المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
في إطار حديثه عن الفطرة تعرض سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله نفسه الزكيّة) في هذه المحاضرة إلى مسألة مهمة و هي اتحاد ما تدعو إليه الفطرة والعقل والعرفان، فقال: حتّى لو لم يكن للإنسان أيّ اعتقاد دينيّ، فإن احتكم للعقل والمباني العقلائيّة، لن يجد سوى طريق العرفان والسلوك. والحركة السلوكيّة والعرفانيّة هذه إنّما تكون على ضوء الفطرة والعقل والوجدان والشهود، الّتي تمثّل جميعها أساس ومبنى هذه الحركة.
ثمّ إنّ المباني العقلائيّة والعقليّة والشرعيّة والشهوديّة والعرفانيّة متّحدةُ المصدر، فلن تجد بينها اختلاف ولا تباين ولا تزاحم، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وهذا دليل واقعيّة هذا الطريق. وهذه المذكورات تتضافر في تعليماتها لإيصال الإنسان إلى هذا المصدر المشترك، الّذي هو غاية كمال الإنسان، وعندها يكون عقله على اتصال لا ينفك عن العقل الفعّال، فلا يصدر منه حكمًا مشوبًا أبدًا.
ثمّ إن سألنا الفطرة والوجدان عن دعوتهما لقالتا فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. ثمّ ختم بالإجابة عن أسئلة حول كيفيّة التوفيق بين رعاية الزوج ورعاية الأبناء وتعليم الفتاة وحفظ دين الأبناء.
هو العليم
اتّحاد الفطرة والعقل والعرفان
المرأة والأسرة – قم – الجلسة الثالثة عشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
كان لدى إحدى السيّدات سؤالٌ يتعلّق بما تمّ طرحه مِن مواضيع في المجالس السابقة، فلتتفضّل بطرح سؤالها، ثمّ ننتقل إلى موضوع جديد، وإن لم يكن ثمّة سؤال، فسننتقل إلى موضوع آخر.
كان حديثنا يدور في المجالس السابقة عن الفطرة، والحركة والسير وفقَ تلك الفطرة، وتمّ الحديث استطرادًا لمناسبةٍ ما – في مجلسين أو ثلاثة – عن موضوع الزواج، وقد تمّ بحث هذا الموضوع مِن جوانبه العرفانيّة والعقليّة والإسلاميّة.
سبق بيان هذا الأمر للأصدقاء ورفقاء الطريق، وهو أنّ أساس ومبنى الحركة السلوكيّة والعرفانيّة يكون على ضوء الفطرة والعقل والوجدان والشهود. كنتُ قد كرّرت هذا الأمر مرارًا وقلت: إذا لم يكن لأحد أيّ اعتقاد دينيّ، فلن يجد – بناءً على المباني العقلائيّة وحكم العقل – طريقًا آخر سوى طريق العرفان والسلوك والمدرسة الّتي دعا العظماءُ وأولياءُ الله الناسَ إليها؛ أي إنّ العقل يُلزِمنا باختيار هذا الطريق وهذا النهج.
اتّحاد مصدر المباني العقلائيّة والعقليّة والشرعيّة والشهوديّة والعرفانيّة
بناءً على هذا الأصل، فهناك اتّحاد بين المباني العقلائيّة وحكم عقل والمباني الشرعيّة والشهود العرفاني. وهذا الاتحاد يحكم بواقعيّة هذا الأمر وثبوت تلك الحقيقة، ويقول أنّ هذه الطرق الثلاثة المختلفة تنبع مِن مصدر مشترك واحد؛ مَثَلها في ذلك مَثَل مصنع السيّارات الّذي يشتمل على أقسام مختلفة، يُصنع في إحداها إطارات السيّارة، وفي الآخر محرّكها، وفي قسم ثالث بقيّة أجزائها كنظام نقل الحركة مِنَ المحرّك إلى عجلات السيّارة. مَن يتأمّل في هذا الأمر يجد هنالك تنسيقًا وإدارةً مشتركة تقوم بتوجيه عمل هذه الأقسام، الّتي تُصنّع تلك الأجزاء المختلفة، وأنّ لهذا المصنع مدير وهناك خريطة عملٍ وبرنامج يدير كافّة تلك الأنشطة، لا أنّ لكلّ قسم مديرٌ يعمل وفق ذوقه الشخصيّ وبرنامجه الّذي يرتئيه، فيقوم قسم تصنيع الإطارات بصناعة إطار يفوق حجم الإطار اللازم لتلك السيّارة، فمِثل هذا الإطار لن يكون مناسبًا طبعًا للسيّارة.
هكذا هو نظام تربية الإنسان وتكامله؛ فإن صدر أمر شرعيّ، فلا بدّ أن يتطابق هذا الأمر مع الموازين العقليّة، وإن صدر أمر مطابق للموازين العقليّة، فلا بدّ أن يكون متوافقًا مع الشهود العرفانيّ. فإن رأيت قانونًا عقليًّا يتنافى مع المكاشفات العرفانيّة والتعليمات الشرعيّة الصريحة – نعم الصريح منها لا تلك الأوامر والتعليمات المستنبطة وفق الذوق الشخصيّ والّتي تؤمّن المنافع الشخصيّة أو الفئويّة – فإن شُوهد هذا التنافي، يجب أن يتمّ التحقيق بشأنه لمعرفة مكمن الخطأ في المسألة، وذلك لأنّ الوحي عبارة عن قوانين شرعيّة تصدر مِن نفس المصدر الّذي تصدر منه المكاشفات العرفانيّة والمعاني الشهوديّة والإدراك القلبيّ، وكلا المصدرين يأخذان مِنَ العقل، وهو المتّصل بالعقل المنفصل والعقل الفعّال، الّذي هو اسم مِن أسماء الله، وهو الّذي يميّز بين الحقّ والباطل.
إن حدث وشككنا في قضيّة، حيث أنّ الحكم الشرعيّ فيها مخالف لنظر وشهود أولياء الله، فيجب أن نشكِّك في ترتيبنا للمقدمات العقليّة؛ فكيفيّة ترتيب تلك المقدمات، يختلف باختلاف المراتب العلميّة والشهوديّة والتكامليّة بين شخص وآخر، وذلك نتيجة اختلاف درجاتنا الّتي نحن فيها. مِنَ الطبيعيّ أن يختلف الإدراك العقليّ لِمَن يبلغ العشرين مِنَ العمر، عن الطفل الصغير ذي السنتين أو الثلاث، ولهذا السبب يُوصى بأن يُؤخذ بيد ذلك الصغير، لأنّه غير متمكّن مِن إدراك مصالح ومفاسد الأمور. وللسبب نفسه، يُوصى الشباب بالاستفادة مِن خبرات المسنّين، لكثرة ما تجرّعوا مِن ويلات مرّتْ عليهم في أيّامهم الخوالي، [فهي غنيّة وكثيرة] إذا ما قورنت بما يشاهده الشابّ الّذي لم يمضِ عليه سوى أيّام معدودة عاشر فيها المجتمع، ولم يكتسب بعدُ الخبرة الكافية للتعايش معه، فهو لا يرى إلّا أمام قدميه، ولا يستطيع أن يتّخذ القرار الصحيح فيما يتعلّق بمستقبله وعاقبة أمره، فهو ينظر إلى ما يجري حوله نظرةً سطحيّة، ولا يتأمّل فيه بعمق. تلك هي نقاط الضعف الّتي مِنَ الطبيعيّ أن يعاني منها عقل الشابّ، وهو أمر لا ضير فيه، لأنّنا نسير جميعًا في طريق التكامل، ويستفيد كلّ شخص مِن هذا العقل بموجب سعته الوجوديّة. ويكتمل هذا العقل متى ما اتّصل، اتّصالًا لا خلل ولا نقص ولا انقطاع فيه، بالعقل المنفصل، والّذي يُسمّى بالعقل الفعّال أيضًا، وهو ذلك العقل الّذي بيده زِمام أمور عالَم الوجود.
متى يكون حكم العقل غيرَ منقوصٍ ولا مشوبٍ ولا يتغيّر ولا يتبدّل
إنّ تدبير أمور عالَم الوجود، ووضع كلّ شيء في موضعه الصحيح، هو مِن وظائف العقل الفعّال، فمِن وظائفه أن يضع كلّ شيء في موضعه المناسب دون أن يحصل أيّة زيادة أو نقصان، وأن يُعطي كلّ شيء حصّته الّتي رسمها الله له، فلا يُمنح عَمروٌ ما هو المفروض لزيد، ولا يحصل خلط في العطايا، بل يُمنح كلّ شخص الحصّة المقرّرة له مِنَ النِعم الإلهيّة مِن أسماء الله وصفاته.
لذا، لا يمكن لقياسات الإنسان العقليّة أن تؤتي كافّة ثمارها وأن تكون صائبةً مئة في المئة، ما لم تصل سعة الإنسان الوجوديّة إلى حدٍّ لا يبقى معها أيُّ خلل أو نقص في اتصاله بالعقل الفعّال؛ وفي هذه الحالة، لا يمكن أن يتّخذ الإنسان قرارًا يندم عليه غدًا – فإن حصل هذا الأمر فهو دليلٌ على وجود خلل في مكانٍ ما في القضيّة – ولا يمكن أن تكون له نظرةٌ معيّنة في شخص، ثمّ يكتشف في الغد خطأَ تشخيصه، ولا يمكن أن يرى أنّ مصلحته تقتضي إقامة علاقة مع أحدهم اليوم، ليكتشف خطأ قراره في الغد، ولا يمكن أن يحكم على شخصٍ اليوم، فيجد أنّ حكمه كان مُتسرّعًا. فإن حصلت مِثل هذه الأشياء، فهي تدلّ على أنّ أمام هذا الشخص طريقًا طويلًا يجب عليه أن يطويه، وأنّ أمامه الكثيرَ ممّا يجب عليه فعله، وأنَّه بحاجة إلى المزيد مِنَ التجربة والمراقبة والرياضة وإلى المزيد مِنَ النورانيّة والتجرّد، نعم، إنّه بحاجة إلى المزيد مِن كلّ هذه الأشياء، ليصل عقله إلى حقيقة وواقع الأمر.
في محاكم عالَم القضاء الحاليّة، كلّما كان الرجل قادرًا على التكلّم بشكل أفضل، وعلى طرح قضيّته ببيان أبلغ، كان كلامه أكثر ترجيحًا لدى القاضي! ويُنظر إلى المحامي اليوم، على أنّه محامٍ ناجحٍ، متى ما تمكّن مِن إيصال الفكرة الّتي يريدها موكّله إلى المحكمة بشكل أجود، ولا شأن له إن كانت القضية الّتي يترافع فيها قضيةَ حقٍّ أم باطلٍ! فالمحامي الأكثر قدرة على إقناع القاضي بأحقيّة ما يدافع عنه، يوصف بأنّه أكثر مهارة، لا الّذي يقول الحقّ!
عندما كنتُ طفلًا في صفّ الرابع أو الخامس الابتدائيّ، أتذكّر أنّ أستاذ المدرسة كان يفتح ويقرأ لنا مقالات وكتب مِن تأليف أحد المحامين، وهو كاتبٌ أيضًا؛ لقد كان أسلوب الرجل في الكتابة رفيعًا وسلسًا وشيّقًا للغاية، إلى حدٍّ لا تزال الحكايات الّتي كان ينقلها لنا المعلِّم ومقالاته مطبوعةً في ذهني إلى الآن. لقد كان الرجل رجلًا دنيويًّا وانتهازيًّا للغاية، ويُقال أنّه كان يتكلّم في المحكمة بشكلٍ يُبرّئ به موكّله وإن كان قاتلًا متعمّدًا ذا غرضٍ، أي إنّه كان قادرًا على اللّف والدوران في كلامه بشكلٍ دقيق، حيث يُبيّن بعض المطالب ويُخفي البعض الآخر.
إنّ لأساليب الكلام عالَمٌ خاصّ. «إنَّ مِنَ البيانِ لسحرًا»۱، أي لبعض أنواع البيان والخطابة تأثيرُ السحر على الطرف المقابل، فكما أنّ السحر يسلب الطرف المقابل إرادته، فيجعله يتصرّف دون اختيار، هكذا جودة البيان. إنّ ذاك الرجل لم يكن يراعي الحقّ والباطل في كلامه، فلا يعنيه إن كان الدفاع الّذي يقوم به هو دفاع عن قضيّة صاحبها على حقّ، أم أنّه دفاع عن باطل وأنّ عمله حرامٌ، لم يكن يراعي هذه الأمور أبدًا، بل كلّ ما كان يهمّه هو كيفيّة تمرير كلام موكّله الّذي دفع له النقود، ولا شأن له إن كان موكّله محقًّا أم على باطلٍ، فما دام قد استلم مِن موكّله النقود، فلا بدّ أن يُنهي القضيّة لصالحه، ولا علاقة له بالحقّ والباطل. هذا ما يُسمّى بالمعاملة؛ ثمّ يأتي القاضي ليحكم على القضيّة وفق ما يطرحه المرء، ليتّضح بعد ذلك أنّ الحكم كان باطلًا.
أمّا أولئك الّذين وصلت عقولهم إلى مرتبة العقل الفعّال، يميّزون كذب الطرف المقابل مِن أوّل جملة يقولها. نعم، هم يعرفون أنّ قول هذا الرجل كذبٌ وخداع ونفاق، ويعرفون ما وراء كلامه، وما يُخفيه. كيف ذلك؟ ذلك لأنّ العقل يُوصلهم إلى واقعِ أمرِ الشخص الّذي أمامهم، فلا تأسرهم الألفاظ الّتي يتلفّظ بها، ولا يعنيهم ظاهر الأمر شيئًا، ولا يمكن أن يكونوا اليوم بحال وغدًا بحال أخرى، والمواقف المُفتعلة لا تبدّل آراءهم ولا تحرف أذهانهم، والاضطراب والصخب لا يغيّران وجهة نظرهم، وذلك لأنّهم ينظرون بأنفسهم إلى حقيقة القضيّة.
كان أمير المؤمنين عليه السلام جالسًا في المسجد يومًا، فسمع أصواتًا خارج المسجد، حيث كان عددٌ مِنَ الأشخاص يتّجهون إلى المسجد، فلمّا دخلوا، قال لهم: ما الّذي يجري؟ قالوا: لقد تعدّى أحدهم على هذه المرأة، فجاءت تشتكي إليك، فقد انتُهِك شرفها واستُبيحت حرمتها وتُعُدِّيَ عليها وجرى عليها كذا وكذا. فقال لها أمير المؤمنين: ما الّذي جرى لكِ؟ فبدأت المرأة بالصراخ والعويل وهي تقول: خُذ بحقّي يا علِيِّ، وانظر ما الّذي حصل لي، فقد هُتك عرضي، وتلوثت سمعتي، وحصل لي كذا وكذا. فتأمّل أمير المؤمنين في شأنها قليلًا، ثمّ قال لها: اهدئي وتكلّمي بدون بكاء. فنظر إليها نظرةً، فعلِم أنّها تكذب وتمثِّل. كيف عرف أمير المؤمنين ذلك؟ [عرف ذلك] لأنّه كان ينظر بذلك النور وبتلك البصيرة. ثمّ قال لها: قولي لأرى ما الّذي حصل لك .. في القصّة تفاصيل يتّضح منها فيما بعد أنّ هذه المرأة ألصقت تهمةً بشابّ بريء نزيه وعفيف، ففضح أمير المؤمنين أمرها.
لو كان هناك شخصٌ آخر غير أمير المؤمنين، لقال: إنّها محقّة، فانظر بأيّ وضع هي الآن، وكيف تبكي وتصرخ بحرقة! نعم، انظروا ما الّذي حصل لهذه المسكينة! [أقول:] إنّ هذا الرجل سيحكم بهذه الكيفيّة لأنّ عقله لم يصل بعدُ إلى العقل الفعّال، لذا يتأثّر بمِثل هذه المواقف. وهناك الكثير ممّا يمكن أن يُقال في هذا الشأن، ولو أردنا أن ندخل في تفاصيله لابتعدنا عن موضوعنا الرئيسيّ وهو: ما الّذي على الإنسان فعله ليجعل أعماله تقترب مِنَ الموازين العقليّة أكثر فأكثر.
مررتُ شخصيًّا بالعديد مِن هذه المواقف؛ فكنتُ أتعرّض – وما زلت – لمواقف تكون القضايا فيها بالشكل الّذي، لولا رعاية الله وأولياءه والمدد منهم، لحكمتُ فيها بمِثل حكم الآخرين. ولهذا السبب يجب أن يتمتّع القاضي بتلك المواصفات الّتي ذُكرت في الكتب، ومنها: أن لا يُصدّق ما يُطرح عليه بسهولة، بل عليه أن يصبر ويتأمّل في الموضوع، ثمّ يقيسه على الموازين قبل أن يحكم فيه.
ولهذا سنطرح الموضوع التالي: إلى أيّ شيء تدعونا فطرتنا ويدعونا وجداننا؟ إنّ هذا الموضوع غايةٌ في الأهميّة، ويبدو لي أنّه مِنَ الأنسب أن أتحدّث عنه في عدّة جلسات، ثمّ ننتقل إلى موضوع آخر.
ما الّذي تدعونا إليه الفطرة والوجدان
ما الّذي تدعونا إليه الفطرة؟ وما الّذي يدعونا إليه الوجدان؟ جاء في الآية الشريفة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}۱، أي عليك أن تتوجّه إلى الدين الحنيف، وتجعله قبلتك في كافّة نشاطاتك الّتي تقوم بها، وفي كافّة القرارات الّتي تتّخذها، وفي كافّة توجّهاتك.
ما هو هذا الدين الحنيف؟ إنّه الدين الطاهر والمُنتخب. كلمة (حنيف) تعني الطاهر، أي الدين الخالص من دَنَس عالَم الكَثرة، والبريء المُنزّه الّذي لم تمسّه يد الأشخاص غير الطاهرين، وهو الدين الّذي لم تُصاغ مبانيه على الأهواء والميول النفسيّة، فلمِثل هكذا دين يُقال (الدين الحنيف)؛ فهو يعكس واقع حال الأمور، لا ما يطرحه ويتصوّره الغير على أنّه الواقع، فهناك فرق كبير بين الشيء الواقعيّ وبين الشيء الّذي يَعرضه ويَطرحه الغير على أنّه الواقع.
الفطرة والوجدان؛ العلاقة الزوجيّة طبق القواعد الإلهيّة
جرت في نفس هذا المكان قبل فترة مراسم عقد، بل كانتا مناسبتين، وكان مقدار [المهر] في كلا الموردين هو مهر السنّة، على أنّ إحداهنّ طلبت وعدًا بإرسالها إلى بيت الله لحجّ التمتّع، وإلى العتبات المقدّسة إضافة إلى المهر. جرى في تلكما المناسبتين حديثٌ – وكانت إحداهنّ أو كلاهنّ قد وقّعتا على الشروط الواردة في عقد الزواج – فسألتهما قائلًا: هل قرأتما بأنفسكما الشروط الموجودة في العقدين قبل أن توقّعا عليهما؟ قالتا: لا، لم نقرأها، بل طَلب منّا الكاتب أن نوقّع، فوقّعنا. قلتُ: لعلّ ما وقّعتما عليه هو قرار إعدامكما، فهل على الإنسان أن يوقّع على كلّ ما يُعرض عليه؟! فقالا: هذا ما حصل بالفعل. ثمّ قلتُ لهما: أتدريان ما الّذي كُتب هناك، لقد كُتب فيه أنّه لو حَكمت المحكمة لصالح الزوجة في خلاف يقع بين الطرفين، سيكون على الزوج أن يدفع لها نصف دخله الّذي حصل عليه في الفترة الّتي عاشاها فيها معًا. قلتُ: متى كان هذا الشرط متطابقًا للشريعة الإسلاميّة؟! كما جاء في تلك الشروط أنَّ حقّ الطلاق يُسلب مِنَ الزوج ويُمنح للزوجة، والحال أنّ الطلاق في الشريعة الإسلاميّة بيد الرجل لا المرأة.
لقد جعل النبيّ الأكرم وأمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام، الطلاقَ بيد الرجل، وهذا ما جاء في الروايات الواردة عنهم، على أنّ الفترة الّتي عاشوها ليست قصيرة، حتّى يقول القائل أنّ هذه القوانين وهذه الروايات بُيّنت للناس في فترة أسبوع فقط، كلّا، بل قد تمّ بيانه ذلك طوال مئتين وسبعين سنة تقريبًا، أي ما يُقارب ثلاثة قرون، وهي فترة خلافة وإمامة الأئمّة عليهم السلام، فهل كانت تلك الفترة، فترةً قصيرة؟! لقد كانت بحدود ثلاثة قرون أو أكثر مِن قرنين ونص القرن على أقلّ تقدير، هذا بناءً على كونها مئتين وخمس وخمسين أو مئتين وخمس وسبعين سنة، إن أضفنا لها فترة الغيبة الصغرى؛ فلم يصدر مِنَ الأئمّة طوال هذه الفترة حكمًا على الزوج بدفع نصف دخله للمرأة. ولم يسلب الأئمّة، طوال المئتين وخمس وسبعين سنة تلك، الطلاقَ مِن يد الرجل وجعلوه بيد المرأة. فما الذي جرى – بعد كلّ هذا – حتّى يحصل هذا الأمر دفعة واحدة؟! هل تبدّلت طبيعة الناس، فأصبح أهل هذا الزمان ظالمين ومتعدّين، بخلاف أهل ذلك الزمان حيث أنّهم صالحون وورعون ومتهجدون؟! كلّا، لم يكن الأمر كذلك، فالنفس هي النفس، والشيطان موجود على الدوام. نعم، يحصل أن يكون الزوج في بعض الأحيان ظالمًا لزوجته، وفي أوقات أخرى قد تكون الزوجة هي الظالمة، ولكن لا يجوز لنا أن نُصلح شيئًا، بإفساد شيءٍ آخر.
ما أريد قوله لكم، أمر في غاية الأهميّة، وهو أنّ المباني الشرعيّة لا تختلف عن القواعد العقليّة شيئًا، بل هي نفسها؛ فعندما جعل الله الطلاق بيد الرجل، فهو كان يعلم أمرًا ما، وعندما جعل الشارعُ الطلاقَ بيد الرجل، فهو يعلم أمورًا ما. على أنّ الأمر ليس بهذه السهولة، حيث يُتاح للرجل أن يطلّق المرأة ويتعدّى على حقوقها، بل المحكمة تلزمه بالتزامات، وتتحرّى وتبحث في القضيّة. ولكن الحديث في الشخص الملتزم الّذي عليه أن يتحرّى عن مِثل هذه القضايا، وفي مَن يجلس الآن على كرسيّ الحكم ويفصل في القضايا بين الطرفين! هل الّذي يجلس على طاولة القضاء هو أمير المؤمنين، أو الإمام الصادق، أو واحدًا مِن تلامذة الإمام الصادق كأبي بصير أو محمّد بن أبي عمير أو محمّد بن مسلم أو يونس بن عبد الرحمن؟ أم أنّه ليس مِن هؤلاء الأشخاص؟ نعم، مَن الّذي يجلس خلف طاولة القضاء؟! دعونا مِن هذا الأمر الآن، نعم، دعونا مِنَ الكلام بشأنه!
كنتُ قد تحدّثت عن نفس هذا الموضوع هنا، في هذا المكان، قبل فترة قصيرة؛ فقد جاءني شابّ مِن طهران بمعيّة شخص آخر، وتكلّم عن المشاكل الّتي تحصل بينه وبين زوجته، وسأل عن حدود طاعة المرأة لزوجها. وتكلّم هذا الشابّ عن أمور تعجّبتُ واندهشت لها كثيرًا! لقد كان الأمر كذلك حقًّا، نعم، هكذا كان الأمر! فما كان يذكره مِن أمور، تجعل الرجل يمتنع عن التعايش معها، ولقد صرّحتُ له بهذا الأمر. ولكنّني أقطع أنّه لو طُرحت هذه الأمور على محكمة، لحكم فيها القاضي لصالح المرأة! نعم، كان القاضي سُيعطي الحقّ للمرأة قطعًا! فما الّذي يمكن فعله في هذه الحالة؟ [الله] هو الّذي جعل الشريعة تضع هذه الأمور نُصب أعينها، ولو تمّ العمل بما أقرّته الشريعة لما وصل بنا الأمر إلى هذا الحدّ.
كان لنا حديثٌ عن الآداب والحقوق الزوجيّة في مجالس عنوان البصريّ، الّتي أُقيمت قبل فترة قصيرة، وتمّ التطرق فيها إلى مواضيع قلّما يُتطرّق إليها في المجتمع. وسنتحدّث في المجالس الآتية، عن كيفيّة التعامل وطبيعة العلاقة بين الزوجين وميزان الطاعة. وكانت المجالس السابقة عبارة عن مقدمة لما سيُطرح في المجالس الآتية، فستُطرح مواضيع مختلفة في المجالس الّتي ستُعقد بعد غدٍ أو بعد يومين وصاعدًا.
تلك قضيّة لم تُطرح، أو لا يُراد لها أن تُطرح بهذا الشكل. هذا مِن جانب، ومِن جانب آخر، لا يمكن أن أَطرح عكس ما رأيتُه وسمعته وجرّبته بنفسي واستفدته مِن سيرة العظماء. فإن فعلتُ ذلك، سأكون قد ارتكبت خيانة. فأولئك الّذين يأتون ويقولون: إنّ ما تطرحه الآن مِن مواضيع لا ينسجم مع ما يجري في مجتمع اليوم. فقلتُ لهم: إن لم ينسجم مع ما يجري، فلا ينسجم! فلسنا ملزمين بالتناغم مع أيّ حدث يجري في المجتمع، [ولا] أن ننقل إلى أصدقائنا ورفقاء طريقنا كلّ ما نسمعه مِن كلام، تقليدًا لِما يفعله الآخرون، كلّا، لا يمكن أن يجري الأمر بهذا الشكل. فما يُطرح في المجتمع لا يتعدّى كونه وجهات نظرِ عددٍ مِنَ الأشخاص، وكلّ واحد يمتلك هذا المقدار مِنَ الحقّ في إبداء وجهة نظره. فكما أنّ وجهات نظر الآخرين تُطرح، ولا يجري الاعتراض عليها، فلنا مِثل هذا الحقّ في أن نطرح ما سمعناه، فإن كان لأحدهم اعتراض عليه، فليقدّم اعتراضه قائلًا: إنّ ما طرحته مِن موضوع كان خاطئًا، وهو يتعارض مع هذا الدليل، ولا ينسجم مع هذا الأمر، وعندئذ سيكون للمسألة شكل آخر.
الفطرة والوجدان؛ خيرٌ للمرأة أن لا ترى رجلًا ولا يراها
عندما نسمع الإمام عليه السلام يكرّر مرّة بعد أخرى هذا الكلام: قالت فاطمة الزهراء سلام الله عليها: أسعد نساء العالَم امرأة لا ترى الرجل ولا يراها۱. لا نستطيع حينئذ أن نغضّ النظر عن هذا الكلام؛ فإمّا أن تنكروه وتقولون أنّه كذب، [وإمّا أن تقرّوا] بأنّ هذا كلام الزهراء، فعليكم حينئذٍ أن لا تُأوِّلوا معناه وتتلاعبوا بكلمات الأئمّة، قائلين: إنّ هذا الكلام يعود إلى ذلك الزمان، وهو لا يصلح لزماننا هذا، فقد تغيّر الزمان، وعلى المرأة أن تَرِدَ الميدان وتصرخ وترفع صوتها وتصيح وتفعل ما تشاء، فهي حرّة في مصاحبة مَن تشاء مِنَ الرجال والتكلّم معهم، وأن تُوصل صوتها إلى الجميع!! كلّا ثمّ كلّا، لا يوجد مِثل هذا الشيء، وكلّ ما يُقال في هذا الصدّد كذبٌ، نعم، لا يوجد مِثل هذا الشيء في الشريعة الإسلاميّة.
قد بيّن الإسلام كلّ ما هو صالحٌ للمرأة، ولكن نحن مَن يأتي ويتمسّك بذلك الجزء مِنَ الرواية الّذي يكون في مصلحتنا. كما يقوم بعض الرجال بالتمسّك بالروايات الّتي تتحدّث عن طاعة المرأة للرجل، فينقلونها للآخرين ويستشهدون بها، ومِن جانب آخر تقوم النساء بنقل الروايات الّتي تتحدّث عن الرعاية واللطف وما شابه ذلك. كلاهما مخطئان في فعلهما، إذ الإسلام لا يُحابي الرجل ولا المرأة في أحكامه، فما يتشبّث به أيٌّ منهما في هذا المجال هو أمر خاطئ وباطل. لماذا؟ لأنّ ليس لله صلة قرابة مع أيّ مِنَ الطرفين، فهو لا يميل إلى الرجل ولا إلى المرأة، بل قد وضَع الأحكام بهذه الكيفيّة، فمَن شاء فليعمل بها، وليس مِن واجب الله أو الرسول أن يجبر أحدًا على السير على برنامج معيّن، بل قال الله: أنا خلقتُ الخلق على هذا النحو، فمَن كان لديه اعتراض، فليعترض على الله قائلًا: إلهي لماذا خلقتَ الرجل بهذا الشكل؟ أو لماذا خلقتَ المرأة على هذه الشاكلة؟
نعم، لا يجوز لنا أن نعترض على القوانين الموضوعة بهذا الشأن. إنّ الأمر هنا شبيه بتغذية الطفل حديث الولادة، فإن أُعطي لحمًا مشويًّا بدل الحليب أو الماء المُحلّى بالسكّر، لمات على الفور، ولو فُتح فم الطفل ووُضع فيه [هذا] الطعام – وهو لا قدرة له على المقاومة – لمات قَبل أن يصل الطعام إلى معدته؛ فلا يمكن للطفل ذي اليومين أن يأكل اللحم المشويّ، ولا يمكنه أن يأكل الشلغم أو البنجر، فهذا النوع مِنَ الطعام مناسبٌ للطفل البالغ سبع أو ثماني سنين، حيث تكون معدته قد امتلكت القدرة اللازمة لهضمه، أمّا الطفل ذو اليومين، فيجب أن يُطعم الحليب، وليس أيّ حليب، بل ذلك الحليب الّذي جعله الله له في صدر أمّه. فإن جئنا واعترضنا على الله قائلين: لماذا يُولد الطفل بهذا الشكل، كان يجب أن يُخلق بشكل تكون معدته مِنَ البداية قادرةً على هضم كيلوغرام ونصف مِنَ البنجر! لا يمكن أن يصحّ هذا الاعتراض، لأنّ الله قد خلقه على تلك الشاكلة، فلا بدّ أن يتمّ التعامل معه على هذا الأساس، حتى يكبر تدريجيًّا ويصل إلى مرحلة يستطيع فيها أن يأكل مقدار كيلوغرام مِنَ البنجر دون أن يُصاب بشيء.
الفطرة والوجدان؛ العمل عملان داخليّ للمرأة وخارجيّ للرجل
لا يمكننا أن نعترض ونقول: لماذا وضعت الشريعة أحكامًا مختلفة فيما يتعلّق بكلّ مِنَ المرأة والرجل! فالله هو الّذي خلقهم على هذا النحو، فهل يمكننا والحال هذه أن نعمل بخلاف نظام التربية؟! إنّ ذلك سيكون عين الجهل، نعم، إنّ ذلك ليس مِنَ العِلم وليس عقلائيًّا، فوضْعنا للقوانين الّتي تخالف الشريعة الإسلاميّة لا يُعدُّ عملًا عقلائيًّا. عندما تقول الشريعة أنّ الرجلّ قيّم على المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تتخطّى ما يأمر به، فإنّ ذلك الحكم هو حكم الشرع وهو مطابق للفطرة.
[واعتراض البعض] بأنّ ذلك يُسبّب مشاكل للمرأة في حياتها، فلماذا يجب أن يكون الأمر بهذا الشكل؟! وهل يجب أن تجري الأمور بالقوّة والظلم؟! ومَن أمر أنّ تكون المرأة تحت ولاية الرجل؟! إنّ في ذلك ظلم! وأنّ هذا الأمر ينطبق فقط في فترة ما قبل ألف وأربعمئة سنة، أمّا الآن فقد تغيّر نظام العالَم [ولم تعد تلك القوانين صالحة للتطبيق اليوم]!
[فنقول:] هل تغيّرت أوضاع العالَم بالفعل؟! ها نحن نشهد ما يجري في العالَم اليوم، فما الّذي تغيّر فيه؟! ها هي النساء المتواجدات في أطراف المعمورة، مِن أصحاب الشهادات، والمثقّفات بالثقافة المعاصرة بكلّ معنى الكلمة، ومنهنّ على ارتباط بنا، يعترفنَ قائلات: لقد توصّلنا للتّو [إلى نتيجةٍ وهي] أن على المرأة أن تجلس في بيتها وتشتغل بتربية أطفالها. أتلاحظون، يحصل هذا في الوقت الّذي نحاول أن نُجرّب النهج نفسه الّذي كان أولئك قد سلكوه، والّذي أوصلهم إلى طريق مسدود. إنّهم يقولون: لقد وصلنا للتوّ إلى هذه النتيجة وهي: أنّ الطبيعة قد أقرّت لنا مسؤوليّة تربية الأطفال والعناية بأمور البيت. إنّ الكثير منهم لا يؤمنون بالله مِنَ الأساس، ولكنّهم يمتلكون ذلك المقدار مِنَ الفهم والإدراك الّذي يجعلهم يقولون: إنّ الطبيعة هي الّتي رسمت لنا هذا المسير، فلا يجوز للمرأة أن تخرج مِن بيتها للعمل.
إنّ ما يحصل في أمريكا اليوم هو أنّ على المرأة أن تعمل كما يعمل الرجل، وعليهما أن يوفّرا قوتهما اليوميّ بالمناصفة؛ على أنّ هناك قانونًا ينصّ على أن يتقاسم الزوجان الدخل اليوميّ في فترة الحمل، ولكن مِن جانب آخر، على المرأة أن تعمل كما يعمل الرجل، فيضعان ما يحصلان عليه مِن نقود في المصرف، ثمّ يسحب كلّ واحد منهما نفس المقدار الّذي يسحبه الآخر، فلا تكون مسؤوليّة تأمين العيش ملقاة على عاتق الرجل وحده! وها هم اليوم يقولون: لم تقرّ الطبيعة عمل المرأة خارج البيت. إنّهم يقولون: لم تقرّ الطبيعة ذلك. ولم يقولوا: لم يُقرّ الله ذلك. على أنّ البعض منهم يقول: لم يُقرّ الله ذلك.
يا أيّها الناس، لقد قال رسول الله هذا الأمر قبل ألف وأربعمئة سنة بكلّ صراحة، وهو أنّ على المرأة أن تشتغل بأمور بيتها، وعلى الرجل أن يخرج ويعمل وفقَ ما أُلقي على عاتقه مِن مسؤوليّة. وكان أمير المؤمنين قد صرّح بعين هذا الأمر.
زار رسولُ الله أميرَ المؤمنين وفاطمة في صباح يوم زواجهما، وقال نفس هذا الأمر: يا علِيِّ، عليك أن تقوم بكلّ ما يتعلّق بأعمال خارج البيت، وتقوم الزهراء بأعمال البيت. أمّا نحن، فنراوغ يمينًا وشمالًا، ونسلك هذا المسلك وذاك، مِن أجل أن نقضي على الاستعداد والقابليّة الّتي يمتلكها كلا الطرفين. لأيّ غرض نقوم بهذا؟ أمِن أجل أن نُعطي المرأةَ مكانةً مرموقةً! أهذه هي المكانة الّتي يريدها الله للمرأة، أن تواجه آلاف المفاسد في هذا المجتمع الّذي ترونه بأعينكم! فنجعلها تواجه كلّ هذه المفاسد والرذائل الأخلاقيّة الشائعة في المجتمع، مِن أجل أن نمنحها البهاء المطلوب! هل يمنح ذلك المرأةَ بهاءً أم العكس؟! إنّ ما يحصل هو تضييع للاستعداد الّذي وهبه الله للمرأة، وسلبها ذلك الدرّ الثمين والجوهرة النادرة، وإعطاؤها خَزَف ملوّن بالأحمر والأزرق كحجر الفيروز، وذلك عوض ما أُخذ منها.
الفطرة والوجدان؛ عدم الاختلاط بين الجنسين
كرّر المرحوم العلّامة رضوان الله عليه هذا الأمر مرارًا حيث قال: إنّ الحديث الشريف «اطلبوا العلم ولو بالصين»۱ غير مختصّ بالرجال دون النساء، بل هو أمرٌ عامّ؛ فعلى كلّ مِنَ الرجل والمرأة السعي لتحصيل العِلم. فمَن الّذي جاء واستشكل على تحصيل المرأة للعلم؟! فإن قال به أحد، فلا بدّ أنّه شديد الحمق! ومَن الّذي استشكل على اطّلاع المرأة على الأحكام الشرعيّة وتعلّمها؟! إنّ هذا غير صحيح، بل يجب أن تكون المرأة عالمة، لكي تتمكّن مِن معرفة مصلحتها بنفسها، ولا تكون بحاجة إلى مدّ يدها إلى هذا وذاك؛ فعليها أن تتعلّم الأحكام الشرعيّة، وأن تقرأ الروايات؛ فتقرأ كلام الإمام الصادق وتفهمه بنفسها، فلا تكون بحاجة إلى أن يفسّره لها هذا وذاك.
ويبقى الكلام في أنّه: ما علاقة هذا الأمر بدخول المرأة في الأمور الاجتماعيّة واختلاطها بالرجال؟ كنتُ قد ذكرت في المجالس السابقة أنّه في السنتين أو الثلاث الأخيرة مِن حياة المرحوم العلّامة، وذلك في الفترة الّتي كنتُ فيها في مشهد، طُرح موضوع رفع الاختلاط بين الرجال والنساء في الوسط الطبيّ في مستشفى القائم، وقد اعترض الكثير على هذا الموضوع. أتذكّر أنّ مِن بين الأفراد الّذين أصرّوا على تنفيذ [عدم الاختلاط] هو الدكتور فتّاحي – وهو متخصّص في جراحة القفص الصدريّ وأصبح عضوًا في مجلس الشورى فيما بعد – وكذلك زوجته الدكتورة علويّ إن لم أكن مخطئًا، وهي امرأةٌ مؤمنة ومتديّنة جدًّا، ويمكن القول أنّها مِنَ النساء اللاتي يُحسب لهُنَّ حساب مِن جميع النواحي، التديّن والشعور بالمسؤوليّة والتخصّص [الطبيّ]. لقد كانا يعارضان الاختلاط، وما أحسن ما كانا يطرحانه، كان كلامهما صحيحًا. هذا في الوقت الّذي عارض فيه آخرون هذا الأمر وقالوا: ما هذا الكلام الّذي تقولونه؟! ما المانع في الاختلاط؟! لا مجال لطرح مثل هكذا موضوع هنا!
استلمتُ تقريرًا مِن قِبل بعض الأشخاص، جعل بدني يقشعرّ ممّا جاء فيه، فما الّذي يجري هناك!! نعم، ما الّذي يجري!! عندما خرج المرحوم العلّامة مِنَ المستشفى قال لي: اجتمع بأصدقائنا ورفقاء طريقنا مِنَ الأطباء، أمثال الدكتور خوارزميّ – الّذي لا يزال متواجدًا في مشهد – والدكتور اعتمادي والدكتور توحيدي والدكتور بيرجندي، مِن أولئك الأصدقاء الّذين لا زلت أرتبط معهم بعلاقة صداقة، بالإضافة إلى أشخاص آخرين. فقال لي المرحوم العلّامة: اجمع هؤلاء الأصدقاء ونفّذوا مشروع الفصل بين الرجال والنساء في كلّ مِن مستشفى القائم ومستشفى الإمام الرضا طبعًا. وقد نويتُ القيام بهذا العمل، غير أنّ قدومي إلى قُم حال دون تنفيذ المشروع، فقد كان في نيّتنا تنفيذ ذلك المشروع. وقد قام بعض أصدقائنا أمثال الدكتور ذكاوت وغيره، في تلك الفترة الّتي كنتُ فيها هناك، بتنفيذ المشروع في مستشفى الإمام الرضا في مشهد. وكان ممّا قاله الدكتور: لقد جعلنا حتّى عمّال الخدمات مِنَ النساء في ردهة للنساء، فلا يدخلها أيّ رجل، باستثناء الردهات الجراحيّة، حيث يختلف الأمر فيها عن غيرها مِنَ الردهات. أمّا في غيرها، فلكلّ مِنَ الرجال والنساء مكانهم الخاصّ بهم. قال الدكتور: لقد تمّت إدارة المستشفى على أحسن ما يُرام لمدّة ستّة أشهر، وبشكلٍ اعترف فيه المخالف والمؤالف بأنّ أوضاع المستشفى أصبحت أفضل مِن وضعها السابق. ثمّ بعد مرور ستّة أشهر، جاء الأمر مِن طهران مِن قِبَل شخص معلوم الحال بإيقاف العمل بهذا النظام وإعادته إلى ما كان عليه، مِن اختلاط بين الجنسين. لماذا؟! نتوجّه إليك بالسؤال يا دكتور فلان، يا مَن أصدرت هذا الأمر مِن طهران، ونقول لك: ما هي نقطة الضعف الّتي لاحظتها في هذا النظام الجديد؟! وما هو الخلل فيه؟! إن كنتَ قد وجدت نقطة ضعف فيه، فأشِر إليها وقُل: إنّ هذا الإجراء يسبب الإعاقة كذا، والخلل كذا، إذ قد أدى هذا الإجراء إلى موت مريض [مثلًا]، أو تعطيل عمل أو [ارتفاع] كلفة!! هل حصل شيء مِن ذلك؟! فالجميع يعترفون بنجاح التجربة وبتحسُّن الأوضاع وصيرورتها إلى الأفضل.
يتضّح للإنسان مِن هذا بأنّ الأمر غيرُ طبيعيّ، فهم لا يريدون أن يلتزموا بالشريعة الإسلاميّة. فهذا الرجل لا يريد أن يعمل بما جاء في الشريعة، ولا يريد أن يُطبّق في هذا البلد ما كان رسول الله قد أمر به. إنّ الكثير مِمّن لهم ارتباط بنا يعترفون الآن بأنّ الكثير ممّا يجري هناك، يجري بخلاف الموازين الطبيّة والصحيّة، فكيف الحال مِنَ الناحية الإسلاميّة ومِن حيث الأحكام الشرعيّة؟!
الفطرة والوجدان؛ لا يمكن التعارض بين العرفان والنظام الاجتماعيّ والعقل
إنّ النظام الّذي بناه الله على أساس الفطرة، يجب أن يُراعى. ولا يمكن أن يتناقض العرفان مع النظام الاجتماعيّ الإسلاميّ، بأن يأمر العرفان والسلوك بشيء، ويكون النظام الاجتماعيّ على خلافه. نعم، لا يمكن أن لا تتوافق الأنظمة الاجتماعيّة مع نظام العرفان والشهود، فإن حصل هذا الشيء، فهنالك مشكلة في أحد الطرفين؛ فإمّا أن يكون العرفان المطروح هو ليس العرفان الصحيح، أو أن المجتمع ليس هو المجتمع الّذي يرضاه الله. يحصل أحيانًا أن يُقال بضرورة تسيير أمور المجتمع بأيّ نحوٍ كان، فإن كان الأمر كذلك فهو موضوع آخر غير الّذي نتحدّث عنه، فحديثنا هو عن خصوص المجتمع المتوافق مع ما أمر الله به، وعن المجتمع الّذي سيأمر إمام الزمان بإقامته عند ظهوره.
نعم، لا يمكن أن يحصل تناقض بين الحكم العقليّ وبين الأمور الاجتماعيّة والمسائل الشهوديّة. هناك الكثير ممّا يمكن أن يُقال في هذا المجال، وها قد نفد الوقت، لذا سأكمل الموضوع في المجلس القادم إن شاء الله، وسنتابع الحديث عن الأحكام الفطريّة.
اللهمّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد
كيفيّة التوفيق بين عدم الاختلاط وبين التحصيل العلميّ للمرأة
سؤال: استميحكم عذرًا، نحن لا نرضى بالاختلاط بين الرجال والنساء، ولكن بقاء المرأة أسيرة البيت، سيضيّع الكثير مِن أوقاتها، وسيزيد مِن أوقات فراغها.
جواب سماحة السيّد: نعم، كنتُ قد تكلّمت حول هذا الموضوع، وقلتُ أنّ الشارع المقدّس قد أكّد كلّ التأكيد على عدم جواز الاختلاط بين الرجل والمرأة، فلا بدّ مع ذلك أن يكون قد فكّر بتكاملها العلميّ، ووضَع البرنامج العمليّ لهذا الأمر. وعليه، لا بدّ مِنَ التفريق بين هذين الأمرين بشكل كامل، فيجب أن يُعطي النظامُ الاجتماعيّ الإسلاميّ الاهتمام الأقصى لهذا الأمر مِن جهتين؛
الجهة الأولى هي تهيئة البيئة النظيفة والسليمة اللازمة للتربية العلميّة للمرأة، ولا بدَّ مِنَ القيام بهذا الأمر على وجهه الأكمل؛ فتهيئة البيئة العلميّة اللازمة يكون بإعداد الجامعات والمراكز التعليميّة والبيوت [الّتي يجري فيها التعليم]، لتتمكّن المرأة مِن قصدها، وتواصل تحصيلها العلميّ في الاختصاصات المختلفة الّتي فيها فائدة لها، فتتعلّم العلوم الإسلاميّة وبعض الاختصاصات المعاصرة، كالعلوم الطبيّة المتعلّقة بالنساء. ولا بدّ أن تكون تلك الأماكن مجهّزة بأحدث ما يمكّن المرأة مِن بلوغ أعلى درجات التكامل العلميّ، وهذا موجود بالفعل في بعض الدول. ومِن جهة أخرى، يجب الالتزام – بأشدّ ما يمكن – بعدم الاختلاط بين الجنسين.
لا يوجد تناقض بين هذين الأمرين، فباستطاعة المرأة أن تذهب إلى الجامعة أو إلى أيّة بيئة علميّة أخرى، وتتلقّى تعليمها على يد أساتذة مِنَ النساء. وإن أردنا أن نفعل هذا الشيء، فبإمكاننا فعله. نعم، قد لا نتمكّن مِن تحقيق هذا الأمر في بعض الموارد وفي بعض الأوقات، وفي مِثل هذه الحالات، يمكنها أن تدرس في فترة محدّدة عند أستاذ مِنَ الرجال بدون أن يحصل ارتباط بينهما؛ فعندما تذهب المرأة إلى الجامعة، لماذا تظهر بشكلٍ يستطيع معه أن يرى الأستاذ وجهها؟! بل تستطيع أن تغطّي نفسها وأن تنظر فقط على لوحة الدرس، لكي لا تجلب نظرات الرجل إليها، الأمر الّذي قد يتسبّب بالفساد.
كما يمكن للمرأة أن تواصل تحصيلها في المراكز التعليميّة، فما المانع مِن ذلك، حين لا يمكن تهيئة كافّة تلك المستلزمات في البيت، وإن أصبح الأمر مقدورًا عليه الآن مع توفّر أشرطة التسجيل وغيرها، وهو ما لم يكن متوفّرًا في السابق.
لا مانع مِن خروج المرأة خارج البيت، أمّا الأمر الّذي كنتُ أتحدّث عنه فهو الاختلاط وحديث [المرأة] مع الرجال، وهو الموضوع الّذي علَيَّ أن أطرحه في المجالس القادمة. فالاختلاط يُفقد المرأة ما تمتلكه مِن استعداد وقابليّة على الرشد والتكامل، ويُستبدل ذلك عندها ببعض الأمور الفارغة والمعلومات والمُدركات الظاهريّة، وهذه العلاقات [والاختلاط بين المرأة والرجل] تُسقط جانب الحقيقة لديها وتُنزلها إلى المراتب الدنيا. هذا ما أردتُ الإشارة إليه.
أمّا ما يُقال عن جلوس المرأة في البيت، والتسبّب لها بالضيق وما شابه ذلك، فلماذا تفترضون أنّ الأمر بهذا الشكل؟! فما المانع مِن إيجاد مراكز تعليميّة تذهب إليها المرأة وتستفيد منها وفقَ ما تمتلك مِن سعة واستعداد، وذلك وفقَ تشخيصها، على أنّ موضوع التشخيص هذا سنتحدّث عنه ضمن المواضيع القادمة، وسنتعرّف عندها على ميزان وملاك التشخيص، وسيتّضح للمرأة والرجل ما هي الأمور المضرّة وما هي الأمور غير المضرّة. [وخلاصة الأمر] أنّه لا يوجد أيّ مانع مِن خروج المرأة وذهابها إلى المراكز التعليميّة.
كيفيّة التوفيق بين حفظ الدين والتحصيل العلميّ في مراكز يشوبها الفساد
سؤال: ما يُشغل بال المتديّنين كثيرًا، هو وقوعهم بين أمرين: بين المحافظة على دين أبنائهم بمنعهم مِن دخول الجامعات، بسبب ما طرأ على الوضع التعليميّ في الوقت الحاضر. وبين نشاط وشوق ورغبة الأبناء بعدم التخلّف عن أقرانهم. فهذا يُحدث اختلاف في وجهات نظر الطرفين، فأردتُ أن أعرف مع مَن الحقّ؛ هل هو مع الآباء الّذين يسعون لحفظ دين أبنائهم، أم مع الأولاد الّذين يرغبون بتحصيل العِلم؟
جواب سماحة السيّد: علينا أن نعرف أيّ الأمرين أكثر أهميّة؛ بناءً على ما بُيِّنَ آنفًا، يمكن تشبيه هذا الموضوع بطفل يرافق والديه في الشارع، وكان هذا الطفل يعاني مِنَ الزكام وألم في الصدر، فوصلوا إلى محلّ يبيع المرطّبات، فطلب الطفل مِن والديه شراء المرطّبات، فهل سيستجيبون لطلب الطفل ويشترون له المرطّبات، فيسوء صدره أكثر فأكثر؟ أم سيمتنعون عن ذلك لكي لا تسوء حالته الصحيّة، وحتّى يبقى محافظًا على صحته؟ فها أنتم تلاحظون بأنفسكم ما الّذي يجري في الجامعات هذه الأيّام، والكلّ يعترف اليوم بذلك، مع محاولة إخفاء الشيء الكثير منه، فلا يُطرح في البيوت إلّا القليل ممّا يجري.
قال المرحوم العلّامة رضوان الله عليه: جاءني أحد الأصدقاء، وجلس في المحراب بعد صلاتي الظهر والعصر – وكان ذلك في عهد ملك إيران السابق – وقال لي: إنّ لابنتي رغبة شديدة في مواصلة دراستها الثانويّة. فقال له المرحوم العلّامة بنصّ العبارة: أن تدع ابنتك تذهب إلى أماكن الفُحش أفضل لها مِن أن تذهب إلى المدرسة الثانويّة. ولكن لم يستمع هذا الرجل إلى كلام المرحوم العلّامة، وذهب ليستشير المرحوم السيّد محمود الطالقانيّ الذّي كان إمام الجماعة في مسجد الهداية، فقال له: ما المانع مِن ذلك، فهذا أمر يتعلّق بتحصيل العِلم، وعلى البنات أن يسعين لتحصيل العِلم أيضًا، فعليك بكلّ تأكيد أن تدعها تذهب، نعم، عليك أن تفعل ذلك حتمًا، فعلى الإنسان أن يمنح أبناءه الحريّة في ذلك، ويُعطي ابنته الحقّ في اختيار الشيء الّذي تريده، وعليها أن تخوض هذه التجربة بنفسها .. وأمثال هذا الكلام الّذي نسمعه نحن أيضًا هنا وهناك. إنّ هذا الأمر شبيه بأن يضع الإنسان طفله على سطح المنزل، ويتركه يُجرّب الأمر بنفسه، ليسقط مِنَ الأعلى على رأسه!! نعم، عليه أن يجرّب بنفسه، حتّى لا يبقى مِنَ الطفل شيئًا!! على أيّة حال، فقد قال له: عليها أن تدخل المدرسة. فسجّل الرجلُ ابنتَه في المدرسة الثانويّة وأكملت دراستها فيها، وبعد تخرّجها منها أصرّت على العمل في إحدى الدوائر، مع ارتدائها للعباءة وغطاء الرأس طبعًا! وبعد مدّة أتى الرجل إلى المرحوم العلّامة وهو يلطم رأسه بكلتا يديه – بحسب تعبير المرحوم العلّامة – ويقول: ليتني سمعتُ كلامك في ذلك الوقت، لو كنتُ قد سمعت كلامك لَما حصل لي ما حصل اليوم .. دعونا مِن بيان ما كان قد حصل!
ألاحظتم! نعم، هكذا هو الوضع، فهو بالشكل الّذي ترونه بالفعل، وبالشكل الّذي نراه نحن أيضًا، فعلينا [والحال هذه] أن ننظر لنرى فيما صلاحهم، وما هو الشيء الّذي يفيدهم في طريق تكاملهم. لا يوجد شكّ في أن عوائلنا تتعرّض للضغوط بسبب ما يجري حولنا وما يحصل في المجتمع، وكلّ واحد يتعرّض في بيئته العائليّة إلى مِثل هذه الضغوط، وهذا الأمر يشمل الجميع بما فيهم الأفراد المتواجدين في هذا المكان، فهم ليسوا مستثنين مِن هذه القاعدة.
إن ألقينا نظرة على مَن حولنا، سنجد بكلّ تأكيد مَن له فَهم آخر للإسلام، ومَن قَبِل الإسلام بشكل مختلف، وها هم يتّهموننا بأنواع التُّهم، ويتّهموننا بأنّنا مصابون ببعض الأمراض، ولكن ما يجب أن يُقال هنا هو: هل نحن مكلّفون باتّباع ما يقولون؟! وهل علينا أن نتخلّى عن تشخيصنا للأمور ونأخذ بتشخيصهم؟! نحن غير مكلّفين بتقليد تلك العوائل الّتي راج عندهم الشطرنج، ونحن غير مكلفين بتقليد العوائل الّتي تصدر مِن بيوتهم الموسيقى، ويرتفع صوت التلفاز عاليًا مِنَ الصباح حتّى المساء. وإن شاهدنا بعض العوائل يتركون أبناءهم وبناتهم يسرحون ويمرحون في المتنزهات بكلّ حريّة، فلا يمكننا أن ندع أبناءنا يفعلون الشيء نفسه. نعم، علينا أن ننظّم أمورنا وعلاقتنا بأبنائنا بالشكل الّذي يقلّل مِن شدّة الضغوط عليهم، ويجب علينا كذلك أن نضع تحت اختيارهم العلوم المفيدة، فلا يمكننا أن نطرح شيئًا آخر غير هذا.
إنّ الأمور واضحةٌ، وصورة القضيّة مشخصّةٌ، فعلى كلّ فرد أن يعمل وفقَ تشخيصه. يسألون هذا العبد: هل ابنتنا مستعدّة لدخول الجامعة ودراسة العلوم الطبيّة وما شاكل ذلك؟ يقول العبد هنا: إنّ الإسلام لم يمنع هذا الأمر، بل أكّد عليه كثيرًا، ولكن هذا الأمر يُمثِّل أحد جانبَي القضيّة، أمّا الجانب الآخر فيتمثّل في كيفيّة قضاء هذه البنت وقتها هناك، فلا أستطيع أنا أن أتابع هذا الأمر، ولا تستطيعون أنتم أن تحضروا معها في قاعة الدروس. فلهذه الجنبة شأنٌ آخر، واتخاذ القرار فيها متروك لكم.
كيفيّة التوفيق بين رعاية الزوج والأبناء والتحصيل العلمي
سؤال: لَمّا كانت التعليمات الإسلاميّة تؤكّد على ضرورة الحمل والرضاع للمرأة مِن جهة، والقيام بواجباتها اتّجاه زوجها بأحسن ما يمكن مِن جهة ثانية، والرقيّ بالمستوى العلميّ مِن جهة ثالثة، نرى مع مرور الوقت أنّ تربية الأطفال تأخذ معظم وقت المرأة وطاقتها، بالشكل الّذي لا تستطيع معه القيام حتّى بواجبات زوجها، كما أنّ هذين الأمرين يَحدّان مِن قدرة المرأة على رفع مستواها العلميّ، بل يحولان دون التمكّن حتّى مِنَ الاستماع إلى التسجيلات الصوتيّة لمجالسكم. بناءً على هذا، إلامَ تكون الأولويّة بين هذه الأمور؟ كما أنّه كانت هناك دروس خاصّة لتعليم الفتيات المسائل المفيدة، واجتناب إتلاف الوقت، أمّا في الوقت الحاضر، فما الّذي سنفعله؟
جواب سماحة السيّد: علينا أن نَزن هذه الأمور معًا، فرفع المستوى العلميّ يُمثّل أحد جوانب القضيّة، فتوجد جوانب مختلفة أخرى إلى جنب ذلك؛ فعلى المرأة أن تنظر إلى هذه الأمور المختلفة؛ كمسألة الحمل مِن جهة، ومسألة رفع المستوى العلميّ، إذ تحصيل المعلومات العلميّة والدينيّة والتبصّر في الدين، هي مِنَ الأمور المهمّة، ثمّ إنّ القيام بواجبات الزوج هو على رأس هذين الموضوعين، فهو الموضوع الأهمّ بينها، حيث جرى التأكيد الشديد عليه في التعليمات الإسلاميّة. فيجب الجمع بين هذه الأمور، مع الأخذ بعين الاعتبار الموضوع الأهمّ ثمّ المهمّ منها، فيبني الإنسان حياته اليوميّة وفقَ ذلك.
يُلاحظ وجود ثلاثة أمور في هذا السؤال المطروح، هي: موضوع الحمل والرضاعة وتربية الأطفال، وموضوع التحصيل العلميّ، والموضوع الثالث هو القيام بواجبات الزوج، وهو الموضوع الّذي سأتحدّث عنه في المجالس القادمة إن شاء الله. إنّ الموضوع الّذي يحتلّ المقام الأوّل مِن حيث الأهميّة هو موضوع القيام بواجبات الزوج؛ أي على المرأة أن تطيع زوجها، وهو الشيء الّذي أمر الله المرأةَ القيام به.
إنّ المسألة المُلفتة للنظر والّتي ركّز عليها الحقير في حديثه هذا اليوم – وأعتقد أنّ السيّدات انتبهنَ لها – هي: لماذا نقوم بأعمالنا اليوميّة؟ وبعبارة أخرى: ما هو الهدف والغاية وراء الأعمال الّتي نقوم بها؟ علينا أن نكتشف هذا الأمر؛ فإن كان هدفنا في كلّ ذلك – قد ذكرتُ هذا الأمر هناك – هو الوصول إلى الكمال، فلا ينبغي حينئذ أن يتضمّن كلامنا التردّد والتساؤل، ولن يكون هناك مجال لطرح أسئلة مِن قبيل: لماذا يحصل هذا الأمر، ولماذا يحصل ذاك الأمر؟ فطرح مِثل هذه الأسئلة خاصّ بأولئك الّذين هدفهم مِنَ الوجود والحياة، هو مجرد العيش في هذه الدنيا ثمّ مغادرتها، أمّا إن كان هدفنا في الدنيا هو الوصول إلى المراحل الكماليّة، فعلينا أن نعرف ما هو الطريق الّذي اختاره لنا مدير المصنع والخالق الّذي خلقنا. إنّ هذا الموضوع في غاية الدقّة، وهنا مَكمن القضيّة، فإن تساءلنا وقلنا: كيف نريد أن نعيش في هذه الدنيا؟! عندها سيبرز هذا الأمر، فيُقال: إنّ للمرأة حقّ ما، وللرجل حقّ آخر، وكلّ واحد منهما حرٌّ في أن يفعل ما يشاء، وأمثال ما يُطرح هذه الأيّام! أمّا إن أردنا أن نفكّر في أنفسنا فنقول: لو طرق الآن إمامُ الزمان البابَ ودخل علينا، فما الّذي سيقوله لنا، وأيّ شيء سيقترح علينا؟ فإن قال لكِ: اجلسي في بيتك، ولا تدرسي، هل ستقبلين منه ذلك أم لا؟
كان أحدهم يعترض على المرحوم العلّامة في الأيّام الأولى للثورة، فيقول له: لماذا لا تُشارك في فعّاليات الثورة؟! كان المرحوم العلّامة يغضّ النظر ويسكت عن سؤاله. كان هذا الرجل مِن أقاربنا، وكان يتولّى بعض المسؤوليّات، كالإشراف على بعض المساجد والقيام ببعض النشاطات السياسيّة وما شابه ذلك، ومضت عليه سنواتٌ وهو على هذه الحال، ثمّ حصل ما جعلهم ينحّونه عن هذه المناصب. فذهبتُ لزيارته يومًا، فوجدته ممتعضًا جدًّا لتنحيته عن مناصبه. قلتُ له: لماذا أنت ممتعضٌ؟ قال: قد نحّوني عن مناصبي، ولا يعطونني الفرصة للعمل. قلتُ له: إن كنتَ تعمل لله، فليس لك أن تمتعض، فقد كنتَ تعمل لله ثمّ تمّ الاستغناء عن خدماتك، ولكن يُعلم مِن حالك هذه أنَّك كنت تعمل مِن أجل نفسك، وتستغلّ الله في ذلك؛ فنفسك هي الّتي كانت تصوّر لك أنّ استلامك للمسؤوليّة وقيامك بتلك النشاطات، هو كسب لرضا الله، لذا فعندما نُحيتَ عنها حزنت، هذا في الوقت الّذي كان يجب عليك أن تفرح لذلك، وتقول: ها قد ارتحت. فلماذا تنزعج؟! غرق الرجل في التفكير ثمّ قال: لقد علمتُ للتّو أنّ ما كنت أقوم به في هذه المدّة البالغة خمسة عشر عامًا كان مِن أجل النفس. إنّهم يجعلون مِنَ الله درعًا يتحصّنون به.
يجب أن نُجيب السيّدة [الّتي سألت] بالقول: لأيّ شيء أعطى الله الأولويّة؟ فهنا يكمن الجواب؛ إنّ القيام بواجبات الزوج هو على رأس كافّة الواجبات اليوميّة للمرأة، على أنّ هذا الأمر يجب أن لا يتعارض مع تربية الأطفال؛ فعندما يكون لدى المرأة أطفالٌ، يجب عليها أن تهتمّ بأمورهم كامل الاهتمام، ولا ينبغي للزوج أن ينتظر منها ما يفوق قدرتها وطاقتها، فهذا الطفل مولود مِنَ الجانبين، ولرعايته أولويّة؛ فإن كان للمرأة أطفال، فليس عليها أن تقوم بغير رعايتهم مِن أمور إضافيّة مِن أعمال المنزل، ولا ينبغي لها أن تُرجّح غير رعايتهم، فإن حصلت لها فرصةٌ مستقبلًا، يمكنها حينئذٍ أن تشتغل بالمسائل العلميّة. إنّ الله يكلّف كلّ نفس بحسب سعتها، فهل يُتوقّع مِن جميع طلّاب الصفّ الواحد الحصول على الرتبة الأولى؟! لو حصل هذا الأمر، لكنَّا جميعًا بالمستوى نفسه؛ فعلى كلّ فرد أن يشتغل بما تسمح له ظروفه.
ما قاله المرحوم العلّامة كان صحيحًا؛ يجب أن تكون المرأة في جميع الأحوال، إمّا حاملًا أو مُرضعةً، وعليها أن تقوم بواجبات زوجها، وأن تتعلّم. فكلّ ذلك صحيح، ولكن يجب القيام بكلّ أمر مِن هذه الأمور وفقَ ما توفّره الظروف له.
أمّا فيما يتعلّق بموضوع الدروس الّذي أشارت إليه السيّدة [في سؤالها]، فأقول: نعم، إنّ هذا الموضوع مهمٌّ جدًّا، خصوصًا للفتيات؛ إنّ هذه البرامج تجري في أماكن أخرى، وكم هو عملٌ جميل ذلك الّذي يقومون به. على أنّ هذه الدروس ليست مختصّة بالفتيات، وهو ما كنتُ أفكر به منذ زمن طويل، إذ يجب أن تُقام دروس مشابهة للفتية أيضًا، على أن تُراعى فيها ظروفهم، وقد تكلّمنا بهذا الموضوع، ونأمل مِنَ الله وبفضل دعائكم وهمّة رفقاء الطريق، أن يتمّ تنفيذ هذا البرنامج عمليًّا، وسأتكلّم عن هذا الموضوع أيضًا في المجالس القادمة إن شاء الله.
اللهمّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد