المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالكثرات والاعتباريات
التوضيح
هو العليم
السلوك والخضوع للإرادة الإلهيّة
شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ٤۰
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ الله الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه ربّ العالمين
والصّلاة والسّلام عَلى أشرف المُرسَلين وَخَير البريَّة أجمعين
محمّد وعَلى آله الطَّيّبين الطّاهرين
واللَعنةُ عَلى أعدائِهم أجمعين
«قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أبا عبد الله. قلتُ: يا أبا عبد الله! ما حَقيقةُ العُبوديَّة؟ قال: ثَلاثةُ أشياءَ: أنْ لا يرَى العَبدُ لِنَفسِه فيما خَوَّلَهُ الله مِلكًا، لأنَّ العَبيدَ لا يكونُ لَهم مِلكٌ، يرونَ المالَ مالَ اللهِ يضَعونَه حيثُ أمَرَهُم اللهُ به، ولا يدَبِّرُ العبدُ لنفسهِ تَدبيرًا، وجُملةُ اشتِغالهِ فيما أمَرَهُ تَعالى بِهِ ونَهاهُ عَنه».
التلقّب بالألقاب وانسداد الطريق أمام الإنسان
عجيبة هذه الفقرات المنقولة عن الإمام الصادق عليه السلام؛ إذ يُبيّن في هذين السطرين المسألة برمّتها؛ ففي الجلسة السابقة، بيّنا آفات الغلوّ والإفراط في التلقّب بالألقاب والأوصاف، ومفاسدها التي تترتّب على نفس الإنسان، وكذلك على المجتمع، حيث نبّهنا هناك إلى بعض هذه المفاسد، وقلنا إنّ أبرز مفاسدها الشخصيّة وأمّ الخبائث في هذا المجال عبارة عن انسداد الطريق في وجه الإنسان، وحصول نتيجة معاكسة لنتيجة السلوك؛ والمتمثّلة في التذلّل والخشوع والخضوع في مقابل الله وإرادته ومشيئته، والاعتقاد بتأثيره تعالى في كافّة الأمور، واستقلاله في التسبيب والتأثير، وتوحّده وتفرّده في جميع الحوادث والوقائع؛ إذ سنُبيّن لاحقًا أنّ هذه هي ثمرة السلوك ونتيجته، كما يعرضها الإمام الصادق في تلك الفقرتين اللتين تحدّثنا عنهما، حيث نجده عليه السلام يُبيّن حقيقة العبوديّة بهذا النحو.
ويلزم من ذلك الأمر أن يتحرّك الإنسان في مسار معاكس لهذا التيّار؛ وهذا يُشبه تمامًا سيّارة تضعون فيها وقودًا، وتملؤون خزّان الماء فيها، وتضبطون كيفيّة تدفّق الهواء فيها، وتعملون على تنظيم كهربائها، وتُزيحون كافّة الموانع عنها؛ فتصير السيّارة مستعدّة للحركة، فيُشغّلها السائق؛ لكنّها تكون مربوطة بحبل أو عمود؛ فمهما زاد السائق في سرعتها، وحاولت أن تتحرّك إلى الأمام، فإنّها تبقى مسمّرة في مكانها، كيفما كانت كمّية البنزين التي استهلكتها؛ ولهذا، ينبغي إزالة هذا العائق؛ لأنّه هو الذي يحدّ من فعّالية تلك الأسباب والأدوات والآلات التي أعددتموها لحركة السيّارة؛ وهذا العائق المهمّ في السلوك عبارة عن أن يحسب الإنسان لنفسه حسابًا في مقابل الله تعالى؛ ففي هذه الحالة، لن يتقدّم أبدًا، بل ستترتّب على هذا الأمر مجموعة من الأخطار، بحيث لو لم يكن أتى من الأوّل [لهذا الطريق، لكان خيرًا له]؛ فالكثير من الناس لا ينخرطون في هذا الطريق، فتجدهم يعيشون في عوالمهم الخاصّة، ويسبحون في تصوّراتهم وأفكارهم الشخصيّة، ويتحرّكون في أجوائهم الخاصّة؛ ولهذا، فإنّ الله تعالى يحشرهم مع هذه الأمور بعينها؛ لكن، إن التحق السالك بهذا الطريق، وتقدّم مسافة معيّنة، وانكشفت له بعض المسائل، وتكحّلت عينه بمشاهدة ثلّة من الحقائق؛ ففي هذه الحالة، إذا وقع في هذه المشاكل، فالله وحده يعلم ما الذي سيحصل له.
ذات يوم، كان المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه مارًّا من مكان، فرأى رجلاً مارًّا من هناك أيضًا، وكان محاطًا بكثير من الناس من جميع الجهات، وله تلامذة، وأمثال هذه المسائل؛ فكان مرافق السيّد الحدّاد مُعجَبًا بهذا المشهد، وتعجّب كثيرًا من الحالة التي هو عليها ذلك الرجل، ويبدو أنّ بعض الأمور خطرت على باله أيضًا؛ فالتفت إليه، وقال: «يا لها من نفس كافرة يمتلكها هذا الرجل! ما أعجبها من نفس كافرة!»؛ ومراده من ذلك: لا تنجذب إلى هذا المظهر وهذه الأحوال! وقد كانت هذه المسألة بالنسبة إليه [رفيق السيّد الحدّاد] عجيبة جدًّا؛ إذ كيف يصدق هذا الأمر على ذلك الرجل مع كلّ ما يمتلكه من أوصاف، وتلامذة، وأحوال، ورغم كلّ هذه المسائل المشهودة عنه؛ إذ لعلّه شاهد صدور بعض الأمور منه؟! فهو يظلّ مستيقظًا كلّ الليل إلى الصباح، ولا تفوته زيارة كذا، ولا يدع الاستيقاظ ساعتين قبل أذان الصبح، فكيف يُنسب إليه ذلك الأمر؟! وانتبهوا، فهنا تكمن لبّ المسألة! فقال ذلك الرجل: «مع كلّ المحبّة التي كنت أكنّها للسيّد الحدّاد، إلاّ أنّني لم أستطع في تلك اللحظة استساغة هذا الأمر والقبول به؛ لكن، بعد مرور عدّة سنوات على هذه الحادثة، اتّضح لي وضوح النهار ما قاله سابقًا، وأنّ (آن چه كه جوان در آينه بيند، پير در خشت خام مىبيند)۱ ؛ فقد كانوا يأخذون اللبنة الطريّة، ويصقلونها، ويطبخونها، ويفعلون بها كذا وكذا، حتّى يصنعون منها مرآة؛ فيضعون عليها الزئبق، وكذا، ويُجرون عليها العديد من المسائل، لكي يستطيع الإنسان أن ينظر فيها إلى صورته؛ لكن، حينما ينظر ذلك الشيخ إلى اللبنة، فإنّه يكون قادرًا على رؤية المراتب والخصائص التي ستؤول إليها، والصور التي ستنعكس فيها؛ فلن يتّضح له فقط مصير تلك اللبنة، بل سيرى أيضًا كافّة الصور التي تنعكس فيها. فلماذا آلت أحوال ذلك المسكين إلى ما آلت إليه؟ بسبب المسألة ذاتها؛ فهو لم يكن في البداية بهذا النحو، ولم يصر هكذا فجأةً، ولم تتحوّل نفسه فجأةً بهذه الطريقة التي استدعت ذلك العظيم أن يصفه بتلك الأوصاف، بل إنّ ذلك حصل له تدريجيًّا، حيث جاءه أحدهم، وقبّل يديه، وأتى الثاني ولثم قدميه، وقال الثالث: «لا يوجد أحد أفضل من هذا السيّد»، وقال الرابع: «هذا السيّد هو أوّل من خلق الله!»؛ وقد سمعناهم يقولون هكذا أشياء، ولعلّكم أيضًا سمعتم ذلك أيضًا؛ مع أنّ هذه النفس ليست نفسًا تمتلك القدرة على مواجهة هذه الأشياء، بل هي نفس انفعاليّة، وليس فعليّة؛ خلافًا للإمام عليه السلام أو الشخص الواصل إلى مرتبة الولاية الذي مهما كانت الكلمات التي تلفّظنا بها أمامه، فإنّنا سنكون كَمَن يتحدّث مع جدار٢ ؛ فلو قلنا له: يا ابن رسول الله، أنت هو الله! لبقي ينظر إلينا هكذا من دون أيّة ردّة فعل؛ بل حتّى لو قلنا له: يا ابن رسول الله، أنت هو خالق الإله، [لما حرّك فيه ذلك أيّ شيء]، حيث أشرنا سابقًا إلى أنّ الإنسان الأحمق قد يصل به الأمر إلى أن يقول:
از بس كه خدا عشق به حيدر دارد | *** | انگار نه انگار پيامبر دارد |
[يقول: من فرط عشق الله تعالى لحيدر، صار وكأنّه ليس لديه نبيّ أصلاً]
فقد كان عديم الإحساس والفهم إلى هذه الدرجة! فما هو سبب ذلك؟ إنّ ذلك راجع بأسره إلى الخُرق والغباء يا عزيزي! فمتى كان سيرضى أمير المؤمنين بأن تسمه بهذا الوصف؟ إذ نجده يقول: «أنَا عَبْدٌ مِنْ عَبيدِ مُحَمَّد»۱ ؛ ولأنّه كذلك، فقد صار أمير المؤمنين؛ فلا تظننّ بأنّه راضٍ عنك. أو نظير ما سمعته عن أحدهم يقول ـ وقد كان من الشخصيّات المشهورة ـ: «لدينا رواية تقول كلّما ازدادت محبّة الأنبياء لأمير المؤمنين، زاد تقرّبهم إلى الله تعالى»؛ حسنًا، إلى هذا الحدّ، تكون هذه المقولة صحيحة، وحائزة على اعترافنا وقبولنا، وصائبة مائة في المائة؛ لكنّه يتوجّه بعد ذلك إلى رسول الله، ويقول: «هل تعلمون لماذا رسول الله قريب إلى هذه الدرجة من الله تعالى؟ لأنّه يُحبّ عليًّا أكثر من الجميع»؛ فهذا لا يصحّ؛ إذ يتوجّب علينا في كلّ موضع المحافظة على القواعد والأصول المختصّة به؛ فشتّان بين حال الأنبياء، وحال النبيّ الأعظم.
عظمة الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب
فأوّل ما خلق الله تعالى الرسول الأكرم، وليس الأنبياء.. «أوّلُ ما خَلَقَ الله نورٌ نَبيُّك يا جابر!»٢ ؛ وليس نور الأنبياء؛ فذلك الاسم الأعظم والتجلّي الإلهيّ الأعظم هو وجود رسول الله، حيث نقرأ في ليلة السابع والعشرين من رجب: «اللهمّ إنّي [أسألك بالتجلّي الأعظم]»، ولا ينبغي علينا أن نغفل عن هذه الليلة؛ لأنّها من الليالي المثمرة التي تتنزّل فيها الكثير من الأنوار والتجلّيات الإلهيّة التوحيديّة؛ فكان الأولياء والعظماء يُعدّون أنفسهم لمدّة سنة كاملة من أجل إدراك هذه الليلة التي ستحلّ بنا قريبًا، حيث تُقرأ فيها مجموعة من الأذكار والأوراد الخاصّة، ويحظى إحياؤها بأهمّية بالغة؛ ويكفي أن نعلم أنّ الرسول الأعظم وصل إلى مقام الرسالة والبعثة في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب؛ وهي مسألة غير هيّنة. ففي هذه الليلة، يوجد دعاء: اللَّهُمَّ إنّي أسْئَلُكَ بِالتَّجلي الأعْظَمِ في هَذا اللَيْلِ المُعَظَّمِ ٣؛ فالرسول هو التجلّي الأعظم؛ أجل، يبقى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام وبقيّة الأئمّة ـ بما هم من وجود رسول الله ـ يقعون بدورهم في نفس مسار هذا التجلّي؛ وهم وسائط في الفيض؛ وبالتالي، فإنّ الأمور الآن بيد إمام الزمان؛ لكن، مع كلّ ذلك، ماذا تجدنا نفعل؟ تجدنا نطرح الأمور بتلك الطريقة، الأمر الذي يتعارض تمامًا مع السلوك. ولا يخفى أنّنا تحدّثنا سابقًا عن هذه المسائل، وعن أنّ هناك مجموعة من المفاسد التي تترتّب عليها؛ لأنّ أنفسنا تتأثّر ولا تُؤثّر، ولم تصل بعدُ إلى مرتبة التأثير؛ ولهذا، فإنّ تلك المسائل تُؤثّر فيها؛ فإذا صادفت أنفسنا بعض الظروف الخاصّة، فقد تُحدث في الوقائع الخارجة عنها أضرارًا يتعذّر إصلاحها؛ وهي مسألة تحظى بأهمّية بالغة من ناحية سلوكيّة، حيث نجد في كثير من الأحيان بأنّ البعض يُعانون منها.
خطر تعلّق الإنسان بالأشياء والنظرة الاستقلاليّة إليها
فالمسألة التي أريد أن أتحدّث عنها اليوم حسّاسة جدًّا ومصيريّة بالنسبة لطريق الإنسان؛ ولعلّني لم أتطرّق إليها قبل هذه الساعة. فطريق السلوك يتمثّل في طريق العبوديّة؛ مثلما قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان في تلك الفقرتين اللتين ذكرهما في جوابه عن سؤاله: ما هي حقيقة العبوديّة؟ حيث تحدّث الإمام عليه السلام عن حقيقة العبوديّة في ثلاث فقرات؛ فقال في الفقرة الأولى: «ألاّ يرى العبد لنفسه في ما خوّله الله ملكًا»؛ أي ألاّ ينظر إلى المال الذي يقع تحت تصرّفه بنظرة استقلاليّة، ولا يعتبره مملوكًا له، إلى درجة أنّه لا يعود قادرًا على التخلّي عنه؛ فهذه العباءة التي أرتديها الآن تقع بحسب الظاهر تحت تصرّفي أنا؛ وهذا اللباس الذي ترتدونه يقع تحت تصرّفكم أنتم؛ ولا يحقّ لأيّ أحد التصرّف فيه بطبيعة الحال؛ ولو أنّه لدينا في هذا المجال بعض المسائل الأخرى المنقولة عن العظماء؛ لكنّ محلّ بحثها لا يقع هنا، بل سيأتينا لاحقًا. فقد آتي أحيانًا، وأنظر إلى هذه العباءة، وأقول: «أنعم بها وأكرم! يا لها من عباءة جميلة!»؛ إذ يبدو أنّها عباءة شاميّة، وكأنّهم أهدونني إيّاها؛ لأنّني لا أذكر أنّني اشتريت مثلها؛ فأقول: «ما أحسنها من عباءة!»، وأحتفظ بها لنفسي، وأرتديها في المجالس وأمثال ذلك؛ فهذه نظرة، وأمّا النظرة الثانية المحتملة، فتتمثّل في أنّه: مع أنّني أمتلك حقّ التصرّف في هذا اللباس وهذه العباءة؛ وهي عباءة جميلة من دون أيّ شكّ؛ لكن، على كلّ حال، هل يجوز لي أن أتعلّق بها إلى درجة [أنّني لا أستطيع تحمّل] ضياعها منّي؛ بأن تحترق مثلاً، أو يأخذها أحد منّي، حيث سنتحدّث عن ذلك لاحقًا؛ ففي أحد الأيّام، أخذ أحدهم عباءتي، وقال لي: «يا سيّدي! لقد أخذت عباءتك، سواءً رضيت بذلك أم لم ترض!!»؛ فقلت: «حسنًا، أحمد الله تعالى، فلديّ عمامة موضوعة على رأسي»؛ وبعد مرور أسبوع واحد، جاء أخو ذلك الشخص، وقال: «يا سيّدي! لقد أخذت عمامتك أيضًا!!»؛ فقلت: «حسن جدًّا، فلأشتر عمامة أخرى بدلاً عنها كحدّ أقلّ»؛ لكنّ الفرصة لم تسنح، فقضيت ذلك السفر من دون عمامة؛ ففي نهاية المطاف، على الرفيق أن يكون بهذا النحو؛ فلا فرق بين ماله [ومال رفيقه]؛ لأنّ جميع هذه الأشياء مصدرها إناء واحد، وحقائقها بأجمعها مملوكة لإمام الزمان؛ فهي في أصلها وحقيقتها تتعلّق به عليه السلام، وأمّا بقيّة الأمور المرتبطة بها، فاعتبارات بأسرها؛ وحينئذ، إذا جئنا وقلنا: «علينا أن نتعلّق بهذه الأمور، وإذا حصل لها شيء، فإنّ ذلك يصعب علينا، ولا نستطيع تحمّله، و...»، فإنّ هذا لا يصحّ. فمراد الإمام عليه السلام أنّه في عين كون الإنسان مالكًا للأموال، وله حقّ التصرّف فيها، فإنّ عليه أن تكون نظرته إليها سطحيّة ومؤقّتة؛ أجل، فنحن نتصرّف فيها الآن، لكنّنا لا نعلم ما الذي سيحصل غدًا؛ فإذا تحقّق الإنسان بهذا الحال، فإنّه سيتقدّم إلى الأمام.
قبل أسبوع واحد أو أسبوعين، كنت أطالع رواية عجيبة جدًّا، وهي رواية صحيحة تتحدّث عن أحد المعارج التي حصلت لنبيّ الله عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام، حيث تحكي هذه المسائل بأجمعها عن مجموعة من الأسرار والرموز؛ فقد كان هذا المعراج في حقيقته عبارة عن حركة في عالم الصور، وهو مختلف عن المعراج الذي يتحقّق في عالم المعاني؛ وكان يعتقد نبيّ الله عيسى أنّ هذا اللباس موجودٌ بنفس خصائصه الظاهريّة في ذلك المعراج الذي هو عبارة عن حركة في الصور المثاليّة والبرزخيّة؛ ولهذا، حينما أراد أن يعرج، أحضر معه إبرة خياطة، خشية أن تعلق ملابسه بمكان معيّن، أو بمسمار، أو بحائط إذا ذهب عند الله تعالى؛ ولا أعلم إلى أين كان يُريد الذهاب، وما هي العوالم التي كان يسعى إلى قطعها؛ لكن، إذا كانت معه إبرة خياطة، فإنّه سيتمكّن حينئذ من خياطة ملابسه. هذا، وعلينا أن نلحظ هنا مقام الاحتجاب والحياء وتلك المسائل التي كان يتّصف بها نبيّ الله عيسى؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّ حقيقة المعراج لم تكن قد انكشفت له عليه السلام بعدُ؛ إذ كانت المرّة الأولى [التي يحصل له فيها هذا الأمر]؛ كما أنّ للأنبياء مراتب مختلفة من التكامل؛ شأنهم في ذلك شأن بقيّة الناس، وليس أنّ جميع المسائل تكون منكشفة لهم منذ البداية؛ وحتّى الأئمّة هم على نفس هذا المنوال؛ فالحالات التي كانت تقع لأمير المؤمنين عليه السلام في فترة الشباب تختلف بطبيعة الحال عن تلك التي كانت تحصل له بعد مرحلة الإمامة؛ فليس من المستبعد حصول هذه الأمور لهم، لكن، مع ملاحظة اختلاف الأنبياء في الدرجات. فبدأ نبيّ الله عيسى يرتقي إلى السماء الأولى، ثمّ الثانية، والثالثة، لكن، حينما وصل إلى السماء الرابعة، قيل له: «توقّف!»؛ فقال: «لماذا؟ لماذا ينبغي عليّ التوقّف؟ لماذا لا يُسمح لي بالارتقاء إلى الأعلى؟»؛ فجاء الخطاب [من الله تعالى]: «إنّ عبدي هذا له تعلّق بالدنيا؛ إذ حينما أراد أن يأتي عندي، أحضر معه إبرة خياطة؛ فبمقدار هذه الإبرة التي تعلّق بها لا يستطيع ...»؛ والحاصل أنّه لم يأت عند الله تعالى خالصًا، ولم يُقبل عليه بكلّيته؛ ولهذا، فإنّ المسألة هنا ليست خالصة تمامًا؛ هذا، مع أنّ نبيّ الله عيسى لم يكن يمتلك شيئًا في هذه الدنيا، حيث يقول عنه أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: إنّ وسادته الحجارة، وطعامه حشائش البراري؛ فكان يعيش على الأعشاب وأمثال ذلك؛ كما أنّه لم يتزوّج أبدًا، ولم يكن له تعلّق بأيّ شيء، ولم يمتلك بيتًا۱.
لا تصطحب معك عند الحبيب غير الحبيب!
لكن، مع ذلك، حينما يُريد الإنسان الذهاب عند الحبيب، لا ينبغي عليه أن يصطحب معه أيّ شيء غير المحبوب، ولو كان ذلك مجرّد إبرة واحدة؛ فإذا كانت هذه الإبرة الواحدة سدّت عليه الطريق، فتعال، وانظر إلى التعلّقات التي تقف حائلاً أمامنا! وهذا أمر عجيب حقًّا! تذكرّت حادثة ينقلها على ما يبدو أيضًا المحدّث النوريّ؛ وهي حادثة واقعيّة حصلت فعلاً؛ ففيما يخصّ الحكايات التي أوردها المرحوم المحدّث النوريّ في كتابه «النجم الثاقب» عن الأشخاص الذين تشرّفوا بلقاء حضرة بقيّة الله أرواحنا له الفداء، فإنّ العديد من العظماء ـ ومن جملتهم المرحوم الشيخ الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه ـ يرون أنّ نسبة تسعين بالمائة منها تحقّقت في عالم المكاشفة، وليس في عالم الخارج والظاهر؛ غاية الأمر، بما أنّ التمييز بين المكاشفة وغيرها أمر صعب، فإنّ هؤلاء المشايخ الذين كانوا يسعون لنقل هذه الحكايات لم يكونوا مطّلعين على هذا النوع من المسائل؛ ولهذا، فقد كانوا يطرحونها كوقائع خارجيّة؛ بينما كانت مسألتان أو ثلاث مسائل منها واقعيّة؛ الأولى تتعلّق بالسيّد مهدي بحر العلوم رحمة الله تعالى عليه، حيث كان من الأشخاص الذين التقوا قطعًا بالإمام عليه السلام بنفس هذا البدن الظاهريّ، وكانوا يزورنه عليه السلام؛ والثانية ترتبط بحكاية ذكرها صاحب المفاتيح.. المرحوم الشيخ عبّاس القمّي عن المرحوم الحاجّ عليّ البغداديّ؛ فقد كان أيضًا من الأفراد الذين التقوا في الخارج بالإمام، وكانت زيارتهم له عليه السلام خارجيّة؛ والثالثة تختصّ بهذا الشخص الذي سأشير إلى قصّته الآن، حيث كان يدعو الله كثيرًا، ويتوسّل إليه تعالى أن يرزقه زيارة الإمام؛ وفي نهاية المطاف، وبعد التي واللتيّا، أمر عليه السلام أحد الأشخاص الذين يتوفّرون على مقام خاصّ في هذه الدنيا، وله ارتباط به عليه السلام أن يأتي به عنده ليلتقي به؛ وبالمناسبة، فقد كان ذلك الرجل يعمل في صناعة الصابون، حيث كان يُهيّء الصابون، ويُعرّضه للشمس لكي يجفّ؛ فقام بصنع مقدار كبير من الصابون، ووضع في سطح بيته، لتُجفّفه أشعّة الشمس؛ فجاء [رسول الإمام] وأخبره، فلم يتمالك نفسه من شدّة الفرح، وطفقا يمشيان، ويمشيان، حتّى وصلا إلى شاطيء البحر؛ فقال له ذلك الرجل: «تعال معي، وصُبّ تركيزك وتوجّهك عليّ، وامش فوق الماء»؛ ففعل ما أمره به، وبدأ يمشي على الماء، ويتقدّم إلى الأمام؛ إلى أن رأى فجأة أنّ السحب قد ظهرت في السماء، وأصبحت كثيفة، فبدأ المطر يهطل؛ وفجأة، قال في نفسه: «يا ويلي! لقد فسد كلّ الصابون الذي صنعته للتوّ»؛ فما إن قال ذلك، حتّى انغمر في البحر؛ فرجع ذلك الرجل، وقال له: «ما الذي حصل؟ ماذا فعلت؟ لماذا لا تأتي؟»؛ فرآه يتخبّط في الماء، فأمسكه من يده، و...؛ فقال له: «لقد رأيت فجأة أنّ السماء قد تلبّدت بالغيوم، فتذكرّت الصابون الذي صنعته في البيت، وأنّه فسد»؛ فقال له: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، لقد أفسدت الأمر على نفسك، لا بأس الآن، تعال نذهب، لنرى ما الذي سيحصل»؛ فوصلا إلى شاطيء البحر، ورأيا خيمة من بعيد، فاقتربا منها؛ فقال له [رسول الإمام]: «ابق هنا، وسأذهب أنا أوّلاً، لكي أأخذ لك إذنًا بالمجيء، ثمّ تعال بعد ذلك»؛ وحينما ذهب ذلك الرجل، سمع صوت الإمام يقول: «رُدّوه فإنّه صابونيٌّ»؛ فلم يسمح عليه السلام له باللقاء، وردّه.
فهل تعلم عند من أتيت؟ وحينئذ، هل عليك أن تُفكّر في صابونك؟ افرض أنّ أحدًا سرق هذا الصابون، فماذا كنت ستفعل حينئذ؟ فهل تعلم من هو الشخص الذي أتيت عنده الآن؟ ومن هو الذي تريد أن تلتقي به؟ إنّك جئت للقاء شخص يقع عالما الملك والملكوت بأسرهما تحت تصرّفه؛ فهل ينبغي عليك والحال هذه أن تهتمّ لحفنتين من الصابون وضعتهما على سطح البيت؟! فهو بيده جميع الملك والملكوت؛ فهذه هي حقيقة الأمر.
انتهاء جميع الأمور في طريق السلوك إلى الله تعالى
هذا في ما يخصّ هذه الفقرة، وأمّا بالنسبة للفقرات الأخرى، فإنّ الإمام عليه السلام يقول فيها: «ولا يدَبِّرُ العبدُ لنفسهِ تَدبيرًا، وجُملةُ اشتِغالهِ فيما أمَرَهُ تَعالى بِهِ ونَهاهُ عَنه»؛ فما هو هذا الطريق؟ هذا هو طريق السلوك، وهذا هو الذي يُعدّ طريقًا للسلوك؛ ومن هنا، يجب أن تنتهي جميع الأمور في هذا الطريق إلى الله تعالى، لا إلى أحد آخر، ولا إلى ذات أخرى؛ فهذا هو المسار الذي يتعيّن على الإنسان أن يُصحّح أفكاره بحسبه، وأن يوجّه هذه الأفكار نحوه؛ ومن هنا، كلّما أرجع الإنسان في نفسه وفكره الأمورَ إلى الله تعالى، ورضي أكثر بما قدّره له، صار طريقه أقرب، ومسيره أوسع وأقوم؛ لكن بشرط أن يكون ذلك حقيقيًّا، وليس في الظاهر فقط؛ وذلك بأن يقول في الظاهر: «إنّ جميع الأمور بيد الله تعالى»، لكن .... وحتّى إذا لم يفعل ذلك، فما الذي سيفعل الله معه؟ فهو تعالى لا يتنازل عن مالكيّته وقيّوميته وإرادته وإطلاقه؛ ولهذا، فإنّه سيقول له: هل تدّعي أنّ الأمور ليست بيدي؟ فافعل إذن كلّ ما يحلو لك! وادّع أنّ الأمور بيدك أنت، حسنًا، إذا ادّعيت أنّ الأمور بيدك، هل تستطيع الوصول إلى ذلك؟ كلاّ بطبيعة الحال، فنحن لم نُفوّض إليك شؤون هذا العالم، بل جعلناها بيد جبرائيلنا وميكائيلنا وعزرائيلنا وإسرافيلنا؛ ونحن لم نوكل أمور الدنيا إلى صاحب السعادة، لكي يكون مدار الفُلك والفَلك والمَلَك بيد صاحب الجلالة، فيقول: «يجب أن تصير الأمور بهذا النحو، ولا تصير بذلك النحو»؛ كلاّ، لا تطمع في ذلك؛ فأنت عبد كبقيّة عبادي؛ وإذا سعيت إلى تعدّي حدودك، فإنّني سأجعلك تدور حول نفسك، وتدور، وتضرب على رأسك، وتصعد إلى فوق، وتنزل إلى تحت، ثمّ لا يصير في الأخير إلاّ ما أريده أنا، لا ما تريده أنت؛ وحينئذ، من الذي سيخسر في هذه العمليّة؟ أنا أم أنت؟ «يا داوود أريد وتريد»؛ فأنت لديك بمقتضى نقصك وتعلّقك بهذا العالم إرادة مغايرة لإرادتي، حيث لدينا هنا إرادتان؛ «أريد وتريد، فإن ترض بما أريد، أعطيتك ما تُريد» ۱؛ فإذا قبلت حقيقة؛ أي وضعت اختيارك جانبًا، وارتضيت إرادتي؛ ونحّيت إرادتك، واستبدلتها بإرادتي؛ «وإلاّ ترضى بما أريد، أتعبتك فيما تُريد، ثمّ لا يكون إلاّ ما أريد»؛ فإذا لم ترض بما أرتضيه أنا وأريده، فإنّني سأنهكك، وأجعلك تدور حول نفسك، وتصعد إلى فوق، وتنزل إلى تحت كثيرًا، وفي نهاية المطاف «لا يكون إلاّ ما أريد». فالله تعالى قال هذا الكلام، وهو لا يتنازل عنه؛ فإذا كنّا نحن نتراجع عن كلّ ما نقوله، فإنّ الله تعالى لا يتراجع أبدًا عن أيّ شيء قاله؛ كما لا يستطيع أيّ واحد منّا أن يكون ندًّا له؛ لا أنا، ولا أنت، ولا من هو أعلى منّا، حيث رأينا ذلك بأمّ أعيننا على امتداد هذه السنوات، وطيلة فترات حياتنا؛ فقد جاء البعض، وسعوا إلى العمل بما يُخالف رضا الله تعالى وطريقه؛ لكن، ما الذي حصل؟ لم ينجحوا، فقد رحلوا بعدما جاء ملك الموت، وقال لهم: «تفضّلوا!». لقد كنتَ مخطئًا حينما تصوّرت أنّك مالك رقاب أهل الأرض والسماء، وتوهّمت أنّك مالك لرقاب الجميع، وأنّه على الكلّ الخضوع لإرادتك ومشيئتك؛ فتفضّل بالرحيل، لكي تُقدّم حسابك هناك؛ فهنيئًا لمن يستوعب هذا الأمر منذ البداية؛ فلا يوقع نفسه في المشاكل، ولا يُسبّب المتاعب للآخرين، بل يُدرك منذ البداية أنّ الإرادة والمشيئة مختصّتان بالله تعالى؛ فإذا تمكّن أحد من القيام بهذا العمل، فإنّه سيعيش حينئذ في راحة، وتكون حياته هادئة. فمع أنّه يكون ملزمًا بأداء التكاليف، إلاّ أنّه لا يكون في حالة تعلّق؛ إذ هي مجرّد مهمّة علينا القيام بها؛ فنذهب [مثلاً] إلى العمل في الصباح، ثمّ نرجع إلى البيت في الساعة الثانية؛ وإذا توجّب علينا القيام بعمل ما، نقوم به؛ فإذا تحقّق بالشكل الأفضل، فهذا جيّد؛ وإذا لم يتحقّق بههذا الشكل، فلا دخل لنا في ذلك؛ لأنّ [الله تعالى] هو الذي أراد ذلك؛ غاية الأمر، علينا ألاّ نُقصّر في أدائه؛ ففي بعض الأحيان، يأتي الإنسان، ويضع نفسه في مكان الله تعالى؛ أي أنّه يسعى لاستخدامه في مصلحته الشخصيّة؛ فتكون نفسُه تُريد شيئًا آخر، لكنّه ينسب ذلك إلى الله تعالى، ويقول: «الله تعالى أراد ذلك»؛ لا يا عزيزي! إنّه لا يُريد ذلك.
ذات يوم، كنت أتحدّث مع أحد الأشخاص، حيث كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه قد قال له: «عليك أن ترتدي عمامة»، لكنّه لم يفعل؛ فتحدّثت معه كثيرًا، وكان يستدلّ على إحجامه بأنّ هذا مطابق لمقتضيات المجتمع في هذا العصر، وأنّ الأجواء الآن هي بهذا النحو، وأنّ ذلك يُتيح خدمة الدين بشكل أفضل؛ وكان يحتجّ أيضًا بأنّ ذلك سيُمكّنه في هذه الظروف من الوصول بنحو أحسن إلى تلك الأهداف التي يسعى إليها على حدّ زعمه. فقلت له: أيّها السيّد! سأطرح عليك سؤالاً: لماذا تذهب يمنة ويسرةً؟ أ فليس الهدف من كلّ كلامك أن تنسب ذلك إلى الله تعالى، وتقول: «أريد أن أعمل في سبيل الله، وخدمةً لدينه، ولكي نتطوّر أكثر، ونُبلّغ بنحو أفضل»؟ فأنت الآن تنسب ذلك كلّه إلى الله تعالى؛ فإذا تنزّل الله تعالى الآن، وقال لك: «أريدك أن تلبس عمامة»، فماذا ستقول؟ فيقول لك الله تعالى: «أ ولست تريد ذلك لأجلي؟ فكلّ كلامك كان يدّعي أنّه لأجلي؛ وأنا أريدك أن تلبس عمامة؛ وقد أجريت ذلك على لسان هذا العلاّمة (الطهرانيّ)، لكي يقول لك: ارتد عمامة»؛ ففكّر قليلاً، ثمّ قال: «نفسي لا تسمح»؛ فقلت له: «قل ذلك منذ البداية، وأرحنا؛ فلماذا تتهرّب إلى هذا الحدّ؟!».
إرادة الوليّ لا تتعارض مع إرادة الله تعالى
على الإنسان أن يتأمّل في نفسه، ويُدقّق في حساباته؛ فلماذا ينسب [أفعاله] إلى الله تعالى ورسوله من دون مبرّر؟ ولماذا حينما يواجه مسألة ما، ينسبها إلى الله ورسوله، وإلى الأستاذ؟ ولماذا لا ننسبها منذ البداية إلى الله تعالى؟ أ فلأنّ أيدينا لا تصل إلى الله تعالى، فإنّنا نمسك بخناق الأستاذ؟ فهل يجوز إذا كانت أيدينا لا تصل إلى الله تعالى أن نقول: «إمام الزمان لم يُرد ذلك»؟ فلماذا لا نقول: «الله تعالى لم يشأ ذلك»؟ ولماذا نقول: «إرادتكم لم تتعلّق بهذا الأمر»؟ أيّة إرادة؟! من أكون أنا؟ ومن يكون غيري؟ ما هذا الكلام؟ لماذا لا نقول: «الله تعالى لم يُرد ذلك»؟ أ فليس هذا تهرّب من المسؤوليّة؟ هل تُدقّقون فيما أقوله لكم؟ فهذه المسألة دقيقة جدًّا؛ أ وليس هذا نوع من إخلاء المسؤوليّة عند مواجهة الحقائق والواقعيّات؟ هذا، مع أنّنا لا نريد الحديث بتاتًا عن بقيّة المسائل الأخرى؛ فافرضوا مثلاً أنّ أحدًا جاء عند المرحوم العلاّمة ـ ولا شكّ لدينا في مقامه ـ ، وقال له: «لو تعلّقت إرادتكم بتحقّق ذلك الأمر، لتحقّق»، فإنّ هذا الكلام سيكون على درجة كبيرة من الوهن؛ لأنّه إذا كانت إرادته عين إرادة الله تعالى، فلماذا تُمسك بخناقه هو؟ اذهب، واعترض على الله تعالى، وقل: «إلهي، أنت الذي لم تشأ ذلك»؛ وحينئذ، سيقول لك: «أجل، أنا لم أشأ، ولن أشاء، فما عساك أن تقول؟»؛ أ فلأنّ يديك لا تصل إلى الله تعالى، فإنّك تُمسك بخناق العلاّمة؟! حيث كنت أشاهد كثيرًا في عهد المرحوم العلاّمة أنّ البعض كان ينسب إليه المسائل والقضايا التي تحصل لهم، ويقولون: «لو تعلّقت إرادته بهذا الأمر، لتحقّق»؛ فالآن لم تتعلّق إرادته به، فما عساك أن تقول؟ فهو لا يُحبّ أن تتعلّق إرادته به. فإذا كانت إرادة الأستاذ ومشيئته عين إرادة الله تعالى ومشيئته، اذهب وتمسّك بالأصل، وانسب إليه الأمر؛ فلماذا تتوجّه إلى الفرع؟ وأمّا إذا كانت إرادة الأستاذ مخالفة لإرادة الله تعالى، فإنّه لن يُساوي شروى نقير، ولن ينفع في شيء؛ لكن، لأنّنا لا نستطيع الإمساك بالله تعالى، وإنزاله إلى تحت، وأيدينا قاصرة عن بلوغ ذلك؛ لأنّه لا يتنزّل إلى تحت بطبيعة الحال، فإنّنا نُمسك بهذا الأستاذ المسكين، ونقول له كلّ ما يحلو لنا: «لو تعلّقت إرادتك، لصار كذا؛ فأنت الذي لم تشأ ذلك، وأنت ...»؛ لا يا عزيزي! لا يصحّ هذا الكلام، فجميع هذه الكلمات مجانبة للصواب؛ فالسالك ينبغي عليه أن يوجّه انتباهه لجهة واحدة فقط، ولا يلزمه أن أن ينظر إلى الأستاذ بنظرة استقلاليّة، وأمّا إذا نظر إليه بهذه النظرة، فسيحصل له عين ما حصل لذلك التلميذ المطرود من قبل السيّد الحدّاد، حيث سقط في الخطإ ذاته، ولم يرغب في تصفية حساباته مع الله تعالى، بل ذهب عند السيّد الحدّاد، وأمسك بخناقه؛ وقد كنت شاهدًا بنفسي على هذه القضيّة؛ إذ لم يرض بما قدّر الله تعالى له، ولم يقبل بتلك الشدائد المخالفة لهواه التي كتبها الباري عليه، وسعى إلى تغيير قضائه عزّ وجلّ عن طريق نافذة نفس السيّد الحدّاد روحي له الفداء؛ وهذا عجيب جدًّا! هل تُريد أن تبدّل القضاء والقدر؟ أ فهل تظنّ أنّه سينصاع لكلامك؟ بل سوف يهزأ بك، ويظلّ يهزأ بك، إلى أن يصل الأمر إلى حدّ التجاسر والتطاول لا قدرّ الله تعالى؛ وحينئذ، تأتي غيرة الله تعالى فجأة، فتضربه، وتهوي به إلى أسفل سافلين.. هناك حيث لا يُسمع له أيّ حسيس! وقد سقط ذلك الرجل في الورطة ذاتها؛ فكان الإشكال الذي يُعاني منه أنّه عوضًا عن أن يتحلّى بالصبر، ويعضّ على جُرحه، و[يعمل] خلاف ما تطلبه منه نفسه... فلكلّ واحد منّا نفس، ولهذه النفس ميول ورغبات، غاية الأمر أنّني أقول لكم: إذا كنّا نُشاهد فعلاً أنّنا لا نستطيع تجاوز الحدود إلى حدّ ما، فلأنّنا لا نستطيع ذلك، لكون المسدّس موضوع على رؤوسنا؛ فإذا سعينا إلى الاعتداء قليلاً، فإنّنا سنُساق إلى مركز الشرطة؛ ولهذا، فإنّا لا نتخطّى حدودنا؛ وأمّا إذا قيل لنا: «يا سيّدي! تستطيع أن تفعل كلّ ما يحلو لك! فتحتفظ بأموال الناس لنفسك، وتتملّك نساءهم، وتُحقّق جميع الرغبات التي تُريدها أنت»، فسوف نرى حينئذ ما الذي سيبقى صامدًا إلى الأخير، ومن الذي سيتمكّن من عبور هذه المسائل؛ فإذا كنّا قد ارتضينا في أذهاننا ببعض الأمور، فإنّ السبب في ذلك راجع إلى وقوعنا تحت تهديد القانون، وبسبب القوّة والعصا المرفوعة فوق رؤوسنا؛ وأمّا إذا رُفع هذا القانون، وأزيح ذلك التهديد ....
في بدايات الثورة، كنت مارًّا من مفترق طرق، فقال لي شرطيّ المرور: «أستحلفك بالله يا سيّدي أن تأتي، وتساعدني»، فقلت له: «ما الذي حصل؟»، فقال لي: «يا سيّدي، يأتي أحدهم، ويتجاوز إشارة المرور، فأقول له: إنّ الإشارة حمراء، فيُجيبني: لقد قمنا بالثورة، لقد قمنا بالثورة ـ وهل هذا مسوّغ لتجاوز الخطّ الأحمر؟! ـ ويأتي آخر، فيكون أحدهم يعبر الطريق، فأقول له: إنّ هذا ممرّ للراجين، فعليك التوقّف، فيقول لي: لقد قمنا بالثورة، فعلينا أن نكون أحرارًا!»، ثمّ قال لي بلهجته الخاصّة: «إذا كانت هذه هي الثورة، فأنا لا أريدها من الآن إلى مائة سنة!». لقد صنعنا ثورة لكي نتمسّك بالقيم، ونُلغي القانون [الباطل]، ونصير بأنفسنا مقنّنين إلهيّين، ولم نصنعها لأجل أن نضع القانون للناس فقط، ونُخرج أنفسنا عن هذه الدائرة؛ فهذا لا يختلف أبدًا عن ذاك. إنّ السالك هو الذي يُرجع الأحداث والوقائع التي تحصل له إلى أصلها ومبدئها، فيُريح نفسه أيضًا؛ فعلينا أن نكون في راحة؛ إذ كان في بالنا القيام بالكثير من الأشياء ـ وأنا أتحدّث عن نفسي هنا ـ لكنّها لم تتحقّق؛ وكنّا نتصوّر العديد من الأمور، غير أنّها لم تحصل؛ وكانت تأتي على بالنا العديد من المسائل بعد وفاة المرحوم العلاّمة، إلاّ أنّ أيّ واحد منها لم يتحقّق؛ وأنا الآن أرى بأنّه هل يوجد لديّ أيّ دخل في أن تتحقّق أو لا تتحقّق؟ فسواء تحقّقت تلك الأهداف والأفكار التي تبدو لي، أو لم تتحقّق؛ فمن أكون أنا؟ فأنا مجرّد قشّة تطفو على سطح هذا المحيط، أو أقلّ من قشّة تتحرّك عليه؛ فهل تقدر هذه القشّة على الإحاطة بتلاطم هذه الأمواج والسيطرة على تيّارات المحيط؟ فغاية ما يُمكنها أن تتباهى به هو حرصها على الحركة بمعيّة هذه الأمواج، وعدم الابتعاد عنها يمينًا أو يسارًا، إلى أن توصلها بالتدريج [إلى شاطئ الأمان]؛ وهذه مسألة مهمّة جدًّا بالنسبة إلينا، حيث كنت ألاحظ في زمان المرحوم العلاّمة أنّ فكر الناس فكر غير سلوكيّ؛ فكانوا يعتقدون بأنّه: ما دام هذا الشخص وليًّا، وما دام أنّه وصل إلى هذا المقام، وجب عليهم أن يتوقّعوا منه القيام بأشياء خارجة عن نطاق التوقّعات المنطقيّة، وعن دائرة المقدّرات الإلهيّة.. لا! فلا يفرق هنا الأمر بينه ـ هو الذي بلغ مقام الولاية ـ وبين إنسان عاديّ جدًّا وعبد؛ فهو قد وصل أخيرًا إلى درجة أصبح فيها مثل هذا الكفّ۱ ؛ وحينئذ، تأتي أنت، وتتوقّع منه أن يُحقّق لك نيّاتك وأفكارك وتوقّعاتك؟ فهو يقول: لقد تحمّلت المصاعب لمدّة خمسين سنة لكي أتخلّص من إرادتي وتوقّعاتي، وتأتي أنت بعد ذلك، وتريد أن توقعني في هذه الورطة! ولهذا، فإنّهم يتحرّزون عن القيام بهذه الأفعال، حيث يتمثّل المعيار في كمال العارف عن غير العارف في أنّ غير العارف ومع أنّ له إرادة وقدرة، إلاّ أنّه يأتي ويتدخّل ويتصرّف في الأمور؛ فيشفي هذا المريض، ويُحيي ذلك الميّت، ويحلّ تلك المشكلة، ويفعل كذا وكذا؛ بينما لا يقوم العارف بأيّ فعل من هذه الأفعال، بل يُجري النظام على أساس الظاهر، ووفقًا لمجرياته العاديّة؛ فهذه هي مدرسة العلاّمة، وهناك مدارس مختلفة عنها أيضًا؛ ففي نفس هذا العصر، توجد مدارس أخرى تلجأ للقيام بتلك الأمور [الخارقة للعادة والظاهر]، وهي أمور صحيحة؛ أي أنّها واقعيّة، لكنّ هذه المدارس ليست عرفانيّة، بل هي عبارة عن حركة في النفس، حيث إنّ ظهورات النفس متفاوتة، وتجلّياتها مختلفة.
عدم تنازل الوليّ عن التوحيد وخضوعه لإرادة الله تعالى
ذات يوم، طالعت مسألة في مكان معيّن، فأثارت تعجّبي بشكل كبير، وتبيّن لي إلى حدٍّ ما الفارق بين مدرسة المرحوم العلاّمة وبقيّة المدارس، حيث كان أحد العظماء وأصحاب الكرامات يحكي عن ذهابه برفقة أحدهم إلى بستان يقع خارج مدينة مشهد، فجاء أحد اللصوص ـ على ما يبدو ـ في منتصف الليل إلى ذلك البستان بغرض السرقة، لكنّهما تنبّها لوجوده، وكانا يتوفّران هناك ـ بحسب الظاهر ـ على سلاح، ومسدّس، أو شيء آخر، فالتفت ذلك الشخص إلى ذلك العظيم، وقال له: «يا سيّدي، الق به خارجًا، واستعمل إرادتك وهمّتك لتجميده في مكانه، وإلقائه خارجًا»، فأجابه ذلك العظيم: «أ فلا يوجد هنا مسدّس؟! لقد جعل الله تعالى هذه الأداة لكي يُلجأ إلى استعمالها»؛ وهذا كلام صحيح وجيّد جدًّا؛ إذ على الإنسان الاستفادة من الوسائل الظاهريّة في الأمور العاديّة؛ وهي وسائل وضعها الله تعالى؛ فالباري عزّ وجلّ هو الذي جعل حتّى المسدّس، وهي أداة طبيعيّة وتندرج في ضمن حوادث عالم الطبع. فإلى هنا، لا يرد أيّ إشكال على كلامه؛ ثمّ قال له: «اضربه أنت بالمسدّس، فإذا لم يفلح معه، يصل الدور إليّ، لكي أتصدّى له»؛ وكلامه هذا يرد عليه إشكال؛ إذ ما هو الداعي لكي تصل النوبة إليك؟ فلعلّ القضاء الإلهيّ يقتضي أن يُسرق ذلك المنزل في هذه الليلة؛ فإذا انتبهت إلى وجود السارق، فلتنهض، ولتضربه بالحجر، ولترفع صوتك وتصرخ، وتتصرّف بهذا النحو؛ وأمّا إذا لم تلتفت، فإنّه لا يتوجّب عليك الاستفادة من باطنك، وتجميده في مكانه، وقتله، وإلقائه من تلك البناية إلى الأسفل، وأمثال ذلك؛ لا، فهو بدوره عبد من عباد الله تعالى؛ ومع أنّه يرتكب الآن عملاً مشينًا، إلاّ أنّ عمله هذا لا يقتضي خروجك أنت عن المسار الطبيعيّ لعالم الطبع وعالم التكوين، وخروجك من عالمي الشرع والتربية؛ فلعلّ إرادة الله تعالى تعلّقت الليلة بسرقة هذا المنزل، أ فمن المحتّم بالضرورة أن تكون البلاد في أمن وأمان؟! لا، قد يسود أحيانًا الهرج والمرج كثيرًا، وقد تقتضي مشيئة الباري عزّ وجلّ في زمان ما السلم، وقد تقتضي في زمان آخر الحرب؛ فلا ينبغي عليك القيام بتلك الأفعال؛ إذ لو أردت الخروج عن ذلك المسار العاديّ، فستكون أنت هو الخاسر؛ فإذا جاء ذلك السارق، وأخذ سجّادًا، أو أثاثًا من باب المثال، فقد يكون ذلك سببًا في رفع بلاء عنك؛ أ فلا تستحضرون قصّة نبيّ الله تعالى موسى؟ وذلك حينما مات فرس [أحدهم في عصره]، ومات حماره، وماتت بغلته، ثمّ وصل الدور إليه، حيث كان يُريد [أن يتخلّص منهم] الواحد تلو الآخر۱ ؛ لا، فقد تأتي أحيانًا الميكروبات والفيروسات، وأمثال ذلك، وتأتي الزلازل والصواعق، وتحصل مسأل معيّنة؛ كما يأتي أحيانًا اللصوص، ويأتي غيرهم أحيانًا أخرى؛ فما هي حقيقة هذه الأمور؟ إنّها أمور قد تكون حدثت جرّاء أخطاء ومعاصٍ؛ لكن، في الوقت ذاته قد تجرّ نفعًا للإنسان من ناحية أخرى؛ وكيف لنا أن نعلم بأنّه إذا تصدّينا لذلك اللصّ، فإنّنا لن نقع في ورطة من جهة أخرى؟ حيث توجد العديد من الحكايات في هذا المجال؛ لكنّنا لن نستمرّ في الحديث عن هذه المسألة أكثر.
إنّ السير والسلوك عبارة عن توجيه كافّة الأمور إلى الله تعالى، لا إلى غيره؛ إذ ما الذي يُمكن لهذا الغير فعله؟ فترى البعض يقول: «يا سيّدي! أنت الذي أردت حصول ذلك بهذا النحو»؛ لا يا عزيزي! لم أرد أنا ذلك، ولا أراده غيري، ولا أيّ أحد آخر، وأشهد الله تعالى على أنّني لم أشأ ذلك، أو يقولون: «يا سيّدي! أنت الذي لم تُرد أن يقع الأمر بهذا النحو»؛ لا يا عزيزي! أشهد الله تعالى أنّني لم أشأ ذلك، وأنا أقول لكم جميعًا الآن: إنّني لم أرد، ولم أشأ، ولم ألجأ إلى الدعاء، ولا إلى أيّ شيء آخر؛ إذ لا يُمكنني القيام بأيّ شيء في هذا المجال؛ وهذا الكلام أشبه بالسخريّة والاستهزاء والفكاهة منه بالأمور الحقيقيّة والواقعيّة. كما تجد البعض يقول أيضًا: «يا سيّدي! إنّ مشيئة المرحوم العلاّمة تعلّقت بوقوع الأمر الكذائيّ بهذا النحو، وإلاّ، لما تحقّق بتلك الطريقة؛ فلو لم تكن مشيئته تعلّقت بذلك، لما لحقنا الضرر في هذا المجال؛ ولو لم تكن إرادته اقتضت ذلك ...»؛ وحتّى أنّني سمعت ذات يوم أنّ البعض يقول في مقام الاعتراض بخصوص مجموعة من الأوامر التي كان يُعطيها المرحوم العلاّمة لهم وكانت مخالفة إلى حدّ ما [لرغباتهم]: «لو أنّنا لم نصغ لكلامه، لما وقعنا في هذه المسألة»؛ فيا أيّها السيّد! من الذي أجبرك على الإصغاء؟ ومن الذي أرغمك عليه؟ فكان المرحوم العلاّمة يقول من باب المثال لأحدهم: «أيّها السيّد! لا تدخل في هذه الصفقة، فالمصلحة تقتضي مثلاً ...»؛ ثمّ يرى ذلك الشخص أنّه يا للعجب! كم كانت تلك الصفقة مربحة جدًّا! ويقول: «لو أنّنا لم نُصغ لكلام العلاّمة، لحصلنا على ربح كبير جدًّا»؛ أو أنّه رضوان الله تعالى عليه كان يقول لآخر: «اختر فلانة زوجة لك، أو تزوّج بالبنت العلاّنية»، أو أمثال ذلك؛ ثمّ يُواجهون بعض المسائل، ويسقطون في مجموعة من المشاكل، فيأتون عند العلاّمة رحمة الله تعالى، ويُلقون باللوم عليه.. «يا سيّدي! انظر إلى ما نصحتني به! تعال أنت، وأصلح الأمور!»؛ فما هي حقيقة هذه المسألة؟ وكيف تحصل هذه الأمور؟ إنّ هؤلاء غافلون عن تلك المسألة التي تحدّثت عنها ذلك اليوم بخصوص الخضر وموسى عليهما السلام، والتي تُعدّ من الأسرار، ومفادها أنّ وليّ الله تعالى إذا أراد القيام بفعل ما، فإنّ فعله هذا لا يكون له أبدًا أيّ ظهور أو بروز خارجيّ؛ هذا، مع أنّه حينما تأتي الملائكة وأمثالها، وتُحقّق أمرًا في الخارج، فإنّنا لا نُلقي باللوم عليها؛ لأنّ أيدينا لا تصل إليها. فمن باب المثال، إذا ارتحل أحد عن هذا العالم، أو أصيب بمرض ما، أو تعرّض لضائقة في أحواله وتجارته، حيث يحصل ذلك بواسطة مجموعة من العلل والأسباب المرتبطة بالعوالم العلويّة وعالم المجرّدات، فإنّنا لا نقول: «يا حضرة عزرائيل الكذائيّ الذي قتلت مثلاً هذا الإنسان، ويا كذا وكذا!»؛ وذلك لأنّ أيدينا عاجزة عن الوصول إلى عزرائيل؛ لكن، إذا أراد الخضر القيام بالفعل ذاته، فإنّ موسى عليه السلام يُمسك مباشرةً بخناقه، ويقول له: «أيّها الخضر! لماذا تقتل طفلاً ذا عشرة سنين؟»؛ وهنا سيُجيب الخضر عليه السلام... أجل، لو كنّا نحن الطلبة مكانه، لقلنا لموسى عليه السلام في تلك اللحظة: «أجبني في الحال: لو أنّ عزرائيل كان هو من قبض روح هذا الطفل ذي العشرة سنوات، هل كنت ستعترض عليه؟ لن تعترض عليه؛ أ فلا تعترف بي بمقدار ما تعترف بعزرائيل؟ فلو فرضنا أن عزرائيل جاء، وقبض روح ذلك الطفل ذي العشرة سنوات، أو ...؛ هذا مع أنّ الذي يقبض روحه هو عزرائيل؛ فصحيح أنّ الخضر عليه السلام [هو الذي قام بذلك الفعل]، لكنّ الذي يقبض روحه حقيقةً هو هذا المَلَك؛ أجل، يبقى أنّه لا يوجد هنا أيّ فارق في البين؛ لأنّ العلل والأسباب تقع بأجمعها في سلسلة طوليّة، وهناك علّة واحدة هي التي تقوم بهذا الفعل؛ غاية الأمر أنّها تقوم به في مظاهر مختلفة، وليس في مظهر خاصّ؛ لكن، بما أنّنا مبتلون هنا بالتعلّق بالظاهر، ورؤيتنا ظاهريّة، فإنّنا لا ننبس بأيّة كلمة إذا تحقّقت هذه المسألة عن طريق الغيب؛ مع أنّ قضيّة إزهاق الروح واحدة، ولا فرق بينها؛ فلو كان عزرائيل هو الذي قبض روحه، لتوجّب دفنه في التراب، ولو قبض الخضر عليه السلام روحه، لتعيّن أيضًا دفنه في التراب، من دون وجود أيّ فارق؛ لكن، بما أنّ نظرتنا ظاهريّة ...؛ فما هو السبب في كلّ ذلك؟ سببه الجهل.
حكاية التلميذ الذي توقّع من السيّد الحدّاد التدخّل في القضاء الإلهيّ
ولهذا، يتعيّن على السلوك أن يرفع هذا الجهل؛ إذ لا يوجد فارق في هذه المسألة على مستوى عالم الواقع والخارج، بل ترتبط فقط برؤيتنا؛ فإذا كنت أتحدّث إلى هذه الدرجة عن أنّ الفارق بين العارف وغير العارف يتمثّل في النظر، فإنّ السبب في ذلك يرجع إلى هذه النقطة؛ ولهذا، علينا تصحيح الرؤية والنظر. وهنا، سأتحدّث بكلّ صراحة: إذا أراد وليّ من أولياء الله تعالى القيام بفعل ما حقيقةً، فماذا سيكون فعله هذا؟ سيكون فعلاً إلهيًّا؛ وحينئذ، لن يوجد أيّ مجال للاعتراض؛ فلماذا تُريد أن تعترض حينئذ؟ وهنا، لو أنّ الملائكة المدبّرة ﴿فَالْمُدَبِّراتِ أَمْرًا﴾۱ هي التي قامت به، هل كان فعلك سيعدو أن تجلس، وتضع يدًا على الأخرى، وتجلس القرفصاء حزنًا، وتقول: لا يُمكن فعل أيّ شيء! فإذا كانت يديك تصل إلى الملائكة، فصفّ حسابك معهم! وإذا كنت قادرًا على ذلك، فتفضّل على بركة الله! لا يُمكنك ذلك؛ لكن، إذا انتبهت، وقالوا لك: «أيّها السيّد! إنّ ذلك الفعل الذي حصل هو من تدبير الوليّ الفلانيّ»، فإنّك ستقوم من مكانك في الحال، وتذهب عنده، وتشرع في ضرب الباب، والإلحاح، وأمثال ذلك، إلى أن تجبره على ماذا؟
لقد كنت شاهدًا على مقدار إلحاح وفظاظة سماحة ذلك السيّد الذي كان يحضر عند السيّد الحدّاد؛ وكنت أشهد كم كان يضغط عليه من أجل تحسين أوضاعه المعيشيّة، بل إنّه بلغ به الحدّ أن يقول له: «إمّا أن تقضي لي حاجتي، أو أبوح للآخرين بالأسرار التي أعرفها عنك»؛ فاضطرّ السيّد الحدّاد إلى إحداث تغيير في أحواله، لكن، ماذا كانت نتيجة ذلك؟ لقد كنت شاهدًا على أنّه لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتّى جاء القهر والغضب الإلهيّان، وأمسكا بخناقه، وألقيا به إلى أسفل سافلين؛ وقد طالعت الرسالة التي بعثها إلى المرحوم العلاّمة، وقال فيها: «اعلم أنّني الآن أعاني في قعر جهنّم»؛ فهذه عبارته هو، وهذا اعتراف قدّمه بنفسه؛ فلم يعتن به المرحوم العلاّمة بعد ذلك، ولم يُجبه على رسالته، بل حتّى في سفر المرحوم العلاّمة إلى مكّة المكرّمة برفقة بعض الأحبّة، جاء هو أيضًا، وفعل المستحيل لكي يتحدّث معه، ويتوسّط له عند السيّد الحدّاد، لكنّ المرحوم العلاّمة قال: «لن أتعدّى ما قرّره أستاذي بشأنك، ولو بمقدار ذرّة واحدة! اذهب، وأصلح أمورك مع السيّد الحدّاد، فأنا لم أعد قادرًا على فعل أيّ شيء لك». وقد طالعتم جميع هذه المسائل في كتاب الروح المجرّد، وكم كان يتوسّط له، وكم بذل لأجله من مشقّة، ولمرّات عديدة، لكن، في نهاية المطاف، للصبر حدود.
فهذه المسألة من المسائل التي تحظى بأهمّية بالغة، ومن الأسرار التي طرحت العديد أرضًا؛ فلا ينبغي لرؤيتنا أن تتنزّل من التوحيد إلى المظهر؛ وإلاّ، ستطرحنا هذه المسألة أرضًا في موضع من المواضع؛ وذلك حينما ترتفع النفس، وتتقوّى، وتصير متمتّعة بالقدرة، وترى ضرورة المشي في طريق آخر مخالف للتقدير والمشيئة الإلهيّين، بحيث لا يُمكنها تكييف نفسها مع ذلك التقدير وهذه المشيئة؛ وبما أنّها صارت قويّة، فإنّها تريد الوقوف في وجه إرادة الله تعالى ورضاه؛ وحينما يسعى الإنسان لتغيير هذا القضاء والقدر المخالف لنفسه، فإلى من يتوجّه؟ فبما أنّ يده لا تصل إلى الله تعالى، فإنّه يتوجّه إلى أحد المظاهر، لكنّ هذا المظهر لا يسعه فعل أيّ شيء، ولا يُمكنه المشي على خلاف إرادة الله تعالى؛ فما الذي سيحصل لهذا الإنسان؟ سيسقط؛ وذلك لأنّه لم يُصحّح نفسه منذا البداية.
العلاقة مع الأستاذ بين النظرتين الاستقلاليّة والوسائطيّة
ذات يوم... وسوف أتحدّث عن هذه المسألة، ثمّ أختم كلامي اليوم؛ فقبل سنة واحدة تقريبًا من وفاة المرحوم العلاّمة، طرحت عليه ذات ليلة مجموعة من الأسئلة التي كانت في بالي بشأن بعض المسائل، وكان من بين هذه الأسئلة، وآخر واحد منها، ويحظى بأهمّية بالغة لديّ، هذا السؤال: «يا سيّدي! كيف كانت رؤيتك للسيّد الحدّاد؟ وكيف كنت تنظر إليه؟»؛ ففي نهاية المطاف، كانت هناك بعض المسائل التي تختلج صدري، حيث كنت أقيّم علاقته بالمرحوم السيّد الحدّاد، وآخذ بالاعتبار بعض القضايا الأخرى، فيصعب عليّ الجمع بينها؛ ولهذا، أردت أن أسأله بنفسه عن هذه المسألة، فقلت له: «يا سيّدي، ما هي الرؤية التي كانت لديك عن السيّد الحدّاد؟ وكيف كنت تنظر إليه؟»، فقال لي عنه كلامًا لا أرى أيّة ضرورة للإفصاح عنه حاليًّا؛ وفي تتمّة جوابه، قال: «مع كلّ هذه المسائل التي قلتها عنه، إلاّ أنّني لم أنظر إليها أبدًا بنظرة استقلاليّة؛ أي أنّني نظرت إليه كوسيلة، وليس مستقلاًّ؛ فلم أكن أرى إرادته مستقلّة، ثمّ أطلب منه شيئًا من الأشياء»؛ أجل، على الإنسان في علاقته بالوليّ أن يطلب منه [الأمور]، ولا مجال للكلام هنا؛ إلاّ أنّ الطلب منه هو طلب من الله، وليس بنحو منفصل عنه تعالى؛ فليس لدينا أيّ كلام عن ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾۱ ؛ وعلى الإنسان أن يجعل الأئمّة وسائل، ووسائط بينه ...؛ وإلاّ سيُلقي بنفسه في قلب الهلاك والجهل والظلمة.
فالأئمّة هم وسائط الفيض، ووسائط عالم الوجود، ووسائط حياتنا؛ والواسطة في حياتنا الآن هو إمام الزمان عليه السلام، بحيث لولا عنايته، لكنّا عدمًا بأجمعنا؛ وهذا كلّه صحيح، لكن، حينما ننظر إلى إمام الزمان عليه السلام باعتباره مظهرًا، فإنّنا نراه واسطة؛ والواسطة لا استقلال لها بنفسها، ولا إرادة لها من ذاتها، وليست لديها مشيئة مغايرة لمشيئة مولاها، ولا رأي مخالف لرأيه؛ أ فمن الممكن أن نأتي، ونطلب من إمام الزمان عليه السلام أن يقوم بفعل مخالف للتقدير الإلهيّ؟! فحينئذ، سيقول: إن أردت أن أقوم بهكذا فعل، فلن أكون إمامًا؛ وإن سعيت للإقدام عليه، فلن أكون إمامًا لكم، ولن أكون مُطاعًا لكم، ومُتَّبعًا بالنسبة إليكم؛ فأنا إمامكم، لأنّني واسطة، ولعدم امتلاكي إرادة مغايرة لإرادته تعالى، وإلاّ، فأيّ فارق سيكون بيني وبين بقيّة الناس لو كانت لديّ هكذا إرادة؟ والمراد من هذا الكلام أنّه: رغم كلّ الأمور التي ذكرها [المرحوم العلاّمة] عن أستاذه، ووصفه إيّاه بأوصاف تبلغ حدّ العبادة، لكنّه في الوقت ذاته كان يقول لي: «أنا لم أنظر أبدًا إلى أستاذي بنظرة استقلاليّة»؛ ولهذا، تمكّن من العبور؛ وأمّا ذلك الشخص، فمع أنّ الحجب قد أزيحت من أمام عينيه باعتراف من المرحوم العلاّمة وإقراره، إلاّ أنّه توقّف، وسقط.. لماذا؟ لأنّ المرحوم العلاّمة لم يتوقّع ويطلب شيئًا من السيّد الحدّاد، بخلاف ...؛ فقد حصلت له العديد من الأمور؛ وأنا على علم بما حدث له من مسائل، حيث من أعظمها ابتلاؤه بشخص مثلي أنا! لكنّني لم ألحظ في جميع هذه المسائل حدوث أيّة خاطرة أو تصوّر [توقّع] تجاه السيّد الحدّاد.. أبدًا!
فكما أنّ الباري عزّ وجلّ أخذ بأيدي أولياءه، ووضعهم في الصراط المستقيم الذي يُمثّل صراط ولاية الأئمّة عليهم السلام، وأوصلهم إلى الهدف المنشود ومقام العبوديّة، نرجو منه تعالى أيضًا أن يثّبتنا في مسار أوليائه، وأن يُرسخّ في كلّ لحظة علاقتنا وارتباطنا وربطنا بالولاية الكلّية المطلقة الحقيقيّة لحضرة بقيّة الله تعالى أرواحنا له الفداء أكثر فأكثر، وألاّ يحرمنا في الدنيا من زيارة أهل البيت، وفي الآخرة من شفاعتهم.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد