16

معيار قيمة العمل (1)

محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

7894
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةمباني الأخلاق

التاريخ 1396/02/10


التوضيح

أهم محتويات المحاضرة:
- معيار قيمة الإنسان على أساس التقوى؛
- معيار قيمة عمل الإنسان على أساس نيته؛
- نقد الشبهة حول قيمة الاختراعات المهمّة من أجل خدمة البشريّة وأعمال الخير الصادرة عن غير المسلمين؛
- دراسة مضّار بعض الاختراعات والاكتشافات العظيمة ضدّ البشريّة بسبب سوء استخدامها؛
- تحليل نيّة المخترعين والمكتشفين من غير المسلمين وأهدافهم؛
- أجر العلماء مطابق مع مرادهم وهدفهم من الاختراعات والاكتشافات؛
- أجر الأعمال وثوابها يكون على أساس نية الأفراد وهدفهم؛
- الحياة الجاهليّة تحصل بواسطة الحركة في طريق الأهواء النفسيّة، أمّا الحياة الطيبة الحركة نحو الحقّ (ت)؛
- علّة الخلود في جهنم أو الجنّة؛
- معيار كون نيّة العلماء والباحثين نيّةً إلهيّةً؛
و...
/۱۸
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • معيار قيمة العمل (۱)

  • مباني الأخلاق - المجلّس السادس عشر

  •  

  • محاضرات ألقاها 

  • سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  • طهران، الأربعين من عام ۱٣٩٦ هـ . ق

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم

  • بسم الله الرّحمٰن الرّحیم

  • بارئِ الخلائقِ أجمعين، باعثِ الأنبياءِ والمرسَلين

  • والصّلاةُ والسّلامُ علیٰ سَيّدِنا، أصلِ الجودِ وعَينِ الشّاهدِ والمشهود

  • أبِي ‌القاسم محمّدٍ المصطفى، وعلى آلهِ أُمَناءِ المعبود

  • واللّعنةُ الدّائمةُ الأبديةُ الأزليةُ على أعدائِهم ومخالفيهِم

  • مِن الآنَ إلى يومِ الدّين

  •  

  •  

  • معيار قيمة الإنسان على أساس التقوى

  • قالَ اللهُ الحكيمُ فی كتابِهِ الكريم:

  • ﴿يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَ أُنثَىٰ وَ جَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَ قَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَهِ أَتۡقَىٰكُمۡ إِنَّ ٱللَهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾.۱

  • لقد جعل الله العليّ الأعلى في هذه الآية المباركة معيار قيمة الإنسان مبنيّاً على أساس التقوى، وقال: «علّة اختلاف شمائلكم وصوركم وأشكالكم في الدنيا، هي أن يعرف بعضكم بعضًا وأن تتمايزوا عن بعضكم؛ (وإلّا فإنَّ اختلاف الصور والأشكال والهيئات والألسنة والأصوات والشمائل ليست معيارًا للسعادة والنجاح ولا معيارًا للكمال!) إنَّ أكرمكم وأكثركم قدرًا عند الله من كان تقواه أكبر وأكثر، ومن دخل في المصونيّة الإلهيّة!»

  • معيار قيمة عمل الإنسان على أساس نيته

  • ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: «إنّما الأعمالُ بالنّیّاتِ»؛ فالشيء الوحيد ولا شيء سواه الذي يُعطي القيمة والدرجة للأعمال التي يُؤدّيها الإنسان هو نيته، فيجب أن تقاس مرتبة العمل ودرجته وفقًا لنيته!

  • لقد ذُكرت هذه الرواية في كلٍّ من مصباح الشريعة ومُنية المُريد وعَوالِي اللّئالي، وقد ذكرها المرحوم المجلسي في القسم الثاني من المجلد الخامس عشر من بحار الأنوار في الأخلاقيات.٢ ومجال البحث ودائرة التأمّل والتفكير في هذه الرواية واسعةٌ جدًا.

  • وأصل هذه الرواية موجودٌ في كتب أهل السنّة وفي صحیح البخاري٣ وصحیح مسلم٤ وسنن التِرمِذي٥ ومسند أحمد حنبل٦. فهذه الكتب تُعدّ من مجاميع كتب أهل السنّة، وهي تنقل هذه الرواية بأسانيدها المتصلة عن علقمَة بن وقّاص عن النبيّ بواسطةٍ. وينقل كلّ من المرحوم الشهيد الثاني في منية المريد وابن‌ أبي ‌الجمهور الأحسائي في عوالي اللآلي كما ينقل المرحوم المجلسي في بحار الأنوار عن هذين العلمين بأنّ النبيّ قال: إنّما الأعمالُ بالنّيّات، وإنّما لِكلِّ امْرِئٍ ما نَوى! فَمَن کانَت هِجرَتُهُ إلَی اللهِ ورَسولِه، فهِجرتُه إلَی اللَهِ ورَسولِه؛ ومَن کانَت هِجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امْرَأةٍ يَتزوَّجُها، فَهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه!۷۸

    1. . سورة الحجرات (٤٩)، الآیة ۱٣.
    2. . بحار الأنوار، ج ٦۷، ص ٢۱۱ و ٢٤٩.
    3. . صحيح البخاري، ج ۱، ص ٢.
    4. . صحیح مسلم، ج ٦، ص ٤۸، مع أدنى تفاوت.
    5. . سنن التِّرمذي، ج ٣، ص ۱۰۰، مع أدنى تفاوت.
    6. . مسند أحمد، ج ۱، ص ٢٥ و ٤٣، مع أدنى تفاوت.
    7. .عوالي اللآلي، ج ۱، ص ۸۱ و ٣۸۰؛ ج ٢، ص ۱۱ و ۱٩۰؛ منية المريد، ص ۱٣٣؛ بحار الأنوار، ج ٦۷، ص ٢۱۱ و ٢٤٩.
    8. . معرفة المعاد، ج ٣، ص ۷٤، التعلیقة: «إنَّ أصل هذا الحديث غير موجود في كتب أصول أحاديث الشيعة، ومن المعلوم أنَّ الشهيد الثاني وابن أبي الجمهور قد نقلوه من كتب العامّة، وكان دأبهما الاستفادة من روايات العامّة في الأخلاقيّات أيضًا».

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

3
  • و قال المرحوم الشهيد الثاني ـ رضوان الله عليه ـ في منية المريد، بعد ذكر هذه الرواية:

  • هذا الخبر من أصول الإسلام وأحد قواعده!

  • يعني: من الدعائم والركائز التي يقوم عليها الإسلام ويتكأ عليها! لأنَّ حقيقة الإسلام تقيس أعمال الإنسان بناءً على النيّة ومقدار رغباته النفسيّة، وتعيّن سعادة الأفراد وشقائهم بناءً على مقدار نواياهم، والدرجات التي تُعطى على أعمال الإنسان من جهادٍ وحجٍّ وصلاةٍ وصومٍ وصدقةٍ وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر وباقي الدساتير والأوامر، إنّما تُفسر وتُحلّل بناءً على نيته، وبناء لهذا المحكّ تُصبح ذات درجةٍ وقيمةٍ! ثمَّ يقول:

  • قال البعض: النيّة ثلث الإسلام؛ كافة الأعمال التي يقوم الإنسان بها تُقسم إلى ثلاثة أقسام: أعمال قلبيّةٌ، وأعمال بدنيّةٌ وأعمال لسانيّةٌ. فالنيّة من الأعمال القلبيّة، وهي تستهلك الثلث من كافة أعمال الإنسان، بل هي أعظم من الثلثين الآخرين؛ لأنَّ [ النية بحد ذاتها عبادة و] قيمة الثلثين الآخرين من الأعمال (أي الأعمال الجوارحيّة والبدنيّة والأعمال اللسانيّة) متعلّقةٌ بالنيّة!

  • ثمَّ يقول:

  • إنَّ العظماء من علماء المسلمين كانوا عندما يرغبون في الشروع في الدرس، وفي الجلسة الأوّلى منه، يروون هذه الرواية عن النبيّ الأكرم ويشرحونها ويهيئون روّح الطلّاب منذ المرحلة الأوّلى، في أن يكون درسهم وتحصيلهم العلميّ لوجه الله ولكي يصلحوا نواياهم!۱

  • نقد الشبهة حول قيمة الاختراعات المهمّة من أجل خدمة البشريّة وأعمال الخير الصادرة عن غير المسلمين

  • وربّما سمعتم أنَّ البعض يقول: بأي دليل يُدخل الله العليّ الأعلى المسلم الفلاني إلى الجنّة، رغم أنَّ ذلك المسلم لم يقم بأيّ عملٍ مهمٍّ، ويفتقر للشأن الاجتماعيّ وليس له أي مقدار أو درجة في عالم الاعتبار وعالم الدنيا، ولم يُقدّم أي عمل؛ وما السبب في أن يدخل العديد من الكفّار والمشركين إلى جهنّم، رغم أنّهم كانوا في الدنيا منشأ للآثار وقدّموا الخدمات وأدوا مهام وتحمّلوا المشاق! حسنًا لم يكونوا على دين الإسلام ولم يقبلوا بالنبيّ كحامل للرسالة، فكيف يكون ذلك علّةَ شقاءهم وسوء حظّهم، فينالون العذاب والعقاب الإلهي في الآخرة؟!

  • مثلًا: «باستور» الذي اكتشف الميكروب، وبواسطة اكتشافه هذا عالج الكثير من الأمراض، وتمكّن النّاس بسبب اكتشافه أن يصونوا أنفسهم من الوباء والطاعون ومرض الجدري، وتمكنوا أيضًا بسبب انتشار ذلك العلم في الأزمنة اللاحقة من حفظ أنفسهم من الإصابة بالأمراض الأخرى؛ فلماذا يجب أن يذهب إلى جهنّم فقط لأنَّه رجل مسيحي؟! أو مثلًا: «غاليليو» الذي اكتشف حركة الأرض، أو «نيوتن» الذي اكتشف قوّة الجاذبيّة، أو «باسكال» الذي أثبت العملية الرياضيّة الكذائيّة لحساب النجوم والأفلاك، أو «أديسون» الذي اكتشف الكهرباء، أو «أينشتاين» الذي اكتشف الذرّة، وغيرهم من النماذج، لماذا ينبغي أن يذهبوا إلى جهنم في حين أنّهم جعلوا الدنيا أفضل وأكثر نضجًا وحياةً وجعلوا رونقها أكثر بكثير، وجعلوها بهذا النحو الذي ترونه!

    1. . منية المريد، ص ۱٣٣، مع أدنى تفاوت.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

4
  • هذا هو السؤال المطروح، وعلى هذا الأساس انتشر هذا السؤال بين الأذهان، وينتج ما يلي: لماذا يجب أن يذهب الأفراد الذين يجتمعون في الكنائس ويتعبّدون وفقًا لدينهم ومعتقداتهم إلى جهنّم؟ وعبّاد الأصنام الذين يعبدون الأصنام ويعتقدون بها، لماذا يجب أن يذهبوا إلى جهنم؟! والأفراد الذين لا يقبلون بالولايّة وهم على مذهب أهل السنّة ويحجّون ويجاهدون ويصعدون عرفات والمَشعر، لماذا لا تقبل أعمالهم؟! ثمّ هناك ثلّة من الشيعة الذين لم يكن لهم أيّ أثرٍ في الخارج، لا بنوا مسجدًا ولم يُقدّموا أيّ خدمةٍ لعالم البشريّة، ولم يُرسلوا صاروخًا إلى القمر ولم يفلقوا الذرة، وأمثال ذلك، لماذا ينبغي أن يكونوا من أهل الجنّة؟!

  • دراسة مضّار بعض الاختراعات والاكتشافات العظيمة ضدّ البشريّة بسبب سوء استخدامها

  • لا بدّ من دراسة هذا السؤال وتحليله من عدّة جوانب:

  • أوّلًا يجب أن نرى ما إذا كانت أعمال هؤلاء الرجال العظماء من الأمم التي هي خارج الإسلام، قد آلت من حيث المجموع إلى نفع البشريّة أم في ضررها؟ وهذه مسألةٌ من المسائل! هل انتهى اختراع ذلك الشخص للكهرباء في منفعة البشر أم في ضررهم؟ وذلك الذي فلق الذرّة، هل كان عمله مضرًا للبشريّة أم لمنفعتها؟ وكما يقولون: إنَّ الذي فلق الذرّة، أرسل ورقة إلى رئيس الجمهوريّة الذي كان في زمانه، كتب فيها: «نحن اخترعنا هذا الاختراع، ولكنّني أخشى أن تسيئ البشريّة استخدامه!» ومع ذلك كان حيًا لم يمت حينما اخترعوا القنبلة النووية!۱

  • وإذا حسبنا الأمر من حيث المجموع، فلا يُمكننا أن نقول: إنَّ البشريّة تسير بشكلٍ عامٍّ في مسار الترقيّ؛ لأنّه قبل أن تُستعمل هذه الأشعة في نفع البشر ومن أجل علاج الأمراض وأمثال ذلك، كانوا أعدّوها كوسائل لزوال البشر وقتلوا الكثير من النّاس بسبب انفجار قنبلةٍ واحدةٍ! وقبل استعمال اكتشاف الميكروب من أجل تجنّب الأمراض المهلكة ومنع انتشارها بين الأفراد الضعفاء والعاجزين، نشروا ذلك الميكروب بين النّاس، وابتلوا النّاس بالوباء والطاعون والجدري، وقتلوا آلاف الألوف بسبب انتشار هذا الميكروب! فإذن هي وسائل إذا وُضعت بين أيدي أفراد صالحين أمكن للإنسان أن يُحسن استعمالها؛ وإلّا يُساء استغلالها!

    1. . نور ملكوت القرآن، ج ٢، ص ٢٥٢: « لقد أظهر أينشتَين أسفه على ما اخترعه في آخر سنيّ حياته في المؤتمر الذي كُرِّس لتعظيمه في أمريكا، وقال: لم يكن ليخطر ببالي أنّ الدول الظالمة ستُسيء استغلال هذا الاكتشاف إلى هذا الحدّ، فيصنعون من فلق الذرّة الصواريخ العابرة للقارّات ويسحقون بها المرأة والطفل والرجل العجوز ويدفنونهم تحت أطنان الأنقاض ويجعلونهم طعمة للحرائق.
      لقد كانت هذه النتائج السيّئة هي الأشياء التي تحقّقت في حياته، ناهيك عمّا تحقّق بعد وفاته».

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

5
  • وفي عصرنا الحاضر، يقولون: «مع اکتشاف البنسلين والجراحة والخدمة التي يُقدّمها الأفيون للطب، يُمكنهم الوقاية من العديد من الأمراض، والأطفال الذین ماتوا فی الماضي بسبب الحصبة والجدري والحمى القرمزية والالتهاب الرئوي والتيفوئيد وأمراض أخرى لم يعودوا يموتون. ولذلك انخفض الموت بين البشر من جهة الأطفال!». نعم هذا صحيح، ولكن ما يقولون: «هذه المرأة يجب أن تجهض باستمرار وأن يكون لها أطفال أقلّ؛ لأنّ الأرض لا تتحمّل، ولا يمكن أن يرزقهم الله! وأطفال أقلّ يعني: حياة أفضل! وعلى قسم من النساء أن لا يحملنَ على قسم منهنّ أن يُجهضن!» وهذه الاعمال التي يقومون بها، كلّها ضررٌ وهلاك وتؤدّي إلى الجنون والأمراض التي حيّرت النّاس، حيث لم تكن سابقًا، فلماذا ظهرت؟! جميعها من نتائج العلم!

  • تیغ دادن در کفِ زنگیّ مست***بهْ که آید علم، نادان را به‌دست۱
  • [يقول: إنّ وضع الموسي (الشفرة) في يد الزنجي الثمل أفضل من تُعطي العلم إلى من لا يستحقّه]

  • إنّ العلم في عصرنا الحاضر بيد الجهلة، والجهلة يسيئون استغلال هذا العلم!٢

  • تحليل نيّة المخترعين والمكتشفين من غير المسلمين وأهدافهم

  • ولو تجاوزنا هذا المعنى، فدعونا نرى ما هي نيّة الأفراد الذين تكبدوا المشاق وقاموا بهذه الاختراعات والاكتشافات وما هو هدفهم منها؟ فهل كان هدفهم واقعًا هو خدمة النّاس ورفع احتياجاتهم، وهل كانوا يريدون صون الجماعة وحفظهم وتخليصهم من الموت قربةً ‌إلى ‌الله وصيانتهم من البلاءات القويّة والأمراض العصبيّة؟! أم لا، كانوا يريدون خدمة بلدانهم في قبال البلدان الأخرى! فيكتشفون هذه الاكتشافات كي تقوى بلدانهم ويلقون بالقنبلة على رأس الدول الضعيفة! فهم لم يخترعوا هذه الاختراعات من أجل نجاة البشر؛ بل قاموا بها من أجل حفظ النوع الذي ضمن محيط حياتهم، وبلدهم ودينهم ومعتقدهم ومن أجل أهدافهم وعائلاتهم! وبالتالي لم يتجاوز هذا الفكر تفكير الحيوانات؛ فالذئب يجمع الذئاب التي من نوعه حوله، وتتّحد مع بعضها من أجل الهجوم على قطيع الخراف! فهذه الخطوة يُقال لها: خطوة إنسانيّة وخطوة شريفة!

  • أجر العلماء مطابق مع مرادهم وهدفهم من الاختراعات والاكتشافات

  • ولو تجاوزنا هذا المعنى، فإذا فتحنا عقل هذا الفرد ونظرنا إلى هذا الفرد الذي تحمل المشقة وأمضى الليالي في مختبره لأيّام، ووصل ليله بيومه، وفكّر واستغرق في الفكر حتّى نسي أنَّ الليلة هي ليلة زواجه، وعندما حلّ الصباح قالوا له: «بالأمس كانت ليلة زفافك!» وأجاب بدوره: «يا للعجب!»، والآن لماذا قام هذا الشخص بهذا الفعل؟ هل فعله من أجل أن تصلح أخلاقه، وأن يخرج من البخل والحسد والانغماس في الشهوات والغضب، وأن يُصبح طاهرًا نقيًّا؟! أم من أجل أن يُقال عنه: «إنَّ السيّد كان مخترعًا!» ومن أجل أن يصنعوا له تمثالًا يضعونه في المختبرات، وكي يخلّد اسمه في التاريخ، وكي يحصل على الشهادات والميداليات والأوسمة والحسابات التي يقوم بها جميع البشر للافتخار بأفكارهم وأفعالهم؟! ولا يتعدّى الأمر ذلك! ومن نرى في التاريخ أنَّه يقول: «لقد قمتُ بهذه الأفعال من أجل طهارة نفسي وصلاح المجتمع، ومن أجل زوال السرقة، ومن أجل اختفاء شاربي الخمر، ولتجنب الجنايات ومن أجل اصلاح الأخلاق وطهارة الباطن!» أصلًا لا يفهمون لفظ طهارة الباطن ولا يدركونها!

    1. . مثنوي معنوي، میرخانی، الكتاب الرابع، ص ٣٥٩.
    2. . لمزيد من الاطلاع، راجع: نور ملكوت القرآن، ج ٢، ص ٢٥۱ و ٢٥٣.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

6
  • حسنًا، فلماذا كانت إذن هذه المشقّات التي تكبّدوها؟ من أجل غايةٍ وهدفٍ واحدٍ، والله سيُحقّق لهم ذلك الهدف والغرض، وسيمنحهم الأجر عليه؛ لأن من عمل شیئًا فسیجازیه الله عليه! ولكن الأجر على ماذا؟ ووفقًا لماذا؟ فمهما كانت رغبة الإنسان فسيكون أجره مطابقًا لتلك الرغبة! أيّها السادة المحترمين الذين شرّفوا بالحضور اليوم هنا، لكلّ منكم هدفٌ من حضوره، وهذا الهدف سيكون أجره، وسينال أجره. لقد حضر البعض من أجل صلة الرحم فقط، وسيكون هذا أجره؛ وحضر البعض بهدف الحضور في مجلس سيّد الشهداء عليه السّلام، وذلك سيكون أجره؛ والبعض لديهم حاجاتٌ وحضروا من أجل التوسّل فربما تقضى حاجاتهم ببركة يوم الأربعين، وذلك سيكون أجرهم؛ وكذلك الغايات الأخرى!

  • حينما يخرج الإنسان من منزله صباحًا لشراء بعض الحبات من مكعبات السكر «قند» أو مثقالين شاي، فحينما يتوجّه إلى دكّان العطّار، ويقول: «يا سيّدي أريد بعض مكعبات السكر أو أعطني مثقالين من الشاي!» فيعطيهم للمشتري، ويقبض أمواله. ثمَّ إذا أطال الإنسان الوقوف، فسوف يسأله: «لماذا أنت واقفٌ؟ ألم يكن هذا مرادك؟ وقد أعطيتك ما طلبت، ماذا تريد غير ذلك؟»، على الإنسان أن يقفل عائدًا، فهذا كان مقصده وقد وصل إليه!

  • ذلك الشخص الذي كان قصده أن يخترع كي يشيدوا له تمثالًا، فحسنًا لقد شيّدوه؛ وذكروا أمام اسمه: الدكتور! البروفيسور! المهندس! وأصبح يمتلك الوسام الفلاني! حسنًا لقد ذكروا كلّ ذلك عنه، وليس لديه غرض آخر وراء ذلك! أو لا قدّر الله، لو كان لديه أهداف سيّئة كزوال البشر، فحسنًا لقد وصل إلى تلك الغاية، وقد ظهرت نتيجة هذه الاختراعات! والآن يأتي هذا الشخص إلى محضر الله ويقول: إلهي، أنا أريد الجنّة، وأريد أن أحيا في أعلى عليّين!

  • ـ حسنًا بأيّ سبب ولأيّ علّةٍ؟ فأنت لم تكن راغبًا بها ولم تكن طالبًا لها!

  • ـ إلهي! ألست عادلًا!

  • ـ بلى، أنا عادل!

  • ـ إذن لماذا جلبتني إلى هنا؟

  • ـ أنت أردتَ المجيء إلى هنا! ألم تشأ القدوم إلى هنا؟ وأنا أحضرتك إلى حيث شئتَ أنت!

  • ـ لقد كدحتُ في الدنيا!

  • ـ لماذا كدحتَ وبذلت الجهود؟ لقد منحتكَ ما كدحتَ من أجله، فماذا تريد مني بعد ذلك؟!

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

7
  • أجر الأعمال وثوابها يكون على أساس نية الأفراد وهدفهم

  • لقد درست وأصبحت عالمًا كي یقال عنك: إنّه رجلٌ قارئ! «كي يقولوا: إنَّ السيّد يتكلّم بشكلٍ جيّدٍ وهو قارئٌ جيّدٌ، وهو شخصٌ خطيبٌ ومتكلّم وواعظٌ بليغٌ!» وقَد قيل ذلك؛ فماذا تريد منّا اليوم؟ ألم تعمل من أجل هذا السبب؟! وقد وصلت إلى هدفك!

  • لقد جُدتَ وأعطيتَ حتّى قيلَ لك: إنّكَ رَجلٌ جَواد! كي يقولوا: إنَّ يدّ السيّد في جيبه (يعني: كريم)، ويصرف الكثير من الأموال، ويمدّ السفرة وينفق، ويعتني بالفقراء!» فقد قيلَ ذلك!۱ «حسنًا لقد قالوا ذلك عنك!» فماذا تريد اليوم؟! هناك حسابٌ لجميع الأعمال:

  • إنّما الأعمالُ بِالنّيات، وإنّما لِكلِّ امْرئٍ ما نَوى! فَمَن كانَت هِجرتُهُ إلَى اللَه ورسولِه، فهِجرتُه إلَى اللَه ورَسولِه؛ ومَن كانَت هِجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امْرَأةٍ يَتزوَّجُها، كانَت هِجرتُه إلى ما هاجَرَ إلَيه!

  • وعجيبٌ ما قاله المرحوم الشهيد: «هذا الخبر من أصول الإسلام وأحد قواعده!»

  • وكان العلماء العظماء يبحثون هذه الرواية في مجلس درسهم الأوّل دائمًا!

  • لقد خرج ذلك الرجل برفقة النبيّ وأتى إلى المدينة؛ ولكن لماذا جاء؟ وكان في الغار مع النبيّ، وكان رفيق النبيّ في الغار؛ ولكن ما هو هدفه من مرافقة النبيّ إلى المدينة؟ فهل يكون الحساب بناءً لهذا العمل الخارجي الذي قام به النبيّ؟ حسنًا لقد قام به هو أيضًا! أمّ لا، إنَّ الله لا ينظر إلى هذا العالم الظاهري بل ينظر إلى الأهداف وإلى قلوب البشر، وليس إلى ظاهر وجسم أعمالهم!

  • قد يُبنى مسجدٌ كبيرٌ جدًا، حيث نرى في زماننا أنّ المسجد يحتوي على العديد من الأشكال والصور والبلاط والتذهيب ـ ففي هذا الزمان نُشاهد أنّهم يذهّبون المساجد بالذهب، رغم حرمة تذهيب المساجد بالذهب!٢ وفي أحد المرات، كنت في خدمة السيّد «أخوي»، وذكرتُ له أنّ الصلاة في مثل هذه المساجد التي فيها تذهيبٌ فيها إشكالٌ أصلًا!٣ وقد يكون عدد الناس الذين يرتادونه كبيرًا جدًا، وقد يكون الأمر ملفتٌ للأنظار من الناحية الظاهريّة، وظاهر العمل كبيرٌ وبارزٌ؛ إلّا أنَّ الحساب يكون من ناحية المعنى [لا الظاهر]! فهناك كرام كاتبين، وملائكة موكّلين؛ ويقولون: ما هو الهدف من هذا العمل؟ ولأي غايةٍ؟ وبأيّ نيّة كان هذا العمل؟ وبأي نيّة ذاك العمل؟

    1. . مجموعة الرسائل، أسرار الصلاة، الشهيد الثّاني، ص ٣۸: «عنه صلَّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ أوّلَ مَن يُدعى يومَ القيامةِ رجلٌ جَمَعَ القُرآنَ، ورَجلٌ قُتِلَ في سَبيل الله، ورجلٌ كثيرُ المال.
      فيقولُ اللهُ عزّ وجلّ للْقارِئِ: ”ألَم أعَلِّمْكَ ما أنزلتُ على رسولي؟!“ يقول: ” بلى يا ربِّ!“ فيقولُ: ”ما عَمِلتَ فيما عَلِمتَ؟“ فيقولُ: ”يا ربِّ، قمتُ به في آناءِ اللّيلِ وأطرافِ النّهار.“ فيقولُ اللَهُ: ” كَذَبتَ!“ ويقولُ الملائكةُ: ” كَذَبتَ!“ ويقولُ اللهُ تعالى: ”إنّما أرَدتَ أن يُقالَ: فلانٌ قارِئٌ! فقد قيل ذلك!“
      ويُؤتى بصاحبِ المالِ؛ فيقولُ الله تعالى: ”ألم أُوَسِّعْ عليك حتّى لم أدَعْكَ تَحتاجُ إلى أحَدٍ؟!“ فيقولُ: ”بلى يا ربِّ!“ فيقولُ: ” فماذا عَمِلتَ فيما آتَيتُك؟“ قال: ”كُنتُ أصِلُ الرّحِمَ وأتَصدَّقُ“. فيقولُ الله: ”كَذَبتَ!“ ويقولُ الملائكةُ: ”كَذَبتَ!“ ويقولُ اللهُ سبحانه: ”بَل أرَدتَ أن يُقالَ: فلانٌ جوادٌ! وقد قيل ذلك!“
      ويُؤتى بالّذي قُتِلَ في سبيل الله؛ فيقولُ اللهُ: ”ما فَعَلتَ؟!“ فيقول: ”أمَرتَ بالجِهادِ في سَبيلِك، فقاتَلتُ حتّى قُتِلتُ. “فيقولُ اللهُ: ”كَذَبتَ!“ ويقولُ الملائكةُ: ”كَذَبتَ!“ فيقولُ اللهُ: ”بَل أردتَ أن يُقالَ: فلانٌ جَرئٌ وشَجاعٌ! فقد قيل ذلك!“
      ثمّ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم: أولئك خلقُ اللهِ تُسعَرُ بِهِم نارُ جَهَنّم!».
    2. . المبسوط، ج ۱، ص ۱٦۰؛ شرائع الإسلام، ج ۱، ص ۱۱۷.
    3. . لمزيد من الاطلاع حول كيفيّة بناء المساجد، راجع: أنوار الملكوت، ج۱، نور ملكوت المسجد.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

8
  • وعندما يجلبون الإنسان من هنا، فيقول: «سيّدي لقد وضعت مليون حجرًا فوق بعضهم إلى أن تمّ بناء هذا المسجد الضخم!».

  • يقولون له: «موافقون؛ ولكن لماذا بنيته؟ كي يكتبوا فوق المسجد: لقد بنيّ هذا المسجد بسعي وعناية من جناب الحاجّ فلان؟! فقد قيل ذلك؛ حسنًا قالوا ذلك! فماذا تريد هنا؟! فهنا مكان الطيران؛ فهل طرت حتّى الآن كي تصل إلى هنا، أم لا؟!».

  • لقد تمّ تحذيرك في الدنيا وقالوا عليك الطيران إلى هنا، وأن لا تتورط في تلك المظاهر! فتصيبك بالقذارة وتتعبك! طائرتك ثقيلة وتحتاج إلى البنزين، فاملأها بالنزين ودعها تعلو! لكنّك لم تسعَ خلف البنزين، وملأتها بالقاذورات دائمًا؛ فتوقّفت هذه الطائرة عن العمل ولم تتمكّن من الارتفاع! لقد دفنوك في نفس تلك الأفكار والأوهام والخيالات التي كنتَ فيها، وهناك هو قبرك! لم يكن المكان النقي الفاضل وجهتك ومقصدك! ولم تشأ القدوم إلى هنا ولا يمكنك الحضور وليس لديك الهمّة كي تأتي! فلماذا تطلب من الله: يا الله لماذا لا تأخذنا إلى الجنّة؟! فأنت لم تشأ القدوم إلى الجنّة! لو كان باب الجنّة مفتوحًا أيضًا، فلن يتمكن أحدٌ من الدخول إليها! أليست أبواب الجنان مفتوحةٌ الآن؟! أليست كل هذه الدعوات هي للدخول إلى الجنّة؟! فلماذا لا يتحرّكون ويذهبون إلى الجنّة؟!

  • الحياة الجاهليّة تحصل بواسطة الحركة في طريق الأهواء النفسيّة، أمّا الحياة الطيبة الحركة نحو الحقّ (ت)

  • بناءً على هذا، العمل يدور مدار النيّة. ويُمكن للإنسان هنا أن يوسع البحث كثيرًا، والشواهد في الأخبار كثيرةٌ جدًا إلى ما شاء الله!۱

  • علّة الخلود في جهنم أو الجنّة

  • سألوا الإمام: لماذا يُخلدّ الأشخاص الذين عصوا في الدنيا لأربعين أو خمسين أو ستين سنة؟ فهل هذا من عدل الله؟! فإذا كان هذا الإنسان في الدنيا قاتلًا مدّة أربعين عامًا، وكان يرتكب كلّ جناية يمكن أن تخطر ببالك، فهو في نهاية المطاف مسؤولٌ! وقد عمّر مئة عامٍ، مئتي عامٍ، وارتكب الجنايات؛ ثمّ يخلده الله في النّار، فهل هذا هو عدل الله؟! وشخصٌ أتى إلى هذه الدنيا، وطيلة المئة عام كان يُؤدّي كافّة الطاعات؛ حسنًا فليضعه الله في الجنّة بمقدار مئة عامٍ أيضًا! كلا، إنّ رحمة الله تغلب، وليدخله الجنّة لمئتين أو ثلاثمئة عام! ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا وَ مَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾؛٢ يجزيه عشرة أضعاف، يعني: يُدخله إلى الجنّة ألف عامٍ! ولكن لماذا يُخلّد في الجنّة؟! فإذا تكلّمنا في باب الرحمة فإنّنا نقول: إنَّ العفو والكرم يقتضيان أن يُخلّد في الجنّة؛ ولكن من الظلم أن نقول عن أهل جهنم: من عصى عدّة سنوات فهو مخلّدٌ في العذاب!

    1. ﴿وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَهِ وَكَانَ ٱللَهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾.
      لم يكن هناك إيمان بالولاية أو إيمان بالنبيّ [بين أهل الجاهليّة]. لقد انغمسوا فی آراءهم وأفكارهم الخاصة وفي ظلام القلب وغشّه وكدورته، وماتوا حسب النوايا والرغبات الشيطانيّة.
      نحن إنّما نعتبر أهل الجاهليّة معيبين؛ لأنّ أسلوبهم خاطئ. والآن إذا أتى النبيّ ولم يتعرّف عليه أحد الأشخاص، أو لم يتّبعه، أو أسلم ولم يؤمن، أو کان لديه إيمان، لكن إيمانه لم يكن كما ينبغي بحيث يكون قائدًا له، أو لم يكن كما كان ينبغي بحيث يكون متبعًا واقعيًا له، فسيكون هذا الفرد مماثلًا لأهل الجاهلية تمامًا. إذ لم يكن أهل الجاهليّة أشخاصًا محدّدين نظر الله إليهم نظرة غضب، ولا أنّ الأشخاص الذین اعتنقوا الإسلام فيما بعد في زمن النبيّ كانوا من نسيج منفصل؛ فعند الله نظرة الرحمة والغضب تجاه الجميع على السويّة!
      فذلك الفرد الذي انغمس في الآراء والأهواء النفسانيّة في الزمن الجاهلي، سيتمّ تقريعه ومعاتبته بسبب اتّباعه لأهوائه النفسيّة؛ وإلّا فقد كان في الزمن الجاهلي أشخاصٌ يبحثون عن الحقّ، ولا يتّبعون آراهم وأفكارهم وأهواءهم، مثل: سلمان الفارسي. لقد كان سلمان الفارسي في الزمن الجاهلي، وكم بحث في الدنيا وكم تجشّم العناء حتّى وصل أخيرًا إلى المدينة، وكان خادمًا للنبيّ!٢ ويقولون: كان يبلغ سلمان الثلاثمائة عام٣ وكان أكبر من النبيّ بمئتين وخمسين عامًا. فقبل مولد النبيّ بمئتين وخمسين عامًا كان من الأعاظم وكان كاهن الكهنة، وسافر حول العالم وكان يبحث عن ضالّته، ولو مات في ذلك الزمان، ولم يلتقِ بالنبيّ، لما كانت ميتته ميتةً جاهليّةً؛ لأنَّه كان يبحث عن الحقّ.
      ﴿وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَهِ وَكَانَ ٱللَهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾.
      فإذا مات سلمان الذي كان يبحث عن النبيّ قبل أن يصل إلى النبيّ، لم تكن ميتته ميتةً جاهليّةً! فهو كان يسير في طريق الوصول إلى الله ونبيّه،﴿فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَهِ﴾!
      وأمّا إذا كان هناك شخصٌ في زمن الإسلام، ولم يتّبع النبيّ والإمام، ولم يُنفّذ كلامهما، بل كان يعمل وفقًا لآرائه وأهوائه الشخصيّة، فسيكون مثل أولئك الأفراد الذين كانوا في الزمان الجاهلي! (العلّامة الطهراني)
      ۱) سورة النساء (٤)، الآیة ۱۰۰.
      ٢) الطبقات الكبرى، ج ٤، ص ٥٦ ـ ٥٩؛ السيرة النبويّة، ج ۱، ص ٢۱٤ ـ ٢۱۸؛ كمال الدين، ج ۱، ص ۱٦۱ ـ ۱٦٥.
      ٣) لمزيدٍ من الاطلاع على الأقوال المتعدّدة حول طول عمر سلمان الفارسي، راجع: نفَسُ الرّحمٰن في فضائل سلمان، ص ٦٤۷ ـ ٦٥۰.
    2. . سورة الأنعام (٦)، الآیة ۱٦۰.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

9
  • فأجاب الإمام وقال: إنَّ هذا العمل الذي قام به في الدنيا وهذه المعاصي التي اقترفها، كانت ستين عامًا، ولزمن محدود. والآن وهو يموت يقول: «إلهي لا تُمتني! وأبقني في الدنيا وأطل في عمري!» فهذا هو مطلبنا جميعًا! فما إن نمرض حتّى نقول: «اللهم شافنا!» فالجميع يريد أن يطيل الله في عمره! ومهما كان العمل الذي كان يقوم به الإنسان، فإنَّه يقول: «فليمنحني الله عمرًا أطول لأقوم بهذا الفعل»، فالحطاب يقطع الأخشاب، والنجار ينشره، والحدّاد يقوم بعمليات اللحام والحدادة، والطبيب يريد طول العمر ليتمكن من معالجة مرضى أكثر، والعالم يُريد أن يُعمّر ليدوّن بعض الكتب الأخرى، والإنسان العاصي يطلب من الله طول العمر ليعصي، والإنسان الزاني الذي أصبح هذا الفعل القبيح ملكة له، يُريد أن يعيش ليقوم بهذا الفعل مجددًا. والآن هو يحتضر، ويرحل عن هذه الدنيا بحسرةٍ وندم، فها أنا أموت، ولكن لماذا لم أقترف جرائم أكثر عندما كان بإمكاني اقترافها؟! إنَّ عملهم الظاهري خمسين عامًا ستين عامًا؛ ولكن كم تبلغ نواياهم وأهدافهم وأفكارهم؟ تفكيرهم هو أنّنا إذا كنّا سنخلد في هذه الدنيا، فسنقوم بنفس هذه الأعمال القبيحة!

  • ذلك العالم هو عالم الباطن، والحديث مع باطن الإنسان وسرّه، لا مع ظاهر الإنسان. فهناك يتحدّث الله مع فكر الإنسان؛ لا باللسان الظاهري الذي يُريد الإنسان أن يكذب به! فباطن الإنسان يُفصح عن نيّة الإنسان! نيّة الإنسان جهنميّة؛ نيّته شقيّة، نيّته جانية! لا أنَّ بدن الإنسان هو الجاني بينما النيّة بقيت في مقام الطهارة! فلو كان الأمر على هذا النحو، لكان الأمر جيّدٌ جدًا، يأتي البرق أو النّار ويطهّر ظاهر الإنسان فيدخل الإنسان إلى الجنّة؛ لأنَّ باطنه غير ملوث، بل ظاهره هو الملوث، فيطهر بسبب ارتفاع حرارته ونزلات البرد والزلازل وسكرات الموت وعذاب القبر! أمّا ذلك الذي باطنه سيّء، فيجب أن يذهب إلى جهنّم ويحترق فيها بما يتناسب مع مقدار امتداد نيّته الباطلة! والإنسان الذي يدخل الجنّة، يُمكنه أن يتنعّم بنعيم الجنّة بمقدار امتداد رؤيته الباطنيّة؛ ﴿وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾!۱ فشهوات النفوس مختلفة، وكلّ فردٌ له شهوة خاصّة به، ويعيش في درجة من الجنّة ويتنعّم بنعمٍ خاصّةٍ من نعم الجنّة!٢

    1. . سورة الزخرف (٤٣)، الآیة ۷۱.
    2. . المحاسن، ج ٢، ص ٣٣۱.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

10
  • وعندما يدفنون الإنسان في القبر، فإنَّهم يفتحون قبر الإنسان إلى مَدَّ بَصَرِه؛۱يعني: بقدر ما تستطيع عين ذلك الميت أن تبصر! فكم يبلغ ذلك المدّ والامتداد؟ فبعض الذين دفنوا،عيونهم مظلمةٌ بحيث لا يستطيعون الرؤية بمقدار شبرٍ أمامهم! إنّ حجم القبر [المادّي] معروفٌ ومُحدّدٌ، إلّا أنَّ قبرهم [الباطني] أقلّ من ذلك المقدار، لذلك فإنَّ جدران القبر تضغط عظامهم على بعضها! ولكن امتداد بصر البعض بعيد، ميليون، ميليونان، ثلاث ملايين، أربعة ملايين! مثلًا: وصل بصر أعينهم إلى عالم العقل وطوى أسماء الله وصفاته، واتّجه باتجاه العرش؛ وصل بصرهم إلى هناك! الآن وقد مات، فإنّه يفتح عيناه ويتّسع قبره بمقدار رؤيته. فمن ينزل إلى قبره، يُفتح القبر مقدار وسعة قبره ودائر مدار نظره وبمقدار امتداد نظره هو! وليست الرؤية هي هذه الرؤية الظاهرية، بل هي رؤية أخرى.

  • معيار كون نيّة العلماء والباحثين نيّةً إلهيّةً

  • حسنًا، الآن هؤلاء المكتشفون قد جاؤوا وتكبّدوا هذه المشاقّ، والله سيجزيهم أجورهم. والله لا يظلم بمثقال ذرّة، لا المسلمين ولا المجوس ولا اليهود، ولا بمن يدينون بتلك المذاهب مثل كونفوشيوس وبوذا؛ فهو لا يظلم أحدًا! لقد أعطى الله كلّ شخصٍ ما يُريده؛ فلليهودي غايةٌ وهو يسعى إليها، وللنصراني غايةٌ، وللمشرك غايةٌ، وللمسلم غايةٌ، وللمرأة غايةٌ، وللرجل غايةٌ؛ جميع هذا العالم يأكل من رزق الله!

  • ﴿إِنَّ ٱللَهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ﴾؛٢ فإنَّ الله يُحاسب الجميع، ويُحاسب الجميع بنحوٍ دقيق جدًا جدًا! ويُحاسب كلّ واحدٍ منهم وفقًا لفكره وقِيَمه، ويضع كلّ واحدٍ في مقامه! وأمّا ذلك الشخص الذي يُريد أن يذهب نحو مقام الطهارة، فليس للاختراع أيُّ فائدة بالنسبة له؛ إلّا إذا كان من أجل سعادة البشر ولوجه الله، وإذا قيل له: «يا سيّدي إنَّ هذا الفعل الذي تقوم به ذو أضرار وآثار سلبيّة!» فيقول: «لن أفعله!»،

  • كان للعلّامة الحاجّ السيّد محمّد حسين الطباطبائي ـ أدام الله ظلَّه ـ أخٌ باسم السيّد حسن، وهو يصغره بسنةٍ أو سنتين، وكان رجلًا عجيبًا أيضًا! وقد قال السيّد محمّد حسين الطباطبائي:

  • لقد دوّن أخي كتابًا في فنّ الموسيقى، وكان موضوعه ما يلي: ما هي آثار النغمات المختلفة على النفس؟ فمثلًا: ما هي الحال التي تنشأ لدى الطفل الذي يُنشدون له الأناشيد [قبل النوم]، بحيث يغلبه النوم؛ والجمل الذي يحدون له الحداء تحصل لديه حالة في نفسه بحيث يقطع المسير ليلًا نهارًا ولأيّامٍ عديدة ويوصل الحمولة إلى الديار إلى أن يموت من الجوع ويقع أرضًا؛ أو ما هي آثار النغمات والأصوات المختلفة على الإنسان من ناحية فنّ [السيد حسن الإلهي] وهو فنّ عرفان وتوجه إلى الله! لقد دوّن مثل هذا الكتاب، وكان كتابًا نفيسًا أيضًا! ثمَّ التفت إلى أنَّه لو بقي هذا الكتاب، فسوف يُسيء النّاس استغلاله، ولن يحسنوا استعماله؛ لذلك أحرق الكتاب، وأتلفه وأعدمه بحيث لا يبقى بعده مثل هذا الكتاب! فلو وصل هذا الكتاب إلى أيدي بعض الأفراد من أمثاله، لاستفادوا منه فوائد حسنة جدًا! ولكن بما أنَّ هذا العلم سيصل إلى أيدي الجاهل وسوف يسيئ استغلاله، لذلك أعرض سماحته عن هذا العلم كي لا يبقى هذا الكتاب أثرًا بعده!

    1. . الكافي، ج ٣، ص ٢٣٩.
    2. . سورة غافر (٤۰)، الآیة ۱۷.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

11
  • اختلاف معيار قيمة العمل في عالم الاعتبار وفي عالم الحقيقة

  • ومن هنا، فكلّ عملٍ يقوم به الإنسان له ظاهرٌ وهيئةٌ خارجيّةٌ، وله باطنٌ وروحٌ. ومعيار قيمة العمل من ناحية عالم الاعتبار، هو نفس هذا المظهر الخارجي، وكلّما كان ظاهر العمل أكبر ويجل النظر أكثر يقولون: ذلك العمل أفضل! وكلّما كان عدد الأفراد أكثر يقولون: هذا العمل أفضل! فإذا أمضى الإنسان الليالي بالعبادة إلى الصباح، مثل ربيع بن خُثَيم الذي كان يبقى يقظًا إلى الصباح عدّة ليالي،۱ قالوا: هذا العمل مهم جدًا! وأمّا إذا كان ظاهر العمل قليلًا، فلا قدر ولا قيمة له! لا قيمة لبلاط أمير المؤمنين، لأنّه لم يكن له إيوانٌ وبلاط، ولم يغطي بدنه سوى ثوبين باليين٢!٣ ليس لمالك الأشتر أي قيمة، وكانوا يلقون ببقايا الخضار على وجهه٤ إذ لم يكن صاحب مظهرٍ خارجيٍّ! وأمّا نظام معاوية فكان له بلاطٌ، وكان ذا سفرة فيها أصناف متنوعة من الأطعمة، وكان يمنح الأموال، كان ملفتًا للأنظار ومهمٌّ جدًا! وكان بلاطه بحيث يصعب على الفرد أن يصرف النظر عن هذا المشهد! أصلًا كان يخطف اللبّ! كانوا يحضرون في مجلسه، وعند الظهر تُمدّ السفرة التي تحتوي على أنواع الطعام وأصنافه، والتي أعدّت من زيت أدمغة بعض أنواع الطيور الخاصة المخلوطة بالعسل والزعفران المخصوصين!٥ والجميع على استعداد للحضور إلى هذه السفرة والتزوّد منها! وأمّا في نظام أمير المؤمنين فلا يُوجد مثل هذه السفرة؛ بل هناك رغيفٌ من الشعير اليابس كان يفتحه ويأكل منه!٦ فالجهلة من الناس لا يهتمّون بهذا بل يهتمّون بذاك!

  • ولكن هناك باطن في هذا الشخص! باطنٌ لا يدركه الجميع؛ بل فقط الأفراد ذوي الألباب يفهمون حقيقة المسألة! وهذه المسألة بالغة الأهميّة! على الإنسان أن يُدرك من أين تمّ إعداد هذه السفرة الممتدة؟ ولمن كانت؟ لأيّ امرأة كبيرة في السنّ؟ لأي يتيم؟ وهل هي لبيت مال المسلمين ويجب أن تصرف على المسلمين، ولكن تمّ تحويلها إلى هذه الهيئة؟! إنّ هذه السفرة قائمةٌ على أساس الباطل والظلم، ومدّها مخالفٌ للعدل! وإنّما أعدّت هذه السفرة من أجل اصطياد أرواح النّاس، من أجل تصيّد النّاس وسوقوهم نحو جهنّم! وهذا التدقيق الذي يجب أن يُجرى في المعنى، لتتبيّن لهم روحيّة هذه السفرة! ولكن لا وجود لمثل هذه النظرة؛ فالنّاس يأتون ويجلسون على السفرة ويغادرون، ويطلقون الصلوات على روح معاوية وينتهون ويرحلون! أمّا الأشخاص الذين لديهم بصر يقظ، يُدقّقون بجميع هذه الأمور، ولا يتفوهون بحرفٍ ولا يقتربون خطوة، ويقولون: «هنا شركٌ، هنا عبادة أصنام، هنا خدعة! إنّها ليست حلوى بل سمٌ! إنّه ليس طعامًا لذيذًا، بل نار جهنم، إنّه قيحٌ وصديدٌ وحميمٌ، وأمثال ذلك!» إنَّهم يدركون الأمور جيدًا!۷

    1. . مصباح الشّريعة، ص ۸٩.
    2. .كتاب العين، ج۷، ص ٤٢٤: «الطِّمْرُ: الثوب الخَلَق»‌.
    3. . نهج البلاغة (عبده)، ج ٣، ص ۷۰.
    4. . مجموعة ورّام، ج ۱، ص ٢.
    5. . التذکرة الحمدونيّة، ج ۱، ص ٦٩.
    6. . شرح نهج البلاغة، ابن ‌أبي ‌الحدید، ج ۱، ص ٢٦؛ مناقب آل أبي ‌طالب علیهم السّلام، ج ٢، ص ٩۸؛ الغارات، ج ۱، ص ٥٥ و ٥۷.
    7. . راجع: الأربعون حديثًا، الرازي، ص ۸۱، الحكاية الرابعة.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

12
  • الخلود في الجنّة أو جهنّم سببه استمرار نية فعل الثواب أو ارتكاب المعصية في الدنيا

  • يقول الإمام: إنّما يُخلّد الأشخاص في جهنّم؛ لانَّ نيتهم كانت بهذا النحو: لو أنّهم خُلّدوا في الدنيا، لداوموا على المعصية والجناية؛ وإنّما يُخلّد المؤمنون في الجنّة، لأنَّ نيتهم هي فعل الخير والأعمال الموجبة للثواب ما داموا على قيد الحياة!۱

  • بعض الأحيان، يكون هناك شخصٌ عاشقٌ للعبادة ويقوم الليالي فيتعبّد، أو يكون هناك شخصٌ منزعجٌ جدًا من أنّه: لماذا أنا مريضٌ ولا أستطيع العبادة، ولو كنت سليمًا لقمت بالعبادات؛ الآن إذا حانت منية هذا الشخص فإنَّه سيتضايق لماذا لم يمنحني الله المزيد من العمر كي أؤدي (العبادات) في الليل! فلو تجدّد عمر هذا الشخص، وابتعد الموت عنه، ومُنح ثلاثين عامًا آخرين، فإنَّه سيمضي الليالي في العبادة أيضًا! ولكن أحيانًا يكون هناك شخصٌ يُلقي الحبل ليلًا ويذهب للسرقة ويقوم بهذا الفعل لخمسين عامًا؛ والآن بينما يموت يقول: إلهي امنحني العمر لكي أصبح سالمًا وأسرق غدًا! ولو عمّرت خمسين عامًا لقمت بنفس هذا الفعل! فإذن الحساب دقيقٌ دقيقٌ جدًا!

  • وهنا يُمكن للإنسان أن يسرّ كثيرًا من لطف وكرم الله! ولدينا في الروايات: هناك أفراد يريدون أن يُقدّموا خدمةً ولكن لا يمتلكون المال، مثلًا: يتمنّى أن يذهب إلى الحجّ ولكن لا يمتلك المال للذهاب، والآن حان موسم الحجّ وبدأت وفود الزوّار بالتوجّه إلى الحجّ، فينظر ويتحسّر، فيقال له: لا تتحسّر! اجلس في منزلك؛ لقد دُوّن لك في سجلّ أعمالك ثواب الحركة، وثواب الإحرام والتلبية والطواف والصلاة والسعي والوقوف (في عرفة)، وقد أدّيت جميع هذه الأفعال!

  • فيحضر يوم القيامة بين يدي الله ويقدّمون له صحيفة أعماله [وقد سجّل فيها]: حجّ واحدٌ، واثنان، وثلاثة، وعشرة، وعمرة و...!

  • ـ ولكن متى ذهبتُ أنا إلى الحجّ؟!

  • ـ لقد ذهبت إلى الحجّ في السنّة الفلانيّة، وفي الزمن الفلاني أديت العمرة، وفي الزمان الفلاني زرتَ قبر سيّد الشّهداء و...!

  • ـ كم مرّة؟

  • ـ إلى ما شاء الله!

  • ـ ولكن متى ذهبتُ أنا إلى الحجّ؟! إلهي، إنَّك تحبّ الصدق والصادقين، فأنا لم أقم بهذه الأعمال، فلماذا سجلتها في صحيفتي؟!

    1. . المحاسن، ج ٢، ص ٣٣۱.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

13
  • ويتعجّب ممّا حصل! فهو بلا حيلةٍ ومريضٌ وفقيرٌ ومفلوجٌ، وقد دوّنوا في صحيفة أعماله: لقد حرّر ألف عبدٍ لوجه الله، ومدّ العديد من السفر، وأطعم، وبنى المساجد! فيقولون: في ذلك اليوم عندما كنت تسير ووقع بصرك على الفقراء، ألم تدعو بقلبك: «يا ليتني أملك المال فأنفق عليهم جميعًا؟!» فحضرت هذه النية وثبت لك هنا أنَّك أطعمت ألف عبد وأعتقت ألف عبد! ولكن بشرط أنَّه لو مُنح هذه الأموال، لفعل ذلك؛ لا كالبعض الذين حينما لا يتوفّر شيءٌ بين أيديهم يقولون: «سنفعل هذا، ونفعل ذاك!» ولكن عندما يتوفر المال ينسون الأمر! فلا يُمكن خداع الله، فهو شديد الدقّة وهو محاسبٌ دقيقٌ! ولكن إذا كان الأمر هكذا واقعًا بحيث إذا لم يكن على رأس العمل وقال: «لو كنتُ على رأس العمل، لقدّمت هذه الخدمة ولقَدّمتَ تلك الخدمة!»، وكان بحيث لو أصبح على رأس العمل فعلًا، لقام بهذه الأعمال، ولو توفّرت لديه الأموال لمدّ السفرة، ولحرّر ذلك العبد، ولذهب إلى الحجّ ولجاهد! لو كان الأمر على هذا النحو، فجميع هذه الأعمال موجودةٌ في صحيفة أعماله!۱

  • كيفيّة عدل الله في محاسبة أعمال الإنسان

  • ولذلك لا ينبغي أن نتذمّر في أي وقت من الأوقات من الله العليّ الأعلى، لماذا لم يمنحنا المال كي نبني بيت الله، ونبني قبر سيّد الشهداء، ونبني قبر أمير المؤمنين، و...! فإنَّ الله سيجيبنا صراحةً ويقول: أنت محقّ، لقد فعلتَ كلّ هذه الأعمال، تعالَ وانظر إلى صحيفة أعمالكَ! لقد بنيت قبر حضرة سيّد الشهداء، وبنيت حرم أمير المؤمنين، وزيّنته بالمرايا، وطبعتَ القرآن، وبنيتَ المساجد! وسنضيف إلى صحيفة أعمالك بحيث لا تتمكّن من إحصائها! وأمّا إذا لم يكن صحيحًا، سيقول: «هل كنت تريد أن تقوم بهذه الأعمال واقعًا؟ أم لا؟» يُجيب: «نعم!» ثمَّ سيأتون ويختبرونك، ويجعلونك ترى أنّنا فتحنا السبيل لك ولكن أنت أغلقته! قلتَ، لكنّك لم تفعل! عندما لم يكن بين يديك الوسيلة والسبب، كانت هناك نيّة؛ ولكن عندما منحناك الوسيلة، طرحتها جانبًا!

  • فإذن الله العليّ الأعلى عادلٌ جدًا! وهو عادلٌ إلى درجة أنّه يأتي بكلّ فرد ويضعه في مقامه، ويزيل جميع الإشكالات والمظالم! فما إن يرغب الإنسان أن يُطبّق الإشكالات والمظالم على عالم الظاهر، يبحث في فعل الله فتتمّ عليه الحجّة؛ ولكن عندما يجتاز الإنسان هذه المرحلة، ويُحاسب بالحساب الواقعي، يرى أنَّ الله عزّ وجلّ عجيبٌ جدًا! وعند ذلك سوف يكون الجميع راضين عن الله، وليس لأحدٍ أيُّ اعتراضٍ على الله، وأنّ حجّة الله تامّةٌ على جميع الأفراد!٢

    1. . المحاسن، ج ۱، ص ٢٦۱؛ تفسير القمي، ج ٢، ص ٢٦.
    2. . لمزيد من الاطلاع على روايات في باب النيّة، راجع: بحار الأنوار، ج ٦۷، ص ۱۸٥ ـ ٢۱٢.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

14
  • رواية جابر عن النبيّ الأكرم حول المعيّة مع قومٍ من الأقوام وعملهم بسبب محبّتهم

  • لقد زار جابر بن عبد الله الأنصاري قبر سيِّد الشهداء عليه السلام بعد أربعين يوماً من شهادته، وقال لعطيّة العوفيّ:

  • سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: «مَنْ أحبَّ قومًا حُشِرَ مَعهم ومَنْ أحبَّ عَمَلَ قومٍ أُشرِكَ في عملِهم!». فنحن بزيارتنا للإمام الحسين عليه السلام نكون قد جاهدنا معه، وقتلنا معه؛ لأنَّ قلبي يُخبرني أنّنا كنّا مع الإمام الحسين!۱

  • من هو جابر الأنصاري؟

  • وكان يقول ذلك مع كامل اليقين! كان عمرُ جابرٍ عند قدومه لزيارة قبر سيِّد الشهداء عليه السلام اثنين وسبعين عامًا؛٢ لأنَّ جابرًا كان من أصحاب رسول الله وكان رجلًا عظيمًا؛ وكان قد شارك في معركتي بدرٍ وأُحُد،٣ وقد كتب المرحوم الميرزا محمّد الأردبيلي في الرجال: «لقد شارك في غزوة بدر وفي ثمانية عشر غزوة من غزوات النبيّ برفقته»٤، وذكر ابن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب:٥

  • أبوه عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الذي شارك إلى جانب ابنه هذا في غزوة أحد ونال الشهادة ودفنه النبيّ مع عَمرو بن جَموح في قبرٍ واحدٍ.٦

  • كان جابر رجلًا كبيرًا في السنّ ومن الشيعة الخلّص لأمير المؤمنين، يعني: هو من الأفراد الذين رَجَعوا إلى أمير المؤمنين و[بقِيَ] تحت وَلايتِه.۷ وأنا لم أرَ أيّ قدحٍ في جابر بن عبد الله الأنصاري من قبل عظماء الشيعة من أصحاب كتب الرجال والتراجم.

  • كان جابر يمشي في أزقّة المدينة المنوّرة ويُنادي علانيّة، ويقول:

  • «عليٌّ خيرُ البشر، مَن أبى، فقد كفر.۸ يا معشرَ الأنصار، أدِّبوا أولادَكم على حبِّ عليّ، فمَن أبى فانظروا في شأن أُمّه!».٩

  • هذا وقد بلغ جابر العقد التاسع من العمر، حيث أدرك الإمام محمّد الباقر عليه السلام وأبلغه سلام رسول الله إليه قبل أن يرتحل عن الدنيا.۱۰

  • ومن غير المعلوم ما إذا كان قد فقد بصره عند وقوع فاجعة كربلاء، بل يُستفاد من الرواية ذُكرت أنّه:

  • كان في بيت الإمام السجاد بعد واقعة كربلاء، فخرج الإمام محمد الباقر وشاهده جابر؛ فقال له: «أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ: «شَمَائِلُ رَسُولِ اللَّهِ!»،۱۱

    1. . بشارة المصطفى، ص ۷٥.
    2. . ووفقًا للحساب بناءً لنقل المصادر التالية، فإنَّ تاريخ وفاته كان في سنّة ۷۸ هـ . ق، وكان في التسعين من عمره، وبالتالي كان يبلغ ۷٢ عامًا تقريبًا عند زيارته لكربلاء: الطبقات الكبرى، ج ٥، ص ۱۷۱؛ تاریخ الطبري، ج ۱۱، ص ٥٢٦؛ مروج الذهب، ج ٣، ص ۱۱٥؛ رجال الطوسي، ص ٣٢. (المحقّق)
    3. . الاستيعاب، ج ۱، ص ٢٢۰.
    4. . جامع الرواة، ج ۱، ص ۱٤٣، نقلًا عن رجال الطوسي، ص ٣۱.
    5. ٦. الاستيعاب، ج ۱، ص ٢٢۰.
    6. . المغازي، الواقدي، ج ۱، ص ٢٦٦؛ الطّبقات الكبرى، ج ٣، ص ٤٢٤؛ تاریخ الخليفة، ص ٣۰.
    7. . رجال الطوسي، ص ٥٩.
    8. . (الهامش خالي!!)
    9. . من لا يحضره الفقيه، ج ٣، ص ٤٩٣؛ رجال الكشّي، ص ٤٤.
    10. . الكافي، ج ۱، ص ٤٦٩؛ الإرشاد، ج ٢، ص ۱٥۸؛ رجال الکشّي، ص ٤٢.
    11. . الكافي، ج ۱، ص ٤٦٩؛ رجال الكشّي، ص ٤۱.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

15
  • ويُستفاد من هذه الرواية بأنَّ جابراً كان مبصراً آنذاك. وربّما فقد بصره في أواخر عمره ورحل عن الدنيا وهو أعمى، وهذا الأمر مشكوكٌ أيضًا.۱ وخلاصة القول: لقد كان جابرٌ رجلاً ذا مكانةٍ مرموقةٍ، وكان فقيهًا، وكان بصيرًا خبيرًا ومن الشيعة الخلّص ذوي المعرفة.

  • وفي اليوم الذي وصله نبأ استشهاد سيّد الشهداء عليه السّلام ترك المدينة وذهب برفقة عطيّة العوفي الكوفي لزيارة قبره.

  • كتب المرحوم الشيخ [الطوسي] في الرجال: «كان عطية العوفي من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام»٢. ويقول في مكان آخر بأنَّ عطية العوفي كان كوفيّاً من أصحاب الإمام الباقر.٣ وقال البعض: لعله كان هنالك اثنين ممن يتسمّون باسم عطيّة؛ لكنّ المرحوم المامقاني قال في تنقيح المقال: لا يُستبعد أن يكون هو عطية نفسه ـ كما قال البعض ـ غير أنَّ حياته قد استمرت حتّى عصر الإمام الباقر؛ غاية الأمر أنّه عاش من زمان أمير المؤمنين عليه السلام إلى زمان الإمام الباقر! فقد كان عمره في عهد أمير المؤمنين عشرين سنة ويمكن عدَّه من أصحابه، ولما كان عصر الإمام الباقر بعد خمسة وخمسين عامًا من ذلك، فيكون عمره في عصر الإمام الباقر خمسة وسبعين عامًا، فلا استبعاد من إدراكه لفترةٍ من عصر الإمام الباقر.

  • كان عطيّة من تلامذة ابن عباس، وقد كتب تفسيرًا للقرآن بخمسة أجزاء وعرضه على ابن عباس ثلاث مرّاتٍ، كما قرأ عنده القرآن سبعين مرّةً، وكان من كبار رواة الشيعة!٤

  • أسرار غسل جابر وإحرامه قبل زيارة سيّد الشهداء في يوم الأربعين

  • خرج جابر من المدينة قاصدًا الكوفة،٥ فإمّا أنَّه خرج برفقة عطيّة من المدينة، وإمّا أنّه اتّجه من المدينة إلى الكوفة بمفرده، ثمّ جاء من الكوفة مع عطيّة الكوفي لزيارة قبر حضرة سيّد الشهداء؛ لكنّ هذا الأمر غير معلوم. وينقل إجمالًا المرحوم عماد الدّين الطبري الآملي روايةً بسلسلة سندٍ متصلةٍ عن عطيّة هذا في كتاب بشارة المصطفى ـ وهو من كتب الشيعة النفيسة ـ ويقول: «خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله ) زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثم اتّزر بإزار وارتدى بآخر[فأحرم هناك]، ثمّ فتح صرّة فيها سِعدٌ فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى»٦

    1. . مروج الذهب، ج ٣، ص ۱۱٥.
    2. . رجال الطوسي، ص ۷٦.
    3. . المصدر نفسه، ص ۱٤۰.
    4. . تنقيح المَقال، ج ٢، ص ٢٥٣.
    5. . مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ۷۸۷؛ بشارة المصطفى، ص ۷٤.
    6. . بشارة المصطفى، ص ۷٤.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

16
  • كنت أفكّر يومًا في هذا الموضوع وهو غسل جابر وإحرامه، فقد جاء في الروايات: مَن مشى إلى الحجّ ولم يكن لديه لباس إحرامٍ فإنَّه يُحرم في لباسه، إلا أنَّه يرتديه مقلوبًا، ويطوي أكمامه ويخرج يديه، فعليه أن يقلب المعطف ويضعه على كتفيه بحيث تكون الأكمام متدلية إلى الأسفل.۱

  • فهل كان جابر قد سمع من رسول الله أو أمير المؤمنين بأنَّ على مَنْ يعزم على زيارة قبر سيَّد الشهداء أو قبر أحد الأئمّة أن يغتسل ويُحرم أم أنَّه قد تفطّن لهذا الأمر بنفسه؟ فالفقيه هو ذلك الفرد الذي يتمكّن من تفريع الفروع عن أصولها. فكأنَّ روح الإسلام قد استقرّت في كيان جابر، وكأنَّه قد تذُّوق حقيقة الإسلام وتعرَّف على سرّ قوانينه؛ بحيث علم بأنَّ للإحرام والغسل والزيارة والطواف الذي تمّ تشريعه لأداء فريضة حجّ بيت الله سرٌّ وحقيقةٌ، فحقيقة بيت الله هو مقام ولاية سيِّد الشهداء عليه السلام! وبالتالي لمّا كان جسده الشريف قد استقرّ في هذه الأرض، فهنا يكون بيت الله وهنا يكون محلّ دفن حقيقة مقام الولاية! فتلك الكعبة هي الكعبة الظاهرية، وهنا يكون الباطن؛ فينبغي الغسل والإحرام هنا من باب أولى! ولدينا رواية تشير إلى هذا المعنى، وهو أنّه: «يجب ان يمتلك الفقيه ملكةً قدسيّةً!»٢ فالملكة القدسيّة هي ذلك النور من الله الذي يقع في القلب، فيستطيع الفقيه بواسطته أن يطبّق الأحكام الكلّية على مصاديقها، ويتمكّن من تشخيص ومعرفة تلك المصاديق بشكل جيّد. وقد كان جابر يمتلك مثل هذا النور بالشكل الذي مكّنه من تشخيص لزوم الغسل والإحرام ما دام عازمًا على زيارة قبر ابن بنت نبيّ الله! لذا فقد اغتسل غُسل الطواف وغُسل الزيارة وأحرَم متوجّهًا نحو بيت الله الحقيقي!

  • مناجاة جابر مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام

  • يقول عطيّة: مشى وكان يرفع قدمه ببطء، وكان مشغولًا بترديد الأذكار إلى أن وصل إلى القبر. «حتى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته، فخرَّ على القبر مغشيًا عليه، فرششت عليه شيئًا من الماء، فلما أفاق قال: «يا حسين! يا حسين! يا حسين! ثلاثًا، ثم قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيبه؟!» ثم قال معتذراً عن الحسين بهذه الجملة: «وأنّى لَكَ بالجوابِ وقَد شُحِطَتْ أوداجُك على أثباجِك، وفُرِّق بينَ بدَنِك ورأسِك!»

    1. . الكافي، ج ٤، ص ٣٤۷؛ وسائل الشّیعة، ج ۱٢، ص ٤۸٦ و ٤۸۷.
    2. . مصباح الشريعة، ص ۱٦: «قال الصّادق عليه السّلام: ”لاَ يحِلُّ الفُتيا لمَن لا يَصطَفِي [يَستَفتي] مِن اللهِ تعالى بصَفاء سِرِّه وإخلاصِ عَمَلِه وعَلانيّتِه وبُرهانٍ من ربِّه في كلِّ حال؛ لأنّ مَن أفتى فقَد حَكَم، و الحكمُ لا يَصِحُّ إلّا بإذنٍ مِن الله عزّ وجلّ وبُرهانِه، ومَن حَكَم بِخَبرٍ بلا مُعايَنةٍ، فهو جاهلٌ مأخوذٌ بجَهله، ومأثومٌ بحُكمِه!“ كما دَلّ الخبرُ: ”العِلمُ نورٌ يَقذِفُهُ اللهُ في قَلبِ مَن يَشاء!“»
      وجاء في كتاب ولاية الفقيه في حكومة الإسلام، ج ٣، ص ۸: «لا يحلّ الإفتاء في المسائل الشرعيّة لمن لا يستفتي الحقّ تعالى بباطنه الطاهر من القذارات، وبنفسه المطهّرة من كدورة ارتكاب المعاصي. ولا يجوز الإفتاء لمن لا تكون عبادته وطاعته خالصةً للَّه تعالى، ولا يكون ظاهره مطابقًا لباطنه، ولا يكون له في جميع المسائل الضروريّة والحالات اللازمة برهانٌ ومستمسكٌ كآيةٍ أو حديثٍ؛ أي: لا يجوز للإنسان أن يفتي في أيّ حكم من الأحكام ما لم يكن متّصفًا بهذه الصفات. (أي: طالما أنَّ الفرد لم يتّصف بهذه الصفات، فليس من الجائز أن يُفتي في أي حكمٍ من الأحكام). ولِمَ ذلك؟ لأنَّ الفتوى هي الحكم في المسائل الشرعيّة؛ والحكم هو جزمٌ في الأمور الشرعية ولا يكون صحيحًا إلّا بإذن الشارع والمرخّص والمجيز من ناحية الشارع بالدليل والبرهان القائم! وكل من يحكم بالخبر والحديث وينسبه إلى النبيّ أو إلى وصيّ النبيّ ولم يرَ الخبر ولا يجزم ويقطع به، فهو مفتي إذن، جاهلٌ بذلك الحكم وآثمٌ وعاصٍ!». (المحقّق)

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

17
  • «فأشهدُ أنّك ابنُ خاتم النبيين وابنُ سيّدِ المؤمنين وابنُ حليفِ التّقوى وسليلِ الهُدى وخامسُ أصحابِ الكساء وابنُ سيّدِ النُّقَباء وابنُ فاطمةَ الزّهراء سيّدةِ النّساء، وما لَك لا تكون كذلك وقد غَذَتْكَ كفُّ سيّدِ المُرسَلين ورُبِّيتَ في حِجرِ المتّقين ورُضِعتَ مِن ثَدي الإيمان وفُطِمتَ بالإسلام، فَطِبتَ حَيًّا وطِبتَ مَيّتًا غيرَ أنّ قلوبَ المؤمنينَ غَيرُ طَيّبةٍ لِفِراقك ولا شاكَّةٍ في الخيرَةِ لك، فعليك سلامُ اللهِ ورِضوانُه، وأشهَد أنَّك مَضَيتَ على ما مَضى عليه أخوك يحيّى بنُ زكريّا».

  • قال جابر هذا الكلام، ثمّ التفت إلى أطراف قبر المعصوم شهيد كربلاء سيّد الشهداء، حيث قبر الشهداء، وجال ببصره والتفت حوله وألقى السلام على تلك الأجساد الطاهرة المباركة (إلهي أقسم عليك أن توصل سلامي إلى هذه الأجساد الطيّبة والطاهرة!):

  • «السّلام عليكم أيّتها الأرواحُ الّتي حَلَّت بفِناءِ الحسينِ عليه السّلام وأناخَت برَحلِه، وأشهدُ أنّكم أقمتم الصّلاةَ وآتَيتمُ الزّكاةَ وأمَرتُم بالمعروف ونَهَيتُم عن المُنكَرِ وجاهَدتم المُلحِدينَ وعبَدتم اللهَ، حتّى أتاكمُ الیقینُ!»

  • علّة معيّة جابر مع أصحاب الإمام الحسين في التضحيات وبذل النفوس في يوم عاشوراء

  • ردّد هذه العبارات، ثمَّ قال: «والّذي بعَث محمّدًا صلّی الله علیه وآله بالحقِّ نبيًّا، لقد شارَكناكم فيما دخَلتُم فیه!» يعني: (أيّتها الأرواح الطيبة والطاهرة، يا أيّتها الروح المقدسة لسيّد الشهداء، ايّتها الروح المقدسة للأصحاب والشباب!) أقسم بذلك الإله الذي انتجب محمّد نبيًا بالحقّ وبعثه خاتمًا للنبيين لتمام أفراد البشر، لقد شاركناكم في كلّ ما دخلتم فيه!

  • ما أعجبَ كلامه! لقد شاركناكم! يعني: نحن شركائكم في مقتلكم وأسركم وذبح أطفالكم، شاركناكم عطشكم، وشاركناكم في جميع هذه المرارات التي حلّت بكم وعليكم!

  • قال عطيّة العوفي: «کیف ولم نَهبِط واديًّا ولم نَعلُ جبلًا ولم نَضرِب بسيفٍ، والقومُ قد فُرِّقَ بین رُؤوسِهِم وأبدانِهم وأوتِمَت أولادُهم وأُرمِلَت أزواجُهم؟!»

  • ماذا تقول يا جابر؟! إنّك تقول كلامًا عظيمًا! فما هذا الكلام الذي تقوله؟! كيف يُمكن أن نكون معهم وأن نُشاركهم في عملهم مع أنّنا لم نصعد جبلًا ولم نهبط واديًا ولم نشهر سيفًا ولم نضرب الكفّار؛ ولكن هؤلاء القوم فقد فرّق بين أبدانهم ورؤوسهم، ويتّم أولادهم وترمّلت نسائهم؟!.

معيار قيمة العمل (۱) - محاضرة العلّامة الطهرانيّ في الأربعين

18
  • فقال جابر: «یا عطيّة، إنّي سَمِعتُ حبيبي رسولَ الله یقول: ” مَن أحَبَّ قومًا حُشِر معهم؛ ومَن أحبَّ عَمَلَ قومٍ أُشرِك في عمَلِهِم! “ (يعني يحصل له اتحاد ومعيّة مع حقيقة وأصل أولئك القوم)، والّذي بعَث محمّدًا بالحقَّ نبيًّا، إنَّ نيّتي ونیّةَ أصحابي على ما مضى علیه الحسینُ علیه السّلام وأصحابُه!».

  • ثمّ قال جابر: «خُذْني نحو أبيات كوفان».

  • يقول عطيّة: فلمّا صرنا في بعض الطريق وعظني وقال: «يا عطيّة، هل أُوصيك؟ وما أظنّ أنّني بعد هذه السفرة مُلاقيك! (لذا اسمع هذه الوصيّة)

  • أحبِبْ مُحِبَّ آلِ محمّدٍ ما أحبَّهم، وأبغِضْ مُبغِضَ آل محمّدٍ ما أبغضهم وإن كان صوّامًا قوّامًا، وارفقْ بمُحبّ محمّدٍ وآل محمّدٍ فإنّه إن تَزِلَّ له قَدمٌ بكثرة ذنوبه تَثبُتْ له أخرى بمحبّتهم [وولايتهم]، فإنّ مُحبَّهم يعود إلى الجنّة، ومبغضهم يعود إلى النار».۱

  • كان هذا هو آخر حديث لجابر مع عطية. وقد أدرك جابر روح الدين جيّدًا، فانظروا كيف يبيّن معيّته مع سيِّد الشهداء بأفضل بيان! فهو يقول: أنا منكم فعلًا، ولقد قاتلتُ معكم وضربتُ بالسيف بين يديك، ولقد تحمّلت مرارة العطش وذُبح ابني وقُتل إخوتي؛ كما إنَّني ذُبحتُ أيضًا؛ لأنَّ نيتي كانت بهذا الشكل.

  • إلهي بحق محمّدٍ وآل محمّد هَب لنا نورًا نتعرّف به على روح الدّين ونُدرك حقيقته؛ وهب لقلوبنا اليقين لكي نعرفك أكثر وأكثر.

  • واشرح صدورنا بنور الإسلام.

  • وثبِّت أقدامنا على صِراطك المستقيم.

  • واجعلنا نتمتع في هذا الصراط بما منحتنا من تلك المواهب.

  • واجعل نهج حياتنا على نهج ومسير سيِّد الشهداء عليه السلام وأولاده وأصحابه.

  • ولا تخرجنا من دار الدنيا حتّى ترضى عنّا!

  • وارزقنا شفاعتهم في الدنيا والآخرة.

  • وعجّل اللهم في فرج إمام زماننا!

  •  

  • اللَهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد

    1. . بشارة المصطفى، ص ۷٤.