المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
كيف يجب أن يكون العمل الذي يشتغل به الإنسان؟ وكيف يجب أن تكون حاله بالنسبة إلى تحقيقه؟
تجيب هذه المحاضرة على هذين السؤالين الأساسيّين، حيث يجب أن يقوم الإنسان بعمله على أفضل نحو ـ كمبدأ عام في النظريّة الإسلاميّة ـ بما لا يؤذي نفسه ولا يؤثّر على سائر جوانب حياته، كما يجب أن يرى نفسه واسطة للمشيئة الإلهيّة ويكون مسلّمًا لها، فقد يتحقّق العمل وقد لا يتحقّق، ومع ذلك عليه أن يقوم بما عليه حتّى اللحظة الأخيرة.
وقد استشهدت لذلك بالعديد من المواقف والشواهد من سيرة الأئمّة المعصومين عليهم السلام كمعركة صفّين ومواقف أولياء الله كالعلاّمة الطهراني في حرصه على تأليفاته حتّى النفس الأخير رغم علمه بعدم إكماله لها.
هو العليم
رعاية جانبي التكليف والمشيئة معًا أثناء الاشتغال بالأعمال
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
قال الإمام الصادق عليه السلام: [حقيقة العبوديّة] ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.
فعلى العبد أن لا يكون لديه تدبير لأعماله في مقابل تقدير الله ومشيئته.
ضرورة بلوغ المرتبة الأفضل في جانبي العمل والتسليم معًا
حديثنا هو حول كيفيّة العمل خارج المنزل وفي الأعمال التي يكون الإنسان مكلّفًا بها كمهنة. وحاصل ما تقدم أنّ على الإنسان أن يلاحظ في علاقته بشؤون العمل أمرين:
الأوّل: البعد الخَلقي أو التكليفي.
الثاني: البعد الربوبيّ أو التقدير والمشيئة الإلهيّة.
وإذا زاد أيّ من هذين البعدين عن حدّه فسُد الحال، من دون فرق بين إنسان وآخر مهما اختلفت مواقعهم. جميع الناس، نحن الذين هنا في النهاية لدينا عمل، فالفضلاء والعلماء لديهم تكاليف دينيّة وشرعيّة سواء من حيث الدراسة أو من حيث التبليغ. وعلى التجّار وأصحاب المهن في التجارات والمعاملات وعلاقاتهم مع الناس، أو الذين هم في مسؤوليّات أخرى من الأطبّاء وأصحاب الحرف والذين يرجع إليهم الناس في الدوائر والمؤسّسات والمراكز المختلفة أن يهتمّوا بهذين الأمرين معًا جنبًا إلى جنب.
بلوغ الأفضل في القيام بالتكليف
فالبعد الأوّل: البعد الخَلقي ورعاية التكاليف والتعهّدات التي قدّرها الله لكلّ إنسان، فعلى كلّ إنسان أن يكون ملتزمًا أمام تعهّده هذا ومسؤولاً عنه.
تقدّم في الجلسات السابقة أنّ على الإنسان في قيامه بالعمل في الخارج أن يراعي منتهى الدقّة في علاقته مع الناس، منتهى الدقّة في ذلك العمل الذي يقوم به، وأن يؤدّيه على أحسن وجه ويبرئ ذمّته بالكامل، وأن يهتمّ بالقيام بتلك المسؤوليّة وتلك الوظيفة خير قيام. أن يقوم بتلك الوظيفة وتلك المسؤوليّة بأدقّ نحو، فهذه ليست مجرّد أمور اجتماعيّة، إنّها أمور إلهيّة.
كما تقدّم في الجلسات السابقة أنّ نظام الخلقة قد بني على أساس أتقن وأحكم وأدقّ القواعد الرياضيّة، فلذلك وبمقتضى تحقيق التطابق بين عالم التربية وعالم التكوين والخلقة، لا بدّ من العمل وفق الأفضل، هذا ما يريده الله منّا. هذا ما يرضاه الله. فلا يتصوّر أنّ على الإنسان أن يهتمّ الاهتمام الكافي والسعي البليغ بالأمور العباديّة وحدها، كلاّ! ففي عالم التربية لا فرق بين الأمور العباديّة وغيرها.
مبدأ الوصول إلى الأفضل في كلّ المجالات
وهناك في النظريّة الإسلاميّة أمر وهو الوصول إلى الأفضل والأعلى، وهذا أصل أساسيّ في النظام التربويّ الإسلاميّ. هو أصل أساسيّ في النظام العلميّ والتقني والتكنولوجي الإسلاميّ، وأصل أساسيّ في النظام الدفاعيّ الإسلاميّ. فالإسلام يقول: على المسلمين أن يبلغوا المستوى الأعلى من الناحية العلميّة. ورسول الله بعد أن رفع وجوب صلاة الليل ونسخ كان يمشي في الأزقّة والشوارع بعد نصف الليل وينظر هل لا يزال الناس يصلّون صلاة الليل بعد رفع وجوبها، فإلى هذا الحدّ كان يهتمّ بعمل الليل وعبادة الليل، وهو نفسه كان يهتمّ بأعمال النهار وأمور التجارة والأعمال المختلفة وقوّة الإسلام وقدرة جيشه بنفس المستوى الذي كان يهتمّ فيه بالنسبة إلى الأمور العباديّة، بلا أيّ اختلاف. لماذا؟ لأنّ جميع ذلك ينشأ من منبع واحد، ومن نفس واحدة، وهو عبارة عن الأفضل. فالمهندس في عمله عليه أن يسعى إلى الأفضل. والطبيب في عمله عليه أن يعمل بالأفضل، والمحقّق في تأليفه عليه أن يقدّم الكلام بشكل أكثر إحكامًا وإتقانًا وأقرب إلى القواعد والعقائد والواقع. فهذا النظام هو النظام التربويّ الإسلاميّ.
المنطقيّة والعقلانيّة في مدرسة العرفان
وبعد ذلك انظروا إلى ما يقال من أنّ سالك طريق الله عليه أن لا يهتمّ بهذه الأمور مهما حصل! عليه أن لا يهتمّ بالأمور المعاصرة! أن لا يعتني بما يجري! أن يهمل الأمور بنحو من الأنحاء! فهذا كلّه خطأ. لقد كتب المرحوم العلاّمة في كتابه۱ أنّ السيّد القاضي زار يومًا السيّد الحدّاد في غرفته فأعدّ له كوبًا من الدوغ، وحرك الثلج بإصبعه. فاليد التي مسّت الحديد مثلاً أو الخشب أو أماكن مختلفة هي ملوّثة، وإن كانت في الظاهر نظيفة ولكنّها في الواقع ملوثّة فيها جراثيم. وما إن فعل ذلك قال المرحوم القاضي: اذهب وألقه بعيدًا. لماذا فعلت ذلك؟ وربّما كان السيّد الحدّاد يفعل ذلك سنوات مديدة ويشرب. ولكن هذا العمل الذي أوصى به تلميذَه له بعد تربويّ وليس بعدًا صحيًّا فحسب. فهذا هو المهمّ: أنت تلميذ في مدرسة كهذه، أنت تلميذ منهج كهذا، أنت تلميذ طريق كهذا، وتعتقد أنّه الأفضل والأعلى في جميع الآفاق والجوانب والحيثيّات، فعملك هذا إذا رآه إنسان منطقيّ ـ التفتوا جيّدًا ماذا أريد أن أقول ولنوسّع هذه المسألة ونطبّقها على جميع المواضع ـ لو جاء إنسان ونظر، طبيب، أو إنسان عاديّ درس في صفّين، إنسان يدرك شيئًا من أمور الصحّة وغيرها، فإنّه يعترض على عملك هذا، يجب أن لا يكون في مدرسة العرفان. انظروا كم المسألة مهمّة! فالعرفان ليس أمرًا هكذا كيفما اتّفق، كلاّ لا بدّ من تقديم الجواب أمام الوجدانات اليقظة. لا بدّ من تقديم الجواب أمام العقول السليمة والسالمة. هذه هي مدرسة العرفان. لا بدّ من تقديم الجواب المنطقيّ في كلّ مجال وفي كلّ طريق. لا بدّ من العمل بحيث لا يجد إنسان واحد نفسه محقًّا ولو نصرانيّ واحد، ولو يهوديّ واحد، ولو طفل، ولو ابن خمس سنوات، يرى نفسه محقًّا أمام هذا العمل ويعترض، فلا ينبغي أن يصدر هذا العمل من سالك، هذا هو السالك. مدرسة العرفان تدعونا إلى هذا الطريق، مدرسة العرفان تدعونا إلى هذه الطريقة من السير وتسوقنا إلى هذا النحو، فجميع الأعمال يجب أن تكون على أساس المنطق، يجب أن يكون الأمر على أساس صحيح.
من لا تعهّد له لا سلوك له
لا بدّ أن يكون هذا التعهّد في جميع المواضع، في جميع الموارد. إذا عمل إنسان ما على أساس هذا التعهّد والالتزام فهو سالك، وإن لم يعمل فليس بسالك، إنّه مخادع لنفسه، خدع نفسه وخدع الآخرين.
بينما كنت آتي إلى هذا المكان برفقة بعض الأصدقاء كنّا نتحدّث عن التفلّت وعدم الالتزام بالمسؤوليّات والتعهّدات في المجتمع المعاصر، وكم أنّ الأوضاع متخلّفة، حيث لا يعمل أحد بتعهّده، لا يعمل أحد بالتزامه، هكذا نرى في العلاقات والأمور الماليّة وغيرها أنّ الأمور متروكة، والقضايا تسير بغير تعهّد. وقد زادت المشكلات عند الناس، فماذا حصل؟ وقد قلت له: إلى أين أنت ذاهب؟ أتتوقّع من الناس العاديّين في المجتمع؟! تعال وانظر أين هي مشكلتنا حيث إنّ المنتسبين إلينا وإلى هذه المدرسة يصنعون أمورًا لا يرتكبها جمهور الناس. أين؟ فقط نسمّي أنفسنا سلاّكًا وانتهى الأمر؟! هكذا يمضي الأمر؟! قلت: أنا أعرف أفرادًا متساهلين بالأمور وبلا تعهّد والتزام بحيث لا يرون أدنى قيمة لكرامة إنسان قد تكون في خطر، أو كرامة جماعة قد تكون في خطر. ثمّ بعد ذلك ندّعي أنّنا أهل سلوك! في حين أنّنا نرى في المقابل أناسًا لا يدّعون ذلك، أناسًا لا يبحثون عن هذه الأمور، ويعملون بتعهّداتهم على أساس فطرتهم وعلى أساس عقلهم، وعلى أساس وجدانهم، وإن لم يكن لهم ظاهر مزيّن! وهم ماذا؟ هم كفّار وخارجون عن الطريق، وليس لهم حظ ونصيب من المسير الإلهيّ! ونزعم أنّ أبواب الجنّة الثمانية كلّها لنا، ومختصّة بنا! كلاّ يا عزيزي! لا أثر لهذا الكلام. فالله تعالى قد جلس مجلس حقّ، الله تعالى يقضي بالحقّ، الله تعالى يحقّق في الأمور بدقّة. وهذا الأمر الذي ذكرته لكم هو أدنى وأدنى وأدنى ما يجب أن يكون لدى جمهور الناس، لا السلاّك، أتدرون من هو السالك؟!
جاء في يوم من الأيّام عدد من الناس إلى الإمام المجتبى وقالوا بيّن لنا ما هي حقوق الإخوة في الإيمان، ما هو حقّ الأخ المؤمن؟ ما هو حقّ الرفيق؟ بيّن لنا ذلك! فقال الإمام: دعوا ذلك. قالوا: لا. قل لنا. فقال الإمام من جديد: دعوا ذلك. فلم يقبلوا. وعند المرّة الثالثة قال: أتدرون ما حقّه؟! إنّ أدنى حقّه عليكم أن تناصفوه أموالكم، فهل أنتم هكذا أم لا؟ هذا أدنى حقّ الأخ المؤمن على أخيه.۱
هناك رواية ينقلها المرحوم الملا عبد الصمد الهمداني في كتاب بحر المعارف ـ وأنا أظنّ أنّ هذه الرواية ترتبط بمسائل ظهور الإمام، لأنّ هناك رواية مشابهة لها في ظهور الإمام. يقول الإمام الباقر عليه السلام: أيدخل أحدكم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه ما يريد؟ قالوا: لا. قال: فلستم إخوانًا كما تزعمون. ۱
هل يأتي أحدكم ويأخذ ما يحتاجه من جيب أخيه؟ هل لديكم أمر كهذا؟ هل أنتم لا تحزنون إذا حصل ذلك؟ قالوا: لا، لم نسمع بهذا حتّى الآن، هذه هي المرّة الأولى التي نسمع فيها ذلك منكم. فقال الإمام: فلستم إخوانًا كما تزعمون.
ولكن لدينا رواية أنّ المجتمع في زمان ظهور الإمام يتّجه نحو ذلك. لماذا؟ لأنّه في زمان ظهور الإمام تتّضح المسائل للناس على حقيقتها. هذا في الأمور الماليّة، أمّا في الأمور الأخرى فالأمر هو كذلك أيضًا، ولن نكشف الستار أكثر من ذلك الآن، لن نكشفه! في سائر الأمور، في تلك الامتحانات التي تواجه الإنسان، في المواقف وتحديد الخيارات التي تواجه الإنسان، هناك يعلم من هو الذي يبقى على كلامه! وكلّ الادّعاءات الظاهريّة لا بدّ من النظر كم لها مكان في القلب والنفس؟!
الالتزام والتعهّد بالأمور هو أوّل الأعمال التي يجب على الإنسان أن يقوم بها. كلّ إنسان بالنسبة إلى نفسه وبحسب موقعه، عليه أن يكون بمنتهى الدقّة في التكليف وإلاّ لم يكن مسلمًا، لا يسمّى مسلمًا. كلّ إنسان بحسب موقعه ووضعه، فنحن نبحث حول هذا الأمر، أمّا الجانب الربوبيّ وجانب المشيئة وتنفيذ المشيئة الإلهيّة فهو أمر آخر سنتحدّث عنه.
كان في العهد السابق واحد من العلماء إذا خطب يقرأ آيات جهنّم وآيات الوعيد، وآيات الإنذار، وآيات الخوف والتهديد. قالوا: مولانا القرآن لا يحتوي فقط على آيات التهديد، فيه آيات الترغيب أيضًا. فإن كان هناك آيات حول جهنّم فهناك آيات حول الجنّة أيضًا. قال: نعم صحيح، ولكنّ الأمر يختلف، ففي صدر الإسلام كانت أوّلاً آيات الجنّة وأمثالها والترغيب وجنّات تجري من تحتها الأنهار وسائر النعم الإلهيّة ـ رزقنا الله منها وإيّاكم؛ فكلّنا مشتاقون إليها، أنا من جهتي مشتاق إلى تلك النعم الإلهيّة ولا أدري ما حالكم أنتم، إن شاء الله ستكون من نصيبكم ـ فعندما كان هناك شدّة وضغط وتضييق على المسلمين هكذا كانت الآيات للمسلمين في ذلك الوقت. أمّا عندما جاء الناس إلى المدينة، وارتفع شأن الإسلام قليلاً بدأت شيئًا فشيئًا آيات العذاب والتكاليف وصار الأمر أصعب وأشدّ. قال ذلك الرجل: نعم في هذا الزمان الأوضاع على نحو بحيث لو قلنا آيتين من آيات الجنّة فإنّ الناس سيتركون كلّ شيء. فلا بدّ أن نتحدّث قليلاً عن جهنّم والتهديد والتخويف وأمثال ذلك، والناس بأنفسهم يعرفون آيات الجنّة، ولا حاجة إلى ذكرها!
وما نسي في هذا الزمان هو للأسف التعهّد والإلتزام ويجب أن نعترف بذلك.
الالتزام بالمبادئ الفطريّة والبديهيّة خطوة أولى أساسيّة
وبالطبع فإنّ هذا الكلام بالنسبة إلى الأحبّة والأعزّة المنزّهين عن هذه الأمور هو فقط من باب التذكير والاهتمام، حيث لا بدّ أن نعلم كم هذا الأمر مهمّ وكم له من الأهميّة. وبدون الالتفات إلى هذه المسألة لا يمكن أن نخطو خطوة واحدة، ولا يمكن أن نتقدّم سانتيمترًا واحدًا، لا يمكن أن نرتقي ونتكامل قدر رأس إبرة. فأوّلاً لا بدّ أن تكون أعمالنا وسلوكنا على أساس المنطق والوجدان والفطريّات والبديهيّات الأوليّة التي يلتزم بها جميع الناس وجميع الأديان. ثمّ نرتقي درجة نرتقي درجة، فإذا أرادوا أن يدهنوا هذا الجدار، لا بدّ أوّلاً أن ينظروا هل فيه مشكلة؟ هل فيه نقص؟ ألن تحدث فيه مشكلة؟ هل سيدهنونه ثمّ بعد شهرين يرون أنّ الدهان قد خرب؟ لأنّ الأساس فاسد.
خانه از پاى بست ويران است | *** | خواجه در بند نقش ايوان است۱ |
[يقول: الدار فاسدة من أساسها *** والمعلّم مشغول بنقشها وتزيينها]
اهتمام الأولياء بتصحيح الأساس قبل البناء
لذلك فإنّ كافّة اهتمام وأوامر المرحوم الوالد رضوان الله عليه في زمان حياته كانت تنصبّ أوّلاً على الأساس، كانت أوّلاً الاهتمام بالأساس، لأنّ عدم الاهتمام بالأساس مثل اللون والزينة التي يتزيّن بها الإنسان ثمّ وبسبب عدم صفاء الباطن وعدم النظام التربويّ الصحيح والعمليّ للنفس، فإنّ هذه الألوان والزينة تتعرّض للفساد والنقصان، ثمّ ومع عواصف الأحداث، ومع أدنى تغيير، ومع المدّ والجزر يترك الأصل والأساس. كلّ هذا لأيّ شيء؟ إنّه لهذا السبب. فقوله: لو أنّ إنسانًا أفنى نصف عمره أو ثلثي عمره في الوصول إلى أستاذ لم يكن خاسرًا هو لهذا. وقوله: لو أنّ إنسانًا بذل السنوات الطوال في طلب الخبير لم يبتعد عن الصواب هو لهذا. ذلك الفرد الخبير الذي يأتي ويصحّح الأساس، ذلك الخبير الذي يأتي ويصحّح القاعدة.
تأليفات العلاّمة الطهراني كانت التزامًا منه بما تعهّد به من بيان المعارف التي ضحّى لها الناس بأنفسهم وأبنائهم
عندما تشرّف المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه بمشهد وهاجر إليها، أذكر أنّه تشرّف ذات يوم أحد الأقارب المقرّبين بمشهد أيضًا وكان من أهل العلم، فذهبنا برفقة المرحوم العلاّمة لزيارته. وكانت لديه بعض الاعتراضات على بعض الأعمال، وعلى بعض شؤون المرحوم العلاّمة، وعلى عدم تدخّله في بعض الأمور الاجتماعيّة، وعلى طريقة تربيته وعلاقته مع الناس، فقد كانت في ذهنه هذه الأمور. وأثناء حديث المرحوم العلاّمة مع هذا الرجل قال: هل تعلمون لماذا جئت أنا إلى مشهد؟ ولماذا نأيت بنفسي عن القضايا والأمور؟ أتعلمون لماذا؟! لقد رأيت أنّ هؤلاء الناس خرجوا إلى الأزقّة والشوارع وواجهوا ظلم النظام الملكي بحثًا عن الحقّ، وتحقيقًا وتثبيتًا للإسلام، فالنظام الملكي لم يكن نظامًا إسلاميًّا، نظام الشاه كان نظام كفر. فإيران في العهد السابق لم تكن إيران الإسلاميّة، كان هناك نظام ظلم ونظام كفر، لقد سعى هؤلاء الناس إلى تطبيق النظام الإسلاميّ، وليعلنوا بأرواحهم أنّا نريد أن يطبّق في هذا البلد ما قاله رسول الله، أن يطبّق في هذا البلد ما يريده إمام الزمان عليه السلام، ما يريده القرآن، تلك هي العدالة المتوقّعة في هذا البلد، أن تتحقّق فيه عبادة الإمام السجّاد، أن يتحقّق فيه علم الإمام الباقر والإمام الصادق، وتلك المعرفة الإسلاميّة للإمام وللتوحيد وللمعاد وللمفاهيم، لا المعرفة المخترعة من عندنا، ألم يثر الناس لأجل هذا؟ ألم يبذل الناس الدماء لأجل هذا؟! ألم يجاهد الناس لأجل هذا؟! لقد رأيت أنّ الناس بذلوا الدماء، جاهدوا، واجهوا وأزالوا ذلك الكفر، وأزالوا ذلك الظلم، وتحقّق الآن ذلك النظام الإسلاميّ ولكن لا شيء في أيدي الناس، لقد وصلنا الآن إلى هذه الحكومة فماذا علينا أن نفعل؟ فهل عرفنا الأئمّة الآن؟ هل عرفنا المعاد؟ هل عرفنا التوحيد؟ هل وصلنا إلى حقائق الإسلام أم لا؟ تمامًا مثل مبنى يريد إنسان ما أن يجعله مستشفى، فنحن نتصوّر أنّه يكفي أن يرتفع بناء، وتنظّم الغرف ويهيّأ المبنى، فهذا يكون مستشفى، كلاّ بل هذه هي بداية المستشفى، فالآن يريد هذا المستشفى طاقمًا، يريد أطباء، يريد ممرّضين وممرّضات، يريد أسرّة، يريد أدوية، يريد تصويرًا، يريد مختبرًا، يريد رجلاً متخصّصًا، ويريد بروفيسور، يريد الآلاف من أهل الخبرة، يريد ميزانيّة، يريد مالاً، يريد علاقات، يريد اهتمامًا، يريد إدارة. كلّ هذه الأمور والمشكلات تشرع للتوّ بعد بناء المستشفى، نحن نتصوّر أنّه إذا انتهى البناء فقد انتهى الأمر، فنضع لوحة أن هذا مستشفى كذا، كلاّ فليس الأمر كذلك.
المعنى المطلوب من معرفة الإمام
فهذا النظام الإسلاميّ الذي تحقّق الآن وظهر، هذا النظام الإسلاميّ يريد معرفة بالإمام، ففخر الشيعة على السنّة هو أنّ لدينا إمامًا وليس لأهل السنّة إمام. إذا أخذوا منّا نحن الشيعة إمام الزمان فنحن سنّة. قوام مدرسة التشيّع بوجود إمام الزمان عليه السلام. أفلا يجب أن نعرف إمام الزمان؟! أنكتفي بأنّ اسمه اسم النبيّ وكنيته كنية النبيّ وقد ولد من أمّ اسمها السيّدة نرجس ومن أب اسمه الإمام الحسن العسكريّ سنة كذا وينتهي الأمر عند هذا الحدّ؟! هذه معرفة الهويّة الشخصيّة، والآن هو غائب، وسيظهر إذا شاء الله. فهل إمام الزمان يتوقّع منّا هذا المقدار من المعرفة؟! هذا المقدار الذي بيّن ببضعة أسطر. أهذا هو؟ هذا الذي يعرفه طفل ابن خمس سنوات، أهذا هو المقدار الذي على البلد الشيعيّ أن يعرفه عن الإمام؟
هل يجب أن يقتصر مجتمع شيعيّ على هذا المقدار من التوحيد؟! هل يجب أن يقتصر المجتمع الشيعيّ على هذا المقدار من معرفة المعاد؟! وما هي المعارف الإلهيّة حول الجهاد وما هي حقيقته؟ أين يجب أن يكون وأين لا يجب؟ ما هو الأمر بالمعروف وما هو النهي عن المنكر؟ ما هو التولّي وما هو التبرّي؟ أيكفي أن يعلموا هذا المقدار أم لا؟ وبما أنّه جاء الإسلام وارتفعت راية الإسلام بدلاً من راية الكفر وراية الظلم فماذا علينا أن نقول لهذه الأمّة؟
هنا قال المرحوم العلاّمة: شعرت أنّه يجب أن أهاجر إلى مشهد وأن أعرّف إلى هذه الأمّة ذلك الإسلام الذي بذلوا من أجله الدماء، وقدّموا الأرواح، وقدّموا الزوجات والأبناء والأزواج والآباء والأمّهات، أن يا أيّها الناس: هذا إمامكم ثمانية عشر جزءًا معرفة الإمام. أيّها الناس هذا معادكم: عشرة أجزاء معرفة المعاد، أيّها الناس هذا توحيدكم، أيّها الناس هذا قرآنكم، هذه صلاتكم، هذا دعاؤكم، هذا طريقكم. لأجل هذا التعهّد والالتزام قال: أنا هاجرت من طهران، وجئت لأعمل بما تعهّدت به، جئت لأعمل بما التزمت به.
وإنصافًا لم أر أحدًا في مثل التزامه بتعهّداته. فقد كان ملتزمًا إلى درجة كبيرة ـ وكلّ ما أذكره لكم فهو عن الجانب الخَلقيّ للمسألة، وحانب التعهّد والتكليف. أمّا الجانب المقابل فسنتحدّث عنه، أذكر أنّي عندما كنت عائدًا برفقته تلك الليلة التي أصيب فيها بمشكلة في عينه وتقرّر أن نأتي إلى طهران وأن تجرى لعينه عمليّة جراحيّة على يد أحد الأطبّاء، كنت جالسًا عنده ليلاً، فقال: يقولون أنّه بسبب مطالعاتك وكتابتك ابتليت بهذه المشكلة وبتمزّق الشبكيّة، فمن الأفضل أن تترك ذلك، من الأفضل أن تريح نفسك قليلاً، من الأفضل أن تراعي نفسك قليلاً، ثمّ قال: "اعلم يا فلان ـ ولم يكن يمازح ـ لو قطّعوا بدني إربًا إربًا لن أنقص ممّا قلته كلمة واحدة، ولا كلمة واحدة" فهذا تعهّد.
والآن كم تقدّمنا نحن في ذلك؟ فمن تحمّل آلاف الأنواع من الأمراض والمشكلات: مرض الديسك، مرض الكبد والصفراء، ضغط الدم والتضييقات وغيرها... والآن ابتلي بمشكلة العين هذه يقول: لا أتنازل عن كلمة واحدة ممّا قلته ولو قطّعوا كامل بدني إربًا إربًا. فهذا تعهّد خَلقيّ، هذا التزام، التزام في مرتبة الخَلق.
كنّا في طهران، وكان الناس يأتون لعيادته، وكان منهم رجل لا يزال الآن على قيد الحياة ولديه درس أخلاق في مختلف المناطق، وكان من أصدقائه السابقين، فقد جاء هو أيضًا لزيارته، وأثناء الحديث التفت إلى المرحوم العلاّمة وقال: يا سيد محمّد حسين لقد كتبت هذا المقدار فالله يقول: دع الكتابة جانبًا واسترح قليلاً ولنجلس ونتحدّث معًا، لقد كنت مشغولاً على الدوام بالكتابة فتعال لنجلس الآن في خلوة معًا، ونقلع عن هذه الكتابة. وقد جاء هذا على شكل مرض، وهو فرصة مناسبة.
فلم يجبه المرحوم العلاّمة، فكان مطأطئًا رأسه وذلك الرجل يتكلّم هكذا بكثرة! فلمّا ذهب قال المرحوم العلاّمة: سيّد محمّد محسن تعالى إلى هنا، هل سمعت كلامه؟ ما رأيك به؟ قلت: لا شيء قليل من الكلام طرح هكذا. قال: ما الدليل؟ قلت: الدليل هو أنّه إن كان ما قلتموه ... ـ أنا مراعاة للمرحوم العلاّمة واحترامًا له لم أجبه، فقد كان هو موجودًا في النهاية ـ قلت جواب هذا الرجل الذي يرى نفسه صاحب أخلاق، هذا الرجل الذي يرى نفسه موحّدًا، يجب أن يقال له: أنت صاحب نظرة ثنويّة وليس لديك رؤية توحيديّة، لأنّه إن كان ما تكتبونه بسبب أمر الله فهو عين المرافقة وعين القرب من الله وعين الأنس مع ذاته، والجلوس إلى جانبه، وحظّ من تلك النعمات والبركات. وإن كان ما تكتبونه على أساس هوى النفس فهذا أمر آخر.
هذا الرجل يظنّ أنّ الإنسان يكون في أنس مع الله فقط عندما يترك العمل، وهذا خطأ، في حين أنّه لو كان الله يرى الأنس لعبده في العزلة فلماذا أمر رسوله بالخروج من غار حراء، لقد بقيتَ في غار حراء لأربعين سنة، ابتعدتَ عن أهل مكّة أربعين سنة، فاخرج الآن ووزّع ما حصّلته إلى الآن بين الناس، ما حصّلته في خلوتك معي في مكان لا يصل إليه الطير ولا وجود فيه حتّى لحيوان، فاذهب الآن اطرح هذا الأمر على أبي سفيان وأبي جهل، مع الوليد وعتبة وشيبة وأمثالهم، اذهب وأخبرهم بهذه الأمور، لماذا؟ لأنّ هؤلاء عبادي. فتعال واطرح عليهم الأمر. فهل انفصل رسول الله عن الله عندما دخل المجتمع؟ هل انفصل رسول الله عن الله عندما كان بين الناس واشتغل بالتبليغ ونشر الرسالة هل انفصل عن الأنس بالله؟ كلاَّ!
ذلك البعد التربويّ والبعد التكامليّ الذي على رسول الله أن يطويه، قد طواه في الارتباط مع الناس. ولو لم يأت رسول الله إلى الناس ويختلط بهم ويرشدهم ولم يكن معهم، لَمَا كان رسول الله. فرسول الله الذي هو صاحب الشفاعة الكبرى هو رسول الله الذي جاء إلى الناس وكان له ارتباط بهم، وفق التكليف والأمر الإلهيّ، ذلك التكليف انتشر بين جميع الأفراد الذين يجلسون الآن في هذا المجلس. ذلك التكليف هو موجّه إليّ، وموجّه إليك، ذلك التكليف هو لكلّ واحد واحد من الناس حسب موقعهم ووضعيّتهم الخاصّة.
والآن نحن والطريق الذي أمامنا فكم عملنا به؟ كم عملنا بهذا التكليف؟
فإذن الكتابة وأمثالها ليست أمرًا منفصلاً عن التكليف الإلهيّ، إنّها عين الأنس بالله، ولو لم يفعل هو ذلك ولم يتحمّل كلّ تلك المشقّات لما كان ذلك العارف الذي يمكنه أن يكون أسوة لنا. لما أمكنه أن يكون كذلك. وتلك الموهبة الإلهيّة حدثت له بسبب هذا الأمر. غاية الأمر قلت لكم إنّ كلّ إنسان يقوم بذلك بحسب موقعه وفي طريقه.
رعاية جانب المشيئة الإلهيّة والتسليم له أثناء القيام بالتكليف
تمامًا كما أنّه من الناحية الأخرى ـ والكلام هنا كثير وقد رأيت أنّ أنهي هذا البحث اليوم وأتعرّض إلى سائر الوظائف، الوظائف الشخصيّة وظائف السالك في المنزل وفي سائر الوظائف ـ فالناحية الأخرى التي على الإنسان أن يلتفت إليها هي أنّ على الإنسان أن يرى نفسه وسيلة.
على الإنسان أن يعلم أنّه ليس هو الهدف، على الإنسان أن يعلم أنّه لا موضوعيّة له، على الإنسان أن يعلم أنّه لا استقلال له، إنّه عبد جعله الله في هذا المجال وعيّن له تكليفًا وانتهى الأمر. عليه أن يسعى إلى ذلك وفي الوقت نفسه فإنّ التحقيق وعدم التحقيق والتوفيق وعدمه لا بدّ أن يعدّا من الله. هذا الإنسان الذي كان له كلّ هذا الاهتمام وهذه العناية والرعاية، هو نفسه المرحوم العلاّمة قال لي: أنا سأسير في هذه الكتب إلى حدّ ما، ثمّ لن أوفّق بعده، لن أوفّق! كم كنّا نصرّ عليه أن يعطي أولويّة لكتاب التوحيد وكتاب معرفة الله على سائر مؤلّفاته، وهو أيضًا كان يعد وكان يعد، حسنًا سأفعل، إلى أن شرع بهذا الكتاب، وهو بنفسه كان قد قال: أنا أكتب هذا المجلّد الثالث ولن أوفّق للرابع! فرغم أنّه يعلم، عليه أن يعمل بهذا التكليف ملتفتًا إلى جانب التقدير الإلهيّ وجانب المشيئة الإلهيّة بأنّ هذا العمل سيبقى ناقصًا في وسطه. حسنًا سيبقى ناقصًا فليبق. فهل نظام الدنيا باختياري حتّى أوصل الأمر إلى نتيجته؟ فقد جعل الله تكليفًا وطريقًا ووظيفة وأنا عليّ أن أعمل بهذه الوظيفة، أمّا أنّها ستصل إلى نتيجة أو لن تصل فهذا بعهدته هو لا بعهدتي.
على أمير المؤمنين عليه السلام أن يعبّئ الناس ويرغّبهم بمحاربة معاوية، عليه أن يثيرهم للقضاء على حكومة الظلم الأمويّة. أمّا أنّ هذه الحرب ستصل إلى نتيجة أو لا تصل؟ فهذا فليس في يد عليّ، كلاّ، بل هو في يد الله. وقد رأينا أنّه لم يصل إلى نتيجة، ثمانية عشر شهرًا طالت معركة صفّين، قتل فيها تسعون ألفًا من الطرفين. فماذا حصل في النهاية؟ هل وصل أمير المؤمنين إلى نتيجة؟ نعم، وصل أمير المؤمنين إلى نتيجة، ولكنّ النتيجة كانت شخصيّة، هو عمل في هذا الطريق بتكليفه، هو وصل هنا إلى ما يجب أن يصل إليه، وصل إلى النقطة التي يجب أن يصل إليها. ولكن من الناحية الاجتماعيّة بقي الأمر ناقصًا، حتّى إنّ أمير المؤمنين قال مرارًا بعد معركة صفّين: سأجهد أن أطهّر الأرض من هذا الجسم المنكوس۱. سأبذل كامل قوّتي لكي أخلّص الأرض من هذا الإنسان الفاسد، ومن ظلم وجور هذا الإنسان المعكوس، سأبذل كامل قوّتي. فهل وصل إلى هذا الهدف؟ كلاّ، بعد بضعة أيّام من هذه الخطبة جاء ابن ملجم المرادي وضرب رأس أمير المؤمنين.
الفارق بين أهداف أولياء الله وأهداف غيرهم
يقول الإمام أنا أبذل جهدي، لا يقول: بما أنّه سيأتي التاسع عشر من رمضان ـ وقد كان يخبر بهذا الخبر أيضًا ـ بما أنّه سيأتي التاسع عشر من رمضان فأنا عليّ أن أتنحّى لماذا أسعى؟ بما أنّي سأقتل فلماذا أبذل الجهود؟ بما أنّه سيقع السيف على رأسي فلماذا أتكلّم؟! لماذا أتكلّم؟! كلاّ فالإنسان الكامل يعمل بوظيفته حتّى اللحظة الأخيرة؟ لماذا؟ لأنّ الهدف الذي لدى الإنسان الكامل يختلف عن أهداف الآخرين. فالآخرون يعملون ليصلوا إلى النتيجة التي يرغبون بها حسب أهوائهم ولو كانت الصبغة إلهيّة. ولو كان اللون إلهيًّا، ولو كان الظاهر إلهيًّا. يحاربون لكي يطبّقوا الإسلام حتمًا في بقعة معيّنة، وإن لم يطبّق سيختلّ العالم! المجرّات ستصطدم ببعضها! أمّا الإنسان الكامل فليس كذلك، يحارب لأنّ الله قال. ولذلك رغم أنّه يمكنه أن يصل إلى بعض الأمور، إذا أمر الله بالتوقّف يتوقّف. فالله قال إلى هنا. ونحن جئنا إلى هنا والآن نتوقّف.
لقد جاء أمير المؤمنين عليه السلام إلى جانب صفّين فرأى أنّ معاوية قد منع الماء، فقاتل حتّى أخذ الشريعة وساحل النهر، جاؤوا إلى أمير المؤمنين فقالوا: الآن نحن نمنعهم الماء، ونعجّزهم، وتعجيزهم يعني هزيمة معاوية. ولكنّ أمير المؤمنين قال: كلاّ: هذا العمل باطل، أعطوهم الماء. فهذا هو الإمام. فلو كنّا نحن هل كنّا نفعل ذلك؟! لو استطعنا لألقينا في هذا الماء السمّ. لماذا؟ ذلك الهدف الذي لدى عليّ يختلف عن الهدف الذي لدينا. إنّه يريد أن يعمل بالتكليف فحسب.
أيّها السادّة، رفاقي الأعزّاء، هذا الأمر لا يحصل لأيّ إنسان. لا يمكن لأيّ كان أن يرد هذا الوادي! إنّه الإمام. هدفه تحقيق المبادئ الإلهيّة. الآن بعد ألف وأربعمائة سنة نأتي ونقول: عليّ . فهل صار عليّ عليًّا هكذا؟! أم لا بل قام بهذه الأعمال حتّى صار عليًّا. فلو منع أمير المؤمنين الماء عن معاوية لما كنّا نقول الآن: عليّ. لكنّا نقول: ذلك خادع وهذا خادع أيضًا، لقد خادع فربح، لقد كان هذا أقوى، فلو فرضنا الأمر على عكس ذلك، افترض أنّ المقاتلين في جيش معاوية كانوا أقوى، لكان البحث بحثًا ظاهريًّا، بحث معادلات ومعاملات ظاهريّة، لما كان بحث قيم. لذلك عندما يبكي حجر بن عديّ على صفات أمير المؤمنين فإنّ معاوية القاسي القلب يبدأ بذرف الدموع. لماذا؟ لأنّه يعرف عليًّا. هو يعرف أنّه في يوم من الأيّام أغلق الماء أمام جيش عليّ ولكنّ أمير المؤمنين عندما سيطر على الماء سمح لهم أن يشربوا، فهذا ما يعلمه معاوية، معاوية الكافر، معاوية عديم الدين، معاوية عديم الوجدان، معاوية [المنكر] لكافّة الحقائق الإسلاميّة، خاضع أمام هذه الشخصيّة، متواضع أمام هذه الشخصيّة، وإلاّ لو كان أمير المؤمنين كمعاوية مخادعًا وماكرًا... الإمام نفسه يقول: وما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر. ولو أردت لضربته على يده، ولو فعل أمير المؤمنين ذلك لما بكاه معاوية عندما كان يذكر اسمه. فهذا الإنسان هو الذي يغدو أسوة، هذا الإنسان، عليّ هذا هو الذي يصبح أسوة لنا بعد ذلك، هكذا هو أمير المؤمنين. إلى أيّ بعد ينظر؟ إلى بعد التقدير والمشيئة الإلهيّة.
لذلك لدينا في الجهة المقابلة تكليف أن اعملوا بمقدار لا يؤثّر على نفوسكم وأذهانكم، ينبغي أن لا تجعلوا كلّ الوقت للعمل بحيث إذا جئتم إلى الفراش ليلاً لا تجيئون ببدن متعب وأعصاب عاجزة. إذا ذهبتم إلى الصلاة لا يمكنم أن توفّقوا. اعملوا بمقدار لا يقضي على قدرتكم ونشاطكم. علينا أن نعمل ... والأمر نفسه بالنسبة إلينا، علينا أن نقرأ ونطالع بمقدار، ونحقّق بمقدار ونهتمّ بالأمور بمقدار يجعل لنا الفرصة الكافية للأمور الأخرى، لا أن نجعل كامل الوقت للمطالعة، كامل الوقت للعمل، كامل الوقت للعلاقات الخارجية، وعندما نأتي إلى المنزل لا يكون لدينا قدرة على الكلام مع الزوجة والأولاد، ولا قدرة على قراءة صفحتين من القرآن، ولا قدرة على أن يقول كلمة واحدة كقصّة أو حكاية أو موضوع معيّن في المنزل، فبما أنّه جاء من الخارج فلا بد في النهاية أن يكون له جلسة أنس.
لا بدّ من العمل بمقدار لا يشغل ذهن الإنسان، ما إن يشعر أنّ هذه المعاملة تسيطر على ذهني وأبقى إلى الصبح متأثّرًا بها فلتبق للغد. لماذا يقوم بها في هذا اليوم؟ هذا معنى هذا البعد من المسألة، هذا معنى رعاية جانب التقدير والمشيئة الإلهيّة إلى جانب العمل والسعي، فليس من الضروريّ أن تكون المشيئة الإلهيّة في أن أصل إلى هذا العمل. المشيئة الإلهيّة هي في تحقّق ما يرضاه الله وفي تحقّق ما يريده الله، نحن علينا أن نعمل وفق التكليف ووفق الوظيفة بمقدار ما رسم لنا. الاهتمام والتعهّد والالتزام في مكانه، ولكنّ رعاية الأمور الأخرى في المقابل والتعلّقات الأخرى لا بدّ منها. فلا بدّ من الاهتمام بكلّ شيء في مكانه المناسب.
لذلك نرى في سلوك الأعاظم أنّ هاذين البعدين يلاحظان معًا جنبًا إلى جنب. فهم يراعون التكليف والالتزام بالأمور الخارجيّة، كما يراعون المقام والصحّة والسلامة والفكر والتفرّغ للأمور والتكاليف الأخرى. كيف يمكن للإنسان أن يكون متعبًا في الليل ثمّ يقوم ساعة، ساعة ونصف قبل أذان الصبح، هل يمكن؟! كيف يمكن للإنسان أن يكون مشغولاً بأمور ثمّ يكون له حضور قلب في الصلاة وخلوص؟ أيمكن ذلك؟ لذلك على الإنسان أن يراعي ذلك جنبًا إلى جنب.
يبيّن الإمام سيّد الشهداء عليه السلام هذا الأمر خير بيان في ذلك الكلام المنسوب إليه فيقول:
اللهمّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك.
اجعلني بنحو أخشاك وأراك رقيبًا عتيدًا ومشرفًا ومراقبًا لأعمالي كأنّي أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك وخر لي في قضائك حتّى لا أحبّ تأخير ما عجّلت ولا تعجيب ما أخّرت. ۱
إلهي اجعل قضاءك وقدرك ومشيئتك لي بنحو واجعلني موافقًا لها واجعلني محبًّا لقضائك ومشيئتك بحيث إذا أردت أن توجد لي أمرًا أو حادثة لا أسعى إلى دفعها، وما تريد أن تحدثه لي لاحقًا لا أعجّله، وما تريد أن تعجّله لا أؤجلّه. فهذا هو ذلك السلوك وتلك الحركة السلوكيّة التي يجب أن تكون لدى العبد أمام ذينك البعدين.
حتّى لا أحبّ تأخير ما عجّلت
إن أردت أن تعجّل لي شيئًا فأنا لا أؤخّره إن أردت أن تصيبني بضرر لا أؤخّره بل أقول إلهي أتريد أن تصيبني اليوم بضرر فليكن! شكرًا لك.أو إذا أردت أن تصيبني بنعمة بعد أسبوع، لا أقول: كلاّ أنعم عليّ هذا الأسبوع. لماذا؟ أجعل كلّ شيء في مكانه. لماذا؟ كلّ ذلك هو بسبب أنّ المهمّ لدى السالك هو إدراكه ووصوله، وسائر الأمور عابرة، سيأتي يوم وتنتهي، المهمّ أن أجد نفسي في هذا المقام. هذا هو المهمّ. إنّ رمز ومفتاح السلوك قد بيّنه سيّد الشهداء عليه السلام في هذه العبارة، أنّ تمام الأمور وكافّة الزعامات والمواقع والبيت والحياة والرفيق والعلاقات والتعلّقات كلّها تأتي وتزول. ما يبقى هو أنا فعليّ أن أدرك ذلك وأصل إليه. إن شاء الله نرجو من الله تعالى أن يوفّقنا لما أوصى به الأعاظم ونظّموا طريقهم على أساسه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد