المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتقوى ومراتبها
التاريخ 1427/05/13
التوضيح
ما الغرض من التتلمذ لدى الأولياء؟ وهل يكفي تحصيل الحالات المعنويّة العابرة من مجالسهم؟ وهل يمكن الاستفادة منهم مع حفظ المكانة والمقام؟ وهل تجتمع الهمّة العالية والتسليم التام للأستاذ مع حفظ المكانة والمقام؟
ما هي أنواع اللذات النفسيّة والصور المختلفة لطلب الدنيا في الماضي والحاضر؟ وهل اختلفت لذّاتنا نحن عن لذّات من كان قبلنا؟
تعالج هذه المحاضرة هذه الموضوعات قبل الشروع في دراسة مفهوم التقوى، ضمن شرح فقرة فهذا أوّل درجة التقى واستشهاد الإمام بآية تلك الدار الآخرة في حديث عنوان البصريّ.
هو العليم
الهمّة وحفظ المكانة والمقام أمام الأستاذ
شرح حديث عنوان البصري - المحاضرة ۱٣٢
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
ما هي الصور المختلفة لطلب الدنيا في الماضي والحاضر؟
{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتّقين}.۱
بعد أن بيّن الإمام الصادق عليه السلام بعض الأمور حول كيفيّة السلوك، وكيفيّة تطبيق الأفعال والأعمال على القواعد التي توصل الإنسان إلى مرحلة التجرّد والقرب، والبرنامج الذي يوصل إلى مرتبة الفعليّة وظهور الاستعدادات يقول: فهذا أول درجة التقى، فهذه الأمور التي ذكرتها إلى الآن وأبلغتها إلى شيعتي هي أولى درجة التقى.
ثمّ يستشهد بهذه الآية التي تقول: إنّ هذه المنزلة والمرتبة التي هي الآخرة قد جعلناها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، لا يريدون العزّة والتفاخر وطلب الدنيا بكلّ أشكالها وأنواعها، المهمّ أن يكون فيها اسم الدنيا مع غضّ النظر عن صورة ذلك، سواءٌ كان بصورة جمع المال، أو جمع الأصدقاء، أو الوصول إلى الرئاسة أو إلى الحكومة، وسواءٌ كانت تلك الحكومة دينيّة أو غير دينيّة، أو كانت صورة ذلك هي الوصول إلى مطامع الدنيا ولذّاتها.
لقد سعى عمر وأبو بكر للوصول إلى الحكومة الدينيّة وليكونا خليفة النبيّ ويحملا اسم الخلافة، فأقاموا صلاة الجماعة والجمعة وتحدّثوا مع الناس فقد كان عمر يتحدّث مع الناس وكذلك أبو بكر وعثمان ويخطبون الخطب ، ويقيمون الجماعة، ويجبون الزكاة، ويرسلون السرايا إلى هنا وهناك، وهكذا كان معاوية وعبد الملك بن مروان وهارون الرشيد والمتوكّل، فهؤلاء الخلفاء جميعهم يصلون إلى مطامعهم الدنيويّة باسم الحكومة الدينيّة.
فالمتوكّل من جهة يقيم صلاة الجماعة والجمعة، ومن جهة أخرى يأمر بتدمير قبر الإمام الحسين عليه السلام وحرثه، وتسير أبقار الفلاحة فوقه. كان يقطع أيدي زوّار الإمام الحسين ورؤوسهم ويأخذ أموالهم. ومن جهة أخرى أيضًا كان يبني المساجد ويرسل المبلّغين إلى الأنحاء المختلفة، ويضرب النقود باسم خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، فالآن النقود موجودة في المتاحف بأسماء الخلفاء العباسيّين، فلدينا نقودٌ باسم المنصور والمأمون العباسي، وباسم المتوكّل، فهذه نقود بقيت من ذلك الزمان وكلّ منها يحكي تاريخًا أسود، تاريخًا اقتلع جذور رسول الله باسم رسول الله، وقطّع ابنة رسول باسم خلافة رسول الله! ألم يفعلوا ذلك؟! فهذه الأيام هي الأيام الفاطميّة. لقد كانوا يفعلون ذلك باسم خلافة النبيّ. فانظروا إلى أين يصل الشيطان، إنّه يأتي وباسم خلافة النبيّ وتحت عنوان اتّباع سنّة النبيّ وطاعة أوامره، وتحت عنوان الإسلام والطاعة والاتّباع والمحافظة على سنّة الله ورسوله، يقتلون ابنة النبيّ نفسه، فهل هناك أرفع من ذلك؟ ماذا بعد ذلك؟ دعك عن أنّه يؤخذ ماله ويغصب ويغلق داره، وكلّ من كان على علاقة به يصبح على اللائحة السوداء ويتعرّض لمختلف أنواع التضييق، ويُحرم من نصيبه من بيت المال، ويهدّد، ولا يُسلّم عليه، ويحاصر اجتماعيًا، فهذه أمورٌ بديهيّةٌ، كانت ولا تزال وستبقى. والأرفع من ذلك هو أن يأتي باسم طاعة أوامر الله فيقتل ابنة النبيّ، إنّه القتل في النهاية، الأمر الذي ينكره بعض علمائنا! الحمد للّه أهل السنّة ذكروه في كتبهم ونحن نقول: لا، أفيعقل أن يحدث ذلك؟! أيتجرّأ خليفة المسلمين على ابنة النبيّ؟! أيعقل؟! هل يحدث ذلك؟!
هل تختلف نفوسنا ولذّاتنا عمّن كان قبلنا؟
ما أقوله لكم أمورٌ تنفعنا، لا تتصوّروا أنّها أمورٌ وقعت قبل ألفٍ وأربعمائة سنة، تلك الوساوس التي كانت في السنوات الأولى لا تزال بعينها الآن، وتلك اللذات التي كانت، هي موجودةٌ الآن، وأنواع التفكير التي كانت، هي موجودةٌ الآن، فلنجعل أنفسنا الآن بدلاً من أصحاب رسول الله، ولنتصور أنّ النبيّ قد جاء في مرضه وتكلّم مع الناس، وغدًا سيرحل عن الدنيا وتقع تلك الأحداث، ولنجعل أنفسنا في مثل هذه الحالة، ثمّ لننظر ماذا نقرّر حينها، إنّ أدمغتنا وكرياتنا كأدمغتهم وكرياتهم، وطولنا كطولهم لا نختلف عنهم، فقط ألقى الزمان بيننا وبينهم ألفًا وأربعمائة سنة لا أكثر، وإلا فنحن لا نختلف عنهم.
أليست الملذّات التي كان يشعر بها الناس آنذاك، سواءٌ اللذات الماديّة أو المعنويّة هي بعينها موجودةٌ؟ ما هي اللذة الموجودة بيننا الآن مادية أو معنوية ولم تكن في ذلك الزمان؟ سواءٌ الملذّات الروحيّة والنفسيّة، أو الجسميّة والماديّة؟
ما حقيقة اللذّة؟
وطبعًا اللذّة ليست ماديّة، جميع اللذات نفسيّة ومعنويّة، غاية الأمر أنّ لبعضها صورًا مثاليّة ولبعضها الآخر صورًا مجرّدة؛ لأنّ أمر اللذة يرجع إلى النفس، والنفس موجودٌ مجرد، نعم، الآلات والوسائل للملذّات مختلفة، فتارةً تكون تلك الوسيلة روحيّة، وأخرى تكون ماديّة وجسميّة وفيزيولوجيّة، فالطعام الذي يأكله الإنسان يلتّذ به، هذا الغذاء إمّا ماديٌ من هذا الأرز والخضار والجبن التي يأكلها الإنسان، غير أنّ تلك اللذة التي يشعر بها، لا يشعر بها اللسان ولا المعدة ولا الدماغ، هذه اللذة التي تحصل أثناء الطعام تشعر بها النفس، وحيث إنّ تلك النفس مجرّدة فلا بدّ أن تكون آثارها وحالاتها وخصوصيّاتها مماثلة لها في التجرّد، وهذه المماثلة في التجرّد تقتضي أن تكون اللذّة أيضًا مجرّدة.
وبعض هذه اللذات لذاتٌ معنويّة وليس لها بعد ماديّ، فعندما تقرأ القرآن تحصل لديك لذّةٌ، وإذا قرأت رواية عن الإمام الصادق عليه السلام تحصل لديك بهجةٌ، وعندما تقرأ حكاية تاريخيّة مفيدة تحصل لذّة، نصلّي فتحصل لذّةٌ، نحجّ فتحصل لذّةٌ، نشارك في مجلسٍ للذكر والتوسّل، وفي مجلسٍ للوعظ والأخلاق فتحصل لذّة، هذه اللذات ليست لها وسيلة فيزيولوجيّة، بل إنّ مجرّد الارتباط يسبّب اللذّات النفسيّة حسب مراتب الإنسان في القرب، وأحيانًا لا يحتاج الإنسان إلى الصلاة وقراءة القرآن والقيام بأمرٍ ظاهريّ لتحصل هذه اللذة، بل الارتباط والتعلّق الذي يقوم به ضمير الإنسان بالمبدأ والذي يسبّب جذب النفحات الجماليّة أو الجلاليّة من عند الله فتحصل للإنسان لذّةٌ في الجمال ولذّةٌ بعد الجلال، فهذه اللذات لا تحتاج إلى شيء، فإذن اللذات دائمًا ذات بعد نفسي وليس لها بعدٌ ظاهري.
أيّ الناس لا يحبّ الرئاسة؟
تلك اللذّات التي كانت للناس آنذاك بعينها موجودةٌ عندنا، أيّنا نحن الحاضرون هنا لا يحبّ الرئاسة؟ ـ أنا أتحدّث عن نفسي ولا سمح الله أن أتجرّأ على الإخوان ـ كلا، فالأمر عامٌّ، ولا يظنّ الإنسان أنّ المسألة ترتبط به شخصيًّا، بصورةٍ عامة، البحث هو بحثٌ كليّ، وطبعًا ليس بمقدرونا أن نخرج الأمر من أنفسنا، مزاحًا أو جدًّا، قلّ أو كثر، ومن الجيّد أن ينسب الإنسان الأمور إلى نفسه أوّلاً...
كيف كانت طريقة المرحوم العلاّمة في الاستفادة من كلام السيّد الحدّاد؟
وكما يقول المرحوم العلاّمة ـ التفتوا جيّدًا إلى هذه النقاط ـ كان يقول: عندما كنت عند السيّد الحدّاد لم أكن أنظر أنّ هذا الكلام الذي يقوله لمن يقوله؟ بل في الوهلة الأولى كنت أنسب هذا الكلام إلى نفسي، فلماذا أجعله متوجّهًا إلى غيري؟! لماذا؟ إنّه يقول هذا الكلام لي، فعلينا إذن أن نطبّقه على أنفسنا، لماذا نقول إنّه على غيرنا كتب؟! لماذا نقول إنّ ساحتنا مبرّأة من هذا الأمر؟! لماذا؟! لماذا لا نكون مهتمّين بمعالجة آلامنا ومشاكلنا؟! فهذا أكبر المشكلات، أليس لدينا مشكلات؟! ما دام لدينا هذه المشكلة فلماذا يأتي الشيطان دائمًا وينحّي هذا الكلام جانبًا؟ فما هذه المشكلة؟ لماذا يجب أن نكون هكذا؟ كان يقول: إنّ هدفي كان أن أجعل أيّ كلام متوجّهًا إليّ ولو لم يكن متوجّهًا إليّ، كنت أقول: إنّه يريدني أنا من هذا الكلام، فعليّ أن أصحّح. وفجأة كنت أجد موضعًا، نعم! يمكن أن يكون كلامه ناظرًا إلى تلك النقطة الدقيقة الدقيقة التي لا تخطر في ذهن أحد، يمكن أن لا تخطر في ذهن أحد، يمكن أن يكون الإنسان ظاهريًّا جدًّا.
كيف كان المرحوم العلاّمة يؤدّب تلامذته؟
لقد تذكّرت الآن هذا الأمر ـ رغم أنّ لديّ كلام حوله وسأذكره أثناء المحاضرة إذا وفّقت اليوم أن أنتهي بالكلام إلى موضع ما ـ فقد كان المرحوم العلاّمة أثناء حياته يضطرّ إلى تأديب بعض الناس، وكانت تلك التأديبات مختلفة بما يناسب ذلك المورد وخصوصيّاته، وذلك الإنسان وعمله ووضعه، فمثلاً لم يكن يلتقي ببعضهم إلى سنة، وكان يقول لبعضهم: لا تشارك في الجلسات أربعين يومًا، في تلك الجلسات الخاصّة التي كانت له آنذاك. حتّى إنّه كان يقول لبعضهم: لا تتكلّموا مع فلان مدّة معيّنة، وكان يقول للبعض: قم بهذا العمل حول هذا الموضوع. طبعًا هناك أمور مختلفة لا ضرورة لبيانها، ولكن حيث كان لديّ اطّلاع ما على بعض الأمور آنذاك كنت أعرف كيفيّة اختلاف التأديب بين إنسان وآخر، وهذا لا يتأتى إلاَ من ذلك الولي للّه، لا يمكن لأيّ إنسانٍ أن يقوم بما يخطر في باله، كلا فالاطّلاع على تلك النفس وخصوصيّاتها ووضعها حين قامت بهذا العمل وكرّرته، وعلى مستوى تحمّله وتقبّله وكم لديه من القدرة على تقبّل الأمر، كلّ ذلك معايير يلاحظها ذلك الوليّ ويقوم بالتأديب بنحوٍ ما على أساسها.
كيف تلتذّ النفس باطلاً ببعض القدرات الخارقة؟
لقد لفت نظر أحدهم مرّاتٍ عدّة، وكان ذلك الرجل يذكر أمورًا لا صلاح فيها، لنفترض أنّ بعضها كان صحيحًا، بعضها لا كلّها، ولكن كما يقال: إنّ الكذب حرام، ولكن ليس كلّ صدقٍ يجب أن يقال، فلربّما كان ذكر الإنسان لبعض الأمور الصحيحة سببًا للفتنة، فلا ينبغي للإنسان أن يقول كلّ ما يتّضح لديه، عليه أن لا يقول للآخرين كلّ سرٍ ينكشف له، فمثلاً لو اتّضح لأحدٍ أنّ فلانًا ارتكب معصيةً بالأمس، لقد اتّضح هذا الأمر لك أنت فلماذا تقوله للآخرين؟
فمن الاعتراضات التي تعترضها مدرسة العرفان ومدرسة المرحوم العلامة، ومدرسة الملا حسين قلي الهمداني والعلاّمة الطباطبائي على غير أهل المعرفة من سائر المدارس هو أنّ هؤلاء إذا اتّضح لهم أمرٌ كانوا يطرحونه ويفشونه ولو كان عيبًا من عيوب الآخرين، فلو كان عدد من الناس جالسين في جلسةٍ فجأةً يقول أحدهم: من جلس هنا بغير طهارة فليقم ويتوضّأ، فيقوم إنسانٌ معيّن ويتوضّأ. افترض أنّه لم يتمكّن من الوضوء، لم يتمكّن من الطهارة، أو لو كان هناك إنسان محدثٌ على جنابةٍ فتأتي أنت وتمسك بهذا المسكين الذي لم يتمكّن من الطهارة لسببٍ من الأسباب فتفضحه لتطهّر مجلسك وتجعله أكثر رونقًا، تقوم بإراقة ماء وجه مؤمن، فهل قال الإمام الحسين ذلك؟ وكان أحد هؤلاء الملا آغا جاني والذي ذُكر اسمه في بعض الكتب، لم يكن من أهل العرفان، نعم كانت له حالات واطّلاع على بعض الأمور الغيبيّة، كان له اطّلاع على بعض الأمور والأسرار.
ما أريد أن أقوله هو أنّه أحيانًا يتوقّف الإنسان عند بعض مراتب النفس، رغم أنّ هناك ما هو أعلى بكثيرٍ كثيرٍ كثيرٍ ممّا كتب في هذه الكتب، أعلى بكثير، فلقد رأيت بعينيّ أمورًا خارقة من أناسٍ أرفع بأضعافٍ مضاعفة من أمثال هؤلاء الذين ذُكرت أسماؤهم في هذه الكتب، وأفكارًا خارقة وإدراكًا للمعاني الخارقة والحال أنّهم غارقون في مستنقع النفس، وألقت بهم هذه النفس في الأرض فجعلتهم يقفون في مواجهة أستاذهم، فهذا ليس شيئًا مهمًّا، فقد يطّلع على إنسانٍ وعلى آخر أيضًا وهذا ليس مهارةً، لديه خبرٌ عن أمرٍ ما، قرأ دعاء توسّلٍ وقضى حاجةً، فهذه الأمور ليست مهارةً وليست بشيء، المهارة هي التربية الإسلاميّة، المهارة هي أنّ يتصلّ قلبك وضميرك ونفسك بذلك النبع الذي لو كان موجودًا هنا هل كان سيفعل هذا أم لا؟ هذه هي البراعة، ولكن أين نجدها؟
أيّهما أهمّ كرامة المؤمن أم المحافظة على طهارة المجلس؟
هذا الرجل وفي مجلس عزاء ومن على المنبر، أمام أربعة آلاف من الناس يقول: في هذا المجلس جنبٌ ويجب أن يخرج من مجلس سيّد الشهداء لكي نبدأ بقراءته. ماذا حصل هل هذا صحيح؟! هل هذا عملٌ إنسانيّ؟! لنغضّ النظر عن كونه إسلاميًّا، ما معناه؟ ما هذه الأعمال؟ لو كان الإمام الحسين هنا بدلاً منك فهل يفعل ذلك؟! ولو أنّه لم يصغِ إلى كلامه فإنّه لا يتركه، إنّه مصرّ لا يقول: بما أنّه لم يقم لنبدأ بالمجلس كلا، بل يقول: لماذا لا أراه قد خرج، هل أقول أين جلس؟! كلا لا يترك الأمر يقول ويقول حتى يطئطئ ذلك المسكين رأسه ويخرج لكي يكون مجلس عزائه على طهارةٍ ومجلسًا فيه توسّلٌ وتحضر فيه فاطمة الزهراء، أليس كذلك؟! فهل هذه المدرسة هي مدرسة الإمام الحسين أم المدرسة المضادّة للإمام الحسين؟ فلو كان الإمام الحسين في هذا المجلس هل كان يفضح هذا المؤمن؟! إن لم يحصل أن يكون المجلس طاهرًا فليكن!
قصّة الطالب الجنب وسلامه على أمير المؤمنين باستحياء
كان أحد طلاب النجف كلّما أراد أن يذهب إلى درسه جاء إلى الصحن ووقف أمام حرم أمير المؤمنين ويقول السلام عليك يا أمير المؤمنين ثم يمضي إلى درسه، وذات يومٍ، خرج فرأى أنّه محتلم وقد تأخّر عن درسه ولا يمكنه أن يذهب ـ وهذه قصّة واقعيّة ـ فمن جهةٍ رأى أنّ درسه قد تأخّر فقال: في النهاية سندبّر أمر الدرس ولكنّ السلام على أمير المؤمنين لا يمكن بهذه الحالة، فجاء إلى الدرس وما إن أراد أن يذهب شعر في قلبه نداءً يقول: ألا يمكن السلام بهذه الحالة؟! ألا يقبل الإمام هكذا؟! بدأ بهذا النوع من الكلام في قلبه: فمن جهة أنا لست طاهرًا، ومن جهةٍ أخرى عليّ أن أقوم بهذا العمل. وفي النهاية جاء على استحياءٍ ولم يدخل إلى الصحن وألقى السلام بسرعة على حياءٍ ومضى، وعند عودته من الدرس كانت عادته أيضًا أن يأتي ويسلّم قبل أن يذهب إلى منزله وغرفته، ولكنّه هذه المرّة لم يأت ليسلّم بسبب الخجل، فرأى أمير المؤمنين في المنام يقول له: لماذا لم تأت حين عودتك؟ ثمّ قال له: هذا السلام الذي ألقيته اليوم أرجح من كافة السلامات التي ألقيتها إلى الآن، فانظروا ما حقيقة الأمر؟
هذه المدرسة هي مدرسة الولاية، لماذا؟ لأنّك ألقيت هذا السلام على استحياءٍ ولم تأت نافخًا صدرك أني على وضوء وعلى طهارة فلديّ القابليّة لأن أقف أمام أمير المؤمنين وأسلّم، لقد سلّمت هذا السلام خجلاً، لقد سلّمت بحالة فقر، لقد سلّمت بحالة ضعف سلّمت بحالة انكسار وهذا له قيمةٌ عندنا وإلا فنحن لا ننظر إلى الجنابة والطهارة أيّها المسكين! ألم يكن حنظلةُ غسيلَ الملائكة؟ ـ طبعًا هذا لم يقله له أمير المؤمنين ونحن قلناه ـ رأى أنّه محتلم والنبيّ قد مضى إلى معركة أحد وإذا أراد أن يغتسل سيتأخّر، فمشى وهو جنب واستشهد فقال النبيّ: رأيت الملائكة قد غسّلته. النيّة هنا هي المهمّة للإنسان، وهنا الكثير من المسائل، لقد بسطت الأمر قليلاً في هذا الموضوع وأنّه كيف يجب أن ننظر إلى أنفسنا وكيف يجب أن ننظر إلى الحقائق، إنّهم لا يحتاجون إلى صلاتنا أيّها العزيز، ولا إلى صيامنا، إنّهم يريدون منّا المسكنة والفقر والحاجة والانكسار والحياء.
أفهل هذه المدرسة التي تقول إنّ علينا أن نريق ماء وجه المؤمن هي مدرسة الإمام الحسين؟! هذا المجلس مجلس طهارة، هذا المجلس مجلس توسّل، مجلس ولاية، يجب أن يكون المشاركون في هذا المجلس على طهارة، يجب أن يكونوا قد صلّوا صلاة الليل، كلّ من لم يصلّ صلاة الليل فلا يأت إلى هنا! ألم يكن هذا الكلام؟! يجب أن يأتي إلى جلستنا الأخلاقيّة من صلّى صلاة الليل! فمن يتكلّم بهذا الكلام يعرف في نهاية عمره ماذا يحصل! في مجلسنا الأخلاقي يجب أن يكون الحاضرون قد قرأوا جزءًا من القرآن، وأن تكون قراءة دعاء التوسل بهذه الكيفيّة، كلّ هذا فخٌّ. يحصل على حالٍ جيدة، يبكي أيضًا، تصل آهاته إلى السقف ولكن كلّ ذلك فخّ، فخٌّ، فخٌّ للشيطان وهذه النفس تنتفخ وتنتفخ وتصبح بمقدار... !
لقد كانوا سابقًا ولا أدري ما إن كانوا يفعلون ذلك الآن، ينفخون بالونًا بشكل فيل، هل رأيتم ذلك؟ لقد كانوا في الزمان السابق زمان الشاه يفعلون ذلك في مناسباتٍ مختلفةٍ، فكنّا نذهب أحيانًا إلى مسجد القائم مع المرحوم العلامة ـ فأنا عجوزٌ في النهاية ـ أذكر أنّهم في النصف من شعبان أو في المناسبات المرتبطة بالشاه كانوا ينفخون بالونًا على شكل فيل ويرفعونه في الهواء عند منطقة "دروازه دولت" وكان عجيبًا جدًّا، فيلٌ يفوق الفيلة الحقيقيّة بخمسة أو ستّة أضعاف، ولكنّه هواء ومادّة بلاستيكيّة، ينفخون المادّة البلاستيكيّة فتكبر وتكبر، فهذه الصلوات ودروس الأخلاق هي عبارة عن ذلك الهواء الذي يُنفخ في الفيل ويُنفخ ويُنفخ حتى يظنّ الفيل( هذا البالون) أيضًا أنّه فيل حقيقيّ، يظنّ أنّ له روحًا.
رحم الله مولانا إن كان هناك من تكلّم فهم هؤلاء، هؤلاء أمثال حافظ ومولانا وأمثال العرفاء كمحي الدين والسيد القاضي هؤلاء، هؤلاء الأعاظم سواءٌ من فقهاء التشيع والعرفان وعلمائه، أو من غير العلماء، إن كان هناك كلامٌ حقّ فهو في كتب هؤلاء وليس خارجًا عنه.
ما همه شيران ولى شير علم | *** | حمله مان از باد باشد دم به دم |
حمله مان از باد وناپيداست باد | *** | جان فداى آنكه ناپيداست باد۱ |
والمعنى: نحن أسودٌ لكنّا أسود الأعلام | *** | هجماتنا من الريح لحظةً بلحظة |
هجماتنا من الريح والريح غير مرئي | *** | أرواحنا الفداء لمن هو غير مرئي |
فهذه الفيلة تُنفخ فينظر الإنسان فيرى عجبًا، إنّها ترتفع ويا لها من حركة! يأتي الهواء ويحرّكها بهذا الاتّجاه وذاك، فتتحرك أذنابها وخراطيمها، ولكن في الحقيقة كلّ ذلك هواءٌ، كلّ ذلك تلذّذٌ نفسيّ، وتلك التلذّذات أيضًا هي كذلك.
في مدرسة العرفان يقولون: حتى وإن جاء جنبٌ إلى المجلس فإنّ احترام المؤمن أهمّ بألف مرّة من توسّلك، يجب أن تطرح الأمر بطريقةٍ يبقى فيها محترمًا، وأن تُحفظ كرامته وحضوره وشأنه وعزّته.
قصّة أستاذ الإنسانيّة
ينقل المرحوم العلامة عن أحد الأعاظم ـ ونسيت من هو عليّ أن أراجع فقد تذكّرت الأمر الآن... ينقل عنه حكايةً... هو المرحوم الكرمانشاهى إن كان أحد من الرفقاء يعلم فليخبرني لاحقًا ـ كان فرهاد ميرزا من الأمراء القاجاريين ولكنّه لم يكن من الأمراء المدلّلين، بل كان من الأمراء الذين يهدفون إلى طلب العلم والدراسة، وكان رجلاً عالمًا وله كتبٌ عديدة، له في علم الهيئة والرياضيّات كتابٌ، وله كشكولٌ وفيه موضوعات جيّدة، من يطالع كشكوله يدرك أنّه إنسانٌ ناضج، وأنّه قضى عمره تحت أيدي أساتذته، سئل عن أساتذته من كانوا؟ فتحدّث عن كلّ واحد منهم، فقال: في علم الهيئة كان فلان، وفي كذا فلان، وفي الفقه فلان. قالوا له: هل لك أستاذ آخر؟ قال: عندي أستاذ في الإنسانيّة، الأستاذ الذي جعل منّي إنسانًا ـ وطبعًا بحدود ـ فقالوا من؟ قال: فلان ـ وذكر اسمًا نسيته أنا بالطبع ـ فقالوا: كيف؟ قال: كنّا في مجلس في كرمانشاه وفي ذلك المجلس دعانا أحد أعيان كرمانشاه إلى مجلسه فذهبنا، وما إن بدأت بتناول الطعام رأيت فضلة فأرٍ فيه فقلت لذلك الرجل: لا يأكلنّ أحدٌ من هذا الطعام، لا يأكلنّ أحدٌ من هذا الطعام إنّه نجس، فقد رأيت فيه فضلة فأر.
هل كانت وظيفتك الشرعيّة ذلك؟ رأيت هذه الفضلة فلا تأكل، ما شأنك بالآخرين؟ ليست وظيفتك أن تخبرهم وتنهاهم عن الطعام، وإضافةً إلى ذلك فقد أرقت ماء وجه مؤمنٍ بذل كلّ هذه الجهود والمتاعب وعملت زوجته وأبناؤه في إعداد هذا الطعام فهل هذا الموقف منك بديلٌ عن كلمة الشكر؟ أرقت ماء وجهه في ماذا؟ في أمرٍ خارجٍ عن اختياره وقعت بعرةٌ في هذا الطعام، فهل قام الطبّاخ بفحص حبّات الأرز كلّها تحت الميكروسكوب وألقاها في القدر؟ ما يدريه؟
كان ذلك العظيم وأحد أولياء الله جالسًا قربي، فنظر إلى الناس وقال: كلوا أيّها الناس هذا الطعام طاهرٌ ولا مشكلة فيه، وهذه البعرة سقطت من لحية هذا الرجل، انظروا ووضع يده في لحيته وأخرج منها قبضةً من البعر وقال: انظروا إليها وليس فقط قبضة بل أكثر والجميع رأوا وهو أيضًا رأى أنّ كلامه حقّ، ثمّ نظر إليه ذلك الولي وقال: كُل هنيئًا مريئًا ولا تتكلّم، قال: بعمله هذا جعلني إنسانًا.
كم وردنا حول احترام المؤمن؟ كم ورد؟ فأين ذهبت هذه الأوامر؟ ثمّ نحن نأتي وندوس على أكثر مبادئ الإسلام بديهيّة وإنسانيّة بواسطة هذه الأمور الخارقة للعادة فهل هذا صحيح؟! كم وردنا حول عرض المؤمن، وماء وجهه؟ فبمجرّد أن نشعر أنّ لدينا حالةً معنويّةً وتوجّهًا، وأنّ الناس يجتمعون ويسلّمون ويرفعون الصلوات ويثنون على الخطب والأمور، نقوم بذلك؟ هذه الأشياء تصبح حجابًا وتسيطر علينا بصورة الاهتمام بالمعنويّات غافلين عن أنّ هذه المعنويّة ليست معنويّة، هي لذّةٌ نفسيّة ظهرت هكذا وتجلّت، فتارةً تكون اللذّة بهذا الطعام والنوم والسفر والتنزّه والتفنّن والسباحة وتسلّق الجبال، وتارةً تكون هكذا، فهي أيضًا لذّةٌ نفسيّة غاية الأمر أنّها ظهرت بهذا الشكل، نهتمّ بهذه الأمور ولا نبالي بغيرها وهنا تحدث المخاطر.
صفات الذين تجعل لهم الدار الآخرة
فهؤلاء الذين كانوا في ذلك الزمان، في زمان رسول الله كانت لديهم نفس اللذّات التي لدينا، كانوا يشعرون بما نشعر به الآن بلا أيّ فارق، فإذن علينا أن نجعل أنفسنا مكانهم، علينا أن نجعل أنفسنا مكانهم! يقول الإمام الصادق عليه السلام: تلك الدار الآخرة هي للذين لا يريدون أن يقضوا الدنيا هكذا، كانوا ملتفتين ولم يتشتّت انتباههم هنا وهناك، ولذلك لم يشرّقوا ويغرّبوا في علاقاتهم، جعلوا الموازين والمعايير نصب أعينهم، ولم ينسوا الاهتمام بالأمر، لم يكونوا في البداية متحمّسين ثمّ شيئًا فشيئًا تقدّموا وبدأوا بالبرود ثمّ باللامبالاة، بل حافظوا على تلك الحرارة في أنفسهم.
هل تكفي الحالات المعنويّة؟
ذكرت في الجلسة السابقة للرفقاء أنّ للناس مراتب مختلفة، فبعضهم يريد فقط أن يحصل على حالاتٍ معنويّة، وهم الآن أيضًا موجودون، وأنا بنفسي رأيتهم أيّام طفولتي وأيّام المرحوم العلامة، فقد كان يأتيه أناسٌ فقط ينظرون إليه ويأنسون، يشاركون في مجلسٍ وتحصل لديهم حالةٌ ما ولذّةٌ فقط ولم يكن الأمر ينفذ فيهم أكثر من ذلك فيحوّلهم ويغيّر أفكارهم، كانوا مستأنسين بأنّهم في خدمة هذا العظيم فحسب، ثمّ يفعلون ما يحلو لهم، إنّه يهتمّ بنا فلنخطئ ما نشاء، إنّه يساندنا فلنفعل ما نريد، وكان المرحوم العلامة يخبرني عن كلّ واحدٍ منهم ويقول: لا تُخدع بهم. كان يقول لي بصراحة: لا تُخدع بهؤلاء. مشيرًا إلى الذين يشاركون في مجلسه، قال: التفت إلى نفسك، ما تراه أنت صوابًا فاعمل به، لا تُحرق قلبك على الآخرين عبثًا ـ عبثًا يعني في غير موضعه ـ التفت إلى نفسك، خذ بما يُقال واعمل به ولكلّ إنسانٍ سجلّه، ولكلٍّ أعماله وحسابه الخاصّ.
ما الغرض من التتلمذ لدى الأولياء وهل يمكن مع حفظ المكانة والمقام؟
ففي ذلك الزمان أيضًا كان هؤلاء، وكان المرحوم العلامة يؤدّب إنسانًا ما ـ فقد كنّا نتحدّث عن هذا الأمر في النهاية ـ كان يؤدّبه آنذاك فيقول: هذا العمل الذي قمت به أنا قام به غيري أيضًا فلماذا لا تؤدّبه؟ وقد رأينا من هذه الأمور كرّاتٍ ومرّات. ما علاقتك أنت؟ ألا تريد أن تعالج مشكلاتك؟ لنفترض أنّه أصلاً لا يريد أن يُعالج الآخرين فما شأنك أنت فهل أنت وكيل الآخرين وقيّمهم؟ أم أنّك لم تأت لأجل المعالجة، لم تأت لعلاج مشكلاتك؟ جئت لتحافظ على شخصيّتك وشؤونك وتشارك في هذه المجالس محافظًا على شخصيّتك، لك علاقاتٌ مع الرفقاء، وأنت في هذه المجموعة تقوم بهذه الأعمال مع المحافظة على شخصيّتك.
أرأيتم أنّهم عندما يعطون مسؤوليةً لإنسانٍ ما فيقولون مع حفظ الألقاب، إنّها في النهاية مسؤوليّة وهذا أيضًا يفعل الأمر نفسه فيقول: نحن إذ أتينا إلى المرحوم العلامة فقد أتينا مع حفظ الألقاب، ألقابنا، أحوالنا، لا أحد يمدّ يده إلى تركيبتنا، لا أحد يهيننا، لا أحد يشكّك في شخصيّتنا، لا أحد يتعدّى على شؤوننا.
جاءني أحدهم وكان رجلاً فاضلاً مجتهدًا درس الكثير، خطيبًا من أهل المنبر، وكان شخصيّةً ناشطة، كانت بيني وبينه معرفة قديمة، فقال: أريد أن آتي إلى والدك.
فقلت: إنّ أبي لا يفيدك.
ـ لماذا لا يفيد؟ لماذا تبخل؟ لماذا لا تفسح لي المجال؟ ومن أمثال هذا الكلام...
قلت: ليس هذا المكان لك يا فلان فقل ما شئت، اعلم من هو الذي تتعامل معه هنا، هل تعلم؟ إنّ والدي لن يفيدك.
فقال: لماذا؟
قلت: أتدري لماذا؟ عندما تذهب إلى ذلك المجلس فأوّل ما يصنعونه أنّهم يقولون سماحة الشيخ سماحة الشيخ تفضّل إلى صدر المجلس ويجلسونك إلى جانبهم، وإذا ذهبت إلى مجلس آخر فإنّ الجميع يقفون لك ويسلّمون ويصلّون تعظيمًا، وإذا مررت من هنا إلى هناك كلّما مررت بأحد عظّمك، وإذا شاركت في مكان ما يقولون: جاء فلان. إلى الآن كلّما ذهبت إلى مكان رفعوا من شأنك خداعًا. ولكن إذا جئت إلى هنا فإنّ الوالد له شأن بخُطبك وبصلاتك وبزوجتك وبأولادك وبعملك وبصديقك وبخروجك من المنزل وبرجوعك إلى المنزل، وبالكلام الذي تقوله، وبجميع الأعمال التي تقوم بها، واحدًا واحدًا، صديقك وخطبك على المنبر والمال الذي تحصل عليه، والمورد الذي تصرف فيه، مع من لك ارتباط، وبكلّ كلمة من كلماتك، فهل يمكنك أن تأتي أم لا؟
فقال: آتي بشرط أن لا يتدخّل في شؤوني.
فقلت: إذن في أمان الله، خفّف عنه، أنت لا تنفع لهذا المكان يا عزيزي، أنت عليك أن تذهب إلى حيث يرفعون من شأنك، إلى هناك يجب أن تذهب، وهو أيضًا هناك ولا يزال.
أمّا هنا فهذا هو الموجود والمكان الذي يرفعونك فيه ليس هذه المدرسة، فمن كان يبحث عن ذلك فهناك أماكن أخرى أفضل وأرفع بكثير. ذلك الذي كان يعترض على المرحوم العلامة بأنّ هذا الأمر موجود في الآخرين فلماذا هو وحده من بين الآخرين قد صوّب عليّ؟ إنّه يريد أن يحافظ على شأنه، ومع حفظ شأنه يريد أن يكون معه، ومع حفظ شأنه يشارك في المجالس، وللشأن مراتبٌ.
ما هو الأمر المؤثّر في مقدار اهتمام الوليّ بالسالك؟
فإلى أيّ شيءٍ يرجع ذلك؟ يرجع إلى الهمّة، إلى همّة كلّ إنسان، وأنّه إلى أيّ مستوى يهتمّ بنفسه وبوضعه وكم هو عازمٌ على علاج نفسه؟ يرجع إلى هذا. وكم هو جادٌّ في الأمر، وكم يمكنه أن يكون ثابت الأقدام للوصول إلى الهدف، الأمر يرتبط بكلّ ذلك، لذلك كان المرحوم العلامة يقول: جاء فلانٌ إلينا ولكن بعشرةٍ في المئة، وفلان بنسبة عشرين في المئة، وفلان بنسبة ثلاثين.
وقد ذكرت في الجلسة السابقة أنّه بقدر اهتمامنا بالأمر وبذلنا من أنفسنا، وتقليلنا من حفظ الشأن، ومحونا لتلك الألقاب التي نراها لأنفسنا وتقليلنا لها فإنّهم يهتمّون بنا بهذا المقدار لا أكثر، يدفعون الموانع بهذا المقدار لا أكثر، وبهذا المقدار يهيّئون المجال المناسب لمدراكاتنا ولسيرنا لا أكثر، لذلك فقد كان يُلاحَظ وأنا كنت طيلة فترة وجودي مع الأعاظم ألاحظ هذه الأمور حيث كانت طريقة علاقة المرحوم العلامة وأولياء الله مع الناس مختلفة، فقد كان يبدي الميل إلى الناس بمقدار ما يبذلون، هذا بالنسبة إلى الميل الظاهري أما الباطنيّ فله شأنه الخاص، له شأنه. فبقدر ما يتجاوزون عن أنفسهم ويجعلونه هو مكانها كان يهتمّ بهم. في الأحاديث التي كان يجريها مع الناس، في كيفيّة التعبير التي يعبّر بها كنت أحسّ بذلك جيّدًا وأنّ هذا الإنسان إلى أيّ مستوى لديه قابليّة لتقبّل الأمر، إلى أيّ مستوى من القبول، ولم يكن يتجاوز عن ذلك المقدار؛ لأنّه لم يكن يستطيع قبول ذلك، لقد جاء بنسبة ثلاثين بالمائةفلو ارتفع مستوى الأمر إلى نسبة خمسين بالمائةفكان يبدّل الكلام بهذه الثلاثين بالمئة، ويبدّل العبارات، ويأتي بالأمور لعلّه يفهم بمستوى الثلاثين بالمئة، ويدرك ويعي مكانة نفسه، وكان يستخدم تعابير مختلفة في بيان الأمور لعلّه يدفعه إلى التفكير وإلى الالتفات وأحيانًا كان يلتفت وأحيانًا لم يكن يلتفت، ففي الموارد التي كان يشعر أنّ الأمر وصل فيها إلى الأمور الحسّاسة كنت أرى بشكلٍ جيّدٍ من الوجوه أنّهم يقلبون الأمر ويتغافلون عنه.
أرأيتم إذا ما شاهد الإنسان فيلمًا، أحيانًا يجد مشاهد يريد أن يتجاوز عنها بسرعة فيسرّعها فجأةً ولا يرى إلا أنّ شيئًا قد مضى دون أن يدرك ما هو فيمضي بسرعة، والمشاهد التي يجب أن يدقّق فيها جيّدًا يبطّئها لكي يشاهدها بشكلٍ جيّد، الأمور التي يحبّها، ففي النهاية الأمر مزاجي، كنت ألاحظ بشكلٍ جيّد في كلامه أنّه يقول أمرًا ما لغايةٍ ما، فكانوا يلتفتون إلى هذا الأمر ويلتفتون وما إن يصل في النهاية إلى النتيجة كنت أرى فجأةً أنّه تمّ الإغماض والتغافل ولم تحصل الغاية، لم يسمح هذا المسكين أن تحصل هذه النتيجة، وأن تجلس هذه النتيجة وتستقرّ في قلبه كما كان يصغي إلى تلك الحكاية، لم يسمح، بل تجاوز وتغاضى، لقد تغاضيت فليكن، تغاضيت، فسيُنقص الله لك أيضًا من حظّك، وفي الأمر الثاني أيضًا نتغاضى وفي الأمر الثالث أيضًا نتغاضى، وهكذا نتغاضى ونتغاضى حتى تتبدّل هذه النفس إلى نفسٍ مبرِّرة، نفس عملها هو التبرير، دائمًا يعمل على التغاضي، لم يكن كذلك سابقًا قبل أن يدخل في تيارٍ ما.
كيف هي نفس الإنسان ولماذا تتحوّل إلى مجرّد مبرّرة للأخطاء؟
كيف هي نفس الإنسان؟ ولماذا تصبح هكذا؟ لأنّها نفسٌ هيولانية، والنفس الهيولانية تطلق على النفس التي لا صورة لها، النفس التي هي قابلة للصور، أرأيتم الطفل عندما يولد الطفل لا يكون عالمًا بشيء، فإذا ربّيتموه بينكم وأرضعته أمّه ولم تتكلّم معه، ولو أتى الأب ورفعه واحتضنه وقبّله ولكن لم يكلّمه أبدًا، ويأتي الأخ فيفعل ذلك أيضًا فإنّ الطفل يكبر ويضحك ويصنع كلّ شيء، ولكنّه إذا بلغ عشر سنوات لا يكون قد تعلّم كلمة واحدة لماذا؟ لأنّ أذنه لم تسمع كلمةً واحدة، أمّا لو أخذت الأمّ طفلها حين إرضاعه وناغته وقرأت له الشعر وفعل الأب ذلك، فإنّ هذه الكلمات تستقرّ في أذنه شيئًا فشيئًا ويكبر شيئًا فشيئًا ويتعلّم الكلام بالتدريج فتتغيّر صورته وتتغيّر، وبعد سنتين وثلاث سنوات يتكلّم بشكلٍ جيّدٍ، وشيئًا فشيئًا يكبر فترسلونه إلى المدرسة، إلى الصفّ الأوّل والصفّ الثاني فيتّخذ صورةً تلو صورةٍ تلو صورة إلى أن يتحوّل إلى عالمٍ.
ونفس الإنسان أيضًا كذلك هي من حيث مراتبها المعنوية ومراتبها الروحيّة، ففي البداية تطلب نفس الإنسان الحقّ في الأحداث وتنزعج من الباطل ومن الظلم ومن الكذب، أتعرفون إنسانًا يحبّ الكذب من البداية، من بداية الطريق، من عمر الثانية عشرة والعاشرة والسابعة ويأنف الصدق؟! ألا ينزعج إذا كُذِب عليه؟! ألا ينزعج إذا ظُلم؟! ألا ينزعج إذا سُرِق قلمه في المدرسة ويشتكي؟! إنّه يشتكي في النهاية؛ فإذن هذا سيّءٌ، هذه الأعمال سيّئة، ولكنّ هذه النفس بعينها إذا كانت في محيطٍ خاطئ، في محيطٍ عديم العدالة، في محيطٍ ظالم وليس له هويّة أخلاقيّة فإنّكم تجدون أنّ صورتها تتغيّر وتتغيّر حتّى تصبح سارقة، فالسارق ينزعج من الأمور الحسنة ومن الصدق، لماذا؟ لأنّ هذه النفس الهيولانيّة اتّخذت صورًا. والإنسان قبل أن يصل إلى مكانةٍ ما، إلى وظيفةٍ، إلى كرسيٍّ تراه يعترض فيقول: هنا يوجد مشكلة، وهنا يوجد مشكلة ويكون الأمر صحيحًا ولديه معلومات ويقوم بعمله على أساسها. ولكن بمجرّد أن يأتي ويُعطى تلك المكانة والوظيفة والكرسيّ، ترى بعد شهر أنّه لم يعد يعترض فماذا حصل؟! أفهل صلح كلّ شيء بمجرّد دخولك أنت إلى الوظيفة؟ أم لا؟ بل إنّ معلوماتك السيّئة صارت أكثر بعد ذلك، فلماذا انتهت الاعتراضات؟! لماذا تغيّر لحن الكلام؟! ماذا حصل حتّى لم نعد نشعر بتلك الحدّة والشدّة في كلامك المبارك؟ ماذا حصل؟! ماذا حصل حتّى انتفت تلك التعابير التي كانت فيما مضى؟! وشيئًا فشيئًا إذا ما قال أحد شيئًا في جلسة ما فإنّه يعبس، ويبدي انزعاجًا. ثمّ إذا مضى شيء من الوقت يتصادم مع من يعترض، ثمّ إذا مرّ شيء من الوقت يتشبّث، ثمّ حدّث ولا حرج! فماذا حصل؟! هل تغيّرت الأحوال أم أنت من تغيّر أيّها المسكين؟! لم تتغيّر الأوضاع، الوظيفة عينها والمركز عينه والأمر والنهي والناس الذين يتردّدون لم يتغيّر شيء منهم، كلّ شيء في مكانه، كلّ شيء، لقد تغيّرت نفسك الهيولانيّة هذه التي كانت سابقًا تبحث عن الحقّ إلى نفس مبرّرة ومؤوّلة، تؤوّل وتبرّر. لقد حالت تلك الحالة الحاكمة على وجودك حالت بينك وبين تفكيرك الحرّ وغطّت على تعاطيك الصادق الخالي من الغشّ والغلّ، وفي غطائك هذا تسير جميع أفكارك في اتّجاه التأويل والتبرير، وجميع الأمور التي تجعلها في ذهنك تسير نحو التوجيه والتحسين، جميع أفكارك.
تحوّلات شريح القاضي
لقد كان شريح القاضي مسلمًا مسكينًا، ولكن عندما صار قاضيًا أراد أمير المؤمنين أن يعزله، فثار أهل الكوفة: يا ويلنا عليّ يريد أن يعزل من كان في زمان جميع الخلفاء لسنوات متمادية، في زمان عمر وعثمان، يريد عليّ أن يبدّل ويثور، يريد أن يبدّل كلّ شيء، يريد أن يثير المجتمع، فمن أفضل من هذا الرجل؟ فقال الإمام: حسنًا مبارك لكم! بدلاً من أن يقول عندما يريد أن يعزله: رحم الله والديك يا عليّ في أمان الله، الفرار! دعوني أمضي، أخذ يمسح على لحيته ويقول: نعم نعم. ففي المجالس أمام أمير المؤمنين يقول: كما تأمر فأنت خليفة رسول الله، ولكنّه في المجالس الأخرى يقول: ماذا أصنع؟ لا مفرّ! على الناس أن يقرّروا بأنفسهم ـ لا يقول ذلك أمام أمير المؤمنين، هذه الأمور التي أقولها أنا، أنا أشرِّح لكم ذلك الزمان وأبيّن الظروف التي كانت ـ لا يتكلّم أمام أمير المؤمنين بشيء، ولكن هناك مع رفاقه يقول: ماذا نصنع؟ علينا أن نفكّر بحيلة ما، فيبدأ بإثارة الناس من جهة، ومن جهة أخرى يتظاهر أمام أمير المؤمنين بأنّه إنسان مقبول، يظهر أمام خليفة رسول الله بأحسن مظهر، أنا لم أقم بشيء، الناس هم الذين فعلوا ذلك، الناس جاؤوا وطلبوا، فهذه إرادة الناس ولكن الأمر ما تأمر به أنت يا عليّ. مع من كانت جلستك ليلة أمس؟ فأمير المؤمنين لم يكن ليفضح الأسرار، ألم تكن لديك ليلة أمس جلسة وتآمرت بها؟ ليس من شأنه أن يفشي الأسرار، يطأطئ رأسه ولا يقول شيئًا! أنت تريد أن تخدعني، الله يخدعك خدعة يجعلك فيها تصدر أمرًا بقتل ابن النبيّ!
فاجلس الآن وكلْ أيّها المسكين! أنا أريد أن لا تصل إلى هذه المرحلة، إنّي إذ عزلتك الآن أريد أن لا تصل إلى هناك، وأن لا يطلب الناس منك أن تمضي على قتل ابن النبيّ وأنت تمضي. ماذا تقول: بأمر الإسلام وبحكم اتّباع سنّة النبيّ فإنّ الخروج على شؤون الإسلام حرام، الخروج على نظام الخلافة حرام، الخروج على خليفة المسلمين الذي وصل إلى الخلافة بانتخاب المسلمين حرام، فإذن يجب المواجهة بالغة ما بلغت، [وتكتب في الأسفل] الأحقر شريح القاضي لعنة الله عليه. فيمضي ثمّ يعطي ابن زياد، فيرتقي المنبر ويقول: انظروا هذا شريح القاضي أيضًا بعمامته وعباءته وعصاه وهيئته الخاصّة. والناس العوام كالأنعام أيضًا يسيرون خلفه ويتّبعونه.
فأمير المؤمنين إذ يريد أن يعزلك ألم يحترق قلبه عليك؟ ألم يحترق قلبه على عاقبتك ومكانتك؟ أمير المؤمنين يعلم أيّها المسكين! إن لم أعزلك فأنا الآن قربك، ولكن إذا ما متّ فلن أكون قربك، وسيأتي بدلاً منّي معاوية ويزيد، فماذا تصنع حينها؟ الآن بالقرب منك إنسان يساعدك إذا ما انحرفت يمينًا أو يسارًا، ولكن إذا ما متّ وجاء معاوية فإنّه سيشجّعك أن تفضّل افعل ما شئت فحينها ماذا ستفعل؟ حينها ستمضي على قتل ابن النبيّ، حينها ستصل إلى هذه المرحلة!
هل تجتمع الهمّة العالية مع حفظ المقام أمام الأستاذ؟
فإذن من ضرورات حركة الإنسان الاهتمام، على الإنسان أن يكون مهتمًّا، وأن يوصل همّته إلى درجة المائة في المائة. أن لا يأتي مع حفظ الألقاب والمقام، لا شأن ولا شخصيّة، إذا جئت مع المقام فإنّ الله لن يفتح لك الطريق، ولن يقبلك، والله يريد إنسانًا لا مقام له.
في زمان المرحوم العلاّمة كان البعض يريدون أن يأتوا إليه، وكانوا أناسًا من أنواع مختلفة، فقال لي المرحوم العلاّمة قل لهم أن يأتوا غدًا الساعة كذا، وإذا ما جاؤوا فليأتوا وحدهم، لا أن يجمعوا معهم أربعة، إن شئت فائت وحدك، وكثيرًا ما كان هؤلاء ينصرفون عن المجيء بسبب هذا الكلام. لماذا؟ لأنّه يريد أن يأتي مع حفظ الشأن. فالشأن يعني أن يأتي أيضًا سبعة أو ثمانية معي أيضًا، وفي النهاية يكون لي ظاهر حسن وهيئة محترمة، أمّا وحدي فلا فائدة. فما معنى أن آتي وحدي؟! فالمجيء إلى هذا المكان مع حفظ الشأن ليست له أيّة فائدة للإنسان، لذا نرى أنّ هؤلاء يتقدّمون ويتقدّمون ويتقدّمون إلى أن يصلوا إلى مكان يجب فيه أن يتّخذوا قرارًا فإنّهم ينصرفون إلى طريق آخر.
كان السيّد الحدّاد يقول: يا سيّد محمّد الحسين لماذا لم تقل لهم حقيقة الأمر؟ فقال له: لو قلت لهم لما قبلوا. فهذا الكلام هو لهذا المورد. ثم نأتي مع حفظ الشأن إلى هنا لنصل، فإذا أتينا نقول: لم يحصل لنا التوفيق في أن يقبلونا. لو أصلحنا أنفسنا من البداية وطهّرناها وجعلناها صفرًا من البداية لسطع ذلك النور عندما نصل إلى هنا فاتّضح الطريق إمّا من جهة اليمين وإمّا من جهة اليسار، ولمَا مشينا في هذا الاتّجاه أو ذاك بل سرنا في الاتّجاه المستقيم ولكن لم يكن الأمر هكذا، لقد أتينا من البداية حافظين لمقامنا وسلّمنا بشيءٍ يسير، بمقدارٍ يجعلنا نأنس، بمقدارٍ يجعلنا تتغيّر أحوالنا في صلاة الليل، بمقدارٍ يجعلنا نأنس بذكر السجدة اليونسيّة بعد صلاة الليل وفق برنامج السيّد فقط بهذا المقدار، بمقدار أن نلاحظ الفوارق بين هذا المكان وغيره فهذا يغيّر حالتنا النفسيّة ويسبّب لنا لذّةً معنويّة، وهذه الأشياء صحيحة لا أنّها باطلة ولكنّ الأمر الأساسيّ والتسليم المحض الذي يجب أن يحصل ويُنقذ الإنسان في المواقع الخطيرة التي زلّت فيها أقدام الكبار لم يتحقّق ولذلك فإنّ تلك الظروف تأتي وتتغلّب عليه ولذلك أيضًا إذا جرى الحديث فإنّه يمضي.
قلت ذات يومٍ للمرحوم العلامة: إنّ فلانًا الذي جاء قد سافر فهل استأذنكم؟ فقال: لا، لم يستأذنّي، فقط جاء وقال لي: أنا ذاهبٌ إلى ذلك المكان فهل من أمرٍ ما؟
فقلت له: عجيب، إن كان هناك سفرٌ في عمره كلّه يحتاج إلى إذنٍ ألم يكن هذا السفر؟!
فقال: نعم، الأمر كذلك، لو كان في عمره كلّه سفرٌ يحتاج إلى إذنٍ من الأستاذ لكان هذا، ولكن ترون أنّه لم يستأذن في هذا السفر، نعم لو استأذن في سفرٍ آخر وقال: أتأذن لي أن أسافر إلى مشهد لما كان ماهرًا، فهي في النهاية زيارة الإمام الرضا لا تحتاج إلى إذنٍ، أتأذن لي أن أسافر إلى همدان؟ نعم تفضّل، أتأذن لي أن أسافر إلى ذلك البلد؟ نعم تفضّل، لماذا؟ لأنّه يرى أن لا مشكلة، ليست هناك لوازم، فقد أخذنا إجازةً وأبدينا احترامنا والنفس أنست أيضًا تقول: نعم استأذنا وهي مأنوسة جدًّا، ولكن في السفر الذي لا ينبغي أن يقوم به فإنّنا نأتي بهدوء ونجلس ونتكلّم أني ذاهب إلى ذلك المكان فهل توصي بشيء؟ ثمّ يقول في نفسه وقلبه: لو كان هناك أمرٌ لقال لي، لو كان هناك شيءٌ لقال، فلنمض.
هذه الأمور حياتيّةٌ بالنسبة إلى الإنسان، إنّها حياتيّة. هذه هي المواطن التي يأتي فيها الشيطان ويُلبس الأمر على الإنسان، ولذلك فإنّنا نقوم أثناء ذلك أيضًا بأداء الصلاة وإقامة صلاة الليل وهذه الأعمال أيضًا صحيحة لا ينبغي أن تترك، ولكنّا خسرنا ذلك الجوهر والإكسير وماذا حصّلنا مكانه؟ حجرًا من الأحجار العادية وإن كان جميلاً ولكنّا خسرنا الماس، وبدلاً من الماس لبسنا حجرًا من العقيق لا تتجاوز قيمته السبعة أو الثمانية آلاف، ذلك الماس الذي كما يقول المرحوم العلامة لا قيمة له فبعض المجوهرات مثل "جبل النور" و"بحر النور"۱ لا يمكن أن تقدّر بثمن، لقد خسرنا هذا النوع، لذلك عندما خسرناها فإنّ الله يأتي بالموانع، تفضّل، تفضّل، تأتي المسائل الاجتماعيّة والشيطانيّة وقد رأينا الكثير من هؤلاء في زمان المرحوم العلاّمة، رأينا الكثير.
كانوا يأتون إلى المجالس ويبكون ولا أدري ماذا كانوا يفعلون أيضًا، ولكن كان من الواضح أنّه لم يكن هناك شيء، فقلنا لنصبر حتى نرى متى يرتفع صوته، وبعد سنةٍ أو سنتين كنّا نرى فجأةً أن يا يا لها من فرصةٍ مناسبة، هذه هي الفرصة، وفجأة كان يتّخذ موقفًا مقابلاً لأفكار المرحوم العلامة. فكنّا نقول: نعم هذا وقته، إنّ فلانًا هو كذا وكذا، ثم وفي فرصة من هذه الفرص نجد أنّه اتّخذ موقفًا مفاجئًا، هذا كلّه بسبب أنّه حافظ على ذلك الشأن هنا.
أمّا المرحوم العلامة فماذا كان؟ لم يكن هكذا، لم يكن هكذا. عندما كان يذهب إلى الأستاذ كان صفرًا، ألم أخبركم مرّاتٍ؟ قد كنت أرى آنذاك، فإن لم يكن لديّ حينها القدرة على الإدراك بهذا الشكل يمكنني الآن أن أتصوّر تلك الصور، فعندما كان يجلس عنده لم يكن في ذهنه شيءٌ أبدًا، كان يتركه يقول وحده ماذا يجب أن يفعل. لا أنّه بنسبة واحد بالمائةواثنين بالمئة، ومع اقتراحات مثل من الجيّد أن يقول السيّد هذا، لو قال هذا لكان إنسانًا جيّدًا، كم هو إنسانٌ عظيم! كلا. بل إذا سأل: هل نقيم تلك الجلسة أم لا؟ لم يكن الأمر يختلف لديه، هل نقوم بهذا المشروع الاجتماعي أم لا؟ لا تقوموا به، لا تقوموا به.
قصّة السيّد الكلبايكاني وانكسار رجله عند تسليم أمره إلى الله
لقد سمعت بنفسي من السيد الكلبايكاني رحمة الله عليه وذلك لمرّتين في لقاءين له مع المرحوم العلامة حيث كان يقول: كنت متحيّرًا في أمر المشاركة في أحد الأحداث الاجتماعيّة هل أشارك أم لا؟ ـ وقد ذكرها مرّتين ـ هل أشارك أم لا؟ فأوكلت نفسي إلى الله أن يا الله اجعلني فيما تراه صالحًا، فكان يقول: بينما كنت أمشي وقعت فجأةً على الأرض وانكسرت رجلي، فتحيّرت أن ما هو هذا الأمر الذي طلبته من الله فانكسرت رجلي؟ فتفأّلت بالقرآن فكانت هذه الآية :"{أما السفينة فكانت... فأردت أن أعيبها}."۱. حول قصة الخضر عندما خرق السفينة التي كان فيها وأخذ المعول والفأس وكسر السفينة وكانت جديدة الصنع، فدخلها الماء فأقبلوا عليه: لماذا فعلت هذا؟ ولم يقل لهم إلا العفو لقد حصل هذا الأمر في النهاية، فارتفع صوت النبيّ موسى أن ماذا تصنع؟! لقد أفسدت مال الناس وأتلفته، أين إسلامك؟ أين دينك؟ فأيّ سلوكٍ هذا؟ فقال الخضر ألم أقل لك أن لا تتكلّم، لا تحدّد لي التكليف، المقرّر هنا أن تجلس ساكتًا وأنا أعمل، فلا تعطني حكمًا شرعيًّا. ثم قال الخضر لاحقًا: {أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينة غصبًا، فأردت أن أعيبها} كي لا يأخذها هذا الملك. هذه هي الحكمة، كان السيد الكلبايكاني يقول لنا: عندما انكسرت رجلي أدركت أنّ الله أجبرني أن أجلس في البيت ولا يصدر عني كلامٌ حتّى تنتهي هذه المسألة. لماذا؟ لأنّه سلّم نفسه، سلّمها. طبعًا أحيانًا يكون الأمر بكسر القدم ولا يكون دائمًا بالحلوى والطعام اللذيذ. وكما يقول حافظ عليه الرحمة، عليه الرحمة فإنّ كلّ بيتٍ من شعره كتابٌ من المعرفة:
زير شمشمير غمش رقص كنان بايد رفت | *** | زانكه شد كشته او نيك سرانجام افتاد |
والمعنى: عليك أن تذهب راقصًا إلى تحت سيف غمّه، فإنّ من يقتل به سعيد الحظ.
حقيقة مقام الشهيد
فمن يُسلم نفسه إليه فقد قتلها في الحقيقة، فليس القتيل هو الذي يُضرب بالسكين أو بالسهم، فلربّما يقع الإنسان عن السطح ويموت، المراد من القتيل هنا أن يجعل الإنسان نفسه ميّتةً بحيث لا يبقى فيها إرادةٌ واختيار ويحلّ إرادته واختياره مكانهما، هذا المعنى هو معنى القتل، سواءٌ حصلت الشهادة الظاهرية للإنسان أو لم تحصل، أفهل استشهد أولياء الله جميعًا، لم يكن الأمر هكذا، بعضهم استشهد كالعطار، وبعضهم لم يستشهدوا وتوفوا بأمراضٍ متعارفة، فالسيد القاضي أصيب بداء العطاش وهو مرضٌ في الكبد. والسيد الحداد أصيب أيضًا بمرضٍ في الكبد والمرحوم العلامة مات بمرضٍ في قلبه وسكتة، وفي النهاية كلّ إنسانٍ سيغادر الدنيا بعلّةٍ ما، ولكنّ القتيل هو الذي يدوس على نفسه، هذا هو معنى القتيل، تلك الحقيقة هي حقيقة الموت، ومعنى موتوا قبل أن تموتوا۱ ، فقبل أن يدرككم الموت خلّصوا أنفسكم من مستنقع النفس وأخرجوها، والوصول إلى هذا المعنى هو المهم، وإلا فبإمكان الإنسان أن يتناول حبتين من الدواء ويموت، ويتناول السمّ ويموت بعد ساعةٍ أو ساعتين فليس في ذلك مهارةً، المهارة في الخروج من ملذات النفس التي تحصل للإنسان، وحيث كان المرحوم العلامة أمام أستاذه هكذا صفرًا، لذلك وفي ذروة نشاطه الاجتماعي والأمور التي ذكرتها للرفقاء ذات يوم، جاء الأمر من أستاذه أن تراجع انتهى الأمر، ومن الآن فصاعدًا... فلم يقل نعم أو لا، ما إن قال: انتهى الأمر. فقد انتهى، ما معنى هذا؟ معناه الموت، معناه القتل، الآن ماذا يقول الناس؟ أنا في مثل هذه الحالة الجميع يعتمدون عليّ في متابعة هذه الأمور. فليقولوا: إنّ فلانًا ذهب وترك مكانه خاليًا، وهناك تعابير مختلفة مؤدّبة وغير مؤدّبة قيلت في حقّه آنذاك، لا شأن لنا بهذا الكلام وهو لا يدخل إلى آذاننا، لقد أمر الأستاذ وانتهى الأمر، وهذا الإنسان يكون تحت عناية الولاية بدرجة مائةفي المائةفي جميع الموارد، فالموانع تزول من أمام قدميه، ويصل إلى ما ينبغي أن يصل إليه، ويتحقّق عنده الاستعداد للقبول في جميع المجالات، هذا هو المهمّ، سواءٌ في هذا الأمر أم في غيره، في الأمور الشخصيّة أو الاجتماعيّة أو ما يرتبط بها.
كان المرحوم العلامة يقول لي: لقد بقيتُ في طهران مدّة إحدى وعشرين سنةً ولم تكن ساعةٌ منها طيلة هذه المدّة بإرادتي واختياري الخاصّ، فهذا الطهراني الذي يقتتل عليه الناس من الكسبة والتجّار والأطبّاء والمهندسين والعلماء وغير العلماء وجميع الفرق يريدون أن يأتوا إليه، هو نفسه كان يقول: لم أكن بإرادتي واختياري ساعةً واحدة، لماذا؟ لأنّ ذلك العقرب وتلك البوصلة تتّجه نحو الحقّ، البقاء هنا يسبّب له الأذى ولكنّه يقول: أتحمّل هذا الأذى لأنّ الأستاذ أمر، ولمّا أمره الأستاذ بالذهاب إلى مشهد ـ حيث لم يذهب من تلقاء نفسه، اعلموا ذلك ـ طار إليها، قال: الآن أنا ذاهبٌ إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام فمنذ أن أتيت من النجف كان في فكري إمّا أن أكون عند هذا العليّ وإمّا أن أرجع إلى ذاك العليّ وقد اختار الله لي هذا العليّ. فمضى وقال في أمان الله فلا تذكروا أمامي اسم مسجد القائم، لا تذكروه. أصلاً لا أريد أن أسمع بعد ذلك اسمًا كهذا. هكذا كان تعبيره. لا أريد أن أسمع بعد ذلك اسمًا كهذا فقد أتيت إلى الإمام الرضا وانتهى الأمر فماذا بعد الإمام الرضا؟ جهنم. إمّا الإمام الرضا أو جهنّم. بعد أن ذهبت فقد ذهبت وانتهى الأمر، هذا هو الذي يقال: إنّه جاء صفرًا بدون حفظٍ للشأن، وجاء باهتمامٍ وإرادةٍ، وفي النتيجة كانت العناية الإلهيّة من نصيبه.
نحن أيضًا علينا أن نكون هكذا، علينا أن نطلب التوفيق من الله ليكون هذا الحال من نصيبنا، فإن كنّا بنسبة ثلاثين بالمائةنبدّلها إلى نسبة مائةفي المئة، إن كانت هناك نقائص لا تزال موجودة فينا تتبدّل، إن كانت هناك موانع تقف أمام الفقر والحاجة تزول كلّها، وتتبلور في وجودنا أبعاد الفقر والاحتياج والمسكنة، فبقدر ما يرتفع ذلك ويقوى تشملنا عناية الله في المقابل.
لماذا كان كلّ ذلك البكاء من أمير المؤمنين؟ ولماذا كانت كلّ هذه المناجاة من الإمام السجاد؟ وهذه الأدعية التي نسمعها من الإمام الصادق ما سببها؟ فهل كان كلّ ذلك تمثيلاً؟ يعني هل كان هذا البكاء تمثيلاً؟ أرأيتم هؤلاء الممثلين في الأفلام ماذا يفعلون؟ يبكون كالثكلى، يحسب الإنسان أنّه الآن افتقد ابنه وكلّه تمثيل، ولا أدري ماذا يفعلون؟ هل يضعون شيئًا في أعينهم، أم يقومون بشيءٍ آخر؟ فهذا كلّه تمثيل ومسرح ولعب، لعبٌ لكي يُخضعوا المخاطبين للأحاسيس، فيُظهرون تلك الأحداث على أنّها واقعية ولكن هل كان الإمام السجاد يمثّل أمامنا عندما كان يُمسك بأذيال الكعبة ويقرأ ذلك الشعر ويبكي؟ لأجل من كان يمثّل في منتصف الليل؟ لأجل من؟ لم يكن هناك أحدٌ بعد منتصف الليل، أو ذلك البكاء من أمير المؤمنين في بساتين النخل، هل قام به في مسجد الكوفة وعلى المنبر أمام عشرة آلاف مصلٍّ أم أنّه كان وحده؟ حتى إنّه كان يقول لمرافقه لا تتعدّ هذا المكان، لا تأتِ حتّى لا تسمع صوتي، لأجل ماذا كان هذا؟ لأنّهم كانوا قد شعروا بهذا الفقر، فالأئمة عليهم السلام شعروا بالفقر وأردكوه ولم يكونوا مثلنا، أدركوا الحاجة، وكلّما كان إدراك الحاجة أكثر ازدادت حرقة القلب لأجل الوصول إلى ذلك الهدف.
لقد انتهى الوقت والحقيقة أنّ رمقي أيضًا قد انتهى، فإن شاء الله تبقى تتمّة الكلام للجلسة اللاحقة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد.