المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
تشتمل المحاضرة على ثلاث نقاط رئيسيّة؛
- الأولى في قاعدة تساوي الرجل والمرأة واختلافهما؛ فهما متساويان في مقام النشأة والإيجاد والنفخ وتجلي الأسماء والصفات الإلهيّة وبلوغ مراتب الكمال، ومختلفان في الظهور والسعة الوجوديّة والوظائف.
- والثانية أن القانون الإسلاميّ هو قانون عامّ وشامل ينطبق على جميع البشر حتّى المعصومين.
- الثالثة في كيفيّة انطباق القاعدة على السيّدة الزهراء عليها السلام مع ما هي عليه من حجيّة. وفي أنّ الإنس والمَلَك والجنّ والشيطان مختارون لا مجبورون.
هو العليم
النساء ومقام الخلافة الإلهيّة
المرأة والأسرة - قم - الجلسة الخامسة عشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
إن كان لدى إحدى السيّدات سؤال فيما يتعلّق بالمواضيع الّتي تمّ طرحها في المجالس السابقة، فلْتتفضّل بطرح سؤالها.
مقام الرجل والمرأة واحد من حيث النشأة والتجلّي والعرفان
سألتْ إحدى السيّدات ما يلي: بالرجوع إلى ما أشرتم إليه في مجالس شرح حديث عنوان البصريّ وفي مجالس النساء، نستنتج أنَّ المرأة تستطيع بلوغ نفس الدرجة من الكمال الّتي يستطيع الرجل أن يبلغها، فإن كان الأمر كذلك، فما هو السّر الكامن وراء نقصان إيمان المرأة؟
جواب سماحة السيّد: إنَّه سؤال جيّد، على أنَّ السيدة صاحبة السؤال لو كانت قد تمعّنتْ بدقّة أكثر، لوجدتْ إجابتي على هذا السؤال في مجالس شرح حديث عنوان البصريّ. والآن ومِنْ أجل توضيح أكثر للأمر، وبناءً على وعدي بالإجابة على السؤالين اللذَين تقدّمتْ بهما السيدة، أقول:
إن كنتم تتذكرون ما جاء في تلك التسجيلات الصوتيّة، حيث ذكرتُ أنَّ الله قد جعل لكلّ من الرجل والمرأة خِلقة حقيقيّة وواقعيّة وجعل بداية وجودهما تنطلق من نقطة واحدة {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ}۱، يعني يا أيّها الناس – وكلمة الناس تشمل الرجال والنساء معًا – لقد خلقتكم من نفس [الدرجة، مِنْ درجات] ذلك السلّم. وفي هذه الآية إشارة إلى أنَّ خَلْقَ الإنسان، سواء الرجل والمرأة، قد ابتدأ من نقطةٍ ناسوتيّةٍ واحدةٍ، وهي المتمثّلة في آدم وحواء. وأمّا من الناحية الملكوتيّة فقد أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى هذا الأمر في قوله {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ}٢، إنَّ هذه الآية تتعلّق بسجود الملائكة لآدم، وهي آية عجيبة تحكي عن مرتبة أصل وأساس خِلقة الإنسان، الّتي أهّلَتْه لأن تسجد له الملائكة. أمّا الآيات الّتي يقول الله فيها بأنَّه نفخ في الإنسان من روحه، رجلًا كان أو امرأة، فهي آيات كثيرة وقد وردت بصِيَغٍ مختلفة، جاء في إحدى تلك الآيات {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ}٣، فهذا (الخلق الآخر) هو عبارة عن مبدأ ومنشأ تَكَوُّنِ الإنسان.
التفاوت بين الجنسين يكون في الآثار والسعة الوجوديّة
في هذه الآيات بيان لتفاوت مراتب الخلق من ناحية الآثار الوجوديّة لعالم الوجود، والّتي حصلت نتيجة اتصاف المخلوقات بصفات الحضرة الأحديّة؛ فكان الإنسان مِنْ بين جميع الموجودات هو المخلوق الوحيد الّذي يمتلك قابليّة الاتصاف بجميع صفات الحضرة الأحديّة. إنَّ مثل هذه القابليّة على الاتصاف بتلك الصفات توجب – في واقع الأمر – أن يكون وجود الإنسان هو الوجود المتنزّل في رتبة أدنى من وجود الحضرة الأحديّة، غير أنَّه يختلف عنه من ناحية السعة الوجوديّة الذاتيّة للحضرة الأحديّة في مرتبة الذات، كما ويختلف عنه في السعة الوجوديّة الأسمائيّة والصفاتيّة غير المتناهية.
إنَّ كلّ فرد من أفراد النوع الإنسانيّ محدود بسعة وجوديّة خاصّة به؛ فإن نظرنا إلى الذوات المتواجدة في هذا المجلس، لن نعثر على اثنتين تمتلكان نفس الصفات الوجوديّة أو الاستعداد أو المَلَكات الشخصيّة، هذا من ناحية [تطابق الصفات]. أمّا من ناحية امتلاكهنّ للصفات اللازمة لذات الله، فجميع المتواجدات في هذا المكان تمتلكْنَ هذه الصفات، ولا تستطيع إحداهُنَّ أن تقول: أنا لا أمتلكها.
وهذا هو الّذي أوجب على الملائكة أن تسجد لآدم، على أنَّ سجود الملائكة هو سجود لله في واقع الأمر، إذ لا يجوز السجود لغير الله.
الفرق بين السجود والتواضع في تفسير بعض الآيات
إنَّ سجود الملائكة لآدم لم يكن بمعنى التواضع له كما قال بعض المفسّرين. أفلم يكن الله قادرًا على أن يقول للملائكة: تواضعوا لآدم، بدل أن يقول لهم: اسجدوا لآدم؟! فالله يقول في الآية الكريمة {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}۱، فهذا أمر بالسجود بمعنى نفس السجود لا بمعنى آخر. وجاء في آية أخرى {وللهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ}٢، فقال البعض أنَّ المقصود من السجدة هو التواضع أيضًا، معلّلًا ذلك بأنّه: كيف يمكن لهذا القَدَح أو لهذه الورقة أن تسجد، وبما أنّه لا معنى لسجود هذه الأمور، فالمقصود حينئذ من السجود في الآية هو التواضع. [أقول إنّ ما دعاهم لهذا القول هو] أنّهم لم يعرفوا معنى للسجود غير وضع الجبهة على الأرض أو التربة، والحال أنّه يوجد معنى [آخر] للسجود وهو مقام تفويض الاختيار والإرادة لله الّذي هو المبدأ الأوّل، وبمعنى إظهار العبوديّة في مقابل إرادة ومشيئة الله؛ فمَنْ يسجد لله كأنّما يقول: ليس لي إرادة أو طلب أو استقلال في ذاتي وأسمائي وصفاتي، بل إنَّ ذاتَكَ وأسماءكَ وصفاتكَ يا ربِّ هي المسيطرة على جميع العالم، ولا وجود لأيّة قدرة سوى قدرتكَ، ولا إرادة سوى إرادتكَ، ولا قوّة سوى قوّتك. فهذا هو معنى السجود، وهو ما يظهر مِنْ الإنسان على تلك الهيئة [البدنيّة المعروفة].
فما الّذي كان يريد أن يقوله [بسجوده]، ذلك الّذي كان يسجد للملوك ولفرعون ولنمرود ولجبابرة العصور؟ إنَّه كان يريد بسجوده أن يقول: لا إرادة أو قدرة لي خارج إرادتكَ وقدرتكَ أيّها الملك، فروحي وشرفي وأموالي هي تحت تصرّفكَ. هذا ما كان يعنيه بسجوده، فكأنّه يقول: أنتَ مالك رقابنا.
وعليه فليست المسألة مسألة تواضعٍ، فإنَّ السجود غير التواضع؛ لأنّ معنى التواضع هو إبراز المسكنة والهوان مع الحفاظ على استقلال وشخصيّة المتواضع، كتواضع أحدنا لأبيه أو أمّه؛ فهو لا يضع جميع إرادته تحت تصرّفهما في تواضعه هذا. وكتواضع التلميذ لمعلّمه، وكتواضع المرء لِمَنْ هو أكبر منه سنَّاً؛ فهو بتواضعه هذا لا يقول: ليس لي أيّ استقلال، وأنا فارغ وصفر وعدم في قِبَالِكَ، وأنت كلّ شيء! كلاّ، لا يكون الأمر بهذا الشكل، بل هو بتواضعه يقصد أنَّه يرى نفسه صغيرًا في مقابل هذه الشخصيّة وهذه القِيم. وهذا أمر ممدوح بحدّ ذاته، ولا يوجد أيّ إشكال فيه.
ولهذا ورد في الآداب استحباب أن يقبّل الزائر عتبة الباب عند دخوله إلى حرم الأئمّة؛ فعندما تذهبون إلى زيارة الإمام الرضا عليكم بتقبيل العتبة، وتقبيل العتبة لا يعني أنّكم قد سجدتم للإمام الرضا. فلم يقل أحد أنّه ينبغي السجود للإمام، لأنَّ مثل هذا السجود يعتبر كفرًا وشركًا، وهو ممّا لا يرضى به الإمام الرضا عليه السلام أبداً. نعم، لا بأس بإلقاء النفس على تراب الإمام وتقبيل عتبة بابه إبرازًا لشعور المسكنة والذلّة في حضرة مقام الولاية. بل ويعتبر هذا الأمر أمرًا ممدوحًا جدّا. فما المشكلة؛ في إلقاء النفس على العتبة وتقبيلها عند الدخول لزيارة الإمام، وفي أداء سجدة الشكر على ما منحنه الله من التوفيق لأداء تلك الزيارة، فهذا العمل ليس من السجود في شيء.
نظرة السيّد البروجرديّ للسجود هو ذوق شخصيّ خاطئ
لذا فما استشكل به البعض، أمثال السيِّد البروجرديّ، في اعتبار هذا التقبيل بحكم السجود، هو استشكال خاطئ لا يعبّر إلّا عن ذوقه الشخصيّ؛ وذلك لأنّ السجود غير تقبيل الأرض. ألم تسمعوا قول الأجيال المتقدّمة: قبّل الأرض بين يديه وانصرف. ألم تقرؤوا ذلك في كتاب «گلستان»۱. فتقبيل الأرض غير السجود. وما نسمعه عن أفعال الناس عند دخولهم على الملوك والسلاطين وفرعون ونمرود، بأنّهم سجدوا لهم، لم يكن ذلك منهم تقبيلًا للأرض، بل كانوا يضعون جباههم على الأرض. ولكنّ السيّد البروجرديّ كان يرى أنَّ السجود لا ينحصر بوضع الجبهة على الأرض فقط، بل كان يرى أنّ الانحناء وكونه على وشك وضع جبهته على الأرض هو بحكم السجود. وما هذا إلّا ظنَّه الشخصيّ، وهو ظنٌّ غير صائب، إذ لا يتحقّق السجود إلاّ بوضع الجبهة على الأرض لا بمجرّد الانحناء.
إنَّ تقبيل العتبة لا يقتصر على حَرَم الأئمّة عليهم السلام فقط، بل ويشمل حرم أبناء الأئمة أيضًا كحرم أبي الفضل العبّاس الّذي يتمتّع بذلك المقام الرفيع. وهذا التقبيل لا ينطوي على أيّ إشكال، لا بل ويعتبر من الأمور المستحسنة جدّاً أيضًا. فتلك الإشكالات المثارة لا تستند إلى أيّ أساس، وما لدينا من روايات تشير إلى هذا الأمر وهو أنّه لا يجوز السجود لغير الله. وهذا ما فعله جعفر الطيّار سفير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومَنْ هاجر معه إلى الحبشة، حيث لم يسجدوا للنجاشيّ عندما دخلوا عليه؛ فاعترض عليهم النجاشيّ قائلًا: لماذا لم تسجدوا لي؟! فأجابه جعفر: نحن لا نسجد لغير الله، ثمّ تكلّم بكلام جميل وأجاد في الكلام. وعندنا الكثير من الروايات الّتي تنصّ على عدم جواز السجود لغير الله.
علّة سجود الملائكة لآدم عليه السلام
فلماذا سجدت الملائكة لآدم حيث جاء في الآية {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ}۱، ولم تعترض الملائكة حينها قائلة: إنَّ السجود مختصّ بكَ وحدكَ، فلماذا تستثني منه هذه الحالة. بل قام جميعهم بالسجود. لا تتصوّروا أنَّ سجود الملائكة كان سجودًا تعبديّاً محضًا؛ بحيث لو كان الله قد أمرهم بالسجود للحجر ولهذا العمود لسجدوا له، كلّا، بل كانت سجدةُ الملائكة لآدم بسبب معرفتهم بتلك الحقيقة وذلك السرّ الّذي أودعه الله فيه. نعم، لقد عرفوا أيّة خِلقة وفطرة قد أُودعتْ في وجود آدم، لذا سجدوا له دون أن يعترضوا على ذلك، فهم لم يعترضوا عليه قائلين: ما نعلمه هو أنَّ السجود مختصّ بكَ وحدكَ يا ربّنا، فهل حابيت آدم فقمت بتفضيله علينا واستثنائه من تلك القاعدة حتّى أمرتنا بالسجود له؟ [أو قالوا مثلًا:] ها قد خلقتَ آدم ومنحته من الصفات ما لا نمتلك، ولكن ما الّذي يعنيه أمرك لنا بالسجود له، إذ السجود ينبغي أن يكون خاصّاً بكَ وحدكَ؟ كلّا [لم تعترض الملائكة بمثل هذا] وذلك لأنَّهم عرفوا أنّ آدم يمتلك ذلك السّر الذي لا يمتلكه غيره.
علّة عدم سجود الشيطان لعنه الله لآدم عليه السلام
ولقد فهم الشيطان – هو الآخر – هذا الأمر، فلم يكن خافيًا عليه، بل كان يعلم بامتلاك آدم ما لا تمتلكه الملائكة أو أيّ مخلوق آخر، وهذا ما دعاه لأن يحسد آدم. وهذا أمر في غاية الأهميّة، وهو أمر مهمّ جدّا من الناحية السلوكيّة.
إنَّ الشيطان كان يرى وجود هذا السّر في الله، وهو مع ذلك لم يحسدِ اللهَ عليه، بل كان يعبده ويسجد له لسنوات متمادية، وذلك لأنَّه هو الخالق. غير أنَّه ما إن رأى أنّ الله قد أودع هذا السّر في غيره، حتّى ظهرتْ ميوله النفسانيّة إلى العَلَن، فقال: لماذا يمتلك غيري ما لا أمتلك!؟ وهذا هو السبب الكامن وراء جميع المشاكل الّتي تحصل – من أوّلها إلى آخرها – فجميعها يعود إلى هذا الأمر وهو؛ (لِمَ يكون في غيري ما ليس فيَّ). فما معنى هذا التساؤل!! وما معنى أن يقول أحدهم: لماذا وهب الله لفلانًا ما لم يهبني!! ولماذا أعطى الله غيري من العلم أكثر ممّا أعطاني!! ولماذا يمتلك غيري قدرة بيان لا أمتلكها!! ولماذا يمتلك غيري من الكمال ما لا أمتلكه أنا!! إنَّ هذه التساؤلات تولّد أرضيّة خصبة لظهور الانحراف في طريقة تفكير المرء، ومن المعلوم جيّدًا ما الّذي ستؤدِّي إليه طريقة التفكير هذه من أفكار منحرفة!
ولكنَّنا إن عملنا على التخلّص من هذه التساؤلات، وقلنا بدلًا عن ذلك: إلهي، مهما يكن ما تَمُنُّ به علينا، فنحن عبيدك وممتنّين لك على ما وهبتنا. كما كان المرحوم الحاجّ هادي الأبهري رحمه الله يقول: «إلهي إن أعطيتني فبيتُك عامرٌ، وإن لم تعطني فأنا واحد من مماليكك». فكم سيكون الأمر مريحًا لنفس الإنسان في مثل هذه الحالة. [فإن تصرفت بهذا الشكل] فكم من المشاكل تكون قد أزحت عن طريقك؟ إلّا أنَّ الأمر لا يكون بهذه السهولة، بل يتطلّب الكثير من الجهد، ولكنَّه في الوقت نفسه ليس بالأمر المستحيل.
مرجع جميع الفتن بين الخلق من أولهم لآخره واحد
إنَّ جميع الفتن الّتي حصلت وتحصل من أول الخلق إلى آخره ناشئة عن اعتراض الشيطان عندما قال لله: لماذا أودعت ذلك السّر في آدم ولم تودعه فيَّ!؟ ولقد حصل هذا في الوقت الّذي لم تعترض فيه الملائكة على الله، بل كانوا قد سلّموا أمرهم إليه قائلين: إلهنا، أنت المالك، وأنت الرّب، وأنت الخالق، وأنت صاحب الإرادة، وأنت القادر وأنت القهّار، والأمر لك في أن تودع هذا السّر هنا أو لا تودعه، ونحن نحبك ولا نتدخّل بشؤونك. ونظرًا لموقفهم هذا، فقد أعزّهم الله، فأمرهم عندئذٍ بالسجود؛ فسجدوا طاعة وانقيادًا لأمر الله من جهة، ومن جهة أخرى لأنّهم رأوا أنَّ السّر قد أُودع من قِبَل الله في آدم.
على الرغم من كون هذا السّر قد ظهر في أحد المظاهر [وهو آدم]، غير أنَّنا نراهم يقولون: ما الّذي يعنينا من هذا الأمر. إنَّ التلميذ الّذي يريد الذهاب إلى المدرسة للتعلّم، لا ينظر إلى طول قامة الأستاذ الّذي يريد أن يتتلمذ على يديه، بل ينظر إن كان الأستاذ ذا علم أم لا، أمّا كون الأستاذ أصلعَ أم لم يكن كذلك، وكون لون معطفه بُنيّاً أم أبيضَ، فهذا لا يعنيه في شيء؛ فما الّذي يعنيه في شعر رأس الأستاذ أو لون لباسه أو لون عباءته! بل كلّ ما يعنيه هو مقدار العلم الّذي يمتلكه.
جاءني شخص وقال: إنَّ الطبيب الّذي أراجعه لا يهتم بأمر الصلاة كثيرًا. فقلتُ له: وما الّذي يعْنيك من قيامه لأداء صلاة الليل أو عدمه، فما دام طبيبًا متخصّصًا فعليك مراجعته. رحم الله المرحوم الميرزا حسن النوري – الّذي كان من أصدقاء المرحوم العلّامة ويسكن معه في الغرفة نفسها [في الحوزة] – فقد قال مرّة: اشتريت خروفًا ليتسلّى به الصغار وبِعته فيما بعد، ولكن عندما وصلت به إلى البيت التفتُّ إلى أنّ إحدى عينيه مفقودة، فاستدعيتُ الرجل الّذي اشتريتُ الخروف منه وقلتُ له: إنَّ الخروف الذي بعتنيه فاقد لإحدى العينين. فقال لي: وهل كنتَ قد اشتريته ليقرأ لك دعاء كميل، بحيث إنَّه لن يتمكّن من ذلك بسبب فقدانه لإحدى عينيه، أم لكي تذبحه؟! [فالعبرة أنّه] عندما يراجع أحدنا طبيبًا، فلا معنى لأن يسأل الطبيب إن كان قد أدّى صلاة الليل في الليلة الماضية، أو أن يقلق ويخشى من أن يكون الطبيب قد نسي قراءة دعاء كميل.
وعليه فما الّذي سيفرق فيما لو أودع الله هذا السّر في آدم أو في مَلَك أو في جنّ أو شيطان؟ كلاّ، سوف لن يفرق الأمر شيئًا من هذه الناحية. على أنَّ الله كان قد أمر الملائكة بالسجود لآدم بسبب ما منحه لآدم من مقام الخلافة الإلهيّة، فبسبب إيداع هذه الحقيقة في آدم أمرهم بالسجود له. أرأيتم الآن كيف أنَّ فعل الله ليس اعتباطيّا.
أفعال الله حكميّة وليست اعتباطيّة
فليس الأمر مجرد أمر اعتباطيّ كما يصوّره البعض، وذلك أنّ البعض يطرح هذا الموضوع بالشكل التالي: إنَّنا مكلّفون بطاعة الله في كلّ ما يأمرنا به، فإن أمرنا الله بشيء فعلينا الطاعة [هكذا]. ولكن علينا أن نعلم بأنَّ أمر الله لا يكون اعتباطيّا، بل لا بدّ من وجود مصلحة فيما يأمر به؛ فلماذا لم يأمرنا الله بالسجود للشيطان؟ وهل أمرنا الله بالسجود للملائكة يومًا؟ أو هل كان الله قد أمر النبيّ بالسجود لجبرائيل يومًا؟ هذا وكان قد أمر جبرائيل بالسجود للنبيّ، فلماذا أمره بالسجود؟ إنَّ السبب في ذلك يعود إلى أنَّ ذلك السّر المودع في آدم موجودٌ الآن في النبيّ أيضًا. فالله يأمر الملائكة بالسجود لنا فردًا فردًا، وذلك لأنَّ السّر الّذي أودعه الله في آدم موجودٌ في كلّ واحد منَّا بدون أيّة زيادة أو نقصان، وهذا السّر هو عبارة عن مقام الخلافة الإلهيّة.
سرّ الله هذا مُودعٌ في جميع الناس دون استثناء
لقد كان يزيد خليفة الله والشمر أيضًا كان خليفة الله كذلك۱، فلا تتصوّروا؛ أنَّ يزيد وبقتله الإمام الحسين يكون قد سقط من مقام الخلافة الإلهيّة، أو أنَّ طبيعة خِلقة يزيد وأبي سفيان كانت بشكل تختلف عن طبيعة خِلقة الآخرين. كلاّ، بل إنَّ جميع أولئك القوم يمتلكون قابليّة التحقّق بمقام الخلافة الإلهيّة؛ فلو أنَّهم أرادوا ذلك ووضعوا أنفسهم تحت التربية والإعداد، لتمكّنوا من الوصول إلى مقام الخلافة الإلهيّة الفعليّ. نعم، لقد كان بمقدور معاوية وأبي سفيان وعمرو بن العاص ويزيد والآخرين جميعًا الوصول إلى هذا المقام، غير أنَّهم لم يسعوا للوصول إليه، فلذا لم يَصِلُوا.
عندما كنتُ طفلًا، كانوا ينصبون لوحة في المحلّة الّتي كنَّا نسكن فيها، ويُصوّرون عليها واقعة عاشوراء، فكانوا يُصوّرون يزيد والشمر وسِنان وخَوْلي على أنّ لأحدهم ذيلًا وللآخر حافرًا وللشمر قرنًا كقرن الثور. في الوقت الّذي لم يكن لهم ذَنَبٌ ولا حافِرٌ، كما أنَّ أسنانهم كانت أسنانًا طبيعيّة، وأشكالهم وقاماتهم تشبه أشكال وقامات الناس العاديّين، بل كان الكثير منهم يتمتّع بجمال يفوق جمال سائر الناس، وكانوا ذوي قيافة حَسَنَة. ولا يوجد لدينا أيّ دليل على أنّهم كانوا على الهيئات الّتي يصوّرونهم عليها. فهل يفترض أن يكون لكلّ مجرم قاتل ذَنَبًا أو قَرْنًا؟ كلّا.. ولكنَّهم عملوا على خنق وتدمير ما لديهم من استعداد ولم يسمحوا لاستعدادهم أن يصل إلى مرحلة الفعليّة، فكانوا يتقدّمون خطوة في طريق الكمال ثُمَّ يتراجعون، وعندما كانوا يواجهون أمورًا [حسنة ولكن] لا تستسيغها النفس، كانوا يحيدون عنها، فعملوا بذلك على حبس أنفسهم وإيقافها عند تلك المرحلة. أمّا الآخرون فلم يتصرّفوا كما تصرّف هؤلاء القوم، بل قاموا بكلّ ما من شأنه المساعدة في ترقّي أنفسهم وتكاملها.
المرأة والرجل متساويان في القابليّة ومختلفان في مقام التجلّي في عالم المادّة
فهذا هو مقام الخلافة الإلهيّة والّذي لا يمتاز فيه الرجل – كما ذكرتُ آنفًا – عن المرأة في شيء. فالرجل والمرأة متساويان في قابليّتهما لطيّ هذا الطريق، لا يزيد أحدهما على الآخر أو ينقص عنه في شيء. ولَمّا كانتْ حقيقة مقام الخلافة الإلهيّة حقيقةً نورانيّةً لا شكل لها، وذلك لأنَّ ليس لله شكل وقالب يحدّه، لذا لا يمكن أن يحدّ مقام الخلافة الإلهيّة المتمثّل في الإنسان شكلٌ أو قالبٌ معينٍ.
ها أنا أصل تدريجيّاً إلى ما أريد الوصول إليه في توضيح الموضوع الّذي تمّ السؤال عنه؛ فكلّ من الرجل والمرأة قد نشأ من ذلك الأصل الّذي لا شكل ولا لون ولا قالب ولا حدّ له. ولْنضرب مثال ماء البحر؛ فلِمَاء البحر شكل، وهو شكل البحر هذا، فإن أُخرج هذا الماء من البحر سيكون قد انفصل عنه وسيأخذ شكلًا آخرًا؛ فإن اغترفت غرفة من ماء البحر بيدك، فسيأخذ هذا الماء شكل كفّك وهو شكل النصف دائريّ. وإن ملأت قَدَحًا من ماء البحر، فسيأخذ هذا الماء شكلًا أسطوانيّاً أو مخروطيّاً وهو شكل الوعاء الّذي يُوضع فيه. ولكن علينا أن ننتبه إلى هذا الأمر وهو: أنَّ الماء الموجود في البحر وفي الإناء هو الماء نفسه لا يختلفان [من حيث مادة الماء]، وإنّما يختلفان في الكميّة؛ فمقدار الماء الموجود في الكوب يتفاوت عن ذاك الموجود [في البحر أو] في القدح أو في الإبريق، ولكنَّ جميع هذه الأواني تحتوي على مادة واحدة ألا وهي الماء.
فتلك المرتبة الّتي نشأ منها كلّ من الرجل والمرأة هي مرتبة واحدة لا يوجد فيها أيّ تفاوت بين الجنسين. أي أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاء من نفس ذلك المكان الّذي جئنا نحن منه، ولقد جئنا نحن من نفس المكان الّذي أتى منه [رسول الله وآله]، كما أنَّ النساء قد جِئْنَ من نفس المكان الّذي جاء منه [الرسول]، وجاءت الصدّيقة [الزهراء] من نفس المكان الّذي جاء منه أمير المؤمنين؛ لذا فإن جميع بني آدم قد جاؤوا بواسطة مقام الخلافة الإلهيّة من نفس المكان، وهو مقام الإنسان.
فعندما قلتُ أنّه لا يوجد أيّ فرق بين الرجل والمرأة، إنَّما قلته من ناحية أصل الوجود ومبدأ الخَلق والتكوّن. وكلّ من قال بخلافه إنّما قاله بسبب عدم علمه بهذا الموضوع. وإلّا فإنَّ هذا الموضوع يعتبر من المسلّمات، وهو ثابت عن طريق الآيات القرآنيّة والأدلّة العقليّة والنقليّة، كما أنَّ العظماء قد أيّدوا هذا الأمر. غير أنَّ تلك الحقيقة عندما تريد أن تتجلّى في عالم الوجود، لا يمكنها أن تتجلّى بدون لون، وذلك لأنَّ لعالم المادّة شكلًا محدودًا، فلا يوجد في عالم المادّة أيُّ شيءٍ بدون شكل، فهل رأيتم حجرًا أو فِراشًا لا شكل له؟! بل حتّى لهذا الهواء شكل ولذرّة الأوكسجين شكل معيّن، نعم لا نتمكّن من رؤيته ما لم تتراكم تلك الذرّات على بعضها. فما ليس له شكل [مطلقًا] هو الفراغ فقط، وذلك لكونه غير مادّي، فإن تبدّل إلى مادّة، فلا بدّ من أن يأخذ شكلًا معيّنًا، سواء كان هذا الشكل مرئيًّا أو غير مرئيّ. فعندما تنزل تلك الحقيقة إلى عالم المادّة، لا بدّ أن تأخذ لنفسها صورةً معيّنةً.
وهذا ما كان يحصل في عهد رسول الله عندما كان ينزل عليه الوحي، إذ كانت ملائكة الوحي مثل جبرائيل تنزل على رسول الله بنحوين مختلفين؛ كان جبرائيل ينزل على رسول الله في بعض الأحيان بدون شكل، فكان ينزل بحقيقته المَلَكِيّة، ففي هذه الحالة لم يكن يتعلّق بالنفس. وفي أحيان أخرى يكون الوحي بنحوٍ يتعلّق بنفس النبيّ فكان الناس يرونه، يعني عندما ينزل جبرائيل إلى عالم المادة كان يجلس إلى جنب النبيّ على هيئة ذلك الشابّ من أهل المدينة والّذي كان جميلًا جدًا ومتديّنًا وعفيفًا للغاية ألا وهو (دحية الكلبيّ)، وكان الجميع يراه. فلو كان [جبرائيل] يظهر بهيئة رجل آخر [من غير أهل المدينة]، لربما كان ذلك باعثًا على تساؤل الأفراد عن هذا الرجل الّذي جاء إلى المدينة ويحادث النبيّ الآن، وعن الشأن الّذي جاء من أجله. فعندما كان جبرائيل يريد أن يظهر بشكلٍ معيّن – ولَمّا كان الله جميلًا يحبّ الجمال – كان يبحث عن أجمل رجل في المدينة ليظهر على هيئته، فكان يظهر على هيئة (دحية الكلبيّ)، لقد كان جبرائيل حَسَن الذوق، فكان يختار لنفسه شكل (دحية الكلبيّ) ليظهر به. ولو كان جبرائيل يريد أن يأتي بدون صورة، لَمَا استطاع الناس رؤيته، إذ لا يستطيع أن يتجسّد في عالم المادّة بدون صورة، وذلك لأنّ عالم المادّة هو عالم الصورة، وعالم الصورة هو من مستلزمات عالم المادّة.
[وعليه،]فإنّ تلك الحقيقة الّتي نشأت من ذلك العالم،عندما تريد أن تنزل إلى الأسفل لتظهر في هذا العالم يعطيها الله شكلين مختلفين؛ فتظهر بشكل رجل من الناحية الفاعليّة، وبشكل امرأة من الناحية الانفعاليّة. وذلك من أجل استمرار الحياة وبقائها، ومن أجل أن تتحقّق الظروف الّتي تضمن استمراريّة الحياة واستقرارها، إذ لولا تلك الظروف لما استمرّت هذه الحياة.
استقرار الحياة ودوامها رهن تفاوت الصفات النفسانيّة وضبطها
فدعونا ننظر الآن إلى هذا الأمر [من جهة] ثبوته بالتجربة العمليّة – إذ لا نريد هنا أن نؤمن بالموضوع تعبّدًا – فنجد أنّه؛ لو كان هناك اثنان يحملان نفس الصفات النفسانيّة، فلن يتمكّنا من العيش مع بعضهما لمدّة دقيقتين من الزمان. ولو كان هناك مجموعةٌ من الناس في مكان واحد ويرون أنفسهم في نفس المستوى لَمَا كان أحدهم مستعدّاً لإطاعة الآخر، والحال أنّه لا بدّ لهم من رئيسٍ ومن قانون معيّن يعيشون تحت ظلّه.
لذا ومِنْ أجل استقرار الحياة ودوامها في هذا العالم، جعل الله تلك الحقيقة الّتي نشأت من ذاته [تعالى] تأخذ شكلين مختلفين؛ فخلق أحدهما على هيئة رجل والآخر على هيئة امرأة. والرجل والمرأة متساويان من جهة الاتصاف بحقيقة الأسماء والصفات الإلهيّة، ومختلفان من جهة وجودهم واستقرارهم في هذا العالم وكيفيّة استمرار بقائهم. لذا فقد جعل الله جانب التعقّل والتحمّل والسياسة والتدبير في الرجل أكثر ممّا هو عليه في المرأة، ورجّح جانب العطف والرأفة واللطافة والقدرة على تربيّة الأطفال لدى المرأة على ما هو عليه لدى الرجل. على أنَّ كلّاً من هاتين المجموعتين من الصفات يجب أن تتواجد في ذلك المحيط [الّذي يضمّ الرجل والمرأة]؛ فلو غلب جانب الرأفة والعطف على صفات الرجل لَمَا تمكّن مِنْ أداء الأعمال الموكولة إليه بشكل جيّد، ولو أنَّ المرأة غلب عليها جانب القدرة والجبروت وسَعَتْ إلى إخراج نفسها من طبيعتها الأنثويّة وأرادت التشبّه بالرجل والظهور بمظهره، فسيكون مَثَلُها مثل ذلك الغراب الّذي أراد أن يقلّد مِشية الحمامة، فلم يستطع أن يقلّدها ولم يتمكّن مِنَ العودة إلى مِشيته المعتادة، فتكون المرأة حينئذٍ قد عَمِلَتْ على تدمير نفسها.
لذا نرى كيف أنَّ الله، ومِنْ أجل استمرار حياة كلّ مِنَ الرجل والمرأة ومِنْ أجل تكاملهما، قد وضع قوانين خاصّة يجب على الرجل والمرأة رعايتها. فإن التزم كِلا الطرفين بهذه القوانين فسيَصِلا إلى مرتبة الكمال، وإلّا فلن يبلغا الكمال، وسيؤدِّي ذلك إلى توقّفهما وتدمير حياتهما.. وهذا هو ما ترونه الآن بأنفسكم، وهي حقيقة ملموسة للجميع، إذ الكلّ يلمس بنفسه كيف أنَّ المرأة إن أرادت أن تخرج عن زيّها النسائيّ، فسوف تعمل على إفساد نفسها والمجتمع معًا.
عدم انضباط الصفات النفسانيّة سببٌ للفتن
وهذا ما شاهدته بنفسي في الكثير من الحالات، إذ طبيعة عملي تقتضي تعاملي مع هكذا موارد، فشاهدتُ كيف أنَّ المرأة إن أرادت أن تخرج من الإطار المرسوم لها، فسوف يؤدَّي ذلك إلى إفسادها. ولعلّ ثمانين في المائة من تلك القضايا الّتي حصلت بعد ارتحال المرحوم العلّامة، كانت قد حصلت نتيجة لذلك. وكنتُ قد نَبّهتُ الآخرين ولمراتٍ عديدة على ما سيترتّب من عواقب وخيمة نتيجة ما يقومون به من أعمال، فقلت: إنَّ ما يقوم به هذا الشخص [الّتي هي امرأة] من عمل الآن، سيؤدِّي به إلى ما لا تُحمد عقباه. غير أنَّ أحدًا لم يستمع إلى ما كنتُ أحذّر منه.
طبعًا لم يكن لمثل هذه الأمور وجود في عهد المرحوم العلّامة، وذلك بسبب الطريقة الّتي كان يدير بها الأمور. فكان يديرها بالدقّة الّتي كان يستخرج بها الشعرة من العجينة، ولم يكن لأحد الجرأة على تخطي الحدود المرسومة له. فإن أراد أحدهم تخطي تلك الحدود، كان يُواجَه بتلك الصيحة والزجرة وعصاه الّتي تجعل مَنْ يتخطى الحدّ يتذكّر أيام طفولته.
ولكن بعد ارتحاله بدأتْ الألاعيب بالظهور، فأصبح كلّ واحد من أولئك الناس يأخذ بزمامِ أمورِ الآخرين ويقوم بإعدادهم وتربيتهم، وليتهم كانوا من زمرة العقلاء وأهل الإدارة الصحيحة والتدبير، بل كانوا حفنة من الجهلة قليلي الفهم يصدر منهم ما أشرت إليه قبل قليل مِنْ أمور.. لقد جاء هؤلاء وتولّوا أمور التربية والتزكية التي كانت بيد المرحوم العلاّمة الطهرانيّ وتصدّوا لها، ويا لها مِنْ مصيبة أن يتصدّى للأمر شخصٌ هو نفسه يحتاج إلى مَنْ يَأخذ بيده.
لا أنسى أبدًا عندما قلتُ لتلك المرأة الّتي التقتْ بي في طهران: عليكِ أن تلْزمي بيتك أيّتها السيِّدة، وأن تعملي بما أُمرتِ به، ولا تقومي بأيّ عمل آخر. وعندما رأيتها لا تعير اهتمامًا لما أقوله، ذهبتُ إلى أحد الأفراد وقلتُ له: أتعلم ما الّذي تقوم به هذه المرأة؟ فوجدتُ أنَّ أحدًا لا يعير اهتمامًا لقولي. ولقد قالتْ لي نفس هذه المرأة – الّتي أوجدت جميع تلك الفجائع – يومًا: أنا أعمل الآن على نشر وجهات نظري بين الآخرين على أنَّها من كلام المرحوم العلّامة.
أترون إلى أيّ حدّ قد وصلت الأمور؟ [لقد وصلت إلى الحدّ الّذي] يأتي فيه أحدهم وينقل تصوّراته – الّتي يعتقد أنَّها تتطابق مع مباني المرحوم العلّامة – على أنَّه قد سمعها شخصيّا من المرحوم العلاّمة!! وها أنتم ترون أيّة جنايات قد ارتُكبت وأيّة فجائع قد وقعت. والسبب في كلّ ما حصل هو تجاوز الحدود المرسومة، وقد حصلت العديد من أمثال تلك التجاوزات. قلتُ لكم آنفًا أنَّني كنتُ قريبًا من هذا الموضوع وأعلم ما كان يحصل. وقلت أيضًا لشخص آخر: عليك ألّا تتجاوز هذا الحدّ، فليس من مصلحتك تجاوزه. فلم يستمع لكلامي، وابتلي بابتلاءاتٍ كثيرة.
إنَّ هذا الموضوع يبيّن لنا هذه الحقيقة، وهي أنّه: صحيح أنَّ المرأة قد ترى في نفسها قابليّة القيام ببعض الأعمال، غير أنَّ ذلك لا يتجاوز كونه تصوّرها الشخصيّ، وهو لا يمثل واقع الأمر. فتخيلات المرء شيء وواقع الحال شيء آخر. فإن تصوّر أحدهم أمرًا معيّنًا فهذا لا يعني أن يتطابق ذلك الأمر مع واقع الحال. وعلينا أن نعرف أنَّ الله لا يُجري الأمور وفق تصوّراتنا، حتّى نقوم باتّخاذ القرارات ونُرْغِم الله على فعلها أو الامتناع عنها؛ فمَنْ الّذي يستطيع أن يأمر أو ينهى [الله عزّ وجلّ]؟!
للعالم نظام واحد وعامّ لا يتغير بتغير أهوائنا وآرائنا
قلت للمرحوم العلّامة يومًا: ما هو الأساس الّذي يستند عليه فلان من الناس عندما قال [حول موضوع ما]: يجب أن يتمّ هذا الأمر. فقال سماحته: نعم، لقد وصل به المقام إلى أن يأمر الله بأن يفعل له ما يريد، وعلى الله أن يجنّد ملائكته لتحقيق ما خطر على بال الرجل، فليس لله عمل سوى انتظار ما يُملى عليه مِنْ قِبَلِ هذا وذاك من أفكار تافهة حتّى يأمر ملائكته بتنفيذها! كلّا، لا يمكن أن تجري الأمور على هذا المنوال، وليس هذا فقط، بل سيحصل العكس أيضًا. وهو ما حصل بالفعل [مع ذلك الشخص]، إذ قد حصل عكس ما أراده. فإنّ الله لا يجلس منتظرًا لينفّذ ما يجول بخاطرنا، ولا هو ينتظر أن يعرف ما طريقة الحياة الّتي نرغب فيها وكيف نحب أن ننام وكيف نحب أن نمشي، فيعمل على تهيئة وتحقيق مقدمات حصول ذلك.
كلّا، لا يمكن أن تجري الأمور على هذا المنوال، وذلك لأنَّ للعالم نظامٌ قد أقرّه الله، فإنّ عَمِلنا على مطابقة أعمالنا وتصرفاتنا مع ذلك النظام نكون قد فزنا، وإلّا سنكون مِنَ الخاسرين المتخلّفين عن الركب. والحال أنّ الركب مستمرّ في مسيره، والله لم يوظّف ملائكته للاستجابة لكلّ ما نريده، فللملائكة أعمال موكَلة بها، وهم يعملون طبقًا للواقع وعلى أساس عقلانيّ، في الوقت الّذي تكون فيه تصرفاتنا مبنيّة على أساس الخيال والتصوّر الذهنيّ.
التفسير القويم لكون النساء ناقصات العقول والإيمان
إنَّ ما جاء في بعض العبارات [المرويّة] الّتي تصف النساء بأنَّهنَّ نواقص العقول والإيمان، لم يأتِ من أجل ذِكْر عيب من عيوب النساء أو لغرض الانتقاص منهنَّ، بل إنَّ في ذلك إشارة إلى تلك المحدوديّة الوجوديّة اللازمة لبقاء المرأة واستمراريّة حياتها في هذه الدنيا.
وكما ذكرنا أعلاه، فإنّ لكلّ من الرجل والمرأة نصيب من الأسماء والصفات الكليّة لله بحسب السعة الوجوديّة لكلّ منهما. على أنَّ هذا الأمر ينطبق على الرجال أيضًا، فليس جميع الرجال بنفس السعة، ولا يوجد اثنان منهم بنفس السعة. بل وينطبق الأمر نفسه على الأئمّة عليهم السلام أيضًا، فليس جميع الأئمّة بنفس السعة، بل يوجد فرق بين الإمام الحسين والإمام السجاد،وفرق بين الإمام الحسين والإمام الحسن، كما ويوجد فرق بين الإمام الصادق والإمام الرضا أيضًا، فالفرق موجود بين الأئمّة أنفسهم، فما بالك بالآخرين!
وكذا الحال بين النساء، فإنهنَّ مختلفات فيما بينهنَّ، فلكل واحدةٍ سعتها الوجوديّة الخاصّة بها، وذلك بالرغم من وجود نقطة مشتركة بينهنَّ، ألا وهي استجماع كافة أسماء الله وصفاته، وهو الأمر الّذي مكنهنّ من امتلاك مقام الخلافة الإلهيّة. وليس الأمر بالشكل الّذي يكون فيه مقام الخلافة الإلهيّة مختصّ بآدم وحده، بل إنَّ جميع رجال ونساء العالم يمتلكون هذا المقام سواء منهم المؤمن أو الكافر والشيعيّ أو غيره، غير أنَّ امتلاكهم لهذا المقام يكون بشكل مجمل، فلا بدّ معه مِنَ التربية والإعداد اللازمين في هذه الحياة لكي يصل هذا المقام إلى مرحلة النضج والإثمار.
مقام القابليّة والاستعداد شيء ومقام الفعليّة والتحقق شيء آخر
طبقًا للعادات والرسوم القديمة، يتأهّل ابن الملك لاستخلاف أبيه بخضوعه للتربية والتعليم على يد معلّم.. يُقال أنَّ زبيدة زوجة هارون الرشيد اعترضتْ عليه لتفضيله المأمون على ابنها محمّد الأمين، فقالت له: ما هو الفرق بينهما حتّى تفضّله عليه! فقال لها: اذهبي وراء الستار، حتّى أقوم باختبارهما معًا فترين بنفسك الفرق بينهما. فاستدعى الرشيد رجلًا وقال له: اذهب إلى محمّد الأمين وقل له إنَّ أباك قد قُتل في حادث، وانظر كيف ستكون ردّة فعله. فذهب الرجل وقال لمحمّد الأمين: سمعت أنَّ أباك قد سقط مِنْ حصانه ويقول البعض أنَّه قد مات، بينما يقول البعض الآخر أنَّه لا يزال على قيد الحياة. فما إن قال الرجل للأمين (سمعت بأنَّه قد مات) قفز الأمين فرحًا وقال له: هل أنت واثق ممّا تقول، ها قد أصبحتُ أنا الخليفة. ثمَّ ذهب الرجل إلى المأمون وأخبره بنفس ما أخبر الأمين به، وبمجرد أن قال الرجلُ للمأمون (سمعت بأنَّ أباك قد مات) ضربه المأمون على رأسه بدواة كانت بيده، فسال منه الدم وقال له: هل جئت لتبشّرني بموت أبي. فقال هارون لزبيدة: انظري إلى الفرق بينهما. ثمّ قال لها: مهما عملت، فتيقّني بأنَّ المأمون لا الأمين هو الّذي سيتولّى الخلافة من بعدي.
فلنيل منصب المُلُوكيّة شروطها الخاصّة بها، ولقد كان الملوك في السابق يوكلون أمر تربية وتدريس أبنائهم إلى معلمين، لكي يقوموا بتعليمهم فنون إدارة المملكة وسياسة الرعيّة، ثمّ يقوم المَلِك باختيار الأصلح منهم لخلافته. لا أنّه يعيّن خليفة له بصورة اعتباطيّة.
ولقد رأيتم كيف أنَّ معاوية، على ما كان يمتلكه من كياسة، لم يتمكّن من إعداد يزيد ليكون خليفة له، وذلك لانشغال يزيد باللهو واللعب بالقمار وأمثاله. فعندما رأى معاوية منه ذلك استدعاه وهو على فراش الموت وقال له: على الرغم من محاولاتي لتعليمك فنّ إدارة البلاد وقيادة الجيوش، إلّا أنّي لم أفلح بسبب انشغالك بملذّاتك. وبما أنّي مفارق الحياة، فاسمع مني الآن هذه الأمور الثلاثة: إن متُّ فلا شأن لك بالحسين بن عليّ، واعمل على زيادة احترامه وإعزازه؛ فعزّته واحترامه تستوجب عزتنا واحترامنا. وأمّا عبد الله بن عُمَر فهو رجل غبيّ مشغول بما لديه، فلن يُسبب لك أيّة مشكلة. ولكن عليك بعبد الله بن الزبير، ففي أي جحرٍ وجدّته سدّه عليه، لأنَّه كالأفعى كلّما سددّت عليه جحرًا خرج عليك من جحرٍ آخر ليلدغك. غير أن يزيد الغبيّ والجاهل لم يعمل بما قاله معاوية، فكان أوّل ما قام به بعد تولّيه الخلافة، أن كتب إلى والي المدينة يأمره بأخذ البيعة له من الحسين حال وصول كتابه إليه، وإن امتنع عن البيعة فلْيقتله ولْيرسل رأسه إليه. هذا في الوقت الّذي لم يتعرّض فيه معاوية للإمام الحسين طيلة السنوات العشر الّتي قضاها الإمام في فترة خلافة معاوية۱. نعم، لقد كان معاوية يعلم أنَّ ابنه لا يصلح للخلافة، وقد علّمه طريقة الإدارة ولكنَّه لم يلتزم بما علّمه إيّاه.
بناءً على هذا فإنّ إيمان المرأة هو عبارة عن مقدار قابليّتها لفهم وإدراك الأمور ومقدار ثبات [مواقفها]. فبالنظر إلى تلك الدرجة من الرقّة والحنان لدى المرأة – والّذي يعتبر من مستلزمات وجودها في الحياة – يكون مستوى المرأة أقلّ من مستوى الرجل. لكن – وكما قلت سابقًا – لا يُعتبر هذا معيارًا عامّاً ينطبق على الجميع، بل هو الغالب، إذ قد يُشاهد عكس ذلك في كثير مِنَ الحالات، وهذا موجود في الواقع. غير أنَّ الله عندما يجعل قانونًا وقاعدةً إنّما يجعل ذلك على أساس الأمر الغالب، ويُستثنى منه بعض الأحكام الخاصّة. أنا لا أريد الخوض في هذا الموضوع لأنّه يعتبر بحدّ ذاته بحثًا منفصلًا، وسأتناوله عند تأليف الكتاب الخاص بشرح حديث عنوان البصريّ، حيث سأتحدّث عمّا يتعلّق بالاستثناءات.
وبناءً على هذا يكون نقصان الإيمان [عند المرأة] هو تعبير عن المحدوديّة الفكريّة ومحدوديّة القابليّة في استيعاب الأمور. وإن وُضعتْ المرأة تحت التربية والإعداد – كما ذكرت في المجالس السابقة – سوف تنتقل من المرتبة الماديّة إلى مرتبة المِثَال ثمّ إلى الملكوت، بل ستستمرّ في التكامل حتّى تصل إلى مرتبة ينتفي فيها التفاوت بين الرجل والمرأة. فالتفاوت موجود في هذا العالَم وهو تحت الإعداد والتربية، لذا لا بدّ من تهيئة الظروف الخاصّة والمناسبة لهذا العالَم لتحقيق التكامل.
المرأة ريحانة وليست بِقَهْرَمَانَة
إنّك لا تستطيع أن تفرض الظروف التي تنمو فيها نبتة الدفلى۱ مثلًا على نَبْتَة ورد الياسمين؛ إذ نبتة الدفلى تستطيع النمو حتّى في الفلاء وفي الظروف الجويّة القاسية مهما كانت، أمّا نبتة ورد الياسمين فإن لم تسقِها ليومٍ واحدٍ لذبلتْ وماتت، بينما شجيرة الدفلى القابلة للنمو في الصحراء لن تتأثّر إن لم تسقها لمدة أسبوع أو حتّى شهر.. ويُقال أنَّ نبتة الكمّون تُسقى من شهر لشهر، لأنّ هذه الشجيرة تستطيع أن تحافظ على حياتها وأن تتأقلم مع الظروف البيئيّة المختلفة، هذا في حين أنّ نبتة ورد الياسمين لا تستطيع أن تتحمّل مثل تلك الظروف، فلا بدّ حينئذ من تهيئة ظروف خاصّة لها كتوفير الظّل المناسب وسقيها بالماء مرتين في اليوم، إذ لو سقيتها مرّة واحدة فقط في اليوم لذبلت وماتت، كما يجب توفير الظروف المناسبة لها من حيث نوع السَمَاد ودرجة حرارة المكان الّذي تُزرع فيه، فهي لا تتحمّل درجات الحرارة العالية.
فهل يدلّ هذا على رداءة نوع تلك النبتة؟ كلّا، بل يدلّ على ضرورة توفير رعاية كبيرة لها، فكلّما كانت النبتة أكثر لطافة احتاجت إلى رعاية أكثر. فلو أنَّك تعاملت مع نبتة ورد الياسمين بنفس الطريقة الّتي تتعامل فيها مع شجيرة الدُفلى، لما استمرت حياتها لأكثر من يومين ولذبلت وفقدت عطرها وجميع امتيازاتها وماتت، ولهذا السبب يقول رسول الله: «المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»۱؛ أي إنَّ مَثَلَ المرأة كمَثَل نبتة ورد الياسمين، لا يصحّ لك أن تعاملها كما تعامل شجيرة الدُفلى وبقية الأشجار البريّة الأخرى الّتي إن لم تُسقى الماء حتّى لمدة سنة كاملة لَمَا تأثّرتْ ولتمكّنتْ من الحصول على الماء اللازم لها من جوف الأرض.
وعليه فلا يمكن مَنْح المرأة تلك المناصب والأعمال الّتي توكل إلى الرجال عادةً، ولا يمكن السماح لها بالعمل في المناطق النائية، ولا يمكن تركها تجوب الأزقة والأسواق. نعم إن أوكلتَ لها مثل هذه الأعمال، ستتمكّن من إنجازها وستعود إلى بيتها [سالمة بدنيّاً]، غير أنَّها ستفقد الكثير وستفقد الميزات الّتي كانتْ تتمتّع بها وستفقد تلك الطبيعة اللطيفة والظريفة الّتي كان يجب أن تتكامل في ظلّها. فلو أتت المرأة بالذِّكْرٍ ألفَ مرّةٍ وهي في مثل هذه الحالة لن يكون للذِكْرِ أيّةُ نتيجة، ولو قرأتْ ألف آية من القرآن لَمَا كان لتلك القراءة أيُّ تأثير على نفسها، فلِمَ ذلك؟ لأنَّ الآية القرآنيّة تؤثّر على كلّ نفس بشكل يختلف عن النفس الأخرى، ولو لم تكن الظروف مناسبة، والشروط متوفّرة، لَمَا تركتْ تلك الآيات أثرها المطلوب.
لا بدّ من توفير شروط خاصّة حتّى يكون للذِّكْر وللآيات آثارها
فلا يقول أحد هنا: ها أنا أقوم بألف عمل خاطئ، ثمّ أعملُ على تصحيح ما ارتكبته بواسطة الإتيان بالذِّكْر، إذ الذِّكْر يعمل على محوها جميعًا! كلاّ، لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الشكل، إذ للذِّكْر شروطه الخاصّة به المذكورة في محلّها.
كان المرحوم العلّامة يقول: إن كان حال أحدكم لا يساعد على حضور مجلس عصر يوم الجمعة، فعليه ألّا يحضر المجلس، وذلك لأنّ حضوره سيؤثّر سلبًا على حال الآخرين. وكان العلّامة يأمر البعض بمغادرة المجلس إن رأى أنَّ حال هذا الرجل غيرُ مناسب. ولقد رأيتُ بنفسي هذا الشيء عدّة مرات، فرأيته كيف قال لأحدهم يومًا: إنَّ حالك غير مناسب لحضور المجلس، فعليك المغادرة لئلّا يكون لحضورك تأثير سلبيّ على حالات الآخرين.
فإنَّ الأمر ليس بتلك البساطة الّتي يتصوّرها البعض، فهو ليس من قبيل المشاركة في الهيئات۱ الّتي يحضرها أناس مختلفون فيلطم كلّ منهم على طريقته الخاصّة ثمّ ينصرف، بل الأمر هنا يجري وفقَ ضوابطَ معيّنة، ويؤخذ بالاعتبار حال وقابليّة وظروف الأفراد، وذلك ليتمكّن البرنامج السلوكيّ من إعطاء النتائج المرجوّة منه.
القوانين الإسلاميّة قوانين عامّة لا استنسابيّة
ولَمّا كان القانون الإسلاميّ قانونًا عامّا مبنيّا بتمامه على أساس التكامل، فلا يمكننا – والحال هذه – أن نفرّق بين التعاليم الإسلاميّة فنقبل بعضها ونرفض الآخر. ففي الإسلام دستورات مختلفة، فهنا يقول: افعل كذا، و هناك يقول: افعل كذا. ولكنّها ترجع جميعًا إلى أساسٍ واحد، فجميع ما تأمر به التعاليم الإسلاميّة مبنيٌّ على أساس واحد.
فمثلاً عندما ينهى الإسلام المرأة عن التحدّث إلى الرجل، فهو إنَّما يفعل ذلك نظرًا لما يتركه هذا الأمر من أثر سلبيّ على المرأة.. فالعديد من النساء الممرّضات والطبيبات يكتبنَ إليّ رسائلَ يقُلْنَ فيها أنهنَّ يشعرنَ بتغيّر حالهِنَّ عندما يتكلّمنَ مع الرجال في بيئة العمل. فهذا أمرٌ يشعرن به، ولا يمكن إنكاره، فهذا أمرٌ واقعيّ؛ ولذا نهى الإسلام عنه. ثمّ تأتي امرأة وتدّعي قائلة: أمّا أنا يا سيّد فلا أشعر بشيء من هذا، و لا يؤثّر الاختلاط عليّ أبداً! نعم، لأنّ الّذي يكون تحت التخدير لا يشعر بمبضع الجرّاح، ولا يشعر باختراق المبضع لثّته وذلك لأنّ طبيب الأسنان قام بتخدير اللثّة.
قال لي أحدهم: أُجريت لي عمليّة جراحيّة لاستئصال الزائدة الدوديّة بتخدير موضعيّ، ولقد ركّزت انتباهي لكي أعرف اللحظة الّتي يلامس فيها مبضع الجرّاح جسدي، فلم أستطع معرفة ذلك. فهل يكون عدم شعور الإنسان بالألم دليل على عدم وجود مبضع الجرّاح، وعلى عدم خروج الدم، وعلى انعدام أيّ أثر للجرح؟! كلّا، إنّ كلّ ذلك موجود، غير أنَّك أنت الّذي لم تستطع الشعور به.
التخدير آفة المجتمع ومَهلك السالك
كان المرحوم العلّامة يقول: إن مجتمعنا مريض، وهو لا يشعر بذلك لأنَّه تحت التخدير. فها أنا عندما أواجه مشهدًا غير مناسب، أرى كيف يترك ذلك المشهد أثرًا في نفسي، فكيف لا يكون له هكذا أثر في نفوس الآخرين؟! وإن كان له هذا الأثر في نفس الرجل، فكيف لا يكون له أثر في نفس المرأة؟! وها أنا عندما أقرء قصّة غير مناسبة أرى كيف تترك تلك القصّة أثرها في نفسي وروحي، فكيف لا يكون لها مثل هذا الأثر في نفوس الآخرين؟! وكيف لا يترك اللقاء بين الرجل والمرأة أثرًا عليهما؟! نعم،صحيح أنّ نتيجة هذا اللقاء لن يكون نقصان في طول قامة أحدهما من المترين إلى متر واحد ولا نقصان في وزن أحدهما من الثمانين أو السبعين كيلوغرامًا إلى أربعين كيلوغرامًا، ولكن ألّا يترك تأثيرًا نفسيّا وروحيّا؟! ذلك التأثير الّذي يحول دون حصوله على التكامل. نعم، إنَّ مجتمعنا مريض، فها نحن نراهم يقولون: ما المانع من مشاركة المرأة في التظاهرات، ورفع صوتها بإطلاق الشعارات، فذلك يصبّ في مصلحة الدين الإسلاميّ؟! [ويقولون] ما المانع من أن يقوم الرجل بتدريس النساء في الجامعة؟ وما المانع من أن تقف المرأة أمام السبّورة٢ لتحاضر في الطلاّب الجامعيّين؟ نعم، من الممكن أن يتمّ كلّ ذلك، ولا إشكال فيه سوى أنَّه سيؤدِّي إلى خنق ذلك الاستعداد وتلك القابليّة على التكامل الموجودة في نفسها.
إنَّ مَنْ يدعو إلى مثل هذه الأمور هم أفرادٌ لم تصل رائحة الإسلام إلى حاسّة شمّهم أبدًا، فهم لا يعرفون عن الإسلام سوى مجموعة من تصوّرات وتخيّلات نسجوها في أذهانهم عن الإسلام. نعم، هذا ما يقوله هذا الصنف من الناس، أمّا ذلك الوليّ الإلهيّ المتّصل بحقيقة عالم الوجود والّذي يتلقّى الحقائق من ذلك المبدأ، فهل تراه ينطق بمثل هذا الكلام الّذي ينطق به القوم أم لا؟!
بناءً على هذا؛ فليس الهدف من وصف النساء بأنهنَّ نواقص العقول والإيمان هو الانتقاص منهنَّ، بل معنى ذلك أنَّ الله قد وهبهنَّ هذه السعة الوجوديّة في عالم الدنيا، وعليهنَّ استثمارها عن طريق التربية والإعداد من أجل الوصول إلى الكمال المطلوب، فحالها في ذلك حال الرجل الّذي قد أُعطي بعض الخصائص ليستثمرها ويصل بواسطتها إلى الكمال.
لقد قلت مرّة في مكان ما، وكنتُ جادّا فيما قلتُه: بلحاظ ما أشاهده بنفسي وما أعانيه من المسائل، وشعوري بشدّة وطأة المسؤوليّة الملقاة عَلَيَّ، فإنّني أتمنَّى لو كنتُ قد خلقتُ على هيئة امرأة، إذ لا يترتّب على المرأة ما يترتّب على الرجل من المؤاخذة يوم القيامة، فإنَّها لن تُسأل سوى عن القليل من المسائل البسيطة المتعلّقة بالمأكل وبذهابها وإيابها، أمّا الرجل فسيتعرّض في ذلك اليوم إلى حساب عسير، حيث سيُسأل عن سبب قيامه بهذا العمل وتركه لذلك التكليف.
إنّني و بالنظر إلى الأمور والظروف المحيطة بي – وبغض النظر عن شؤون الغير إذ لا شأن لي بالغير – والتكليف الملقى علَيَّ، والقلق الّذي يعتريني من الأمور المحيطة بي، والهمّ الذي يصيبني بسبب ما يجري من حولي، وما يتعلق بالأعمال والأفعال الخاطئة للأصدقاء، وما قد يصدر عنهم من أفعال متطرّفة – والعياذ بالله – وما يترتّب عليها من تبعات، هذا بالإضافة إلى مشاغلي الفكريّة؛ [لا يهنأ لي بال].. فهل تتصوّرون أنّي أنام ليلي وأنهض في الصباح مرتاح البال! بل الّذي يحصل أحيانًا هو أنّي أبقى مستيقظًا لساعات من الليل بسبب ما يفعله البعض وما يعقب تلك الأفعال من تَبِعات. وكلّ ذلك بسبب شعوري بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقي. ولولا ذلك لقلت: ما لي ولهذه الأمور. ولكن لا، لا يمكن إهمال الأمور، فإنّ الله يقول: هذا ما فرضته عليكَ، فعليكَ أن تصمد و تدافع عن هذا الأمر ويجب عليك الاستقامة فيما أُمِرْت.
فهل هذا حال الآخرين؟! ليتني والحال هذه كنتُ امرأةً فأقوم بتأدية العمل المطلوب منّي وحسب.
لا تتصوّروا أنَّ الأمر سهل، وأنَّنا نتفاخر على النساء بأنّ الله قد خلقنا رجالًا، فالرجل مكلّف بإنجاز ألف عمل وتكليف، وعليه أداؤه بأحسن ما يكون، ثُمّ سيتعرّض للمؤاخذة يوم القيامة على كلّ ما فعله، فيُقال له: لماذا قمتَ بما قمتَ به.. كان بمقدورك الامتناع عن القيام بهذا.. هذا في الوقت الّذي لا تتعرّض فيه المرأة لمثل هذه المؤاخذات، وسوف يكون حسابها يسيرًا.
التكامل قانون عامّ يجري حتّى في حقّ المعصوم
أمّا فيما يتعلّق بالسيِّدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، ولعلّ ما سأقدّمه من توضيح في هذا الموضوع سيُتمِّم الإجابة بشكل أسرع، إذ قد استغرق الحديث عن هذا الموضوع الكثير من الوقت.
إنَّ الزهراء سلام الله عليها – ووفقاً لما قدّمنا من حديث – تختلف عن أمير المؤمنين، فوجود أمير المؤمنين يختلف عن وجود الزهراء، وذلك لأنَّ أمير المؤمنين رجل وذو قوّة، بينما لم تكن الزهراء كذلك، فهل تستطيع الزهراء أن تقلع هذا العمود من مكانه لمجرد كونها هي فاطمة الزهراء؟! كلاّ، ليس الأمر بهذا الشكل.
ثمّ إنَّه، وبغضّ النظر عن موضوع الولاية، يوجد تفاوت حتّى بين الأئمّة أنفسهم؛ فها نحن نرى كيف أصبح الإمام الجواد إمامًا وهو في التاسعة من عمره، وليس الأمر منحصرًا بالإمام الجواد، بل لاحِظ إمام الزمان الّذي أصبح إمامًا وهو في الخامسة من عمره وذلك حين انتقل والده الإمام الحسن العسكري إلى رحمة الله.
فالطفل ذو السنوات الخمس، هو الطفل الّذي بمقدوري أن أحمله، بغض النظر إن كان إمامًا أو طفلًا عاديّا، فهذا حاله من الناحية الظاهريّة. أجل هذا الإمام ذو السنوات الخمس لو أراد أن يُعمل ولايته لَاسْتطاع في لحظة واحدة أن يقلب العالم، ولكنّنا لا نريد أن نلاحظ هذه الجهة [الآن] بل نريد أن ننظر من ناحية المميّزات الظاهريّة لطفل في الخامسة مِنَ العمر؛ فبالرغم ممّا لدينا من الروايات الّتي تشير إلى أنَّ سرعة نموّ الإمام كانت غير طبيعيّة، بحيث كان يكبر بشكل سريع، إلّا أنّه شوهد على أنّه طفل ذو سنوات خمس وذلك بعد شهادة الإمام العسكري عندما تقدّم عمّ إمام الزمان جعفر الكذّاب۱ للصلاة على جنازته فخرج عليهم طفل ذو خمس سنوات فأزاح عمّه وقال له: أنا أولى منك بالصلاة على هذه الجنازة يا عمّي. فالجَمْع الّذي كان في المكان لم يروا أنَّ طول قامة إمام الزمان كانت مترين أو ثلاثة أمتار، بل رأوا طفلًا له من العمر خمس سنوات. فليس الأمر أنّه؛ ما دام هذا إمام فيجب أن يكون أقوى من رستم٢، بل كانت قامته قامة طفل له مِنَ العمر ما ذُكر، ولا علاقة لإمامته بهذا الأمر.
فالأمر مع الزهراء سلام الله عليها هو كما أشرنا سابقًا، فلم تكن لتمتلك قوّة أمير المؤمنين ولا شجاعته ولا قدرته على تحمّل ما حصل بعد وفاة النبيّ – إنَّ هذه المسألة تصبّ في نفس موضوعنا الذي كنَّا نتحدّث فيه وواقعة في نفس ذلك الإطار – فإنّ جميع عالَم «ما كان وما يكون» لا يعْدِل لدى الزهراء قيمة ظُفْر، فهل تتصوّرون بأنَّها قد غضبت بسبب غَصْب أرض فَدَك، فلعلّ الشيء الوحيد الّذي لم يكن يخطر على بال الزهراء هو موضوع فَدَك، وليس هي فقط بل لم يكن هذا الموضوع ليخطر على بال خادمتها فِضّة أيضًا، فما بالك بالزهراء. ولقد ذكرتُ لكم قصة فِضّة في هذا المجال أكثر من مرّة. فلم يكن عالَم «ما كان وما يكون» ليشغل بالَ الزهراء – ذلك الأمر الذي يشغل بال الكثير من الرجال – أمّا ما كان يُقلق السيِّدة الزهراء هو موضوع ضياع الولاية؛ أليس لديكم مثل هذا القلق؟ ألم يكن لدى المهتمين بدوام نهج المرحوم العلّامة مثل هذا القلق بعد أن توفي المرحوم العلّامة، سواء الرجال منهم أو النساء؟ ألم يروا بأعينهم كيف ضاعت كافة جهود المرحوم العلّامة أو كانت في طريقها إلى الضياع؟ ألم يصرّحوا عن ذلك القلق، ورأوا ما حلّ بتلك السمعة والعزّة وبتلك الشخصيّة وذلك الاحترام الّذي كانت تتمتّع به شخصيّة المرحوم العلّامة، وما تعرّضت له من فجائع وجنايات؟ ألم يروا كلّ ذلك بأعينهم؟ ألم يراودهم القلق ممّا حصل؟
كنتُ في مدينة مشهد قبل حوالي شهر أو شهرين، وكان قد حصل أمر ما لبعض أقاربنا، فقلتُ له: كان يصيبني نزيف في المعدة في مدينة قُمْ وذلك في نفس الوقت الّذي كنتَ فيه متنعّمًا ولم تكن تبالي بما يحصل، فأنا كنتُ أعاني مِنَ القرحة لأنَّني كنتُ أرى حينها ما الّذي سيحصل في مثل هذا اليوم، أمّا أنت فلم تكن تبالي بما يحصل واستمرّيتَ في حياتك دون أن تلتفت وراءك، وكنتَ تقول: فلْيَحصل ما يحصل. كنتُ أرى وبمقدار سعتي الخاصّة كيف أنَّ كافة جهود المرحوم العلّامة ستذهب سدىً، وإن كان الله سيحفظ هذه المدرسة، غير أنَّ ذلك ما كنتُ أتصوّره. فلكلّ فرد خصوصيّته، فكنتُ أقلق أكثر من غيري لكوني مدركًا للأمور أكثر من غيري، وذلك لكثرة مرافقتي للمرحوم العلّامة ولاطّلاعي على ما كان يبذله من جهد، ولكوني قد سمعت منه الكثير، وكنتُ على علم بما لهذه المدرسة من امتيازات، وكنتُ قد رأيتُ كيف تلاشى كلّ شيء وذهب أدراج الرياح، فلم يُبقوا لهذه المدرسة من سُمْعة أبدًا. نعم كنتُ أرى كلّ ذلك بنفسي، وكان من الطبيعيّ ألّا أتمكّن من النوم ليلًا، ومن الطبيعيّ أن يعود لي مرض المعدة الّذي شُفيتُ منه بعد معاناة لسنوات خَلَت، فالإنسان ليس مصنوعًا من الحجر أو الخشب لكي لا يتأثّر بما يرى وبما يجري حوله.
فتصوروا معي الآن؛ ها أنا وبمقدار ما لديّ من سعة وجوديّة كنت قد تأثّرت بهذا المقدار ممّا حصل [بعد وفاة العلّامة]، فكيف الحال بالنسبة للسيِّدة الزهراء وهي ترى بأنَّ كافة جهود ومعاناة النبيّ لمدة ٢٣ سنة قد ذهبت هباءً، والنبيّ الّذي كانتْ تنزل عليه الملائكة وجبرائيل والّذي عُرج به إلى السماء، ها قد جلس مكانه حفنةٌ من الرجال – يبلغ طول لحية أحدهم إلى قدميه ويبلغ حجم عمامته ما بلغ – يدّعون أنَّهم خلفاء رسول الله. ألا يفترض بالزهراء أن تتأثّر وتقلق في هذه الحال؟! أهي حجر أو حديد بحيث لا تتأثّر؟!
على أنَّ امتلاك الزهراء لذلك المقام وتلك المكانة والمعرفة وإدراكها لحقيقة عالم الوجود ومقدار طاعتها لله، لا يتناقض مع عدم تحمّلها ما حصل، خصوصًا إذا أخذنا بنظر الاعتبار سعتها الوجوديّة وما تتمتّع به من لطافة نفس، فالمحدوديّة الوجوديّة للسيِّدة الزهراء لا تُقارن بالمحدوديّة الوجوديّة الّتي منحها الله لأمير المؤمنين والّتي جعلته يتحمّل الأمر. على أنّ أمير المؤمنين وبالرغم ممّا لديه من سعة وجوديّة، فإنَّه عندما سُئل عن أصعب يوم مرّ عليه، أجاب بأنَّه اليوم الّذي فقد فيه رسول الله. وبسبب التفاوت بين طبيعة الرجل والمرأة لم تمتلك الزهراء من التحمّل وقدرة الاستيعاب كأمير المؤمنين، وذلك لعدم امتلاكها السعة الّتي يمتلكها أمير المؤمنين.
إنَّ فاطمة الزهراء عالمة، كما وأنَّ حقائق الأمور منكشفة لها، فهي تعلم – وههنا أسرار يجب أن يدركها المرء بنفسه – أنَّ أمير المؤمنين قادرٌ على تغيير مجرى الأمور لصالحه وجعْلها تأخذ المسار الصحيح فيما لو أراد ذلك؛ فلو شاء [أمير المؤمنين] الكشف عن تلك اليد البيضاء۱ لتمكّن من التحكّم في عالم التقدير وتبديله لصالحه. نعم، إنَّها تعلم ذلك جيّدًا، ولذا عندما رأتْ ما قام به القوم من ضغط، وجدناها عند أمير المؤمنين تقول: ما دمتَ قادرًا على تغيير الأمور لصالحك، فلماذا لا تفعل؟ والجدير هنا ألّا نترك هذا الأمر بلا توضيح، فنقول؛ عندما قالت الزهراء ذلك لأمير المؤمنين، لم تكن قد وصلت إلى تلك المرتبة من الفعليّة الّتي كانتْ قد وصلتْ إليها في أواخر عمرها.
وعلينا في حديثنا عن هذا الموضوع أن نستذكر ما كنتُ قد طرحتُه عليكم سابقًا فيما يتعلّق بقصّة نبيّ الله موسى مع الخضر؛ حيث لم يتمكّن النبيّ موسى من تحمّل ما كان يفعله الخضر، وذلك لأنَّه كان يتمتّع بسعة وجوديّة معيّنة تجعله يرى الأمور بشكل معيّن؛ فقد كان يتصوّر أنَّ ما دام الله قد بعثه بالرسالة، فلن يكون هناك طريقٌ آخر، وأنّه لا بدّ أن تجري أمور التربية والإعداد في العالم بهذه الكيفيّة فقط. فأراد الله أن يقول له: لقد رأيتَ وجهًا واحدًا فقط من وجوه العملة، وعليك أن تعلم بأنَّ لعملتي وجوهًا متعدّدة، فتعال لأُريك الوجه الثاني من وجوهها؛ ففي الوقت الّذي تلتزم فيه برسالتك وتأمر وتنهى بموجبها وتدعو الناس إلى العمل بحسب الظاهر وتحكم بينهم بالظاهر، ففي نفس هذا الوقت يوجد آخرون يعملون بطريقة أخرى، فهم لا يعملون بالظاهر بل ينظرون إلى بواطن الأمور ويتخذون قراراتهم على ضوئها.
وهكذا كان يعمل نبيّ الله داود من بين بقيّة الأنبياء، وذلك وفقًا لبواطن الأمور؛ فلو جاءه عشرة رجال يشهدون على قضيّة معيّنة، ما كان ليأخذ بشهادتهم، بل كان يردّها ويعتبرها شهادة باطلة، [فإن قيل له:] كيف تردّ شهادة عشرة من الرجال المؤمنين! لقال: إنَّها شهادة باطلة [لأنّ باطنهم مكشوف لي].
ويوجد حتى في زماننا أفراد قلائل ممّنْ كان يحكم بهذا الشكل، نعم لم يكونوا من الكاملين، مثل المرحوم الشيخ قربان عَلِيّ الزنجانيّ والّذي كان من كبار العلماء ومن أصحاب الباطن، غير أنَّه لم يكن كاملًا إذ أولياء الله لا يتصرّفون بهذا الشكل، وقد استشهد الشيخ على أيدي أنصار ثورة المشروطة.
نقل المرحوم (البيات) رحمه الله إلى المرحوم العلّامة، وكنتُ حاضراً في ذلك المجلس، الحكاية التالية: حين كنتُ بمعيّة المرحوم الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ في سفرٍ له إلى مدينة زنجان، نقل لنا أحد رجال زنجان حكايةً قال فيها: كانتُ تربطني علاقة حميمة جدّا بخادم المرحوم الشيخ الملا قربان عَلِيّ الزنجانيّ الّذي كان من كبار التجار في مدينة زنجان ومن الرجال المعروفين جدّا في المدينة، فتطوّع لخدمة المرحوم الشيخ الزنجانيّ قربة إلى الله. ولقد كان المرحوم الشيخ مرجعًا عامّاً والناس تتردّد على بيته. يقول الخادم: جاء يومًا عددٌ من وجهاء مدينة زنجان، الّذين كانوا من التجّار المؤمنين، إلى بيت المرحوم الشيخ، وشهدوا عنده على ملكيّة أحد الرجال لإحدى العقارات، فحكم له الشيخ بملكيّة العقار وختم على سند الملكيّة وانصرفوا. وفي بكرة صباح اليوم التالي طُرق الباب، وعندما فتحتُ الباب وجدتُ امرأة تحمل طفلًا، فقالتْ: لي عند الشيخ حاجة. فأخبرتُ الشيخ فسمح لها بالدخول.
فقال الشيخ لها: ما حاجتك؟ قالتْ إنَّ العقار الّذي أمضيتَ ملكيته لمن جاءك بالأمس يعود إلى هذا الطفل اليتيم، ولقد ظلمتَ هذا الطفل الرضيع، وعليك أن تجيب الله يوم القيامة على ما قمتَ به، وها قد جئت لأخبرك بالأمر وأنْصرف. قال: توقفي يا سيِّدة، ما هذا الّذي تقولينه؟ قالتْ: لقد جئتُ لأخبرك بالأمر فقط. قال: ما الّذي تقولينه، إنّ هؤلاء الرجال من عدول المؤمنين! قالتْ: ها قد جئتُ لأخبرك بالأمر وأنْصرف. قال: حسنًا، ضعي هذا الطفل هنا واخْرجي إلى ساحة البيت. يقول الخادم: فوضعتِ المرأةُ الطفلَ وخرجتْ من الغرفة، وكنتُ أراقبه من خلف الباب، فشرع في قراءة إحدى الأذكار، ثمّ وضع يده على جبهة الطفل وقال: قل بإذن الله ما هو الحكم الواقعيّ لهذه القضيّة. فنطق الطفل بلسان فصيح مثلما يتكلّم الرجل ذو العشرين عامًا قائلًا: إنَّ ذلك العقار يعود لوالدي، ولقد أصبح الآن ملكًا لي، وسند العقار موجود في منزل كذا في الصندوق الّذي له مواصفات كذا. فنادى الشيخ عندئذٍ تلك المرأة وقال لها: خذي طفلك وسأتولى الأمر بنفسي. وفي اليوم التالي استدعى الشيخ الشهود واصطحب معه رجلين أو ثلاثة، وقال لهم: لنذهب إلى منزل كذا. فاصفرّت وجوه الرجال وقالوا: ما الّذي حصل؟! فقال لهم: لنذهب إلى هناك. [وعندما وصلوا] دخل المنزل وفتح باب إحدى الغرف وتوجّه نحو أحد الصناديق الموجودة هناك وفتحه، فعندها عرف الحاضرون الخبر، واستخرج منه السند، ثمّ أخذ منهم السند الّذي كان قد أمضاه لهم في الأمس ومزّقه، وأمضى بعد ذلك السند الأصليّ باسم الطفل وسلّمه إلى أمّه.
وهنالك الكثير من أمثال هذه القضية، غير أنَّه من النادر أن يحكم أحد بهذه الطريقة، إذ يحكم الآخرون طبقًا لظواهر الأمور.
فما يريد الله أن يقوله هنا هو أنّه: لديّ رجال من كلا الصنفين، فمنهم مَنْ يحكم وفقًا للظاهر، ومنهم مَنْ يحكم وفقًا للباطن. وليس مِنْ الضروريّ – طبعًا – أن تكون درجة من يحكم بالظاهر أقلّ مَنْ درجة مَنْ يحكم بالباطن، بل لعلّ الأمر على عكس ذلك إذ قد تكون درجة [من يحكم بالظاهر] أعلى، غاية الأمر أنَّهم يحكمون وفقًا لظاهر الأمر.
وكذلك كانت المسألة بين أمير المؤمنين والسيِّدة فاطمة الزهراء؛ ففي الوقت الّذي وصل فيه أمير المؤمنين إلى مقام الإمامة، لم تكن الزهراء قد وصلتْ من حيث الكمال إلى مرتبة الفعليّة التّامة الّتي حازها أمير المؤمنين. وهنا يكمن السّر، السرّ الّذي لم يَقلْهُ المرحوم العلّامة، أو أنَّه لم يُرِدْ أن يطرح هذا الموضوع، وهذا السرّ هو الّذي قمتُ بإفشائه الآن وهو أنّ؛ الزهراء لم تكن قد وصلتْ إلى تلك الرتبة [من الكمال والفعليّة التامّة]، وإنّما وصلتها بفضل ذلك الإجراء [الآتي ذكره] الّذي قام به أمير المؤمنين. ولهذا السبب نراها قد تراجعتْ عن موقفها وقالتْ: فليحصل ما يحصل، وذلك عندما قال لها أمير المؤمنين: إن كنتِ تريدين أن يبقى ذكر اسم أبيك على المآذن فلا تتكلّمي۱. فيكون أمير المؤمنين قد تصرّف وبدّل رأي السيِّدة الزهراء. [حينها] تعجّبت الزهراء ورأتْ بأنَّها لم تكن قد أحرزتْ الفعليّة في هذا المجال، ولم تكن قد وصلتْ إلى الكمال.
وهذا ممّا لا ضَيْر فيه، لأنّه لا يفترض أن يكون الإنسان كاملًا منذ بداية الأمر، إذ حتّى النبيّ لم يكن كاملًا منذ البداية، بل تبدّلت عنده حالة الاستعداد إلى الفعليّة بشكل تدريجيّ. ففي هذه القضية يكون أمير المؤمنين قد تصرّف وأوصل السيِّدة الزهراء إلى مرحلة الفعليّة، أي إنَّها قد وصلتْ إلى تلك الدرجة من المعرفة الّتي لو جاء حينها ألف أبي بكرٍ – لا أبي بكرٍ واحدٍ – ليجلس مكان النبيّ لَمَا تفاوت الأمر بالنسبة إليها، فتكون قد وصلتْ إلى تلك الدرجة من التحمّل والصبر بحيث لو استمر ذلك الوضع لمدة مائة ألف سنة لَمَا تفاوت الأمر بالنسبة إليها.
الإنس والمَلَك والجنّ والشيطان مختارون ولا تنافي بين الاختيار والاستعداد للفناء
[سؤال]: ما دام الشيطان والجنّ مختارين في أفعالهما، فلماذا لم يُمنحا الاستعداد للفناء في الله؟
[جواب سماحته]: إنَّ مسالة كون المخلوق مختارًا أمرٌ، ومسألة امتلاكه الاستعداد اللازم للفناء أمر آخر؛ فمعنى كون الإنسان مختارًا في أفعاله، هو عدم كونه مجبورًا للقيام بذلك الفعل. فعلى سبيل المثال إنّ القدح الّذي في يدي لا يملك الاختيار، بل هو مجبور على إنجاز العمل المطلوب منه، فأنا الّذي أرفعه من مكانه وأضعه في مكان آخر، ولا دخل له فيما جرى، نعم فهو مجبور – والحال هذه – على إطاعة أمرِ وفعلِ المريد، إذ أنا صاحب الإرادة هنا في تبديل مكانه. أمّا فيما يتعلّق بي، فهل أنا مجبور على رفع القدح من مكانه؟ كلّا، لا يعتبر هذا جبرًا بالنسبة لي. وعليه فنفس هذا العمل؛ يعتبر جبرًا بالنسبة إلى القدح، ويعتبر اختيارًا بالنسبة لي.
فالجن والشياطين وكذلك الملائكة هم مختارون في القيام بالأعمال. وهذا على عكس ما يقوله البعض: أنّ الملائكة مجبورون في أفعالهم، ولهذا السبب لا يرتكبون الذنوب. كلّا، إنَّ هذا الكلام غير صحيح، بل الصحيح هو: أنّ الملائكة مختارون في إنجاز الأعمال الّتي يكلفهم الله بها. فلنأخذ موضوع قبض الأرواح على سبيل المثال؛ فعزرائيل وبقية الملائكة [العاملين تحت إمرته] مختارون في القيام بالعمل الموكل إليهم، فهم غير مجبورين على الطاعة. وعلينا أن نعرف هنا أنَّ قيامهم بالعمل الّذي يُكلفون به شيء، وكونهم مجبورين على القيام بذلك العمل شيء آخر؛ وذلك لأنَّ الملائكة قد حازوا على الفعليّة من الناحية العقليّة، أي حازوا على العقل الكامل، وفي مثل هذه الحالة لا يمكن أن يخطر على بال أحدهم حتّى إمكانيّة عدم طاعة الله. نعم، فهم لا يتصوّرون المعصية ولو تصوّرًا، لا أنَّهم لا يستطيعون المعصية.
فعندما يأمر الله عزرائيل بقبض الأرواح، فلا يكون الأمر بالشكل الّذي يكون فيه عزرائيل مجبورًا على القيام بما أمره الله به، بحيث يكون غير قادر على الامتناع عن الأمر! كلّا، بل باستطاعة عزرائيل أن لا يفعل ما يُؤمر به، فهو مختار في فعله، غير أنَّه لا يمكن أن يخطر على باله في وقت من الأوقات مجرد تصوّر العصيان، وذلك لأنَّه يتمتع بمقام العقل الكامل، فلا يمكنه – والحال هذه – أن يعصي.
وهذا ممّا يمكن أن يحصل للإنسان أيضًا، فيصير الإنسان على حالةٍ، بحيث إن أُمر بشيء من قبل شخصٍ معين فلا يمكن أن يخطر على باله فكرة عدم التنفيذ، ولكن هذا لا يدلّ على أنّه قد أصبح خشبةً أو حجرًا أو حديدًا، بل يكون قد حاز على مرتبة من العقل والعقلانيّة، وبلغ عقله من الكمال مرتبةً بحيث يكون المؤثّر عليه فقط هو اختيار ما فيه المصلحة، وهو يدرك المصلحة بتمامها.
وهذا الأمر يصدق على الملائكة والجنّ والشياطين، فجميعهم مختارون في القيام بأعمالهم، غير أنَّ الشياطين يختارون طريق المعصية، في الوقت الّذي تسلك فيه الملائكة طريق الصلاح، أمّا الجنّ فعلى صنفين؛ منهم المؤمن والشيعيّ، ومنهم غير المؤمن، وهم يتفاوتون فيما بينهم من حيث المقام. وكذلك هو الحال مع الإنسان.
نأمل، بهذا الشرح الّذي قدمناه حول قضية الزهراء سلام الله عليها، ألا يبقي سؤالٌ عالق في الأذهان. وإن كان هناك سؤال آخر، فستتم الإجابة عليه في المجلس القادم إن شاء الله.
نيّتي كانت في الحدّيث عن موضوع آخر هذا اليوم، ولكنّني ارتأيتُ أن استمرّ في الحديث عن هذا الموضوع من أجل أن ترتفع كلّ شبهة عالقة في ذهن أحد.
ولَمَّا كان الأساس الّذي تُقام عليه هذه المجالس هو التعقّل ورفع كلّ شبهة قد تُطرح، فأنا أنتظر أن تُطرح مثل هذه الشبهة إن وجِدَتْ.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد