الجانب الآخر.
الالتزام بدساتير الأولياء نجاة للسالك
لا أدري إن كنتُ قد نقلت هذه الحكاية في ذلك المجلس أم لا؛ نحن لم نكن مأذونين في المشاركة في التظاهرات الّتي كانت تحصل أيّام الثورة على النظام السابق، أي نظام ملك إيران السابق، فلم يكن المرحوم العلّامة قد أمرنا بالمشاركة فيها، لذا لم نكن نشارك. نعم، أنا لم أشارك ولو مرّة واحدة في تظاهرات ما قبل الثورة، أمّا في فترة ما بعد الثورة، فقد شاركنا في المظاهرات بتوصية مِنَ المرحوم العلّامة، كما شاركنا في غيرها مِنَ الأنشطة، كالاستفتاء٢ والانتخابات، فكنتُ مسؤولًا في أحد المراكز الانتخابيّة في انتخابات مجلس خبراء الدستور على ما يبدو، وكان المرحوم العلّامة يتواجد بنفسه في المسجد [الّذي استُفيد منه كمركز انتخابيّ]. فما دامت الثورة قد حصلت، وما دام هذا النشاط يساعد الإسلام، شاركنا فيه بقدر استطاعتنا، فكنّا نشارك في التظاهرات ونحضر صلاة الجمعة. أمّا ما قبل انتصار الثورة، فلم نشارك [في التظاهرات] إذ لم يكن لدينا إذنٌ مِنَ المرحوم العلّامة في ذلك.
قال لي أحد الأصدقاء: كنتُ جالسًا في البيت في اليوم الّذي حصلت فيه أحداث ساحة (ژاله)، والتي سُمّيت فيما بعد بساحة الشهداء، فرأيتُ سيلًا مِنَ الناس يتحرّكون مِن ساحة البروجرديّ إلى شارع الانتصار، وكانوا يردّدون الهتافات، فقلتُ في نفسي: يا للعجب، إنّ هؤلاء الناس يتحركون الآن مِن أجل الإسلام، وأنت جالس في بيتك تتفرّج عليهم. فوقعتُ بين أمرين: فمِن جانبٍ لم نكن مأمورين مِن المرحوم العلّامة بالمشاركة، ومِن جانب آخر، أرى بعيني السيل المتلاطم مِنَ الناس يسيرون إلى مجزرة في جوٍّ مشحون ومضطرب ومشوّش. فتساءلتُ: هل يمكن أن يكون هذا الجمع مِنَ الناس على باطل؟ ثمّ رجعت وقلتُ في نفسي: ولكن المرحوم العلّامة لا يمكن أن يكون على باطل أيضًا. فكنتُ مَركزًا للتجاذب بين هذين القطبين، إلى أن قلتُ أخيرًا: سأسير معهم مسافة، فإن كان تكليفي يتطلّب ذلك، فأكون قد أدّيتُ تكليفي هذا. ثمّ يقول: خرجت مِن بيتي ونزلت معهم إلى الشارع، ومشيت معهم خمسمئة خطوة، ثمّ عدت إلى المنزل. فقلتُ له: لقد خطوت خمسمئة خطوة في طريق الباطل. قال: وكيف ذلك؟ فقلتُ: لو سألتَ المرحوم العلّامة الآن عن تلك الخطوات، إن كانت بإذنه أم لا، فهل سيقول لك: كلّا، لم تكن بإذني، أم سيقول: نعم، حصلت بإذني؟! فإن كان ذلك بإذن منه، فلماذا لم أعرف أنا به؟! حينئذ سيكون مِنَ المعلوم أنّ ذلك لم يحصل بإذن منه. [وأسألك:] هل أنت أعلم بأمور الدين وبالمصالح والمفاسد، أم الّذي اخترتَه كأستاذ لك، [واعتقدتَ به] مشرفًا على كافّة الأوضاع ومطّلعًا على كافّة الأمور؟ فأيّ الطرفين على حقّ: أأنت الّذي لا تستطيع أن تميّز بين الهِرّ والبرّ، أعرف بجواز المشاركة، أم أستاذك؟! ثمّ هل أستاذك فاقد للعطف والرحمة والشفقة حتّى يمتنع عن إخبارك بما هو في صالحك؟! لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الشكل، وعليه، فاعلم أنّ الخمسمئة خطوة تلك، كانت باطلة، وكانت بدون استئذان وبدون ارتباط، فالخطوة المفيدة هي الخطوة المُرتبطةُ والمؤيَّدةُ والممضاةُ مِنَ الجهات العليا، وإلّا فباستطاعة أيّ شخص أن يخطو خمسمئة خطوة في هذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه المعاكس، فالسير هو سير في النهاية.
إنّ الله يضع في طريق المرء أحداثًا ليختبره بها، وبواسطتها يستطيع الإنسان أن يعرف وضعه الفعليّ، ومدى استقامته في هذا الطريق، ومدى عدم استقراره عليه.
على الإنسان أن يضع علمه وفهمه في بوتقة الاختبار
أتذكّر الوقت الّذي كان يصادف – على ما يبدو – أيّام شهر محرّم، عندما أعلنوا الأحكام العرفيّة، كنتُ مدعوًّا حينها في اليوم الرابع أو الخامس مِن شهر محرّم إلى بيت أحد أقاربنا، وعندما دخلتُ المنزل وجدت جوّ المنزل ملتهبًا وهائجًا وغير عاديّ، فكان الجميع يتحدّث عن التظاهرات، وكان الهاتف مشغولًا باستمرار، فكانوا يعملون على إحصاء عدد القتلى والشهداء الّذين سقطوا؛ فتراهم يتّصلون بمكان ما، فيقولن لهم: قُتل أربعة في الشارع الفلاني، فيقولون: يا للروعة، فقد بلغ العدد تسعة عشر! وعندما يتصلون بمكان آخر، يقولون لهم: قُتل اثنان في المكان الفلاني، فيقولون: ها قد أصبح العدد واحدًا وعشرين، يا للحُسن يا للحُسن! أمّا أنا فكنتُ أتأثّر بشدّة ممّا أراه، فكنتُ أعلم أنّه في كلّ خسارة تحصل، يعمّ الحزن عائلة مِنَ العوائل، وما يستتبع ذلك مِن أمور. هذا في الوقت الّذي كان الفرح والضحك والسرور والنشاط يعمّ هذا البيت.
عندما رأيتُ الأمر على هذه الشاكلة، قلتُ لهم: أضيفوا إلى الإحصائيّة خمسة عشر ممّن سقطوا في منطقة (سرچشمه)، فقد سمعتُ باستشهاد عشرة أو اثني عشر شخصًا هناك. حيث كان طريقي يمرّ مِن تلك المنطقة، وأيّة مناظر قد واجهتُ هناك! فقلت لهم: أضيفوا خمسة عشر إلى إحصاءاتكم! فوصل العدد في النهاية إلى ثلاثين أو أربعين أو خمسين، فرفعتُ الإحصائيّة بذلك، وزدتُ مِن نشاطهم وفرحهم وسرورهم! قلتُ: حسن جدًّا، إنّ هذا يدعو إلى مزيد مِنَ الابتهاج والسرور! فعدد الشهداء يرتفع بحمد الله! وهذا يزيد في عِزّة الإسلام، ويُعجّل في تحقيق الأهداف، فلعلّ هذا ما كان يبعث النشاط والشغف والسرور في نفوس هؤلاء السادة! فكلّما ازداد عدد الشهداء، فمِنَ الطبيعيّ أن يُعجّل ذلك في الوصول إلى الهدف!
استمرّ الأمر على هذا المنوال، وفي حدود الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، امتدّت المظاهرات إلى الشارع الّذي يقع فيه المنزل الّذي نحن فيه، وكنتُ أسمع أصوات الضرب والاشتباكات، حتّى وصلت إلى قرب المنزل ثمّ تجاوزته، فأحد الموجودين في المنزل أصابه انفعالٌ عاطفيّ، فنزل إلى فناء البيت وصاح: الموت للشّاه، الموت للشّاه. وما إن فعل الرجل ذلك، رأيتُ أحد أفراد البيت سارَ بسرعةٍ عجيبةٍ وقفز مِنَ الطابق العلويّ إلى الأسفل بطرفة عين، بدون أن يستخدم السلّم، وأمسك فم الرجل وقال له: ماذا تفعل، سيأتون ويقتحمون المنزل!! فقلتُ: يا للعجب، يا له مِن أمر عجيب جدًّا! أليس في زيادة عدد الشهداء زيادة في عِزة الإسلام؟! فدعه يُضاف إلى بقيّة الشهداء، أليس الموت والشهادة صلاحًا لبقيّة الناس؟! لاحَظوا الأمر الّذي وقعوا فيه! ألاحظتم كيفيّة المسألة؟!
إن كان استشهاد مزيد مِنَ الناس يعجّل في الوصول إلى الهدف، فما المانع أن يكون هذا الرجل مِنَ الشهداء أيضًا، بل هذا أفضل، لأنّ الرجل كان عالمًا ومعمّمًا، فسيُقال حينئذ: إنّ فلانًا السيّد الجليل قد استشهد في أحداث الثورة أيضًا! فلماذا تمسك بفمه، والحال أنّك تستبشر وتضحك عندما يحصل هذا لغيره مِن الناس!!
هذه هي الامتحانات الّتي يتعرّض لها الإنسان، فيُختبرُ بها خلوصه وصفاؤه في محكمة القضاء والعدل الإلهيّ، فيتّضح هناك الخلوص مِن عدمه، ويتّضح إن كان تقييمك للمجريات هو لغرض في نفسك أم لشيء آخر، وهل كان الأمر متساوي الطرفين لديك بحيث لو حصل لك أو لغيرك فهو سواء؟
على أيّة حال، هذا أمر في غاية الأهميّة، وعلى الإنسان أن يضع علمه وفهمه في بوتقة الاختبار فيما يتعلّق بالمسائل السلوكيّة، وبغيرها مِنَ الأحداث الّتي يواجهها، وأن يطلب مِنَ الله البصيرة في الطريق الّذي يسلكه، وأن يوسّع إدراكه للحقائق، فهو لن يُسأل عن المنام أو المكاشفة في يوم القيامة، بل سيُسأل عن يقينه، ومدى عَمله بموجب يقينه أوّلًا، فإن قلتَ في ذلك اليوم إنّك رأيت منامًا، فعملتَ بموجبه. سيقول لك اللهُ: في أيّ آية مِنَ القرآن جَعلتُ المنام أو المكاشفة حجّةً لكي تعمل بموجبها؟! فأنا لم أجعلهما حجّة عليك، بل كنتُ قد جَعلتُ العِلم واليقين حجّة عليك، {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}۱، فقد جعلتُ هذه الآية حجّة عليك، ولكنّك لم تعمل بمقتضى ما وصلك مِن عِلم، بل عملت بمقتضى المنام! وأيّ منام؟! كان منامًا قد رآه غيرك، فغيرك هو الّذي رأى المنام أو تخيّل أمرًا وفهمه بهذه الطريقة! [فكان أمرك مبنيًّا على] ما رآه وشاهده الغير! لا يمكن أن يستقيم الأمر بهذا الشكل، نعم، لا يمكن أن يستقيم.
هل حصل لك يومًا أن اعتمدت على منام لتراجع الطبيب؟! كأن تُأمر في المنام بمراجعة الطبيب الفلاني، وعندما تذهب وتقرأ اللوحة الّتي تحمل اسمه واختصاصه، تجد أنّه متخصّص في الأمراض الباطنيّة أو الجلد، والحال أنّك تحتاج إلى جرّاح قلب. ففي هذه الحالة، هل ستراجع هذا الطبيب أم ستتّهم منامك [بالبطلان] قائلًا: لعلِّي شربتُ حساءً قبل النوم، أو لعلّي رأيتُ هذا المنام في فترة ما بعد الظهر؟! هل كنت ستقول هذا، أم ستذهب إليه وتقول له: خذ المشرط واجر العمليّة الجراحيّة [والحال أنّه متخصّص في غير مرضك]؟!
وعليه، فهل السلوك أقلّ أهميّة عندك مِن ألمٍ أو مرض؟! إنّ الأمر يتعلّق هنا بوضع الدين والشرف والدنيا والآخرة بيد شخص آخر، فهل بسبب منام رأيته ستقول لهذا الشخص: خذها بأجمعها، فقد جعلتها تحت تصرّفك؟!
لو كنت تنوي بيع كرسيّ أو أريكة، ورأيت في المنام مَن يقول لك: بعها إلى فلان، ثمّ جاءك نفس ذاك الشخص وأعطاك صكًّا بدل النقد، ألن تقول له حينها: بل أريدها نقدًا. فإن قال لك: ألم تر ذلك في منامك؟! فستقول له: كان ذلك في المنام، أمّا في اليقظة فأنا أريد المبلغ نقدًا. فأنت لا تعتمد على منامٍ في بيع كرسيٍّ، فكيف لك أن تعتمد على منامٍ قد رآه غيرك فيما يتعلّق بالسلوك والذِّكر والطاعة وغيرها؟!
كلّ ذلك باطل، وسيُسأل الإنسان عنه. هذا فيما لو لم يكن هناك دليل يدحض تلك المشاهدات، فكيف إن وُجِد مع ذلك دليل على بطلان تلك المشاهدات وبطلان الطريق الّذي يسير فيه، فستكون المشكلة كبيرة جدًّا حينئذ.
بناءً على ما سبق؛ لا يصحّ للإنسان أبدًا في المراحل الأولى مِن طيّ الطريق أن ينظر إلى غير ما حدّده العظماء مِن موازينٍ تفصل بين الحقّ والباطل، والموازين الّتي يحكم بها العقل أيضًا.
نسأل الله أن يوفقنا دائمًا لِمَا يُرضيه، ويُجنّبنا ما يُسخطه، ويصوننا مِنَ الانحراف عن مسيره والتوقّف عن السير، وأن يحفظنا مِن كلّ أشكال الاعوجاج، وأن يزيد توفيقنا، وأن يزيدنا بصيرةً في سلوكنا ومعالم ديننا.. فليس هنالك شيء أهّم مِن هذا التوفيق ليأخذ بيد الإنسان.. ونسأل الله أن يزيدنا ارتباطًا – يومًا بعد يوم – بمقام الولاية الكبرى لبقيّة الله (أرواحنا لتراب مَقدمه الفداء)، وأن يجعل اللجوء والتوسّل بالإمام هما الوسيلة الوحيدة لحركتنا وصعودنا في طريق التقرّب إليه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد