المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
تعالج هذه المحاضرة شرح فقرة أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا وتستمرّ في حلّ إشكاليّة أمر الإمام الصادق أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا واستناد التكوين والتشريع إلى التنظيم، لاستناده إلى الأسماء والصفات الإلهيّة المتنزّلة، الأمر الذي يقتضي أن لا يكون هناك اختلاف في القرآن الصادر عن الله ولا في النظام الكونيّ ولا في التشريع الناظر إلى الفطرة الثابتة.
ثمّ تفصّل ما طرحته في المحاضرة السابقة من محوريّة التوحيد في نظام الحكومة الإسلاميّة، مفصّلة معالم هذه الحكومة مبيّنة اتّحاد الدين والسياسية وأنّ معاوية أوّل من فصلهما عملاً، مستشهدة بمواقف أمير المؤمنين عليه السلام التي تبيّن عدم قيمة الحكومة في نفسها بالنسبة إليها إلاّ أن يقيم حقًّا ويبيّن الحكم الشرعيّ حتّى أثناء القتال، وبخطبة له عليه السلام بعد معركة صفّين يؤكّد فيها على عدم الثناء عليه وأنّه أدّى دينًا كان في ذمّته لا أكثر، وبعهده لمالك الأشتر واهتمام الأعاظم به وتوصيتهم بضرورة مطالعته على الدوام. كما تعرّضت أثناء ذلك إلى كيفيّة تعاطي المرحوم العلاّمة في مسجد القائم ودقّة إدارته له في كافّة الشؤون الماديّة والتربويّة ثمّ تركه له عندما استتبّت الأمور بأمر من أستاذه.
هو العليم
معالم النظام في الحكومة الإسلاميّة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٥٣
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا
يذكّر الإمام الصادق عليه السلام عنوان البصريّ بثلاثة أشياء فيما يرتبط بالعبوديّة: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به. ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.
قيام العالم على أساس النظام والتدبير
ذكرنا بعض الأمور حول هذه الفقرة في الجلسات السابقة، وكان الكلام حول أنّه كيف يمكن أن يكون كلّ نظام العالم قائمًا على أساس التدبير وعلى أساس النظم والدقّة وهذا النظم والتدبير هو من آثار وتبعات نزول الأسماء الكليّة والصفات الإلهيّة بحيث لو تغيّر مقدار يسير من كيفيّة النزول هذه لحصل خلل وفساد في كلّ عالم الوجود، وحتّى الله تعالى أكّد على ذلك في القرآن: (لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)۱ فهذه ترتبط بالقرآن. وحول خلق السماوات والأرض هناك ما يشبه هذه الآية من أنّ هذا الكتاب المبين لو كان من عند غير الله لشوهد فيه اختلاف كثير. وهذا الأمر يمكن رؤيته ومشاهدته بكلّ وضوح، فكلّ إنسان مهما كان له سيطرة وإحاطة على القواعد، فإنّا نجد أنّه يقع في الاشتباه في مواضع مختلفة. فمثلاً في أوّل الكتاب يثبت قاعدة، ثمّ في وسط الكتاب يطرح ما يتنافى معها. والناس يقومون بالتصويت على قانون في المجلس مثلاً ثمّ يلتفتون إلى خطئه، ثمّ يعملون على رفعه، وهذا أمر طبيعيّ.
ثبات القوانين الإلهيّة في التكوين والتشريع وعدم تأثّرها بالزمان والمكان
أمّا قانون الله والنظامان التكوينيّ والتشريعيّ لله فليس أيّ منهما قابلاً للخطأ والاشتباه، ومضمون كلام رسول الله حين يقول: حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة٢ هذا معناه. وخلافًا لما يطرح في بعض المواضع من أنّ الدين والشريعة سلسلة من الأحكام المتناسبة والمتلائمة مع الزمان والمكان. كلاّ، فليس الأمر كذلك، الشريعة والدين بنيا على أساس اتّباع خلقة الإنسان وفطرته، وتلك الخلقة والفطرة لا تتغيّر، رغم أنّ الظروف والأحوال المحيطة بالإنسان يمكن أن تختلف في كلّ زمان. فالإنسان قبل ستّة آلاف سنة له عين هذه الفطرة التي نمتلكها نحن، وعين تلك التمنيّات التي لدينا، إن لم نكن نحن أكثر منهم فعلى الأقلّ مثلهم. يقولون هذه الظروف وهذه الأمور كانت في صدر الإسلام، وهذه الأحكام خاصّة بذلك الزمان، والآن قد تغيّر، والأفكار تغيّرت، والظروف تغيّرت، فلا يمكن بعد ذلك أن يتعامل مع الناس بنفس ما تعومل به وما بيّن وأقرّ في ذلك الزمان.
كلامنا هو في أنّ هذه الظروف والأحوال أيّ شيء أضافت أو من أيّ شيء أنقصت؟ هل أنقصت من تمنيّات الإنسان، أم أضافت على عقله وتدبّره وتفكّره؟ لا شيء من ذلك، بل يمكن أن يقال إنّ احتياجات الإنسان هي عينها، وتمنيّات الإنسان هي عينها، وظروف الانحراف والاعوجاج في المقابل صارت أكثر. هذه الفطرة تقتضي نوعًا من البرنامج العمليّ لأجل المحافظة ولأجل التكامل والرشاد. وبالطبع لو أريد تجاوز ما قرّره الله لأجل التكامل والرشاد قيد رأس أنملة أو شعرة، فإنّه سيتنافى مع القواعد المقرّرة، وهذا ليس صحيحًا.
بيان معالم نظام الحكم الإسلاميّ وكيفيّة ارتكازه إلى التوحيد واتّحاد الرسالة والسياسة
وصل حديثنا في الجلسة السابقة إلى أنّ نظام الحكم الإسلاميّ يرتكز إلى التوحيد وإخلاص العمل لله. أيّ إنّ محوريّة حركة حاكم الشرع، سواء كان الإمام عليه السلام أو غير الإمام، لا بدّ أن تقوم على أساس التوحيد وإخلاص العمل لله، ومعنى التوحيد أنّه في البداية لا بدّ من الرؤية الصحيحة إلى النظام التكوينيّ وبتبع ذلك البصيرة الصحيحة والمنضبطة في النظام التشريعيّ، وبتبع هذا الأمر انطباق الأعمال والسلوك على هذه الرؤية وتلك البصيرة. ما كانت عليه وظيفة الأنبياء والرسل السابقين على نبيّنا وآله وعليهم السلام هو هذا الأساس. فغاية وهدف حركتهم في المجتمع وتبليغ الرسالة والإمساك بزمام أمور المجتمع كحكومة ـ لأنّ مسألة الرسالة لا تختلف عن مسألة الحكومة والسياسة، وبصورة عامّة الفصل بين هذين الأمرين مرفوض عقلاً ومنطقًا ونقلاً، بأن يتصدّى للحكومة أناس ويديروها على أساس قواعد مضبوطة وقوانين اجتماعيّة مدوّنة، ومن جهة أخرى لا يتصدّى النبيّ أو الإمام عليه السلام إلا لبيان الأحكام. فهذا ما لا يمكن، فعقلاً لا يمكن أن يكون أمر كهذا في المجتمع. فلهذا، الأمر الذي كان يسعى إليه الأنبياء السابقون هو:
أولاً: بيان الأحكام.
وثانيًا: تطبيق تلك الأحكام وتنفيذها وتطبيق أمور المجتمع على أساسها، وهنا تظهر المشكلة. فحكومة كحكومة معاوية بن أبي سفيان مثلاً عندما تمضي وثيقة الصلح مع الإمام المجتبى عليه السلام تجعلها تحت الأقدام وتشتمه على المنبر وتقول بعبارة مضمونها: إنّي لا أطلب منكم صلاة ولا حجًّا ولا زكاة بل لأتأمّر عليكم وقد نلت.۱ هل تلتفتون؟ يقول: إن شئتم فافعلوا وإلاّ فلا. من الذي يتكلّم بهذا الكلام؟ خليفة المسلمين يقول كلامًا كهذا. من يعدّ نفسه خليفة رسول الله. لا يقول: هذه الحكومة حكومة جمهوريّة، وأنا انتخبت بإرادة الشعب. لا يقول: هذه الحكومة هي حكومة ضدّ الإسلام. كلاّ. يقول: أنا خليفة رسول الله. وعلى هذا الأساس يقيم صلاة الجمعة أيضًا، ويجعل قضاة بين الناس، ويدعو مؤذّنوه الناس على المآذن إلى الصلاة، وحسب اعتقاده كان يطبّق بعض الأحكام الإسلاميّة، كان يعدّ نفسه خليفة رسول الله. ولكن عندما رأى من هؤلاء الناس كلّ هذا التراخي والمسكنة والتعاسة بحيث تركوا أمير المؤمنين هكذا بعد ثمانية عشر سنة، وتركوا خليفته بلا فصل ابنه الحسن بن عليّ، والتحق الجيش كلّه بمعاوية، أيّ قيادة الجيش التحقت كلّها بمعاوية، فعندما يرى ذلك فإنّه ينكر بكلّ جسارة وعدم اكتراث ذلك الشيء الذي بعث رسول الله على أساسه. على ماذا بعث النبيّ؟ على إقامة الصلاة، على الحجّ، على الزكاة. فقد بعث رسول الله لإقامة هذه الأمور. وسيّد الشهداء عليه السلام احترامًا للحجّ بدّل حجّه عمرة وخرج من مكّة لكي يبقى الحجّ محترمًا، ولا يراق دم في مكّة، وليبقى احترام مكّة واحترام الكعبة محفوظًا. هل التفتّم؟ لقد خرج سيّد الشهداء لأجل هذا، وإلا فقد كان قاصدًا للحجّ. ولأجل هذا الأمر يقول معاوية بكلّ صراحة: إن شئتم فحجّوا وإلا فلا تحجّوا، هذا الأمر متروك إليكم.
معاوية أوّل من فصل بين الدين والسياسة عمليًّا
فمعاوية هو الرجل الذي قام عمليًّا بالفصل بين الدين والسياسة بشكل كامل، فقال: إن شئتم أن تصلّوا أو لا تصلّوا، إن شئتم أن تحجّوا أو لا تحجّوا، إن شئتم أن تزكّوا أو لا تزكّوا، فنحن نأخذ منكم الضرائب، ابعثوا إلينا بالخراج، وليكن عملنا ذا رونق، وليسير نظامنا قدمًا. فبأيّ نحو وأيّ طريقة نحن نأخذ منكم الخراج والضرائب؟ فقد كان معاوية يقول ذلك ويضيّق، فكان الذي يريد أن يدفع الضرائب يقول: أنا أصلاً لا أعتقد بك، أنا أصلاً لا أصلّي. فكان يقول: لا شغل لي بصلاتك، لي شغل بالضرائب وبالأموال التي في جيبك. صلّ أو لا تصلّ. كان يقول: أنا أصلاً لا أحجّ. فيقول: لا شأن لنا بحجّك، فتلك وظيفة بينك وبين نفسك، وعليك أن تؤدّي الحساب يوم القيامة، والآن علينا أن ندير القصر والخلافة، ولا وجود لهذه الأمور. كان يقول: بل لأتأمّر عليكم. لماذا فعلت تلك الأعمال؟ لأحكمكم، وقد نلت ووصلت إلى أمنيتي. هذه المدرسة ليست مدرسة إلهيّة.
هدف الحكومة في المدارس الإلهيّة تطبيق الأحكام الإلهيّة
في المدرسة الإلهيّة وفي مدرسة التوحيد الحكومة هي لأجل الوصول إلى تطبيق الأحكام، الحكومة في نفسها ليست معيارًا. فالآن في الدنيا، في المدارس المادّية، ومرادي من المدارس المادّية مدرسة التوغّل في الكثرات والأهواء الأنفسيّة، لا أن تكون المدرسة مدرسة ملحدين فحسب، ما نراه في الدنيا كلّها هو عبارة عن التسلّط والسيطرة على المجتمع بالتحزب والقوّة والاستيلاء على الناس وشدّ انتباههم وكسب أصواتهم لأجل الوصول إلى المطلوب، ولو بلغ ما بلغ وبأيّة طريقة. إن حصل بالغشّ فلا إشكال، إن حصل بشراء الأصوات فلا مشكلة، بالتلاعب في صناديق الاقتراع لا إشكال. وقد رأيتم مؤخّرًا في إحدى الدول، في إحدى الدول الغربيّة أنّه وجدت مشكلات في أصواتهم الانتخابيّة، لا إشكال. لماذا لا إشكال؟ لأنّ المعيار هو الحكومة، وبعد ذلك فلا فرق. يتبدّل الصدق إلى كذب، وتخلف الوعود المعطاة للناس، ويختلف ما يظهرون به أنفسهم عن الواقع.
هذه المدارس مدارس مادّية. ولكن في مدرسة أمير المؤمنين لا وجود لهذا الأمر. يأتي المغيرة بن شعبة إلى أمير المؤمنين ويقول: يا عليّ! لقد وصلت حديثًا إلى الحكومة، ولا تزال حكومتك غير ناضجة، ولم تتكامل بعد، ومعاوية في الشام قوّي، ومسيطر على الأوضاع، وأنت تريد الآن أن تذهب إلى الشام وتفتحها فهذا ليس في مصلحتك. عليك أن تصبر ليبقى مدّة، ثبّته ثمّ ـ وكمختلف موارد العزل والنصب من قبل الحكّام ـ بعد مدّة تعزله وتجعل غيره مكانه.۱ هذا منطق لو قمنا به الآن فلربّما استساغه كثيرون منّا، أن يتحمّل الإنسان ظلمًا لتحقيق مصالح عديدة ثمّ بعد ذلك يغيّره ويبدّله. ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يفكّر في هذا الوادي أصلاً. يقول الإمام في جوابه إنّ هذا منطق دنيويّ ـ وبلسان الحال فأنا أقول الآن ـ وأمثالك يقبلون هذا المنطق، والقاعدة هي هذه أيضًا، ولكنّي أصلاً لا يمكنني أن أرى معاوية هذا الرجل الظالم يحكم أموال الناس ونفوسهم وأعراضهم. انظروا كم من فارق بين المنطقين! أنا لا أريد أن أصل إلى الحكومة التي تراها أنت، إنّ هدفي ومرادي هو تطبيق الحكم، ولو أنّ الناس لديهم استعداد الآن فعلينا أن نسير. عندها يسكت المغيرة. يذهب ويرجع في اليوم التالي ويقول لأمير المؤمنين عليه السلام: لقد نصحتك أمس في هذا الأمر، ولكن عندما كنت أفكّر فيه ليلاً رأيت أنّ الحقّ معك، وأنّك تقول حقًّا. وعندما مضى التفت أمير المؤمنين إلى أصحابه وقال: كان كلامه صادقًا بالأمس، ولكنّه اليوم كذب. لقد جاء اليوم يريد أن يشتريني، جاء يريد أن يستعطفني.
في منطق أمير المؤمنين الحاكم هو التوحيد المحض فقط وفقط. فأمير المؤمنين عليه السلام ليس سوى مرآة لتطبيق أوامر الله ونواهيه وما يحبّه. وليس للمرآة شيء من نفسها، فلو وضعت قربها صورة جميلة، فإنّها تعكسها، وإذا جعلت صورة قبيحة فإنّها ستنعكس فيها، لن تنزعج المرآة من أنّه لماذا جعلت هذه الصورة القبيحة قربي. ليس أمير المؤمنين عليه السلام سوى مرآة لتطبيق الأحكام الإلهيّة. أما ماذا يجري في الخارج وهل يصل هذا العمل إلى نتيجة أم لا فهذا لا يصل إلى مخيّلة أمير المؤمنين أصلاً. منذ أن وصل الإمام إلى الخلافة كان دائمًا مشغولاً بهذه الحروب، كانت المعركة الأولى معركة الجمل حيث جاء أصحاب النبيّ مع زوجة رسول الله فجرّوا الناس استغفالاً إلى قتال أمير المؤمنين، كانت هذه الأولى قبل أن يصل الماء إلى بطن أمير المؤمنين فسار إلى معركة الجمل. وعند رجوعه منها توقّف في الكوفة فلم يسمح له أهل الكوفة أن يرجع إلى المدينة، لأنّ الكوفة كانت مركزًا أيضًا بالنسبة إلى البلدان الإسلاميّة، فاتّخذ الإمام الكوفة محلاًّ له وتوطّن فيها. لم يكن قد تجاوز هذه الأحداث بعد حتّى قال: علينا أن نمضي إلى معاوية ونعزله، هلمّوا نقوم بهذا العمل. لماذا؟ لأنّ معاوية غصَب، معاوية ظلَم. فانطلقوا لإزالة معاوية، استغرق الأمر ثمانية عشر شهرًا، استغرق ثمانية عشر شهرًا. هل قال أمير المؤمنين نحن سننتصر في هذه المعركة؟ لم يقل، ليس لدينا كلام واحد حول معركة صفّين يفيد أنّ أمير المؤمنين قال بأنّنا سننتصر. كانت طريقة المعركة مع معاوية بنحو لم يكن مطروحًا فيها النصر، كان المطروح فيها هو العمل بالتكليف فقط. ثمّ ينجرّ الأمر إلى هناك وإلى الصلح ويرجعون ثمّ يهزم أمير المؤمنين في الظاهر، لأنّه هو الذي ذهب إلى قتال معاوية. فيرجع، وتبدأ مشكلة النهروان، معركة النهروان. وبعد دفع المنافقين والخوارج في النهروان، لأمير المؤمنين عليه السلام خطبة يقول فيها على ما يبدو بقدر ما تسعفني حافظتي: سأجهد أن أطهّر الأرض من هذا الجسم المنكوس.۱ هذه همّة أمير المؤمنين عليه السلام وممشاه. ثمّ يبدأ الإمام أمير المؤمنين بالكلام، ويبدأ بعدّ الأمور التي جرت في صفّين وموارد الخلل التي حدثت والنقائص التي حدثت هناك وأدّت إلى هزيمة أمير المؤمنين، في كافّة هذه الأمور، وما إن يتهيّأ الناس للحركة نحو الشام تأتي ضربة ابن ملجم، في تلك الحال. أوّل كلام يقوله أمير المؤمنين يقول ذلك الكلام ـ لا يقول ماذا أقول أمام الناس، يا ويلتي! انظروا عبّأنا الناس للسير إلى الشام، ثمّ جمعناهم ثمّ حصل هكذا، لقد جمعناهم، لقد بذلنا كلّ ما في وسعنا، فماذا نقول للنّاس؟ ماذا نجيب الناس؟ نحن الذين وجّهناهم فسيقولون لماذا انتهى الأمر إلى هنا؟ كلاّ، بل ما إن جاءت الضربة فإنّ أوّل كلام يقوله هو عن نفسه لا شأن له فيه بأحد غيره: فزت وربّ الكعبة. أنا لا علاقة لي بالمجتمع، أنا لا علاقة لي بالحكومة، أنا لا علاقة لي بالرئاسة، أنا لا علاقة لي بهذه الوعود والتهديدات، لا علاقة لي بالسيطرة على البلاد وفتحها وحكومة الشام وأمثالها، أنا لي عمل مع نفسي. هنا علينا أن ندقّق، فزت وربّ الكعبة، تعني أنّه في عين اهتمامه بتطبيق العدل وبسط الحقّ بكامل قدرته فإنّه لا ينسب إلى نفسه ذرّة من هذه الأحداث، لا يشغل فكره، لا يجعل هذه الأمور والأحداث تميل به إلى أحد طرفي القضيّة، [بل يقول:] علينا أن نغلق الأمر! لو كنّا نحن فكيف كنّا نصنع؟ لو حدث لنا أمر كهذا، لو أصابنا مرض وكنّا نريد أن نقوم بعمل، كنّا نريد أن نقوم ببرنامج، إنّ أوّل أمر يخطر في بالنا: ما مآل ذلك البرنامج الذي خطّطنا له؟ هذا العمل الذي قمنا به إلى أين سيصل؟ ماذا نجيب الناس؟ هل التفتّم ماذا نجيب الناس؟!
دقّة تدبير العلاّمة لأمور مسجد القائم
انظروا! هذا هو أسوة الأعاظم، الأسوة هو أمير المؤمنين. كلّ الذين كانوا في زمان المرحوم العلاّمة يعلمون أنّ السعي والاهتمام الذي بذله لإصلاح أوضاع المسجد وإدارة المسجد ربّما لا ترى في أيّ مكان آخر. لا أدري هل ذكرت هذه الأمور للرفقاء أم لا؟ على كلّ حال لم تكن في ذهني والآن تذكّرتها، فأهلاً وسهلًا بها، ماذا نصنع في النهاية؟! أنا بنفسي كنت شاهدًا كم كان اهتمامه لإصلاح الأمور التربويّة والتنفيذيّة في المسحد! الخطيب الذي كان يدعوه كان لا بدّ أن يكون خطيبًا فاضلاً، ليس عليه أيّ كلام، لم يكن يدعو خطيبًا لا يعمل إلا على إتلاف وقت الناس بمجموعة من الأمور والحكايات والأحداث اليوميّة. كان يدعو خطيبًا يستفيد منه الحاضرون، لا أن يدعو خطيبًا يثير الأجواء في المسجد، يرتقي المنبر فيبدأ بمدح إمام الجماعة وليس له هدف سوى تعزيز مكانة إمام المسجد، كلاّ، لم يكن كذلك. كان يشترط على الخطباء الذين يدعوهم أن لا تذكروا اسمي. لقد كان من المتعارف في حقبة ما، والآن لا أدري، لا اطّلاع لي على الحال. ولكن سابقًا كان الأمر هكذا. ففي النهاية كان لا بدّ كل يومين أو ثلاثة أو أربعة أن يهتمّ ببعض الأفراد من على المنبر، وإلا لا يدعى، في المرّة الثانية لا يدعى.
كان أحد أصدقائنا رجلاً فاضلاً وهو الآن من المعروفين في طهران، كان يقول: لقد ذهبت إلى مكان لأحاضر فيه ـ في أحد المساجد ـ فمرّت بضعة أيّام ورأى الناس أنّه لا خبر، لا تمجيد ولا مدح. في اليوم الخامس السادس السابع الثامن، ولم تكن الدعوة لأكثر من عشرة أيّام ـ فرأى البعض أنّه لا يمكن، الأمر يشرف على النهاية ولم يلتفت بعد، وفجأة وصلت إلى يدي رسالة أن: المرجوّ من جنابكم أن تذكروا هذه الأمور على المنبر: أولاً: الاهتمام الخاصّ لأهل المسجد وأهل المنطقة بإمام المسجد؛ ثانيًا: لا أدري ماذا وأمورًا لا ينبغي أن أذكرها الآن. كان يقول: أنا لم ألتفت وأنهيت الجلسات العشر وخرجنا. كلّ الذين كانوا في المسجد دعوني مجمعين على عشرة شهر صفر، ولكنّ ذلك الرجل وضع إحدى رجليه في حذائه وقال: كلاّ، ليس من الصلاح أن يأتي هو. هل تلاحظون؟ لقد كان هذا أمرًا متعارفًا.
وأنقل لكم قصّة أخرى: في عشرة عاشوراء، أحد الرفقاء الذين هم على قيد الحياة على ما يبدو، منذ مدّة لا خبر لي عنه، وهو الرجل الذي ذكر في الروح المجرّد أنّا سرنا معه من النجف إلى كربلاء برفقة الشيخ عبّاس هاتف رحمه الله. كان لديه في أيّام عاشوراء بعد الظهر مجلس عزاء، إمّا في مسجد القائم وإمّا في مكان آخر طيلة أيّام عاشوراء. وكان المرحوم العلامة يشارك ليومين أو ثلاثة في هذا المجلس، والظاهر أنّه كان يأتي ليومين، وكان بعد الظهر إلى الغروب. وفي إحدى السنوات كان في مسجد آخر ـ مسجد لاله زار ـ حيث جعلوا المجلس هناك. وقد شاركت في هذا المجلس برفقة المرحوم العلاّمة. والظاهر أنّه كان في يوم عاشوراء، أو اليوم الحادي عشر، يبدو أنّه كان بعد عاشوراء، وكأنّه الحادي عشر، وقد شاركنا فيه. لم أكن أعرف الخطيب، كان الخطيب يتكلّم وأنهى كلامه ونزل، فخرج المرحوم العلامة من المسجد، وخارج المسجد أسرع الخطيب إلى العلامة وقال: أعتذر منكم، أرجو منكم المعذرة كثيرًا، سامحوني. فقال: لماذا؟ قال: أنا لم أكن أعلم باسمكم والحاصل أنّي أشعر بالخجل منكم حيث لم يُرحّب بقدومكم... وبينما هو واقف متّكئًا على عصاه قال: كلا يا عزيزي! أنا لست من أهل هذه الأمور، وأنتم أيضًا لا تصنعوا ذلك في مكان آخر، أنتم أيضًا لا تصنعوا ذلك في مكان آخر. كانت عبارته هكذا: منبر المسجد ومنبر التبليغ خاصّ بالإمام الحسين والإمام الصادق، لا تدخلوا أحدًا غيرهما إليه وتمزجوه بهما. هل التفتّم؟ لم يكن يمازح، وكان عند كلامه، لا تظنّوا أنّه يقول هكذا ثمّ إذا حصل تمجيد يقول: العفو، لا ، أنا لا أستحقّ، ولكن إذا تكلّموا عنه كلامًا فإنّه يبيد العالم. كلاّ، بل عندما كان يقول كلامًا كان يصرّ عليه هو أيضًا، ويؤكّد عليه. على الخطباء أن يكونوا كذلك.
لا بدّ أن تكون أمور المسجد هكذا. كيفيّة تقديم الشاي لا بدّ أن تكون منضبطة، لا بدّ أن تكون الأكواب كلّها في صينيّة، وصحون الشاي هذه كان يقول عنها: لا بدّ أن تجعل في الصينيّة، وتقدّم لكلّ واحد هكذا، لا أن تكون الأكواب في جهة، والصحون مكدّسة فوق بعضها في جهة أخرى، فهذه أمور كانت له ملاحظات حولها. أتعلمون ما معنى ذلك؟ معناه هو أنّه يحترم ويقدّر الجالسين هنا، كان يحترم الإنسان الذي يأتي إلى المسجد ويقضي وقته في المسجد. كيف إذا ذهب ذلك الرجل نفسه إلى بعض المجالس الأخرى لا بدّ أن تقدّم له الأواني الزجاجيّة من صناعة الصين وبطريقة من الضيافة والخصوصيّات، أمّا إذا أراد أن يأتي إلى المسجد فإنّه هكذا يقدّم له كوب غير مغسول، وصحن غير نظيف، كلاّ، ليس الأمر كذلك، كان يحترم حضور الناس، هذا معنى ذلك، كان يقدّر ذلك الوقت الذي يبذله الإنسان، الوقت الذي يبذله هنا. كان يقول لا بدّ أن تكون هكذا. ابتداء من المراقبة لكيفيّة تقديم الشاي وكيفيّة الضيافة والخطيب وأمور المسجد والنظافة والأمور الصحيّة إلى الأمور التربويّة، كلّ ذلك كان يراقبه. كلّ ذلك. حتّى أنّي كنت شاهدًا بنفسي في كثير من الأوقات حتّى في فصول الشتاء القاسية ـ ويفترض أنّ الأصدقاء الكبار في السنّ والذين هم أكبر منّا حيث لم نكبر بعد، وعلى كلّ حال هناك سادة حاضرون يذكرون أكثر منّا، أنا شخصيًّا أتذكّر بعضًا منها، فصول الشتاء القاسية التي كان يستمرّ فيها الجليد والثلج في طهران إلى أواخر شهر أرديبهشت۱ ـ في مثل تلك الفصول، ولأنّه لم يكن يملك المال ليأخذ سيّارة أجرة، كان يسير راجلاً عند الظهر من منزله في الأحمديّة والذي يبعد على الأقلّ فرسخًا٢ عن شارع سعدي، فكان يسير على قدميه، ثمّ يرجع أيضًا كذلك. ثمّ يذهب عند الغروب ماشيًا أيضًا ويرجع ماشيًا. كم فرسخًا؟ أربعة فراسخ. ولأجل الصقيع الذي كان يصيب رجله وكان مصابًا بالروماتيزم، كان يضع رجله من الليل حتّى الصباح على منقل الكرسي ٣، ولم يكن يستطيع النوم من شدّة الألم. هذه الأمور التي أذكرها هي لأجل الموضوعات التي سأتحدّث بها الآن.
من هو الذي يهتمّ بهذه الكيفيّة من الاهتمام؟ سواء بالمسجد أو بالتكليف. لقد سألته: سيّدنا ما هي نتيجة الاثنتين وعشرين سنة التي كنت فيها في طهران؟ أتدرون ماذا أجاب؟ قال: هؤلاء الشباب الأربعة الذين جاؤوا إلينا وعلّمناهم الطريق إلى الله. هذه نتيجة اثنين وعشرين عامًا من بقائنا في طهران. قام بتنظيم المسجد وأعدّه وسيطر على الأمور، وتجاوز كلّ العقبات، وتجاوز كلّ الموانع، وكثير منها ذكرها بنفسه في الكتب.
ترك العلامة لمسجد القائم بأمر أستاذه
ثمّ وعندما يأتي التكليف من جانب أستاذه السيّد هاشم الحدّاد أن يا فلان لم تعد الإقامة في طهران فيها مصلحة لك، فانتقل إلى مشهد، لم يتأخّر بعده لحظة واحدة، ترك كلّ هذا المسجد وهذه الأمور، في أمان الله. هذا هو الذي يريد أن يكون عمله لله. لا يقول: عجيب! يا سماحة الأستاذ! لقد أرهقت مدّة اثنتين وعشرين سنة، والآن استتبّت الأوضاع للتوّ، الآن أمسكنا بزمام الأمور، الآن صارت الأجواء خالية من الأعداء، وارتفعت الموانع. كلاّ لم يكن شيء من هذا الكلام، بل مضى ومضى ولم يعد يفكّر به أصلاً. وقد كنت يومًا في محضره إذ جرى الحديث حول مسجد القائم فقال: أنا لا أريد حتّى سماع اسم مسجد القائم، لا أريد حتّى سماع اسمه. وأنا بنفسي كنت في خدمة عدد من العلماء ـ التفتوا ـ وكلّما كان هناك مجال للحديث في هذا الأمر، لا يمكنني أن أنسى تعجّبهم وحيرتهم أن كيف يمكن؟! كيف يمكن أن يترك السيّد المسجد؟ كيف يمكن أن يترك مكانًا معدًّا إلى هذه الدرجة؟! حتّى أنّ أحدهم جاء وقال لي ـ والحاصل أنّي هناك خرقت جدار الصمت أمام الناس ـ يا سيّد لقد كان مريدوه في طهران فكيف تركهم ومضى إلى مشهد؟! أتلتفتون، وقد قلت أنا هنا أنّ الحاصل يا سيّد أنّ المراد لا بدّ أن يتبع المريد أم المريد يتبع المراد؟ أيّهما يجب أن يتبع الآخر؟ لئن كان مريدوه في طهران فليكونوا فيها، أفهل جاء هو إلى طهران لأجل المريد؟ إن كان يعيش في طهران لأجل المريد فالويل لحاله، وإلا فإنّه يعيش لأجل التكليف، عندها تختلف المسألة. تختلف كثيرًا، نظرتان ورؤيتان هنا تغيّران الأمر كثيرًا، أن يتعامل الإنسان مع الناس وفق هذه الرؤية أو وفق تلك. وفق تلك الحريّة والانعتاق، والعلوّ وبيان الأحكام الصافية والأصيلة بدون أيّة ملاحظة ومصالحة ومسامحة وبدون أيّ تفكير بالمصلحة والتنافس على المريدين وتدليلهم، وبالرؤية الثانية يراعي ويدرس الأحوال، نقول أو لا نقول، هل فيه مصلحة فيه أذى أم ليس فيه أذى؟ يختلف الأمر كثيرًا. لذلك فإنّ الذين كانوا حوله ولو أنّهم لم يكونوا يريدون أن يسلّموه قلوبهم لا يريدون أن يكونوا معه، كانوا يقولون: لا يمكن العثور على مثل هذا السيّد. كانوا يعلمون أنّه لا يوجد له مثيل، ولكن كانوا يرون أنفسهم غير مؤهّلين لهذا الميدان ليتقدّموا. لماذا كلّ ذلك؟ لأجل النظرة الأولى. النظرة التي فيها حريّة ولا شأن لهم بالناس. النظرة التي لا تراعي سوى القيام بالتكليف. النظرة التي لا يطرح فيها سوى التوحيد، النظرة التي لا يطرح فيها سوى إخلاص العمل. ولذلك فإنّ أوّل كلام يقوله أمير المؤمنين عليه السلام هو: فزت. ثمّ أنتم من بعدي أخبر والكرة في ملعبكم، أنا عليٌّ ما دمت موجودًا فإنّي أقوم بهذا العمل، ومن الآن فصاعدًا أنتم أخبر، إن شئتم فبايعوا ابني الحسن بن عليّ وإن شئتم فلا تبايعوه، إن شئتم فاذهبوا لقتال معاوية، وإن شئتم فلا تذهبوا، اصنعوا ما شئتم، لقد تقدّمت أنا وتقدّمت إلى هنا وقمت بواجبي، وفزت، أستودعكم الله، انتهى الأمر. والمسكين والشقيّ هو من لم يطو هذا الطريق، وألهى نفسه بأمور، ألهى نفسه هنا وهناك.
تعالوا وانظروا إلى ابن عبّاس، كان رجلاً جيّدًا ولكنّه لم يكن عليًّا، يا عليّ إنّهم ينتظرونك في المدينة وأنت تخصف نعلك؟ انظر الجميع ينتظرون الأمر. وهو جالس يخصف لنفسه هكذا. نظر إليه نظرة وضحك، ومن جديد استأنف خصف النعل، قال: يا عليّ! أقول إنّ الجيش منتظر للأوامر، وأنت جالس هنا؟!
ـ دعنا نتابع عملنا.۱
فما هو هذا؟ إنّ تلك النظرة تستلزم تلك الحال، وتلك البصيرة تقتضي هذا الوضع. هذا الأمر الذي أنتم ترونه من أمير المؤمنين أو من غيره، بل أصلاً أمير المؤمنين في أيّ أفق؟ لو أنّ أحدًا غير أمير المؤمنين قام بذلك من باب المثال، فهذا كاف وينتهي الأمر، هذه هي المسألة.
في معركة صفّين في أواخرها جاء رجل أثناء القتال فسأل أمير المؤمنين سؤالاً عن الصلاة، أنا صلّيت بهذا النحو، صليت صلاة الصبح هكذا، أصلّي هكذا، صحيح أم لا؟ فأجابه الإمام. فقال أحد الحاضرين: الآن أثناء القتال لقد أضعت وقت عليّ. عليه أن يصدر الأوامر: افعل كذا، التفت إلى هذه الناحية! فقال أمير المؤمنين على الفور: اصمت! علام نقاتلهم نحن؟٢ نحن نقاتل لإقامة الصلاة، وهذا يسأل عن الصلاة. فالمسألة رفيعة جدًّا، لا يمكن إدراكها من قبلي ومن قبلك. ذلك الأفق الذي يسير فيه أمير المؤمنين أصلا لا أدركه أنا ولا أنت. أمير المؤمنين يهزأ من كافّة هذه الأوامر والنواهي والقرارات ـ غاية الأمر أنّه ليس في الظاهر، بل في الباطن وفي قلبه ـ أمير المؤمنين منتظر أن يبيّن الحكم الشرعيّ والحكم الفقهيّ، ما الحرب وما الإمارة وما الحكومة؟ الأمر يقوم على هذا الأساس، فهذا أمير المؤمنين وهذه طريقته، وهذا إخلاص عمله في الحكومة. لا بدّ أن يكون الأمر المهمّ في الحكومة الإلهيّة هو إخلاص العمل والتوحيد.
أمّا في المكاتب المادّية فليس الأمر كذلك، فالجميع يعارض، مثلاً في زمان الشاه من الذي كان يعارضه؟ مجاهدو خلق كانوا يعارضون، الشيوعيّون كانوا يعارضون، الحركات المختلفة كانت تعارض، المؤمنون كانوا يعارضون وغير المؤمنين كانوا يعارضون، فكانوا مختلفين في النهاية، وكان في السجون من كلّ الأصناف. فلو أنّ ذلك المادّي [المنتمي إلى] ذلك الحزب غير الملتزم وغير المتديّن وغير المؤمن والملحد والشيوعيّ قيل له: شئت أم أبيت فإنّ هذه الحكومة من غير الممكن أن تسقط، من غير الممكن. فلو أنّه واقعًا أدرك ذلك فهل يستمرّ في المواجهة؟ كلاّ فلماذا يواجه؟ أمّا لو كان مؤمنًا وكان تكليفه هو المعارضة والمواجهة والقتال فلا شأن له بالسقوط وعدم السقوط. يقول: أنا تكليفي... انظروا! لدينا هنا نظرتان، لذلك نجد أنّ هؤلاء عندما يلتفتون إلى أنّ قادتهم يستسلمون فإنّهم يستسلمون، لماذا نواجه؟ نحن جميعًا نذهب بنيّة أن نصل إلى موقع ما، أن نبلغ أمرًا ما. ولكن قطعًا قطعًا لو كانوا يعلمون أنّ هذا لن يتمّ ولا إمكان له أبدًا، كانوا يتوقّفون. هذا هو الفرق.
الفرق بين المدرسة الإلهيّة والمدرسة الماديّة هو أنّها تقول في تلك الآية: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا۱ فكلّ الحركة وكلّ الهدف يدور حول ما يريده الله، لا حول ما نراه نحن؛ نعمل هذا العمل فنصل إلى نتيجة، نقوم بهذا العمل كي يتحقّق كذا، نعمل هذا العمل لننتصر، نقوم بهذا العمل لنتغلّب. فلذلك لو جاء أحد وقال: أيّها السادة نحن مكلّفون أن نقوم بهذا العمل ونحن نعلم أنّا سنهزم جميعًا ونقتل جميعًا. فإنّ المسألة تتّخذ شكلاً آخر، ويختلف الأمر. لماذا؟ لأنّ النتيجة هنا لا تنسجم مع نوايانا، في النهاية لا تنسجم.
ضرورة التذكّر والتوجّه للحفاظ على الأهداف الأساسيّة
فلذلك من الأمور المهمّة التي كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يهتمّ بها في وصاياه مسألة التوجّه والتذكّر والتي ينبغي للناس من أيّ صنف كانوا ومن أيّة جماعة ومرتبة أن يحافظوا عليها في أنفسهم. لأنّ الإنسان لا يتغيّر دفعة واحدة، بل تدريجًا، فبالتدريج تبهت المسألة، بالتدريج يحصل هذا التحوّل فيه. في البداية عندما يستلم مسؤوليّة يكون لا يزال في قلبه نفس تلك الأحوال والأجواء السابقة على المسؤوليّة، ولم يقس القلب بعد، لم يستحكم التعلّق بعد، لم يثبت ولم يترسّخ بعد ذلك التعلّق، هكذا. ولكن عندما يمضي زمان فإنّ اليوم الثاني يختلف عن اليوم الأوّل، يختلف الثاني عن الأوّل، يختلف الثالث عن الثاني، والرابع الرابع الرابع هكذا، ومع هذا التغيير والتعلّق، فإنّ مدركاته تتعرّض للتغيّر والتحوّل، والخطر هنا، ومن الذي يمكنه أن يحفظ نفسه من هذا الأمر؟ إمّا الإمام أو المتّصل بالإمام، فقط هذا. مالك الأشتر متّصل بالإمام فهو ذو مناعة، هو ثابت في موقعه، ثابت في حاله.
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في النهي عن الثناء عليه
لأمير المؤمنين عليه السلام خطبة في معركة صفّين، ألقاها بعد أن رجع من معركة صفّين، سأنقل قسمًا منها، وقد أوردها المرحوم العلاّمة في كتاب ولاية الفقيه. هناك يبيّن الإمام الأمر حول نفسه هكذا، حول أنّ على الإنسان أن لا يمدح الحكّام ولا يمجّدهم ـ وبالطبع المدح والتمجيد اللذين هما في غير موضعهما أمّا الشكر والامتنان للذين يعملون لله مخلصين فهو وظيفة فمن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق٢ ـ هناك يقول الإمام: ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء. كثير من الناس عندما يقومون بعمل ويخرجون من مشقّة، يأنسون إذا مدحهم الناس، إذا قام بعمل يقولون: ما شاء الله، لقد بلغ الأمر إلى هنا بسبب تدابيركم، وأتعابكم. وبالطبع يكون قد بذل جهدًا لا أنّه لم يبذل جهدًا، ولكن عندما يصل عمل كهذا إلى نتيجة فإنّ هذا الإنسان يفرح، يحبّ أن يأتي الناس ويقدّروا أتعابه ويشكروه: انظروا إلى عمل هذا، لقد بلغ بالأمر إلى هنا، لقد أثمرت أتعابه، لقد أدّت توجيهاته إلى أن يبلغ الأمر إلى هنا. يأتون فيصدّق هذا الرجل نفسه، ويفرح ويعدّ هذا الثناء لائقًا به، ويتعلّق بهذه الأمور. ولكنّ الإمام يقول أمرًا آخر يقول:
فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بد من إمضائها. لا تأتوا وتثنوا عليّ، لا تأتوا وتمجّدوني لأجل العمل الذي قمت به، لقد كان واجبًا في قلبي ونفسي، وقد قمت بإخراج نفسي من هذه الذمّة للقيام بالحق ولأداء الحقوق التي جعلها الله في ذمّتي. قال الله لي: يا عليّ! إن كان الناس قد اتّبعوك فاقبل الحكومة، وإن لم يأتوا، فلا تثر الضجيج والضوضاء، ولا تفسد الأوضاع، ولا تعبّئ المسلمين، ولا تفسد الأمور، امض إلى منزلك واجمع القرآن، اذهب وازرع النخيل، اذهب واحفر القنوات، اذهب وقم بهذه الأعمال، اذهب وكن مع هؤلاء العدّة الذين هم حولك. لقد كان عمل من؟ العمل الذي قام به أمير المؤمنين هل كان إثارة الضجيج؟ هل أثار الضوضاء؟ هل ألّف الكتب؟ هل أراق ماء وجه هذا وذاك؟ كلاّ، حتّى إنّه شارك في جماعاتهم. في النهاية الإنسان يجنّ من هذا... الحكومة التي قطّعت زوجته أمام عينيه إربًا إربًا، هذه الحكومة، الحكومة التي غصبت حقّه المسلّم ـ نعم ذلك الحقّ الذي هو أصلاً لا يميل إليه ـ الحكومة التي حاصرته اقتصاديًّا في أشدّ الظروف، وأخذت منه فدكًا، لأنّه يجب أن لا يكون في يد عليّ حربة، بهذه الحربة يتوجّه الناس إليه. الآن هو لديه تكليف بأن يشارك في جماعتهم، يذهب ويقف ويصلّي. وإذا ما حدثت مشكلة يأتون إليه فيذهب إليهم ويحلّها، فيرتقون المنبر ويحلّون الإشكال هل التفتّم؟ يأتي ويرفع إشكالات اليهود والنصارى، فيقولون: نعم نحن لدينا في الأمّة أفراد كهؤلاء. لولا عليّ لهلك عمر، لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن. لماذا لا تعطيه؟ لماذا لا تعطيه الحكومة؟ يقول له أمير المؤمنين أنت تكذب. فقط ينظر إليه، يعني أنت... ثمّ يمضي وماذا يفعل؟ يقوم بالأعمال، يحلّ المشكلات. فمن هو هذا؟ إنّه أمير المؤمنين. يقول: أنا إنسان هكذا، إن جئتم أخذنا بأيديكم، إن لم تأتوا لا نثير الضوضاء، ولا نؤلّف الكتب، لا نريق ماء وجه فلان وفلان، أنا لا أفعل ذلك، أنظرُ ما هي وظيفتي. ولا تظنّوا أنّ هذه وظيفة [دائمًا]، كلا يا عزيزي! هذا كلّه شيطان، الشيطان هو الذي يأتي ويبدّل الأمر [ويقول]: نعم الآن واجب.
هل هو واجب فعلاً؟ لو أنّك الآن وصلت إلى هكذا موقع هل كنت ستكتب كتابًا؟ هل كنت ستصرّح بالأمور؟ هل كنت ستفشي الأسرار؟ لو أنّك أنت وصلت إلى موقع كهذا، لو أنت وصلت إلى مكان كهذا...؟! فكيف صار الآن واجبًا؟ فما هذا؟ نحن لم نتعلّم من نهج البلاغة سوى ألفاظ، تعلّمنا عبارة. هذا أمير المؤمنين يقول الله له: اذهب واصنع هذا العمل! فإذن أمير المؤمنين ماذا يصنع؟ يقول: الآن وصلت الحكومة إلى يدك يا عليّ! وصلت الحكومة إلى يدك، جاء الناس، لا بدّ أن تقوم وتخرج. قال أمير المؤمنين: جيّد جيّدًا، لقد وصلت الحكومة الآن، سأقوم بذلك. المعركة الأولى، المعركة الثانية، المعركة الثالثة. ما هو كلام الإمام؟ لإخراجي نفسي إلى الله أنا أقوم بهذه الأعمال التي أقوم بها لأجل أن أخرج عن عهدة ذلك التكليف الذي جعله الله في ذمّتي. لأؤدّي ذلك الدين الذي في ذمّتي. يريد الإمام هنا أن يقول: لا تثنوا عليّ، أثنوا عليه هو. أنا في هذه الحكومة التي حصلت عليها، أنا كنت هنا مرتهنًا، كان في ذمّتي تكليف جعل دينًا، أنا لم أقم بشيء، لقد أدّيت تكليفي، لقد أفرغت ذمّتي. لذلك فلماذا هذا التمجيد الذي تقومون به؟ أنا لم أقم بشيء، كان بيني وبين الله دين أدّيته، فلا معنى للتمجيد. فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية۱ لقد قمت بما كان ينبغي أن أقوم به، فلا ينبغي أن تمجّدوني.
عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر حين ولاّه وأهميّة مطالعته على الدوام
والعهد الذي كتبه لمالك الأشتر، واقعًا عهد عجيب كلّما طالعته أقول إنّ أمير المؤمنين هذا كان رجلاً عجيبًا، لم يقصّر في أيّ جانب، في أيّ مسألة، يقوم بكتابة عهد بهذا النحو لمالك الأشتر وهو يعلم أنّه يقتل في الطريق، إن لم يكن يعلم فمن الذي يعلم؟! فإذن لماذا يقدّم هذه الرسالة أيّها السادة؟ لقد كتبها أمير المؤمنين لي ولك لا لمالك الأشتر، لقد قتل مالك الأشتر في وسط الطريق. هذا العهد الذي على الجميع أن يقرؤوه، ثمّ بعد ذلك انظروا ما كتبه المرحوم العلاّمة هنا حول هذا العهد لمالك الأشتر٢، وكيفيّة علاقة الحاكم الإسلاميّ مع الناس، وكيفيّة علاقات الذين لديهم مسؤوليّة تنفيذيّة، فلا فرق بين أن يكونوا مراجع أو حكّامًا، أو أدنى من ذلك من الذين لديهم علاقة مع الناس بنحو من الأنحاء، ويراجعهم الناس، في المؤسّسات وفي الأمور المختلفة، فعلى هؤلاء أن يطالعوه كلّ بضعة أيّام مرّة. لا أن يجعلوه جانبًا فحسب. وهذا ليس كلامي، هذا كلام المرحوم العلاّمة، هذا كلام المرحوم النائيني، فالمرحوم العلاّمة هنا يقول، والمرحوم النائيني في تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة يقول: إنّ آية الله الفقيه الكبير المرحوم الحاج الميرزا محمّد حسن الشيرازي ـ رحمة الله عليه ـ ذلك الميرزا الكبير رحمة الله عليه الذي حرّم التنباك، كان يطالع هذا العهد دائمًا، لأنّه برنامج أمير المؤمنين إلى واليه، والذي اختاره حاكمًا لمصر وواليًا عليها، والحاج الميرزا محمّد حسن الشيرازي أيضًا والذي كان الوليّ الفقيه للمسلمين كان يقرأ هذا العهد دائمًا كي لا يحصل تجاوز عنها أبدًا، كي لا تأخذ الفرعونيّة الإنسان.
انظروا كم المسألة حسّاسة، فمسألة الاشتغال بالنفس والتوغّل في الكثرات هذه لا تختصّ بجماعة دون جماعة، فجميعنا أصحاب نفوس، جميعنا لدينا مشكلات. ولأجل رفع هذه المشكلة ماذا علينا أن نصنع؟ لا بدّ من الاستفادة من كلام المعصوم عليه السلام والذي كلامه أيضًا معصوم، لا بدّ من الاستفادة فقط من هذا. فالكلام الذي فيه عصمة هو كصاحبه له عصمة، ليس فيه خلط، وليس فيه تركيب، وليس فيه زيادة ونقصان، وليس فيه تفكير بالمصلحة. نعوذ بالله أن يأخذ التجبّر بالإنسان.
هذا العهد عجيب، وواقعًا فيه كلّ شيء. يقول المرحوم النائيني: من المناسب أن يتأسّى جميع العلماء بالمرحوم الحاج الميزرا حسن الشيرازي وأن يجعلوا هذا العهد معهم ويطالعوه دائمًا. لا أن يطالعوه مرّة واحدة ويقولوا لقد قرأنا نهج البلاغة مع شرحه ولم تعد هناك حاجة. هذا العهد هو كالصلاة ـ هذا كلام المرحوم العلاّمة من هنا فصاعدًا ـ هذا العهد مثل الصلاة، فإذا صلّى الإنسان الصبح، ثمّ حلّ الظهر فلا بدّ أن يصلّي من جديد صلاة الظهر، ثمّ يجب أن يصلّي صلاة العصر، وعند المغرب والعشاء أيضًا يجب أن يصلّي، وفي اليوم التالي أيضًا كذلك. علينا أن لا نقول: الله واحد، الله أكبر وانتهى الأمر، فلماذا نقولها مرّتين؟ لأنّ "الله الأكبر" الأولى هي عين الثانية، دقّقوا كثيرًا، ليس المهمّ أنّ أمير المؤمنين كتب هذا العهد، المهمّ أنّا كم نحتاج إليه؟ هل ترتفع حاجتنا بمرّة واحدة؟ هل بمرّة واحدة تصلح نفوسنا؟ هل بقراءة واحدة ترتفع جميع المشكلات؟ هيهات هيهات! الطعام الذي نأكله الصبح والظهر، وإن كان واحدًا في الشكل، ولكنّه غذاءان، وله أثران، وهذا العهد هو بحكم غذاء الروح، كالصلاة التي دائمًا على الإنسان أن يصلّيها. لماذا يجب أن يصلّي؟ لأنّا نحن نحتاج إلى الصلاة. صلاة الصبح تلبّي مقدارًا من حصّتنا الوجوديّة، فتبقى سائر الحصص الوجوديّة فارغة، وصلاة الظهر هي كذلك، وصلاة العصر كذلك. لماذا يقولون صلّوا في الوقت؟ لماذا يأمر الأعاظم أن تصلّى كلّ صلاة في وقتها، لا تصلّى جمعًا. صلاة الصبح في وقتها، الظهر في وقتها، العصر في وقتها لماذا؟ لأنّ الصلاة كالمضادّ الحيويّ، هل يمكنكم أن تتناولوا أربع حبّات من المضادّ الحيويّ عند الصبح وتقولوا ينبغي أن لا نتناول بعد ذلك؟ كلاّ إضافة إلى أنّها لا فائدة منها فإنّها تسبّب ضغطًا على الكلى، تعطّل الكلى، كلّ ثمانية ساعات حبّة، وبشكل منتظم وعند وقتها، وأمر الصلاة هو من هذا القبيل. فالصلاة توجب أن تصل تلك الحصّة الوجوديّة للإنسان أن يصل إلى مرتبة تكامليّة بذلك النحو آنذاك. وما دام الإنسان محتاجًا، فلا بدّ أن يرفع حاجته بهذه المكتوبات وهذه الكلمات. جميع الناس محتاجون إلى هذا العهد وأمثاله، التاجر محتاج لأنّ الناس يراجعونه، والبائع يحتاج لأنّ الناس يراجعونه، الطبيب يحتاج لأنّه موضع مراجعة الناس، المعمّم يحتاج لأنّه موضع مراجعة الناس، المراجع حاجتهم أكثر من الجميع، وعليهم أن يطالعوه أكثر من الجميع، والحاكم الإسلاميّ بالطبع وبالنظر إلى المسؤوليّة الثقيلة التي على عاتقه دائمًا يجب أن يكون عهد أمير المؤمنين هذا أمام عينيه، وأن يستمدّ منه. عليه أن يستمدّ من كلام المعصوم عليه السلام، وأن يروي روحه وضميره بهذا الكلام.
وقد تذكّرت الآن أمرًا لا بأس بذكره، كان هناك أحد الأطبّاء المشهورين جدًّا في طهران، ورغم أنّه كان عضوًا في بعض الحركات والأحزاب، ولكنّي مطمئنّ أنّه كان مصليًّا وكان يؤدّي بعض التكاليف إلى حدّ ما وربّما أكثر من ذلك فاطلاعي على ذلك ناقص. وهو الدكتور مهدي آذر الذي كان من أتباع الحركة الوطنيّة الإيرانيّة، وقد انتقل إلى رحمة الله الآن، لقد كان لتلك الحركة أفكار خاصّة ونوع من الذوق الخاص الذي يعرفه الجميع، ولكن من حيث الاستقامة في العمل أقول لكم إنّه كان رجلاً صريحًا صادقًا كان مرجعًا لكافّة الأطبّاء الداخليين في إيران، وإن لم يكن لكافّتهم فلأغلبهم، كلّما كنت أراجعه إن كان لا يعلم شيئًا كان يقول: سيّد! أنا لا أعلم هذا، بصراحة كان يقول: لا أعلم. رجل كهذا يقول: سيّد أنا لا أعلم. من الأمور التي كنّا نراها أنّه كان في مكتبه كتابان مرجعيّان على الطاولة حتّى إذا ما واجه مشكلة فتحهما ونظر فيهما ثمّ كتب النسخة. كم هذا الحال وهذه السجيّة مناسبان وجيّدان. لا يقول: أعتقد أنّه يجب أن أعطي هذا الدواء، أتصوّر هذا الدواء. وكما نقول نحن طلاب الحوزات إنّ أحد أطراف العلم الإجمالي۱ سيعطي نتيجة إذا كانت الأدويّة المعطاة ستّين دواء.كلاّ بل هو يأتي ويعطي ذلك الدواء... ولا يخجل أن يقول المريض: أجاهل أنت أيّها الطبيب حتّى تنظر في الكتاب؟! كلّا هذا العمل عمل صحيح، هذا العمل عمل صائب، والعمل الصواب لا بدّ أن يتّبع، لأنّه محتاج، وهذه الحاجة توجب أن يكون لدى الإنسان حركة ومعاشرة ومصاحبة مع ذلك المورد، فالمسألة مهمّة جدًّا، فقد يغفل الإنسان يومًا ممّا يؤدّي إلى أن يرجع فجأة. قد يغفل الإنسان يومًا فيكون هناك بضع تمجيدات فيختلف حاله عن ثلاثة أيّام مضت.
قد يشترك اثنان في أمر ما، في البداية... ـ هذه المسألة لنا جميعًا، على الجميع أن يختبروا أنفسهم بهذا المعيار وهذا المضمار الذي وضعه أمير المؤمنين فقال: أنا فقط أردت أن أؤدّي تكليفي، فلا تلصقوا بي شيئًا آخر، فقط هذا، كلّ واحد منّا لا بدّ أن يطبّق هذا الكلام المعجز على نفسه، أنا عليّ أن أطبّقه في دائرة عملي، أنتم عليكم أن تطبّقوه في دائرة عملكم، على كلّ إنسان أن ينظر من منظار التوحيد، لا من منظار التعلّق، الحكومة واحدة من الموارد، الشركة واحدة من الموارد ـ شريكان معًا يبدآن معًا في البداية على أساس بعض المبادئ من الصداقة والرفقة والشركة فيعملان معًا، وكلّما تقدّمت الأمور فإنّ هذا يقدّم عرضًا لذاك، الأمور التي تحدث معه يقصّها عليه، اليوم الأوّل، اليوم الثاني، الشهر الأول، الشهر الثالث الرابع، وما إن تمض ستّة شهور فجأة يبدأ شيئًا فشيئًا يعتاد الأمر، يذوق طعم المال، المصارف التي تطرأ والدخل الذي يحصل يبدأ شيئًا فشيئًا يعظم في عينه، وفجأة يواجه أمرًا فيقول: إن لم أخبر الشريك فلا إشكال. هنا الخطر. تقع الضربة الأولى. كان من المقرّر أن تخبر بكلّ شيء، أن تخبر بكلّ ما يحدث، وفي غيابه عليك أن تكون أمينًا، إن لم تقل لن يعلم، ولكنّ الذي في الأعلى يعلم، هو ينظر يعلم، هذا لا يعلم، ويمكن أن يعلم هذا أيضًا في يوم من الأيّام، فماذا سيحكم فيك؟
كان المرحوم العلاّمة يقول: في أعوام الثورة سنة ٤٢ كان يقول: لقد زادت صداقتي مع رجل، وصارت حميمة جدًّا، حميمة جدًّا، حتّى لم يكن لدينا أيّة مشكلة ـ أحد السادة ـ لم تكن لدينا مشكلة، كلّ ما يجري كان يخبرني به، كلّ أمر كنّا نطرحه كان الجميع مطلّعًا عليه، وبصورة عامّة كان الأمر هكذا. حصلت أمور ومضت والأمور التي قالها: فيما بعد حصلت أمر ضروريّ جدًّا، كنّا نريد أن نتحدّث مع ذلك الرجل. فذهبنا إلى المحافظة التي كان فيها وكانت بعيدة أيضًا، كان ذلك الرجل يعيش فيها، وصلنا ليلاً لنلتقي به عند الصباح باكرًا ـ هذان الصديقان معًا ـ كان المرحوم العلاّمة يقول: وفي الصباح الباكر جئت بين الطلوعين إلى منزله، كان الباب مغلقًا، طرقته فجاء الخادم وفتح الباب، قلت له: هل هو مستعدّ؟ أريد أن ألتقي به. قال: هو الآن في الداخل، تفضّل أنت واجلس في غرفة الاستقبال الخارجيّة لكي أذهب وأناديه. قال: فدخلت غرفة الاستقبال وجلست وذهب ليناديه، ولم تمض ثلاث أو أربع دقائق حتّى دخل وناداه فجاء، وكانت هناك غرفة أخرى، لمّا دخلت هذه الغرفة التي يأتيها ويجلس فيها، رأيت أنّه يلبس ثيابه كاملة والعمامة على رأسه، وأمامه كتاب فقهيّ كبير يبدو أنّه كشف اللثام يطالع فيه. فما معنى هذا؟ لم تمض سوى ثلاثة أو أربعة دقائق حتّى ذهب ذلك الخاد وأخبره أنّ فلانًا جاء، ويريد لقاءك. في إحدى المحافظات البعيدة جدًّا في نواحي الجنوب، فما معنى هذا الأمر؟ يعني كلاّ. هو يشير إلى أمر ذلك الشريك، معي أيضًا؟ نعم. أنا أعلم أنّ الخادم الآن ناداكم من الداخل فجئت وجلست وفتحت كتابًا فقهيًّا؟! فما هذا الأمر؟! هذه هي النتيجة يا سيّد! على الإنسان أن يكون ملتفتًا. والحاصل أنّ الأمر مهمّ جدًّا.
أمير المؤمنين لم يصبح أمير المؤمنين هكذا عبثًا، هذا العهد الذي يكتبه لمالك الأشتر إنّما يكتبه لنا، فأكثروا من قراءته، التفتوا دائمًا، يمكنكم، فالله لم يجعل الشيطان لجماعة خاصّة، الجميع موجودون في هذا الميدان ولديهم مشكلة.
بلغت الساعة الثانية عشرة وبقي الكثير من الموضوعات. إن شاء الله إذا وفّقنا الله وأعطانا عمرًا إن شاء الله هناك موضوعات أخرى حول كيفيّة التدبير ورؤية الإسلام إلى التربية وإدارة أمور الجامعة.
ثبّتنا الله بمشيئته وببركة الأعاظم والأولياء وولاة الأمر على مقاصدهم، ولا وكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. وعجّل الله في فرج إمام الزمان، ونوّر عيوننا بجمال منظره وجعلنا من أنصاره وأعوانه الحقيقيّين. ولا حرمنا في الدنيا من زيارتهم وفي الآخرة من شفاعتهم.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد