135

التقوى والزهد

6956
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتقوى ومراتبها

التاريخ 1427/10/18


التوضيح

ما هي أوّل درجة التقى؟ وهل تعني الوصول إلى الهدف أم بداية الحركة والانطلاق والإدراك لموقع النفس؟ وما المراد بالتقوى وما علاقتها بالزهد الخاطئ؟ وما هي مظاهر وأسباب الزهد الخاطئ؟ وما هي أكبر لذّات النفس التي تفوق اللذّات الحسيّة خطرًا؟ ولماذا كان تفكّر ساعة خيرًا من عبادة سبعين سنة؟
موضوعات تعالجها هذه المحاضرة ضمن شرح فقرة فهذا أوّل درجة التقى من حديث عنوان البصريّ.

/۱۸
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

التقوى والزهد

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • التقوى والزهد 

  • شرح حديث عنوان البصري - المحاضرة ۱٣٥

  •  ألقاها: 

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

التقوى والزهد

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على نبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين 

  •  

  •  

  • ما معنى أوّل درجة التقى؟

  • قال الإمام الصادق عليه السلام في تتمة كلامه لعنوان البصري: فهذا أوّل درجة التقى، قال الله تعالى:{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواّ في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين}.۱ هذا الكلام الذي قلناه إلى الآن يوصل الإنسان إلى أوّل درجة التقوى، يعني يؤدّي إلى أن يشرع الإنسان بالحركة، فذلك الطريق الذي كان يطويه بالتقليد ويصل فيه الليل بالنهار والنهار بالليل، وينهي عمره بأعمالٍ وسلوكيّاتٍ مكرّرة بالهوى والغفلة والجهالة والضياع والإبهام الآن حصل فيه تحوّل. هذا ملخّص كلام الإمام الصادق عليه السلام.

  • فبالاهتمام بهذه الأمور يخرج الإنسان للتوّ من حالة الضياع واللاوعي، لا أنّه يصل إلى الهدف بل يخرج للتوّ من حالة الضياع وحالة التكرار، لقد فهم للتوّ ما هي الدنيا وما هي العقبى، لقد اتّضح له للتوّ الآخرة والباطن وحقيقة عالم التكوين، وأدرك أنّ وراء هذه الظواهر التي يشتغل بها ليلاً ونهارًا في علاقاته وذهابه وإيّابه وفي معاملاته ـ والتي لم يكن يُدرك غيرها ـ باطنًا وأنّ كلّ ذلك هو مجرد ظاهر، ظاهرٌ جذّابٌ ومخادع، ولكنّ باطن الأمر وحقيقة الموضوع وناموس عالم الخلقة وجوهر عالم التكوين أمرٌ آخر يجب أن يُنظر إليه من خلال هذا الظاهر، وأن لا يُسلّم الإنسان قلبه إلى هذا الظاهر.

  • لوحات الطريق

  • إن كان الإنسان مسافرًا فإنّه من خلال لوحات الطريق يعرف مسيره لا أنّه يقف عندها وينظر إليها ويقيس طولها وينظر إلى خطوطها، يركن السيارة جانبًا ثم يقف وينظر ما لون هذه اللوحة، حسنًا لونها أخضر مكتوبٌ في وسطها أنّ الطريق إلى تلك المدينة من أين وفي أيّ اتّجاه، ثمّ يأتي وينظر هذه اللوحة الموجودة إلى جانب الطريق هل هي من الحديد أم من الخشب أم من الحديد الزهر أم من الألمنيوم أم من مزيج من المعادن؟ وكم هي قدرتها على المقاومة؟ وكيف رُكّزت؟ وكيف جعلت هندستها فوق الأرض؟ وهل تقاوم الرياح أم لا؟ لقد حلّ الليل وهو لا يزال يتأمّل في هذه اللوحة، كان من المفروض أن يصل في الليل إلى نقطةٍ معيّنة وإن لم يصل إليها فات الأوان وانتهى الأمر، إنّ لوحات الطريق هي لأجل أن تنظر إليها نظرةً واحدة، لا أن تنظر إليها نظرةً ثانية بل تنظر إلى الطريق، نظرةٌ واحدة أنّ الطريق من هذه الجهة وانتهى الأمر لا أن توقف السيارة جانبًا وتقيس اللوحة وو...

    1. سورة القصص، الآية ۸٣.

التقوى والزهد

3
  • مذكّرات في مكّة

  • قلت مرّةً للرفقاء أني ذهبت يومًا إلى مكتبة لأشتري كتابًا فوقع نظري على كتاب اسمه "السفر إلى مكة" فقلت: لا شكّ أنّ هذا الكاتب نال بعض الحقائق والأسرار والحالات فكتبها ـ فكثير من الذين يسافرون إلى مكة يكتبون مذكّراتهم ـ فأخذت الكتاب فرأيت أنّ هذا المسكين قد قضى الأسبوعين في مكة بقياس المسجد الحرام كم شبرًا هو في طوله وفي عرضه والكعبة كم سنتيمترًا هي بشكلٍ دقيق حتى كان قد كتب كم سنتيمترًا وكم ميلليمترًا بطولها وعرضها، فبدلاً من أن يكون همّه التكبير والتهليل والتفكير في أنّه من الذي جاء إلى هذا المكان ووقف هنا، فكّر أنّ الكعبة كم سنتيمترًا هي وكم مترًا. حسنًا، ما شأنك أنت؟! هل طلبوا منك أن تنظر كم مترًا وكم سنتيمترًا هي، لقد كان كامل هم هذا وفكره منصّبًا على الظاهر ولم ينل مما يناله الآخرون ذرّةً واحدة، ولم يصل إلى تلك الحقائق، فقط نظر إلى هذه المآذن كم ارتفاعها وإلى المواد التي استعملت في تلك الأبنية ما هي.

  • هذا الأمر الذي أذكره للرفقاء مهمٌّ جدًا، من الأمورالدقيقة جدًّا في السلوك وحركة الإنسان من عالم الظاهر إلى عالم الباطن ومن عالم الاعتبار إلى عالم الحقيقة وهذا واحدٌ من أمثلتها، فإذا أردنا أن نحقّق في حياتنا فردًا فردًا نجد أنّها كسفر هذا إلى مكّة لا تختلف عنها كثيرًا. 

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام إنّ هذا الكلام الذي قلته إلى الآن، مسألة العبودية، الوصول إلى الحقائق، تنحية الاعتبارات والنظر إلى ما يغضّ عنه الناس أبصارهم هي أمورٌ تجعل الإنسان يحدّد مكانه في هذا العالم ويدرك ما يريده الله منه ولا يضيّع فرصته هباءً منثورًا ولا يبذل الاستعداد الذي أودعه الله تعالى فيه بأعمالٍ صبيانيّة، لقد وصل للتوّ إلى بداية الطريق ومن الآن فصاعدًا عليه أن يبدأ بالحركة، ويجب أن يطبّق تلك الأمور واحدةً واحدة وفي كلّ ساعةٍ ودقيقة هذه هي حقيقة الأمر. فهذا أول درجة التقى يعني أنّ أول درجات التقوى عبارةٌ عن أن يعرف الإنسان موقعه فما لم يعرف الإنسان من هو وما هو، لا يمكنه أن يستفيد من تلك الثروة والجوهرة التي أودعها الله فيه. ولو طرق ألف عامٍ هذا الباب وذاك لما أمكنه أن يطوي هذا الطريق الذي يجب عليه أن يطويه فأوّلاً لا بدّ أن يعلم ما هو الاستعداد الذي لديه بماذا يختلف عن سائر الموجودات، وما هي الخصوصية التي أودعها الله فيه؟ 

التقوى والزهد

4
  • الاطّلاع على الطريق وقدرة النفس قبل الشروع في السير

  • لقد كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه دائمًا يوصي بهذا الأمر وهو أنّه قبل أن يكون لدينا توقّعٌ وأن نطلب شيئًا وأن نسعى إلى الأمور، قبل ذلك علينا أن نطّلع على الحقائق المحيطة بنا والأمور التي حولنا والمكانة التي نحن فيها. لا يمكن للإنسان أن يطوي طريقًا من دون أن يكون له اطّلاعٌ على وضع ذلك الطريق وعن مقدار المسافة الموجودة والمخاطر والموانع التي يمكن أن تعترضه فيه، ومن جهةٍ أخرى لا يمكن أن يكون غافلاً عن إمكاناته هو واستعداده ووسيلة النقل التي يستعملها. إنّ السير بحالةٍ كهذه حماقةٌ وليس عقلاً؛ لذلك كان يقول: الأفضل قبل أن يشرع الإنسان بالسلوك وأن يتوقّع بعض الأمور أن ينظر إلى مستوى همّته واستعداده وتحمّله وأنّه إلى أيّ حدٍّ يمكنه أن يهتمّ بهذا الأمر.

  • وقد ذكرت للرفقاء أنّه جاء إليه سابقًا رجلٌ... ـ وطبعًا هذا الكلام الذي أقوله الآن ليس بعيدًا عن البحث الذي أودّ طرحه اليوم ويمكن أن يعدّ مقدّمةً والأمر بيد الله كم نوفّق أو أن تبقى سائر الموضوعات إلى الجلسات اللاحقة ـ فالبعض لا يدركون حقيقة واقعهم ووضعهم بشكلٍ صحيح، ولا يدركون بشكلٍ صحيح مستوى اهتمامهم وجدّيتهم بالأمر، لديهم حالةٌ من الانبساط المؤقّت واهتمام وحرارةٌ عابرة وغير مستمرّة وحالة من الانجذاب والشوق المؤقّـتين تجبرهم أن يتوقّعوا أمرًا يتطلّب ما يفوق هذا الاهتمام والاستعداد والانجذاب، وما يفوق هذه الهمّة والسعي والحرارة والمتابعة، لذلك من الأفضل أن يقيّم الإنسان وضعه دائمًا.

  • معنى تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة

  • وللنبيّ كلمة ـ وتُنسب أيضًا إلى الأئمة عليهم السلام ـ تقول: تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة.۱

  • لقد ذكرت للرفقاء حقيقة هذه المسألة، فحقيقتها هي أنّ العبادة مجرّد تكرارٍ لمجموعةٍ من الأفعال حيث يقوم الإنسان بعمل ما فيصلّي، وفي أحسن الأحوال يلتفت إلى معاني هذه العبارات والأذكار وما يقوله في الصلاة، فلا شيء أرفع من ذلك يقوم به، ولو قام بإنجازٍ مهمّ فإنّه يمنع ورود الأفكار والخواطر أثناء الصلاة، وأفضل شيءٍ يمكن أن يقوم به رعاية المستحبّات والأمور الظاهريّة والخاتم والمسواك وتمشيط اللحية والصلاة على سجّادة خاصة والسجود على تربة الصلاة وتسبيح السيّدة الزهراء عليها السلام وأمثال ذلك، واليوم تقال بعد الصلاة أشياء أخرى بدلاً من تسبيح السيّدة الزهراء.

    1. عوالي اللآلي ج٢ ص ٥۷، في الهامش عن: كنوز الحقايق للمناوي في هامش الجامع الصغير ، ۱ : ۱۰۷ ، حرف التاء ، نقلا عن الديلمي .
      وفي بحار الأنوار

التقوى والزهد

5
  • كيفيّة الصلاة وتعقيباتها 

  • فمن الأعمال الشائعة بيننا هي أنّ المصلين يلتفتون بعد الصلاة إلى بعضهم ويتصافحون فهذه بدعة، ليس لدينا في الصلاة أمرٌ كهذا، ما ورد في الصلاة هو أنّه يسجد بعدها سجدة الشكر استحبابًا، وبعدها بلا فصلٍ حتّى بكلمةٍ واحدة يجب القيام بتسبيحات السيّدة الزهراء، فهي بعد الصلاة في حكم التتمّة لها كما في الروايات، أي كأنّه يقرأ الحمد أو التشهّد، فلو فصل بين الصلاة وبين التسبيح بشيءٍ آخر، فلن يكون للتسبيح ذلك الثواب فعليه أن يقرأ تلك التسبيحات وهو في تلك الحالة لا أن يقوم ويتكلّم بكلامٍ آخر فإذا انتهى بعد خمس دقائق أو عشر دقائق يبدأ بها، أي إنّ الله تعالى أراد أن لا تنقطع حالة الصلاة والتوجّه فيجب أن لا تنقطع، فكما أنّه تبطل الصلاة إذا التفت الإنسان أثناءها يمنةً أو يسرة أو تكلّم إلا لضرورة وبمستوى لا ينحرف فيه عن القبلة، كما لو كان هناك طفل في خطر ويريد أن يتناول شيئًا خطيرًا ويصيبه ضرر حينها يمكن للإنسان أن يتقدّم بضعة خطوات ويمنعه من ذلك ثمّ يتابع، أمّا لو تكلّم أو ضحك ضحكةً غير متعارفة أو استدبر بوجهه عن القبلة فإنّ الصلاة تبطل، لماذا؟ الله لا يحكم بحكمٍ عبثًا والسبب هو أنّ تلك الحالة من التوجّه التي هي من لوازم مواجهة الإنسان لمقام الربوبيّة تنقطع بسبب الأفعال غير اللائقة، فإذا انقطعت وجبت إعادة الصلاة من جديد، وهكذا تسبيح السيّدة الزهراء عليها السلام، إنّهم الآن بعد الصلاة يلتفتون إلى هذه الجهة وهذه الجهة قائلين تقبّل الله، فما معنى تقبّل الله وما علاقتك أنت قُبلت أم لم تُقبل؟ يصافح هذا ويقول: تقبّل الله ويصافح ذلك ويقول: تقبّل الله، ويلتفت خلفه وإلى الصفّين اللذين وراءه ويناديهم أن تعالوا ويقول لهم: تقبّل الله فما هذا؟ الملائكة تدرك إن كانت الصلاة مقبولة أم لا فما شأنك أنت؟

  • الأفضل أن يسجد الإنسان سجدة الشكر مباشرةً بعد الصلاة، وبعدها يبدأ بتسبيح الزهراء فهذا ما لدينا في الروايات وأوامر أولياء الله، لقد قال لي السيّد الحدّاد رضوان الله عليه إنّ السالك الذي يصلّي ولا يسبّح تسبيح الزهراء لم يصلّ، فهل أدركتم أين هي حقيقة الأمر؟ ثمّ بعد ذلك يقال: إنّ هؤلاء ليسوا من أهل الولاية، هو يقول: من لم يسبّح تسبيح الزهراء لم يصلّ.

التقوى والزهد

6
  • فهذه أمورٌ وعادات شاعت بين العوام كبدعة، ووظيفة العالم أن يمنعها.

  • عندما يصلّي الإنسان يجب أن يكون توجّهه إلى الله لا إلى غيره، وكلّ ما سوى الله يجب أن يكون تحت قدميه، وإذا قُضيت الصلاة فيجب أن يحافظ على حالتها فلا يتكلّم بعدها مهما كان الكلام، ولا يصافح أحدًا، ولا يسأل عن أحوال الآخرين، لا يقول تقبّل الله أو لا تقبّل الله لهذا وذاك، بل يسجد ثمّ يُسبّح ثمّ يقوم بالتعقيبات، حتّى إذا انتهت الصلاة فكأنّما رفعنا عن أنفسنا أغلالاً وسلاسل. لا أن نتكلّم بما يحلو لنا ونلتفت يمينًا وشمالاً وإلى الأعلى وإلى الأسفل ونسبّ هذا وذاك، فليس الأمر هكذا. فالله تعالى لا يحبّ أن تكون تلك الحالة فقط في الصلاة. لماذا تحصل تلك الحالة في شهر رمضان؟ لأنّ شهر رمضان اقتضى أن نكون في مثل هذه الحالة، وأن تتغيّر حالتنا فهل إذا انتهى وحلّ شهر شوال نترك ذلك جانبًا، كلّ ما حصلنا عليه في شهر رمضان ننساه أم لا؟ نستمرّ عليه في شهر شوّال، علينا أن لا ندع ذلك الضيف الذي حلّ في قلوبنا وضمائرنا ونفوسنا في شهر رمضان يودّعنا ويخرج، بل نحافظ عليه، كيف نحافظ عليه؟ بأن نقوم بتلك المراعاة التي كنّا نقوم بها في شهر رمضان في شهر شوّال أيضًا فنصوم في كلّ أسبوعٍ يومًا أو يومين وعلى الأقلّ كما أمروا أن نصوم في كلّ شهرٍ ثلاثة أيّام، وكما زدنا من توجّهنا في شهر رمضان أن نزيد منه في غيره فهذه هي مراعاة الضيف الإلهيّ واستضافته، فهذه الحالة التي في شهر رمضان وهذه الحالة التي تحصل للإنسان أثناء الصلاة هي ضيفٌ من عند الله حصل لنا بواسطة الملائكة، وهذه الحالة التي تحصل لكم أثناء الصلاة لم تأتوا بها من عند أنفسكم، ذلك التوجّه الذي يحصل أثناء الصلاة يسبّب أن تتنزّل الملائكة عليكم من عالم القدس كما تتنزّل على الأنبياء وكما تتنزّل على الأولياء، فكما أنّ جبرئيل يتنزّل على النبيّ عند الصلاة فهو يتنزّل علينا، ولكن بشكلٍ أقل وأضعف وأدنى، بل ما يحصل للنبيّ حين الصلاة هو أرفع من جبرائيل وأين جبرائيل منه؟! وهذا المثال الذي ضربناه هو لسائر الأنبياء. أمّا بالنسبة إلى النبيّ والأئمة عليهم السلام، وكذلك خواصّ الأولياء من شيعة أمير المؤمنين فما يحصل لديهم في الصلاة لا يدركه حتّى الملائكة المقرّبون كجبرائيل، تلك الأمور هي لنا نحن فالمراتب الدنيا هي لنا نحن، والذين هم من أصحاب المراتب الأعلى لهم حالاتٌ تناسبهم إلى أن يصل الأمر إلى أنّ أعلى مراتب الملائكة المقرّبين التي تنزّل الأسماء الكليّة للّه والصفات الكليّة للّه إلى القلوب لا يدركون حال العبد مع الله، فكيف يمكنهم أن ينزلوا؟! وكيف يمكنهم أن يفيضوا؟! هناك الملائكة أنفسهم يستفيضون من المصلّي، يأتي جبرائيل ويستفيض، وهذا ليس من شأننا نحن، وإن شاء الله رزقنا الله ذلك. فنحن لسنا بُخلاء والله ليس عاجزًا أيضًا.

التقوى والزهد

7
  • فيض ز روح القدس ار باز مدد فرمايد***دگران هم بكنند انچه مسيحا مى كرد.
  • يقول: إذا أفاض روح القدس من جديد استطاع الآخرون أن يفعلوا فعل المسيح.

  • فلا الله عاجزٌ وبخيل، ولا ما وعدوا به خاصّ ببعضٍ دون آخر، كلاّ فهو لا يختصّ ببعضٍ ولكنّه يتطلّب همّةً، يتطلّب همّة. 

  • على الإنسان أن يحافظ على حالته أثناء الصلاة، فلا ينبغي أن يدير برأسه نحو هذا الاتجاه وذاك، بل يبقى مطأطئ الرأس ويسجد سجدة الشكر، ثمّ يقوم فيسبّح تسبيح الزهراء عليها السلام، ثمّ يجلس مدّةً ثمّ يقرأ القرآن أو يتفكّر، وليس من الضروريّ أن يقرأ الإنسان شيئًا فقليلٌ من التفكّر وقليلٌ من الغوص في النفس، وبعد بضع دقائق يقوم إلى عمله ولينظر حينها ما أثر هذه الصلاة وما الفرق بينها وبين الصلوات الأخرى.

  • فكّروا في هذا وقارنوا بينه وبين ما هو متعارفٌ بين العوام، فلو قمنا به فعلى أيّة نتيجةٍ نحصل، اليوم وغدًا وبعد غد وبعد أسبوع وشهر وسنة وسنتين وثلاث ثمّ بعد ذلك يقولون: تفضل! تنظر إلى نفسك فترى أنّك لم تتغيّر أبدًا، أفكارنا لا تزال كما كانت قبل خمسين عامًا فلم تتغيّر، حالتنا لا تزال كما كانت قبل خمسين عامًا ولم تتغيّر عمّا كانت عليه عندما كان عمرنا عشرين سنة وثلاثين سنة وخمسًا وعشرين سنة. لم تتغيّر أبدًا، نعم تغيّر ظاهرنا وصار الشعر الأسود أبيض، وذلك الوجه النضر تغيّر إلى وجهٍ منكسر، وتلك القوّة والقدرة تبدّلت إلى ضعفٍ وفتور، فهذه حالات الظاهر، أمّا في حالي الباطنيّ فماذا؟ لم يتغيّر شيء إن لم يكن قد صار إلى الأسوأ، لم يتغيّر لماذا؟ لأنّ أعمالنا كانت تكراريّةً؛ فلو وضعتم شريطًا مسجّلاً فإنّه يصل إلى النهاية، ثمّ تعيده وتضعه من البداية فيصل إلى النهاية ثمّ تعيده مرّةً أخرى فيصل إلى النهاية، وهكذا مائة مرّة، سجّل عليه صلاةً ثمّ شغّله حتّى النهاية فكم سيتكامل هذا الشريط؟ لن يتكامل أبدًا، كماله في أنّه سيفسد، سيرقّ حجمه، فإذا استعملته مائة مرّة أو مائتين مرّة سيتمزّق فجأةً، فهذه هي فائدة صلاة السيّد شريط والسيّد مسجّل، فهذه الصلاة التي نصلّيها على هذه الحالة التي نحن عليها هي كهذا الشريط تمامًا لا تختلف عنه أبدًا، هي مجرّد إسقاط تكليفٍ ظاهريٍّ فحسب، ولا يترتّب عليها شيء، ولا يحصل شيءٌ جديد إضافةً إلى ذلك، لا يحصل انقطاعٌ بواسطة هذه الصلاة عن الدنيا وما سوى الله، فنحن لدينا تعلّق بهذه الدنيا وذخائرها ولا تقلّ بواسطة هذه الصلاة، وزيادةً على ذلك نفرح بأنّنا أدّينا تكليفًا وقمنا بما أمر الله وقلبُنا مأنوسٌ وفرح، ولكن إذا ما مضت مدةٌ، بضع سنواتٍ، ما إن نرى أنّ الأمر ينتهي والسجلّ يصل إلى صفحاته الأخيرة نقول: عجيب ماذا حصل؟! ما هذه الدنيا التي عشناها ولدنا وكنّا أطفالاً وكبرنا وبلغنا وتزوّجنا وعملنا، وها نحن الآن نموت. فعلينا أن نفكّر من الآن بجملة "ماذا حصل" هذه؟ ذلك الشيء الذي يُقال في عمر السبعين إذا وصل عمر الإنسان في هذا الزمان إليه، علينا أن نفكّر به من الآن.

التقوى والزهد

8
  • لماذا تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة؟

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام: إنّ هذه الأعمال التي يقوم بها الناس عليهم أن لا يتصوّروا أنّها في مقام التقوى كلاّ، إنّهم يقومون ببعض الأعمال المستمرّة والأعمال المعتادة بحيث أنّهم لو تركوها لاستوحشوا، إنّهم ليسوا مهتمّين بما يقومون به ولا يتابعون، فهذا الرجل السنيّ إذ يصلّي فعندما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله ثمّ يقول: اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآل محمّد لا يفكّر لماذا لم يأت بدلاً من "اللهم صلّ على محمدٍ وآل محمد"، بـ "اللهم صلّ على محمدٍ وعلى أبي بكرٍ وعمر" لم يفكّر لماذا لم ترد في الصلاة، لماذا جاء اسم آل محمّد بدلاً من أبي بكرٍ وعمر وبقيّة الخلفاء، لا يفكّر بهذا، يعلم ولكن لا يتابع ولا يهتمّ.

  • أنت إذ تعلم أنّ الصلاة من أوجب الواجبات ومن أكثر الأمور ضروريّةً، ألم تفكّر إلى الآن في نفسك أيّها الأخ السنيّ لماذا لم يُذكر اسم هؤلاء الذين غصبوا الخلافة بعد النبيّ من أمير المؤمنين بتلك الطريقة، لماذا لم يذكر اسمهم بدلاً من آل النبيّ في الصلاة، أليس هؤلاء أفضل الصحابة كما تقولون؟! نعم في النهاية جناب أبي بكرٍ كذا، جناب عمركذا، جناب عثمان كذا، وفي المرتبة الرابعة أيضًا عليّ كرّم الله وجهه.

  • نزل أمير المؤمنين إلى المستوى الرابع، وتقدّم هؤلاء الثلاثة إلى المستوى الأوّل، فلماذا لم يقل الله: اذكروا أسماءهم في الصلاة؟! لماذا قال: اذكروا اسم آل النبي؟! ومن هم آل النبيّ؟ أنتم أنفسكم تقولون: إنّهم عليٌّ وفاطمة الزهراء؛ فلماذا لا تتابعون ما تقولونه في الصلاة؟ لماذا لا تفكّرون به؟ ألم يقل الشافعيّ في هذا الأمر: من لم يصلّ عليكم لا صلاة له۱؟ فأنت إذ تقول هذا ـ هذا رغم أنّ الشافعي أفضل من الآخرين ـ فأنت إذ تقول هذا لماذا تفتح دكّانًا في مقابل الإمام الصادق؟! أنت إذ تقول هذا ـ والشافعي بالقياس إلى الآخرين هو الأفضل وجميع هؤلاء الذين يعادون الشيعة هم من الحنفية فالشافعيّ أقرب إلى مدرسة أهل البيت، أقرب بكثير ومحبّو أهل البيت في أتباع الشافعي أكثر من سائر فرق المخالفين ـ أنت إذ تقول هذا الكلام فلماذا لا تتابع ولا تعمل باللوازم؟! 

    1. . الحاوى الكبير فى فقه مذهب الامام شافعى، ج ٢، ص ۱٣۷:
      يا أهل ‌بيت رسول ‌الله حبكم فرض من‌الله فى القرآن أنزله 
      كفاكم في عظيم القدر أنّكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له.

التقوى والزهد

9
  • ثمّ هل تكون هذه الصلاة مقبولة؟ لنفترض أنّ العوام منهم لا يلتفتون إلى هذا الأمر، ولكنّ إمام الجماعة وذلك العالم ومن يقرأ الآن هذا الكلام لماذا لا يذهب ويتابع الأمر؟! فإذن هو يكذب على نفسه ويكذب على الله، والصلاة التي يصلّيها إذن هي كذب، وجميع الأعمال التي يقوم بها هي كذب، وترجيع الصوت والتلحين والصعود والهبوط والترقيق والتفخيم كلّ ذلك كذب، لذلك إذا نظرت إلى هذه الصلاة تجد أنّه يصلي ولكن تخرج الكدورة من فمه. واعلموا أيضًا أيها الرفقاء أنّ هذا الأمر لا يختصّ بهم، فالمعيار عام والعلّة عامّةٌ دائمًا، فأنا يمكن أن أكون هكذا، وأمثالي يمكن أن يكونوا هكذا، وإن كنّا نعدّ أنفسنا شيعة.

  • المهمّ هو أنّنا هل نلتزم بما نقوله أم لا؟ هل نعمل بما نعتقد به أم لا؟ إن لم نعمل فنحن مثلهم، ألم أقل لكم إنّ كثيرًا من الناس إذا تكلّموا يمكن للإنسان أن يدرك مقدار خلوصهم ومقدار عنادهم من لحن كلامهم، يتكلّم عن الله ولكنّه يخرج من لسانه إلهٌ مقلوب لا إلهٌ واقعيّ، لقد جعل اللهَ وسيلةً لتيسير أموره الخاصة، جعل الإمامَ والنبيَّ وسيلةً لتيسير أموره الخاصّة وترويج دكّانه، جعل روايات الإمام الصادق عليه السلام وسيلةً لحفظ مقامه وشخصّيته فلم تعد تلك الرواية التي تخرج من فمه نورًا، لقد تبدّلت ظلمةً، تغيّرت وانقلبت، لقد تغيّرت الصورة الملكوتيّة لهذا الكلام، ليست المشكلة من الإمام الصادق، لا مشكلة من الإمام، كلام الإمام وحيٌ، كلام الإمام نورٌ محضٌ، كلام الإمام حقيقةٌ مطلقة، إنّه مطلقٌ، إنّه الكلام الوحيد الذي هو حقيقةٌ مطلقةٌ والذي لا ينقص إلى يوم القيامة مقدار رأس إبرةٍ من علوّ شأنه وارتفاع مقامه وعظمة مفاهيمه. الإمام المعصوم عليه السلام وحده كلامه نورٌ محض، وحده هو الذي يجب أن نجعله لوحاتٍ وما دام هناك كلام للإمام السجاد فلا يصل الأمر إليّ، لقد قال فلانٌ هذا الكلام على المنبر. قاله فليكن! وفلان قال هنا هذا الكلام. أنا قلت هكذا كلامًا فهل يجب أن تعلّقوا كلامي في بيوتكم؟! كلاّ ولو فعلتم فأنتم مخطئون، إن كان هذا الكلام الذي تبحثون عنه موجودًا بين روايات أهل البيت عليهم السلام ولم نقله نحن، فسنكون قد ارتكبنا خيانةً في حقّ أهل البيت، لماذا؟ لأنّنا أتباع مدرسة أهل البيت، فأنتم لستم أتباعي أنا، إن كنتم أتباعي فأنتم مشركون، إن كنتم أنتم يا من يسمعون كلامي الآن وتفكّرون به تريدون أن تجعلوا كلامي لوحةً تعلّقونها في بيتكم أو مكتبكم أو محلّ عملكم ككلامٍ مهمّ، إن فعلتم ذلك فأنتم خائنون للأئمة عليهم السلام. لماذا؟ لأنّه إن كان في كلامي صدقٌ فهو منهم، فأنا مثلكم، وإن كنت مثلكم فليس الكلام كلامي فلماذا أفتخر به عليكم؟! لماذا أفتخر به أنا؟! أليس هذا نكرانًا للجميل؟! أليس هذا سرقة؟! 

التقوى والزهد

10
  • كيف يجب أن يكون الشيعيّ؟ على الشيعي أن يعلم أنّه تابعٌ لمن وفي أيّة مدرسةٍ يسير وأن يميّز الحقيقة من المجاز والاعتبار من الواقع، فأنا وأمثالي جميعنا اعتبار، جميع الناس في الدنيا اعتبار، كلّنا عابرون نأتي يومًا ونذهب في آخر، يحثون فوقنا التراب وينسونا، يأتون سبعة أيام ويقرأون فاتحتين ثمّ في أمان الله انتهى الأمر. الباقي والذي لا يختلف عنده أمر الحياة والموت هو الإمام الرضا، الإمام السجّاد، الإمام المجتبى، إمام الزمان، فهم موجودون ولا يختلف الحال عندهم بين الموت والحياة، نحن نأتي يومًا ونذهب آخر، ولو فعلنا إنجازًا كبيرًا فإنّنا نسمّي أنفسنا ولو ادّعاءً شيعةً ونجعل أنفسنا أتباعًا لهم، وهكذا لنأتي إلى المراتب الأدنى فإذا كان الإنسان منتسبًا لعظيمٍ من العظماء فليلتفت أنّ عليه أن لا ينسى أولياء نعمته، لا ينسى أين كان، ومن أين جاءت هذه الأفكار، وليتذكّر هذه الأمور عند وقوعه في التظاهر، والأعاظم الذين بذلوا الجهود وتحمّلوا المتاعب وفارقوا الدنيا، فلا ينسى الإنسان لا سمح الله هذه الأمور وإلا ابتلي بكفران النعمة كغيره بلا فرق.

  • يريد الإمام عليه السلام أن يقول: يا عنوان هذا الكلام الذي قلته لك إلى الآن رفع من فهمك وإدراكك قليلاً، أدركت قليلاً أنّ الدنيا والعالم بيد من هي، التفتّ أنّ ذلك المصير الذي هو للآخرين سيأتيك أنت أيضًا. وكما يقال إنّ لك يومًا أيضًا. لقد أدركنا جميعنا هذا وبما أنّنا أدركناه فهل نضع يدًا على أخرى ونقول حسنًا جيّدٌ جدًّا؟! كلاّ فهذا أوّل درجة التقى.

  • ما معنى التقوى؟

  • إن كان الرفقاء يذكرون فقد قلنا إنّ التقوى ذات مراتب. والمعروف بين العوام أنّ التقوى تساوي الزهد فالإنسان التقيّ هو الزاهد، وطبعًا يمكن أن يجد الإنسان بواسطة بعض الاستعارات أو بعض التعابير والتلميحات مصاديق من التقوى في الزاهد، هذا مع غضّ النظر عن أنّه من هو الزاهد؟ فهذا سيتّضح.

  • من هو الزاهد في مفهوم العوام؟

  • التقيّ هو الزاهد، فما معنى الزهد؟ يعني من لا تعلّق له بالدنيا، لا يبالي بالدنيا، ليس لديه ذلك الاهتمام الذي لدى الآخرين في أعمالهم وأمورهم اليوميّة في مسائل الدنيا، فلننظر هل هذا التعبير والاصطلاح الذي هو حول التقوى صحيحٌ أم يمكن أن يكون لها معنى ومفهومٌ أرفع؟ 

التقوى والزهد

11
  • ما ندركه نحن من ظواهر الناس وبعبارةٍ أخرى ما نكتفي به من المفهوم العاميّ هو هذا، كلّ من لا يبالي بأمور الدنيا أو يقلّل الاهتمام بها، ولباسه غير مرتّب وغير نظيف، يلبس ثوبًا لبسه منذ عشر سنوات أو خمسة عشرة سنة، ولو كانت متّسخة فلا بأس، وما يظهر من الأعلى أو من الأسفل لا بأس فهذه أمورٌ جزئيّة ـ فإن كان المنطق منطق العوام فهذا يعدّ من الزهد ـ فمن كانت ثيابه متّسخة وحذاؤه يسير قبله مترًا، وفي المأكل والمشرب يرغب بالأطعمة التي لا يُرغب بها كالخبز والجبن مثلاً، الخبز والبطاطس، أو الخبز والبصل وأمثال ذلك، ومن يكون منزله حقيرًا وبسيطًا فهذا من يُطلق عليه عند العوام إنّه زاهد، يقولون هذا زاهدٌ لا يبالي بأمور الدنيا، لا رغبة له بأمور الدنيا ولكن هل حقيقة الأمر هي كذلك؟ 

  • ربّما يكون هكذا إنسانٌ عاجزًا عن الوصول إلى ما هو أفضل من ذلك، ولو امتلك لاشترى، ولكنّه عاجز فلا يبالي ببعض الأمور لأنّه لا قدرة له عليها، لا يهتمّ بثوبه لأنّه لا يمتلك ثقافة النظافة.

  • هل الزهد هو عدم رعاية النظافة؟ 

  • فهناك الكثيرون هكذا وهذا أمرٌ يجب الاهتمام به، فكم أكّد الإسلام على النظافة؟ كم أكّد عليها؟ فلنفترض أنّا نعدّ النظافة أمرًا غير عباديّ فهل يعدّ زاهدًا من لم يغسل ثوبه عشرةأشهر وإن تأذّى الآخرون منه وانزعجوا؟! فالذين يشاركون في المجالس العامّة يجب أن ينظّفوا أنفسهم ويستعملوا العطر ويلبسوا ثوبًا مناسبًا، ولدينا في الرواية عن رسول الله أنّه قال أنّ من يتأذّى إخوانه المؤمنون برائحة ثيابه لعنته الملائكة. فأيّ مجيء إلى المسجد هذا الذي يسبّب أذيّة الآخرين؟ لو أراد هذا الإنسان أن يشارك في مجلسٍ آخر فهل يأتي بمثل هذه الثياب وهذه الحالة؟ لقد كان رسول الله نفسه ينفق ثلث نفقاته على العطر، فالثلث كثيرٌ جدًا، وهو رقمٌ كبير سواءٌ كان يمتلك أم لم يكن يمتلك، لقد كان ثلث مصارف النبيّ في العطور، عندما كان يمرّ في الأزقّة كان الناس يشمّون عطره على مسافة أمتارٍ ويقولون لقد مرّ النبي من هنا، هذا عطر النبيّ. ولم يكن هذا بسبب الجانب الملكوتيّ لنفس النبيّ، لقد كان ذلك أمرًا آخر. ولكن هذا العطر الظاهري.

التقوى والزهد

12
  • بأيٍّ من هذه الأمور نحن نهتمّ؟ والحال أنّنا نعدّ ذلك زهدًا، فالإنسان الذي لا يهتمّ بنفسه ويكون على أيّة حالةٍ ويتأذّى منه المؤمنون فهل هذا إنسانٌ زاهد؟ كلا، على الإنسان أن يستعمل العطر.

  • كيف وأين تستعمل المرأة العطر؟

  • طبعًا المرأة إذا خرجت من البيت فعليها أن لا تستعمل العطر، إذا كانت سيمرّ من قربها رجلٌ فإنّ في استعمال العطر إشكالاً. هي أيضًا عليها أن تستعمل في المجالس عطرًا وفي جميع المجالس، غاية الأمر ليس من الضروريّ أن يكون هناك رجلٌ حيث ستمرّ، فإذا جلست في السيّارة وكان فيها محرمٌ فلا إشكال، ولكن إن كانت تمرّ من مكانٍ فعليها أن لا تستعمل العطر، فإذا وصلت إلى المنزل فلا إشكال أن تستعمله هناك. 

  • الأسباب المختلفة للزهد الخاطئ

  • هذا ما نعدّه زهدًا مثلاً والحال أنّ الزهد ليس هكذا، يمكن أن يكون للإنسان ثقافةٌ خاطئة وأن تكون ثقافته باطلة أو أنّه لا يبالي بهذه الأمور أو أنّه لا يرغب بالأمور التي يرغب بها الآخرون بسبب عدم قدرته ولا زلت أذكر هذا الشعر من طفولتي وقد حفظته من عمر الست سنوات أو السبع سنوات عندما كنّا نذهب مع المرحوم العلامة إلى أماكن مختلفة بسيّارات الأجرة كان هذا الشعر يقال:

  • در جوانى باك بودن شيوه بيغمبرى است***ورنه هر گبرى به پيرى مى شود پرهيزكار
  • أن تكون نظيفًا في عمر الشباب هو سنّة النبيّ وإلا فحتّى المجوسي يصبح تقيًّا عند الهرم

  • بعضهم لا يمكنهم أن ينالوا هذه الأمور لأنّهم عاجزون، لا قدرة لديهم. لا أنّهم زاهدون. أين هو الزاهد؟ لو تيّسر له لما ترك حتى الألف، هو عاجزٌ عن الواحد فهذا ليس زهدًا، أو من إذا تناول طعامًا ثقيلاً آلمته معدته ليلاً فهو مجبورٌ أن يتناول الخبز والجبن، الخبز والبطاطس، أو الخبز والعدس فإنّه يقف هكذا وينظر متحسّرًا أنّهم يأكلون الأطعمة اللذيذة أمامه على المائدة. ثم يقول الناس: عجيبّ كم هو مخلص! يأكل الخبز والجبن والخضار، أنا بنفسي ألم أخبركم، ففي كثيرٍ من الأوقات لا أشتهي الطعام وحتى هذا يحدث لكم أيضًا فأرجّح الخبز والجبن والخضار على أيّ طعامٍ آخر، فهل صرت زاهدًا؟! كلا، بل لا أشتهي.

التقوى والزهد

13
  • من مصاديق الزهد الخاطئة في المجتمع وبين العوام نسبة هؤلاء الناس إلى الزهد والإعراض عن الدنيا بسبب عدم توفّر الأدوات والقوّة والقدرة، فحيث إنّ عقلنا فقط في عيوننا وآذاننا ولا ندرك بغيرهما شيئًا، فإذا نظرنا إلى إنسانٍ جالسٍ على المائدة يأكل من هذه الأمور دون غيرها نقول: هذا زاهدٌ ولا اطّلاع لنا على سبب ذلك، عندما نرى أنّ إنسانًا يلبس نوعًا ما من الثياب نقول: هذا زاهد يلبس ثيابًا بالية، هو في حالٍ لا يهتمّ فيها بنفسه نقول: هذا زاهد. لقد كان النبيّ كلّ يومٍ قبل أن يخرج من منزله يمشّط شعره ولحيته، وتروي عائشة أنّي ما رأيت النبيّ خرج من المنزل قبل أن يمشّط رأسه ولحيته، كانت تقول لم أره مرّة واحدة يخرج دون أن يفعل ذلك، فقادتنا هكذا. ثم بعد ذلك يخرج الإنسان على أيّة حالةٍ كان ليقول: هذا زهدٌ. 

  • كلا يا عزيزي هذا ليس زهدًا هذه فوضى وعدم ترتيب، إنّها لا مبالاة بالقيم والموازين الأخلاقية فمن يأتي بأيّ ثوبٍ وبأيّ جوارب وبأيّة حالةٍ ويسبّب أذيّة الآخرين هو إنسانٌ عديم الفهم وليس زاهدًا! عبثًا يأتي إلى المسجد ويؤذي الآخرين! هذا خلاف سنةّ النبيّ ويقوم بعملٍ محرّم إذ يأتي إلى المسجد والحسينيّة وأمثالها، كلا إنّه خطأ هذه ثقافةٌ خاطئة، هذه الثقافة هي ثقافة الأوباش وعديمي الثقافة وعديمي الاهتمام والقيم، فهذه مسألة.

  • التلذّذ بترك الطعام أكثر من الطعام

  • المسألة الأخرى ـ هي أدقّ مقدارًا ما فيما يرتبط بالزهد ـ وهي أنّ الإنسان إذا كان في حالةٍ ما تستلذّ بها النفس... فما هو الهدف من الوصول إلى لذّات الدنيا؟ هو أن يتلذّذ الإنسان، فالهدف من تناول الطعام المناسب والأطعمة اللذيذة هو ذلك الإحساس النفسيّ، الإحساس بالشهوة النفسيّة الحاصلة من تناول الأطعمة اللذيذة وليس هناك شيءٌ آخر. فلو فرضنا أنّ الإنسان تناول طعامًا ثمينًا قيمته عشرون ألفًا ولا يختلف طعمه عن الخبز والجبن فإنّه يقول: لماذا أشتري بعشرين ألفًا؟ أدفع مائتي تومان فأشتري قليلاً من الجبن والخبز والخضار. فما يسبّب طرح هذا الأمر هو ذلك الإحساس الشهوانيّ في الأكل. هكذا هو الأمر. أو من يلبس أفضل الثياب، ثيابًا ثمينةً جدًا تبلغ قيمتها مائتين أو ثلاثمائة ألف ثمّ يخرج، فلماذا يقوم بذلك؟ لكي يراه الناس، فلو فرضنا أنّه كان في الصحراء ولو خرج من دون ثياب فلن يراه أحد فإحساس اللذّة من هذا الثوب ـ وإنّما أقول لكم هذا الكلام حتّى نصل إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام حول هذا الأمر ويدرك الرفقاء ما هو مراده منه ـ فمن يخرج بهذه الثياب من المنزل حتّى إذا رآه أحدٌ قال: ما شاء الله يا له من ثوبٍ أنيقٍ يرتديه! وإذا رآه ذاك يقول: انظروا إلى هيئته! ويراه ثالث فيقول: كم هو جميل! فلو فرضنا أنّ إنسانًا خرج إلى الشارع فلم يجد أحدًا يقول: كم كنت أحمق! افترضوا أنّه يوم عطلة مثلاً فهل رأيتم أنّ إنسانًا يخرج يوم العطلة حيث لا يوجد أحدٌ في الشارع فيلبس أفخر ثيابه، إذا خرج فمن سيراه؟! هل تأتي الحمائم وتنظر إليه أم العصافير؟! كلاّ، فإذن هذه اللذة هي لذّةٌ نفسيّة، انظروا إليّ، انظروا أيّ لباس لديّ، يدخل إلى المجلس ويقول: انظروا إليّ وإلى هيأتي وشكلي. لقد صرنا الآن كلّما رأينا أحدًا في الشارع عرفنا لسان حاله وما يجري في باطنه وفي نفسه وفكره وقلبه.

التقوى والزهد

14
  • عندما كان المرحوم العلامة في العهد السابق يرى بعض الناس في سيّاراتهم الفخمة ـ فقد كانت سيّاراتٍ لا رزق الله أحدًا منها ـ كان يقول: إلى جهنّم وبئس المصير! فعندما كان ينظر إلى ذلك الجالس فيها وصورته البرزخيّة ـ فقد كان هو يرى ذلك دوننا ـ عندما كان يراهم جالسين بحالةٍ معيّنة ـ وأقصد في العهد السابق ـ إذا جلس نظر نظرةً إلى الخارج. فما هذا كلّه؟! ما شاء الله كم هو جميل! مكانٌ رفيع! مكانٌ جيّدٌ جدًّا! كان يقول: إلى جهنّم وبئس المصير، فكان بدن هؤلاء يرتجف. لا قدّر الله لنا حالاً كهذا وأمورًا كهذه، إنّها عجيبةٌ جدًّا أن كيف يأتي الشيطان {وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم}، زيّن أعمالنا وحركاتنا وسيّاراتنا وكيفيّة ركوبنا وكيفيّة نزولنا والاصطفاف لنا أن تفضّل.

  • فلو خرج الإنسان ورأى أنّه لا أحد ينظر إليه فإنّه يرجع ويبدّل ثيابه ويخرج بقميصٍ وبنطالٍ وبثوبٍ بسيط لا أهميّة له، أو أنّه مثلاً يشتري بستانًا معيّنًا لماذا كلّ ذلك؟ إنّ تلك الحالة الداخليّة وإرضاء النفس واللذّة التي يشعر بها الإنسان هي داعٍ وعلّة لهذه الأمور.

  • هذا الوضع يمكن أن يتغيّر، أي أن تكون النفس في حالةٍ لذّتها فيها أن لا يكون ثوبها جيّدًا فلو لبس ثوبًا جيّدًا تأذّى، عليكم أن تلتفتوا إلى هذا الكلام، لنعرف مقام هذا الكلام الذي قاله النبيّ للسيّدة الزهراء عليها السلام أن بدّلي هذه الستارة، وما أريد أن أقوله الآن أين مقامه، فالمقامات تختلف.

  • قد يكون الإنسان في حالةٍ يتأذّى معها من تناول الطعام اللذيذ. فقد يقع ذلك أحيانا. كيف؟ مثلاً أنت في جماعةٍ فتجد أنّ الجميع متشوّقون لنوعٍ معيّنٍ من الطعام، وأنت تريد أن تُعطي لنفسك موقعًا معيّنًا بين هذه الجماعة وتجعل لنفسك هالة تحيط بها نفسك وتجعلها محصورةً فيها، وحينها ينفصل الإنسان عن الجماعة، وينظر إليهم بنظرةٍ أخرى، فيرى نفسه أرفع منهم، لذا يتعيّب أن يكون مثلهم ويشاركهم، فيجلس ناحيةً على المائدة ويكتفي بالخبز والجبن يقول: كلا لا أشتهي، لا أحبّ هذه الأشياء. والحال أنّه لو لم يكن هؤلاء الناس لأكل السفرة من أوّلها إلى آخرها. لماذا يفعل ذلك؟ لأنّه أمامهم فإذن هذه لذّةٌ نفسيّة، إنّها لا تختلف، وهي أسوأ بألف مرّةٍ من اهتمام الإنسان بطعامٍ لذيذ، ذلك العمل له بعدٌ حيوانيّ وهو أدنى من مرتبة الإنسان، أمّا هذا العمل فله بعدٌ نفسيّ وهذه هي المصيبة، فعندما يكون جالسًا مع الآخرين ويرى أنّ الجميع ينظرون إليه وأنّه أخذ حبّةً من البطاطس وأكلها فقط فتلك اللذّة التي يلتذّ بها لا تصل إليها لذّة تناول ألف طاووسٍ ولحم طيرٍ مما يشتهوون.

التقوى والزهد

15
  • قصّة: مائدة وليّ الله حرام عليك

  • ما أقوله لكم ... كان هناك رجلٌ في زمان المرحوم العلامة وله حالةٌ خاصّة، وعندما ابتعد عن المرحوم العلامة وقع في أفكارٍ وانحرافات، منها أنّه وقع في شراك الشيطان وكان يرى الشيطان بصورة الإمام عليه السلام، كان يرى الشيطان فيتخيّل أنّه رأى الإمام عليه السلام، كان يسمع منه الكلام فيتخيّل أنّها أوامر جاءته من الإمام، وقد أخبرني بنفسه بهذا، ومن الأمور التي فعلها هو أنّه قال له: إذا جلست على مائدةٍ فلا تأكل منها، إنّها محرّمةٌ عليك، وطعامك طعامٌ خاصّ يجب أن يأتيك من أعلى عليين، وهذه الأطعمة حرامٌ. فكان يأتي إلى منزل المرحوم العلامة وكان من أقاربه النسبييّن المقرّبين، فكانت تُبسط مائدة وليّ الله في المنزل، ولكنّها محرّمةٌ عليه! فكم كان إنسانًا أحمق! كان يذهب إلى زاوية ويجلس، الجميع يأكلون وهو ينظر. وإذا نظرت إليه ترى أنّه في أيّ عالمٍ من الأنس واللذّة يغوص! وأنّه في هذه الحالة وهناك مائدة لأيّ عالمٍ ولأيّ إنسان! إنسانٍ له هذه الخصوصيّات وهذه المكانة! ورغم ذلك هو غير مجازٍ أن يتناول منها لا من مائدة الناس العاديين، فأولئك لهم شأنهم الخاص. فأن يأتي إلى منزل إنسانٍ كهذا وتكون مائدته محرّمةً عليه له لذّةٌ نفسيّة رفيعةٌ جدًّا لا يمكن الهبوط به منها، هل رأيتم الصواريخ كيف ترتفع بسرعة، لقد كان هو أيضًا يفوق هذه الصواريخ رفعةً، يجلس جانبًا ويأنس أنّه ينظر.

  • لعلّي ذكرت لكم ذلك، فقد رتّبنا أمره. وانتهى الأمر إلى أن ناداني المرحوم العلامة يومًا في إحدى الجلسات وقال لي: اذهب وادعه بشرط أنّه إذا جاء إلى هنا فعليه أن يأكل من الطعام والفاكهة الموجودة هنا. بكلّ صراحة لا معنى لهذه الألاعيب هنا، إمام زمانك شيطانٌ فافعل ما شئت في بيتك أمّا هذا المكان فله حسابٌ آخر. أيّ إمام زمانٍ يأمر أن تقوم بهذه الأخطاء والمزخرفات في حضور المؤمنين؟! أيّ إمام زمانٍ يقول هذا الطعام حرامٌ عليك ولكنّه حلالٌ لوليّ الله؟! هل هذه هي الآداب الإسلامية أنّه إذا أعدّ صاحب المنزل طعامًا وبذل فيه جهدًا جاء إنسانٌ وجلس هكذا ينظر في حين يأكل الآخرون؟! هل هذا صحيح؟! أيّ أدبٍ هذا؟! إنّه أدب الحيوانات لا أدب الإنسان، لا ثقافة إنسانٍ له شخصيّته وقد رزقه الله عقلاً ووجدانًا. فلو كان في بيتك مائدةٌ كهذه وجئت أنا وفعلت ذلك هل كنت تسرّ؟! إذا كانت زوجتك قد تعبت وشقيت في إعداد هذا الطعام حتّى إذا جاء الضيوف استفادوا من أتعابها ثمّ جاء إنسانٌ وجلس جانبًا وتناول الخبز والجبن فهل يرضى الله بذلك؟! هذه الأعمال خاطئة، على الإنسان أن يكون صاحب تعقّلٍ وأدبٍ وثقافة وإنسانيّة، يجب أن يحترم الآخرين، أن يقدّر أتعاب تلك الزوجة والخدم، فهم أصحاب نفوسٍ تعبت. ثمّ آتي أنا وأقول: هذا سيّئٌ لي لا آكل منه، كان عليك أن تقول من البداية أنا لا آكل هذا. فذهبت إليه وبعد مقدّمةٍ وكلامٍ قلت له: هناك رسالةٌ كهذه {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.۱ فإن شئت أن تأتي فعليك أن تكون هكذا. فرأيت أنّه غرق في التفكير واتّصل بسيّده إمام الزمان من الجنّ وتغيّر لونه ورفع رأسه فجأةً وقال: كلاّ لا يسمحون لي.

    1. سورة العنكبوت، الآية ۱۸.

التقوى والزهد

16
  • فقلت: عجيب أليس هناك استثناء أو ملاحظة تفضّل بها سماحته؟!

  • فارتبك ولم يتمكّن من المتابعة قال: كلا لا يمكنني. 

  • فقلت: ألا يمكنك أن تقول له أن يسمح لك هذه المرّة؟! فليقل ما شاء ولكن ليسمح في هذا المورد.

  • فأجبر نفسه على ضحكةٍ وقال: كلاّ لا يمكنني.

  • فقلت: فإذن نرجو أن لا تأتي. 

  • عرض خود مى برى وزحمت ما مى دارى

  • تعرّض نفسك للإهانة وتعرّضنا للمشكلات

  • انظر إلى أين يصل بالإنسان الابتعاد عن النبع، أوصله إلى مكانٍ جعله يدوس على مبادئ الإنسانيّة الأوليّة وبديهيّات العِشرة، والثقافة التي جاء بها النبيّ من أنّ الضّيف إذا جاء جاء بالخيرات والبركات وإذا خرج خرج بالسيّئات. هذا تبديلٌ للثقافة الإسلاميّة إلى ضدّها، ولكلام الإمام عليه السلام.

  • قصّة: شروط أمير المؤمنين الثلاثة لتلبية الدعوة 

  • دُعي أمير المؤمنين إلى أحد البيوت فقال: آتي بشرطين: أن لا تؤذوا أنفسكم وأن لا تأتوا بشيءٍ من الخارج والثالث ـ وهو مزاحٌ ـ لا تخبّئوا عنّا شيئًا، ائتوا بكلّ ما هو موجود. فقد مازحهم قليلاً لأنّ الإمام كان كثير المزاح وكان معروفًا بذلك، لا تخبّئوا عنّا شيئًا وائتونا بما هو موجودٌ في صندوق الدار. هذا هو سلوك أمير المؤمنين مع أصحابه وتعليمٌ لنا.

  • لذّات من نوع آخر!

  • هذا هو الأمر الذي تفوق شناعته وقبحه ألف مرّةٍ أن يكون الإنسان في تلك المرتبة السابقة، مرتبة الناس البسطاء والعوامّ الذين لا يلتفتون كثيرًا ولا يريدون أن يلتفتوا أيضًا، أمّا هذه المرتبة فهي مرتبةٌ تكون اللذّات فيها للنفس بشكلٍ آخر، فتلك اللذّة الحسيّة بالذوق وباللمس وبالشمّ وبالاستماع تتبدّل بالنسبة إليه إلى لذّةٍ برزخيّة، وإن كانت تلك اللذّة أيضًا ذات بُعد برزخيّ وليس لها بعدٌ ماديّ، ولكن في النهاية هي بواسطة، بواسطة الحاسّة التي يصل من خلالها الإنسان إلى تلك اللذّة البرزخيّة، أمّا هذه اللذّة فهي بلا واسطة، بلا واسطة، بل مباشرة من النفس في البرزخ، غاية الأمر أنّه برزخٌ ظلمانيٌّ لا نورانيّ، يُبتلى الإنسان هنا باللذة البرزخيّة، وبعدها من يمكنه أن يُخرجه؟! وحينها لو جئت له بأفضل الطعام لا ينظر إليه، يأنس أنّه جائع، يلتذّ ولكن إذا وُضعت ملعقتان من الطعام في فمه فكأنّما سقط عليه جبلٌ؛ لأنّه لم يعد جائعًا، هذه علامتها حسنًا أنت لست جائعًا ويصبّون الطعام في جوفك بالقوة، فبعض الناس لديهم أمراض في المعدة أو في المريء يسكبون لهم الطعام بواسطة الأنابيب فهذا أيضًا يسكبون له الطعام حتّى يشعر بالشبع فلم يعد هذا الإنسان جائعًا وهذا ما يقضي عليه. ولو ألبسوه لباسًا نظيفًا فلأنّه غيّر ثيابه وغيّر تلك الهيئة التي كان يُشار إليها بالبنان وغير الطبيعية والمتعارفة ولبس ثيابًا مألوفة فإنّه يُقضى عليه.

التقوى والزهد

17
  • قصّ لحيتك! وبدّل ثيابك!

  • كان المرحوم العلامة يرى بعض الناس فيقول له: اذهب وبدّل ثيابك. فكان يُدرك أين المشكلة، كان يرى أنّ بعضهم كان يطيل لحيته فيقول له: اذهب وقصّ نصفها فإطالة اللحية هذا له حسابه وليس لأجل الله. قال: اذهب وقصّها. كان يرى وضعهم بالنسبة إلى بعض الأمور، وكانت هناك أمورٌ كثيرة فيقول: اذهب وقم بهذا العمل. لماذا؟ لأنّ النفس خرجت عن حدّ اعتدالها، وتبدّل ذلك البعد الروحيّ والنورانيّ للأعمال إلى بعدٍ ظلمانيّ، وصار البعد الظلمانيّ بالنسبة إليه نورانيًا. يريد أن يبدّل ذلك ويعيده. فهذا الإنسان هذه الحالة مهمّة بالنسبة إليه. 

  • ماذا صنعت لك حتّى تتّهمني بهذه التهمة؟! 

  • كان هناك إنسانٌ في العهد السابق التقى به أحدالأصدقاء من أهل العلم في الشارع، فقال له: سمعت أنّك استلمت منصبًا ووظيفةً. 

  • وفجأةً تأذّى وقال: ماذا صنعت لك حتّى تتّهمني بهذه التهمة؟! أيّ إساءةٍ أسأت إليك؟! 

  • مضى شهر أو ثلاث فوصل هذا الإنسان نفسه الذي كان يرى تلك الوظيفة تهمةً وصل إلى تلك الوظيفة ولم يصل إليها فقط فقد كانت أمرًا عاديًّا ومستحسنًا لدى الجميع ولكنّ الكلام الذي كان يقوله في تلك الوظيفة لا يصدر من أيّ إنسانٍ فماذا حصل؟! لقد كان هذا تهمةً فماذا حصل حتى تغيّر الأمر مائة وثمانين درجة وتبدّل إلى عملٍ حسن بل ضروريّ بل وتقدّمت على الآخرين في كلامك واقتراحاتك والأمور التي تطرحها وصرت تقول ما لا يقوله الآخرون لماذا؟! لأنّه لم يكن قد وجد نفسه بعد فهذا الأمر الذي بيّنته هو لأجل هذا. كانت له حالةٌ يشعر فيها أنّه لو كان مثل الآخرين فإنّ نظرة الناس إليه ستكون بنحوٍ معيّن فكان يرى نفسه بعيدًا. ولكن عندما تتغيّر الأحوال وتأتي هكذا ظروفٌ ويصبح هذا الرجل في هكذا موقع تتغيّر حاله فيُعلم أنّ حالته السابقة كانت مجازًا لا حقيقةً، وكانت مؤقّتة لا واقعيّة وخياليّة لا حقيقيّة، كان يتخيّل أنّه لا يبالي بهذا المقام وهذه المكانة، كان يتخيّل أنّه لا يرغب بهذه الأمور التي يهتمّ بها الآخرون ويسعون إليها بشوقٍ وحرارة، وأنّه يميل إلى الأمور المخالفة لذلك، ولكن عندما عاش هذه الحالة تقدّم على الآخرين وسبقهم. اصبر إلى أين أنت ذاهب؟! انتظر رفاقك أيضًا أنت من قال قبل ثمانية أشهر هذا الكلام فماذا حصل؟! هل تغيّرت الموازين؟! نعم تغيّرت. لم تتغيّر السموات والأرض، بل ظهر ما كان خفيًّا، اتّضح أنّه لم يكن هناك حقيقة بل كان هناك خيال، كانت نفسه آنذاك على هذه الحالة بالنسبة إلى هذا الموضوع، لها حالة هجوم ونفور وإنكار، ولكن عندما تغيّرت الظروف ماذا تفعل النفس مع هذه الظروف الجديدة؟ إنّها تتآلف وهنا يرتبط الأمر بمدى قدرة نفسه على المناورة فنجد أنّه سبق الآخرين وتقدّم، وهو لا يزال يتقدّم بسرعة الصوت وبسرعة الضوء. فهذه مسألةٌ ذكرنا تلك المقدّمات للوصول إليها وقد انتهى الوقت.

التقوى والزهد

18
  • إن شاء الله ليفكّر الرفقاء بهذا الأمر وليراجعوا الكلام الذي طُرح، والمهمّ كما ذكرت أن نجد أنفسنا ونعرفها وننظر إليها. وإن شاء الله في الجلسة القادمة سأتكلّم بوضوح حول هذا الأمر وأنّه ما هي المعايير التي علينا أن نمسك بها لكي نقترب بأنفسنا؟ ربّما لا نصل إلى مستوى الحقيقة مائة في المائة، ولكن بالمقدار الذي يمكن. ولنغيّر من أفكارنا ونعلم واقع حالنا، هل هو واقعٌ نحن ارتضيناه لأنفسنا أم أنّ جريان الأحداث جرّته إلينا ولو تغيّر هذا الواقع فكيف ستكون أحوالنا وما هي ردود الفعل التي ستصدر عنّا في الأوضاع الجديدة؟ إن شاء الله هذه الموضوعات سنبيّنها في الجلسة القادمة بحول الله وقوته.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد 

  •