3

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع

بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

2173
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةمباني الأخلاق

التاريخ 1409/04/01


التوضيح

أهم محتويات المحاضرة:
- بصيرة الإنسان العالم مقارنة بالجاهل؛
- لزوم اكتساب العلم النافع والموجب لحصول الإيمان اليقيني؛
- عماء قلوب الأشخاص الشاكّين والمتردّدين والمادّيّين المنكرين لله؛
- بصيرة المؤمنين الحقيقيّين؛
- عدم إدراك حقيقة الوجود بواسطة العلوم الظاهريّة والماديّة.
/٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع

  • بيانات حول الآية: ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ﴾

  • مباني الأخلاق - المجلّس الثالث

  •  

  • محاضرات ألقاها 

  • سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  • في المشهد الرضوي المقدّس

  • عصرُ أوّل جمعةٍ من ربيع الثّاني ۱٤۰٩ هجري قمري. 

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

2
  •  

  •  

  • أَعُوذُ بِاللـَهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَجِيْم

  • بِسْمِ اللـهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم

  •  

  •  

  • بصيرة الإنسان العالم مقارنة بالجاهل

  • ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾؛۱ 

  • في بعض الجمل الاستفهاميّة، نطلب فهم إحدى قضيتي النفي والإثبات؛ فمثلًا: في جملة «هل قدّمت الشاي، أم لم تُقدّم؟!» فإثباتها «قدّمت»، ونفيها «لم تُقدّم»، أو مثل: «هل أتى الرفقاء أم لم يأتوا؟» وأمثال ذلك؛ وأمّا في هذه الآية، فلم يأتِ طرفا الاستفهام بشكلٍ واحدٍ، إذ كان ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو: «أفمَن يعلَمُ أنّما أنزِلَ إليكَ مِن ربِّك الحَقُّ كمَن لا يعلَمُ ذلك؟!» كما في قوله تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾.٢ 

  • ولكن هنا ليس لدينا طرفٌ وعِدلٌ للاستفهام، إي إنّ كفّة الميزان الموازية للمستفهم عنه «كمَن لا يعلَم» ليست موجودةً، بل جاء في قبالها ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾، وسبب ذلك أنَّ عبارة ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾ لها نفس المعنى؛ مثلما لو سألكم هذا العبد: «يا سيدي! هل قدّمت الشاي أم لم يغلِ الماء في السماور؟» حسنًا، كان ينبغي أن أقول: «هل قدّمت الشاي أم لم تُقدّمه؟»، ولكنّني استعملتُ عبارة «لم يغلِ الماء في السماور» بدلًا من عبارة «أم لم تُقدّمه»، وقد استعملتها رغم أنّها ليست عِدلًا لعدم تقديم الشاي؛ وذلك لأنّني أعلم أنَّ علّة عدم تقديم الشاي عدم غليان الماء في السماور، ولو غلى الماء في السماور، لقدّمتَ الشاي. فإذن من الممكن للإنسان أن يرفع أحد طرفي النفي والإثبات في أحد عدلي الاستفهام، وأن يضع عوضًا عنه جملة ثانويةً أو أثرًا أو خصوصيّةً من خصوصيّاته، بحيث أنّ ذلك الاستفهام يحكي عن النفي والإثبات ويوصل هذا المعنى للإنسان، وفي نفس الوقت يوصّل ذلك المعنى [المأخوذ من البديل] أيضًا، كما في قول تعالى:

  • ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾؛ يعني: «هل الشخص الذي يعلم ويتيقّن بأنّ كلّ ما يأتي من طرف الله وأنزل إليه هو حقٌّ، مثله مثل ذلك الشخص الأعمى؟!».

  • ومن هنا، يُستفاد أن ذلك الشخص الذي لا يعلم، هو أعمى؛ يعني: كل شخصٍ ليس بأعمى يعلم، وعلّة عدم العلم هو العمى؛ لأنَّ العلم بصرٌ وعدم العلم عمى.

    1. سورة الرعد (۱٣) الآية ۱٩.
    2. سورة الزمر (٣٩) الآية ٩.

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

3
  • ﴿مَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ﴾؛ «فذلك الذي لديه علم وبصيرة بأنَّ ما أنزل عليك (يا نبينا) من ربك هو عين الحقّ، لديه بصر وبصيرة حقيقيّة؛ فهل هذا الشخص مثل ذلك الشخص الأعمى؟!»

  • يعني: ذلك الشخص الذي لا يعلم، أعمى وبلا بصيرةٍ ولو كان له عينٌ لرأى! إذن في الواقع، هنا عِدل الاستفهام الذي جاء بدلًا من «كمَن لا يعلَم»، هو ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾ لإفادة هذا المعنى: من يعلم لا يتساوى مع من لا يعلم.

  • لزوم اكتساب العلم النافع والموجب لحصول الإيمان اليقيني

  • إنَّ الإنسان يجهل العديد من العلوم في هذه الدنيا. حسنًا دعه لا يعرف، فما الفائدة أن يعرف؟!

  • العلم بها والجهل بها متساويان! افرضوا أنَّ هذا العبد استطاع من خلال علم الجفر وعلم الرمل وبعض الحسابات أن يعلم أنَّ خلف جبل الهمالايا حمامتين وضعتا بيضًا، وكان هذا العلم مطابقًا للواقع مائة بالمائة؛ حسنًا، فما هي فائدته لنا؟! لا شيء! فإذن وجود هذا العلم وعدمه متساويان؛ فلا ينفع الإنسان في دنياه ولا ينفعه لآخرته! 

  • ومثلًا: لو علم الآن هذا العبد أنَّ في مدينة «دهلي» [أحد المدن الهندية] عدّة أنهار على وجهٍ أكيدٍ، أو يعلم بوجود عددٍ من المنازل، أو كم يمتلك كلّ منزل منها من الأنابيب، أو في المنزل الفلاني في شمال دهلي كم صنبور ماءٍ يتوفر في كلّ منزلٍ؛ فحتّى لو كان علمي مطابقًا للواقع، واكتسبته من خلال علم الغيب أو من خلال العلوم الظاهريّة كأن أذهب إلى هناك وأجري إحصاءً، مثل الأفراد الذين يسافرون حول العالم ويتجولون ويعلمون تلك المسائل، ويدوّنون الكتب ثمَّ يموتون ويغيبون عن هذه الدنيا؛ فماذا نفعهم ذلك؟! هنا وجود العلم وعدمه متساوي. إنّ العديد من العلوم الموجودة في الدنيا، بل أغلب العلوم التي ملئت الدنيا، جميعها هو من قبيل هذه العلوم؛ إنّها واقعيّةٌ لا أنَّها وهمٌ وليس لها ما بإزاء في الخارج [بل هي واقعيّة]، ولكنّ نفعها وضرّها واحدٌ بالنسبة للإنسان:

  • «لا ينفَعُ مَن عَلِمَه ولا يضُرُّ مَن جَهِلَه».۱ 

  • وهذه العلوم هي كذلك في الغالب، ناشئةٌ عن التوهّمات والتخيّلات؛ وخلاصة القول: هي من العلوم الجزئيّة التي لا ارتباط لها بالعلوم العقليّة والكليّة.

    1. الكافي، ج ۱، ص٣٢.

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

4
  • يقول الله عزّ وجلّ في هذه الآية: «أفمَن يعلَمُ أنّما أنزِلَ إليكَ مِن ربِّك الحَقُّ كمَن لا يعلَمُ ذلك؟!» فيتضح أنَّ هذا الأمر مهمٌّ جدًا فإنَّ العلم به وعدم العلم به لا يتساويان، بل يختلفان عن بعضهما جدًا، ويفترقان من الأرض إلى السماء؛ فذلك الذي يعلم أنّ ما أُنزل إليه هو الحقّ لا يتساوى مع ذلك الشخص الذي لا يعلم بنزول الآيات عليك، وأنت قد تلوتَ عليه الآيات، إلّا أنّه لا يعلم أنَّه الحقّ، ولديه شكٌّ وتردّدٌ، وهذا المعنى ليس ثابتًا بالنسبة له.

  • عماء قلوب الأشخاص الشاكّين والمتردّدين والمادّيّين المنكرين لله

  • لذا انظروا كيف يعتبر القرآن بأنّ أولئك الأشخاص الذين لديهم شكّ وتردّد مصابون بمرضٍ مهلكٍ، قال تعالى: ﴿فَهُمۡ فِي رَيۡبِهِمۡ يَتَرَدَّدُونَ﴾،۱ ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ﴾،٢ ﴿إنَّهُم لَفِي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾.٣ وذلك لأنّ أسّ الإنسان وأساسه وكينونته وأصالته المتحققة بالحقّ، تتوقف على امتلاك الإنسان للعين والبصيرة.

  • فلتفرضوا إنسانا يمتلك جميع الصفات، فيمتلك الطول، وهو في سنّ الشباب، ويخفق قلبه بالطريقة الفلانيّة، وجميع شرايينه شابّة، ومرونة عمل شريانه ووريده جيّدةٌ جدًا، وتعمل كليته بطريقةٍ جيّدةٍ جدًا، ودماغه جيّدٌ جدًا، وجميع بدنه يعمل بشكلٍ جيّدٍ جدًا، كذلك يداه وقدماه جيّدتان، وكلّ ما فيه جيّد؛ إلّا أنّه لا عين له أصلًا ولا يفهم ما هي العين أساسًا، فما تقييمك لهذا الإنسان؟ لقد أغلقت جميع مُدركات هذا الشخص رغم توفر جميع هذه الأعضاء والأجهزة والأعضاء، لقد أغلقت تمامًا أمام عالم الخارج، وعالم الخارج أغلق بوجهه أيضًا.

  • والآن، افرضوا أنّه لا يمتلك أُذنًا أيضًا! فالشخص الذي لا عين له ولكنّه يمتلك أُذنًا، يسمع صوت أمِّه ويصفقون له؛ والأم تقول له: «ولدي عزيزي!»، فيجيب: «نعم!»، فتقول له: «أنا أمّك، أنا أنجبتك، و...»، ففي نهاية المطاف، يتواصل هذا الشخص مع الموجودات بواسطة الأذن إجمالًا. والآن، افرضوا أنّه لا يمتلك أُذنًا أصلًا، ولم يسمع صوت أمّه وأبيه أساسًا، ولا يفهم ما معنى صوت الأخّ، ولا يفهم صوت ارتطام الكرة، ولن يعرف ما هو البرق والرعد، ولا الصوت الحسن، ولا صوت البلبل، ولا صوت القرآن. لا يفهم شيئًا أبدًا، وافرضوا أيضًا، بأنّ نفس هذا الإنسان الذي أجهزته وكلّ شيء فيه يعمل بشكلٍ جيّدٍ، ولكنّه لا عين له ولا أُذن له؛ ونحن فرضنا هذا الشخص في عالم مدركاته الذي افترضناه بأنّه ذا فهمٍ وعقلٍ، وعلى هذا الفرض فما هي علاقته التي يراها مع الخارج؟! لن يكون له علمٌ بأيّ وجهٍ من الوجوه عن هذه الموجودات التي خلقها الله، ولا عن الأفراد الذين أتوا ورحلوا، ولا عن الذين كان لهم أعينٌ وآذانٌ، ولا عن هذه الغوغاء التي في العالم أيضًا!

    1. سورة التّوبة (٩)، الآية ٤٥.
    2. سورة إبراهیم (۱٤)الآية ٩.
    3. سورة هود (۱۱) الآیة ۱۱۰.

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

5
  • والآن افرضوا أنّه لا يمتلك حاسّة اللمس أيضًا؛ يعني: لو مرّرت أمّه يدها على بدنه، فليس لديه هذا الإحساس لكي يفهم ما هو اللمس! فمن الممكن أن لا يكون له أذنٌ ولا عينٌ، ولكن لو وضعتْ له أمّه لقمةً من الطعام في فمه فإنّه يُدرك ذلك بواسطة حاسّة اللمس؛ أو إذا حكّت له بدنه، فسيدرك أنَّ أمّه تحكّه؛ إلّا أنّه لا يمتلك هذه الحاسّة. إنّ هذا الإنسان الذي يمتلك كلّ شيء، ولكنّه لا يمتلك أساس الإنسانيّة وأصالة الإنسانيّة، التي هي عبارة عن الفهم الإدراك وهذه الأمور، كأنّه لا يمتلك شيئًا!

  • والقرآن يقول هكذا أيضًا: إنّ هؤلاء الأفراد الذين يعيشون في الشكّ والتردّد، ولا يعلمون ما أنزل عليك، هم عُميٌّ، ولا أعين لهم أصلًا؛ آذانهم ثقيلة فلا يعقلون، وقلوبهم لا تدرك! إنّ جميع هذه الحواس الظاهرة التي منحناه إيّاها، هي من أجل أن تكون نافذةً لحواسّ الباطن؛ فالبصر من أجل البصيرة، والسمع من أجل استماع كلام الحقّ، والقلب والفؤاد للإدراك. فإذا امتلكها جميعًا، ولكن لم يكن لها سبيلٌ إلى الباطن، فهو أشقى الأفراد وأكثرهم حرمانًا! مثل الشخص الذي وقع وطلعت الشمس وغابت، وارتفع القمر أيضًا، وظهرت النجوم، وهبّت ريحٌ لطيفةٌ وعلت أصوات الألحان والأنغام البديعة لطيور الربيع، إلّا أنّ هذا الشخص لا عين له فيرى ولا أذن له فيسمع، فماذا يستفيد هذا الشخص من نعم الله هذه؟!

  • إنّه أكثر الناس حرمانًا! ويشبّه القرآن الأمر بهذا النحو: ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾؛ «مثل ذلك الأعمى الذي لا يرى!» إنّه أعمى حقيقةً! وحقيقة العمى يجب أن تطلق على هذا الأعمى الذي لا يُدرك ولا يعلم حقّانيّة ما أنزل عليك.

  • جميع الماديّين والطبيعيّين الذين لا ارتباط لهم مع الله ولا يقولون بوجود الله، جميعهم على هذه الشاكلة. إنّهم يُؤمنون بوجود مادّةٍ في عالم الوجود وبناءً على التجربة يقولون: هناك سلسلةٌ من العلل والمعلولات؛ وهي التي أوجدتها؛ وهذه هي التي أوجدت الأخرى؛ ولكن هكذا وكفى، ولا يبحثون أكثر ذلك! ولا ينتهي بحثهم إلى نهاية؛ يقولون: «كانت المادّة الأوّلى، وقد تحرّك تلك المادة من تلقاء نفسها، ونتج عن حركتها التكثّر والتعدّد»، ويتوقّفون هنا!

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

6
  • «كانت هذه المادّة موجودةً»، ولكن مَن الذي أوجدها؟ فإذا «كانت موجودةً» فهل من ناحية نفسها فهي الله؛ يعني: إذا وُجدت المادّة بذاتها مستقلةً، فهي الله! لكنّهم لا يستطيعون القول بمثل هذه الاستقلاليّة لها.

  • ثمّ «تحرّكت»، فمن الذي منحها الحركة؟ حسنًا، إنَّ هذه المادّة التي تقولون بها، ليس لها قوّة لها حكومة عليها وهي فقط مادة، وقد تحركت؛ فمن هو مُحرّكها؟ وما هي علّة حركتها؟ تجدهم يصمتون هنا!

  • ثمّ تحرّكت، ثمّ أصبحت الاثنين أربعة، ثمّ أصبحت الأربعة ثمانية والثمانية أصبحت ستّة عشر، وبعدها أصبحت اثنان وثلاثون ثمّ أصبحت أربعة وستون ثمّ مئة وثمانية وعشرون، وهكذا دواليك إلى أن أوجدت عالم الوجود بهذه السعة وهذا الاتساع؛ فلا يتغير هذا ولا يتبدّل، ولا يزيد موجود ولا ينقص! وخلاصة القول:‌ إنَّ جميع ما بحثوه، كان مبنيًا على غضّ النظر عن عالم المعنى والإرادة وعالم اختيار الله وعالم القدرة والمشيئة، وكلّه كان مبنيًا على عالم المادّة هذا!

  • فهذا ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾؛ هؤلاء الناس ضريرون! فالإنسان الضرير والأعمى إذا شاء أن يطالع كتابا، فماذا سيفهم منه؟! ليس لهؤلاء فهم عن هذا العالم سوى ما سيفهمه الإنسان الأعمى، وليس لهم شيء آخر! هذا معنى القرآن!

  • بصيرة المؤمنين الحقيقيّين

  • ولكن ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ﴾؛ إنّنا نستفيد من المقابلة بين ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ﴾ وبين ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾ بأنَّ ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾ يُقابله في الطرف الآخر «كمَن ليسَ لَهُ عماءٌ» یعني: «كمَن لَهُ بَصَرٌ و بَصيرة»، و﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ﴾ يعني: «البصير».

  • ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾.

  • إنّه بصيرٌ وعيناه مفتوحتان حتّى لو لم يمتلك عينًا في هذه الدنيا، إنّه بصيرٌ، وواقعًا هو بصيرٌ! وبهذا المنطق القرآني، بهذه الآية القرآنيّة هو بصيرٌ؛ ولو أنّك سألته، فسيقول: أنا بصيرٌ؛ وعلى رغم من كونه أعمى، إلّا أنّه يرى هذه الموجودات المحسوسة في العالم.

  • إنّ إدراك الأعمى منذ الولادة للموجودات المحسوسة الخارجيّة يتمّ بواسطة الاتصال القلبي بالأنوار الإلهيّة، وهذا الموضوع في الفلسفة، يُمثّل معضلةً، وهي كالتالي: ذلك الفرد الذي ولد أعمى، عندما يكبر فمن المعلوم أنَّه لم يرَ أيّ شيءٍ من عالم الخارج، فلا يفهم ما هي الشمس، ولا يفهم البياض، ولا السواد ولا الجمال ولا القبح، لا يفهم شيئًا؛ ولكنّ مثلًا إذا تنوّر قلبه بالنور الإلهي والملكوتي، فهل يستطيع أن يرى الموجودات المحسوسة الخارجيّة أم لا؟

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

7
  • يقول البعض: إنَّه لا يستطيع أن يرى، وذلك لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يسيطر على الموجودات التي في عالم الملكوت، فلا بدّ له في نهاية المطاف من أن يتّصل مع الخارج؛ يعني: لا بد أن يكون للإنسان عينٌ وفي بعض الأوقات يرى الخارج من خلال هذه العين الظاهريّة فيرى الشكل والشمائل والبياض والسواد، ثمَّ بعد ذلك الوقت يدركها بواسطة ذلك النور الملكوتي في الغيب. أمّا بالنسبة للشخص الذي لا يفهم ما يعني البُعد بأي وجهٍ من الوجوه أصلًا، ولا يفهم ما هو الحجم، ولا يفهم ما هو السواد وما هو اللون، هل يستطيع أن يأتي ويدرك الموجودات الماديّة والمحسوسة بالنور الملكوتي؟!

  • ولكن الأمر بالعكس! شوهد أنَّ هناك بعض الأشخاص كانوا ضريرين، ثمّ رأوا الموجودات الخارجيّة، فكيف حصل ذلك؟!

  • هناك بعض الأفراد الضريرين يضعون القرآنَ بين أيديهم، فيفتحون القرآن ويقرؤون الآيات من صفحات القرآن وإذا قلت لهم: «أين الآية الفلانية؟» فسيشيرون لك إلى الآية! فمن أي الأقسام هذا؟! رغم أنّهم ضريرون!

  • سماحة الحاجّ الشيخ محمّد تقي بهجت ـ حفظه الله إن شاء الله وهو على قيد الحياة الآن،‌ ويسكن في قم، وهو رجل عظيم الشأن وصالح، ومن تلامذة المرحوم القاضي ـ قال بنفسه:

  • في زمان شبابنا، كان في منطقتنا أعمى حيثما أشرنا له في القرآن وإلى أي آيةٍ أردنا،‌ كان يفتح القرآن ويشير بيده إلى تلك الآية!

  • وإذا وضعوا القرآن بين يديه، كان يُمسك القرآن؛ فيقولون له:«الآية الفلانية!» كان يهز برأسه سريعًا ويفتح القرآن أو يقلب الصفحات إلى هذه الجهة أو تلك الجهة، ويضع يده على تلك الآية ويقول: «هذه هي الآية».

  • وقال سماحته:

  • لقد وضعتُ بنفسي بين يديه نسخًا مختلفةً من القرآن؛ وكنت أقول في نفسي ـ مثلًا ـ ربما اعتاد على قرآنٍ خاصٍّ أو نسخةٍ خاصّةٍ! فرأيت أنّه يفعل هذا الأمر مع جميع المصاحف، فتعجبتُ جدًا!

  • في أحد الأيّام أردتُ معاكسته،‌ يعني: أردتُ أن أمازحه! فقلتُ. أين الآية الفلانيّة؟ ففتحَ القرآن ووضع إصبعه على الآية المعيّنة. فقلتُ. ليس هذا صحيحاً، فهذه آية أخرى. فردّ عليّ. «أوَ أعْمَى أنْتَ؟! ألَا تَرَى؟!».۱

    1. راجع نور ملكوت القرآن، ج ۱، ص ۱٦٩.

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

8
  • وعلى كل حال، لذلك عندما يكون ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ﴾، فإنَّ هذا المعنى يُصبح مسلّمًا للإنسان، يُصبح كلّ شيء مسلّمًا؛ فإنّ الله يخلق ما لم يكن موجودًا بإرادةٍ واحدةٍ منه!

  • عدم إدراك حقيقة الوجود بواسطة العلوم الظاهريّة والماديّة

  • في هذه الأيام، هناك قانونٌ عند علماء الفيزياء اسمه «قانون لافوازييه». وقانون لافوازييه هذا، هو أنّه ما من مادةٍ في العالم تزيد أو تنقص، فكلّ مادةٍ موجودةٍ في العالم هي بنفس المقدار الموجودة عليه، ولكن هناك تبديل وتبدّل. فيتحوّل من صورة الرمل إلى صورة الشجرة، ثم تصبح الشجرة أوراقًا، والإنسان يأكل الأوراق أو الثمرة، وتتبدل إلى صورة لحمٍ وبدنٍ. فهناك تبديل وتبدّل، ولكن أصل المادّة لا يزيد ولا ينقص، ولا يفنى ولا يوجد، هذا هو قانون لافوازييه.

  • ولديهم قانونٌ آخر، هو القانون الأوّل للثرموديناميك۱ «قانون بقاء الطاقة» إنّهم يقولون: جميع الطاقة في العالم ثابتة، ولا تتغير ولا تزيد ولا تنقص؛ فمثلًا: الطاقة الكهربائية الطاقة الحراريّة والطاقة الميكانيكيّة، وكذلك جميع القوى الموجودة لا تتغيّر. فالإنسان يستطيع مثلًا أن يحول الطاقة الكهربائية إلى طاقة ميكانيكيّة أو أن يحوّل الطاقة الميكانيكيّة إلى طاقة حرارية وهكذا يحصل التبديل والتبدّل في القوى والطاقات، وتستند جميع الصناعات الحالية على ذلك؛ أمّا المبدأ الذي يُمكن من خلاله القيام به أن تزداد الطاقة، فمثلًا الحرارة الآن في العالم كذا مقدار من الكالوري، فنقوم بعمل ما كي نجعلها ضعفًا أو ثلاث أضعاف، أو كي تقلّ، [هذا المبدأ ليس موجودًا في العالم]. وهذا عبارةٌ عن قانون؛ فقد تجاوز مرحلة الفرضيّة وأصبح قانونًا.

  • ولكن لو أراد الله أن يخلق موجودًا [ويأتي به إلى ساحة الوجود] بيد النبي عيسى على نبيّنا وآله وعليه السّلام، فسيعجن بيده طينًا ثم ينفخ فيه فيطير ويحلّق، فمن أين أتى بهذه القوة؟! من أين جاء بهذه الحياة؟! أم أنَّ النبي عيسى عليه السّلام أراد وجعل العدم موجودًا وصار إنسانًا؛ فأحيانًا يُحيي الموتى وأحيانًا أخرى ﴿كُن فَيَكُونُ﴾؛ فيقول الله للنبي عيسى عليه السّلام كن:﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾؛٢  وهؤلاء يقولون: «لا بحث هنا بعد الآن؛ إلى هنا وفقط!».

    1. الديناميكا الحراريّة. (م)
    2. سورة آل عمران (٣)، الآیة ٥٩.

حصول البصيرة بواسطة اكتساب العلم النافع - بيانات حول الآية: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق)

9
  • فنقول: أثبت كلامك بالآيات والروايات. [يقولون:] كلامنا لا يصل إلى هناك أصلًا!

  • ماذا يعني ذلك؟! يعني: أصبحوا ﴿كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ﴾! فهذا علم أبتر ومقطوع.

  • وهم أنفسهم عندما يأتون يُحقّقون في العلوم الإلهيّة، فإذا وصلوا إلى أمثال هذه المطالب، عند ذلك سيقولون: «إنَّ مبدأ لافوازييه يسري في حالة وجود الأشياء!» ويعترفون إجمالًا بأنّه: «هذا معتقدنا يمشي بنا ويمشي بنا إلى هذا الخطّ، وبعد ذلك لا علاقة لنا بالنبي عيسى والقوة والمعجزة و... ولا يمكننا البحث؛ فهذه هي حدود إدراكنا!»

  • وهذا هو معنى آخر الآية الشريفة التي قرأناها: ﴿أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾.

  •  

  • اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد