المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
هو العليم
الدين الحقّ هو الدين المطابق للفطرة
المرأة والأسرة – قم – الجلسة السابعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّ اللَه على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفًا فِطْرَتَ الله الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}۱، يقول الله للنبيّ في هذه الآية: فليكن كلّ اهتمامك وتوجّهك منصبًّا على الدين الحنيف.
ما هو هذا الدين الحنيف؟ إنّه الدين الطاهر المطهّر، الخالي مِنَ التلوّث، وهو عبارة عن الفطرة، تلك الفطرة الّتي خلَق اللهُ الإنسانَ عليها، وخلْق الله لا يتبدّل ولا يتغيّر، {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، أي الدين الثابت الّذي لا يحصل فيه أيّ تغيير وتبديل؛ فهو لا يحكم بشيء اليوم، ويحكم بغيره غدًا، بل حكمه واحد ثابت لا يتغيّر مِنَ البداية حتّى النهاية، فحكمه باقٍ إلى الأبد، لأنّ الإنسان سيبقى دائمًا إنسانًا، وغرائزه كذلك، لن يحصل أيّ تبديل في خلقه، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، أي إنّ الناس لا يُدركون هذا الأمر.
هذه الآية عجيبةٌ جدًّا، وقد جرى البحث حولها كثيرًا، إنّ الله يطرح مواضيع متعدّدة في هذه الآية: أمّا الموضوع الأوّل فهو الفطرة؛ فعلى أيّ شيء يُطلق مصطلح الفطرة؟ وعندما نقول: إنّ هذا الأمر يتوافق مع الفطرة، وذاك يخالفها ولا ينسجم معها، فما هي هذه الفطرة الّتي يتوسّل بها كلّ مَن يريد أن يُثبت نظريّته؟ أمّا الموضوع الثاني الّذي تطرحه هذه الآية، هو أنّ الدين والنهج القويم يتوافقان مع الفطرة. وبناءً على هذا، فإن تديَّن أحدٌ بدين وسار في مسيرٍ لا يتلاءم مع الفطرة الإنسانيّة، فلا يمكن أن يكون ذلك المسير مِنَ الدين في شيء. [أمّا الموضوع الثالث فسيأتي ذكره تحت عنوان الثبات على الحقّ وصرف الاهتمام إليه].
الموضوعان الأوّل والثاني: ما هي الفطرة، وكيفيّة توافقها مع الدين
كيف نعرف الدين الحقّ؛ قصّة إسلام الشابّ النصرانيّ على يد النبيّ
لماذا أسلم ذلك الشابّ النصرانيّ على يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واعتنق الإسلام؟ لأنّه علِم أنّ دين رسول الله دين حقٍّ. وكيف عرف أنّ دين رسول الله دين حقٍّ؟ عرف ذلك بواسطة فطرته؛ أي إنّه لمس بفطرته أنّ روحه قد تقبّلت القضايا الّتي يطرحها الإسلام واطمأنّت لها، ووجد أنّ هذه القضايا تتطابق مع مدركاته.
لاحظوا الجانب الّذي وردْنا منه إلى الموضوع؛ فهذا شابّ نصرانيّ يدين بالمسيحيّة – دقّقوا معي هنا جيّدًا – فلماذا ترك دينه واعتنق الإسلام؟ فللمسيحيّة آدابها وللإسلام آدابه الخاصّة به، والمسيحيّة دينُ النبيّ عيسى (على نبيّنا وآله وعليه السلام) والإسلام دين الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وفي المسيحيّة أحكام لا مثيل لها في الإسلام، وفي الإسلام أحكام لا مثيل لها في المسيحيّة، فما هو العامل الّذي دفع هذا الشابّ المسيحيّ ليترك دينه ويأتي إلى رسول الله ويُسلم على يديه؟ نعم، ما الّذي جعله يتخلّى عن المسيحيّة واتّباع السيّد المسيح، ليؤمن برسول الله؟ هذا الأمر لم يحصل بلا مقدّمات، فهو لم يستيقظ مِنَ النوم دفعةً واحدة وجاء قائلًا: أريد أن أكون مسلمًا! فما هو التبدّل الّذي حصل له وأوصله إلى هذا المكان؟ ما حصل له كان نتيجة ما شاهده مِن مميّزات النبيّ، فهو قد جالس النبيّ وتكلّم معه ولمس آثار الصدق في معاملته وكلامه. فكان لا بدّ أن يشاهد كلّ ذلك أوّلًا، لكي يميّز بين الإعجاز وبين السحر، وبين الإنسان الصادق وبين الماكر المحتال. فلو قام النبيّ – والعياذ بالله والعياذ بالله والعياذ بالله – بعملٍ باطلٍ ومخالف لِما يدعو إليه، فهل على المرء أن يتقبّل ذلك؟! وإن قال النبيّ: أنا نبيّ. فهل على المرء أن يُقرّ بذلك لمجرّد هذا القول؟! كلّا، لا يجوز له أن يقبل بذلك، بل عليه أن يطلب مِن رسول الله الدليل والحجّة، بأن يقول: ما هو دليلك على ادّعائك الرسالة والنبوّة؟ ففي مثل هذه الحالة سيقدّم النبيّ ما لديه، كأن يقوم بعمل أو يُبيّن مطلبًا أو يتصرّف تصرّفًا ما، يجعل قلب السائل وفكره وعقله ووجدانه يؤمنون بصدقه، ويدفع السائل لقبول كلامه.
إذن، لا بدّ أن يقوم النبيّ بعمل ما في الخارج، فإن أتى النبيّ بهذا العمل، وتحقّق الإنسان مِن صدق النبيّ، يأتي حينئذٍ دور الفطرة، لتأخذ بيده في طريق الهداية، فتقول [له]: أينما وُجد الصدق، لا بدّ مِن اتّباعه. هذا الحكم حكمٌ فطريّ؛ فإن رأى الإنسان الصدق مِن رسول الله، وعرف أنّه رجلٌ صادق، وأنّه ليس مِن أهل الادّعاء الّذين يتواجدون في أماكن أخرى – نعوذ بالله نعوذ بالله – وليس مِنَ الّذين يدعون الناس لاتّباعهم تنافسًا مع باقي الجهات، بل كان الهدف مِن دعوته هو التوحيد، سواء قبِل الآخرون بذلك أم لم يقبلوا، فإن رأى الإنسان ذلك وتحقّق منه، تأتي الفطرة هنا فتحكم بوجوب اتّباع هذا الشخص الصادق؛ وحينئذ يكون كلامه حُجّةً عليه. هل التفتّم! هذا هو الدين الفطريّ.
فأيّ دين هو دين الفطرة؟ إنّه الدين الّذي تُجبرنا الفطرةُ والوجدانُ الإنسانيُّ على اتّباعه والالتزام به. نعم، هذا هو الدين الفطريّ. فعندما يُشخّص الوجدان للإنسان طريقًا دون غيره ويُلزمه بضرورة السير فيه، يكون هو الدين الفطريّ.
كان ذاك الشابّ النصرانيّ الّذي جاء إلى رسول الله يمتلك عقلًا، فمَن الّذي وهبه هذا العقل؟ إنّ الله هو الّذي وهبه إيّاه، لا أنا ولا أنتم مَن وهبه هذا العقل، بل هو موهبةٌ إلهيّة؛ حسنٌ جدًّا، إن كان الأمر كذلك فنسأل: لأيّ شيء وهبه الله هذا العقل؟ قد وهبه الله العقل مِن أجل أن يميّز بواسطته بين الخطأ والصواب. كما أنّ الله قد جعل فيه فطرةً، فما هي هذه الفطرة؟ إنّها تلك الحقيقة المُودعة في الإنسان الّتي تقوده إلى الحقّ وتساعده على تشخيص الحقّ والتمييز بينه وبين الباطل، وهذه هبة إلهيّة أخرى.
إن رأى أحدهم شخصًا يضرب طفلًا صغيرًا يبلغ سنتين أو ثلاث سنوات، سيعترض عليه قائلًا: لماذا تضرب هذا الطفل! فإن قال: ضربته لأنّه قام بعمل غير صحيح، أو لأنّه بلّ ثيابه. لأجابه قائلًا: إنّ الطفل لا يدرك ما يفعل، فلماذا تضربه، فهذا عملٌ مخالفٌ للفطرة! فالعمل المخالف للفطرة هو العمل الّذي إذا رآه أحد، لا يستطيع أن يتقبّله. فالطفل بعمر السنتين أو الثلاث سنوات ليس مقصّرًا فيما يفعل، فإن بلّ ثيابه فليكن، وعلى أمّه أن تبدّل ثيابه، فما معنى الضرب هنا، وكيف يمكن وصفه؟! هو عمل يخالف الفطرة، فما دام الطفل لا يفهم شيئًا، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا، فهو غير مقصّر، وعلى الكبير أن يتولّى رعايته ويهتمّ بأمره، فليس له أن يؤاخذ الطفل إن بلّ مكانًا ما، بل المُلام والمقصِّر هو وليّ أمره، فليس له حينئذ أن يُحاكم الطفل ويقول له: لماذا بللتَ هذا المكان.
فذاك الشابّ النصرانيّ جاء وامتحن صدق رسول الله بواسطة ما وهبه الله إيّاه مِن عقلٍ وفطرةٍ، وعندما رآه صادقًا ولا يدّعي ادّعاءً باطلًا – فعندما أحرز صدق النبيّ – أتاه نداءُ الفطرة وقال له: ما دمتَ قد لمست صدق النبيّ بنفسك، فلا تستطيع أن تتملّص مِنَ الموضوع، بل عليك اتّباعه، ولا يمكنك أن تمرّ على الأمر هكذا، بأن تنصرف في حال سبيلك بعد أن تأكّدتَ مِن صدق النبيّ! بل عليك أن تتّبع ما توصّلت إليه وما اتّضح لك، فهذا الأمر يُلزمك بالإيمان بالنبيّ والالتزام بكلامه. هذا هو معنى التبعيّة.
ففطرة ذلك الشابّ النصرانيّ هي الّتي ألزمته اعتناق الإسلام، فقالت له: الآن وقد رأيت صدق كلام ومدّعى رسول الله، فعليك أن تعتنق الإسلام. فاعتنَق الشابّ الدين الإسلاميّ. وعندما أراد أن يعود إلى عائلته سأل رسول الله: عندما أعود إلى أهلي، كيف علَيّ أن أتعامل معهم، فهم على المسيحيّة، وطعامهم على ما هو عليه، فمِنَ الطبيعيّ يا رسول الله أن يكون حسابي وكتابي منفصلًا عنهم، فأَعتزلهم في غرفة خاصّة بي لكونهم أنجاسًا، فلا ينبغي لي أن أراهم أو أختلط بهم، لأنّهم سيلوّثونني. فقال له رسول الله: ماذا تقول!! ما هذا الكلام الّذي تقوله!! إنّهما والداك، وعليك أن تحترمهما أكثر مِن ذي قبْل.. عندما قال له رسول الله إنّه يجب أن يحترمهما أكثر ممّا كان يفعل، فهو لم يقصد أنّ على الشابّ أن يقوم بأدوار تمثيليّة ليجذبهما إلى الدين الإسلاميّ، كلّا، بل أراد الرسول أن يُعلّم ذاك الشابّ آداب هذا الدين الّذي اعتنقه باعتباره دين فطريّ، فهو يقول له: إنّ هذا الدين الّذي جئتُ به، هو دين الألفة، لا دين الفرقة، وهو دين المحبّة لا دين الانفصال، فإن كان والداك على عقيدة ما، فهذا أمر يخصّهما – هل التفتّم – أمّا أنت، فما دمتم قد آمنت بهذا الدين، فإيمانك هذا يحتّم عليك عدم تضييع حقّهما عليك في عالَم التكوين وعالَم الخلْق، فهما سبب مجيئك إلى الدنيا وسبب وَهْبك نعمة الحياة، وقد تعبا مِن أجلك. فلكلّ شيء موقعه الخاصّ به الّذي يجب أن يُراعى، فوالداك هما سبب وجودك في هذا العالَم. صحيح أنّ عقدتهما مختلفة عن عقيدتك، غير أنّ ذلك بسبب جهلهما وعدم معرفتهما، فلا يجوز أن تقوم بما يزعجهما – أتلاحظون كم الأمر حسّاس – ولا يجوز أن تقوم بما يُثبّت في قرارة نفسيهما ووجدانهما أنّهما على حقّ وأنّك على باطل، نعم عليك أن لا تقوم بعمل يجعلهما يشعران في وجدانهما أنّهما مُحقّان، وأنّك ظالمٌ لهما، بل عليك أن تحبّهما وتحترمهما.
فعندما يعود ذلك الشابّ إلى والديه [بهذه الحالة]، سيتعجّبان ممّا يرونه منه، وسيقولان: كيف كان حال الفتى، وكيف أصبح بعد عودته مِن عند النبيّ! لماذا أصبح هكذا، لماذا ازداد احترامه لنا، ولماذا يراعي حقوقنا إلى هذا الحدّ؟ لماذا يحصل كلّ ذلك؟ فهو الشخص نفسه الّذي كان مسيحيًّا، غير أنّه لم يكن ملتفتًا إلى هذه الأمور.
فهذا الاحترام سيوقظ فطرتهما. وما الّذي يعنيه هذا الأمر؟ إنّه يعني أنّ ذلك الرجل وتلك المرأة سيقولان في نفسيهما: إنّ هذا الشابّ قد عدَل عن ديننا، ولكنّه بدلَ أن يخاصمنا، فتح معنا بابًا جديدًا مِنَ المودّة، وبدل أن يفصل حياته عنّا ويعتزلنا في غرفة منفصلة ويمتنع عمّا نأكله ونشربه، إذا به أكثر مزاحًا وبشاشةً ولطفًا معنا. ثمّ ماذا سيقولان؟ سيقولان: لو كان النبيّ مخادعًا ومِن أهل الافتراء، لروّج لنفسه، ولكنّنا نراه يحافظ على مكانتنا، وعلى حقوقنا أيضًا، رغم أنّنا لا ننتمي إلى جماعته ولا إلى دينه، فهذا الرجل الّذي حسب لنا حسابًا وحافظ على مكانتنا، لا بدّ أنّه رجلُ حقٍّ ورجلُ صدقٍ، نعم، لا بدّ أن يكون رجل حقٍّ.
مطابقة دساتير الأولياء للفطرة؛ قصّة ابن الشيوعيّ مع المرحوم العلّامة الطهرانيّ
كان والد أحد أصدقائنا شيوعيًّا، فجاء صديقنا هذا إلى المرحوم العلّامة، وقال له: إنّ أبي شيوعيٌّ – كان أبوه لا يؤمن بشيء فلا يعرف النجاسة ولا الطهارة ولا الحرام ولا الحلال، بل كان شيوعيًّا بكلّ معنى الكلمة، أي كان رجلًا بلا دِينٍ، غير مبالٍ بشيء وملحدًا – فكيف أتعامل معه؟ فسأله المرحوم العلّامة: هل يشرب الخمر؟ قال: لا، لا يشربها. فقال له: يجب أن تتعامل معه أحسن ممّا كنت تتعامل معه عندما لم تكن ترى نفسك سالكًا، تعامل معه وكأنّه رجل مسلم وشيعيّ. ثمّ قال له: وعليك أن تعرف أنّ مفتاح فلاحك هو احترامك لوالديك..
ماذا تُسمّى هكذا مدرسة؟ إنّها مدرسة الفطرة، فهي مدرسة تجعل الأب – عندما يرى ابنه بهذا الشكل – تجعله غيرَ قادرٍ على أن يأخذ مأخذًا على هذه المدرسة ويقول: توجد نقطة ضعف في هذه المدرسة. بل سيُغلق فمه، ولن يقدر على الاعتراض والاستشكال قائلًا: تعالوا وانظروا إلى ما يجري في هذه المدرسة، أيُعدّ أتباعها مِن بني البشر! كيف يدّعون أنّهم دعاة إلى الله! فهل يرضى الله أن يقف الولد بوجه والدَيه! وهل يرضى أن يردّ الولد على والديه بهذا الأسلوب! فإن كان هذا ما يأمر به الله، فأنا لا أقبل إلهًا! [كلّا، لن يستطيع الاعتراض بهذا].
ولكنّ هذا الرجل الشيوعيّ – رغم أنّه يدوس على فطرته في كثيرٍ مِنَ الموارد ويراوغ فيها، نعم، لو لم يكن يراوغ لكان الحقّ واضحًا لديه، إلّا أنّ لا سبيل للمراوغة في مثل هذه الحالة – قد يقول هنا: أنا أبو هذا الشابّ، وكوني شيوعيًّا فهذا أمر يخصّني، غير أنّني تعبت مِن أجله، وجلبت له الرزق وربّيته حتّى كبر، أفلا ينبغي أن تترك تلك التربية أثرًا في حياته؟ ألا يجب أن يكون لتعبي محلًّا في عالَم التكوين؟ [أقول: الحقُّ] أنّ هذا الأمر وجدانيّ، لا يستطيع أن يردّه أحدٌ، ولهذا نرى المرحوم العلّامة يضع أصبعه على هذه المسألة بالتحديد، فهي مسألة [إن لم تُراعَ] فقد تكون ضربة في سلوك ذلك الشابّ، لذا نراه يؤكّد على ضرورة احترام الوالدين، واحترام جميع ذوي الحقوق.
لا يستطيع ذلك الوالد بحكم فطرته أن يقول: لماذا اعتنق ابني الإسلام؟ لأنّ فطرته ستجيبه قائلة: تلك هي عقيدته، فهو قد ميّز بين الحقّ والباطل، فاختار هذه العقيدة، فلا يمكنك الاعتراض عليه. إذن، هو لا يستطيع أن يعترض عليه مِن هذه الناحية، ولا يستطيع أن يَرِدَ عليه مِن طريق معتقداته الدينيّة المسلّمة، لأنّه طريق مسدود. أمّا مِنَ الناحية الثانية، فهو يرى التعامل الإنسانيّ والعقلائيّ لهذا الشابّ، يراه يبتسم في وجهه ويحبّه، وينظّف البيت ويسقي الحديقة، ويذهب إلى السوق لشراء احتياجات العائلة مِنَ الخضار، وإن رأى أباه مشغولًا بعمل ما يُبادر إلى مساعدته وإعانته، ويقضي حوائج المنزل ويساعد أباه.. فلن يجد ما يمكن أن يستشكل به عليه في هذا الجانب. فتأتي هنا الفطرة لتلعب دورها في هذا المجال، فتقول له: انظر، مع أنّ لولدك عقيدة خاصّة، إلّا إنّه يراعي بقيّة المسائل.. دقيقًا، ما الّذي يعنيه هذا؟ إنّه عبارة عن الدين المُطابق للفطرة. أمّا لو تصرّف الولد بشكل مغاير، سيحكم هذا العقل العاديّ [بعدم صحّة مسيره الجديد الّذي اختاره].
خطورة الاجتهاد الشخصيّ في السلوك والدين
قصّة أحد أقارب المرحوم العلّامة
كان لأحد أقاربنا مشكلة خاصّة؛ فهو بدل أن يخرج للعمل في متجره، كان يجلس في البيت ويشتغل بالأذكار! كان المرحوم العلّامة قد حدّد له عددًا مِنَ الأذكار في أوقات معيّنة، ولكنّه كان يجلس في البيت ويأتي بخمسة أضعافها! وهذا التصرّف سيؤثّر على عمله بطبيعة الحال، فسيفقد المتجر سمعته [في السوق]، وستنخفض وارداته الماليّة، والحال أنّ له عائلةً كبيرة، فلن يستطيع أن يوفّر لهم احتياجاتهم إن بقي على هذه الحالة، الأمر الّذي سبّب له المشاكل. وقد نبّهه المرحوم العلّامة مرّتين أو ثلاث، وكانت إحداها بواسطتي، حين قال لي العلّامة: قل له، يجب عليه أن يجلس في متجره في أوقات العمل العاديّة. ولكنّه لم يُصغِ لكلام المرحوم العلّامة. كان المرحوم العلّامة قد حدّد له عدد الأذكار، غير أنّه أضاف عليها مِن عنده خمسة أضعافها، وهو يقول: تحصل لي حالة روحانيّة جيّدة.
[أقول:] هذا غير صحيح – وأنا لا أريد أن أشبّه حالته [بحالة ذلك الأمويّ] – فأيّ حال هذه الّتي تتحدّث عنها يا هذا؟! يُقال إنّ الخليفة الأمويّ مِن بني المروان، الوليد بن يزيد – [هذا الّذي يُلقّب بـ] خليفة المسلمين والحال أنّه كان يفعل ما يفعل – كان يؤمّ الناس في الصلاة في المسجد وهو سكران، فصلّى بهم الصبح ثلاث ركعات بدل الركعتين، وعندما قيل له: لماذا صلّيتها ثلاث ركعات!! قال: كنت أشعر بحالة جيّدة، أتريدون أن أجعلها خمسة أو ستّ ركعات!! هذه الحالة الجيّدة حصلت له نتيجة السكر ولا فائدة فيها.
فعندما يُحدَّد المقدار، فلا يجوز تجاوزه، لأنّ النفس تشعر بالمتعة بهذه الأعمال، فيندفع الإنسان إلى الأمام بسبب هذه الحالة، والحال أنّه غافلٌ عن المفاسد الّتي يمكن أن تسبّبها. كان بيت ذلك الرجل يخرب، كان قد حلّ فصل الشتاء وهو لا يملك مالًا ليُصلح سطح منزله بالقير، ومع هذا نراه يصرف الأموال في يوم عاشوراء، ويدعو الجميع [إلى مأدبة]! هل يقبل الإمام الحسين عليه السلام أن تصرف أموالك هكذا؟! مَن أمرك أن تصرف هذه الأموال في الوقت الّذي يكاد سقف بيتك ينهدم على عائلتك؟! لماذا تصرف هذه الأموال، ومَن أمرك بذلك؟! هذا والحال أنّ المرحوم العلّامة كان ينبّهه على كلّ ذلك.
عندما تشرّف المرحوم العلّامة بالانتقال إلى مشهد، جاء في إحدى السنوات أخو ذلك الرجل وشكاه للمرحوم العلّامة، وقد طرح موضوع أخيه بطريقة دقيقة وظريفة، حيث قال: عندما يريد الإنسان أن يُقدِم على عمل معيّن، فإن عُرض هذا العمل على مئة عاقل، فلا بدّ أن يوافق عليه ثمانون منهم على الأقل، وإن رفضه العشرون [الآخرون]، أمّا أخي فقد قام بعمل يحكم بخطئه ثمانيةٌ وتسعون رجلًا مِن أولئك المائة. فقال له المرحوم العلّامة: نعم، هذا هو حاله، إنّ ما يقوم به غير صحيح. أريد أن أقول هنا إنّ هذا الأمر ينطبق حتّى على المسائل السلوكيّة، بحيث إنّه لو وزنتها بالعقل والفطرة، فيجب أن يؤيّدها تسعون نفرًا مِنَ المئة – بحسب ما فرضه ذلك الشخص – ويحكمون بصحّتها. أمّا ذلك الشخص [فلم يُصْغِ لِمَا قيل له] فأشغل كلّ أوقاته بالأذكار.
قصّة أحد الرجال مع أمير المؤمنين عليه السلام
حصل في زمن أمير المؤمنين أن اعتزل أحدُهم الناسَ في صحراء وذهب يشتغل بالصلاة، وحصلت له حالات جيّدة، ولكنّه كان قد ترك زوجته وأطفاله بدون معين، قائلًا: إنّ لهم الله سيرعاهم. استدعى أمير المؤمنين أخاه وأمره بإحضار ذلك الرجل، وعندما حضر نَهرهُ أمير المؤمنين بشدّة وقال له: من تَعبد، إنّ الّذي تعبده قد أمرك بالاعتناء بزوجتك وأطفالك، وأن توفّر لهم حاجاتهم، فمَن تعبد؟! إنّ هذه العبادة لا يمكن أن تكون لله، بل هي لذلك الإله الخياليّ الّذي صنعته لنفسك. إنّ العبادة الحقيقيّة هي أن تجلس وتنتظر وترى ما يُرضي الله، فتُقدم عليه، وتترك ما يُسخطه، هذا هو الإله الحقيقيّ.
قصّة أحد الرجال مع أويس القرنيّ
يُقال إنّ أويسًا خلال مروره مِن مكان ما، رأى شخصًا يصلّي داخل قبر، فوقف على رأسه ساعة، ووجده، ما إن يتمّ ركعتين حتّى يأتي بغيرهما، فقال له: ماذا تفعل؟ قال: أُصلّي حتّى أجتنب ضغطة القبر وعذابه. فقال له: منذ متى وأنت على هذه الحال؟ قال: أنا على ذلك منذ عشرين سنة. فقال له: أتصلّي في هذه الحفرة منذ عشرين سنة؟ قال: نعم. فقال له: لقد ابتعدت عن الله مدّة عشرين سنة. لماذا؟ لأنّه متى أمر الله بالصلاة مِن أجل اتّقاء عذاب القبر؟! كان عليك أن تشتغل بعباداتك [المشروعة] ومعاملاتك، وبذلك يرتفع عنك عذاب القبر، فليس لدينا صلاة ترفع ضغطة القبر، وبالتالي فقد حوّلتَ ضغطة القبر إلى صنم تعبده، فكان عليك أن تصلّي لله لا لهذا التراب والحجر، وعليك أن تصلّي لله لا للفرار مِن منكر ونكير، وعليك أن تصلّي لله لا خوفًا مِنَ العذاب وأمثاله. ألاحظتم كم الأمر مهمّ!
الفطرة موهبة إلهيّة مُفعَّلةٌ عند الجميع دون استثناء
الفطرة موهبة إلهيّة تُمكِّن حتّى الإنسان العاديّ – إن لم يكن له غرض أو فيه مرض – مِنَ النظر في أعمال الآخرين [فيميّز الصالح منها] ويقبل به، وبهذا يكون الطريق الّذي يطويه متوافقًا مع الفطرة، ويكون كلامه مطابقًا للفطرة.
والمراد مِنَ الناس العاديّين هنا، هم أولئك الّذين نرجع إليهم في موارد عديدة، على سبيل المثال؛ لو تعرّض أحد إلى ظلمٍ وهو يمشي في الشارع، كأن يتهجّم عليه اثنان مِنَ المارّة ويحاولان ضربه، ألن سيستغيث حينئذٍ قائلًا: أيّها الناس تعالوا وانظروا، إنّهما يريدان ضربي! لماذا يقومان ذلك! ألن يقول حينئذٍ: أيّها الناس تعالوا وانظروا! أيّها الناس لا تدَعوهم يفعلون ذلك! فهو عندما يقول ذلك، إنّما يطلب أنّ يحكِّم الناس فطرتهم في هذه القضيّة.
فكيف يصحّ أن نلجأ إلى هؤلاء الناس ونُحكِّمهم عندما نتعرّض لظلمٍ، أمّا عندما يكون الأمر لصالحنا نعتبرهم بمثابة الحيوانات وأنّهم لا يفهمون شيئًا؟! ترانا عندما نواجه هذه المسائل العاديّة، نُحكِّم هؤلاء الناس ونُحكِّم فطرتهم وعقولهم، ليحكموا بيننا بالعدل والحقّ، فننادي ونصيح ونصرخ: أيّها الناس تعالوا وانصرونا على هذا الّذي يضربنا أو يحاول سرقة أموالنا. أو نقول: أيّها الناس، تعالوا وانظروا كيف يظلمني هذا الرجل. فعندما ننادي ونقول: أيّها الناس، أيّها الناس. فمَن نقصد بالناس هنا؟ إنّنا نقصد هؤلاء الناس أنفسهم طبعًا، نعم، إنّنا نقصد هؤلاء الّذين لهم عقول ومشاعر وفطرة. أمّا عندما نقوم بعمل صائب بنظرنا، [فترانا] نقول: إنّ هؤلاء الناس يقضون بما يحلو لهم، وهم ليسوا مِن بني البشر، ثمّ مَن يكون هؤلاء! فالكلام كلامي، فليذهبوا بحال سبيلهم. [أقول:] لماذا على الناس أن تذهب بحال سبيلها هنا، والحال أنّ عقولهم لم تتبدّل، فليس للإنسان عقلان، يضع أحدهما في حقيبته عندما يمشي في الشارع، وإذا ما التقى بشخص يخرجه مِنَ الحقيبة ويضعه مكانه! كلّا، ليس الأمر بهذا الشكل، بل لكلّ إنسان عقل واحد، لا أكثر، يكون معه أينما ذهب؛ فإمّا أن يتّبع ما يأمره به هذا العقل، أو لا يتّبعه. فليس للإنسان عقلان، بل هو عقل واحد؛ فالعقل الّذي يميّز بين الحقّ والباطل في المواضيع الجزئيّة، هو نفسه الّذي يشخّص المسائل الكلّية، وهو نفسه الّذي يحكم بصحّة رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وبطلان نبوّة مسيلمة الكذّاب۱. هو عقل واحد؛ فالعقل الّذي يسيّر الإنسان على الطريق الصحيح، هو نفسه الّذي يُريه الحقّ والباطل في القضايا الجزئيّة، فلا يوجد عقلان. وبهذا يتّضح بطلان قول البعض بأنّ هناك أمورًا خاصّةً لا يستطيع الناس استيعابها لأنّ لا عقل لهم، أمّا بقيّة الأمور فعقول الناس تستوعبها.
جميع الناس يمتلكون فطرة، لذا على الجميع اتّباع هذه الفطرة؛ فما هو معنى الدين حينئذٍ؟ إنّ معنى الدين هو عدم مخالفة الفطرة. بناءً على هذا، فإن رأى الإنسان أنّ الأوامر والبرامج الصادرة عن البعض متوافقةٌ مع الفطرة، سيعلم عندها صحّة طريقهم، أمّا إن لم تتوافق معها، سيحكم عليها بالبطلان، كائنًا مَن كان الرجل الّذي تصدر منه تلك الأوامر. إذن، فالفطرة لا تختصّ بأناس دون أناس، وامتلاك العقل لا يختصّ بأناس دون أناس، بل للجميع عقل وفطرة.
هذا طبعًا استعراض مجمل لِمَا يتعلّق بالفطرة، أمّا ما هي [حقيقة] الفطرة وما الّذي تستطيع أن تفعله [تفصيلًا]، فتلك مواضيع يجب أن نتحدّث بشأنها [فيما بعد].
الموضوع الثالث: الثبات على الحقّ وصرف الاهتمام إليه
إنّ الموضوع الثالث الّذي تتحدّث عنه الآية۱ هو أنّ الله يقول: ها قد عرفت معنى الفطرة، وعرفت الدين المطابق للفطرة، فما الّذي عليك أن تقوم به في هذه الحالة؟ ما عليك [القيام به هو]: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}، أي عليك أن تصرف كلّ اهتمامك نحو الدين؛ فها قد عرفتَ معنى الفطرة، وأنّها مِنَ المواهب الإلهيّة الّتي منحك الله إيّاها، وهي الموهبة الّتي تمكّن الإنسان مِنَ التمييز بين الصحيح والسقيم. إنّك تتألّم عندما ترى شخصًا يُظلم، فما الّذي يجعلك تتألّم؟ فهل هذا القدح الّذي بيدي يتألّم لذلك؟ كلّا، إنّه لا يتألم، لماذا؟ لأنّه لا يمتلك الفطرة والروح، أمّا بالنسبة لنفسي، فأنا أتألّم.
لنفترض أنّ طفلًا صُفع على وجهه الآن، فسأتألّم وسأنهَر مَن فعل ذلك وأقول: لماذا ضربت هذا الطفل؟! كلّ هذا يحصل بسبب معارضة ذلك الأمر للفطرة، وما هو هذا الأمر؟ إنّه الظلم، فالظلم واحدة مِنَ الأمور الّتي تعتبرها الفطرة قبيحة، فالفطرة لا تقبل الظلم ولا تستسيغه. أمّا إن كان الطفل تحت التخدير، ويحاول الأطباء إعادة وعيه، أو كان الطفل مُغمى عليه، فضربوه ليستعيد وعيه، فتراهم يضربونه ويضربونه، فهل ستتألّم لذلك؟ كلّا، بل ستقول لهم: اضربوه بشدّة أكبر، لماذا؟ لأنّ الأمر مختلفٌ هنا، فالطفل مُغمًا عليه، ولا بدّ مِن تعريضه لصدمة ليستفيق. فالأمر مختلفٌ هنا، وإن كانت صورة الحالتين واحدةً، إذ الطفل يُضرب على وجهه في كلتا الحالتين، غير أنّ الفطرة تقول اضربه هنا ولا تضربه هناك، فالفطرة تقول هنا: إن لم تضربه فلعله يموت، فيجب عليك أن تَصعقه ليستعيد وعيه. أمّا هناك، فتقول الفطرة: لا تضربه.
فما دمت قد عرفتَ معنى الفطرة، وعرفتَ أنّ الدين المطابق للفطرة هو عبارة عن التعليمات والأوامر والنواهي الّتي تدعو الإنسان للاستفادة مِنَ المواهب الإلهيّة، فبعد أن عرفتَ هذا عليك أن {فَأَقِمْ}، أي يجب أن تَثبتَ على الحقّ، فلا يمكنك في هذه الحال أن لا تبالي؛ فإن وقع أمامك ظلم، لا يمكنك أن تكتفي بالنظر إليه وتنصرف، وإن رأيت الحقّ، لا تستطيع أن تكتفي بالنظر إليه وتنصرف؛ كلّا، بل عليك أن تنصر الحقّ إن استطعت تشخيصه، وعليك أن تواجه الظلم والكذب والنفاق عند تشخيصهم، وكذلك الأمر عندما تشخّص الصدق والسلم والخلوص. نعم، عليك أن تَثبتَ في هذه الموارد، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفًا}، أي إنّ الوجهة الّتي يجب أن تتّجه إليها هي الدين.
{وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، فإنّ الناس يعرفون الحقّ، ولكنّهم يتأمّلون فيه ليروا إلى أيّ حدّ سينفعهم وإلى أيّ حدّ سيضرّهم؛ مثلًا، قد يرى أحدهم الحقّ فيقول: إن قلتُ الحقّ هنا فسيقاطعونني، لذا لن أقول الحقّ، فهذا موضوع لا يعنيني! وقد يرى أحدهم الظلم فيقول: إن تدخلتُ فسيُعرضون عنّي، فما علاقتي بهذا الموضوع لكي أتدخّل فيه، فهو موضوع عائليّ! طبعًا، لا يجوز التدخّل في بعض موارد الخلافات العائليّة، وهذا موضوع آخر، أمّا إن رأى الإنسان حادثًا وهو مارّ في طريقه، وطُلب منه أن يشهد بما رأى، فالشهادة واجبة عليه في مثل هذه الحالة. ولو طلب القاضي حضور الشاهد إلى المحكمة، ولم يحضر، سيكون قد ارتكب عملًا محرّمًا؛ فما دمت قد شهِدت الحادث بنفسك، فعليك أن تحضر في المحكمة وتُدلي بشهادتك لأجل إحقاق الحقّ. وعندما تواجه أمرًا باطلًا، فلا يصحّ لك أن توجِد له المبرّرات وتتجاوز عنه؛ فإن فعلت ذلك ستُبتلى غدًا بمثله، وسيقوم الآخرون بتبرير ذلك الفعل ويتجاوزون عنه أيضًا [كما فعلت أنت]. وإن لم تُبتل بذلك في الدنيا، سيوقفونك هناك ويقولون لك: لماذا اخترتَ السكوت عندما رأيت بنفسك حقَّ فلانٍ يضيع؟! وعندما رأيتَ ذلك العمل الباطل، لماذا قلت: ما دام الأمر لا يهمّني فلِمَ أحشر نفسي في موضوع قد يضرّ بحياتي اليوميّة؟! فالمرء سيُحاسب على كلّ ذلك. هذا هو معنى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفًا}.
مكانة العالِم الرفيعة لا تعني الالتزام بجميع قناعاته
عندما كنتُ في الخامسة عشر أو السادسة عشر مِنَ العمر، كان بيتنا في منطقة (بيج شمران)۱ في طهران، فزارتنا إحدى عمّاتي يومًا، وجلست تتحدّث مع المرحوم الوالد في إحدى الغرف، وكنت أنا في ساحة المنزل أسقي الزرع في الحديقة، ولمّا كان الباب الّذي يطلّ على ساحة البيت مفتوحًا، وكان صوتهما عاليًا، كنت أسمع بسهولة ما يدور بينهما مِن حديث، فلم يكن الأمر يحتاج إلى الإنصات لأسمع حديثهما – أنا أنقل لكم هذه الحكاية مِن باب أنّه يجب علينا أن نقول الحقّ ولا يحقّ لنا كتمانه – كان المرحوم جدّي يرى ضرورة أن يكون مهر بناته مرتفعًا، لكي يعرف الأزواج قدرهنّ جيّدًا، كان ذلك اعتقاده في هذا الموضوع، وكانت عمّتي تدافع عن وجهة نظره تلك، فسمعتُ صوت المرحوم الوالد قد ارتفع كثيرًا وقال بغضبٍ شديد: إن كانت أفعال والدي صائبةً، فهذا لا يعني أنّه يجب أن نقبل كلّ ما كان يفعله، فلا يمكننا أن نتخلّى عن سُنّة نبيّنا لأنّ الوالد يرى غيره، فإن كان يرى الأمر بذلك الشكل فذلك يخصّه هو، أمّا بالنسبة لي فأنا أزوّج بناتي على سُنّة النبيّ، فمهرهنّ هو مهر السُنّة، ولا يهمّني ما كان يراه أبي. قال ذلك بصوتٍ مرتفع.
كان المرحوم العلاّمة يمدح ويُمجّد أباه بشكل كبير، ولعلّكم سمعتم شيئًا عن سيرة جدّي، وإن لم تكونوا قد سمعتم بذلك حتّى الآن، فستسمعون عنه عندما تصبح بعض خُطب المرحوم العلّامة جاهزة للنشر، كما أنّه ذَكر عنه شيئًا في كتاب (وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام)۱. لقد كان جدّي رجلًا عظيمًا حقًّا، وكان شديد الصلابة في أمر الدين؛ قال رضا شاه في ذلك الوقت: إنّ رجل الدين الوحيد الّذي لم أتمكّن مِن مواجهته هو السيّد محمّد صادق اللاله زاري – هذا كان لقبه حينها – فقد وقف هذا الرجل بكلّ صلابة في وجهي، ولم أتمكّن مِن ردعه بأيّة وسيلة مِنَ الوسائل.
كان الرجل معروفًا بمواقفه واهتمامه بأمر الدين، وهذا محفوظ في محلّه، أمّا اعتقاده ذاك فهو اعتقاد خاصّ به. فمكانة الرجل لا تُصيّره صائبًا في جميع معتقداته، ومصيبًا للواقع. كما كانت لوالدي أيضًا مكانته الخاصّة، وأنا أقطع بكونه أعلم مِن أبيه، هذا مع غضّ النظر عن كون صحّة مبانيه مستندة إلى عرفانه وشهوده، فهو مِنَ الناحية العلميّة أعلم مِن أبيه. هذا بالنسبة إلى الوالد، أمّا بالنسبة لي – أنا الّذي ليس لي محلًّا مِنَ الإعراب في ذلك الوقت حيث كنتُ في الثامنة عشر أو العشرين مِنَ العمر – فعندما كنتُ أتكلّم مع بعض أقاربنا ومع عمّاتي حول بعض تصرّفاته، كنتُ أفنّدها بدون مجاملة فأقول: إنّ مكانة جدّي محفوظة في محلّها، غير أنّ ذلك الأمر الّذي كان يقول به لا يتوافق مع هذا المبنى. فكانوا يقولون لي: أنت يا فرخ الدجاج، ما لك وهذه المواضيع. فكنتُ أقول لهم: سواء كنتُ فرخَ دجاج أو بيضة، فهذا الأمر لا يتوافق مع ذاك، فإن كنتم قادرين على إقناعي بأنّي مخطئ فافعلوا، وأنا سأقبل ذلك منكم، وإلّا فالخلاف لا يمكن أن يُحلّ بنعتي بفرخ دجاج! ما الّذي يعنيه هذا الوصف؟! إنّه يعني أنّ عليك أن تخفض رأسك وتقبل ما يُقال لك! ولكن طريق الحقّ واتّباع الحقّ لا علاقة لهما بكون المرء فرخ دجاج أم لا، بل لهما علاقة بالتبعيّة وقبول الحقّ والميل إليه. هذا ما رأيناه – كما قلت لكم – في سيرة والدنا.
إحدى مِلاكات الوليّ أنّ كلامه واحد مهما اختلفت الموارد
كنتُ أتحدّث في أحد المجالس عن مِلاكات معرفة الوليّ۱، فقلتُ: إنّ أحد هذه المِلاكات هو أنّ كلام الوليّ لا يتبدّل مع اختلاف الظروف وتفاوت الأحداث الّتي يمرّ بها، يعني أنّ كلامه واحدٌ في مختلف الظروف، سواء كان هذا الكلام في صالحه أم ضدّ مصلحته أم أنّه لا يعنيه أصلًا. هل التفتّم! هذا هو أحد المِلاكات؛ وهذا كان مشهودًا في تصرّفات المرحوم العلّامة، فقد كان كلامه واحدًا، فما كان يوصّي به النساء مِن ضرورة تبعيتهِنّ لأزواجهِنّ، كان يوصّي به بناته أيضًا.. هذا ما كنّا نراه بأعيننا.
حصل يومًا خلاف بين إحدى أخواتي وزوجها، فجاءت أختي إلى بيتنا، وطُرحت حينها وجهات نظر مختلفة حول ما يجب فعله، وفي هذه الأثناء خرج المرحوم العلّامة مِن غرفته قاصدًا الخروج مِنَ البيت، وعند مروره بالصالة رأى أختي وعرف ما جرى، فقال لها: عودي إلى بيت زوجك، وإن أردتِ أن تأتي إلى هنا مرّة أخرى فتعالي بمعيّة زوجك، البسِي الآن عباءتك واخرجي. أترون كيف أمر ابنته بنفس ما كان يأمر به غيرها مِنَ النساء. يُعلم مِن هذا التصرّف أنّ الرجل كان رجل حقٍّ وصدق، لا يتفاوت الأمر لديه، سواء بشأن ابنته أو غيرها، بل يتعامل في مثل هذه المواقف بشكل أشدّ، حتى أنّني اعترضتُ عليه مرّة وقلت له: تعامل معنا كما تتعامل مع الآخرين، ولا تزد عليه. فضحك وقال لي شيئًا.
نعم، هكذا هو الحال، فكلامه واحد في الموارد المختلفة، لا يتفاوت أبدًا. لماذا يكون الأمر بهذا الشكل؟ لأنّ الحقّ واحد لا يقبل الزيادة أو النقصان؛ فكما أنّ أبناء فلان محترمون ومعزّزون لديه، فكذلك الأمر بالنسبة إلى أبناء الآخرين، فهم على هذا النحو عند آبائهم؛ وكما أنّنا عطوفون على أبنائنا، يجب أن نكون كذلك تجاه الّذين يأتون إلى بيوتنا ليعيشوا معنا، فهم كانوا معزّزين ومحترمين في المحيط الّذي كانوا يعيشون فيه.
الحقّ واحد فيجب أن يكون الحكم واحد في مختلف الظروف
على الإنسان أن يكون حذرًا جدًّا في مثل هذه الموارد، فلا يسمح للشيطان أن يتدخّل – لا سمح الله – في حكمه على الآخرين، فيجعله يحكم بأحكامٍ متفاوتة؛ فتراه يتصرّف بشكل معيّن مع مَن تربطه بهم علاقة صداقة أو قرابة، أمّا مع سواهم فتراه يتصرّف بشكل مغاير. مَن يفعل ذلك، لن يكون مصداقًا لـ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ}؛ إنّ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} تعني أن ينظر المرء إلى الطرف المقابل على ما هو عليه دون أن يأخذ بالاعتبار نوع العلاقة [الّتي تربطه به]، كالقاضي الّذي يَمثُل أمامه شخصان لا يعرف أيّ شيء عنهما، فقضاؤه لصالح أحد الطرفين لن يجلب له أيّ نفع، فعندما يكون كِلا الخصمين غريبين، لن يجني أيّ نفع مِن قضائه لأحدهما على حساب الآخر.
مِنَ القِصص الّتي تُروى عن الرجل المعروف باسم (الأمير الكبير): أنّ قاضي طهران – والّذي كان رجلًا معمّمًا – جاء إلى (الأمير الكبير) يومًا طالبًا لقاءه، فقال له (الأمير الكبير): ماذا تريد؟ قال: أقام اليوم رجل دعوى على ابن أختك، فجئت لأرى وجهة نظرك في هذا الأمر، لأحكم غدًا على ضوئها. فقال له (الأمير الكبير): يا للعجب! أجئت إلى هنا لكي تعرف وجهة نظري وتحكم على ضوئها بالباطل. فنزع عمامة الرجل وضربه على رأسه وطرده وقال: تَعسًا لك، هل عيّنتُك قاضيًا لتُراعي ابن أختي؟! ثمّ قام بتعيّين أحد علماء قمّ مكانه، والّذي كان رجلًا تقيًّا جدًّا.
أتعلمون ما الّذي يعنيه القضاء الإسلاميّ، وفي أيّ اتّجاه تتجّه الأمّة الإسلاميّة؟ عندما يحكم القاضي بين شخصين لا تربطه بهما أيّة علاقة، سيرى نفسه محايدًا في القضيّة؛ فعندما يطرح كلّ خصم ما لديه، يحكم بينهما حكمًا محايدًا، فيحكم لأحدهما ويُعطيه حقّه. فعلى الإنسان أن يتعامل مع ما يواجهه مِن أمور، كتعامل هذا القاضي، فيرى نفسه محايدًا في القضيّة المطروحة أمامه، وذلك ليتمكّن مِنَ الحكم بينهما حكمًا صحيحًا، ويُبعد يد الشيطان عنه، ويُمسك زمام أموره بيده، فينجو بنفسه مِنَ الامتحان الّذي عرّضه الله له. نعم، عليه أن يرى نفسه محايدًا.
النبيّ ووليّ الله يخضعان لقاعدة واحدة في مقام التبليغ
كنتُ أتناقش مع المرحوم العلّامة في موضوع ما، وفي نهاية الأمر اخترتُ السكوت، وبقيت القضيّة دون حلّ. ومضت أشهر على هذه الحال دون أن أطرح الموضوع معه لشعوري بأنّ طرحه لن يؤدّي إلى نتيجة، حتّى جاء المرحوم العلّامة مِن مشهد إلى قمّ، وذلك في فصل الشتاء الّذي كان باردًا جدًّا، ليُنجز عملًا خيِّرًا يتعلّق بأخي السيّد علِيّ. فكنتُ جالسًا في إحدى الليالي في الغرفة القريبة مِنَ الباب في البيت القريب مِنَ الحرم، وكان المرحوم العلّامة في الغرفة الواقعة في الجهة الأخرى مِن ساحة البيت، فجاء إلى غرفتي وتحدّثنا، فطرح المرحوم العلّامة – دون أن يُصرّح بذلك الموضوع أو يشير إليه – المسألة التالية قائلًا: أشعر أحيانًا أنّ رسول الله، الّذي يمتلك مقام الرسالة والولاية العُظمى، وهو واسطة الفيض لكافّة عالَم الوجود، وله كذا وكذا مِنَ المقامات، فلو أراد هذا الرسول، مع ما هو فيه مِن مقام، أن يضيف أو ينقص شيئًا مِن عنده فيما يؤمر به، ولو كان بمقدار ذرّة أو رأس إبرة – كأن يُقال له أعط فلانًا قدحًا مِنَ الماء فيعطيه ذلك ويضيف إليه ماء بمقدار ملعقة شاي – [أتعلم أيّ بلاء سيحلّ عليه حينئذٍ]، هذا بالرغم ممّا لرسول الله مِن مقامٍ، فهو صاحب مقام الولاية والنبوّة، وهو مَن ينزل جبرائيل عليه، وعزرائيل يستأذن للدخول إليه.. أراد المرحوم العلّامة هنا الإشارة إلى نفسه بأنّه ليس مستثنى مِن [هذه القاعدة]، فحاله لا يختلف عن حال النبيّ مِن هذه الناحية۱.
لقد ذُكرت هذه المسألة في محاضرة الأمس أو اليوم الّذي قبله، حيث قال [المحاضِر]۱: عندما جاء عزرائيل لقبض روح النبيّ، وقف جانبًا واستأذن للدخول عليه قائلًا: أنا لا أستأذن على أحد، ولكنّني مأمور بطلب الإذن عند الدخول عليك فقط. [أقول:] توجد معانٍ كامنة في كلّ ذلك؛ فهذا عزرائيل الّذي يتمثّل بهيئة إنسان، وجميع مستكبري العالَم كالشمع بين يديه، وكلّ عالَم الوجود كالشمع بين يديه ويدي جبرائيل، فهما وجميع الملائكة خدّام للنبيّ والأئمّة.
[ورغم كلّ هذا] أتعلمون أيّ بلاء سيحلّ على هذا النبيّ إن أراد أن يزيد أو ينقص شيئًا ممّا يوحى إليه؟! ثمّ نطق المرحوم العلّامة بهذه العبارة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاويلِ}، يا له مِن أمر عجيب! {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاويلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ}٢؛ إنّ معنى قوله {بَعْضَ الْأَقاويلِ} هو الشيء اليسير منها، أي ولو بمقدار رأس إبرة، فلو غيّر ما نوحي إليه في هذا الاتجاه أو ذاك {لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ}، ثمّ ماذا سنفعل به؟ {ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتينَ}، يُقال لعرق الرقبة: الوتين، وهو العرق الحياتيّ في الإنسان، وأيضًا: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزينَ}؛ ما الّذي يجري هنا؟! فإن كان الله يتعامل مع نبيّه بهذا الشكل، فكيف سيتعامل معنا نحن؟!
ثمّ قال المرحوم العلّامة: هذه المسألة تخطر على ذهني دومًا، فأقول: إنّ النبيّ، مع كلّ ما له مِن خصائص، إلّا أنّ وضعه أمام أوامر الله ونواهيه هو هذا: {لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزينَ}٣.
[أراد العلّامة بهذا أن يقول لي:] عندما طرحتُ عليك ذاك الموضوع، فأنا لم أضيف عليه ولم أنقص منه شيئًا مِن تلقاء نفسي، فعليك أن تنتبه لهذا جيّدًا. هل تعتقد أنّني أضفتُ عليه أو أنقصت منه شيئًا؟! [كلّا، وإلّا] لانطبق علَيّ ذلك الحكم [المذكور في الآيات] – يريد العلّامة أن ينبّهني هنا إلى التكليف المُلقى على عاتقه – فلو أردتُ أن أتجاوز هذا التكليف، بأن أضيف عليه أو أنقص منه شيئًا، ولو كان بمقدار رأس إبرة، أو بأن أراعي حال البُنوّة هنا، لانتهى أمري. كانت تلك عين كلماته، قال: لانتهى أمري.
ما الّذي يعنيه هذا؟ إنّ هذا هو الدين الحنيف، فالدين الحنيف هو الدين الّذي يجعلني – بعد مرور ستّ سنوات على ارتحاله – عندما أراجع تصرفاته أرى أنّ عمله كان حقًّا وصدقًا، وأن ذاك العمل هو الّذي فتح لي الطريق في يومي هذا، وأنّ كلامه مصباحٌ أضاء لي الطريق في هذا الوقت.
الفرق بين القانون الإلهيّ والقانون الوضعيّ
إنّ الله يأمر باتّباع هذا الدين، ولا يقبل أن نتجاوزه. لماذا لا يقبل بذلك؟ إنّ السبب في ذلك يعود إلى ما قدّمناه، وهو أنّ الدين مبنيّ على أساس الفطرة، فهو ليس بقانون وضعيّ يقرّه مجلس ما في هذه الأيّام ثمّ يأتي غدًا مجلس آخر – دون أن يمنعهم أحد – ويقول: بدّلنا ما أقرّه أعضاء المجلس السابق. ثمّ يأتي مجلس جديد فينقض ما أقرّه المجلس الّذي سبقه، وهكذا، كلّ مجلس يأتي فيضع قوانين ويذهب! أيّ نوعٍ مِنَ القوانين هذه؟! إنّها قوانين اعتباريّة، وهذا جارٍ في كلّ مكانٍ، فلو نظرتم إلى ما يجري في بقيّة البلدان، لرأيتم كيف يقوم مجلس معيّن بوضع قانون، ثمّ يغيّره بناءً على مصلحة يرتئيها، وكلّ حزب يجمع عددًا أكبر مِنَ الممثِّلين، يقوم بوضع قانون يصبُّ في مصلحته. هذا هو وضع المجالس.
أمّا القانون الإلهيّ، فهو لا يتبدّل، لماذا؟ لأنّه مبنيّ على أساس الفطرة.. إن كان العَظم يتحمّل مقدارًا معيّنًا مِنَ الوزن، ووضعت عليه وزنًا أكبر مِن ذلك سينكسر، فهل يستطيع أحد أن يقول: كلّا، فإنسان هذا العصر يختلف عن الإنسان في زمن رسول الله، إذ عظام أولئك تنكسر، أمّا الآن فهي لا تنكسر؟! كلّا يا عزيزي، لا يمكنك أن تقول ذلك، وإن شئت فاختبر الأمر بنفسك، فسترى أنّه سينكسر. وكذلك الأمر في الميكروبات، فإن دخل الميكروب جسم الإنسان في زمن رسول الله لتسبّب في مرضه، وهو سيفعل به الشيء نفسه في هذا الزمان، إلّا أن يكون الإنسان قد استعدّ لذلك وأخذ اللقاح المضادّ. فما الّذي اختلف في طبيعة الخِلقة البشريّة بين زمن رسول الله وبين هذا الزمان؟! هل ازداد طول قامة الإنسان، أم ازداد وزنه، أم أنّ حجم رأسه قد كبُر عمّا كان عليه؟! إنّ الإنسان هو ذات الإنسان، وغرائزه هي ذاتها، لم تنقص أو تزدد شيئًا. كما أنّ الشيطان هو نفس الشيطان، بل ازدادت خبرته عمّا كانت عليه، فهو قد اختبر الناس بشكلٍ جيّد وعاشر الكثير خلال الألف والأربعمئة سنة الماضية، وازدادت قابليّته [على الإغواء]. فما الّذي تغيّر والحال هذه؟! لم يتغيّر شيء أبدًا.
ولهذا نرى النبيّ يقول: إنّ الأحكام الّتي جئتُ بها، والأوامر والنواهي الّتي أصدرتها، باقيةٌ، وستبقى على ما هي عليه إلى يوم القيامة. لماذا؟ لأنّ طبيعة الخِلقة البشريّة لا يمكن أن تتبدّل. نعم، إن جاء زمانٌ يتبدّل فيه الإنسان إلى خروف أو جمل، ستتبدّل حينئذ التكاليف وفقًا لذلك، ولكن ما دام الإنسان إنسانًا، فستبقى التكاليف على ما هي عليه.
هذا توضيح عامّ فيما يتعلّق بأصل الدِّين، ومنهاجه وغايته. أمّا فيما يتعلّق بالفطرة، وما هي [حقيقة] الفطرة، وهل تتفاوت هذه الفطرة بين الرجل والمرأة، وما هي الأحكام والتكاليف السلوكيّة لكلّ مِنَ الرجل والمرأة بناءً على الفطرة، [فهذه مواضيع] سنتطرق إليها في المجلس القادم إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد
توضيح لإحدى أفعال السيّد الحدّاد ورفع الشبهة حوله
أحد الحضور: هل أستطيع أن أطرح سؤالًا؟
سماحة السيّد: نعم، تفضّلي.
السائل: قلتم عن ذلك الشخص إنّه في الوقت الّذي كاد أن يسقط سقف بيته كان يقيم مأدبة باسم الإمام الحسين عليه السلام، وقلتم إنّه كان عليه أن يُصلح سقف بيته بدل ذلك. فإن كان الأمر كذلك، فكيف نُفسّر ما كان يقوم به السيّد الحدّاد، حيث كان يُنفق بلا حدود، ويقول لمساعده في العمل: خذ كلّ ما تحتاجه مِنَ الإيراد اليوميّ – هذا ما قرأناه في كتاب الروح المجرّد – [ويتغاضى] عن تحايل البعض عليه بشراء المواد منه بسعر وإعادتها إليه بسعر أعلى، مع علمه بكلّ ذلك؟
جواب سماحة السيّد: ما جرى مع ذلك الشخص يختلف عمّا كان يجري مع السيّد الحدّاد؛ فالسيّد الحدّاد كان يتعامل مع الناس وفقًا لمبدأ حفظ الكرامة الإنسانيّة، أمّا ذلك الشخص فكان يُهمل عمله، أي إنّه كان قادرًا على الخروج والعمل والكسب، ولكّنه لم يفعل ذلك، فلو كان يخرج للعمل كما كان السيّد الحدّاد يفعل – أي لو خرج وعمل وتعامل مع الناس – لكان عليه أن يتعامل معهم وفق [مبدأ حفظ] الكرامة الإنسانيّة.
يحصل أحيانًا أن يواجه الإنسان شخصًا ذا أغراض وعناد، شخصًا يريد إثارة المشاكل، ففي مثل هذه الحالة، يجب عليه أن يقف في وجهه، أمّا في غير هذا المورد، فعليه أن يغضّ الطرف. وهناك الكثير مِنَ الروايات الّتي تتحدّث عن غضّ الطرف والعفو۱. فعندما يعلم الإنسان أنّ الطرف المقابل قد ارتكب خطأً ولا يريد أن يفضحه، فهل يحضره ويجبره على الاعتراف بقيامه بذلك العمل؟! كان أمير المؤمنين يقول: إنّ الحياة عبارة عن عدم رؤية ثلثَي ما يحصل، وغضّ الطرف عن الثلث الآخر، أي على المرء أن لا يلتفت أصلًا إلى ثلثَي ما يحصل وأن يغضّ النظر عن الثلث الآخر الّذي يلتفت إليه.٢ إذن، فالأمر كلّه يصبح مبنيًّا على التغاضي، وذلك مِن أجل أن تستمرّ الحياة اليوميّة.
إنّ كرامة نفس السيّد الحدّاد لم تكن تسمح له أن يفرض شراء تلك المواد بقيمتها العاديّة. وهذا في الواقع مرتبة فوق مرتبة العدالة، وهي مرتبة الإيثار. أمّا ذلك الشخص، فلم يكن يخرج إلى عمله، ولم يكن يصغي للكلام؛ كان عليك أن تخرج وتعمل يا هذا، وإن كسبت شيئًا، تستطيع حينها أن تنفق منه على الآخرين، لا أن تتكاسل عن العمل وتكتفي بالقول: إنّ الله رزّاق، وهو يُوصل رزق الإنسان إليه. فالقضيّتان إذًا مختلفتان عن بعضهما البعض.