المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
هو العليم
الصدق أساس التكامل
المرأة والأسرة - قم - الجلسة الثالثة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
إن كان لدى السيّدات سؤال يتعلّق بما تمّ طرحه في المجلس السابق – وإن كان قد مضى على ذلك وقت طويل – فليتفضّلنَ بالسؤال.
لا يُطوى الطريق بالكذب والغشّ
وصل بنا الحديث إلى أنَّ العامل الأساسيّ لتكامل الإنسان هو الصدق. والصدق يعني أن يكون الإنسان صادقًا في علاقته مع ربه، وعليه أن يحتفظ بهذا الصدق في جميع مراتب ومراحل السلوك، وذلك لأنَّ الفَرق بين الصدق والكذب، وبين الصدق والنفاق، هو كالفرق بين الحقيقة والمجاز.
إنَّ الحقيقة تعني الواقع، أي هو الشيء الّذي له وجود خارجيّ، أمّا الكذب والباطل فهو ما يكون خلاف الواقع. إنَّ ما له واقع وحقيقة خارجيّة هنا هو النور، أمّا عكس ذلك فهو الظلام؛ فإن انعدم النور فسيكون للظلام واقع، والعكس [صحيح؛ فإن انعدم الظلام] فيكون النور هو الواقع. ولمّا لم يكن هناك تفاوت بين الواقعيّة والحقيقة في الخارج، فأينما وجدت الحقيقة والواقع كان هنالك الحقّ، وحيثما انعدمت يكون الباطل. لذا على الإنسان أن يطابق نفسه مع الحقّ والواقع دائمًا. وهذا هو معنى الصدق.
والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن للإنسان أن يطوي الطريق إلى الله بالكذب، والحال أنّ الله هو الحقّ المحض والواقع المحض وليس للكذب والخداع والمكر والحيلة والنميمة والنفاق والغش مِنْ سبيل إليه، والحال أيضًا أنّ فعل الله هو الحقّ المحض والصدق المحض والعدل المحض والرحمة المحضة؟! فهل يمكن أن يحصل هذا الشيء؟!
خذوا على سبيل المثال طهران الّتي تقع شمال مدينة قمّ، فالطرق إليها معلومة لكم، فهناك طريقان هما: الطريق القديم والطريق الجديد، فهل يمكن لمَنْ يريد أن يصل إلى طهران أن يسلك غير هذه الطُرق، هل يمكن ذلك، كأن يسلك طريق الجنوب بدلَ طريق الشمال! لا يمكن ذلك، لأنَّ طُرق الجنوب تؤدِّي إلى مدينة أصفهان أو كاشان. [فمِنَ الخطأ] أن يُقال: إنَّ الطريق طريق في النهاية، فإن كان هذا معبّدًا فذاك معبّد أيضًا، وإن كان طول هذا مائة كيلومتر مثلًا فذاك مِثله.. لماذا هذا الكلام خاطئ؟ لأنَّ الطريق الّذي سيسلكه الآن لن يوصله إلى الواقع بل سيبعّده عنه، فإن أراد أن يصل إلى الواقع والحقيقة، كان عليه أن يأخذ طريقًا آخر ألا وهو طريق طهران [مثلًا].
فما أريد قوله هو: ضرورة أن يراعي الإنسان الصدق في جميع الأحوال، يعني أنَّ الطريق إلى الله لا يقبل الكذب أساسًا، فالله ليس كذبًا بل هو الحقيقة المحضة والواقع المحض، فهل يمكن لنا – والحال هذه – أن نصل إلى هذا الواقع بالخداع؟! وعلى مَنْ سيرتدّ هذا الخداع؟ إنَّه سيرتدّ علينا نحن.
رأى أحد الأشخاص يومًا منامًا وهو أنَّ أحدهم كان يصعد الدرج الموجود في بيت المرحوم العلّامة رضوان الله عليه ليصل إليه، حيث كان المرحوم العلّامة يجلس خلف المنضدة في غرفته مشغولًا بالكتابة، وكان أحد أبناء المرحوم العلّامة يصعد مع هذا الشخص على الدرج، فحاول هذا الشخص إزاحة ابن العلّامة ومنعه مِنَ الصعود حتّى يصل إليه وحده، فالتفت ابن العلّامة إليه وقال: أتريد أن تصل إلى العلّامة بإزاحة ابنه عن طريقك، فإنَّك لن تصل إلى مرادك أبدًا!
هل التفتم إلى حجم المسألة.. كان على هذا الّذي أراد الوصول إلى المرحوم العلّامة أن يعرف؛ أنَّ هذه ليست الطريقة الّتي يمكن أن يصل بها إليه، وهي طريقة على خلاف نهج وممشى المرحوم العلّامة، وأنَّ المباني والبرامج المُعطاة للأفراد لم تكن بهذا الشكل. فهذا الشخص كان قد أشغل خياله ببعض الأعمال، وابتهج بسيره الآن في الطريق الموصل إلى المرحوم العلّامة، غير عالم أنَّه في كلّ خطوة يخطوها في هذا الطريق فهو يبتعد عنه، لماذا؟ لأنَّ المرحوم العلّامة حقّ، ولا يستطيع أحد أن يخدعه ويغشّه. نعم، لا يوجد مَنْ يستطيع ذلك.
كنَّا يومًا نحضر مجلس عصر يوم الجمعة، وعند انتهاء المجلس قام صاحب المنزل بتقديم الفاكهة، وعلى ما يبدو أنّها كانت مِنْ نوع البرتقال، فوضع برتقالة أمام كلّ واحد مِنَ الحاضرين. وكان أحد الحاضرين يجلس على مقربة مِنَ المرحوم العلّامة، حيث كانت بينهما فاصلة، فأكل هذا الرجل برتقالته، وكنت أرى ذلك، وعلى ما يبدو كان الشخص الّذي يجلس إلى جانبه صائمًا، فلم يأكل برتقالته حتّى يحلّ الأذان، فما إن قام هذا الثاني ليؤذّن، ألقى الأوّل نظرة على المرحوم العلّامة فرأى أنَّه لا ينظر إليه، فأخذ برتقالة [الصائم] وقشّرها وأكلها، ورأيتُ المرحوم العلّامة ينظر إليه خفية. فكان عبد الله هذا يعتقد أن العلّامة رجل عاديّ لا يعرف شيئًا. أتلاحظون! وها نحن نفعل الشيء نفسه، فنظنَّ أنّه باستطاعتنا أن نخدع العظماء، فنكون بذلك كالنعامة الّتي تدّس رأسها في الرمال ظنّا أنّ أحدًا لن يراها. ولكن ما هي نتيجة سلوك هذا الطريق؟ نعم لقد حصلت النتيجة ونال الشخص عاقبة أمره.. نسأل الله أن يهدينا جميعًا.
إنَّ طريق الله هو طريق الحقّ، فلا يمكن لأحد أن يطوي هذا الطريق بالكذب. هل يصحّ أن يراجع المريضُ طبيبًا، فيصف له دواءً مناسبًا، ثمّ يذهب إلى الصيدليّة فيشتري دواءً آخر ويشربه بدل الدواء الموصوف؟! فإن فعل هذا ماذا سيحصل حينئذٍ؟ إنَّه سيهلك لأنَّه تناول دواءً غير مناسب. فإن كان هذا النوع مِنَ الدواء هو المناسب لهذا المرض، فلا يمكن أن يُستبدل بدواء آخر.
كيف ينبغي أن تحاكم النفس نفسها
مِنْ أجل هذا كان العظماء يؤكّدون دائمًا على ضرورة أن يراعي السالك الصدق في علاقته بربه، وعليه أن يحدّث نفسه بهذا كلّ يوم. وما الّذي يعنيه حديث النفس هذا؟ إنَّه يعني أن يجلس الإنسان ويفكّر في أمر نفسه. إنَّ الإنسان يقوم بألف عمل مِنَ الصباح إلى المساء، وكثير منها أعمال غير مفيدة، فلنخصّص نصف ساعة أو حتّى ربع ساعة مِنَ هذا الوقت لنختلي فيه مع الله ونفكّر في ما نقوم به مِنْ عمل الآن أهو صحيح أم غير صحيح. وليضع الإنسان نفسه مكان الآخر ثمّ يقضي في الأمر. ويمكننا القول أنَّ مِنْ شأن هذا البرنامج أن يقرّبنا مِنْ عالم الواقع والحقيقة بشكل تدريجيّ. فعلى الإنسان أن يراجع نفسه وينظر إلى صفاته، ويراجع كيفيّة تعامله مع الآخرين وتعامل الآخرين معه، ويورد على نفسه ما يُشكله على الآخرين فيقول: لعلّ الآخرين يستشكلون علَيّ بمثل ما أستشكل عليهم. فعليه أن لا يكون وحده القاضي وصاحب الدعوى ومُصدر الحكم.
قلتُ لأحد الأصدقاء يومًا: هل ترى مِنْ عيبٍ في تصرفاتي؟ فقال لي: ما هذا الكلام يا سيّدي، فإنَّك تعمل على كسر نفسك. قلتُ له: إن كان لديك جواب صالح فأجبني يا عزيزي، وإلّا طلبتُ ذلك مِنْ غيرك، وها أنا أسألك بكلّ جدّية، إن كنتَ ترى مِنْ عيبٍ في تصرّفاتي فأخبرني به لكي أعالجه، فأنا لا أكسر نفسي ولا أتواضع أمامك بل أريد أن أرفع العيوب عن نفسي.
أتلاحظون! فإنَّ مَنْ يسعى للقضاء على نقائص نفسه هو الرجل الموفّق، لا ذاك الّذي يحمرّ وجهه وينفعل عندما يُنتقد، فإن كنّا كذلك فمتى تُرفع نقائصنا، إذ مِنَ الممكن أن تخفى علينا بعض النقائص والحال أنّ الآخرين مطّلعون عليها أكثر منَّا لكونهم ينظرون إليها مِنَ الخارج بنظرة أخرى.. فما المانع مِنْ ذلك؟ فقال لي ذلك الرجل: إن كان الأمر بهذا الشكل، فلديّ ملاحظات على بعض الموارد، ولكن اسمح لي أن أكتبها لأنَّني أستحي أن أواجهك بها. قلتُ له: لا بأس بذلك، اكتبها إذن. فكتب لي رسالة مِنْ ثلاث صفحات مِنَ القطْع الكبير، قال فيها: لقد قمتَ في المناسبة الفلانيّة بهذا العمل الّذي لا أراه صحيحًا، ولقد غضبتَ في المورد كذا وأنا وجدتُ ذلك غير مناسب، ولقد طرحتَ موضوع كذا في المكان الفلانيّ وأنا أرى فيه إشكال، ولو كنتَ قد تعاملت في الموقف الكذائيّ بشكل آخر لكان أفضل.. على أيّة حال، فقد كتب وجهات نظره والّتي لم أقبل أيّا منها، لماذا؟ لأنَّني في عالمي الخاصّ بي كنت أرى أنّني أتيت بعمل صحيح، وليس مِنَ الضروريّ أن نتقبّل جميع مؤاخذات الآخرين كما هي، نعم إن كنّا نرى أنَّ تلك المؤاخذات صحيحة فعلينا أن نتقبّلها. أمّا بالنسبة لما ذكره فقد كان لي دليلي الخاصّ عن كلّ عمل مِنْ تلك الأعمال. ثمّ التقيتُ بذلك الشخص مرّة أخرى، فقلتُ له: لقد قرأتُ رسالتك، ألا يخطر على بالك موارد أخرى غير ما ذكرتَ؟ قال: لا. قلتُ له: لكي يتّضح لك الأمر فأنا قمت بالعمل الفلاني بهذا الدليل، وبالعمل الآخر بدليل كذا وكذا.. فاقتنع حينئذٍ. على الإنسان أن يقيّم نظرة الناس إليه، أي أن يرى كيف هي نظرتهم له.
ذكرتُ لكم هذه الحكاية يومًا حيث قلتُ أنَّ أحد الأصدقاء جاءني في حالة مِنَ الخجل والحياء يريد أن يطرح بعض المواضيع، فقلتُ له: قل ما عندك. قال: كتبت بعض المسائل، فهل تسمح لي أن أعرضها عليك؟ فقلتُ: هات ما عندك. قال: تحصل انقطاعات كثيرة بين الدروس الّتي تلقيها. ولو عملتَ بالطريقة الفلانيّة أو بتلك لكان أفضل.. فقلتُ له: حسنًا – ولقد قبلتُ اثنتين مِنَ المواضيع الّتي طرحها – نعم إن ما تقوله صحيح، وسأسعى إن شاء الله في إصلاحها. أمّا بقيّة المسائل الّتي عرضها فقدّمتُ له أجوبة مقنعة بشأنها.
ما المانع أن يحصل مثل هذا الشيء، ولماذا نتهرّب مِنْ هذه الأمور؟! إنَّ مَنْ يغلق على نفسه باب الاستماع إلى النقد، يكون قد أغلق على نفسه باب التربية. فلنا جميعًا أنفُس ولنا أخطاؤنا وعيوبنا، غير أنَّ تلك العيوب قد تكون مخفيّة في بعض الأحيان ولا تظهر وستبقى كذلك.
كنتُ قد نقلت هذه الحكاية قبل فترة فقلت: طرح أحدهم علَيّ بعض الأمور، وفي عين أنّها اشتملت على مطالب جيّدة ومفيدة وضروريّة شعرتُ أنّ كلامه يتضمّن أيضًا بعض الرسائل الّتي أراد أن يُوصلها، فلم تعجبني ملاحظاته تلك ولم أرَ النقاط المختفية بين السطور مناسبة. كان يريد أن ينبّهني على بعض الأمور بالإشارة مرّة وبالكناية مرّة أخرى، كقوله: يجب على الإنسان أن يكون بهذا النحو، وأن يرى نفسه أدنى مِنَ الجميع، وأنّ لا تسبّب له السنين الطوال الّتي قضاها في السلوك حالةً ما، لا سمح الله، وأنّ المرحوم العلّامة كان بهذا الشكل، وكنت أرى فيه هذه الصفات.. وأمثال هذا الكلام.
كنتُ مريدًا للمرحوم العلّامة على أساس الدليل لا المشاعر
إنَّ ما أقوله لكم ليس مزاحًا، فقد كنتُ مريدًا لوالدي، غير أنَّ ذلك لم يكن بسبب الاحترام والإعجاب. فأنا أُكنَّ له الاحترام والتقدير على الأقل، غير أنَّني لا أتّبع شخصًا وأميل إليه بدون دليل – لقد وصل الأمر بأحدهم أن يقول: إنَّ فلانًا لا يصلّي حتّى خلف جبرائيل – فما جعلني أعظّم المرحوم العلاّمة هو وجداني للحقّ فيه، نعم لقد وجدّت الحقّ بكافّة مراتبه فيه. أنا لا أتكلّم عن العدالة هنا، فهي مِنَ الأمور العاديّة والظاهريّة، بل رأيت فيه الحقّ بكافّة شؤونه وبكافّة مراحله ومراتبه، فلم يكن للنفاق مِنْ سبيل إلى حياته، ولم يكن النفاق ليخطر على باله، ولم يكن معجبًا بنفسه، ولا يرى تفوّقًا لنفسه على غيره أبدًا، ولم يكن يعرف الاستعلاء، ولم يكن يفصل حسابه عن حساب الآخرين، ولم يكن يُشغل نفسه بما نشغل به أنفسنا، بل لم تكن تلك الأمور تطرأ على مخيّلته أبدًا.
كنتُ أختبر المرحوم العلّامة في ذلك، نعم كنتُ أختبره دائمًا، ووضعته على المحكّ مرّاتٍ عديدة. فلم يكن الأمر بالشكل الّذي أقبل منه مباشرة كلّ ما يقوله، بل اختبرته ووجدتُ الصدق في الطريق الّذي يسلكه وفيه شخصيّا. فالأمر دقيق ومهمّ للغاية، فلا يمكن لشخص أن يصبح المرحوم العلّامة تلقائيّا، أي لا يمكن له أن يمتلك تلك الملكات وتلك الصفات هكذا. فهو عندما كان يقبّل يد الطفل ذي السنوات الخمس، فقد كان يرى نفسه أدنى منه حقّا، ولم يكن ذلك مِنْ باب التواضع، وهو لم يكن يفعل ذلك على مرأى مِنْ عامّة الناس فيأخذ يد الطفل الصغير ويقبّلها حتّى يقوم هذا وذاك بالتقاط الصور ونشرها فيُقال: انظروا إلى السيّد الفلاني كم هو إنسان جيّد، فهو يلاطف الأطفال. بل كان يفعل ذلك في الزقاق الخالي مِنَ المارّة حيث لا يراه أحد.
في أحد الأيّام مرّ طفل أحد رفقاء الطريق في الصباح الباكر أمام المرحوم العلّامة، فاستدعاه السيّد، وكان يرتدي عمامة خضراء على ما يبدو ويرشّ الماء – حيث كان يُشاهد أحيانًا وهو يرشّ الماء. وحصل هذا قبل عدّة أشهر مِنْ وفاته، ولعلّه قبل ستّة أو سبعة أشهر مِنْ وفاته – فبينما كان الطفل آتٍ مِنْ بعيد في طريقه لشراء الخبز بين الطلوعين، نادى [العلّامةُ] الطفلَ قائلًا: تعال إلى هنا. ثمّ سأله: كيف حالك؟ في أيّ صفّ في المدرسة أنت؟ وغيرها مِنْ أمثال هذه الأسئلة. ثمّ قال له: أعطني يدك. فأخذ يده يقبّلها. فعاد الطفل إلى المنزل وهو بحال عجيب وكأنّه انقلب رأسًا على عقب. إنَّ أباه وأمّه هما اللّذان حكيا هذه الحكاية. فقد حكى لنا أبوه هذه الحكاية فقال: رأينا الطفل حينها بحالٍ عجيبٍ، فقلنا له: ما الّذي حصل لك؟ كان يبكي. فقلنا له: قل لنا ما الّذي حصل لك. قال: بينما كنت أسير في الشارع استدعاني المرحوم العلّامة وقبّل يدي..
إنَّ المرحوم العلّامة لم يفعل ذلك أمام الناس.. فعلى أيّة حالة يدلّ هذا الأمر؟ إن جلس أحدنا وفكّر في الأمر لن يجد سوى أنَّ هذا الرجل – الّذي يبلغ الثانية والسبعين مِنْ عمره ولم يبق له في الحياة سوى عدة أشهر، ومع ما هو فيه مِنْ حال ومقام – كان يرى نفسه أمام الله في مقام أدنى مِنْ مقام هذا الطفل. أنا لا أقصد بقولي هذا أن أتجاسر عليه لا سامح الله، ولكن لولا أنّ حال الرجل كذلك ما كان ليتصرّف بذلك الشكل. على أيّة حال، فقد كان [العلّامة] يرى وجوب تعظيم ذلك الطفل ولزوم ووجوب احترامه. هكذا كانت سيرة المرحوم العلّامة، أمّا نحن فنقوم بنقل هذه الحكايات ثمّ نعمل بخلافها، ونتكلّم بهذا الكلام ونعمل بشكل آخر، وها نحن نحاول أن نُضفي على مجالسنا رونقًا بذكر مثل هذه الحكايات!
فائدة التراجع عن الخطأ
إنَّ الطريق إلى الله هو طريق الصدق، أي على الإنسان أن يُحاسب نفسه باستمرار، فيُحاسب نفسه على الكلام الصادر منه، ويُراجع نفسه ليرى هل ما قاله لذلك الشخص كان لتصفية حسابه الشخصّي معه أم كان لكسب رضا الله. فقد قلتَ شيئًا في نهاية الأمر وعليك أن تُراجع موقفك هذا، وبمجرّد أن تُفكّر في الموضوع وتجد أنَّ الغرض كان نفسانيّا سترى الشيطان يدخل الساحة فورًا ويهمس في أذنك قائلًا: احذر، لا تنسُب ذلك العمل إلى الأغراض النفسانيّة، فما هذا الكلام الّذي تقوله، اعلم أنّك بكلامك هذا ستعرّض نفسك إلى موقف مُخجل، وسيكون عليك أن تعتذر مِنْ ذلك الشخص، وهذا أمر قبيح، نعم سيكون مِنَ المعيب أن تُعرّض نفسك لمواقف مخجلة كهذه. هذا مِنْ جانب، ومِنْ جانب آخر، فإنَّ النفس اللوّامة ستلوم الإنسان وتقول له: أرأيت كيف أزعجت ذلك الرجل بكلامك، فصحيح أنَّك قد صفّيت حسابك معه ولكنّه تأذّى مِنْ كلامك. فما إن تحاول النفس دفع الإنسان ليذهب ويعتذر ويقول: لقد فعلتُ ما فعلت عن جهل، تراها تتراجع وتقول له: إيّاك أن تحطّ مِنْ مكانتك، فهو أمر قبيح، لأنَّ الرجل سيُخبر الآخرين بقدومك إلى بيته واعتذارك منه. وتقول له أيضًا: غير أنَّه كان يستحقّ منك ما فعلتَ، إذ كان لا بدَّ لك أن تواجهه بذلك الأسلوب. فيَرد الشيطان الميدان هنا، وتشتعل نار الحرب بين هذين الاتجاهين.
لقد مررتُ في هذه الأمور الّتي أحدّثكم بها بعد ارتحال المرحوم العلّامة، فقد تعرّضت لظروف كان لا بدَّ [على الطرف المقابل]؛ إمّا أن يتعامل بشكلٍّ معيّن، أو يعتذر. ولكن لم يتمّ الاعتذار بالرغم مِنْ وضوحِ الأمر وضوحَ أنّ ضرب الاثنين في الاثنين يساوي أربعة. لماذا لم يتمّ الاعتذار؟ لأنّهم لو اعتذروا، فسيُقال لهم: كيف ينسجم هذا الاعتذار مع ما قلتموه سابقًا؟! إنَّه لأمر عجيب حقّا، فإنَّ مثل هذا الفعل سيعمل عمل سدّ الاسكندر، فيُلقى بالله في الجانب الآخر مِنَ السدّ، ثمّ يقف الشيطان في هذا الجانب يضحك ويقول: لقد ألقيت بالله في الجانب الآخر مِنَ السّد، ولن تستطيع أن تصل إليه أبدًا.
كان عليك أن تعتذر أيّها السيّد، نعم كان عليك يا عزيزي أن تقف وتقول: يا أيّها الناس، إنَّ الحقّ في هذه القضيّة مع فلان، وأنا أعتذر عمّا صدر منِّي، فلم يكن الأمر كما قلت سابقًا. فإن اعتذر الإنسان فسيشعر بنشاط روحيّ، أمّا إن لم يعتذر فستحيط به الظلمة والكدورة وسيشعر بالضيق. إنَّ هذا الضيق هو عبارة عن الشيطان، وهو ذلك السّد وذلك الجدار، حيث يُلقي الإنسان بنفسه جانبًا وينفصل عن الله، فيبتعد عن الصفاء الّذي وهبه الله إيّاه، ويبتعد عن الإنسانيّة والصدق والحقيقة. ولهذا السبب لم يُوصَ في السير والسلوك بشيء كما أوُصي بالصدق، فعلى الإنسان أن يكون صادقًا، نعم على الإنسان أن يكون صادقًا.
إنَّني – كما قلت لكم سابقًا – أختار مواضيع السلوك الّتي تعني النساء خصوصًا، وإن كان أصل وأساس السلوك واحد لكلا الجنسين، غير أنَّه لمّا كان ظهوره متفاوتًا بين الرجال والنساء كانت بعض المواضيع أكثر تناسبًا مع طبيعة هذا المجلس لنتكلّم فيها.
كيفيّة التعامل مع الحقوق والأفكار والأحكام
جاءني أحد رفقاء الطريق في يوم مِنَ الأيّام وقال لي: كنت أريد الذهاب إلى المكان الفلاني لأنجز عملًا ما، غير أنَّ زوجتي خالفتني في ذلك قائلة: لماذا تذهب وتنجز عمل ذلك الشخص، لِمَ عليك أن تقضي حاجته، ولماذا يحصل هذا؟! قلتُ له: قل لزوجتك أنّه لو تطلّب الأمر أن أسافر لمدة أسبوع مِنْ أجل أن أنجز عملًا لأمّك، أكنتِ ستعترضين عليَّ؟! ولو أنَّني قررت السفر لمدة خمسة أيّام لأجل عمل يخصّ أقاربك، أكنتِ ستعترضين؟!
إنَّ هذا أمر دقيق ومهمّ؛ فلو كان ذلك الشخص محتاجًا للمساعدة، وفرّق الإنسان في كيفيّة تعامله بين أمّه وأخيه وأقاربه ونفسه مِنْ جهة وبين أحد عباد الله المؤمنين مِنْ جهة أخرى، فماذا سيقول الله هنا، ألن يقول له: لقد سجّلتُ هذه المؤاخذة عليك! قد يُجحف الإنسان بحق الآخرين أو يظلمهم أحيانًا، أو قد يقوم بعمل مِنْ تلقاء نفسه ووفق هواه، فلهذا حساب خاصّ به، وهذه المسألة تكون بنحوٍ... وأحيانًا قد يكون أحدهم فقيرًا ومحتاجًا للمساعدة بالفعل. ولقد شاهدنا الكثير مِنْ نظائر هذه القضيّة في زمن المرحوم العلّامة. أتلاحظون كم هو أمر مهمّ؟
إنَّ معنى الصدق الّذي نتكلّم عنه هو أن يضع الإنسان نفسه مكان الآخرين، فالقضاء الّذي يصدره بحقّ شخص ما سيعرض له في يوم مِنَ الأيّام بحق ابنته، فلو كان الشخص المعنيّ هو ابنته أو ابنه أو أحد أقاربه هل سيحكم في القضيّة بنفس الحكم؟
يُقال أنَّ قاضي المدينة قد جاء إلى بيت الميرزا تقي خان [المعروف باسم] أمير كبير۱ ليلًا، فتعجّب (أمير كبير) لمجيئه في هذا الوقت وأمر بإدخاله، وعندما دخل الرجل قال: ستتمّ مرافعة في الغد بين ابن أختك وبين شخص آخر، فجئت لأرى كيف علَيّ أن أجري هذه المحكمة لكي لا يُدان فيها ابن أختك.. أتلاحظون! فقال له أمير كبير: تبّا لك، أين ذهب دينك وعلمك؟! وغضب غضبًا شديدًا، فخلع عن الرجل عمامته وضربه على رأسه وقال له: اخرج، لا أريد أن أراك. فخلعه وعيّن حاكم شرعٍ آخر مكانه. إنَّ مثل هذا يحصل في كلّ مكان.
قال لي أحد الأصدقاء مِنْ أطباء مشهد، وهو الدكتور خاكشور، المتخصّص في زراعة قرنيّة العين – يُقال [والكلام هنا لسماحة السيّد] أنَّ العضو الوحيد الّذي يبقى حيّا لعدة ساعات بعد موت المريض، هو قرنيّة العين هذه، فخلاياها لا تموت بسرعة، ولهذا يُخرج الأطباء القرنيّة مِنَ الشخص الميّت ويزرعونها لمَنْ يعاني مِنْ مشكلة في قرنيّته – قال الطبيب: كان أحد الأفراد مِنْ مشهد يعارض هذا الأمر بشدّة ويقول أنَّه حرام، فلا يمكن أن يُسمح بأخذ أيّ عضوٍ مِنْ أعضاء جسد الميّت لأنَّه بمثابة التمثيل بالجثّة، وهو عمل محرّم. يقول الطبيب: كنت أتجادل معه حول هذا الموضوع، ولكنّه لم يقتنع.
[أقول] لا يوجد بالطبع أيّ إشكال مِنَ الناحية الفقهيّة في هذا الأمر، فلا إشكال في أن يُؤخذ عضو مِنْ جثّة الشخص بعد موته. أمّا بالنسبة إلى إهداء الأعضاء مِنَ الشخص الحيّ فهو حرام بنظري، فلا يجوز حتّى زراعة الكليَة إن تمّ أخذها مِنَ الحيّ، لأنَّه سيؤدّي إلى نقص أحد أعضائه، ونقص العضو يوجب الحرمة. أمّا بالنسبة إلى مَنْ يموت، أو مَنْ يكون في مرحلة الموت الحتميّ والعمليّ؛ كمن يموت مخّه ويديمون عمل قلبه بواسطة المضخّة، فيعملون على تدوير الدم في جسمه، فهذا يعتبر نوعًا مِنَ الموت الحتميّ، فلا إشكال في أخذ عضو منه في مثل هذه الحالة أيضًا، إذ صحيح أنَّ جسده لا يزال دافئًا، ولكنَّه عمليّا يعتبر ميّتًا. أمّا لو كان القلب يعمل تلقائيّا فسيُعدُّ الشخص حيّا حتّى وإن توقّفت ذبذبات مخّه؛ فهذا الشخص لا يزال على قيد الحياة ولم تفارق الروح جسده بعدُ.
يقول الدكتور: كان الرجل يخالفنا بشدّة، ونحن نقول له أنَّ زرع القرنيّة للمريض هو بمثابة منح حياة جديدة له، لأنَّ الأعمى يكون محرومًا مِنَ الحياة في الواقع، فكيف تُعارض هذا الأمر خصوصًا أنَّنا نأخذ القرنيّة مِنْ جسد ميّت لا مِنْ شخص حيّ. ومع كلّ هذا [لم يكن الرجل يقبل ذلك]. واستمرّ على هذا الرأي، حتى حصل يومًا أن كان ابن ذلك العالم يمرّ مِنْ مكان ما فأصاب غصن شجرة عينه، فجاء العالم وطلب منِّي أن أزرع له قرنيّة، فقلت له: ألم يكن هذا العمل بنظرك حرامًا؟! قال: افعلها هذه المرّة ولا تفعلها مرّة أخرى – أتلاحظون، كانت تلك عين كلماته حيث قال له افعلها هذه المرّة ولا تفعلها مرّة أخرى – فقال له الطبيب: ما الّذي يحصل، فإن كان هذا العمل حرامًا فهو حرام أيّها السيّد، ولا فرق في ذلك بين ابنك وغيره، وإن لم يكن حرامًا فهو ليس بحرام، فما الّذي يعنيه قولك افعلها هذه المرّة فقط؟!
دعونا لا نضحك على ذلك، فهذا ما يمكن أن يحصل معنا أيضًا بلا فرق. فأنا المتكلّم إن غفلتُ لدقيقة لغلبني الشيطان. لذا فإنَّ أفضل طريقة لمكافحة ذلك، هو أن يفكّر الإنسان جيّدًا قبل أن يواجه مثل تلك المواقف، وهذا ما يُسمّى بالمراقبة. فقبل أن يتعامل الإنسان مع الآخر وقبل أن يُنجز أيّ عملٍ، عليه أن يُفكّر في نفسه ليرى أيّ كلام سيرضي الله لو كان الله حاضرًا الآن في هذا المكان.
ليفرض أحدنا أنَّ إمام الزمان عليه السلام يجلس إلى جنبه الآن – يا له مِنْ أمر عجيب، عليكم أن تعرفوا أنَّ ما أطرحه عليكم الآن كنتُ قد سمعته مِنَ العظماء – نعم افرضوا أنَّ الإمام جالس هنا وهو ينظر إلينا؛ إنَّ هذا ليس بفرض، بل هو أمر واقع، فإمامنا ليس بإمامٍ افتراضيٍّ. إنَّ الإمام يجلس الآن في هذا المكان وذاك وهو معكم ويتوسّط المجلس. إنَّ الإمام لا ينفصل عنَّا، بل هو أقرب إلينا مِنْ أنفسنا، وإحاطته بنا هي أكثر مِنْ إحاطتنا بأنفسنا. هذا أمر واقعيّ لا مزاح فيه؛ وهناك العديد مِنَ الحكايات الّتي تؤيّد هذا الكلام، كما أنَّ الأدلّة العقليّة والنقليّة تؤيّد كون مقام الولاية أقرب إلينا مِنْ أنفسنا.
ولكن لنتنازل الآن عن هذا ولْنقل دعونا نفترض أنَّ الإمام يجلس إلى جنبنا وهو يستمع الآن لأسلوب كلامنا، فلا شكّ حينئذٍ أنَّ الإنسان سيعتدل في جلسته وسيكون حذرًا في تعامله وفي كلامه؛ فتراه لا يتكلّم بحدّة بل بكلّ تأنٍّ، بحيث أنّه لو التفت إلى الإمام وسأله: هل أحسنتُ الحديث يا مولاي. لقال له الإمام: نعم أحسنتَ، لقد تكلّمت بشكل جيّد. ولو سأله عن تصرّفه: هل ما قمتُ به كان صحيحًا. لأيّد الإمام تصرّفه قائلًا: نعم، بارك الله فيك. إذ المطلوب منَّا هو بمقدار فهمنا لا أكثر، فليس المطلوب منَّا أكثر مِنْ ذلك.
هذا ما يُسمى بالمراقبة، فالمراقبة تتلخّص في قول النبيّ الأكرم لأبي ذرّ: يا أبا ذرّ، اعْبُدِ اللَه كأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ كنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يرَاك۱. أي انجز أعمالك كأنَّك ترى الله في تلك اللحظة، فإنَّ الله أمامك حقيقة وأنت تراه بنفسك، فعليك أن ترى الله أوّلًا ثمّ تتكلّم مع الناس بعد ذلك، وإن كنت لا تمتلك هذه الحالة فعليك – لا أقل – أن تتصوّر أنَّ الله يراك، فإن كنتَ لا تشعر بوجود الله وليس لديك القدرة على الشعور بذلك إلّا أنّك تمتلك بالفعل ما يجعلك تشعر بأنَّه يراك. وهكذا هو الأمر مع إمام الزمان، فإمام الزمان حاضر في هذه اللحظة وهو يسمع كلامي ويرى [مدى] انتباهكم واهتمامكم بالأمر.
دعونا الآن نتفحّص أنفسنا وطريقة تفكيرنا مِنْ خلال الموضوع الّذي طرحته قبل دقائق، وهي القصّة الّتي نقلها لي أحد أصدقائنا٢، فلو سُئلتم: ماذا خطر على بالكم حول ذلك الموضوع؟ ألم يخطر على بالكم شيء؟ [إن خطر على بالكم شيء] فما هو هذا الشيء؟ دعونا – أنا وأنتم على حدّ سواء – نتفحّص أنفسنا وفي هذا المجلس حول ذلك؛
أمّا فيما يتعلّق بي [فأسأل نفسي]: هل يا تُرى قمتُ بطرح هذا الموضوع لأستغلّه في يوم مِنَ الأيّام، إذ لكلّ واحد منَّا حياته الخاصّة به؛ فله زوجة وأطفال وارتباطات ويمكنني أن أستفيد مِنْ طرح هذا الموضوع اليوم لأستغلّه غدًا. فهل كلامي الآن عن هذا الموضوع هو تمهيد لمثل ذلك اليوم. وبعبارة أخرى: هل أنا أمهّد الأرضيّة الآن ليسهُل علَيَّ بعدها التخلّص مِنْ مشكلة شخصيّة – إن كانت هناك مشكلة طبعًا، ولله الحمد ليس لديّ مشكلة – وإراحة نفسي.. هذا فيما يتعلّق بي.. فهل ألفّ وأدور مِنْ أجل الحصول على النتيجة الّتي أهدف إليها، لِمَ أفعل ذلك؟ [أأفعل ذلك] مِنْ أجل أن لا يتمّ الاعتراض علَيَّ بـ (لِمَ) وما شاكل إن قمتُ يومًا بنفس ذلك العمل. فعلَيَّ أن أدقّق مع نفسي هنا، فهل ما قلته مِنْ كلام كان لهذا السبب أم أنّه لهدف إلهيّ؟
هذا فيما يتعلّق بي، أمّا ما يتعلّق بكم؛ فعندما سمتعم هذا الكلام منّي، هل قلتم أنّني أميل إلى جانب الرجال. ألا يُقال هذا، بلى مِنْ الممكن أن يُقال: إنَّ هذا السيّد يقف مع الرجال في هذا الأمر، وهو يشجّعهم على هذا العمل، فعلينا أن لا نسمح بحصول مثل هذا الشيء، فلكلّ شيء حسابه، فللرجل حياته الخاصّة به وله عمله، فليس مِنَ المعقول أن نسمح [لرجالنا] أن يشتغلوا بأمر آخر وأن يستغلّهم الآخرون، فهذا يعمل على التفريط بحقوقنا.. وما شابه ذلك مِنْ كلام.
وقد تتعاملون مع الموضوع بشكل آخر – أرجوا أن تسامحوني على جرأتي عندما أتكلّم معكم بهذا الشكل، فهذا المجلس كما ذكرتُ سابقًا هو مجلس أخويّ فلا بأس أن تُطرح أمثال هذه الأفكار ليتّضح الموضوع جيّدًا – فعندما سمعتم ذلك الموضوع منّي قد تفكّرون بجوانب عديدة، فتضعونه في بوتقة الذهن وتقلّبونه وتختبرون أنفسكم به فتقولون: هل الكلام الّذي يقوله هذا السيّد صحيح أم لا؛ فإن كان صحيحًا فعلينا أن نطبّقه على أنفسنا، لا أن نجعل الحقّ هو ما يتطابق مع ميولنا النفسيّة، وإن لم يكن صحيحًا فعلينا أن نُشكل عليه ونقول: لقد أخطأت بكلامك هذا.
إنَّ الشيطان يرِد الميدان في مثل هذه الحالات، فتحصل مثل تلك الحالة الّتي ذكرتها لكم حيث قال له: ازرع له القرنيّة. [أقول:] لماذا، هل لكونه ابنك، وهل لكونك تحبّه؟! نعم، إنّك تريد أن لا يُحرم ابنك مِنْ نعمة البصر، فترى عواطفك تتحرّك هنا وتعمل على تغطية الحقّ. وبسبب علاقتك به نراك تقول: يجوز لي ولا يجوز لغيري. إنَّ الشيطان يأتي هنا ليقلب الحقائق؛ فلو كان كلامك الأوّل حقّا، لما كان لنا شأن معك، حتّى لو كنّا نعلم أنّك تكذب في موقفك الأوّل، وها أنت تكذب الآن عندما قلت [للطبيب]: عليك أن تفعلها. فأنت قد قلت كلامك الأوّل لأنَّك لم تكن قد تعرّضت لمثل ذلك الموقف، فلو كان الأمر قد مسّك حينها لما قلتَ ذاك الكلام، بل لقلت غيره.
لو سمع الإنسان كلامًا باطلًا صادرًا مِنْ شخص يقوله عن صفاءٍ، لما ترك ذلك أثرًا في نفسه؛ مثلًا لو اعترض طفلٌ ذو خمس أو ست سنوات [على أبيه] قائلًا: لقد ظلمتني يا أبي، وعرّضتني إلى كذا وكذا، ولم تشترِ لي الشيء الفلاني، فلم تشترِ لي المرطبات، فإنَّك إنسان ظالم. فمثل هذا الكلام يصدر مِنْ الطفل عن صفاء ولكونه طفلًا، وإن كان كلامًا غير صحيح، بل فعل أبيه هو الصائب، غير أنَّ كلام الطفل صدر منه عن صفاء ليس فيه حقد وحسد، فالإنسان لا يرى هذا الكلام قبيحًا، بل سيضحك ويمسح على رأس الطفل ويقول له: متى ما تحسّنت صحتك سأشتري لك ما تريد، وستتحسّن حالتك غدًا إن شاء الله فأشتري لك ما تريد. وبهذا يعمل على إشغاله وصرفه عمّا يرغب.
إنَّ كلامنا هنا لا يشمل مثل هذه الحالة، بل يشمل الكلام الّذي يسمعه الإنسان [على أنّه حقّ] والحال أنّ قائله لا يراه في واقع الأمر حقّا، فهو – كما قلتُ لكم – كلام في هيئة الحقّ ويستبطن نداءً خفيّا، ليس هو نداء صلح بل نداء للتفرقة والنفاق. إنَّه يدعو إلى الله [في ظاهر الأمر] ولكنَّه يدعو إلى إله التفرقة والانفصال [حقيقة]. نعم، هو يدعو إلى الله [ظاهرًا] ولكنَّه إله التشتّت وتثبيت الأنانيّة [واقعًا]. فتراه يجرّ الله مِنْ هذا الطرف إلى ذاك.
[فرضًا] عندما أريد أن أُوجد مكانة لي في قلوبكم – مثلًا – فلن أطرح في مجلسكم هذا موضوعًا عن الموسيقى وعن المسائل المتعلقة بالفواحش وأمثالها، لأنَّني إن فعلتُ ذلك، أعلم أنَّكم ستتركون المجلس وتخرجون، فمِنْ أجل أن أحفظ مكانتي تراني مجبورًا للحديث عن الله، فتتعجّبون وتقولون: يا له مِنْ حديث رائع، وكم هو ماهر في تبسيط المواضيع وجعلها سهلة للفهم. وبهذا أكون قد جررت الله اليوم إلى هذا المجلس، وغدًا سأعمل على جرّه إلى مجلس آخر، وهكذا. فلماذا أقوم بمثل ذلك؟ إنَّني أقوم به مِنْ أجل تثبيت مكانتي بين الناس. إذن فذكري لله هذا يستبطن نداءً آخر وهو نداء الأنانيّة والنفس والدنيا والتوغّل في الكثرة والأهواء، فأيّ إله سيكون هذا؟ إنَّه الشيطان.
لا تتصوّروا أنَّ رفع المصاحف على رؤوس الرماح كان قد حصل في الحرب مع معاوية فقط، بل هذا الأمر يتكرّر في كلّ يوم، فها هم يرفعون المصاحف على رؤوس الرماح كلّ يوم، غير أنَّ الرماح ليست بالضرورة أن تكون كتلك الرماح [المعروفة، بل قد تتّخذ أشكالًا مختلفة؛] فها نحن نجرّ الله كلّ يوم ونستغلّه لتأمين مصالحنا، فما الّذي يعنيه هذا؟ إنَّه يعني رفع المصاحف على الرماح أيضًا.
إنَّ القرآن الّذي يُرفع على الرماح يجب أن يُضرب بالسهام؛ لقد أمر أمير المؤمنين عليه السلام برمي تلك المصاحف بالسهام، فقالوا: يا للعجب، كيف يجوز لنا أن نرمي المصاحف بالسهام، أيجوز أن نرمي كلام الوحي بالسهام؟! [نقول:] إنَّ كلام الوحي هذا قد تبدّل بكلام شيطانيّ [عندما رفعوه على الرماح مكرًا وطغيانًا]، فلا بدَّ حينئذٍ مِنْ رمي كلام الشيطان هذا بالسهام. عليكم أن تضعوا في أذهانكم أنَّ النداء الباطنيّ هو المِلاك دائمًا، فلا تنسوا هذا الأمر أبدًا، ولا تهتمّوا بما يُقال في الظاهر، ولا تهتمّوا بالإيعازات المختفية بين طيّات الكلام والتصرفات.
كنت قد قلتُ لكم في مجلس شرح حديث عنوان البصريّ أنَّنا عندما ننظر إلى بعض الناس نرى فيهم التواضع والبشّاشة ولطف التعامل، فنقول: كم هو رجل متواضع وذو أخلاق رفيعة. ولكن هذا التواضع الّذي نراه هو مِنْ أجل أن يتمكن مِنْ صعود السلّم، فتراه لو قال له أحدهم: إنَّك مخطئ أيّها السيّد. لالتفت إليه وقال: بل أنت المخطئ، وأنا على حقّ وصواب. فنقول حينئذ: أين ذهب ذلك التواضع؟! إنَّ ذلك التواضع كان عبارة عن درج يُستخدم للصعود في سلّم الأنانيّة. أمّا التواضع الحقيقيّ فهو يتمثّل في مناداة الصبيّ ذي السنوات الخمس في العتمة بين الطلوعين وتقبيل يده، هذا هو التواضع الحقّ. أمّا ذاك فليس بتواضع. فالتواضع يُعرف عند المحكّ [والاختبار]، حينها يُعرف هل هو تواضع حقيقيّ أم لا.
لو أنَّ أحدهم تظاهر بالتواضع قائلًا: أنا لست شيئًا، ولستُ أهلًا لهذه المكانة. فقلنا له: نعم، أنت كذلك، فلستَ بشيء ولست أهلًا لها، بل أنت رجل عاديّ. فسترى عندها ردّة فعله تجاه هذا القول. فلو قلتُ: أنا لست كما تقولون، وأنا لست بأهل لما يصفني به الأصدقاء. ثمّ جاءني أحد قائلًا، كأن ينهض أحدكم الآن ويقول لي: اعتقد أنَّ البعض يُفرِط في نعتك بتلك الأوصاف، فهي ليست بصفاتك الحقيقيّة. فما الّذي سيحصل لي عندها؟ فقد أقول: يا له إنسان عديم الحياء، كيف يجرؤ على التكلّم معي بهذا الشكل! [فقد يُقال لي حينئذٍ]: أنت الذي وصفت نفسك بذلك، أليس كذلك، فإن كان ما قلته [بحقّ نفسك] صحيحًا، فلماذا تنفعل [ممّا قيل لك]، وإن لم يكن كذلك، كان عليك أن تمتنع عن قوله منذ البداية.
نلاحظ أنّ المسألة مسألة واقعيّة، أي إنَّ الحقّ والباطل والصدق [والكذب] معنا في كلّ رمشة عينٍ وفي كلّ خاطرٍ يخطر على أذهاننا، وهي معنا في كلّ كلامٍ ننطق به وفي كلّ عمل نقوم به. فما هي حالة [ونسبة] كلّ مِنْ الصدق والكذب، النفاق والحقّ، المجاز والواقعيّة، الباطل ونفس الأمر وعالم الواقع، [في أنفسنا]؟ فعلينا أن نقيّمها لنرى لمِنْ تكون الغلبة.
أرى أن نتوقف عند هذا المقدار من الحديث عن سلوك الطريق إلى الله وكيفيّة طيّ هذا الطريق، وسأتحدّث في المجلس القادم إن شاء الله عن موضوع آخر.
عليكم أن تعرفوا أنَّ كلّ خطوة صادقة نخطوها في الطريق إلى الله، تعمل على تقريبنا مِنه، وكلّ خطوة غير صادقة أو ينقصها بعض الصدق إنّما تقرّبنا بمقدار ما فيها مِنْ صدق، أمّا إن افتقد عملنا الصدق والمراقبة فلا فائدة تُرجى منه حينئذ.
وراء أوامر العظماء أدوية وعلاجات
لا أدري إن كنت قد نقلتُ لكم هذه الحكاية أم لا، على أنَّ مناسبة طرحها يجب أن تكون في وقت لاحق، ولكن في حديثنا ما يتناسب مع طرحها لذا سأذكرها: أمرني المرحوم العلّامة رضوان الله عليه يومًا أن أصطحب إمرأة متزوّجة [إلى الطبيب]، وهي صاحبة عدّة أطفال وزوجها طالب للعلوم الدينية وهي مِنْ أقاربنا وتسكن في مدينة مشهد، فقال لي: عليك أن تأخذ المرأة الفلانيّة إلى الطبيب الفلاني. فتعجّبت مِنْ هذا الأمر وقلتُ في نفسي: لماذا أنا، فللمرأة زوج، فالأحرى أن يأخذها زوجها إلى الطبيب، خصوصًا أنَّ زوجها لم يكن غائبًا، كما أنّه لديّ دروسي وعلَيّ متابعتها، ويجب أن أهتمّ ببعض أموري الحياتيّة، ولديّ أشغالي الخاصّة، وكنتُ حينها مدرّسًا وعلَيّ أن أطالع. فلم أستطع أن أهضم أمر أخذ تلك المرأة إلى الطبيب، ومع كلّ هذا قلتُ: سمعًا وطاعة، سآخذها إلى الطبيب. غير أنَّني لم أتعامل مع الموضوع بالجدّيّة المطلوبة، وبعد مرور يومين أو ثلاثة على ذلك، اتصلتُ بالطبيب الّذي علينا مراجعته، فقالوا لنا أنَّه مسافر، فقلتُ: علَيّ أن أنتظر عودته مِنَ السفر لكي آخذها إليه، وسآخذ رجلًا آخر معي أيضًا إليه، وهو مِنْ أهالي مشهد المعروفين والّذي لا يزال هناك. وبعد مضيّ أربعة أو خمسة أيّام على ذلك، اتصلت بالطبيب – وهو مِنْ أطباء مشهد المعروفين وكان يعرفني وتربطني به علاقة صداقة – وقلتُ له: اتصلتُ بك وكنتَ مسافرًا، وأنا أريد أن أجلب إليك شخصين محترمين أحدهما امرأة والآخر رجل. فقال: حسنًا، تستطيعون أن تأتوا في أيّ وقت تريدون.
وأثناء سيري في الطريق التقيتُ بزوج تلك المرأة فقلتُ له: لقد اتصلت بالطبيب وأخذت منه موعدًا للمراجعة هذه الليلة. قال: لقد أخذتها إلى الطبيب نفسه الليلة الفائتة. فقلتُ له: يا للعجب، أردتُ أن أقدّم خدمة. فشكرني على ذلك كثيرًا وقال: لقد أخذتها إلى الطبيب وفحصها، وقال أنَّ الأمر بسيط.
وحيث كان لديّ عمل مررتُ ببيت المرحوم العلّامة في الزقاق الّذي تقع فيه مدرسة السيّد الخوئيّ، وعندما دخلت كان المرحوم العلّامة واقفًا في غرفته، فما إن وقع نظره علَيّ، وبعد أداء السلام، قال لي: هل أخذت تلك المرأة إلى الطبيب. قلتُ له: لقد اتصلت تلفونيّا بالطبيب فوجدته مسافرًا، فاتصلتُ به لاحقًا واتفقت معه على أن آخذها الليلة بمعيّة فلان، وبينما كنت أمشي في الزقاق التقيتُ بزوجها، فقال لي أنّه أخذها إلى الطبيب الليلة الفائتة، فوجدت الموضوع منتهيًا. فنظر إليَّ نظرة وقال: لقد تأخّرت إلى حدٍّ جعل زوجها يأخذها إلى الطبيب! ولقد انزعج بعض المتواجدين هناك مِنْ تعامل المرحوم العلّامة معي بتلك الطريقة، أمّا أنا فلم أكن متأسّفًا فحسب بل خجلتُ خجلًا شديدًا مِنْ [طريقة] تعاملي مع تلك القضيّة، وقلتُ في نفسي: لماذا تساهلت في الموضوع ولم أنفّذ ما أمرني به! ومع هذا فقد بقي هذا السؤال عالقًا في ذهني وهو: ما الّذي يعنيه أمر المرحوم العلّامة هذا، وما السرّ وراء هذا الموضوع؟ فللمرأة زوج وليس لديه أيّة مشكلة لا ماديّة ولا بدنيّة، بل كان كلا الأمرين طبيعيّين، فهم يعيشون حياتهم بشكل عاديّ [فلِمَ أمرني العلّامة بذلك]؟! فبقيتْ هذه القضية عالقة في ذهني، وشعرت أنَّ المرحوم العلّامة انزعج لأنّي لم أصحب المرأة إلى الطبيب، غير أنَّ انزعاجه لم يكن مِنْ أجلهم بل كان مِنْ أجلي أنا.
مضتْ ستة أشهر على هذه القضيّة، وبينما كنتُ جالسًا يومًا في المدرسة أنتظر قدوم الأصدقاء، ويبدو أنّه كان لدرس الفلسفة، ولم أكن أفكّر في تلك الحادثة حينها، انتبهتُ فجأةً إلى مشكلة موجودة في نفسي، وكان حلّها يكمن في أخذ تلك المرأة إلى الطبيب، وبهذا بقيت المشكلة دون حلّ، ولكي تُحلّ هذه المشكلة لا بدَّ أن تمرَّ عليَّ قضية أخرى شبيهة بتلك القضيّة.. أتلاحظون كم هو أمر دقيق؟ فنحن نتعامل مع الأمور بمشاعرنا، أمّا الله فلا يعمل وفق المشاعر بل نراه يقول: إن كنت لا تريد أن تأخذ المرأة إلى الطبيب فلا تفعل، فسيأخذها زوجها بدلًا منك، فلا مشكلة في هذا، غير أنَّ مشكلتك ستبقى دون حلّ وستظلّ على حالها، ولأجل أن تجد لها حلًّا فلا بدَّ أن تفكّر في طريق لحلّها، وإيّاك أن تُفسد الأمر هذه المرّة أيضًا كما أفسدته على نفسك في المرّة السابقة.
أتلاحظون كيف أنَّ حساب الله دقيق جدّا.. وهذا هو معنى ضرورة مراعاة الصدق. مع العلم أنَّني لم أكن أنوي عدم أخذها [إلى الطبيب]، ولكنَّني لم أُولي الموضوع الاهتمام المطلوب؛ فعندما اتصلتُ بعيادة الدكتور وتكلمتُ مع زوجته وسألتها متى يعود زوجك مِنَ السفر وقالتْ إنّه سيعود في يوم كذا، كان المفترض علَيّ حينها أن اتّصل ثانية في تلك الليلة مثلًا بدلَ أن أتصل في الليلة التالية أو اليوم التالي. فلذا قال المرحوم العلّامة هنا: لماذا أخّرت الأمر، حتّى لو ليوم واحد، فتأخيرك الموضوع يومًا سلبك تلك المصلحة. وذلك حصل بسبب هذا التأخير الّذي كان ليوم واحد.
علينا أن نكون يقظين جدّا، وعلينا أن نحفظ هذا الملاك في أنفسنا في كلّ يوم وكلّ ساعة وكلّ لحظة، فلا ندع الفُرَص تضيع منَّا، لأنَّها إن ضاعت لن تعود. نسأل الله أن يعرّفنا مسؤوليّاتنا، هذا أوّلًا، ثمّ أن يمنَّ علينا بتوفيق أدائها.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد