المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير والأسرة
التوضيح
ما هو الهدف من خلقة بدن الإنسان؟ لماذا جعل الله تعالى الذكورة والأنوثة في عالم الدنيا؟ لأيّ شيء وُضعت الأحكام الإسلاميّة؟ ما هو الهدف من تشريع الزواج في الإسلام؟ ما هي حقيقة الزواج في عالم القيامة؟ ما هو الأساس الذي تتكّئ عليه العلاقة الزوجيّة؟ ما هو التأثير السلبيّ للخلافات الزوجيّة على حياة الإنسان؟ ما هو دور المحبّة الزوجيّة في تعلّق الإنسان بالله تعالى؟
هي تساؤلات سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لإكمال حديثه عن العلاقة الزوجيّة القائمة بين الرجل والمرأة.
هو العليم
العلاقة الزوجيّة
حقيقتها، أساسها، وتأثيرها في كمال الإنسان
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۷۸
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى اللَه على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
في الجلسة السابقة، تحدّثنا قليلاً عن حقيقة نفس وروح كلّ من الرجل والمرأة، وبيّنا أنّ الله تعالى أودع وجودَ الإنسان كلّ ما يلزمه في حياته وفي استمرار هذه الحياة بنحو مفيد، وذلك وفقًا لما تقتضيه مصالح الحياة وضروريّاتها.
بدن الإنسان وسيلة لبلوغه الكمال
فمن خلال الالتفات إلى المسائل المرتبطة ببدن الإنسان وجسمه، وما أودعه الله تعالى فيه؛ وبعبارة أخرى، بالالتفات إلى تشريح البدن، وكيفيّة تأليفه من أعضاء، فإنّنا نستنتج أنّ الله تعالى وضع فيه كلّ ما يُساهم في استمراريّة حياته وبقائها، حيث جعل الفم وسيلة لابتلاع الطعام، والأسنان لمضغه، والمعدة لهضمه، والأمعاء لامتصاصه، وكذلك الكبد لتفكيك كلّ ما نأكله إلى عناصر مختلفة، وحقن ما يحتاجه البدن في الدم؛ وجعل أيضًا القلب أداةً لضخّ الدم إلى كافّة الخلايا؛ وهكذا أيضًا بالنسبة للرئة والمثانة والكلى والعين والأذن والدماغ؛ فجميع هذه الأعضاء نحتاجها لنموّ استعداداتنا الإنسانيّة، وبلوغها مرتبة الفعليّة في هذه الدنيا، ولم يُخلق أيّ واحد منها عبثًا، ومن دون سبب؛ ففي فترة من الفترات، كان يُقال إنّ الزائدة الدوديّة لا فائدة منها، لكنّهم يقولون الآن: إنّ هذا غير صحيح؛ وفي زمان من الأزمنة، كان يُقال إنّ اللوزتين زائدتان، لكنّهم يقولون الآن: إنّ الأمر ليس بهذا النحو؛ وفي فترة سابقة، كان يُقال إنّ وجود الطحال وعدم وجوده على حدّ سواء، لكنّهم يقولون الآن: إنّ هذا غير صحيح، وعدم وجوده يتسبّب في مجموعة من الأمراض؛ فكلّ واحد من هذه الأعضاء خلقه الله تعالى بحساب محدّد، وبتقدير معيّن، ووفقًا لمشيئته الخاصّة؛ وذلك للوصول إلى حياة أفضل تتمثّل في الاعتدال المزاجيّ اللازم لاستمرار الحياة وبقاء النسل؛ ولهذا، فإنّه تعالى وضع كلّ ما يلزم ذلك في وجود الإنسان؛ ويبقى أنّ هذا الأمر مرتبط بخلقة الإنسان المادّية والطبيعيّة؛ في حين أنّ المسألة لا تقتصر عليها فقط، حيث إنّ الخلقة الأهمّ والأرقى من خلقة البدن ـ مع كلّ تعقيداتها وبالنظر إلى أنّ ما اكتشفناه لحدّ الآن في هذا المجال هو قليل من كثير ـ هي خلقة النفس والروح التي تعلّقت بهذا البدن، والتي نسبتُها إليه نسبة القطرة إلى البحر؛ وقد تحدّثنا سابقًا عن هذه المسألة، ولا يبدو أنّ ذلك من باب المبالغة، بل إنّ هذا التشبيه ناقص، ولا يفي ببيان المراد.
فروح الإنسان ونفسه نشأت من المقام الربوبيّ للحقّ تعالى، ولها أصل هناك، لكنّها تقيّدت عند تنزّلها إلى هذا العالم بهذا البدن، حيث يتعيّن عليها أن تستخدمه كآلة فقط؛ نظير نجّار افتتح معملاً كبيرًا جدًّا، واشترى مجموعة من الأدوات والآلات المتعلّقة بالنجارة، وحينما يُهيّئ كلّ شيء، فإنّه وعوضًا عن أن يأتي بالموادّ اللازمة، ويستقبل الطلبات، ويشرع في العمل، فإنّه ينشغل باللعب بالفأس والمطرقة؛ فيأتي من الصباح إلى المساء، ويبدأ بالعبث بتلك الآلات، إلى أن يحلّ الليل، فيرجع إلى المنزل؛ وهكذا في اليوم التالي، يأتي إلى هناك، وينهمك في تثبيت البراغي والصواميل وفكّها؛ ثمّ يأتي مرّة أخرى في اليوم الذي بعده، ويقوم باختبار تلك الأدوات؛ وهكذا، يمرّ الشهر الأوّل والثاني، إلى أن تنقضي عدّة سنوات على هذا المصنع بما يتّصف به من عظمة وكبر، من دون أن تُصنع ولو طاولة واحدة؛ هل التفتّم؟! فهذا هو حالنا نحن في هذه الدنيا؛ أي: بدلاً عن أن نأتي إلى هذا العالم، ونستخدم هذا البدن كآلة وأداة، فإنّنا ننشغل به، وبتذهيبه وترصيعه وتزيينه، فنحصر توجّهنا بهذا الجسد وبالأمور المرتبطة بهذه الدنيا.
الذكورة والأنوثة مرتبطة ببقاء النسل في الدنيا ولا وجود لها في العوالم العلويّة
فكما ذكرنا سابقًا، فإنّ هذه المسألة مرتبطة باستمرار النسل وبقائه في هذه الدنيا؛ وأمّا إذا نظرنا إلى حقيقة الروح والنفس، فبما أنّها تفقد في المراتب العلويّة جهة الأنوثة والذكورة، فإنّه لا وجود هناك في عالم الملكوت للرجل والمرأة؛ لأنّ حقيقة النور وحقيقة النفس في ذلك العالم لا شكل لها؛ فمع أنّ الجهتين الفعليّة والانفعاليّة موجودتان هناك، لكنّهما مظهران متساويان من مظاهر الحقّ تعالى، بحيث تكون الإمكانات والقابليّات التي تتوفّر عليها جهة الفعليّة تتساوى من حيث السعة والضيق مع الإمكانات والقابليّات التي تمتلكها الجهة الانفعاليّة؛ أي: كما أنّ الكمال والرقيّ والسعة التي يتوفّر عليها كلّ اسم من أسماء الله تعالى يُحدث تأثيرًا في العوالم التي تحته، فإنّ كلّ اسم يقبل هذه الجهة الفعليّة يمتلك بدوره هذا الأثر بعينه؛ وهذه مسألة معقّدة جدًّا، ومن أسرار عالم الخلق، وقد تحدّثنا اليوم عن جملة واحدة منها من باب الإشارة فقط، على أن نُفصّل فيها ونكشف عنها أكثر في محلّه.
فخلاصة المسألة أنّ الصفات الفاعليّة التي يتوفّر عليها الرجل ـ بصفته قوّة فاعليّة وعمّالة ـ ترتبط بالعوالم الواقعة بعد الملكوت [نزولاً]؛ وكذلك، فإنّ ما تمتلكه المرأة ـ باعتبار اتّصافها باللطافة والظرافة والجهة الانفعاليّة والقابلة ـ يتعلّق أيضًا بهيئتها وخصائصها في ما بعد عوالم الملكوت؛ لكن، حينما نرتقي من عالم الملكوت إلى أعلى، فإنّ نفس الإنسان وروحه لا تكون لها هناك أيّة صورة، حيث إنّ روحيهما [الرجل والمرأة] تنشأ من مصدر واحد، ثمّ تتنزّلان بعد ذلك إلى المراتب الدنيا؛ ومن هنا، بما أنّ الأحكام والأوامر الإسلاميّة تهدف إلى إيصال الإنسان إلى درجاته الكماليّة، دون الاقتصار فقط على الانهماك في المسائل الظاهريّة والانشغال بالأمور الدنيويّة، فإنّ هذه الأحكام قد أُعدّت وصيغت طبقًا لهذا الهدف؛ إذ حينما تُريد إحدى المؤسّسات [مثلاً] أن تُشيّد بنايةً، فإنّها تنظر أوّلاً إلى الإمكانيّات التي تتوفّر عليها، وإلى الشؤون التي تهتمّ بها، وإلى سعة دائرة عملها؛ وبناءً على ذلك، فإنّها تُحدّد عدد الغُرف، والقاعات، والسلالم، والطبقات، بحيث يكون ذلك الأساس الذي يوضع في أسفل البناية يتناسب مع الحاجات التي تهدف هذه المؤسّسة إلى تلبيتها. فإن كانت المؤسّسة كبيرة جدًّا، وتحتاج إلى ألف غرفة، وإلى بناية مؤلّفة من ثلاثين أو أربعين طابقًا، فإنّ مساحة الأرض التي يُعدّونها لا ينبغي أن تكون صالحة لطابقين أو ثلاثة طوابق فقط، بل يجب أن تصلح لبناء خمسين طابقًا؛ كما أنّ الأعمدة الحديديّة التي يجلبونها يجب أن تصلح لبناء من هذا الحجم؛ وهي تختلف عن الأعمدة المستُخدمة في هذا السقف؛ ولهذا، فإنّ القوانين والأنظمة التي يُعمل بها في تشييد هذه البناية يكون الهدف منها هو بلوغ تلك الغاية؛ أي أنّها قوانين تسعى لتشييد بناية ذات خمسين طابقًا، وليس بناية من طابقين.
الأحكام الإسلاميّة وُضعت للوصول بالإنسان إلى مرتبة الكمال
إنّ الأحكام الإسلاميّة والقوانين التي وضعها الشارع المقدّس للعلاقات الإنسانيّة، سواءً في دائرة المجتمع، أو العائلة تهدف إلى بلوغ تلك الدرجة [العالية] من الكمال، وليس لقضاء هذين اليومين من الدنيا [كيفما كان]؛ فهذه هي المسألة التي يتمحور حولها بحثنا؛ أي: إذا التفتنا إلى هذه المسألة، فإنّ العديد من الإشكالات والاعتراضات ستنحلّ، وستتحوّل هذه الاعتراضات إلى رضىً وسعادة وانشراح.
فأحيانًا، يكون الهدف من الحياة في الدنيا مجرّد قضاء هذين اليومين بأيّ نحو كان، وبعد ذلك، لن يكون هناك أيّ شيء، حيث سيُغلق ملفّ الإنسان إلى الأبد؛ ففي هذه الحالة، ستُطرح العديد من التساؤلات: لماذا الأمر هنا بهذا النحو؟ ولماذا هو هناك بذلك النحو؟ لماذا هنا ارتُكب هذا الظلم؟ ولماذا هناك جرى ذلك الحيف؟ ولماذا أعطي ذلك الحقّ هناك بهذه الطريقة؟ ولماذا طُرحت المسألة هناك بذلك النحو؟ ولماذا تحيّز الله تعالى هناك إلى ذلك الطرف؟ فكلّ هذه الأسئلة تأتي؛ لأنّنا حصرنا الحياة بهذه الدنيا فقط، واقتصرنا على هذه الحدود الخاصّة؛ وأمّا إذا كنّا نعتقد أنّ الأحكام الإسلاميّة وُضعت لأجل الوصول إلى تلك النقطة [من الكمال]، فإنّه لن يكون بوسعنا أن نقبل ببعض هذه الأحكام، ونرفض بعضها الآخر؛ لأنّ جميع الأحكام والقوانين الإسلاميّة تنتمي لتيّار واحد، وتنضوي تحت مبدأ واحد، وتصبو إلى غاية واحدة؛ وهي الوصول إلى آخر مرتبة من مراتب الكمال؛ وحينئذ، كلّما استطاع الإنسان التمسّك بهذه المسألة، حصل على ثمرة أعظم، وكلّما تقيّد بهذا الأمر بشكل أكبر، توصّل إلى نتيجة أفضل.
لاحظوا، فإنّه لدينا أحكام واجبة؛ نظير الصلاة والصيام وأمثال ذلك، ولدينا أحكام مستحبّة؛ من قبيل: صلاة الليل وقراءة القرآن والصدقات غير الواجبة والتصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وقضاء حوائج المؤمنين وغيرها من الأمور المستحبّة؛ لكن، ما هو المراد من العمل المستحبّ؟ هل المراد منه مجرّد عمل تكراريّ وتقليديّ يخضع لصورة نمطيّة تمّ إنشاؤه وإصداره من قِبل جهة معيّنة، ويجري تنفيذه من طرف جهة أخرى؛ أم أنّ المراد من العمل المستحبّ العمل الذي يخضع تطبيقه لمجموعة من الشروط الخاصّة، وينبغي فيه المحافظة على قوانين معيّنة؛ لا أن نقول مثلاً: بما أنّ قراءة القرآن مستحبّة، فعلى الإنسان أن يجلس، ويقرأه من الصباح إلى المساء، ويُهمل شؤونه الأخرى؛ لا، ليس الأمر بهذا النحو؛ أو نقول: بما أنّ الصدقة مستحبّة، فعلى الإنسان وهب كافّة ممتلكاته إلى الفقراء، والبقاء صفر اليدين؛ لا، ليس المسألة بهذا النحو، بل إنّ هذه المستحبّات لا توصل الإنسان إلى تلك النقطة من الكمال، إلاّ طبقًا للمعايير التي عيّنها الشرع؛ ولهذا، لدينا في الروايات: بما أنّ الله تعالى جعل الكمال الوجوديّ للإنسان متكّئًا على مجموعة من القوانين والشروط والمميّزات الخاصّة، فإنّ كلّ من يُؤدّي عملاً مستحبًّا، فإنّه سيُحقّق ذلك الكمال في وجوده بمقدار عمله بذلك الأمر المستحبّ.
الهدف من الزواج بلوغ الإنسان كمالاً خاصًّا
إنّ إحدى المسائل المطروحة في الإسلام: مسألة الزواج؛ والتي تُعدّ أمرًا مستحبًّا في الدين بقطع النظر عن مساهمتها في المحافظة على النسل؛ فهي لازمة وضروريّة للإنسان، بل وواجبة عليه أحيانًا؛ ولو لم يكن هدفه منها بقاء النسل، أو تلبية حاجة يشعر بها هذا الإنسان في نفسه؛ فنفس الزواج والارتباط بين الرجل والمرأة يُعتبر مبدءً من المبادئ الإسلاميّة؛ إذ يتحقّق في هذا الزواج نحوُ ارتباط بين نفسين؛ وهو ارتباط حيويّ ومهمّ جدًّا لكمال الإنسان؛ ولهذا، فإنّ الاعتزال مكروه في شريعة الإسلام، ويقبح بالإنسان اختيار العزلة، خلافًا لما نجده في المسيحيّة، حيث يميل الرهبان إلى الانزواء والاعتزال عن الدنيا. وأمّا في الشريعة الإسلاميّة، فبما أنّ الإسلام دين متكامل، فإنّ الفعليّات التي حصلت بواسطة تشريع رسول الله ـ وهو أعلى التشريعات ـ، وفتح الباب الذي تحقّق للأمّة، وساهم في الوصول إلى فعليّات وكمالات لم تصل إليها الأمم السابقة؛ يتوقّف على مسألة الزواج؛ ولهذا، إذا لم يتزوّج الإنسان، ولو كان لا يهدف إلى تكثير النسل، أو كان لا يهمّه تحقيق رغباته ونزواته الشخصيّة، فإنّه لن يصل إلى ذلك النحو من الجامعيّة؛ وهذه مسألة مهمّة؛ أي أنّ نفس العمل بهذا الأمر المستحبّ يكون واجبًا في بعض الأحيان؛ وهذا الواجب له أهمّيته الخاصّة، كأن يكون الهدف منه بقاء النسل، وبعض الأمور الضروريّة التي تقتضيه؛ لكنّ بحثنا يدور الآن حول استحباب هذا العمل، حيث تحتلّ هذه المسألة مكانة خاصّة في نظام التشريع؛ شأنها في ذلك شأن العديد من المسائل المستحبّة الأخرى.
فالذي لا يُؤدّي صلاة الليل لن يتمكّن من بلوغ مرتبة معيّنة من مراتب الكمال، والذي لا يقرأ القرآن لن يصل إلى تلك الدرجات [الكماليّة] التي تترتّب على قراءته، والذي لا يُصلّي النافلة سيُحرم من بعض المراتب الكماليّة؛ وفي هذه الحالة، فليفعل كلّ واحد ما يحلو له؛ فإذا لم يُؤدّ أحدهم صلاة النافلة، فلن يُقال له: لماذا لم تُصلّها أيّها السيّد؟! لكنّه سيكون قد ضيّع عليه [ذلك الكمال]؛ والذي لا يقرأ القرآن لن يُذهب به يوم القيامة إلى جهنّم؛ لكن، حينما سيرى مقدار ما ضيّعه على نفسه، فإنّ وَقعَ ذلك عليه سيكون أسوء من مائة جهنّم! كما أنّ الذي لا يُؤدّي صلاة الليل لن يُعذّب على تفويته هذه الصلاة؛ لكن، مجرّد رؤيته للمنافع التي ضيّعها هي أشدّ حُرقةً بالنسبة إليه من مائة نوع من العذاب.
فهذه المسائل شُرّعت في الإسلام من أجل وصول الإنسان إلى الكمال؛ ومن هنا، فإنّ الأساس والقاعدة اللذين تقوم عليهما الأحكام الإسلاميّة يتمثّلان في العبور والانتقال من عالم الطبع والمادّة والدنيا، وبلوغ مراتب الفعليّة والمعرفة، واكتساب الكمالات التي وعد بها الله تعالى عباده؛ فهذه هي حقيقة الأحكام الإسلاميّة؛ وعليه، فإنّ قول البعض: «لدينا نوعان من الإسلام؛ إسلام ظاهر وإسلام باطن، حيث يتمثّل الإسلام الظاهر في الاهتمام بالأمور [الظاهريّة]، والإسلام الباطن في حركة النفس» هو كلام مرفوض بأجمعه. فالإسلام واحد لا أكثر، والإيمان واحد لا أكثر، غاية الأمر أنّ له مراتب متعدّدة؛ ومعنى ذلك أنّه: حينما بُعث رسول الله صلّى الله وعليه وآله وسلّم، فإنّه لم يأت لكي يُقسّم الإسلام إلى طائفتين، ويُوزّع الناس على قسمين أو عدّة أقسام، بل كان المنهج الذي سلكه يهدف إلى بلوغ هذه المرتبة؛ وكذلك الأمر بالنسبة للأئمّة عليهم السلام وأولياء الله تعالى الذين كانوا يسعون إلى بلوغ هذه النقطة؛ أجل، في مقام العمل وحين تعاملهم مع الناس، فإنّنا هؤلاء الناس على عدّة طوائف، حيث نجد بعضهم يقبل، وبعضهم لا يقبل.
الأحكام الإسلاميّة لم توضع على أساس الأهداف الدنيويّة
عزم رجل على السفر، فجاء عند الإمام الصادق عليه السلام، وقال له: أريدك أن تستخير لي، فاستخار له، وجاءت الاستخارة سيّئة؛ لكنّه لم يُصغ للإمام الصادق، حيث كان من التجّار، فحمل بضاعته وما يملكه، وانطلق في سفره التجاريّ؛ ومن باب الصدفة، فقد حصل على ربح كبير جدًّا في هذا السفر؛ وحينما رجع من سفره، ذهب إلى المدينة عند الإمام عليه السلام، وقال له: يا ابن رسول الله، ما هو سرّ تلك الاستخارة؟ فحينما استخرت لي، جاءت الاستخارة سيّئة جدًّا، لكنّني سافرت، ولم تقع لي أيّة مشكلة، فقد تاجرت كثيرًا، وحصلت على ربح مضاعف؛ فقال له عليه السلام: هل تذكّرت اليوم الفلانيّ حينما فاتتك صلاة الصبح بسبب تحرّك القافلة؟ إنّ النتيجة السيّئة للاستخارة ترجع إلى هذا الأمر؛ فما معنى ذلك؟ معناه أنّ جميع الأفعال التي قمت بها من سفر، وتجارة، وربح مضاعف لا تُضاهي فوت صلاة واحدة؛ فلو أنّك لم تُسافر، وبقيت هنا، ولم تحصل على ذلك الربح؛ لكن، في مقابل ذلك، لم تفتك صلاة الصبح، لكان ذلك أهمّ بالنسبة إليك؛ وأنت الآن لا تشعر بذلك؛ لكن، اصبر يومين، وسوف يأتي عزرائيل ليقبض روحك؛ وحينئذ، سوف تفهم لماذا جاءت الاستخارة سيّئة! وستُدرك ما الذي ضيّعته!
وعليه، فإنّ الأحكام الإسلاميّة لم توضع على أساس الإدراكات الظاهريّة وحسب، ولكي نأتي إلى هذه الدنيا، ونقضي فيها يومين فقط، ونحرص على عدم الوقوع ـ إلى حدّ ما ـ في الفساد، ونُدير المجتمع بطريقة ما، ونطرح المسائل الاجتماعيّة طبقًا لخيالنا، وليس بالاعتماد على ما وضعه الله تعالى، ثمّ نُوائم المجتمع مع الشرع؛ أو العكس: نوائم الشرع مع المجتمع.. لا، المسألة ليست بهذا النحو.
إنّ حرص الإسلام على المجتمع هو لأجل تكامل الفرد؛ فإذا لم تكن فيه فائدة بالنسبة إليّ؛ فلا يهمنّي، سواءً وُجد المجتمع، أم لم يوجد؛ وسأترقّى أكثر في الحديث لأقول: نحن بأجمعنا الآن ننتظر وقت ظهور الإمام، لكي يظهر عليه السلام، ونعيش في محضره، ونتنعمّ ببركاته وفيوضاته؛ ونحن ندعو الله تعالى لكي يتحقّق هذا الأمر؛ لكنّ الكلام هنا هو: أحيانًا، أركّز كلّ فكري وخيالي وأفعالي على مسألة: متى سيظهر الإمام عليه السلام؟ فأذهب عند هذا وذاك، وأسألهم عن وقت ظهوره، وأرى ماذا قال فلان عن هذه القضيّة، وما هو المنام الذي رآه علاّن عن هذه المسألة، وأيّ كشف حصل له بخصوصها، بحيث تُشكّل هذه المسألة حياتي بأسرها؛ فإذا كان الأمر بهذا النحو، بحيث أسعى لأعيش بهذه الطريقة، وتتوقّف أحوالي النفسانيّة في هذه المرتبة، وتقتصر على انتظار الظهور فقط، فإنّ السؤال التالي سيُطرح عليّ: لو قيل لي «إنّ الإمام عليه السلام سيظهر بعد غد في يوم الأحد، وأنت ستموت ليلة الأحد عند الغروب»، فبماذا سينفعني هذا الظهور؟ وهل سأحصل منه على فائدة أخرى غير تجرّع الآهات، وبقاء الغصص في القلب؟ فإن قيل لي: «أيّها السيّد، إنّ إمام الزمان سيظهر يوم الأحد، لكن، على سماحتك أن تُغادر هذا العالم السبت ليلاً»، ففي أيّ شيء سينفعني هذا الظهور؟! ينبغي علينا أن نجيب عن الذين يسعون نحو الظهور الظاهريّ بهذا النحو: عوضًا عن إلهائكم للناس بهذا النوع من الكلام، وإهدار أوقاتهم بهذه المسائل، وتضييع أعمارهم بها، تعالوا، وغيّروا أنفسهم! وبدّلوا نهجهم، لكي يتحقّق بواسطة هذا التغيير في النهج والسيرة الظهورُ الحقيقيّ للإمام عليه السلام.
ولهذا، فإنّ الإمام الصادق يقول: من قام بهذا العمل، فكأنّه دخل خيمة قائمنا؛ أي كأنّه موجود هناك، لا أنّه سيُوجد في زمان ظهور الإمام، بل سيوجد في ذلك المكان الذي يعيش فيه عليه السلام؛ وهذه مسألة واضحة ومشهودة، حيث توصّلنا إليها عن طريق ملاحظة أحوال العظماء، ونهجهم، وكيفيّة الارتباط بهم، فأدركنا أنّ لديهم معيّة مع الإمام عليه السلام.
آنكه در خانهاش صنم دارد | *** | گر نیاید بُرون چه غم دارد |
[يقول: من كان معبوده في منزله *** فما ضرّه أن لا يخرج منه]
فهو دائمًا مع إمام الزمان، سواءً أراد عليه السلام أن يظهر، أم لا يُرد؛ حسنًا، عساه ألاّ يُريد ذلك، فهذا أفضل! لأنّه سيظلّ لنا لوحدنا؛ إذ ما هو السبب لكي [يظهر] لبعض الناس الذين لا علم لهم بهذه المسائل والأمور ...؟ لا يا سيّدي، فليبق لنا نحن!
العمل بالقوانين الإسلاميّة يوصل الرجل والمرأة إلى مقام يفقدان فيه جهتي الذكورة والأنوثة
فالإسلام يوصل الإنسان إلى هذه النقطة، لا أن يقتصر على المسائل العاديّة والظاهريّة؛ وبعد الانخراط في هذه المسائل، نصير مجبرين على التخلّي عن المبادئ، ومطابقة الشرع ومواءمته مع تلك الأحداث والظواهر التي بلينا أنفسنا بها؛ لا، فما يُريده الإسلام من المجتمع هو الفرد، وما يُريده من الفرد هو الوصول إلى كماله؛ ومن هنا، إذا لم يكن بوسعك العيش في مكان، هاجر من هناك إلى مكان آخر؛ وإذا كان هناك موضع يصعب عليك فيه صيانة دينك، فانتقل منه، واذهب إلى موضع آخر؛ أ ولا يوجد لدينا في آية قرآنيّة أنّهم يسألون المستضعفين من الناس: لماذا لم ترحلوا؟ ﴿أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَه واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾۱؛ أ فلم تكن أرض الله تعالى واسعة؟ فإذا لم تتسنّ لك هنا المحافظة على دينك، فارحل إلى مكان آخر؛ فتجد بعضهم يسأل: «يا سيّدي، نحن نعيش في المكان الفلانيّ، ولا نستطيع [المحافظة على ديننا]، فماذا نفعل؟»؛ تفضّلوا، واذهبوا إلى مكان آخر. فما هو المسوّغ لنا لكي نتخلّى عن مبادئنا وأصولنا لأجل أمور اعتباريّة وتخيّلية؟ أ فهل تعرّض بقيّة الناس في الأماكن الأخرى إلى الموت؟! فهم يعيشون بدورهم في هذه الأماكن؛ وحينئذ، لماذا نتخلّى عن تلك المسائل الواقعيّة؟
إنّ الهدف من القوانين الإسلاميّة هو الوصول إلى هذا المستوى من الكمال؛ أي إلى ذلك المستوى الذي يفقد فيه الرجل والمرأة من الناحية الكماليّة جهتي الذكورة والأنوثة في عالم المادّة والطبع، فيصلا إلى عالم البرزخ والمثال الذي هو علّة لعالم المادّة، حيث تكون تلك الجهتين لا تزالا موجودتين هناك بنحو ما، فيفقدانها أيضًا، ثمّ يصلان إلى الملكوت الأسفل، ومن هناك، إلى الملكوت الأعلى، والذي لا توجد فيه ذكورة، ولا أنوثة، حيث ينشآ كلاهما في نظام واحد ونسبة واحدة من روح الله تعالى، ومن عالم الوجود البسيط والصرف، ويأتيان إلى هنا؛ فهذا هو المراد والهدف من القوانين الإسلاميّة؛ وفي هذه الحالة، كلّ واحد أعلم بحاله وطاقته؛ وبحسب المقولة المشهورة: «گر گدا كاهل بود تقصیر صاحبخانه نیست» [أي: إن كان المستجدي كسولًا، فما ذنب صاحب المنزل؟]؛ فهذا هو الحكم، وهذا هو القانون، وهذا هو المسار؛ فمنهج الطريق والسلوك بالنسبة إليكم وإلينا يتعلّق بهذه المرتبة؛ وحينئذ، إن قصّرنا، فإنّ الخسارة ستتوجّه إلينا؛ وإن لم نُقصّر، فإنّنا سنصل إلى الهدف المنشود؛ فهذه مقدّمة للمسألة [التي نبحث عنها].
اختلاف بدن الإنسان الأخرويّ عن الدنيويّ في بعض الخصائص
فإذا تبيّن هذا الأمر، نقول: تطرّقت الآيات القرآنيّة بطريقة معيّنة لبيان مسألة عدم اختلاف المرأة والرجل من ناحية روحيّة؛ فكما أسلفنا الذكر، فإنّ الله تعالى خلق المرأة والرجل بهيئة خاصّة وأعضاء مختصّة بهما، بسبب بعض المصالح المعيشيّة، ولأجل بقاء النسل؛ لكن، بما أنّ عالم القيامة لا معنى فيه لمسألة بقاء النسل وتكثير الذرّية، ولا وجود فيه لهذه الأمور، فإنّ بدن الإنسان هناك في عين أنّه يُشبه هذا البدن، إلاّ أنّه يتطابق مع القوانين والمتطلّبات والحاجيات التي تسود في عالم القيامة والجنّة؛ أي: بما أنّ ذلك العالم يخلو من تكثير النسل وأمثال ذلك، فإنّ الذكورة والأنوثة لن يكون لها هناك أيّ معنى؛ فاللذّات الموجودة فيه مختلفة عن اللذّات الموجودة هنا؛ وطريقة تمتّع الإنسان في ذلك العالم وفي الجنّة تفترق عن طريقة تمتّعه هنا؛ لماذا؟ لأنّ الهدف من اللذّات السائدة في هذه الدنيا هو بقاء النسل، بينما هناك لا وجود للنسل؛ ولهذا، فإنّ خصائصنا ستختلف، فلا وجود هناك لمسألة الزواج [كما هي هنا]، بل ستوجد هناك بنحوٍ آخر؛ أجل، سيوجد في الجنّة امرأة ورجل؛ لكن، ستوجد هذه الجهة فقط، وليس تلك الأنوثة [والذكورة] الخاصّة، فتتحقّق هناك الجهة الانفعاليّة بصفتها مظهرًا للطف، ومظهرًا للجمال الإلهيّ، واسم الله الجميل الذي يظهر هناك بنحو انفعاليّ وعلى شكل امرأة؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للرجل من ناحية ظهور آخر.
وقد أشارت الآيات القرآنيّة إلى هذه المسألة، حيث جاء في سورة الدخان: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ﴾۱؛ أي في مقام الأمن؛ فهم آمنون من كلّ ألم وكدورة ونقص ومكروه؛ وبعبارة أخرى، أنّهم يعيشون في سرور تامّ، فلا تمرّ عليهم لحظة واحدة من التعكّر أو الحزن أو الغمّ، بل هناك سرور محض، ونشوة خالصة، وبهاء صرف، وبهجة تامّة؛ فهذا هو جزاء المتّقين ﴿يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ﴾٢؛ فالله تعالى ألبسهم الديباج والحرير، حيث يحرم ذلك هنا، ويكون مباحًا هناك؛ فكما أنّ بعض الأشياء المحرّمة تصير محلّلة، فإنّ الأمر هنا هو بهذا النحو؛ فالحرير هنا حرام فعليًّا، لكنّه يصير مباحًا وحلالاً في ذلك العالم، من دون وجود أيّة مشكلة؛ لأنّ هذا الأمر مختصّ بالله تعالى؛ والذي من شأنه أن يقول عنه اليوم: حرام، وفي الغد: حلال؛ أجل، يبقى أنّ ذلك متعلّق بهذا العالم وذلك العالم ﴿یلبسون من سندس وإستبرق متقابلین * كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾٣؛ وهكذا، وبهذا النحو، فإنّنا نزوّجهم بالحور العين؛ ومن هنّ الحور العين؟ هل تُريدون أن أبيّن ذلك أم لا؟ لقد تحدّثنا عنهنّ قليلاً فيما سبق، وسأزيدكم بيانًا أكتفي فيه بما قاله المرحوم العلاّمة: «لو تقرّر أن يراهُنّ أحدٌ للحظة واحدة، لما عادت له أيّة رغبة بالدنيا»؛ فهذا إجمال في وصفهنّ، ولو فصّلت أكثر، لَوَقعتُ في محذور؛ ولهذا سأكتفي بهذا المقدار. ﴿وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾؛ فالحوراء تُطلق على ذات العيون السوداء التي يشتدّ سواد عينها؛ والعين جمع عيناء، وتعني واسعة العين. فهذه آية تتحدّث عن المتّقين الذين يُزوّجهم الله تعالى بالحور العين؛ وتوجد آية أخرى في سورة طه يقول فيها سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾٤؛ فالمتّقين يتنعّمون في الجنان والبساتين ﴿فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ووَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ﴾٥؛ وهم مبتهجين بما أنعم الله تعالى به عليهم، وغارقين في النعم، حيث يُقال «فاكهٌ» للذين لا يدري ماذا يفعل من شدّة السرور؛ وبعبارة أخرى أنّه لا يُفرّق بين يديه ورجليه من فرط الفرح؛ فهؤلاء هم الفاكهون؛ ﴿وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ﴾؛ فالله تعالى حفظهم من عذاب الجحيم؛ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾٦؛ أي: كلوا، واشربوا، هنيئًا لكم بسبب تلك الأعمال التي أدّيتموها في الدنيا؛ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ﴾؛ فهم متكّؤون، وجالسون على سرر مصطفّة، وعلى فرش مصفوفة؛ ﴿وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾؛ حسنًا، فما معنى ذلك؟ معناه أنّه: في نفس الوقت الذي يكونون فيه جالسين، فإنّ الله تعالى يهبهم هناك الحور العين. قال لي أحد الرفقاء ... ولعلّ هذا الكلام يعتقد به الجميع، وهو هنا مجرّد ناقل، فهذا هو لسان حال الجميع؛ فقال لي: «أحيانًا أمزح مع زوجتي، وأقول لها: افعلي ما يحلو لك هنا، لكنّ هناك قيامة؛ وفي ذلك العالم، سيكون لدينا حور عين، وسنذهب إلى هناك، ونتزوّج بهنّ»؛ وقال لي: «لكنّها كانت تعرف كيف تردّ عليّ، حيث كانت تقول لي: نحن أيضًا سنذهب إلى هناك، ونتزوّج بالغلمان»؛ وهنا ينبغي أن نقول لها: لا خبر في هذه الآية عن الغلمان، بل تتحدّث فقط عن الحور العين؛ وأمّا الآية التي تتعلّق بالغلمان، فهي: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾۷؛ فالغلمان والأولاد اليافعون يطوفون ويقومون بمهمّة الخدمة، ولا حديث هناك عن الزواج؛ لكن، مع ذلك، يوجد جواب آخر على تلك المسألة، وسنسعى لعرضه، حتّى لا نتسبّب في استياء الرجل ولا والمرأة.
حقيقة الزواج في عالم القيامة
إنّ حقيقة الأمر أنّ الزواج هناك يختلف عن الزواج هنا؛ فالزواج في هذا العالم عبارة عن النكاح الذي يحصل بقراءة صيغة العقد، وقول: أنكحت، وزوّجت، فيصير بذلك الأمر المحرّم حلالاً؛ وأمّا الزواج في ذلك العالم، فلا يوجد فيه مسائل من قبيل: أنكحت موكّلتي، أو زوّجتها؛ فالزواج هناك يمعنى المقارنة؛ أي المصاحبة والمجالسة ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ فالمتّقون هناك متّكؤون ﴿عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ﴾؛ وفي نفس الوقت: ﴿وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾؛ فلا يوجد شيء آخر غير ذلك، ولا ينبغي أن تأتي إلى أذهانكم أمور أخرى؛ لأنّ الجميع هناك جالسون على الأسرّة، وينظر بعضهم إلى بعض!!! ﴿عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾؛ فإلى هنا، لا يوجد أيّ إشكال؛ لكن، ما هو المراد من كلمة المتّقين في آية ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ﴾۱؟ هل المراد منها الرجال فقط، أم أنّها تشمل حتّى النساء؟ فهل فقط الرجال هم الذين يكونون في مقام أمين؟ وهل فقط هم الذين يكونون ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾٢؟ أم أنّ المتّقين هنا ـ كما بينّا ذلك في الجلسة السابقة ـ عبارة عن تلك الذات الإنسانيّة التي وصلت في مقام العمل والصلاح إلى مرتبة التقوى؟ فهذا هو معنى المتّقين؛ كما لا توجد عندنا في هذا المجال آية أخرى غير هذه الآية؛ ومن هنا، فإنّ المراد من المتّقين: النساء والرجال الذين بلغوا مقام التقوى والصلاح؛ فهؤلاء هم المتّقون الذين ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾، وهم الذين ﴿فِي مَقامٍ أَمِينٍ﴾؛ وحينئذ، فإنّ هؤلاء المتّقين ﴿وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾.
وعليه، فإنّ التزويج بالحور العين لا يختصّ بالرجال فقط، بل حتّى النساء يُزوّجن بالحور العين؛ يعني أنّ الزواج في القيامة منزّه تمامًا وبنحو مطلق عن مرتبة النفس، والأهواء، والنزوات، الغرائز، والشهوة؛ ففي ذلك العالم، تكون الحور العين مظاهر للطف، وتلقّيه، وإلقائه في نفس الطرف المقابل؛ وليس المراد [من الزواج بهنّ] هو الزواج الظاهريّ؛ إذ لا وجود في يوم القيامة لهذا النوع من الزواج، ولا للنكاح الظاهريّ، ولا للتكاثر والتناسل؛ بل إنّ اللذّة الحاصلة من التزويج في القيامة تفوق آلاف بل ملايين المرّات اللذّة الناتجة عن الزواج الظاهريّ، حيث إنّ نفس الارتباط هناك يوجد اللذّة؛ فالزواج هناك عبارة عن تلك الأنوار التي تتلّقاها الجهة الانفعاليّة للحور، وتُلقيها في الطرف المقابل؛ سواء كان امرأة أو رجلاً؛ فهذا هو معنى الزواج في ذلك العالم، وليس ذلك المعنى الظاهريّ الذي بمقتضاه يذهب الرجال إلى هناك، ويتزوّجن بالحور العين، ثمّ يفخرن بذلك على النساء؛ لا يا عزيزي، لا يوجد هناك شيء من هذا القبيل! فعلى النساء أن يتعلّمن هذه المسائل، ويُخبرن بها أزواجهنّ. فالزواج في عالم القيامة ليس بهذا النحو، بل المراد من الزواج هناك المزاوجة، والمقارنة، والمصاحبة؛ فحينما يجعل أحدُهم شيئين إلى جانب بعضهما، فإنّك تقول: زوّجهما؛ أي أنّه وضعهما إلى جانب بعضهما؛ ولهذا السبب، أُطلق هذا اللفظ على الزواج؛ وذلك لأنّ الإنسان يضع ـ من خلال صيغة النكاح ـ المرأة والرجل إلى جانب بعضهما من حيث ترتّب الآثار؛ فهذا هو المعنى الذي سيتحقّق في يوم القيامة.
ومن هنا، فإنّ المرأة والرجل سواسية من هذه الناحية؛ أي أنّ حتّى خصائصهما الظاهريّة ستتغيّر في يوم القيامة وتتبدّل بتأثير من قواهما الروحيّة في المراتب الكماليّة؛ ولهذا، جاء الشارع المقدّس، ووضع مجموعة من القوانين للوصول إلى هذه الدرجة الكماليّة؛ فما هي هذه القوانين؟ هي عبارة عن قوانين يُمكن فيها للمرأة (في تلك المرتبة التي خلقها الله تعالى فيها)، وللرجل (في تلك المرتبة التي خلقه الله فيها) أن يتحرّكا ويسيرا إلى جانب بعضهما؛ لكن، هل هذا يعني أنّ لهما تكليف واحد، وأنّ عليهما معًا أن يُؤدّيا عملاً واحدًا، أم أنّ المسؤوليّة قد وُزّعت بينهما هنا؟ فالله تعالى ألقى على عاتق الرجل مسؤوليّة خاصّة، وعلى عاتق المرأة مسؤوليّة أخرى، بحيث إذا عمل كلّ واحد منهما بالمسؤوليّة المكلّف بها، فإنّه سيصل إلى تلك النقطة [من الكمال]؛ وإذا لم يعمل بها، فإنّه لن يصل إليها؛ فحتّى الرجل إذا لم يُؤدّ تكليفه، فإنّه لن يصل إلى تلك الدرجة؛ لكن، ما هي هذه المسؤوليّات والتكاليف؟ سنسعى للبحث عنها في الجلسات القادمة إن شاء الله تعالى.
الأساس الراسخ للعلاقة الزوجيّة هو طاعة الله تعالى
لكنّ الوصول إلى تلك الدرجة الكماليّة يلزمه طاعة الرجل لله تعالى فيما يرتبط بتكاليفه، وطاعة المرأة لله تعالى لا للرجل، بل لله تعالى فيما يرتبط بتكاليفها؛ فحينما يُريد كلّ من الرجل والمرأة أن يقوما بعمل من الأعمال له ارتباط بتكاليفهما، ويُؤدّيا مسؤوليّة ملقاة على عاتقيهما، فلا ينبغي أن يكون ذلك لأجل الطرف الآخر، بل يجب أن يكون هدفهما من تلك العلاقة أعلى؛ أي طاعة الله تعالى؛ وأمّا إذا كانت العلاقة بين المرأة وزوجها قائمة على أساس الغريزة فقط، فإنّ هذه الغريزة تبرز يومًا، وتختفي يومًا آخر؛ وإذا كانت متّكئة على مجرّد مسائل ظاهريّة، فإنّ العديد من المشاكل ستحصل. ينبغي أن تكون العلاقة بين المرأة وزوجها قائمة على أساس طاعة الله تعالى؛ بمعنى أنّه: يجب أن تكون الجذور والأسس والقواعد التي تستند إليها العلاقات دائميّة، وغير معرّضة للزوال؛ فمهما تعرّض الطرفان للاضطرابات، والتقلّبات، فإنّ ذلك الأساس والأصل يظلّ موجودًا؛ ففي جميع مراحل الحياة يبقى ذلك الأساس والأصل ـ وهو عبارة عن الامتثال للتكاليف ـ موجودًا، سواءً كان الطرفان يتمتّعان بالصحّة، أو مريضين؛ فهذا هو المبدأ الذي جعله الله تعالى محورًا لثبات الحياة واستقرارها؛ وعلى هذا الأساس، ستضحى المحبّة اللازمة لاستمرار الحياة متجذّرة وغير سطحيّة. فكم لدينا من الروايات والآيات الشريفة التي تُصرّح بأنّ الأصل والهدف من الحياة العائليّة وبنائها هو الحبّ: ﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ...﴾۱؛ أي: لقد جعلنا لكم من أنفسكم، ومن بينكم، سواءً كنتم نساءً أو رجالاً أزواجًا، حتّى تحصلوا على السكينة، والهدوء، وتشعروا بالراحة في حياتكم الدنيا؛ فالهدف من هذه الحياة [العائليّة] هو: ﴿لِتَسْكُنُوا﴾؛ أي حتّى تحصلوا على السكينة والهدوء، لا أن يتمّ تحميل كلّ من الرجل والمرأة بواسطة هذه الحياة حملاً ثقيلاً من المشاكل، والتخيّلات، والهموم، والأحزان، والغصص؛ فالحياة المترافقة مع الهمّ والغمّ والحزن عدمُها خير من وجودها؛ والحياة المبنيّة على أساس الخلافات عدمُها أفضل من وجودها.. ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً ...﴾٢؛ أي أنّ أساس الحياة هو المحبّة؛ وهذه مسألة عجيبة جدًّا، حيث من المشهود أنّ الحياة التي يسودها الحبّ والعشق والتعلّق بين المرأة وزوجها تتنزّل عليها رحمة الله تعالى؛ فإذا خلت الحياة من الخلافات والشجارات والكدورات وعدم الرضا، فإنّه من الواضح أنّ رحمة الله تعالى ستلعب دورًا أساسيًّا في هذه الحياة؛ فهذه المسألة مشهودة، أي أنّها حقيقيّة، ولا مزاح فيها.
فعلاقاتنا تصنع الأمور التكوينيّة، وكيفيّةُ تعلّقنا تُغيّر مسار التقدير الإلهيّ؛ فالملائكة لا تحلّ في المكان الذي يسوده الخصام، ولا تضع أرجلها في الموضع الذي يوجد فيه الشجار، ولا تأتي للمحلّ الذي تكون فيه المرأة غير راضية عن زوجها، أو الرجل غير راض عن زوجته، ويكون بينهما خلاف، بل الشياطين هي التي تحلّ هناك، حيث تتسلّل القوى والنفوس الخبيثة إلى هذا المكان، وتلج إلى هذه الحياة النفوسُ الإنسانيّة من عالمي الملكوت والمثال.. عين هذه النفوس البشريّة الفاسدة التي تسعى باستمرار إلى الإفساد والإضلال؛ غاية الأمر أنّ الإنسان لا يكون له اطّلاع على ذلك؛ فلا يعلم من أين تسلّلت هذه النفوس التي تأتي، وتُحضر معها الشياطين، وتستقرّ هناك.
التأثير السلبيّ للخلافات الزوجيّة على حياة السالك
وأمّا إذا تحوّل هذا الخصام إلى محبّة ومودّة، فإنّ الشياطين تتنحّى جانبًا، وتحلّ محلّها الملائكة؛ وهذه مسألة واقعيّة؛ فحينما كان المرحوم العلاّمة يقول: «إنّ حياة العائلة اليهوديّة التي يسودها الحبّ والمودّة أقرب إلى الله تعالى من حياة العائلة التي تتشيّع إلى أمير المؤمنين ويسودها الخلاف والكدورة»، فإنّه لم يكن يمزح! فلا تقل هنا: «إنّه يهوديّ»؛ لأنّه في نهاية المطاف إنسان، وله نفس؛ وقد استطاع أن يجلب في حياته نعم وفيوضات إلهيّة أكثر، وتوجد في حياته قابليّة وأرضيّة أكبر لتجلّي الأنوار الإلهيّة؛ لأنّ هذه الأنوار لا تتجلّى في القلوب المضطربة، ولا سبيل للأنوار والأمور المعنويّة إلى النفوس التي تُعاني من الاضطراب.
آئینه شو جمال پری طلعتان طلب | *** | جاروب كن خانه وپس میهمان طلب |
(يقول: كن مرآةً ثمّ ابحث عن جمال الوجوه الملائكيّة، واكنس بيتك ثمّ ابحث عن الضيف)
فعلينا أوّلاً أن نُصلح حياتنا، ونُطهّرها من الكدورة والخصام، ونبنيها على أساس القوانين والمبادئ الشرعيّة، لكي نرى بعد ذلك هل ستحلّ الأنوار أم لا؛ فهذه مسألة نشعر بها بأنفسنا، وحقيقة لم نحصل عليها من الأقوال أو مطالعة الكتب، بل إنّنا نراها بأنفسنا؛ والشيء الذي نراه بأنفسنا لا نستطيع إنكاره؛ فحتى لو فرضنا أنّ سند الرواية الفلانيّة ضعيف، إلاّ أنّ الشيء الذي نراه بأعيننا لا يُمكننا أن ننكره، والأمر الذي نشعر به بأنفسنا لا نستطيع جحوده؛ فهذه واقعيّة نُشاهدها بأعيننا. يقول المرحوم الشيخ الأنصاري: «إنّ الطعام الذي يُعدّ في منزل يسوده الخلاف بين المرأة والرجل يجلب الكدورة»؛ فاذهبوا، وجرّبوا ذلك بأنفسكم! فإذا رأيتم بأنّ المرأة قد هيّأت الطعام وهي منزعجة، ومع ذلك أكلتم منه، فإنّكم ستُصابون بالكدورة من دون أدنى شكّ؛ حيث إنّ النيّة التي تُحرّكها للقيام بهذا العمل ستسري إلى ذلك الطعام، فتُحدث تغييرًا في ملكوته؛ وإن شئتم، فاذهبوا، وتناولوا طعامًا من مال ربويّ، أو مغصوب؛ هذا، مع أنّني لا أدعوكم هنا للقيام بذلك فعليًّا، بل أذكر لكم هذا الأمر من باب المثال؛ فإيّاكم أن تقوموا بذلك! بل لا تقتربوا منه أبدًا ولو كانت فيه شبهة من تلك الأمور؛ لأنّ جميع هذه المسائل تترك تأثيرها على الإنسان؛ وحينئذ، سترون بأنفسكم ما الذي سيحصل! وللمرحوم العلاّمة حكايات في هذه المجال، كما أنّ العظماء طرحوا هنا مجموعة من المسائل.
قال لي أحد الأصدقاء: «طبقًا لبرنامج خاصّ حصلت عليه من أحد الأشخاص، كُنت مكلّفًا بتناول طعام معيّن»؛ وينبغي العلم أنّ هكذا أمور تخضع لحساب خاصّ، ولا يُمكن تعميمها على الجميع بهذا النحو؛ فكان يقول: «بعدما انهمكت لعدّة أيّام في هذا النوع من الرياضة والذكر والغذاء، بدأت أشعر في الأسبوع الأوّل بالتغيير شيئًا فشيئًا، ثمّ أحسست في الأسبوع الثاني أنّني تغيّرت تمامًا؛ وهكذا في الأسبوع الثالث، إلى أن وصلت إلى اليوم الأربعين، حيث شعرت بأنّ الأمر صار بنحو آخر؛ لكن، في أحد الأيّام، ومن سوء الحظّ والتقدير السيّء، فإنّني أُجبرت بإصرار من بعض الأقارب على الذهاب إلى منزل أحد الأرحام، بحيث مهما رفضت الذهاب، فإنّهم لم يقبلوا؛ وفي نهاية المطاف، استسلمت للقضاء، وذهبت إلى هناك من باب الرضى بالقضاء؛ وحينما وصلنا إلى المنزل، وبدأنا بتناول الطعام، فبمجرّد أن تناولت اللقمة الأولى، ذهب جميع ما قمت به في تلك الأيّام الأربعين أدراج الرياح»؛ فما هو السبب في ذلك؟ سببه أنّ هذه المسائل حقيقيّة، و[العظماء] لم يتحدّثون عنها عبثًا؛ فهي ليست من باب التلقين، بل لها واقعيّة؛ فالمال الذي يحصل عن طريق الحرام له آثار، حيث توجد لدينا في هذا المجال العديد من المسائل والحكايات، إلى ما شاء الله، وكيف أنّ الطعام يتحدّث بنفسه مع الإنسان، ويُخبره عن مصدره، وطريقة حصوله، ويقول له: تناولني أو لا تتناولني، لكنّه يتحدّث مع من هم أهلٌ للحديث، بل إنّ حديثه موجّه للجميع، غاية الأمر أنّنا لا نفهمه؛ إلى أن يأتي أحد يمتلك شعورًا وإدراكًا، فيفهمه؛ وذلك لأنّ جميع هذه الأشياء لها روح وملكوت. كان المرحوم الشيخ الأنصاريّ يقول: «إنّ كأسًا من الشاي يترك تأثيره الخاصّ، بحيث يكون بوسعنا التعرّف على ما يحدث في المنزل بواسطة شرب كأس واحد من الشاي».. أجل، يُمكن التعرّف على أوضاع المنزل من كأس واحد من الشاي! وفي هذا المقام، يقول مولانا [جلال الدين الروميّ]:
نطق آب ونطق خاك ونطق گِل | *** | هست محسوس حواس اهل دل |
(يقول: إنّ للماء والتراب والطين نطق، لكنّه محسوس من قِبل حواسّ أرباب القلوب)
فهو محسوس للحواسّ، لكن، ليس كلّ واحد يشعر به؛ ومع ذلك، فهو موجود.
جمله ذرات عالم در نهان | *** | با تو میگویند روزان وشبان |
ما سمیعیم وبصیریم وهشیم | *** | با شما نامحرمان ما خامشیم |
(يقول: إنّ جميع ذرّات العالم تتحدّث معك ليلاً نهارًا بلسان خفيّ. (تقول): نحن نسمع ونرى ونعي، لكنّنا في نظركم أنتم الأجانب خامدون).
فجميع هذه الأمور موجودة، وآثارها واضحة؛ غاية الأمر، أنّه على الإنسان التدقيق أكثر، وممارسة المراقبة؛ فأصل الحياة وأساسها يتكّئ على الحبّ، حيث جرى التأكيد كثيرًا على هذه المسألة؛ فكلّما استطاع الإنسان إحكام هذا الأمر، توصّل إلى نتيجة أفضل.
المحبّة الزوجيّة تزيد تعلّق الإنسان بالله تعالى
قال لي أحد الرفقاء: «حينما تزوّجت، ومرّت مدّة معيّنة على زواجي، أتيت المرحوم العلاّمة، وقلت له: يا سيّدي، لقد وقعت في مشكلة؛ فقال لي: وأيّة مشكلة وقعت فيها؟ فأنت حللت مشاكلك للتوّ! فقلت له: لا، أشعر أنّ الحبّ الذي بدأت بالإحساس به تجاه زوجتي سيحجبني عن التعلّق بالله، وأنّ محبّتي لهذه الزوجة ستُؤدّي إلى منعي عن الارتباط به تعالى كما ينبغي؛ فقال لي المرحوم العلاّمة: اذهب لحال سبيلك أيّها السيّد! لقد جرى خداعك! اذهب، فقد تمّ الضحك على ذقنك! فكلّما ازدادت محبّتك [لزوجتك]، صار اتّصالك [بالله] أكثر، وزادت محبّتك لله تعالى قوّة وثباتًا!»؛ وهذه ليست مسألة [هزليّة]، بل إنّها من الحقائق التي لا يُمكن للإنسان إنكارها.
أجل، سنتحدّث في الأبحاث اللاحقة إن شاء الله تعالى عن أنّ هذه المحبّة وهذا التعلّق لا ينبغي أن يوقعا الإنسان في الانحراف عن الطريق، والخروج عن حدّ الاعتدال، وطرح بعض المسائل غير المنطقيّة، وغير العقلائيّة، وغير الشرعيّة، وغير الأخلاقيّة، والتخلّي عن المسائل الواقعيّة، والأمور التي تُرضي الله تعالى؛ لا، فالمحبّة لها مكانتها الخاصّة، والتكاليف والقوانين أيضًا لها مكانتها الخاصّة، بحيث إنّ نفس مراعاة هذه التكاليف ستُساهم في انطباع تلك المحبّة ورسوخها، لا أن تكون مجرّد محبّة عابرة ومؤقّتة؛ لكن بشرط أن يلتزم الطرفان بذلك؛ فهذا هو الأصل والأساس هنا. وحينئذ، كم ستقوم هذه المحبّة التي رسخت على هذه المسألة بدفع الإنسان إلى الأمام!
تذكّرت الآن حكاية، ولم أرغب في تجاوزها وعدم ذكرها؛ فقد كان المرحوم العلاّمة [الطهرانيّ] يُثني مرارًا وتكرارًا على المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ؛ فحينما كان في قمّ، كان يقول أحيانًا: «كنت أقضي يوميًّا ثمان ساعات مع المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ في منزله»، حيث كان يستقي منه العديد من المسائل، وكان يُعدّ كواحد من أبنائه؛ أي كان يُعتبر شيئًا فشيئًا كفرد من أفراد عائلته؛ وكم كان يُثني على زوجته! فكم كانت امرأة مؤمنة، ومطيعة! وكانت لديه العديد من الحكايات عن كيفيّة طاعة هذه المرأة لزوجها، بحيث قد يصعب على الإنسان التصديق بها؛ فبواسطة هذه الطاعة للمرحوم العلاّمة الطباطبائيّ في المصاعب الشديدة التي طرأت عليه، وتقلّبات الحياة التي مرّ بها، وبسبب طاعتها لله تعالى، فقد جُوزيَت على ذلك بالعديد من الكرامات، وحصلت على نعم جمّة، وفُتحت أمامها الكثير من الأبواب. وقد رأيت كلامًا للمرحوم العلاّمة الطباطبائيّ احترق قلبي له كثيرًا، حيث تألّمت بشدّة لحاله؛ لكنّ ذلك كان بالنسبة إليه نحو من أنحاء التكامل، حيث فقد هذه الزوجة التي رحلت إلى جوار ربّها، فبعث إليه المرحوم العلاّمة [الطهرانيّ] برسالة تعزية؛ وحينما أجابه عن هذه الرسالة، ذكر له ذلك الكلام؛ ويبقى أنّ هذه القضيّة ترجع إلى زمن طويل، وإذا أردت أن أعيّنه بدقّة، فلعلّه كان قبل خمسة وعشرين سنة تقريبًا؛ وقد رأيت هذه الرسالة بين الرسائل المحفوظة عن المرحوم الوالد، حيث قال له فيها: «برحيل زوجتي، شُطبت إلى الأبد تلك الحياة السعيدة والهادئة وتلك السكينة التي عشتها معها»، حيث يتبيّن من هذه العبارة أنّه تأثّر وتألّم كثيرًا لرحيلها.
والحكاية الأخرى التي أريد أنقلها هنا تتعلّق بأحدّ العظماء الذين لهم حقّ التعليم في عنق المرحوم الوالد، وكان شخصًا عظيمًا جدًّا، ويُمكننا عدّه من العلماء المسلمين ذوي الطراز الرفيع؛ فحلّ ضيفًا على منزل المرحوم الوالد لعدّة أيّام؛ وكان يُحبّ كثيرًا البقاء في منزله؛ فحينما تشرّف المرحوم العلاّمة بالسكن في مشهد، كان ذلك العظيم يأتي من إحدى المدن، ويرغب بشدّة في البقاء في بيته، وحتّى المرحوم الوالد كان يُحبّ كثيرًا أن يبقى في المنزل، مهما بلغت المدّة التي كان يريد البقاء فيها، سواءً كانت أربعين يومًا، أو شهرين؛ وكان ذلك الشخص يشعر في بيت المرحوم الوالد بالهدوء والطمأنينة والسكينة كثيرًا، حيث صرّح بذلك مرّات عديدة.
وفي أحد الأيّام، ومن باب الصدفة، فإنّ زوجته حملت متاعها وحقائبها من الغرفة الداخليّة، وذهبت من دون إعلامه بتاتًا إلى منزل شخص من معارفها أو أقاربها، أي في منزل تقرّر أن تجتمع فيه عائلتها وأقاربها أو كان تود أن تنزل فيه؛ فانزعج المرحوم العلاّمة كثيرًا من هذا العمل؛ فما معنى ذلك؟ كان عليها كحدّ أقلّ أن تُطلعه على ذلك! وحينما علم ذلك العظيم بما قامت به، التفت إلى المرحوم العلاّمة، وقال له: «لم تعمل لي أيّ حساب، ولم تجعل لي أيّة قيمة، ولو بمستوى حقيبة، فتأتي وتقول لي: لقد ذهبت».
وعلى أيّ تقدير، علينا استخلاص الدروس من هذه الحكاية، وأن نعلم بأنّ الله تعالى لا يُنعم على أيّ أحد هكذا ومن دون سبب، كما أنّه أيضًا لا يسلب نعمه هكذا ومن دون علّة، بل لكلّ شيء حسابه الخاصّ، وسيُوفّى كلّ واحد حسابه في هذه الدنيا؛ لكن، بأيّه طريقة؟
كانت هذه مقدّمة للحديث عن مكانة كلّ من الرجل والمرأة، وكذلك عن مراتبهما، وبلوغهما لكمالاتهما، وعن أنّ الهدف من الحياة [العائليّة] إيجاد المحبّة في فضاء الأسرة بناءً على مسألة الطاعة التي سنُحدّث الرفقاء عنها في الجلسة القادمة إن شاء الله تعالى.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد