38

السالك في مواجهته للمدح والثناء

7688
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالكثرات والاعتباريات

جلسات المجموعة(5 جلسة)

التوضيح

في هذه المحاضرة التي عقدها آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ لتتمّة شرح فقرة «قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعَبد اللهِ» من حديث عنوان البصريّ الشريف، تحدّث سماحته بدايةً عن أهمّية مراعاة المراتب في مدرسة التشيّع حتّى بين المعصومين الأربعة عشر، ثمّ تطرّق بعد ذلك لمعنى وصف الإمام الحسين عليه السلام بثار الله، واختصاصه به، وعدم جواز إرادة المعنى الوصفيّ عند تسمية البعض بعين الله أو يد الله؛ ليُعرّج عندئذ على مسألة ضرورة تعامل السالك بحزم مع مدح الناس له، وأهمّية أخذه زمام المبادرة في الأمور السلوكيّة؛ مستعرضًا في ضمن ذلك بعض القصص والنكات السلوكيّة المهمّة الأخرى
/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

السالك في مواجهته للمدح والثناء

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • السالك في مواجهته للمدح والثناء

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣۸

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

السالك في مواجهته للمدح والثناء

2
  •  

  • أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم‌

  • بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم‌

  • وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي ‌القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد

  • وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين‌

  • لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء

  • وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم‌

  • إلَى يوم الدّين‌

  •  

  • «قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعبد الله»؛ قال عنوان للإمام الصادق: يا شريف! ويا أيّها العظيم! فقال له عليه السلام: نادني بأبي عبد الله.

  • أهمّية مراعاة المراتب في مدرسة التشيّع حتّى بين المعصومين الأربعة عشر

  • ففي الجلسة السابقة، تحدّثنا قليلاً عن بعض الأخطار التي تُحدق بالإنسان جرّاء مسألة تعظيم الذات، والمعلولة لمجموعة من الظروف التي توجد هذه الحالة في نفس الإنسان؛ ومن بينها التعنون ببعض العناوين والتلقّب ببعض الألقاب التي تتجاوز صفات الإنسان الوجوديّة والشخصيّة؛ ممّا يُفضي لتأثّر نفسه، وانفعالها بهذه المسألة، ونسيانها لصفاتها ومكانتها الحقيقيّة ومرتبتها الواقعيّة؛ وبالتالي، يُصبح الإنسان في وضع لا ينتج عنه إلاّ الهلاك والبوار؛ كما بينّا أيضًا أنّه على كلّ واحد مراعاة حريمه، وحريم الآخرين، وحريم كلّ إنسان بحسب مكانته الخاصّة؛ ففي مدرسة التشيّع، الطهارة التامّة والعصمة المطلقة منحصرتان في أربع عشرة ذات مقدّسة؛ وهم المعصومون الأربعة عشر عليهم السلام؛ وأمّا بقيّة الناس ـ مهما كانوا ـ فيقعون في الخطإ، وهم غير مصونين من شؤون عالم الكثرة، والعلل الموجِبة للخطأ؛ وينبغي مراعاة هذه المسألة في جميع المستويات، بحيث من اللازم المحافظة على المراتب حتّى بالنسبة لنفس الأئمّة عليهم السلام؛ فمكانة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم تتميّز عن مكانة جميع الأئمّة عليهم السلام؛ وأمير المؤمنين عليه السلام يتميّر من هذه الناحية أيضًا عن بقيّة الأئمّة؛ هذا، مع أنّ جميع هذه الذوات المقدّسة الأربعة عشر تتمتّع بالعصمة الذاتيّة والطهارة الذاتيّة المطلقة التي تُعدّ مصداقًا للآية الشريفة ‌{إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}۱، حيث تحكي هذه التطهيرات الأخيرة عن تلك الطهارة الذاتيّة. فإرادة الله تعالى ومشيئته تعلّقتا باتّصاف هذه الذوات المقدّسة بنوع من الطهارة المطلقة والعصمة الذاتيّة، سواءً في مرتبة الظاهر، أو الباطن، أو السرّ؛ ولهذا، حينما ننظر إلى أحوال الأئمّة عليهم السلام، وأفعالهم، وأقوالهم، وكيفيّة تعاملهم مع الناس، نُصاب بالدهشة، ويظلّ هذا التساؤل مرافقًا لنا على الدوام: كيف يُمكن أن تصل ذاتٌ إلى هذا المستوى، بحيث لا يشوب وجودها أيّ نوع من أنواع التوغّل في عالم الكثرة؟!

    1. سورة الأحزاب، الآية ٣٣.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

3
  • وعلى سبيل المثال، حينما ننظر إلى حادثة كربلاء والوقائع المرتبطة بسيّد الشهداء عليه السلام، ينتابنا العجب الشديد من أفعال الإمام الحسين عليه السلام، إلى درجة أنّنا لا نكاد نُصدّق بتاتًا أنّها صدرت من إنسان، وبشر عاديّ؛ أ فهل يُمكن ذلك؟! وهل يُمكن أن يكون الإنسان على أعتاب الشهادة، ويقول في تلك الحالة «هل من ناصر ...»، ومراده من ذلك هداية الناس؟ فكيف يُمكننا تصوّر هذا الأمر؟ وأيّ منطق ينسجم مع هذه المسألة؟ وما هو نوع التأسّي الذي يُمكننا أن نلحظه في هذه المسألة؟ فقد قَتلوا جميع رجالاته، وقطّعوا أولاده أمام عينيه إربًا إربًا؛ وهم الذين تُضاهي شعرةٌ منهم كلّ عالم الوجود؛ أ فهل كان حضرة عليّ الأكبر شخصًا هيّنًا؟! هل كان حقيقةً كذلك؟ فلو لم تتعلّق إرادة الله تعالى ومشيئته بإمامة حضرة السجّاد، لكانت الإمامة من نصيبه هو؛ فهذه هذه شخصيّته! وهل كان حضرة أبي الفضل شخصًا هيّنًا؟ فهذه المسألة ليست عاديّة؛ إذ أنّى لنا أن نعثر في عالم الوجود على هكذا شخصيّة ضحّت بكلّ شؤونها الوجوديّة، ولم تغفل في كافّة المراتب عن التوجّه إلى سيّد الشهداء عليه السلام طرفة عين أبدًا، وطفح جميع وجودها بعشق أخيها ومولاها؟ وأين لنا أن نجد مثله؟ فمنذ خَلقِ آدم، وإلى قيام الساعة، لم يأت، ولن يأتي نظير لحضرة أبي الفضل من بين الشهداء؛ وفي هذه الحالة، نرى سيّد الشهداء يفقد كلّ هؤلاء، ويخسر كلّ أصحابه، ويفقد كلّ هذه الأمور المختصّة به؛ لكن، مع ذلك، كلّما تقدّم مسار الأحداث في كربلاء إلى الأمام، نجده عليه السلام أكثر بشاشة؛ وهنا، يُصاب الإنسان بالحيرة! فأيّة قضيّة هذه؟ وما هذه الحكاية؟ وأيّ بشر هذا؟ ومن أيّ شيء وُجدت نفسه؟ وما هي الخصائص التي تتّسم بها ذاته، بحيث كلّما ازدادت مصائبه، زاد ابتهاجه؟ وكيف يُمكن لهكذا قضيّة أن توجد؟ وما الذي كان يحدث في سرّه وسويداء قلبه عليه السلام في يوم عاشوراء؟ فهذه الأمور لا نملك عنها أيّ اطّلاع، ومع ذلك تجدنا نقول: «حسين العصر»، هكذا، ومن دون ضوابط! فأنا بنفسي لا أستطيع تحليل مسألة كربلاء؛ والآخرون لا يختلفون عنّا كثيرًا فيما سمعناه عنها وشاهدناه منها، وأقول هذا من دون مواربة؛ إذ لم أجد أنّ الآخرين قدّموا شيئًا في هذا المجال زائدًا على ما عثرنا عليه. وأنا لا أستطيع بتاتًا أن أتصوّر كيف كانت مسألة كربلاء، وأحوال الإمام الحسين عليه السلام؛ وإذا قال أحد صادقًا بأنّه لا يقدر على ذلك، فجزاه الله خيرًا؛ وأمّا إذا قالها تملّقًا، فله حساب آخر؛ إذ لا يُمكن لأيّ أحد حقيقةً وواقعًا أن يُدرك ذلك؛ لأنّ هذه المسألة خارجة من الأساس عن قدرتنا وفكرنا وتأمّلنا.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

4
  • معنى وصف الإمام الحسين عليه السلام بثار الله

  • وإذا كنّا نُخاطب الإمام الحسين عليه السلام، ونقول: يا ثار الله! لماذا لم يتسنّ لنا مخاطبة بقيّة الشهداء بذلك؟ لقد نال حمزة عليه السلام الشهادة في معركة أحد، وبنحو مفجع؛ فلُقّب بعد ذلك بسيّد الشهداء، وكان يُقال له: حمزة سيّد الشهداء. فمن ناحية أولى، كان قائدًا لجيش المسلمين، وكان يتّصف بالرحمة والشفقة، ووهب وجوده بأسره لأجل النبيّ، وفعل كذا وكذا، وكان عمًّا لرسول الله، وقدّم العديد من التضحيات، واستُشهد بطريقة مفجعة، بحيث إنّ الرسول الأكرم لم يُطق رؤية جسده؛ فجاؤوا، ووضعوا ثوبًا عليه، لكيلا تظهر الحالة التي كان عليها؛ فلقّبه صلّى الله عليه وآله وسلّم بسيّد الشهداء. فحينما ننظر إلى أحواله، وخصائصه، نرى أنّه رجل عظيم، حيث ضحّى بنفسه، ووهب وجوده في سبيل الرسول، وفداه بحياته؛ فجميع هذه الأمور صحيحة؛ وعندما نقول إنّها صحيحة، لا يعني أنّنا أهلٌ لهذا الكلام، لا يا عزيزي! فنحن أقلّ بكثير منه؛ وذكرُنا لذلك هو في من باب بيان المسألة فقط؛ إذن، فجميع تلك الأمور صحيحة؛ لكن، حينما يستشير الرسول الأصحاب بخصوص الحرب داخل المدينة أو خارجها، ومع أنّ حمزة عليه السلام يعلم بأنّ رأيه صلّى الله عليه وآله وسلّم استقرّ على الحرب في المدينة، فإنّه يقول: يا رسول الله! ستُعدّ هزيمة لنا وللإسلام إذا قيل إنّنا مثلاً بقينا في المدينة، وتحصّنا في منازلنا، وتوسّلنا بالأسطح والأزقّة؛ فالرجولة تقتضي أن نُحارب في الخارج، ورجل الحرب هو الذي يأتي إلى الخارج، ويُواجه الأعداء في ساحة الوغى؛ وأمّا البقاء في البيت، وإلقاء الحجارة من الأعلى، فإنّ ذلك من فعل ... . لاحظتم كيف يتمّ تقييم الأمور! لقد كان رجلاً عظيمًا جدًّا، وهو من شهداء الإسلام الكبار، وتألّم الرسول كثيرًا لمقتله، وكان مشهورًا بحمزة سيّد الشهداء؛ لكن، إذا أردنا أن نُقارن هذه المسائل بالمسائل المتعلّقة بالإمام الحسين، فإنّنا سنرى أنّها مختلفة تمامًا، وأنّ فعل سيّد الشهداء لم يكن في هذا الوادي بتاتًا؛ فهو الذي كان يُقدم بنفسه على تلك الأحداث التي وقعت في كربلاء، وهو الذي كان يتقدّم إلى الأمام؛ فلم يكن راضيًا بأن يستشهد أصحابه أوّلاً، بل كان يُريد أن يذهب أولاده إلى ميدان المعركة ابتداءً، غير أنّهم لم يسمحوا له بذلك؛ أي أنّ أصحاب سيّد الشهداء هم الذين قالوا: «لا ينبغي أن يذهب أحد من أهل البيت إلى ميدان المعركة، ما دام فينا أحد على قيد الحياة»؛ وإلاّ، فإنّه لم يكن راضيًا بذلك؛ هل تعلمون لماذا؟ لأنّه كان يقول: «لقد جاؤوا لأجلي أنا، وليس لأجلكم أنتم»؛ كما كان كلامه بأسره يدور ليلة عاشوراء حول مسألة: إنّهم يُريدونني ويطلبونني أنا، فماذا تفعلون أنتم هنا؟ هذا، مع أنّه قال في خطبة له حينما أراد الخروج من مكّة: «مَنْ كَانَ فِينَا بَاذِلاً مُهْجَتَهُ، مُوَطِّنًا عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ مَعَنَا، فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»۱، حيث قال عليه السلام: إذا أراد أحد أن يُهرق دمه في سبيلنا، فليتفضّل على بركة الله، فنحن لن نمنعه، ولن نصدّه، ولن نُغلق الباب في وجه أيّ أحد؛ ولهذا، لا يُمكنكم أن تأتوا غدًا، وتقولوا: لقد جاء الإمام الحسين إلى كربلاء خفية، من دون أن يُخبر أحدًا.. يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزًا عظيمًا؛ لا يا عزيزي! لقد أخبر الإمام الحسين الجميع؛ وأطلع أخاه محمّد بن الحنفيّة، وعبد الله زوج السيّدة زينب، لكنّهما لم يأتيا؛ وما أقوله لكم الآن مسطّر في التاريخ؛ فجاء ذاك، ومنعه من الذهاب، وقال له: يا ابن رسول الله! لماذا تُصرّ على الرحيل؟ يا حسين! ألا ترى أوضاع الناس، وأحوال الحكم؟ فلماذا تُريد المخاطرة بحياتك؟ فاستمع إلى جميع هذه الأقوال، لكنّه هزيء بها كلّها، وقال: أجل، أجل، ما تقولونه صحيح؛ وكتب وصيّة إلى محمّد بن الحنفيّة، وقال له: بما أنّك ستظلّ في المدينة، فلتكن وصيّي؛ وبدوره، قال عبد الله: «لا، المسألة ليست بهذا النحو، ومن غير المعلوم ما الذي سيحدث، و ...»؛ وقال كذلك: «لا بأس أن تذهب زينب»، كما بعث ولديه أيضًا؛ لكن، ما عسى أن يقول له الإمام الحسين؟! فجاء ذاك، وقال له الكلام الكذائيّ، وجاء الآخر، وقال له الكلام الكذائيّ؛ وحتّى أنّه كان يذهب بنفسه عند البعض؛ أ فلم يذهب عند عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ؟ لقد ذهب عنده بنفسه، لكن، بماذا أجابه؟ قال له: «لديّ هذا السيف، وهذا الفرس؛ فخذهما، واذهب!»؛ فقال له عليه السلام: «وماذا أفعل بالفرس؟ فأنا لديّ فرس، ولديّ سيف أيضًا»؛ فما هو السبب الذي دفع الإمام للقيام بكلّ تلك الأفعال؟ لقد كان عليه السلام يهدف للمحافظة على الأرضيّة المناسبة لهداية الناس والأخذ بأيديهم؛ فهو أب الأمّة، ووليّها، وإمامها؛ وعليه أن يفتح الطريق، ويفسح المجال أمام الجميع؛ وإلاّ، فلن يكون إمامًا؛ ففي عين هذه اللحظة التي أتحدّث فيها، يكون لازمًا على إمام الزمان عليه السلام أن يفتح طريق السعادة والفلاح أمام كلّ واحد من الناس فردًا فردًا؛ لكن، إذا كان المستجدي كسولاً، فما ذنب الإمام عليه السلام؟ فالواجب عليه هو فتح الطريق، وكلّ من أراد أن يسلكه، فليسلكه، وكلّ من لم يُرد سلوكه، فلا يسلكه! فهو عليه السلام لا يُغلق الباب في وجه أيّ أحد، كما أنّ غيبته لا تتسبّب في حرمان الإنسان؛ وإلاّ، فلن يكون إمامًا، بل سيكون مجرّد إنسان عاديّ. فللإمام ولاية على جميع النفوس، وإحاطة بها كلّها، ومهمّته هداية النفوس المستعدّة، وإيصالها إلى غاياتها ونهاياتها الكماليّة؛ فهذه هي وظيفة الإمام، وهو لا يُخالف هذه الوظيفة الأساسيّة أبدًا.

    1. بحار الأنوار، ج ٤٤، ص ٣٦٦. المعرّب

السالك في مواجهته للمدح والثناء

5
  • ولهذا، نرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام يأتي، ويتحدّث مع الناس، ويتكلّم حتّى مع عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ؛ وكلّ ذلك بمقتضى أيّة وظيفة؟ بمقتضى وظيفة الإمامة؛ غير أنّنا نجده في ليلة عاشوراء يقول: نحن قمنا بهذا العمل، لكن، إلى جانب هذه المسألة، لا ينبغي أن تكون هناك أيّة مواربة، أو حياء، أو خجل؛ ولا تتصوّروا بأنّه إذا كنتُ هنا لوحدي، فإنّكم ستقولون: «مسكين ابن رسول الله! لقد وقع في ورطة، فلنذهب لحمايته!»؛ لا يا عزيزي، فأنا لست بمسكين، بل إنّ عالمي الملك والملكوت هما عبارة عن خاتم في أصبعي أقلّبهما كيفما أشاء؛ فليست المسألة كما تظنّون، فأنا الذي لم أُرد [تغيير مجرى الأحداث]؛ أ فلم تأت طائفة الجنّ عندي؟ أ ولم تأت عندي الحيوانات؟ أ ولم تأت الملائكة؟ أ فلم يأت هؤلاء بأجمعهم لنصرة الإمام الحسين؟ فلماذا لم يقبل عليه السلام بمساعدتهم؟ بل قال: إنّ هذا طريق اخترته أنا بنفسي، فلماذا أتيتم أنتم؟ ولو لم أكن أرغب به، لهربت إلى اليمن؛ فهذا طريق اخترته بنفسي عن علم وبصيرة، ولا أحتاج فيه إلى جنّ، أو ملائكة، أو ...؛ وسأقاتل في دائرة تكليفي الشرعيّ؛ وحينما أستنفذ وُسعي وطاقتي، سأقع على الأرض؛ ولهذا، لكي يرفع عليه السلام هذه المسألة [الحياء والخجل]، فقد أتى ليلة عاشوراء، وقال: «إنّ هؤلاء لهم شغل بي، ولا شأن لهم بكم، فقوموا، وارحلوا من هنا»، حيث ذهب أوّلاً عند الأفراد الذين جاؤوا معه؛ فرأى بعضهم أنّه: «لا، فهذا المكان ليس مكان توزيع الحلوى، ولا يُمكن الوصول من خلاله إلى المال والمنال، ولا الحصول على الأموال والمناصب الإداريّة والحكوميّة والمؤسّساتيّة»؛ فالحاكم غدًا هو السيف والرمح والشهادة؛ ونحن لم نحزم أمتعتنا من أجل الغنائم، وملأ الجيوب، وصيد الطيور، وأمثال ذلك؛ كما أنّنا لم نأت من مكان بعيد إلى هنا، لكي ...؛ لا يا عزيزي! فهنا أرض كربلاء؛ ولن يرحموا أيّ أحد، بدءًا من الرئيس؛ أي الإمام الحسين، وانتهاءً بأضعف واحد؛ وهو الطفل الرضيع؛ فكلّ من يرغب في ذلك، فليتفضّل على بركة الله!

السالك في مواجهته للمدح والثناء

6
  • وحينما رأوا المسألة بهذا النحو، رحلت طائفة منهم؛ فتوجّه الإمام الحسين إلى أهل بيته، واقترب منهم أكثر؛ لكنّه ذهب قبل ذلك لتصفية حسابه مع الأصحاب، فقال لهم: لماذا جئتم إلى هنا؟ فرأى بأنّهم ذهبوا كلّهم، إلاّ قليل منهم؛ فقال: حسنًا، لا يُمكن فعل شيء حيال هؤلاء، فقد ثبتوا، ولم يرسبوا في الامتحان؛ ثمّ قال: لأتوجّه الآن إلى أهل بيتي؛ فقال لهم: ما هو سبب مجيئكم إلى هنا؟ أ فلم يقل ذلك لحضرة أبي الفضل ليلة عاشوراء؟! أ لم يقل ذلك لولده؟! فقد كان أمر سيّد الشهداء عجيبًا، ووصل إباؤه وحرّيته وتحرّره هنا إلى درجة من الإطلاق واللاتناهي، بحيث قال حتّى لأخيه: إنّهم يُريدونني أنا، ولا شأن لهم بك، فارحل من هنا، فأنت أحد أبناء عليّ، والقضيّة تتعلّق بي أنا، والخلاف يدور حولي أنا، ويزيد له شغل بي أنا، ولا شغل له بعليّ الأكبر، ولا بأبي الفضل العبّاس، ولا بالقاسم، ولا بأولاد أبي الفضل؛ فلا شغل لأيّ أحد بهؤلاء، بل الخلاف يدور حولي أنا؛ فارحلوا أنتم أيضًا! لكنّهم، أجابوه ببعض الكلمات، فرأى عليه السلام أنّهم غير مستعدّين للتخلّي عن الصفقة؛ فلا داعي لكي يُتعب نفسه في إبعادهم ظاهريًّا عن نفسه، و... ؛ فهم متشبّثون بالمسألة؛ وحينما بلغ الأمر هذا الحدّ، قال عليه السلام: «لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي»؛ وكلام من هذا؟ إنّه كلام الإمام الحسين! فقد اجتازوا امتحانهم يوم عاشوراء، وكلّ واحد منهم ...؛ فحينما جاء زهير بن القين، وقال: «لو قتلوني ألف مرّة، وقطّعوني إربًا إربًا، وأحيوني مرّة أخرى، لما تخلّفت عنك»، فإنّ ذلك لم يكن مزاحًا يا عزيزي! إذ ليس جميع الناس على حدّ سواء؛ فالبعض منهم يبيعون دينهم وإيمانهم بأسره، ويُرجّحون الفرار على البقاء عند مواجهة مسدّس واحد!

  • فعند وقوع حادثة معيّنة، تجد البعض يُطلقون على الجميع اسم الشهيد؛ مع أنّه قد يكون من بين هؤلاء المائة مثلاً الذين استشهدوا، واحدٌ كان يُريد الهروب، فوقعت قذيفة أردته قتيلاً، بل قد يكون أحدٌ جاء للتآمر مثلاً، فأصابته صدفةً قذيفة غيبيّة، ومات؛ فهذا أيضًا يعدّونه شهيدًا. وأمّا في حادثة كربلاء، فإنّنا نجد الجميع على حدّ سواء؛ بدءًا من نفس الإمام الحسين، وانتهاءً بالطفل الرضيع، والأصحاب، وحبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، وبُرير، وزُهير، وعابس؛ فجميع هؤلاء كانوا على حدّ سواء، بحيث لا يُمكنكم أن تعثروا فيهم على أيّة نقطة ضعف؛ فلا نجد في مسألة كربلاء أنّ أحدهم وردت على باله خاطرة، ولو للحظة واحدة، ثمّ خرجت بعد ذلك؛ مع أنّه من الممكن أن يقول أحدهم مع نفسه: «يا ويلتاه! لقد أخطأت في المجيء»، ثمّ يقول بعد ذلك: «لا، لا، لا يُمكنني التخلّي عن الإمام الحسين»؛ فيتراجع؛ فلم يحصل ذلك لأيّ واحد منهم، ولو للحظة واحدة؛ أي: لم تأت على بالهم مثل هذه الخواطر، ولو بمثقال ذرّة واحدة؛ وإلاّ، لما قال لهم الإمام الحسين: «لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي»؛ بينما تجد هذه الخواطر ترد على الجميع، ونتائجها واضحة، حيث نجد القرارت تتغيّر، ويحصل التراجع، والتلكّؤ؛ فهذا هو الموجود فعلاً، وقد كان موجودًا سابقًا، وسيبقى موجودًا في المستقبل؛ ولهذا، فإنّ كربلاء ستُمثّل العصمة والطهارة والأسوة؛ لماذا هي كذلك؟ لأنّ قائدها وصل إلى الطهارة المطلقة؛ وبما أنّ الإمام الحسين بلغ الطهارة المطلقة، والطهارة الذاتيّة، فإنّ اختياره وانتقاءه يكون بنحوٍ لا يستطيع معه أيّ أحد الإشكال على هذه الحادثة؛ وحينئذ، ماذا يُصبح الإمام الحسين بامتلاكه لهذه الخصائص؟ يُصبح ثار الله؛ أي دم الله؛ بمعنى أنّه: إذا فرضنا أنّ لله تعالى دمًا ـ وهو عبارة عن مادّة حيويّة ـ فإنّك ستكون أنت هو هذا الدم؛ وكأنّ دم الله تعالى قد أهرق على الأرض حينما استشهد الإمام الحسين، فجعل الله تعالى نفسَه ديةً له عليه السلام. وفي هذه الحالة، من الذي يُمكنه أن يكون دم الله تعالى؟ من سيتسنّى له ذلك؟ من الذي يُمكن أن يكون قتلُه في حكم إهراق دم الله تعالى؟ وحده الذي استطاع بلوغ الحقّ المطلق بمقتضى مقامي التوحيد والعصمة هو الذي يُمكنه ذلك، حيث لا تتخلّل وجوده أيّة شائبة من شوائب الكثرة؛ وهذا هو الذي يصير ثار الله؛ ولهذا، فإنّ حمزة سيّد الشهداء، لا يكون ثار الله، بل الإمام الحسين يكون كذلك؛ كما أنّ البقيّة ـ كائنًا من كانوا ـ ليسوا ثار الله، ولا عين الله.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

7
  • قصد المعنى الوصفيّ من بعض الأسماء خيانة للتشيّع

  • فنحن نقول عن أمير المؤمنين عليه السلام: «السلام عليك يا عين الله الناظرة وأذنَه الواعية»؛ وذلك في الزيارة السادسة التي تُعدّ من الزيارات المهمّة جدًّا لأمير المؤمنين عليه السلام؛ رزقنا الله تعالى جميعًا التشرّف بلثم أعتاب حرمه، وقراءة زيارته عليه السلام؛ فنبدأ أوّلاً بزيارة أمين الله التي تفوق من حيث الأهمّية جميع الزيارات، ثمّ نقرأ بعد ذلك الزيارة السادسة التي جاء فيها: «السلام عليك يا عين الله الناظرة»؛ فأمير المؤمنين عليه السلام عين الله؛ وعينه تعالى لا تخون، بل هي أمينة؛ فأمير المؤمنين ينظر إلى العباد كما ينظر إليهم الله تعالى؛ وحينئذ، نأتي نحن، ونُسمّي أحدهم بـ «عين الله»، حيث نجد البعض يضعون هذه التسمية، فيقولون: السيّد عين الله جاء، السيّد عين الله ...، وقد كنت في مكان ما، فلاحظت بنفسي أنّهم سمّوا أحد الأفراد عين الله؛ ففي هذه الحالة، هل سيكون عين الله هذا نفس عين الله ذاك؟ فنأتي ونقول: «يا عين الله في الأرض!»، ونقول لذلك الرجل الذي لا يُفرّق بين الهرّ والبرّ: «السلام عليك يا عين الله!»؛ يا عزيزي، إنّ عين الله هو اسم لهذا الرجل، بينما كان لقبًا لذاك [أي أمير المؤمنين]؛ فهذا اسمه عين الله، وأمّا ذاك فصفته عين الله؛ إذ من الممكن أن نضع الاسم الذي يحلو لنا؛ فنُسمّي أحدهم عين الله، ونُسمّي آخر إيرج؛ فلا يوجد فارق بينهما، حيث نجدهم يضعون اسم عين الله ويد الله وأمثال ذلك بدلاً عن إيرج وهوشنك وداريوش۱؛ وحينئذ، هل يجوز لنا أن نقصد من هذا الاسم المعنى الوصفيّ؟ إنّها خيانة أن نأتي إلى أحد اسمه يد الله ـ وهو اسم متداول بكثرة ـ ونُخاطبه بقولنا: يا يد الله في الأرض! يا عزيزي، إنّ هذا المسكين اسمه يد الله، وهو لم يكن على علم بتاتًا حين ولادته بالاسم الذي سيضعونه له، حيث كانوا قد اجتمعوا، وقال أحدهم: فلنسمّه عين الله، وقال الآخر: لنسمّه داريوش، وقال الثالث: لنسمّه هوشنك؛ ثمّ اتّفقوا على الاقتراع، فجاءت القرعة باسم يد الله؛ فهذه هي حقيقة المسألة.

    1. أسماء أعلام فارسيّة. المعرّب

السالك في مواجهته للمدح والثناء

8
  • وعليه، فإنّ ما نراه في بعض العبارات من قصدِهم للمعنى الوصفيّ من بعض الأسماء يُعدّ خيانة للمدرسة؛ وهو عمل محرّم، ويُعتبر مسًّا بالمباديء الحقيقيّة لمدرسة التشيّع؛ أيًّا كان الذي صدر منه هذا العمل؛ إذ يرجع ذلك كلّه إلى الجهل؛ فالجهل وقلّة المعرفة هما اللذان يوقعان الإنسان في هذا الورطة، فيعمد إلى انتهاك حريم عظماء الدين والأولياء المعصومين، ويجعلهم في مصافّه، ويُسرّي إلى الآخرين الأحكام التي تُحمل عليه هو، حيث يُعدّ ذلك إسقاطًا لهم عن منزلتهم.

  • ضرورة مناداة الأئمّة عليهم السلام بألقاب تحظى برضاهم

  • ذات يوم، كنت في مكان ما، فسمعت أحد المدّاحين يُثني على أمير المؤمنين؛ وخلاصة القول أنّه كان يُريد على حدّ زعمه أن يمدحه عليه السلام؛ فشرع في الكلام، وأخذته الحماسة، وفجأة، قال أثناء ذلك: 

  • از بس كه خدا عشق به حيدر دارد‌***انگار نه انگار پيامبر دارد
  • [يقول: من فرط عشق الله تعالى لحيدر، صار وكأنّه ليس لديه نبيّ أصلاً]

  • فقلت له: أنت مخطيء في قولك هذا! ما هذه الترّهات؟ إنّ شعرة واحدة من أمير المؤمنين لا ترضى بأن تأتي أنت، وتتفوّه بمثل هذا الكلام! فما هو معنى قولك: «من فرط عشق الله تعالى لحيدر، صار وكأنّه ليس لديه نبيّ أصلاً»؟ إنّ مكانة أمير المؤمنين وقيمته تتمثّل بأجمعها في أنّه أراد بناء هذه المدرسة على أساس الحقّ؛ أ فهل يوجد في قاموسه مكان حتّى للشعارات؟ فتجد أحدهم يقول: «يا علي، نحن من العلي إلهيّة!».. أنت مخطيء إذا كنت كذلك! وهذا نظير ذلك الشخص الذي جاء، وقال: «أنا من الحسين إلهيّة، ومن شاء، فليقبل بذلك»؛ لا، نحن لا نقبل بذلك، وسنضرب به أيضًا على رأسك! فما معنى الحسين إلهيّة؟ فهل جاء الإمام الحسين إلى كربلاء، حتّى تأتي سماحتُك، وتُهدر كرامة المذهب بهذا النحو أمام عشرة ألف من الحضور، وتقول: «أنا من الحسين إلهيّة!»؟ إنّ شعرة من جسد الإمام الحسين لا ترضى بهذا الكلام؛ وإذا قمت بالإصرار على هذه الأقوال، فإنّه سيُلقي بك في جهنّم بيديه؛ إذ لا معنى للمزاح في نظام الإمام الحسين، ولا معنى للمزاح في نظام أمير المؤمنين، حيث كان عليه السلام يقول: «أنا عبدٌ من عبيد محمّد»؛ فما هذا الكلام الذي تتفوّهون به؟ لقد كان وجود أمير المؤمنين عليه السلام فانيًا في وجود رسول الله؛ فهل يُمكننا أن نفهم معنى هذه المسائل من الأساس؟ فهو لم يكن يُظهر التواضع أمام النبيّ الأكرم؛ مع أنّه كان أحيانًا يمزح معه، ولدينا مجموعة من الحكايات في هذا الصدد؛ لكن، في الوقت ذاته، لم يكن عليه السلام يشعر بتاتًا في وجوده بشيء غير وجود رسول الله؛ وأنا أظنّ بأنّ حتّى ذكره للعبارة التي قال فيها: «أنا عبدٌ» كان من باب الاضطرار؛ إذ المفروض أن يكون للعبد ـ في مقام مخاطبته لمولاه ـ وجودًا؛ بينما لم يكن لأمير المؤمنين أيّ وجود في قبال وجود الرسول الأعظم؛ ولهذا، علينا أن نذكر في حقّهم ألفاظًا تحظى برضاهم عليهم السلام.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

9
  • وهذا نظير أحد الأشخاص الذين لا زالوا الآن على قيد الحياة ـ حفظه الله تعالى ـ ؛ وهو رجل عالم، وفاضل يعيش في مشهد، حيث أنشد شعرًا، وطبعه على لوحة، وبعثه إلى المرحوم العلاّمة في زمان حياته، وأذكر أنّ مصراع أحد أبياته كان بالنحو الآتي: «نبىِّ بى ولىّ، فُلكى است بى نوح»۱؛ أو شيء من هذا القبيل؛ وقد كان مجموع الشعر عبارة عن أربعة مصاريع، فقال في ذلك المصراع أنّ الرسول من دون أمير المؤمنين كالملاّح الذي لا ربّان له، وكالسفينة من دون نوح؛ وهو شعر خاطيء، ولا ينسجم مع المباديء الشيعيّة؛ فقال لي المرحوم العلاّمة: «يا فلان! اذهب إلى بيته، وتحدّث معه بخصوص هذه المسألة»؛ لكنّني نسيت؛ أي أنّني كنت أريد الذهاب عنده في الغد، فانشغلت بأحد الأعمال، ونسيت أن أذهب، حيث كان المرحوم العلاّمة يُريد أن يُفهم ذلك العالم أنّه: إذا كان مرادك من حديثك عن تلك الذاتين المقدّستين بيان توغّلهما في حقيقة التوحيد ووحدتهما الوجوديّة، فلن يكون في هذه الحالة أيّ معنى للتعبير عنهما بالسفينة ونوح؛ لأنّهما من هذه الجهة حقيقة واحدة، والحاكم هنا هو: «أنا وعليٌّ أبوا هذه الأمّة»٢، ولا وجود للسفينة، والخشب، والشجر، والمسامير، وبقيّة الآلات والأدوات، وأن يكون أحد نوح، ونبيّ، وربّان، وملاّح؛ وأمّا إذا كان مرادك من ذلك الكلام بيانَ مكانتهما في عالم الوجود والكثرات، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول بنفسه: «أنا عبدٌ من عبيد محمّد»٣، وكان يرى نفسه تلميذًا للرسول الأكرم؛ كما أنّه من المسلّم كون وجوده عليه السلام نابعًا من وجود النبيّ، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقع في مرتبة أدنى من وجود الرسول الأكرم؛ وحينئذ، ما معنى هذه العبارة التي ذكرتموها هنا؟ هذا، مع أنّ نسبة السفينة ـ وهي عبارة عن خشب وآلات وأدوات ـ للنبيّ، ونسبة أمير المؤمنين إلى نوح يتعارض مع الأدب، ويتعارض مع ...؛ لكنّني لم أذهب عنده، حيث قلت لكم إنّني نسيت، ولم تسنح لي فرصة الذهاب. فعلينا الانتباه للعناوين والألقاب التي تُنسب إلينا عن قصد أو غير قصد، ولا نجعل أنفسنا هدفًا لسهام الشياطين، وفِخاخ الأبالسة، ولتلك الحبال والشباك التي تختطف الإنسان؛ وعلينا أن نأنى بأنفسنا عنها، ونكون حذرين ومتيقّظين جدًّا؛ لأنّها تأتي بكلّ مهارة مستخدمةً بعض التبريرات، فتضع الإنسان في موضع يصعب عليه كثيرًا الخروج منه بعد ذلك.

    1. ومعناه: النبيّ من دون وليّ، كسفينة من دون نوح. المعرّب
    2. بحار الأنوار، ج ۱٦، ص ٩٦.
    3. الكافي، ج ۱، ص ۸٩.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

10
  • كيف ينبغي على الإنسان أن يتعامل مع مدح الناس

  • لقد كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يمدح كثيرًا السيّد البروجرديّ، ويُثني بشدّة على صدقه، ونزاهته، وغيرته الدينيّة، وكان يقول: ذات يوم من أيّام عشرة صفر، كان في بيته، وكانت المواكب والهيئات الدينيّة تأتي إلى هناك لتقيم العزاء، ثمّ تذهب. وفي أحد الأيّام، كان جالسًا في غرفته، ينتظر مجيء هذه المواكب، فإذا به يسمع أحدهم يصيح في الخارج: «لسلامة حضرة آية الله العظمى مرجع كذا وكذا، ومرجع العالم الشيعيّ السيّد البروجرديّ وإمام الزمان صلّوا على محمّد وآل محمّد!»؛ فما إن رفع الناس أصواتهم بالصلوات، حتّى فتح نافذة غرفته التي كانت تُطلّ على فناء البيت، وقال بصوت مرتفع: «مَن هو قليل الأدب الذي تحدّث بهكذا كلام؟ اذهبوا، ارحلوا من هنا، ولا تدخلوا إلى البيت، لا تدخلوا إلى البيت!»؛ أ رأيتم؟ هذا الذي يُقال له رجل صادق ومستقيم؛ فهو لم يُقصّر ولم يتلكّأ؛ أي أنّه لم يبق جالسًا أثناء مدحهم له، ليقول بعد ذلك، وبحالة من التواضع: «أنا لست أهلاً لهذا الكلام»، بل ردَّ عليهم مباشرة، وألقمهم حجرًا، وأخرجهم من البيت؛ وهكذا ينبغي أن يكون عليه الأمر، لا أن يبقى الإنسان جالسًا، ويكتفي بالقول: «أنا لست أهلاً لهذا الكلام»؛ لأنّ ذلك سيزيد من ترفّعه، وارتفاع شخصيّته الكاذبة في المجتمع، وليس هبوطها؛ إذ سيُقال: «يا له من إنسان متواضع! انظروا إليه وهو يبكي؛ فهم يمدحونه، وهو يبكي!»؛ لا يا عزيزي! على الإنسان أن يقول: «كلامكم خاطيء، ويجب عليكم ألاّ تكرّروه، وإلاّ، سأفعل كذا»؛ فهكذا ينبغي التعامل مع هذه المسألة؛ وأمّا إذا لم تتمّ مواجهتها، فإنّ المجتمع سيؤول إلى الانحطاط. ففي المرحلة الأولى، ستُلحق [مسألة المدح] الضرر بنفس الإنسان، وتُرديه في وادي الهلاك؛ وفي المرحلة الثانية، ستترتّب عليها مسائل ومفاسد أخرى؛ وحينئذ، كيف سيتسنّى لنا إبعاد هذه المفاسد عنّا؟ وهنا أيضًا، يحكي المرحوم العلاّمة قصّة عن السيّد البروجرديّ رضوان الله تعالى يقول فيها: حينما حلّ بمدينة قمّ، أراد أن يُسافر إلى مشهد المقدّسة للثم أعتاب حضرة عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام، فقال له بعض المحيطين به ـ حمانا الله تعالى من هؤلاء ـ من باب الاقتراح: «يا سيّدي! لا توجد مصلحة في ذهابك الآن إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا»؛ فقال لهم: «لماذا لا توجد مصلحة في ذلك؟»، فقالوا له: «لقد حللت بمدينة قمّ حديثًا، ولا زالت مرجعّيتكم لم ترسخ بعدُ؛ وإلى الآن، لم تبلغ شهرتكم جميع أرجاء العالم، فلا يزال الناس غير مطلّعين بالشكل الكافي على وجودكم ومرجعيّتكم؛ فإذا سافرتم من هنا إلى مشهد، فلن يتمّ استقبالكم والترحيب بكم في المدن، بنحو يليق بشأن الوجود الشريف والجواد لحضرة مولانا ومرجع تقليد العالم الشيعيّ؛ وهذا بحدّ ذاته سببٌ لكسر المرجعيّة وكسادها»؛ هل التفتّم؟! هل لاحظتم المسار الذي تتحرّك فيه الأفكار؟ فقال السيّد البروجرديّ: «هل تريدوني أن أترك زيارة الإمام الرضا بسبب مراسم الاستقبال والترحيب وأمثال ذلك؟ أنا لن أدع زيارته»؛ فقام، وذهب للزيارة.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

11
  • حسنًا، رحمة الله تعالى عليه؛ لكن، انظروا إلى ما حصل مع المرحوم العلاّمة حينما قال: «كنت في النجف أتباحث مع أحد فضلاء بيوت المشايخ بخصوص أحد الأعمال التي كانت تتمّ في هذا البيت، وأنّه على خلاف رضى الله تعالى، ويتعارض مع المصالح الإلهيّة، فأجابني ذلك الشخص بقوله: علينا أحيانًا أن نقوم ببعض الأفعال، ولو كانت تتعارض مع رضى الله تعالى»؛ فهل فهمتم الآن ما هو منشأ هذه الأمور؟ أي أنّ فكر الإنسان قد يصل به إلى درجة أن يقول بكلّ صراحة: «علينا أن نُخالف رضى الله تعالى في سبيل المصالح»؛ وهذا خطر يتهدّد الإنسان في مسيره إلى الله تعالى، ويُغلق طريق الله أمامه، ويُحدث فيه حالة العُجب، ويُعرّض حقيقة سيره وسلوكه ـ التي يتعيّن عليها أن تكون منسجمةً مع مسار العبوديّة ـ للأخطار. لقد كانت جميع حركات المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، وسكناته، وكلماته تنصبّ على ضرورة أن يحترز الإنسان عن كلّ ما يُخرجه عن حدوده الشخصيّة، مهما كان هذا الشيء؛ وكان حذرًا على الدوام، ومنتبهًا إلى الكلام الذي يتحدّث به فلانٌ، لكي يرى ما هو موضع الإشكال فيه؛ فما إن يشعر بأنّ المسألة بدأت تتجاوز قليلاً حدّ الاعتدال، حتّى يقول في عين المكان: «هذا خطأ أيّها السيّد!»؛ فلم يكن يتأخّر في الردّ؛ لماذا؟ لأنّه كان حريصًا ومراقبًا، ولأنّه كان يحرص على دينه، ويطلب الآخرة، ويُحبّ سعادته؛ بينما هؤلاء المساكين في حيرة، وغارقون في تخيّلاتهم يا عزيزي! فقد كان الجميع يسبحون في تصوّراتهم، بينما لم يكن هو كذلك، بل كان حريصًا على عمره وثروته وسعادته.

  • اختصاص الأربعين بسيّد الشهداء عليه السلام

  • فحينما كان في المستشفى، أوصانا بأن نُقيم العزاء عليه لمدّة ثلاثة أيّام، لا أكثر؛ لأنّ إقامة العزاء على الميّت في السُنّة لا تتجاوز ثلاثة أيّام، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتلك المرأة التي تُوفّي زوجها: اجلسي في بيتك لمدّة ثلاثة أيّام، وليأت الناس، وتأتي النساء عندك للتعزية في هذه الفترة، وبعد أن تنقضي هذه الأيّام الثلاثة، عليهم أن يتوقّفوا؛ ثمّ أمرهم أن يُحضروا لها الطعام من الخارج؛ وهو عكس ما يحصل الآن! حيث قال: إنّ صاحب العزاء حلّت به مصيبة؛ فلا ينبغي عليه أن ينشغل بالطبخ وأمثال ذلك، بل عليه أن يجلس في بيته، فيأتي عنده المعزّون، ويقرؤون القرآن، ويزورونه، ويعزّونه؛ فهذه هي آداب المؤمنين؛ إذ لا يجب أن يعتبروا الإنسان كالخشبة، فينسونه، ويذهبوا، بل عليهم أن يأتوا عنده، ويزورونه؛ لأنّ ذلك يُساهم في التخفيف من الألم، ومن وطأ المُصاب؛ فهذه هي المسائل التي تُبرز انسجام الأوامر الإسلاميّة مع العقل والمنطق؛ وفي هذه الحالة، نرى البعض يقوم بطبخ الطعام... .

السالك في مواجهته للمدح والثناء

12
  • كنت في إحدى المدن، وبينما نحن نمشي [في السيّارة]، وإذا بنا نرى سيّارة أخرى في الشارع تُشير إلينا بالمصباح، فتوقّفت تلك السيّارة، وكان السائق لونه شاحبًا؛ هذا، مع أنّنا لم نكن نعلم بعدُ بما حصل، فرأينا صاحب تلك السيّارة يضرب على رأسه، وجاء إلينا، وقال للسائق: «هل تعلم ما الذي حصل؟ لقد وقع لفلان حادث تصادم في الطريق، وجاؤوا به إلى مشرحة هذه المدينة ـ وقد كان السائق مصدومًا ـ حيث كان مسافرًا بسيّارته من هذه المدينة إلى مدينة أخرى، فوقع له حادث تصادم في وسط الطريق، وأسلم الروح»؛ لكن، قبل أن يتفوّه السائق بأيّة كلمة، قال صاحب تلك السيّارة: «يا فلان! ما الذي سنفعله في أواني الطعام والموادّ الغذائيّة؟ لقد طلبت منهم أن يُهيّؤوا الخضروات، فمن الذي سيُحضرها؟»؛ فما إن سمعته يقول هذا الكلام، حتّى قلت بشكل لا إراديّ: «ما زال خبر موت فلان لم ينتشر، وهذا يسأل عن الخضروات والكرنب و... !!!»؛ فكان يقول: «ماذا نفعل بخصوص الكرنب؟ وكيف نأتي بالخضروات؟ و...!!»؛ فجثّة ذلك الميّت في المشرحة، بينما يضرب هذا على رأسه! ولا أعلم لأجل ماذا يضرب على رأسه؛ هل لأجل الميّت، أم لأجل مصيبة أعظم ستحلّ به لمدّة ثلاثة أيّام، وبسبب الاحتفاء بالذكرى الأسبوعيّة، والأربعينيّة، والسنويّة؟ مع أنّ البعض يُريحون أنفسهم، ويقولون: «سنُنفق أموال الحقوق الشرعيّة في مصارفها»؛ فيتمكّنون بهذه الطريقة من التخلّص ـ ولله الحمد ـ من نفقات هذه المجالس؛ لكنّ البعض الآخر لا يتمكّنون من ذلك على ما يبدو، فتقع على عهدتهم تلك النفقات، ويصير أجرهم مضاعفًا! فمن جهة، هناك مصيبة فقدان الميّت، ومن جهة أخرى، تحلّ بهم عشرة أضعاف هذه المصيبة جرّاء المشاكل التي تأتي بعد الوفاة؛ فهذه هي السُنّة!!

  • ثمّ قال [المرحوم العلاّمة]: لا تحتفوا بذكرى أربعينيّتي؛ لأنّ الأربعين مختصّ بسيّد الشهداء؛ وأمّا ما نرى شيوعه الآن ـ للأسف ـ بين المسلمين، فهو بدعة؛ وقد كان رأيي في السابق أيضًا أنّ إقامة الأربعين للمتوفّى لا تتوفّر على أيّ دليل شرعيّ، بل الدليل على خلافها؛ باعتبار أنّ الأربعين من علامات المؤمن؛ وأنّه لا يُحتفى حتّى بأربعينيّة رسول الله، مع أنّه جدّ سيّد الشهداء، وهو أفضل منه؛ ولا يُحتفى أيضًا بأربعينيّة أمير المؤمنين، مع أنّه استُشهد وارتحل إلى جوار ربّه بسبب ضربه على مفرقه الشريف؛ فالأربعين مختصّة بسيّد الشهداء؛ أي أنّ مكانة الإمام الحسين عليه السلام وخصائصه الروحيّة والنفسيّة تقتضي ضرورةَ أن يمرّ أربعون يومًا على حادثة كربلاء، لكي تحصل في اليوم الأربعين ثلّة من المسائل، وتتحقّق مجموعة من المراتب الكماليّة، وتتجدّد ذكرى شهادته عليه السلام في القلوب بنحو آخر؛ وهذا لا ينطبق على بقيّة الأئمّة؛ ومن هنا، فإنّ قول البعض بعدم وجود إشكال في إقامة الأربعين؛ لأنّه عبارة عن ذكر للميّت، ويُقام بصفته من أمور الخير، ورجاءً، و... ، هو قول باطل بأجمعه؛ فإذا أردتم أن تذكروا الميّت، فأقيموا له الثلاثين، واذكروه بعد ثلاثين يومًا، أو بعد ستّة أشهر؛ فإذا أردنا أن نُقيم مجلس عزاء وترحيم لميّت، لماذا نجعله في الأربعين؟ ولماذا نتدخّل في حريم سيّد الشهداء عليه السلام؟ ولماذا نُسرّي هذه العلامة التي تختصّ بالمؤمن إلى باقي الناس؟ يقولون: «الأربعينيّات منتشرة بكثرة؛ فكما أنّ الإمام الحسين له أربعينيّة، فإنّ للآخرين أيضًا أربعينيّات؛ ولهذا، سنقيم بدورنا نحن الأربعين»؛ لكن، على الإنسان الذي يعدّ نفسه شيعيًّا أن يمشي في الطريق الذي أمضاه أولياء الدين؛ فهل سمعتم لحدّ الآن أنّ أحد الأئمّة عليهم السلام طيلة حياتهم ـ أي مائتين وخمسين سنة ـ أمر بالاحتفاء بذكرى أربعينيّة والده أو أحد من أصحابه، وإقامة مجلس عزاء لأجل ذلك؟ في حين أنّ هذا المسألة كان مختصّة فقط وفقط بالإمام الحسين. وهل سمعنا أنّ الإمام الصادق عقد مجلس ترحيم في أربعين الإمام الباقر عليه السلام؟ فغاية ما قاله الإمام الباقر عليه السلام: «أقيموا مجلس عزاء عنّي في منى لمدّة عشرة أيّام»؛ فلماذا لم يقل: لمدّة أربعين يومًا؟ ولماذا لم يقل عليه السلام: اعقدوا لي مجلس أربعين؟ لأنّ الأربعين مختصّ بالإمام الحسين؛ والإمام الباقر لا يأمر بما يُخالف السنّة. وحينما أمر الإمام الرضا بقراءة العزاء له، هل سمعتموه يقول: عليكم أن تعقدوا مجلس عزاء في أربعينيّتي؟ فطيلة هذه المائتين وخمسين سنة التي تُمثّل تاريخ حياة الأئمّة عليهم السلام، هل لدينا شاهد واحد على أنّهم أكّدوا على الاحتفاء بمجالس الأربعين لآبائهم أو أصحابهم، أو أمروا بعقدها للآتين؟ إذن، فأيّة سنّة هذه جرى إحداثُها؟ إنّها بدعة، وعلى الشيعيّ أن يمتنع عن المشاركة في مجالس الأربعين! ولهذا، فإنّنا لم نُقم له أربعينيّة. وحتّى بالنسبة للذكرى السنويّة، فقد كان يقول باختصاصها بالإمام؛ لكنّها لا تصل إلى مستوى الأربعين؛ ولهذا، على الرفقاء والأحبّة ألاّ يقتصروا على عدم إقامة مجالس الأربعين لأنفسهم، بل عليهم أيضًا أن يُنبّهوا أقاربهم إلى ذلك إذا أرادوا إقامتها لأمواتهم، ويمنعوا من عقد هذه المجالس إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ وما هي العلّة في ذلك؟ علّته أنّنا ملزمون بالحفاظ على الحدود والثغور؛ وحتّى إذا قيل: إنّ هذا من باب ذكر المؤمن والمحافظة على ذكراه، وهو أمر ينبغي احترامه في جميع الأحوال؛ فإنّنا نقول: اجعلوا ذلك في وقت آخر.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

13
  • السالك الحقيقيّ هو من يأخذ زمام المبادرة

  • فالخطر يكمن في كون نفس الإنسان انفعاليّة، وتتأثّر بالأحداث التي تُحيط بها؛ ممّا يدفعنا لكي نحذر كثيرًا من هذه المسألة، ونكون متيقّظين، ونحترز منذ البداية عن كلّ ما يُؤدّي إلى وقوعنا في هذه المشكلة؛ فمتى ما شعرنا بذلك، علينا أن نتوقّف في الحين، ولا نسمح لهذه المسائل والقضايا أن تأتي بالتدريج، وتُخرجنا من مرتبة العبوديّة (المستلزمة للوصول إلى نقطة الصفر)، وتبدأ في إعطائنا الدرجات ونقاط الامتياز؛ وبدلاً أن نصل إلى الصفر، نحصل على درجة ثمانين، وثمانمائة، وتسعمائة، وتسعمائة ألف، بحيث لا يعُد الإنسان قادرًا بسبب هذه الدرجات على فعل أيّ شيء. علينا ألاّ نعيش حالة الانتظار، لنرى ما الذي يقوله العظماء؛ فنكون مثل البعض الذين يتصوّرون أنّه من اللازم أن يُؤخذ بأيديهم، لكي يتخلّصوا من هذه المسائل، ونتملّص مطلقًا عن مسؤوليّتنا الشخصيّة، بل علينا أن نُقدم على العمل بأنفسنا، ونأخذ زمام المبادرة؛ فلا ينبغي على الإنسان أن يبقى منتظرًا لأن يُقال له: «سيأتي الأستاذ ليُعينك، ويُخرجك من هذه المسائل». لقد بيّن العظماء الأمورَ في كتبهم بنحو كلّي، وفصّلوا الحديث عن كيفيّة خروج النفس من هذه الحضائض والفتن والمهالك؛ وعلى الإنسان أن يعمل بما بيّنوه. فما الذي كانوا يفعلونه هم؟ هل كانوا ينتظرون أن تنالهم رحمة، أو تأتيهم إشارة، أو تحدث مسألة غير عاديّة؟ لا، فهم بأنفسهم ما إن كان يشعرون في أحد المجالس بأنّ المسألة تأخذ منحى آخر، حتّى يبدؤون مباشرة في الهجوم المضادّ؛ وما إن كانوا يحسّون بأنّ قضيّة ما ستشهد تطوّرًا خاصًّا، حتّى يُطلقون في الحين هجومًا معاكسًا؛ وما إن كانوا يشعرون بأنّ أنفسهم ستتأثّر بمسألة ما، حتّى يُقدمون على فعل معيّن من أجل تأنيبها: ماذا؟! ذق! احذر! أصبحت مسرورًا، وصار يُعجبك مدح الناس لك والثناء عليك!

  • لقد كان المرحوم العلاّمة رجلاً ماهرًا، وكان منهجه التربويّ يعتمد بأسره على إفناء النفس من خلال الأساليب المعقولة، والطرق المنطقيّة والمتعارفة؛ فهذا هو أسلوبه؛ فما إن كان يشعر بأنّ احدهم سيتعدّى الحدود، حتّى يوقفه عند حدّه بنحو من الأنحاء؛ وفي هذه الحالة، كان البعض يسكت، ويواجه الأمر بهدوء، ويرتضي هذا الأسلوب في التربية، ويشري نفسه، ويقبل بالأمر بكلّ قلبه وروحه؛ فكان هؤلاء يترقّون، وتتحقّق فيهم تلك النتائج المرجوّة؛ لكنّ البعض الآخر يبدأ في الاعترض والمشاكسة: «ما هذا أيّها السيّد؟! فما الذي فعلناه نحن؟! لقد قام فلان بنفس هذا الفعل، فلماذا لم تُشكلوا عليه؟»؛ وهنا، ما الذي تقول له نفسه؟ [إمّا أن تعترض مباشرة]، أو أنّه يطأطيء رأسه في ذلك المجلس، لكن، حينما يخرج من هناك، يبدأ بالتدريج ...؛ إذ لا يُمكن لهذه النفس أن تجلس بهدوء! وأمّا الإنسان الكيّس، فإنّه يضرب على رأسها، ويقول لها: «اصمتي! اسكتي! فإنّك تستحقّين ذلك»؛ فالإنسان الكيّس والفطن هو الذي يقول لنفسه في عين المكان: «اسكت! هل رأيت ما حصل؟ هنيئًا لك! فهذا أحسن بالنسبة إليك!»؛ فهذا هو الذي يُساهم في إعداد الإنسان للمراحل القادمة؛ لكن، إذا جاء الإنسان، وشرع في الاعتراض، فما الذي سيفعله ذلك الأستاذ المسكين؟ سيتراجع خطوةً إلى الوراء، ويقول: «هل تعترض؟ لا بأس، فلن يكون لي أيّ شأن بك!»؛ لا أرانا الله تعالى ذلك اليوم الذي يأتي فيه الأستاذ و"نعل وارو بزند"۱؛ أي أنّه لا يقتصر على ترك الإنسان، بل يعمل على مدحه والثناء عليه؛ وهنا، ينبغي القول: «كان الله تعالى في عون الإنسان!». لكن، تارةً أخرى، يتعامل الأستاذ مع الإنسان، بنحوٍ يُخرجه تدريجيًّا من مواضع الخطأ، غير أنّ ذلك متوقّف على ما قد قُدّر له؛ وهنا، على الإنسان أن يُعدّ نفسه، ولا يبقى جالسًا ينتظر؛ والجميع على علم بهذه المسائل.

    1. مثل فارسيّ تعريبه: "يقلب حدوة الحصان"؛ وهو كناية عن الشخص الذي يقوم بفعل ما بمهارة، من دون أن يستطيع أحد اكتشافه. المعرّب

السالك في مواجهته للمدح والثناء

14
  • حكاية محمّد بن مسلم مع طبق التمر!

  • لقد سمعنا مرارًا وتكرارًا من المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه حكاية محمّد بن مسلم حينما جاء ذات يوم عند الإمام الصادق عليه السلام، وقال له: «يا بن رسول الله! ماذا أفعل لكي تتغّير أحوالي؟ وبماذا أقوم حتّى تنحلّ مشاكلي النفسيّة؟»؛ فقال له عليه السلام: «تواضع لله»؛ أي: عليك أن تسحق نفسك! وقد كان من الأعاظم، وصاحب عشيرة وقبيلة، فجاء إلى جانب مسجد الكوفة، وأحضر طبقًا من التمر، وأخذ في بيعه؛ فصار الناس يتردّدون من هناك، وينظرون إليه يبيع التمر۱. فالإمام الصادق عليه السلام لم يأمره بذلك، لكنّه شغّل عقله، وأدرك بنفسه مراد الإمام، وأعدّ نفسه لأوامره عليه السلام، وسهّل المأموريّة عليه، لا أنّه صعّبها عليه؛ فهؤلاء الأشخاص هم الأكياس، وهم الذين يصلون إلى الهدف المنشود؛ فقد قال في نفسه: «إنّ ابن رسول الله قدّم لي إشارة، وعليّ أن أكمل البقيّة»، حيث قال له عليه السلام: تواضع لله، فأحضر من جهته طبقًا من التمر، ووضعه أمامه، وشرع في بيعه؛ فكان الناس يأتون عنده، ويقولون له: «ماذا تفعل؟ لقد أهدرت كرامتنا، وفضحت القبيلة، وكسرت شوكتها، و ...»؛ لكنّه لم يُصغ إليهم أبدًا؛ فكلّما وبّخوه، ازدادت الضربات التي تتلقّاها نفسه؛ وكلّما جاء أحد، وقال له كلمة، أثّر ذلك في نفسه أكثر، لكنّ هذا الأثر إيجابيّ؛ ثمّ يأتي الثاني، وهكذا شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا؛ وحينما يصل إلى الأخير، يرى بأنّ الأمر لا يفرق لديه من الناحية النفسانيّة، بحيث لو أنّهم جاؤوا بشاحنة من التمر ـ وليس فقط بطبق ـ وسكبوها أمامه، لما اختلف الأمر بالنسبة إليه أبدًا. ولا تعتقدوا بأنّ الأمر يكون سهلاً منذ البداية، وإلاّ، لما كانت هناك أيّة فائدة من أن يقول له الإمام عليه السلام: تواضع لله؛ ولهذا، من الواضح أنّه كان عملاً شاقًّا؛ فتأتيه الضربات، وتجده يقول مع نفسه: «يا ويلتاه! انظر إلى مظهري هذا، وهم الآن متّجهون إليّ.. يا ويلي! إنّ أحدهم آتٍ من بعيد، فلأذهب في الاتّجاه الآخر، حتّى لا يراني»؛ ثمّ يرى بأنّه يا لسوء الحظّ! فإنّ آخر آتٍ من نفس ذلك الاتّجاه، فيقول له: «من هذا؟ محمّد بن مسلم! صاحب السعادة! هل هذا أنت فعلاً؟! ما الذي أراه؟!»؛ فما هي حقيقة هذه الأمور؟ إنّها عبارة عن مجموعة من الحجارة التي يأتي كلّ واحد منها، فيصطدم بهذه النفس، عساها أن تتربّى، وتُصبح آدميّة؛ ومن كان محمّد بن مسلم؟ لقد كان رجلاً لا تفوته صلاة الليل، ولا يدع التهجّد أبدًا؛ لكنّ هذه الأمور لا تُصلَح بصلاة الليل، ولا بالتهجّد يا عزيزي! بل بذلك النوع من الضربات والأفعال؛ وأنا هنا أكتب لكم، وأوقّع على ما أكتبه بأنّكم لو أدّيتم صلاة الليل ألف سنة، لما أُصلحت أنفسكم؛ فصحيح أنّ هذه المراقبة الخارجيّة ضروريّة، وأنّ صلاة الليل والتهجّد تُزيّن الإنسان، لكنّ الصلاة والذكر لا يُخرجان الإنسان من مقام النفس، بل التربية السلوكيّة الخاصّة هي التي تفعل ذلك.. تواضع لله.

    1. قَالَ أَبُو النَّصْرِ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: كَانَ رَجُلًا شَرِيفاً مُوسِراً، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «تَوَاضَعْ يَا مُحَمَّدُ»؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ، أَخَذَ قَوْصَرَةً مِنْ تَمْرٍ مَعَ الْمِيزَانِ وَ جَلَسَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَ صَارَ يُنَادِي عَلَيْهِ؛ فَأَتَاهُ قَوْمُهُ، فَقَالُوا لَهُ: فَضَحْتَنَا؛ فَقَالَ: إِنَّ مَوْلَايَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، فَلَنْ أُخَالِفَهُ، وَ لَنْ أَبْرَحَ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ بَيْعِ مَا فِي هَذِهِ الْقَوْصَرَةِ. فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: إِذَا أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَشْتَغِلَ بِبَيْعٍ وَ شِرَاءٍ، فَاقْعُدْ فِي الطَّحَّانِينَ؛ فَهَيَّأَ رَحًى وَ جَمَلًا، وَ جَعَلَ يَطْحَنُ. (مستدرك‌ الوسائل، ج ۱۱، ص ٢٩۷). المعرّب

السالك في مواجهته للمدح والثناء

15
  • حسنًا، فذهب ذاك، وتمكّن ولله الحمد من تجاوز هذه العقبة؛ ثمّ يأتي الثاني، وهكذا، إلى أن يرى بأنّه لم يعُد ولله الحمد أيّ واحد يأتي، وبأنّ الزقاق صار خاليًا؛ لكنّه حينما ينظر إلى التمر، يرى أنّ ثلاثة أرباعه لا زالت في الطبق، فيقول: «إلهي! أرسل أحدًا يشتري منّي كلّ هذا التمر دفعةً واحدة، لكي أرتاح»؛ لكنّ الله تعالى لا يُرسله، بل يقول: «بما أنّك وضعت نفسك تحت تصرّفي، فإنّني لن أرسل المشترين دفعةً واحدة، بل سيأتون عندك واحدًا واحدًا، فعليك أن تكون خاضعًا، وإلاّ، إذا أرسلتهم دفعة واحدة، فلن تجني أيّة فائدة من ذلك؛ ولهذا، فإنّهم سيأتون واحدًا واحدًا، ويشترون من عندك حبّتي تمر لكلّ واحد، وليس كيلو واحد؛ فيقول لك أحد المشترين المتميّزين: «أيّها السيّد! أعطني حفنة من التمر الكبير والجيد»؛ ثمّ يرى فجأة: أنعم به وأكرم! إنّ ذلك العالم الذي کان يحسب له ألف حساب، ويطرح عليه الأسئلة وغير ذلك آتٍ من بعيد.

  • يُحكى أنّ أحد العظماء والعلماء تمكّن من الاستفادة من محضر أحدهم، فأعطاه نظير هذا الدستور، حيث قال له: «حينما تُريد الخروج من بيتك غدًا في الصباح، عليك أن تحمل معك سلّة، وتذهب إلى الشارع، وتجمع قشور البطيخ والشمام التي تجدها هناك، وتضعها في السلّة، ثمّ تأتي بها إليّ». فيخرج في الصباح، فيرى أنّ أحد العلماء آتٍ، فيضع السلّة تحت عباءته، وحينما يعبر ذلك العالم من أمامه، يُسلّم عليه: السلام عليكم! صبّحكم الله بالخير! كيف أحوالكم؟ كذا وكذا! والحاصل، حينما لا يرى أحدًا في الشارع، فإنّه يضع قشور الشمّام في السلّة؛ وهكذا، إلى أن ملأها، وجاء بها إلى ذاك؛ لكن، ما إن طرق الباب، وجاء صاحبه، حتّى قال له: «إنّ هذا غير مجدٍ! عليك أن تترك السلّة خارج عباءتك»، حيث كان أمره واضحًا؛ لأنّه عندما نظر إلى ملامحه، عرف بأنّها لشخصٍ يضع السلّة داخل عباءته؛ لأنّ وضع السلّة خارج العباءة يجعل ملامح الإنسان تبدو بشكل آخر! وأنا أتحدّث هنا بجدّ! فتلك الملامح كانت ملامح لعبة الاختفاء، ولم تكن ملامح الحرّية والانعتاق والتجاوز؛ هذا، مع أنّ الذي بعثه لم يكن محتاجًا إلى قشور الشمّام؛ إذ لم يكن لديه ماعز في بيته ليطعمه هذه القشور، بل كان يُريد أن يُصلح له نفسه بواسطة تلك القشور؛ غير أنّه لم يفلح. لكن، في الأخير، ذهب ذلك العالم مرّة أخرى، وأدّى ذلك العمل بكلّ إتقان؛ أي أنّ أحواله صلُحت.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

16
  • وخلاصة أنّهم كانوا يأتون واحدًا واحدًا عند حضرة محمّد بن مسلم، ويرمونه بتلك الطريقة، مرّةً بعد مرّة؛ وكان البعض يأتيه، مع شعور بالشفقة، وملامح متغيّرة، وهو يقول: «مسكين! يبدو أنّه تعرّض لاختلال [في عقله]، وحصلت له مشكلة ما، فانظروا إليه، لقد صار يبيع التمر!»؛ فمثل هذه المسائل متداولة بيننا؛ كما أنّه كان يعلم بما يقولون له. وفي هذه الحالة، ضعوا أنفسكم في مكانه، واذهبوا مثلاً إلى أوّل الزقاق الذي يقع فيه منزلكم؛ هذا، مع أنّني لا أطلب منكم أن تقوموا بذلك فعلاً؛ إذ ليست لدينا الجرأة على ذلك، كما أنّ هذه المسائل لا تقع بتاتًا في ضمن نطاق حديثنا؛ لكن، على كلّ حال، فإنّ الإنسان ... ؛ وما يهمّنا نحن من ذلك ـ كما سأبيّن لاحقًا ـ هي النتائج المترتّبة عليها. فكان المرحوم العلاّمة يقول: «حينما تمّ كلّ التمر الذي كان في الطبق، تمّ في الوقت ذاته أمرُه»؛ وما معنى ذلك؟ معناه أنّه وصل للمبتغى؛ فمحمّد بن مسلم لم ينخدع بالدنيا، ولم ينخدع بتلك العناوين، ولم ينس عبوديّته، بل وضع نفسه على الأرضيّة الممهّدة لهذه العبوديّة، ووضع نفسه في طريق هذه العبوديّة، وليس في الطريق المعاكس لها، ولم يعتن بتخيّلاته، بل نحّاها جانبًا؛ كما أنّ الإمام الصادق جالسٌ في مكانه، ويقول: هذه هي حقيقة المسألة يا عزيزي! وجميع ما قلته لمحمّد بن مسلم أقوله لكلّ واحد منكم؛ لكنّ محمّد بن مسلم ذهب، وعمل، بينما نحن لم نعمل؛ وهذا ما أقوله أنا، حيث تجدنا نستصعب الأمور؛ فعلينا أن ندعو الله تعالى .... 

  • من التعاليم السلوكيّة المساعدة في تسريع حركة السالك

  • وتوجد هنا مسألة أخرى أضافها المرحوم العلاّمة، حيث قال: «لو أنّ محمّد بن مسلم تعامل مع هذه المسألة بشكل أقوى، وانتبه إليها، لكانت مشكلته قد انحلّت قبل أن يُقدم على ذلك العمل»؛ فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّه بوسع الإنسان تحقيق هذه الظروف في باطنه؛ فيستخدم التأمّل والتفكير من دون الحاجة إلى وقوع تلك الحادثة في الخارج؛ هذا، مع أنّه إذا وقعت من تلقاء ذاتها، فهذا محفوظ في مكانه، وعليه حينئذ أن يُرحّب بها، ويتقدّم إلى الأمام بالطريقة المناسبة؛ لكنّ الإنسان الكيّس هو الذي إذا استوعب مسألة ما، وضع نفسه في مكان تلك الحادثة الخارجيّة، [وسعى إلى تقمّصها]. ومن باب المثال، تجد أحدهم جالسًا في هذه الغرفة، ويسمع كلامنا، لكنّه لا ينتظر حتّى تحصل مثل هذه الظروف في الخارج، ليأتي بعد ذلك، ويُكيّف نفسه مع تلك الأحداث الخارجيّة، بل يعتبر أنّ هذه المسائل تحصل له الآن؛ ولهذا، عليه أن يُقلّب نفسه رأسًا على عقب الآن، ويُغيّر نفسه في هذه اللحظة؛ فهذا هو الذي يدفع الإنسان إلى الأمام سريعًا، ويصل به إلى الهدف المنشود بشكل سريع. فلو فرضنا مثلاً أنّنا نعيش مثل تلك الأوضاع، فإنّنا سنكون قادرين على التغلّب عليها؛ وأنا لا أقول إنّه يُمكننا ذلك بدرجة مائة في المائة، لكنّنا قادرون على التقدّم إلى الأمام بدرجة ستّين في المائة، بحيث إذا قلت الآن: «لينهض أحد السادة، ويقم بذلك العمل [الذي أمر به الإمام الصادق]»، فإنّ أحدكم سينهض بسرعة للقيام به؛ إذ للكلام تأثير في الإنسان؛ فهو كلام الإمام الصادق، وكلام العظماء، والإنسان يخضع إلى كلامهم، حيث إنّ هذا التأثير الذي من شأنه أن يتحقّق في الخارج عبارة عن تأثير نفسانيّ، لا ظاهريّ؛ والمراد من ذلك أنّ كلّ واحدة من الكلمات والحركات التي تحدث في الخارج تترك تأثيرًا خاصًّا في النفس، لا في البدن؛ ولهذا، بوسعنا التوفّرُ على طريق مختصر يُوصلنا إلى النتيجة المرجوّة، من دون أن نضع أنفسنا في خضمّ الوقائع الخارجيّة؛ لكن، في ماذا يكمن هذا الطريق؟ يكمن في أن يغوص الإنسان في أعماق نفسه، ويعتبر أنّ تلك الحادثة تتعلّق به هو، ويفرض أنّه إذا طُلب منه القيام بذلك الشيء، ما الذي سيفعله حينئذ، وما هو العمل الذي سيُؤدّيه في الخارج؛ فهذا الأمر سيُساهم في تقدّم الإنسان إلى الأمام، وفي حركته؛ ومن هنا، فإنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه كان يوصي تلامذته بما يلي: على التلميذ والسالك ألاّ يغفل عن أيّة لحظة لتغيير نفسه، وينبغي عليه ألاّ يُضيّع أيّة فرصة في هذا المجال؛ وأمّا إذا قام بتأخير هذه الفرص إلى الغد، وإيكال الغد إلى بعد الغد، فإنّ هذه الفرص ستختفي، ولن يجني تلك الفائدة المترتّبة على السلوك، ألا وهي الوصول إلى درجة العبوديّة.

السالك في مواجهته للمدح والثناء

17
  • إنّ المسائل التي استعرضناها الآن هي بأجمعها نتائج سيّئة من شأنها أن تحصل للإنسان جرّاء تعنونه بعناوين، وتلقّبه بألقاب تفوق استعداداته وشؤونه؛ وهي أخطار قد تُواجه الإنسان بنفسه، وتُغلق الطريق في وجهه، وتُحدث اختلالاً في حركته، وتقضي على شعوره تجاهه ربّه، وتمحي درجة العبوديّة فيه؛ فتجده محافظًا على صلاة الليل، وقراءة الأذكار والأوراد، لكنّ هذه الصلاة والأذكار وجلسات التهجّد صارت في طريق تقوية النفس، وليس إضعافها، وقمعها، وسحقها؛ فهذا ما كنّا نُريد التحدّث عنه تقريبًا فيما يخصّ ارتباط هذه المسألة [بنفس الإنسان]؛ وأمّا بالنسبة لتلك التبعات والمفاسد التي يُمكن أن تُحدثها خارج وجود الإنسان، وفي محيطه، ومجتمعه، فيبدو أنّ الرفقاء والأحبّة ـ إذا صحّ تقديري ـ لم يعودوا يمتلكون الطاقة على الإصغاء؛ لأنّني تحدّثت كثيرًا؛ كما أنّني من ناحية أخرى تعبت؛ ولهذا، علينا إيكال الحديث عن بقيّة هذه المسائل للجلسة القادمة.

  • نرجو من العليّ القدير أن يُنقذنا من جميع الزلاّت، والأخطار، والطرق التي تُفضي بنا للانحراف والوقوع في المهالك، وأن يشملنا في جميع الأحوال بلطف وعناية الذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام، لا سيّما حضرة بقيّة الله أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، وألاّ يحرمنا في الدنيا والآخرة من زيارتهم وشفاعتهم.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد