المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتقوى ومراتبها
التاريخ 1427/11/05
التوضيح
كيف نعرف أنفسنا هل هي في زهد حقيقيّ أم كاذب؟ وماذا نصنع للتخلّص من الزهد الكاذب؟
كيف كانت نفوس المشاركين في قتل الإمام الحسين ولماذا وصلت إلى هذه الحال؟ وهل كانوا جميعًا من أهل الخمور وترك الصلاة أم أنّ بعضهم كان من أئمّة الجماعات وأهل الزهد الظاهريّ؟
ما هي العلاقة بين الزهد الحقيقيّ والعمل بالتكليف مهما كان ولو كان بصرف الكثير من الأموال وتناول الأطعمة اللذيذة؟
هل يدعو العرفان إلى ترك العمل وترك تحصيل المعاش؟!
تجيب هذا المحاضرة على هذه المحاور الأساسيّة من بحث حقيقة التقوى ضمن شرح فقرة ذلك أول درجة التقى من حديث عنوان البصريّ.
هو العليم
كيف نصل إلى التقوى والزهد الحقيقيّين؟
شرح حديث عنوان البصري - المحاضرة ۱٣٦
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على نبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
ما هي التقوى الحقيقيّة والتقوى عند العوامّ؟
{يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورًا تمشون به}۱
تحدّثنا بعض الشيء في الجلسات السابقة حول التقوى ذيل الفقرة الشريفة من كلام الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري، وذكرنا أنّ التقوى ليست بمعنى الزهد المتعارف. فالزهد المتعارف والزهد المعروف بين العوامّ عبارة عن الإعراض عما يهتمّ به الناس في هذه الدنيا، الابتعاد عن المقام والموقع والرئاسة والمسؤوليّة، الإعراض عن النعم الإلهيّة الدنيويّة مثل أنواع الألبسة والأطعمة والأشربة والمسكن والعلاقات، فهذه في الاصطلاح المعاصر وبين الناس تعدّ زهدًا. فمن كانت ثيابه غير مرتّبة ولا يبالي بحال ثيابه هو زاهد، ومن لا يهتمّ كما ينبغي بطعامه ونوعيّة طعامه يعدّ زاهدًا، من لا يبالي بالمناصب إن لم تتيسّر له يعدّ زاهدًا، أو بالنسبة إلى المسكن يختار مسكنًا لا يهتمّ به الناس، فيعدّ زاهدًا، وأمثال ذلك، فالناس يقولون عنه زاهد.
ولكن نظرًا إلى الأمور التي طرحت في الجلسات السابقة، اتّضح للرفقاء والأصدقاء إلى حدّ ما أنّ حقيقة الزهد هي عدم تعلّق الباطن لا عدم التوجّه في الظاهر. فيمكن للإنسان أن يقوم بعمل ما بدواع مختلفة، وذلك الداعي والغرض هو الباعث إلى عدم الاهتمام في الظاهر، ولكنّ الناس إذ يشاهدون هذا الإنسان يظنّون أنّ مخالفة هوى النفس جعلته يقوم بذلك.
تعقيدات النفس الإنسانيّة واختلاف شهواتها
إنّ النفس الإنسانيّة لأعجوبة، ولها تعقيدات خاصّة وعجيبة وغريبة لا يمكن لأيّ إنسان أن يعرفها. فالنفس يمكن أن تبرز بأشكال مختلفة ومظاهر متنوّعة ولكلّ مرتبته الخاصّة، فيمكن أن تأنس نفوس البعض ـ كما تقدّم ـ بأن تظهر بهذه الهيئة، فلو فرضنا أنّه كان في مكان لم يكن فيه أحد ولم يكن بين المجتمع وسلبت منه هذه الآلة وهذه الوسيلة تجد أنّ وجهه قد تغيّر، تغيّر الوجه وتغيّر اللون، فلأنّه يرى أنّه لا يوجد أحد ينظر إليه ولا أحد يهتمّ به، فإذا أخذت منه هذه الوسيلة وهذه الآلة ووجد نفسه وحيدًا فإنّه يقبل على ما كان يفرّ منه، فهذا أحد الموارد التي يمكن أن تسبّب للإنسان زهدًا غير حقيقيّ وزهدًا مجازيًّا.
ويمكن للإنسان أن يتجاوز ذلك أيضًا إلى مرتبة أرفع وتكون نفسه في حالة بحيث إنّه حتّى لو لم يره الناس يأنس أيضًا من أنّه في حالة كهذه، من أنّه يرى نفسه في هذه الحالة والوضع دون الآخرين رغم أنّهم لا يرونه، فيشعر أنّه متفرّد، هو فريد في هذا المجال، هو الآن في هكذا حالة من عدم الاهتمام به ومن الإعراض عنه فيشعر بالشعف والعلوّ والكبر، لأنّه يرى أنّه قد ابتلي وقد مرض وأصيب ببعض الأمور يفرح قائلاً: نحن من جعل الله هذه المصائب من نصيبنا، نحن الذين صرنا في هذه الحالة، نحن الذين ابتلاهم الله بهذه الأمور ولم يبتل الآخرين.
قصّة التذاذ أحد تلامذة العلاّمة بأعماله العباديّة وابتعاده عنه
ما أقوله للرفقاء جرّبته بنفسي في كلّ واحد من هذه الموارد في علاقتي مع الآخرين ورأيته بنفسي، فقد كان هناك رجل على علاقة مع المرحوم العلاّمة مدّة مديدة ويعدّ نفسه صاحب مراتب وأمور، ثمّ وبسبب العصيان الذي ارتكبه والعمل من نفسه وعلى أساس رأيه الخاص والأسلوب الذي اخترعه من نفسه تنحّى شيئًا فشئًا عن دائرة تربية المرحوم العلاّمة حتّى صار يقوم بنفسه بالأعمال وفق ما يرى هو، وكان يقوم بما يحلو له من دون أن يكون هناك برنامج وإجازة، غافلاً عن أنّ هذه الأمور وهذه الأعمال تجذبه إلى نفسه وتجرّه إليها شيئًا فشيئًا. كان يقول له: قم بهذا العمل بهذا المقدار فكان يضاعفه ثلاثة أضعاف ويقول: أنا أدرك خيرًا منه، أنا أعرف خيرًا منه. يزداد وضوح الأمور لديّ وتقوى حالاتي الروحيّة. فمن يدرك هذه الحالات الروحيّة أفضل أنت أم أستاذك؟! فهل هو يريد ضررك إذ لم يأمرك بذلك أم أنّه يرى أمورًا أنت أعمى عن رؤيتها، أنت تتخيّل هذا من عندك، أنت تتخيّل أن هذا العمل بهذا الشكل أفضل، ونفسك أكثر رغبة به، تشعر بالنورانيّة أكثر في قلبك بسبب ذلك. وشيئًا فشيئًا مضت هذه المسألة حتّى وصل به أمر مخالفة البرامج والتربية الظاهريّة إلى أن ترك القيام بأعماله الضروريّة في الحياة، وبدلاً من أن يذهب إلى العمل صار يقوم بهذا العمل مثلاً، ويقوم بأعمال يحصّل منها معاشه.
هل يدعو العرفان إلى ترك العمل وتحصيل المعاش؟
يجب أن تكون جميع الأمور معًا جنبًا إلى جنب حتّى تتقدّم جميع المراتب الوجوديّة للإنسان معًا وفي آن واحد، لا أن يتصوّر الإنسان أنّ الأمور الباطنيّة في أفق مختلف عن الأمور الظاهريّة، وأنّ الاهتمام بأحدهما يمنع الإنسان من الاهتمام بالأخرى، وهذا خلافًا لما هو موجود في كثير من الكتب عند كثير من أهل السلوك، حيث يفكّر كثيرون أنّ طريق الله يتنافى مع العقلانيّة والتعقّل والمنطق، يقول المنطق: قم بهذا العمل ولكنّ طريق الله يقول: دع هذه الأمور جانبًا. يقول المنطق والعقل: عليك الآن أن تهتمّ بهذه الأمور من الأمور الظاهريّة والمسائل الدنيويّة وأن تهتمّ بحياتك ومعاشك وبأمور أصدقائك وأرحامك وأقربائك، ولا تقصّر في الأعمال اليوميّة المتعارفة، وعليك أن لا تتهاون وتتساهل في التكاليف التي كلّفك الله بها، فهذا طريق الظاهر، وفي المقابل يقول طريق الباطن: دع ذلك، اترك الزوجة، اترك الأولاد، واترك الأقارب، واترك المعاش، واترك الدنيا، واترك الدرس، واترك العمل، واترك الوظيفة كالرهبان وبعض الجهلاء واجعل كامل همّك وفكرك منصبًّا على أمور الآخرة والعبادات وترك الدنيا. فهذا الأمر خطأ وباطل.
لقد كان الله قادرًا أن يخلقك من البداية بلا جسم كالملائكة فلماذا لم يفعل؟!
كان بإمكان الله أن يجعل رزق الإنسان من البداية من بوارق عالم المعنى لا من هذه النعم الدنيويّة والماديّة والطبيعيّة فلماذا لم يفعل؟!
كان الله قادرًا أن يجعل الإنسان موجودًا عقلانيًّا وروحانيًّا وبدون توالد وتناسل وأمثال ذلك، فالشياطين لا توالد لديهم والملائكة لا توالد لديهم، نعم الشياطين لديهم نوع ما، ولكنّ الملائكة والنفوس المجرّدة والعقول المجرّدة ليس لديهم توالد وتناسل، والغرائز الحيوانيّة والإنسانيّة منتفية عندهم تمامًا، ووجودهم وجود إبداعيّ وليس مترتّبًا على سلسلة علل ومسبّبات ماديّة وظاهريّة. كان بإمكان الله أن يخلق الإنسان هكذا، فلماذا لم يفعل؟! فهذه الطريقة من الخلق التي أوجد الله عليها الإنسان تقتضي أن يكون تكامل الإنسان ووصوله إلى مراتب عالية وإيصاله الاستعدادات إلى مراتب الفعليّة من هذا الطريق. ومن أراد أن يهتمّ بالأمور العباديّة ويترك الأمور الظاهريّة فإنّ العبادة ستتبدّل لديه إلى بعد. وأعتقد أنّي بيّنت للرفقاء أمثلة سابقًا في هذا المجال، وإذا ما حصلت فرصة فسأوضّح ذلك أكثر.
وعلى كلّ حال إذا أراد الإنسان أن يوصل مراتب الإنسانيّة لديه إلى الفعليّة ويصل إلى مقام القرب، فعليه أن يسير في الطريق والمنهج والصراط الذي ساره أولياء الله والأئمّة والأنبياء، فقد كان أئمّتنا يقومون بهذه الأعمال التي نقوم بها نحن بعينها، وعلينا نحن أن نقوم بتلك الأعمال التي كانوا يقومون بها. فهل التفتّم؟! فلم يكن الإمام عليه السلام يجلس ويضع يدًا على أخرى وينتظر رزقه لينزل من السماء فيوزّعه على أسرته وأهله. كلاّ! فقد كان الإمام كغيره من الناس له مصدر من العمل والزراعة والتجارة وهكذا كغيره من الناس، وأحيانًا كانوا يعيشون السعة وأحيانًا ضيق المعيشة كغيرهم، غاية الأمر أنّ ما كان مهمًّا عندهم دون الآخرين هو أنّ ما يشتغلون به في هذه الدنيا لا يلهيهم عن تلك الغاية، أمّا نحن فيلهينا، نصادف معاملة فننسى الله، إذا شعرنا في مكان ما أنّ الحقّ مع فلان فإنّا نطرحه أرضًا. إذا رأينا في موضع ما أنّ الأمور تجري لصالح غيرنا أنهينا الأمر وحوّلناها إلى صالحنا، وفي الوقت نفسه نصلّي ونصوم، فصومنا وصلاتنا هذه لا تؤدّي بنا إلى مكان، أرضينا قلوبنا بأنّا نشارك هنا وهناك. ولكنّ الأئمّة وأولياء الله لم يكونوا هكذا، كانوا إذا رأوا أنّ الحقّ هنا، وإن كان فيه ضرر عليهم فإنّهم يُرجعون إليه، إذا جاء أحد يريد أن ينفعهم ماديًّا لم يكونوا يقولون نعم افعل كذا، وتعال إلينا، كلاّ، بل عندما كانوا يرون أنّ هناك آخر يمكنه أن يقوم بالأمر بنحو أفضل كانوا يقولون له اذهب إليه فإنّ حاجتك ستقضى عنده. فلان عنده هذه البضاعة بنحو أفضل ممّا عندنا، لم يكونوا يقولون: لا يوجد فلا تبحث عنه، لم يكونوا يقولون: لا فائدة منه، ولو ذهبت إلى مكان آخر فلا شيء، لم يكونوا يقولون هذا الكلام، لماذا؟ لأنّ نظرهم في هذه الدنيا هو أنّها ممرّ لا مقرّ، نظرة عبور ومعبر لا مسكن ومأوى، كانوا يجعلون هذه الأشياء في الطريق التي جعلها الله فيها... {ولا تنس نصيبك من الدنيا}۱، ما ينبغي أن يؤدّى كانوا يؤدّونه في مكانه، ولم يكونوا ينسون النصيب من الدنيا كما قال الله.
وبعبارة أخرى فإنّ أولياء الله لا يزايدون في التكاليف الإلهيّة، أمّا نحن فنزايد ونجعل لأنفسنا هذا الحقّ. نقول: ليس هناك شيء في مكان آخر، إن شئت شيئًا فهنا، هذا كذب، يمكن أن يكون هناك شيء في مكان آخر، نحن ننسب الحقّ الموجود في مكان آخر إلى أنفسنا، نقول: لا تذهب إلى مكان آخر فلن تستفيد لو ذهبت، إن أردت أن تصل إلى نتيجة فعليك أن تأتي إلى هذا المكان فقط! يمكن أن يكون ما هو أفضل من هذا المكان وأكثر فائدة. كلاّ لا معنى لهذا الكلام، فيمكن أن يكون هناك حقّ في مكان آخر فلماذا يخفي الإنسان؟ نعم تارة نحن لا نعلم، فلنقل لا نعلم، نخفي تلك الحقائق الموجودة في مكان آخر بسبب الأمور النفسيّة التي لدينا ثمّ نحصر الأمر بنا، وكأنّه ليس على وجه الأرض إلا مكان واحد وهو المكان الذي أكون فيه أنا فقط، كلاّ لا معنى لهذا، ولا وجود له، هناك ألف مكان بل آلاف الأماكن التي هي أفضل من هنا وأكثر نفعًا من هنا وأكثر مصلحة من هنا، فإذا قمنا بذلك حتّى ولو كان هناك صحّة لهذا الكلام فإنّه يدور حول الأمور النفسيّة، لا تذهب إلى مكان آخر! تعال إلى هنا! لا تقرأ كتابًا آخر! اقرأ هذا الكتاب! لا تقتد بأحد آخر، لا تتّبع إنسانًا آخر، اتّبعني أنا! لا تضع وقتك في مكان آخر اصرفه هنا... كلّ هذا الكلام يمكن أن يكون له صحّة وحقيقة ولكن الكلام يدور مدار النفس. فبمجرّد أن أطرح هذا الكلام فإنّه يصبح نفسيًّا، فالآخرون أيضًا يقومون بذلك ويقولون: لا تذهب إلى هناك! تعال إلى هنا، لا تستمع إلى ذاك الكلام بل استمع إلى هذا! لا تقبل بذاك الكلام إنّه خاطئ بل اقبل بهذا، ذاك الكلام خاطئ فتعال إلى كلامنا. فلا فرق بين الأمرين [سواء كان هناك حقّ أو باطل] فالنزاع الذي يحصل يخرج عن دائرة النورانيّة والروحانيّة ويتحوّل إلى نزاع نفسيّ، ونزاع سياسيّ ونزاع دنيويّ ونزاع اعتباريّ ونزاع مجازيّ. لماذا؟ لأنّ المعيار صار هو الالتفات إلى النفس بدلاً من الالتفات إلى المعنى، صار المحور هو الاهتمام بالنفس بدلاً من الاهتمام بالمعنى، غاية الأمر أنّه بغطاء إلهيّ، وبوجه إلهيّ وروحانيّ، فقد صارت المسألة بهذا الشكل.
فعلى هذا الأساس، وفي موضوع الزهد، يمكن أن يجعل الإنسان نفسه في حالة ـ كما تقدّم في الجلسات السابقة ـ لا يلتفت فيها إلى أنّ هذا الطريق الذي يسير فيه ويتخيّل أنّه طريق حقّ ومسير صائب، هو نفسه يتخيّل أنّ هذا الطريق طريق حقّ، ولكن في الواقع تلك الحالة التي اتّخذها لنفسه، حالة تجعله غير قادر على الخروج من هذه الدائرة، ولا يمكنه الخروج من هذا المقام.
كيف نعرف أنفسنا هل هي في زهد حقيقيّ أم كاذب؟
ولأجل الفرار من هذه المهلكة على الإنسان أن يختبر طريقه دائمًا ويمتحنه، وأن يفكّر في نفسه أنّه لو كانت هذه الحالة لآخر كيف كنت أتصرّف أنا؟ ما هي نظرتي؟ لو أنّ فلانًا الذي لا يهتمّ بي كثيرًا قال أيضًا كلامًا كهذا وسلك طريقًا كهذا وألقى كلامًا كهذا كيف كانت نظرتي إليه؟ وكيف أفكّر عنه؟ وكيف أتصوّر الأمر؟ لو شعر بينه وبين الله وبينه وبين قلبه أنّ إنسانًا جاء وسأله: ماذا أفعل في أمر كهذا؟ فلم يختلف الأمر بالنسبة إليه تعال إليّ أو اذهب إلى هناك، فليعلم أنّ طريقه صحيح.
ولكن لو رأى ولأجل رعاية بعض الأمور والمكانة التي هو فيها ولو أنّه يرى الآخر حقًّا ففي النهاية الكلام الذي يقوله كلام لا يمكن للإنسان أن يخرجه عن دائرة فكره وذهنه، فهناك كلام يطرح، وهناك مدرسة تبيّن، وقد أعطى الله للإنسان عقلاً وفهمًا وذهنًا ووجدانًا، ويمكن للإنسان أن يزن كلام الآخر بهذه المعايير التي بيده ويحدّد مقدار قربها وبعدها من الحقّ. فإن أحسّ أنّ الكلام الذي يطرح هناك متّحد مع كلامه أو ربّما يكون أرفع وأدقّ وأفضل ولا وجود لأيّ ضرر ومفسدة في ذلك المحيط فلا يمكن للإنسان أن يطرح ما هو عليه فقط على أنّه معيار الحقّ وميزانه ويعلن ذلك للآخرين. فهذه أمور ترجع إلى أشكال المحبّة والبغض.
لذلك نرى أنّه في كثيرٍ من الموارد والحركات التي تُشاهد فإنّها تُخالف لمجرد أنّ هناك اتّجاهًا معيّنًا فيها، والحال أنّها ليس لديها أفكارٌ خاطئة أو سلوكيّاتٌ خاطئة ولا يُطرح الباطل فيها على أنّه حقّ، فقط لأنّ هناك اتّجاهًا ما فيُقال إنّه في مكانٍ ما هناك اتّجاه ما ويجب أن لا يكون. وفي مكانٍ ما هناك كلامٌ معيّنٌ يُقال يجب أن لا يُقال، فانظروا هنا فإنّ الشيطان ينصب شراكه لا عن طريق الأعمال المخالفة للشرع والمعاصي والذنوب المعروفة والمشهورة، بل عن طريق اتّباع الحقّ وعن طريق الدين، فيبسط شراك صيده إلى نفس الإنسان، يجرّ زناجير الصيد والتغلّب على البعد الباطني والروحي للإنسان وهذا النوع من الأمور الروحيّة والنورانيّة والتوحيديّة والدينيّة، ويأتي بهذه الوسائل وبهذا الشكل ويجرّ الإنسان إليه، فإذا قام الإنسان بهذا العمل فإنّه يدخل في تلك الأجواء ويتّبع تلك الجماعة وتلك الإشاعة ويسلّم لها نفسه ودينه. فإذا انتهى من ذلك ينظر فيرى عجبًا لم يرتكب هؤلاء أيّ خطأٍ ولم يقولوا كلامًا خاطئًا.
كيف كانت نفوس المشاركين في عاشوراء لقتل الحسين عليه السلام ولماذا وصلت إلى ذلك؟
فالذين كانوا في أحداث عاشوراء وجاؤوا لقتل ابن رسول الله ماذا حصل لهم؟ لقد خضعوا لتلك الأجواء والإشاعات والإعلانات. وواقعًا كان الأمر عجيبًا، وقبل بضعة أيّام حدث أمرٌ فكنت أقول لأحدهم: إنّه لعجيبٌ جدًّا أن يصل الإنسان في القسوة والوحشيّة إلى أيّ المستويات! فمسألة عاشوراء عجيبةٌ جدًّا ونحن علينا أن لا ننظر إليها من نافذة أنّهم قتلوا الإمام الحسين فقط وقتلوا أولاده وأسروهم، علينا أن نأتي بواقعة عاشوراء هذه حدثًا حدثًا ونجعلها أمام أعيننا، ونجعل أنفسنا مكان هؤلاء الذين كانوا فيها وننظر ماذا كنّا سنصنع في ذلك الزمان، واقعًا لو كنّا في تلك الأجواء والإعلانات ماذا كنّا سنصنع؟ إلى أيّ طريقٍ سنُسلم زمام عقلنا واختيارنا، إلى أيّة مدرسةٍ وإلى أيّ إنسانٍ وشخصيةٍ كنّا سنُسلم ديننا؟
وإنّها لعجيبةٌ جدًّا أنّ الذين شاركوا في أحداث عاشوراء وفي قتل الإمام الحسين لم يكونوا جميعًا شاربي خمور وزناة، كانوا مصلّين فقتلوا ابن رسول الله، أي إنّهم كانوا يصومون ويصلون ويقرؤون القرآن، نعم كان بينهم شاربو خمرٍ فيزيد أمره معلوم وابن زيادٍ أسوأ حالاً منه، ولكنّ عمر بن سعد لم يكن شارب خمرٍ، لم يكن من أهل المعاصي، لو كان من أهل المعاصي لما أمكن لابن زياد أن يسلّمه قيادة الجيش، فهؤلاء ينتخبون من بين الناس الوجهاء وأصحاب الخصوصيّات، وقد كان عمر بن سعد إمام جماعةٍ في الكوفة في أحد المساجد، وكان يصلي خلفه مئات المصلين فهل التفتم؟! فهذا الإنسان يُجعل قائدًا ومسؤولاً. ابن سعد بن أبي وقّاص الذي كان أحد قادة الجيش الإسلاميّ في فتح إيران وكان من الثلاثة أو الأربعة من الصحابة الكبار المعروفين والمشهورين بين الناس وكان من العشرة المبشرين العنوان الذي اخترعه أهل السنّة، لم يُسلّم لخلافة أمير المؤمنين عليه السلام، كان يرى نفسه زميلاً وقرينًا لأمير المؤمنين ومن مستواه ويقول: إن كانت الخلافة ستصل إلى أحدٍ فيجب أن تصل إليّ؛ فقد كنت قائدًا للجيش، وقدّمت للإسلام هذه الخدمات، وسوابقي في الإسلام هي كذا. كان يرى نفسه مساويًا لأمير المؤمنين، فإنسانٌ كهذا ابنه في الكوفة إنسان ظاهر الصلاح ومعروف ويُراجعونه في الدعاوى والمنازعات.
فكانوا يختارون أمثال هؤلاء لأمرٍ مهمٍّ كهذا، ولو أنّهم كانوا يختارون شارب خمرٍ متسكّعٍ في الأزقّة لما اتّبعه اثنان، بل كانوا يختارون إمام جماعة مسجدٍ وموضع مراجعة الناس ويغرونه بحطام الدنيا وبالمراكز، وبوعدٍ بحكومة الريّ، وأنّك إذا ارتكبت هذه الجناية أعطيناك حكومة الريّ وولايتها. ومن المعلوم أنّ إنسانًا كهذا والذي كان لسنواتٍ طويلةٍ هكذا وزهده معروفٌ إذا تهيّأت له الظروف في وقتٍ ما فإنّه يظهر على حقيقته أمام الناس فيتصدّى لقتل ابن رسول الله، نعم تفضّل أنت جيّدٌ جدًّا.
لقد قلت له هذا : الآن أنت إذ تأتي لقتل ابن رسول الله فإمّا أن يكون الحقّ معك أو مع الإمام الحسين ففي النهاية كلاكما كبيران، رجلان تقتتلان، فيقتل أحدكما الآخر وينتصر. ولكن يصل الإنسان إلى مرحلةٍ يقتل طفلاً رضيعًا ـ وواقعًا على الإنسان أن يلتفت هنا ـ طفلٌ أصغر من خمس سنوات وعشر سنوات، طفلٌ رضيع يأتي عمر بن سعدٍ هذا بعينه يأمر حرملة بأن يقتله وهو على يد أبيه وبتلك الحالة، فكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هنا؟! فأين ذهبت تلك الصلوات وذلك الصيام وذلك الكلام؟! ولا عجب في ذلك، نحن نتعجّب الآن ولكن لا عجب، ألا يقع في زماننا هذا وفي عالمنا هذا من هذه الأمور؟ ففي كثيرٍ من البلدان تحدث هذه الجنايات وهذه الفجائع فما هو ذنب ابن خمس سنوات وعشر سنوات؟! وفي هذه البلدان يرتكب اليهود وأمثالهم هذه الفجائع فواقعًا ذلك الذي يرمي الرصاص ألا يدرك أنّ هذا الطفل ابن الخمس أو العشر سنوات لا ذنب له؟! هذا ما يدركه كلّ طفلٍ في العاشرة من عمره فكيف يمكن أن يصل الإنسان إلى هكذا مرحلة؟! فالإنسان الذي يصلّي ويصوم يصل بالقساوة إلى حدٍّ كبير، فهذا هو الخطر الذي لا تعجّب فيه أبدًا، فهذه هي خصوصيّة النفس وخصوصيّة الإنسان ولذلك يقولون: التفتوا التفتوا التفتوا واختبروا أنفسكم دائمًا؛ كي لا نصل في يومٍ من الأيّام إلى هنا. وإلا سنصل، سنصل يومًا إلى حيث لا يكون هناك شيءٌ مهمٌّ للنفس سوى تثبيت موقعها ولو كان هناك نبيّ لقطع رأسه وابن النبيّ أيضًا يقطع رأسه، طفلٌ رضيعٌ أيضًا ولا أهميّة لذلك أبدًا، لقد ابتلي بتلك الحالة وتلك الأوضاع وتلك الظروف؛ لأنّه لم يفكّر ولأنّه لم يختبر نفسه، لم يستنفر نفسه.
عجيبٌ جدًّا، واقعًا عجيب! كان هناك في أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام رجال وأبطال أو من الناس العاديين ولكن في النهاية كبار ومع غضّ النظر عن ذلك إمّا الحقّ هنا أو هناك، لقد خرج الإمام كما تقولون على يزيد فقاتلوا واضربوا واقتلوا هل هناك أكثر من ذلك؟! فأنتم تقولون نحن على حقّ ويزيد على حقّ وابن زياد على حقّ. حسنًا ولكن ما معنى قتل طفلٍ في السادسة أو السابعة من عمره جاء ليدافع عن عمّه ورفع يده؟ فما معنى أن تُقطع هذه اليد؟ واقعًا ما معنى ذلك؟وإلى أيّة مرتبةٍ من القسوة ينبغي أن يكون قد وصل الإنسان، وإلى أيّ مستوى من الوحشيّة والحيوانيّة والسبعيّة. لقد شوهد نمرٌ عندما يكون شبعان يمرّ من أمامه قطيعٌ من الوعل والأغنام فلا يبالي، والأسد أيضًا إذا كان بين قطيعٍ من هذه الحيوانات وأحسّ أنّه شبعان فلا يفتح حتّى عينيه ليرى. فما هذه الوحشيّة؟! ما هي تلك القسوة التي يجب أن تكون على هذا الإنسان الملكوتيّ؟ أيّة قسوةٍ يجب أن تكون مسيطرة حتى تدوس على أبده البديهيات وأكثر الأمور ضرورةً وما يحكم به الوجدان بوضوح والأوليّات الفطريّة ويتجاوز عنها بهذه البساطة، طفل ذو ستة أشهر أو خمسة أشهر فما معنى أن يُرمى بالسهم هكذا؟ ما ذنبه؟ أيّة حالة يمكن أن تطرأ على الإنسان ليرتكب ذلك؟
هذا هو الأمر الذي كنت أرمي إليه من أنّ الإنسان أحيانًا يدخل في الزهد ويصل إلى هذه المرحلة فهو زاهدٌ حتى يعدّه الجميع من أعبد العبّاد، يقضي الليل حتّى الصباح بالصلاة، ولكنّ صلاة الليل هذه حتى الصباح لا تقرّبه بمقدار رأس إبرة ، ليس هذا فحسب بل تبعده بعد المشرقين، يصوم النهار من الصباح إلى الليل، وقرآنه دائمًا معه، وذكره دائم، وطعامه ومسكنه بأيّ نحوٍ، ولباسه بأيّ طريقةٍ ولكنّه يصبح في حالةٍ من القسوة يكون مستعدًّا فيها للقيام بأيّ عملٍ للحفاظ على علوّ نفسه ومكانته وموقعه. يقوم به وينسبه إلى الله أيضًا، فهذا الذي قتل ابن الإمام الحسين والذي قتل الإمام ماذا قال؟ أليس لدينا في الروايات وفي الدعاء أنّهم يتقرّبون إلى الله بدمك، يتخيّلون أنّهم بسفك دمك قد حفظوا الإسلام.
يسفكون دم ابن رسول الله ليحفظوا الإسلام، يقطّعون طفلاً رضيعًا في الشهر السادس من عمره ليحفظوا الإسلام، يقطعون ابنة النبي أمام عين زوجها لماذا؟ لأنّ حفظ الخلافة الإسلاميّة يقتضي ذلك، نعم ليجلس أبو بكرٍ على كرسيّ الخلافة وأمر فاطمة الزهراء سهلٌ فلو جاء أبوها أيضًا لقطّعوه إربًا إربًا فهكذا هو الحساب في النهاية لأنّه يجب أن يجلس أبو بكرٍ على كرسيّ الخلافة فإنّ جميع الأمور جائزة، لأنّه يجب أن نكون نحن في الخلافة فإنّنا نقيّد أمير المؤمنين بالحبال ونجرّه إلى المسجد ونرفع فوقه السيف، إمّا أن تبايع الخلافة الآن وإمّا أن نهوي بالسيف عليك. إنّ من يفعل ذلك لا يقدر على فعله مع النبيّ وإلا لفعل ذلك به، ولكنّه لا يقدر.
وبما أنّ النبيّ قد ارتحل، بما أنّ تلك المظاهر الجذّابة التي لا يمكن للنفس أن تقف أمامها قد انتفت، وبما أنّ الأرضيّة قد صارت مهيّأة فإنّه يتقدّم، فالنبيّ ليس موجودًا الآن ليتمكّن من الكلام، الآن لم تعد فاطمة الزهراء تختلف عن الآخرين، كلا لا تختلف، يقومون الآن باستطلاع للرأي وبإحصاء وبمراقبة للأفكار، فإذا رأوا أنّه لا شأن لأحد بأحد، يقولون فلنهجم ولنضرب ولنحرق. أتخرج أم لا؟
ـ لماذا نخرج؟
ـ أبو بكر هناك جالس على المنبر كخليفة للمسلمين وأنت متحصّن هنا كحزب مخالف لقد جعلت بيتك دارًا لفريقك ـ فهذا ما يقال الآن في اللغة المعاصرة ـ جعلت هذا المكان لفريق سلمان وأبي ذرّ والمقداد والزبير الذين اجتمعوا هنا ضدّ نظام الخلافة، فإمّا أن تخرج وإمّا أن نجرّكم فردًا فردًا، لماذا؟ لأنّكم وقفتم في مواجهتنا لا في مواجهة الله، في مواجهتنا نحن، وإلا فالله ليس لديه قتل لابنة النبيّ، الله ليس لديه إلقاء الحبل في عنق أمير المؤمنين، الله ليس لديه خلافة بالقوّة. فعندما وصل أمير المؤمنين إلى الخلافة تنحّى سعد بن أبي وقّاص هذا فقالوا: يا عليّ إنّ سعد بن أبي وقّاص قد تنحّى جانبًا وقال أنا لا أسلّم ولا أبايع فقال الإمام: الأمر إليه إن شاء بايع وإن شاء لم يبايع. فهذه هي الخلافة الإلهيّة، إن شئت بايع وإن شئت فلا تبايع، فقد أجبروني عليها وكسروا باب داري لأجل الخلافة، فنحن لم نقاتل لأجل الوصول إلى هذه الخلافة، ونحن لم نقتل بنت رسول الله، ولم نهدّد الآخرين ولم نقتل مالك بن نويرة ولم نزن بامرأته، نحن لم نصل إلى الخلافة هكذا، لقد جاؤوا إلينا وكسروا باب دارنا، وكاد ابناي أن يعصرا بين البابين، ففي أحد البابين كان الإمام الحسن واقفًا، وفي الآخر كان الإمام الحسين وكانا لا يدعان الناس تدخل ويقولان: لقد جلس أبونا هنا خمسًا وعشرين سنة مرتاحًا فماذا تريدون منه؟ مرتاحًا يعني لا أحد له شأن به. فماذا بكم الآن؟ لماذا لم تأتوا قبل خمس وعشرين سنة؟! هكذا وصلت الخلافة إلى أمير المؤمنين. قالوا كلاّ لا بدّ أن يكون عليّ، وضغطوا وكاد الإمامان الحسن والحسين يعصران خلف البابين، فهكذا دخل الناس إلى دار أمير المؤمنين، والحمد لله أنّهم لم يدخلوا إلى القسم الداخلي من الدار واقتصروا على القسم الخارجيّ منه، والحاصل أنّهم جذبوا أمير المؤمنين إلى وسط الدار وقالوا يا الله، وأعطوه حقّه في يده بهذه الطريقة.
هذه الخلافة خلافة إلهيّة، وتلك الخلافة خلافة شيطانيّة. والآن إذ يعيش الناس هذه الظروف...، نعم هؤلاء الجماعة الخاصّة التي تدير الأمور مثل المغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن عوف وأبي بكر وعثمان وتلك الجماعة الخاصّة التي كانت تنتظر الفرصة لكي يرتحل النبيّ فينفّذوا خطّتهم، فهؤلاء في جانب، ولكنّ هؤلاء العوامّ ما حالهم؟ ما حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يصلّون خلف النبيّ والذين كانوا دائمًا يطيعون النبيّ فهؤلاء ماذا؟ هؤلاء لم يكونوا قد عرفوا أنفسهم، قد أضاعوها، لذلك ما إن تتغيّر الوجوه ويتغيّر الظاهر تتساقط الأقنعة وتظهر الصورة الباطنيّة، والصورة الباطنيّة تختلف، فلا فرق بين أن يكون عليّ على المنبر أو أبو بكر، المهمّ أن تكون هناك صلاة في مسجد المدينة، وأيّ الناس تقدّم فإنّا نصلّي خلفه، فهذا التفكير تفكير العوام. يجب أن تكون هناك صلاة ولا يهمّنا من هو الإمام، يجب أن يكون هناك صوم، ولا يهمّنا من هو القائد، أو مثلاً يجب أن يكون هناك إسلام ولا يهمّنا من يكون في القيادة، فكلمة لا يهمّنا لا يهمّنا هذه تنتهي بالأمر إلى أن يصيب ابنة النبيّ ما أصابها، ويصيب الإمام الحسن ما أصابه، ويلقى الإمام الحسين ما لقي في كربلاء. فهناك يزيد هو خليفة، وقد أخطأ الحسين بن عليّ إذ خرج وتكلّم بهذه الأمور! اذهب إلى بيتك وما شأنك بهذه الأمور؟! دع الناس تعيش حياتها فلماذا تثور على الناس؟ والآن أرسل هؤلاء الناس أنفسهم رسالةً، أرسلت الكوفة رسالةً نعم عندما وصل يزيد إلى الخلافة. قال الإمام الحسين وفق الصلح الذي أجراه أخوه الإمام المجتبى عليه السلام مع معاوية: أنا لا أسلّم فإن شئت فاقتلني. هذا هو الإمام الحسين. لقد أرادوا أن يقتلوه هنا في المدينة خفيةً فرأى الإمام أنّه لا ينبغي أن يكون الأمر بهذه البساطة، يقتلونني ويمضون إن كان لا بدّ أن أقتل فلماذا هكذا؟ لقد كان للوليد في المدينة وفق أوامر يزيد خطّة أن يقتل الإمام بالطريقة التي قتل فيها عبد الله بن عمر في طريقه إلى الحجّ أيّام الحَجّاج حيث ضربه عبد الملك بن مروان بسكّين مسموم في رجله فمات بعد ثلاثة أيّام، فقد كانوا يقومون بهذه الأعمال، فكانوا يأخذون حبّة مسمومة أو طعامًا مسمومًا أو شيئًا ما فيدعون من أرادوا إلى منزلهم، وحسب شدّة السمّ بعضهم يموت بعد أسبوع وبعضهم بعد ثلاثة أيّام وبعضهم بعد عشرة أيّام، وبعضهم بعد شهر، فيقولون أصيب بمرض الحصبة وأصابه اليرقان وتوقّف كبده عن العمل فتوفّي. لقد أرادوا أن يقتلوا الإمام الحسين بدون ضجيج هكذا في المدينة، فقال الإمام: إن كان لا بدّ من ذلك فلماذا أقتل هكذا؟ فخرج من المدينة وانتقل من دائرة حكومة الوليد إلى مكّة فوصلت الرسائل وتلك الأمور وانتهت إلى تلك الأحداث. صحيح؟
فإذن هؤلاء الناس يأتون ويسيرون في هذا الطريق لماذا؟ لأنّهم لم يجلسوا ويفكّروا، لم يجلسوا ويتأمّلوا بأنّه ما معنى أنّه كلّ من صار خليفة فلا فرق؟ كلّ من صار إمام مسجد فلا بأس؟ ما معنى المهمّ أن يكون هناك صلاة؟ فعلى الإنسان أن يصلّى مع إمام عادل لا مع أيّ إمام، ولا يمكن لأيّ إنسان أن يكون خليفة، لا بدّ أن يكون الإمام المعصوم عليه السلام هو من يمسك بزمام الخلافة الإلهيّة في الأرض حتّى يتّبعه الإنسان. فما معنى أن يأتي هذا ويأتي ذاك؟ فلو كان يزيد أو الإمام الحسين فلا فرق، ولو كان أبو هريرة أو أبو الدرداء فلا فرق! كلا ليس الأمر كذلك، فهذه الطريقة من التفكير تسير بهم وتسير إلى أن يشاركوا في حادثة عاشوراء ويقتلوا حتّى طفل الإمام الحسين الرضيع.
وطبعًا كان هناك اختلافٌ بين المشاركين في كربلاء ولم يكن الجميع حرملة، فكانوا في مراتب من الشقاء وربّما لم يكن بعضهم مستعدًّا لقتله، كما أنّ الكثيرين لم يكونوا مستعدّين لقتل الإمام الحسين فقد كان هناك واحدٌ مثل الشمر بكلّ جرأة قد بلغ الكمال في مرتبة الشقاء والقسوة لكي يتمكّن من ارتكاب هكذا فجيعة، فهؤلاء أيضًا كانوا مراتب، ولم يكونوا في مستوى واحد ولكن ألم يكونوا سواد الجيش؟! ألم يأتوا لقتال ابن النبيّ؟!
من أحوال السيّد الميلاني والشيخ حسين القمّي والسيّد البروجردي في مواجهة رضا شاه
إنّ الاهتمام بالوضع الذي هو عليه الإنسان في الحال من أهمّ الأمورالتي يجب على السالك أن يهتمّ بها ويختبرها بالموازين التي في ذهنه، فلا يحصل في وقتٍ من الأوقات مخالفةٌ لا سمح الله، ينقل المرحوم العلامة أنّ الحاج حسين القميّ رحمه الله مرجع التقليد في زمانه والذي كان في كربلاء... قد زاره ذات يوم السيّد الميلاني رحمة الله عليه ـ وهو من المراجع الماضين ومن الأعاظم وله حالاتٌ روحيّةٌ أيضًا وكان المرحوم العلامة يقول إنّه في أواخر حياته حصل له انقطاعٌ في الجملة، وكانت له حالاتٌ روحيّة وقد سمعت بنفسي من العلامة الطباطبائي رحمه الله أنّه كان يُرجع الناس إليه وحده في حياته، فالذين يراجعونه في التقليد كان يقول لهم: ارجعوا إلى السيد الميلاني. وهو بنفسه كان على علاقةٍ وثيقةٍ به، وفي الصيف عندما كان يتشرّف بزيارة مشهد كان يحلّ ضيفًا في منزله، وكان يصلّي خلفه في الصحن الشريف، وكنت حينها صغير السنّ في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، وكنت أذهب فأرى أنّ العلامة الطباطبائيّ يقتدي في الليل بصلاتي المغرب والعشاء به وهو في الصفوف الأخيرة، كان رجلاً عظيمًا جدًّا السيد الميلاني هذا، ومن الواضح من حالاته أنّه في الجملة كانت له علاقات ما وحالات، وكان الذين يتواصل معهم مفيدين له ـ وفي زيارةٍ له إلى كربلاء أثناء تلك الأحداث التي وقعت أيّام رضا شاه حين أمر بنزع الحجاب وكانت أوضاع إيران مشتعلة وجعل المدارس مختلطة، فمن جملة الأمور التي قام بها آنذاك أنّه جعل المدارس مختلطة أي المدارس الثانويّة، ومنها مسألة نزع الحجاب، ومنها نزع العمائم، فهذه أمورٌ ثلاثة قام بها وكان الأمر عليها مدّةً، فاشتعلت التوتّرات في إيران حينها وقد نقل المرحوم الوالد عن أحوال ذلك الزمان أمورًا وحكايات بعضها موجودٌ في مخطوطاته وكتبه.
كانت كلّ الأنظار متوجّهةً إلى الحاج السيّد حسين القميّ، فقد كان مرجع تقليدٍ آنذاك فذهب السيد الميلاني في أحد أسفاره إلى كربلاء للقائه ـ يقول المرحوم العلامة إنّ السيد الميلاني نفسه هو الذي نقل هذه القصّة له ـ فقلت له: أنت الآن مرجع تقليد والآن حالك هكذا وقد بلغت هذه المكانة بحيث إنّ الجميع ينظرون إليك فما تأمر به يطيعونه، وبعبارةٍ أخرى لقد جعلوك في مقام إمام الزمان عليه السلام وينظرون إليك نظرتهم إلى الإمام عليه السلام، فما هي نظرتك وشعورك إلى اعتقاد الناس هذا؟ وماذا تحكم فيه؟ قال ما إن قلت للسيد القميّ هذا الكلام ـ وكان رجلاً صالحًا وتقيًّا جدًّا وهو الذي جاء إلى إيران وثار على رضا شاه وكان مطلبه التراجع عن هذه الأمور الثلاثة التي منها مسألة العمائم وأن يُجازَ من جديد لبسها والأمر الثاني مسألة الاختلاط في المدارس والثالث مسألة نزع الحجاب والتي كانت أكثر وقاحةً وقذارةً من الجميع. طبعًا كان يعمل بأمر الإنكليز، فقد كان عميلاً لهم، فلما رأى أنّ هذه الأمور لم تُقبل ذهب إلى الشاه عبد العظيم وجلس هناك معتصمًا حتّى تتحقّق هذه الأمور، فأرسل إليه السيّد البروجردي رحمه الله رسالةً أنّه إذا أردت أن نكون إلى جانبك فنحن مستعدّون وكان حينها في بروجرد وإيلات، وكان هناك الكثير من الناس والعشائر معه، فخاف رضا شاه وكان لهذه الرسالة أثرٌ كبير وأدّت إلى أن يأمر بالتراجع عن هذه الأمور الثلاثة ولم يعد هناك إجبار، فهذا الأمر كان يرتبط بالسيّد البروجردي وكان هو أيضًا رجلاً عظيم الشأن، وهو من الناس الذين ينبغي الحديث عنهم أكثر، ويجب أن تبيّن خصوصيّاته أكثر ويبدو أنّه لم يُكتب ولم يُتحدّث عنه وعن شخصيّته وكيفيّة إعراضه عن الأمور واهتمامه كما ينبغي، وتمّ التجاوز عن ذلك بسرعة. فأرسل رسالةً للسيد حسين القميّ الذي كان معتصمًا في حرم الشاه عبد العظيم، فلمّا حدث ذلك تراجع عن هذه الأمور فقد كانت شخصيّته هكذا.
كان السيد الميلاني يقول للوالد: عندما قلت للسيّد حسين القميّ ـ وكان ذلك بعد صلاة الظهر وبعد التعقيبات حيث ذهبت إليه وكلّمته ـ طأطأ رأسه مدّة خمس دقائق ولم يقل شيئًا فلما رفع رأسه رأيت لونه أسود؛ فقد أثّر فيه ذلك كثيرًا. فهل رأيتم كيف يمكن أن يكون الإنسان في موقعٍ ما وهو يظنّ أنّه على صواب؟! لم يكن السيد حسين القميّ ممن يرتكبون الأعمال المخالفة للشرع فقد كان مرجع تقليد وكان يختلف عن سائر الناس وكانت حالاته وخصوصيّاته تدلّ على أنّه من أهل الصلاح ولم يكن يميل إلى الدنيا ويبالي بهذه المراكز والمناصب ولكن أحيانًا تسبّب هذه الانشغالات وهذه المراكز والأوامر والنواهي وصرف الأوقات والدراسات والمحاضرات وجواب الاستفتاءات ورفع الحاجات أن لا يفكّر الإنسان بنفسه كما يجب، وأن لا يعرف واقع نفسه كما يجب، لذلك إذا سمع كلامًا من إنسان أنطقه الله فإنّه ينقلب فجأةً ويتغيّر وتتبدّل حالته ويلتفت إلى أنّه ماذا عليه أن يختار، وهذا الأمر يرتبط بنا جميعًا.
حقيقة الزهد والعمل بالتكليف
فليس الزهد أن يسير الإنسان في طريقٍ خالٍ من التعلّق، يجب أن يكون باطن الإنسان بالنسبة إلى هذه المسألة باطنًا لا يبالي بهذه الأمور. وبعبارةٍ أخرى: ما ينبغي النظر إليه في موضوع الزهد هو هذا: ما يرى الإنسان أنّه تكليفٌ إلهيّ في هذه الدنيا فعليه أن يقوم به ولا يتجاوز عنه، وأن ينظر إلى هذا الجانب الإلهيّ في جميع علاقاته كخطوةٍ أولى، ثمّ ينظّم عمله بما يقتضيه هذا الجانب الإلهيّ ففي مكانٍ يتقدّم وفي آخر لا يتقدّم، وفي مكانٍ يعظّم وفي آخر لا يعظّم، وفي مكانٍ يقدّم خدمةً وفي آخر لا يقدّم، في مكانٍ يقف وفي مكانٍ يجلس، في مكانٍ يكون كما هو المتعارف بالنسبة إلى الأمور الظاهريّة وفي مكانٍ يتنحّى جانبًا، فعدم التعلّق بالدنيا وعدم التعلّق بالهوى يجب أن يكون له منشأ عقلانيّ، وهذا المنشأ العقلاني هو توجّه النفس إلى الباطن وتوجّه النفس إلى الله. مثلاً ماذا ينبغي أن يُفعل هنا؟ الناس يقولون هناك إفراط فليقولوا. الناس يقولون هناك تفريط فليقولوا، إنّه ينقص رعايةً للناس ومباهاةً فليقولوا. هنا يقول الناس إنّه ينفق كثيرًا فليقولوا. إن كان الأمر يقتضي فيجب، فإن قالوا أنفق الملايين والمليارات فليفعلوا. كلّ ذلك زهدٌ.
في موضعٍ ما يجب أن لا ينفق عندما يتوقّع منه الجميع ويدورون ويقولون: يا سيّد فلان أعطنا هذا المقدار ويا سيّد فلان أعطنا نريد أن نبني مكانًا حسينيّةً أو مسجدًا فأين ننفق؟ هناك يُبتلى بالمجاملات وينفق فهذا ليس زهدًا ولا يسجّل في حسابه شيء حتى قرش واحد ولا فائدة منه أصلاً، وهناك ينبغي أن لا يُنفق، وهناك ينبغي أن يقول بصراحة إنّ السيّد فلان ليس لديه مال، عليه أن لا ينظر إلى الناس بل عليه أن ينظر ما هو الأمر الذي يراه، ففي موضعٍ زيادةٌ وفي موضعٍ نقصان وليس المقصود الإفراط، فالإنفاق الزائد يختلف عن الإفراط. في مكانٍ يتكلّم وفي مكانٍ لا يتكلّم، يجتمعون في مكانٍ ما أن تفضّل وتكلّم هنا يا سيّد، أفض علينا، أفدنا، الآن الناس يتوقّعون، إن كانوا يتوقّعون فليتوقّعوا لأنفسهم لا معنى لهذا التوقّع، وفي موضعٍ هناك داعٍ لأن يتكلّم فيجب أن يتكلّم ويقول كلامه، يقولون له إن تكلّمت بهذا الكلام فيمكن [أن يسيء إلى أحد معيّن] فليكن، يجب أن يُطرح الأمر ويجب أن يصل الكلام إلى أسماع الناس.
إذا عمل إنسانٌ بهذا وكان في هذا السياق يُسمّى زاهدًا، هذه أوّل درجة التقوى، فإذن التقوى تعني الوقاية، أن يقوم الإنسان بجميع أعماله على أساس العقل، فهؤلاء الذين جاؤوا جميعهم وقعوا في المشكلات والانحراف فماذا كان هؤلاء؟ كانوا معروفين بين الناس بالزهد والإعراض، وقد كنت أرى بنفسي بعضهم في المجالس عندما تقدّم الفاكهة، فعندما تُقدّم الفاكهة يأخذ الإنسان واحدة ولكنّ بعض هؤلاء كانوا يحاولون أن يأخذوا أصغر واحدةٍ منها ويُظهرون للجميع أن ها نحن قد أخذنا الأصغر، عندما تُقدّم الفاكهة فإنّ مراعاة الأدب تقتضي أن يأخذ الإنسان ممّا أمامه لا أن يبحث عدّة مرّات وينتقي الأفضل فهذا نوع آخر، كلاّ بل ما هو أمام كلّ إنسانٍ فهو نصيبه فليأخذه وليضعه أمامه.
فلو كان هناك إنسانٌ يفعل ذلك عمدًا فلا يأكل من الطعام الموجود وسط المائدة فيجلس جانبًا ويأكل الخبز والجبن مثلاً فلو فعل إنسانٌ ذلك عمدًا فماذا سيكون؟ كلّ ذلك خداعٌ، كلّ ذلك لخداع الناس الموجودين هناك، لخداع الناس. وهؤلاء هم الذين ابتلوا بالانحراف في الولاية وفي المعتقدات وفي الخصوصيّات (النفسية) ، فلتأكل يا سيدي.
السيّد الحدّاد: اجعل بدنك مركبًا لك ولا تكن مركبًا له
كنت يومًا عند السيّد الحداد رحمة الله عليه وحينها كان ذهني مشحونًا بهذه الأفكار الخاطئة ـ وكان عمري يقارب السادسة عشرة أو السابعة عشرة ـ وكان يقال في النهاية: ينبغي للإنسان أن لا يأكل كثيرًا. وذات يوم كنّا جالسين على المائدة فقال المرحوم العلامة للسيّد الحداد: سيّدنا انصح السيّد محسن؛ هذا فقد صار زاهدًا عابدًا لا يمدّ يده إلى طعامٍ ولا يقوم بشيء. فنظر إليّ السيّد الحداد وقال: يا سيّد محمد محسن قم بعملٍ يجعل جسمك مركبًا لك دائمًا. انظروا انظروا كيف يتكلّم العارف، عارفٌ لم يدرس الفلسفة ولا هذه الأمور ولا كتب علم الإجتماع ولا كتب الطبّ والصحة. قم بعملٍ في تناولك الطعام يجعل جسمك مركبًا لك دائمًا لا أن تكون أنت مركبًا له ويستحقّ هذا الكلام أن يأخذه الإنسان ويكتب فيه كتابًا، فلو تحدّثت الآن... ففي النهاية خلقنا الله بهذا الجسم أم لم يخلقنا؟ أليس لهذا البدن حاجات؟ ما إن أترك التنفّس أختنق وأموت وهكذا يحتاج جسمي إلى الطعام فإن لم أتناول الطعام أموت، وإن لم أمت ستتوقّف معدتي عن العمل، ستتوقّف كليتي، سيتوقّف قلبي، سيتوقّف كبدي، وسينشأ ألف مرضٍ، وحينها بدلاً من أن أشتغل بالمطالعة وبنفسي سأنتقل من هذا الطبيب إلى ذاك ومن هذا المستشفى إلى ذاك، ومن هذه العمليّة الجراحية إلى تلك، ومن هذا الدواء إلى ذاك، وسأُنفق من المال أكثر ممّا كان يجب عليّ إنفاقه في البداية وفق الطريق العقلائي والطريق المنطقيّ وما يُدركه العقل بمئات المرات، عليّ أن أنفق في شراء الدواء ففي النهاية المال هو المال لا يختلف، فمن هنا أترك تناول الطعام المناسب فأبتلى بألف مرضٍ ويجب أن أُنفق من المال في مائة مكانٍ آخر، فما هذا؟! إنّه حماقةٌ يا عزيزي وليس زهدًا، إنّه جهلٌ وحماقة.
على الإنسان أن لا يبالغ أيضًا بل يقوم بالمقدار الضروري لحفظ نفسه وصحّـته وأنا لم أفعل ذلك فابتليت وابتليت. انظروا ماذا يقول العارف في حين أنّه هو نفسه لم يكن يتناول الطعام، وقد كنت أريد أن أقارن نفسي به إذ رأيته كذلك. كلا فإنّه إن لم يكن يتناول الطعام فإنّ حاله كان مختلفًا وأمره مختلف وكان في مرحلةٍ أخرى. والمرحوم العلامة نفسه كان يقول وذكر ذلك في كتاب الروح المجرد أنّنا إذا ذهبنا لتناول السحور معه نجده يتناول الخبز والخضار فكنّا نأكل معه فقضينا اليوم الأوّل بصعوبةٍ بالغة وفي اليوم الثاني أيضًا قضيناه بهذا الطعام من الخبز والخضار ولم يكن من أيّ نوعٍ من الخضار بل أوراق الفجل، كان يقول أكلنا معه فرأينا أنّه حتى وقت الظهر انتهى أمرنا ولم نعد نحتمل، فكنّا نأكل الخضار والخبز عند السيّد الحداد ونذهب سريعًا إلى البيت فنقول للأهل ائتنا بالطعام الذي أعددته، ففي النهاية لكلٍّ منهم حالةٌ خاصّة ومزاجٌ خاصّ وخصوصيّات، وعندما كنّا عند السيّد الحدّاد كان يسكب لنا الطعام بالقوّة ويقول: يجب أن تأكل، فلو قلت: لا أريد أن آكل، أريد أن آكل مثلك فهذه حماقة.
قم بعملٍ يجعل جسمك مركبًا لك أي أن تكون أنت الراكب على جسمك وتستفيد منه في كمالك لأجل روحيتك، لأجل ترقيك، لأجل دراستك ومطالعتك، لأجل عملك، لا أن تكون أنت مركب جسمك ويمتطيك هو ويقول لك خذني اليوم إلى هنا وأعطني هذا الدواء، وخذني اليوم إلى هذا المستشفى، فما هذا؟ ثم بعد ذلك نحن نسميّه زهدًا، كلا يا عزيزي هذا ليس زهدًا. الزهد هو أن يجعل الإنسان تعلّقه بالدنيا ومظاهرها بنحوٍ لا تتخذ هذه المظاهر روحه ونفسه مركبًا، إن كان في مكانٍ ما فلا يتعلّق به قلبه وإن كان في مقامٍ ما فلا يتعلّق به قلبه فلو قيل له اليوم يجب أن تترك هذا وتترك كلّ الأعمال التي أدّيتها على الأرض وتمضي إلى مدينةٍ أخرى تعيش فيها من جديد. يقولون لك اليوم كلّ هذه الأعمال التي قُمت بها والجهود التي بذلتها والعلاقات الإجتماعية التي أقمتها والكلمات التي ألقيتها والأعمال التي تقوم بها اتركها جميعها واذهب إلى مدينةٍ أخرى، اذهب إلى "ساوة" واستوطن هناك مهما كان شغلك فاشتغل هناك سواء كنت تاجرًا أو طبيبًا أو عالمًا فلا يرتبط قلبك بهذا المكان، هذا هو الزهد لا أن يقصّر الإنسان بالأمور أو يبالغ.
ألم يكن هؤلاء الذين ارتكبوا الأخطاء والذين حدّثتكم عنهم ألم يكن كثيرٌ منهم معروفين بالزهد بين الناس؟! وهذا الزهد نفسه هو الذي قضى عليهم، هؤلاء الذين كتبوا ضدّ مدرسة التشيّع وخلاف المباني الأوليّة للشيعة وأنكروها فهؤلاء كانوا معروفين بين الناس بالزهد والتقوى، هذه التقوى المعروفة بين العوام لا التقوى الحقيقيّة فلماذا وقعوا في هذه الأخطاء؟ لأنّ هذه الحالة سبّبت أن يُسلب منهم الفكر ولا يستعملوه ولا يستعملوا العقل ولا المنطق، لقد أخذتهم الأمور الظاهريّة بغير تدخّلٍ للعقل والمنطق وجعلتهم في موقعٍ قطعتهم فيه عمّا وراء دائرتهم الخاصّة وهو دائرة الحقائق، كانوا معمّمين ولكنّ العلاقة منقطعة، كانوا من أهل الدراسة ولكنّ العلاقة منقطعة، يصلّون صلاتهم بلفظٍ صحيح وبدقّةٍ كاملة ولكنّ العلاقة منقطعة، علاقاتهم بين الناس بنحوٍ تجعلهم وجهاء ولكنّ العلاقة مقطوعة، وحيث إنّ للحقّ والحقيقة حسابًا خاصًّا فلا يمكن أن يكون هناك إنسانٌ مقطوع العلاقة ويطأ دائرة الحقيقة، الحقيقة تعني القرب، الحقيقة تعني النور ـ وإن شاء الله في تلك الرواية التي كنت ناويًا أن أقرأها اليوم للرفقاء ولكن انتهت الفرصة وإن شاء الله سأذكرها في الجلسة القادمة وفيها أنّ كلّ عملٍ يقوم به الإنسان إن كان فيه حقيقةٌ فإنّه يشعر بنفسه أنّه تقدّم واقترب وإن لم تكن فيه حقيقة ... وقد شوهد أحيانًا أنّ الإنسان يقوم بأعمالٍ وفجأةً يجد أنّه انقبض ولا قدرة لنفسه عليه رغم أنّه يقول إنّه جائزٌ، رغم أنّه يقول لا إشكال فيه ولكن عندما يقوم به الإنسان يجد أنّه ليست لديه حالة توجّه للصلاة فليعلم أنّ في هذا الأمر شيئًا، فيه أمرٌ ما مخفيٌّ عن الآخرين، فيه نقطةٌ ما لأنّه لم يكن هناك اطّلاعٌ عليها قيل في حقّه ذلك وأنّه لا إشكال فيه وما أوتيت من العلم إلا قليلاً، يمكن أن يكون هناك أمرٌ خفيٌّ على كثيرٍ من الناس ويُدلون برأيهم عن عدم اطّلاع فيكون رأيهم مخالفًا للحقّ وقد جعل الله في الإنسان نورًا ووجدانًا يمكن للإنسان من خلاله أن يعرف هذه الحقيقة وإن قال الآخرون شيئًا آخر، وإن كان إنسانًا عاديًا فلكلّ إنسانٍ سجلّه الخاصّ به، والله على أساس هذا السجل وعلى أساس تلك الخصوصيّة التي جعلها فيه يفعل به ما هو مفيدٌ له.
إن شاء الله تبقى تتمة الكلام إلى الجلسة اللاحقة ونبيّن ما هي حقيقة التقوى والزهد وخصوصيّتهما إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.