24

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله

تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (2)

7124
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةمباني الأخلاق


التوضيح

أهم محتويات المحاضرة:
- الكفر بعد معرفة الله؛
- التلازم بين مقدار معرفة الإنسان وبين طهارته الباطنيّة؛
- الطهارة ضروريّةٌ لإدراك بطون القرآن والمعارف الإلهيّة؛
- كيفية الوصول إلى مقام المخلّصين وحالاتهم بعد الشهود والفناء في الله؛
- لزوم إكرام الحالات الواردة والأسماء والصفات النازلة على قلب الإنسان وتعزيزيها؛
- المراقبة هي الركن الأساسي في السير والسلوك؛
- شدّة عذاب العالم الكافر وعقوبته مقارنةً بالجاهل غير المطلّع؛
- كيفية اتحاد الموجودات ومعيّتها الإدراكيّة مع الله؛
- آثار الإتّحاد والإتّصال الروحي؛
- تأثير الحبّ في ايجاد المعيّة والاتحاد الروحيّ؛
- هداية الرسول الباطنيّة في سبيل الفناء في الله بواسطة المعيّة مع الأنوار الطيّبة والطاهرة للمعصومين عليهم السّلام؛
- وحدة اختيار الإنسان وإرادته مع الله بواسطة المعيّة؛
- حقيقة الفناء في الله.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل 

  • الوصول إلى مقام الفناء في الله

  • تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (٢)

  •  

  • مباني الأخلاق - المجلّس الرابعة والعشرون

  •  

  • محاضرات ألقاها

  • سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  • طهران، مسجد القائم

  •  

  •  

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم

  • بسم الله الرّحمٰن الرّحيم

  • وصلّى الله على خَير خلقِه محمّد وآله الطيّبين

  • ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

  •  

  •  

  • «يا عيسى، لا تُشرِك بي شيئًا وكُن مِنّي على حَذَرٍ! ولا تَغتَرَّ بالصِّحّة وتغَبِط نفسَكَ، فإنّ الدّنيا كفَيْ‌ءٍ زائلٍ وما أقبَلَ منها كما أدبَرَ؛ فنافِس في الصّالحات جُهدَك، وكُن مع الحقِّ حيثُما كان وإن قُطِعتَ وأُحرِقتَ بالنّار. فلا تَكفُر بي بَعد المعرفةِ، فلا تكونَنَّ مِن الجاهلينَ؛ فإنّ الشّي‌ءَ يكونُ مع الشّي‌ء».۱

  • لقد ذكرنا تفسير هذه الفقرات إلى حدٍّ ما.٢

  • الكفر بعد معرفة الله

  • «فلا تَكفُر بي بَعد المعرفةِ [أي: بعد أن عرفتني]، فلا تكونَنَّ مِن الجاهلين».

  • هذه العبارة، هي جملةٌ إخباريّةٌ، ثمّ يليها التعليل:

  • «فإنّ الشّي‌ءَ يكونُ مع الشّيء».

  • هل يُمكن للإنسان أن يكفر بعد أن عرف الله، أم أنّ هذا الأمر غير ممكنٍ؟

  • التلازم بين مقدار معرفة الإنسان وبين طهارته الباطنيّة

  • للمعرفة درجاتٌ ومراتب، عندما يتحرّك السالك نحو الله، وعندما يرفع يده بالتدريج عن تلك الأهواء والشوائب التي اختلطت بنفسه من خلال التهذيب والتزكية، فيتقدّم، ففي كلّ مرحلةٍ يطويها يتبدّل مقدارٌ من الغشّ والشوائب الموجود في نفسه إلى طهارة، وينكشف له عالمٌ من المعرفة لم يكن منكشفًا له من قبل؛ وقد يمتلك الآن بعض الشوائب والأوساخ، ولا بدّ من إزالة هذه الأوساخ أيضًا للوصول إلى عالم آخر؛ ثمّ مرّة أخرى، قد يكون لديه بعض الأوساخ، ويجب أن يتطهّر حتّى يصل إلى عالمٍ آخر، وهكذا.

  • والخلاصة: الطهارة مقولة مُشكّكة، يعني: لها مراتب ودرجات، الطهارة الأولى هي هذه الطهارة الظاهريّة، أمّا الطهارة الثانية فهي طهارة الأخلاق، والطهارة الثالثة هي طهارة العقيدة، والطهارة الرابعة طهارة النفس، والطهارة الخامسة طهارة العقل؛ والطهارة السادسة طهارة السرّ، وفي النهاية آخر درجةٍ من درجات الطهارة هي طهارة الوجود حيث يجب أن يكون وجود الإنسان طاهرًا. هذه هي درجات الطهارة، وبقدر ما يتطهّر الإنسان، يتطّلع على الأسرار بنفس تلك الدرجة، ويعرف الله بنفس تلك الدرجة.

  • لذلك فالناس العاديّين الذين أسلموا ـ لا أنهم لا يعرفون الله بل لديهم معرفة، ولكن بهذا المقدار فقط ـ عندما يُؤدّون العبادات، فيصومون ويُؤدّون فريضة الحجّ، فإذا كانت هذه الأعمال الظاهرة نابعةً من الإخلاص وقصد التقرّب من الله، فسوف يطوون درجاتٍ، وستزداد معرفتهم طالما يُؤدّون الأعمال الواحدة تلو الأخرى. وكلّ هذه الأعمال التي يقوم بها الإنسان، هي من أجل الطهارة والتقرّب، وأمّا ما يُبعد الإنسان عن الله فهو القذارة الموجودة في نفس الإنسان.

    1. الكافي، ج ۸، ص ۱٤۱.
    2. للأسف لم نعثر على هذه الجلسة. (المحقّق)

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

3
  • يقول الإمام سيّد الساجدين عليه السلام [مخاطبًا الله عزّ وجلّ]:

  • «وإنّك لا تَحتَجِبُ عن خلقِك، ولكن تَحجُبُهم الأعمالُ دونَك»؛۱.

  • فإذن الإنسان يرفع الحجب بواسطة الأعمال الصالحة ويتقدّم من خلالها.

  • الطهارة ضروريّةٌ لإدراك بطون القرآن والمعارف الإلهيّة

  • ولدينا في القرآن المجيد:

  • ﴿لَا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ﴾؛٢ يعني: لا يمسّ القرآن إلّا الأفراد المطهرون.

  • وكما أنّ مسّ آيات القرآن الظاهريّة بدون وضوء أو غسلٍ غير جائزٍ، فإنَّ مسّ حقائق القرآن وبواطنه بدون حصول الطهارة غير ممكنٍ أيضًا؛ فـ﴿لَا يَمَسُّهُۥ﴾ صيغةٌ إخباريّةٌ، يعني: تلك الحقائق لا يمكن مسّها إلّا من قبل المطهرين.٣

  • ويقول سيّد الشهداء عليه السلام:

  • «إنّ كتابَ الله عزّ وجلّ على أربعةِ أشياءَ (أي درجات): علَى العبارةِ والإشارةِ واللّطائفِ والحقائق. فالعبارةُ للعوامِّ والإشارةُ للخواصِّ واللّطائفُ للأولياءِ والحقائقُ للأنبياء»؛٤

  • فالعبارة للعوام (يقرأونها ويفهمون معناها)، وإشارات القرآن للخواصّ، ولطائف القرآن لأولياء الله، وحقائقه للأنبياء (يعني: إنَّ للقرآن حقائق لا يفهمها سوى الأنبياء أصلًا).

  • وهذا القرآن الذي نقرأه، مثل: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَهُ أَحَدٌ﴾؛٥ لا يتعدّى كونه عبارة، وهو ذو معنى واضح وبسيط ـ وهذا هو معنى الآية: لقد يسرنا القرآن كي يتمكّن الجميع من فهمه٦ ولكن لهذه الآية معنى باطني لا يصل الإنسان إلى كنهه ما لم يُحصّل طهارةً تتناسب مع فهم ذلك المعنى. وما أن يصل إلى ذلك المعنى، يجد كذلك أنّ لهذا المعنى معنى باطني آخر؛ وهكذا كلّما حصّل درجةً من الطهارة مسّ تلك الدرجة من حقيقة القرآن.۷

  • وهكذا هي المعارف الإلهيّة أيضًا. فأحيانًا قد يقول الإنسان إنَّ الله واحدٌ والنبيّ موجودٌ ويتّبعه وينكشف له قدرٌ من كون الله قديرًا واقعًا وأنّه يجب التوكّل عليه واقعًا. كما لو شاهد الشخص في المنام أو اليقظة طائرًا يحمل حبة قمحٍ في منقاره ويضعها في فم طائر آخر مشلول، وأمثال هذه الأمور؛ فيقول: «ما أحسنه من إلهٍ! كيف يطعمه؟! ما أحسنه من خالقٍ قديرٍ! هذه هي قدرة الله!»، ثمّ يرتقي أعلى من ذلك، فيرى قدرة الله في جميع العوالم، فيرى علم الله في جميع العوالم ويلمسها واقعًا، وتصبح مشهودةً له، وتتجلّى له أسماء الله وصفاته الجزئيّة، ثمَّ تتجلّى له أسماء الله وصفاته الكليّة، إلى أن يصل إلى ما هو أعلى. ولكن، طالما لم يصل إلى مرحلة الفناء في الله، فهو في خطر؛ يعني: ما زال بالإمكان أن يتراجع، يعني: يرتقي ثمَّ يهبط مرّةً أخرى، مثل: النابض يرتفع ثمّ يهبط. هل جربتم الأمر، ففي بعض الأوقات يُصلّي الإنسان وتحصل له حال، ثمَّ يعصي وتزول هذه الحال. معرفة الله والأمر هنا هكذا؛ فمن الممكن أن يرتقي الإنسان نتيجة الاهتمام وتهذيب النفس، ولكن لاحقًا إثر الالتفات بالدنيا والغفلة والقسوة، تزول منه تلك الحالات التي كانت لديه.

    1. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥۸٣؛ إقبال الأعمال، ج ۱، ص ٦۸، مقطع من دعاء أبي حمزة الثمالي؛ مع اختلافٍ يسيرٍ في المصادر.
    2. سورة الواقعة (٥٦)، الآية ۷٩.
    3. لمزيد من الاطلاع، راجع: الميزان، ج ۱٩، ص ۱٣۷؛ مفردات ألفاظ القرآن، ص ٥٢٥.
    4. جامع الأخبار، للشعيري، ص ٤۱.
    5. سورة الإخلاص (۱۱٢)، الآية ۱.
    6. سورة القمر (٥٤)، الآية ۱۷: ﴿وَ لَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ﴾.
    7. عوالي اللآلي، ج ٤، ص ۱۰۷.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

4
  • إنّنا نقرأ في آيات القرآن قوله تعالى:

  • ﴿وَ نَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾۱.

  • وهذه الآية تتحدّث عن بني إسرائيل، وتقول: لقد ذكّروا بأمورٍ وفهموها في حينها، ولكن نسوا الحظّ والنفع، وأصبحت قلوبهم قاسيةً وصلبةً. إذن هناك تذبذبٌ في حالات الإنسان دائمًا، ولذلك كي يخرج كلّ إنسان من التذبذبات عليه أن يمكث مدّة في ذلك العالم الذي طواه ثمَّ يعود إلى العالم الآخر.

  • كيفية الوصول إلى مقام المخلّصين وحالاتهم بعد الشهود والفناء في الله

  • هذه الأربعينيّات التي يتحدّثون عنها، هي من أجل أن يبقى في كلّ عالمٍ إلى أن تصبح واردات ذلك العالم مَلكةً بالنسبة له، وبعد أن تصبح مَلكةً يعبر. فإذا لم تصبح ملكةً، وبرزت تلك الواردة له بعنوان حال، فـ «الحالُ يزولُ»، ولكن إذا أصبحت مَلكةً فهي لا تزول. فمن يمتلك مَلكةَ الخطّ، إذا نام فسيبقى خطّاطاً حتّى في اليوم التالي؛ ولكن إذا أمسكوا بيده وساعدوه على كتابة الواجب المنزلي، فسوف ينسى الكتابة بعد يومين ولن يتمكّن من الكتابة آنذاك. وعلى الإنسان أن يتوكّل على الله في درجات المعارف كذلك، وأن يتقدّم درجةً بعد درجة إلى أن يصل إلى مقام الشهود.

  • ﴿وَ كَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ [أي: حقائق] ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ﴾٢.

  • وبعد أن يعبر من علم اليقين وعين اليقين ويصل إلى مقام اليقين، ويكون هذا اليقين قد وصل إلى تلك الدرجة العليا من حقّ اليقين، فلا تشكيك ولا مراتب في حقّ اليقين بعد ذلك. فأحيانًا يرى الإنسان نارًا من بعيد ويعلم أنَّها نارٌ، [فهذا يكون علم اليقين]؛ وأحيانًا يتقدّم فتلامسه حرارة النّار، فهذا عين اليقين.

  • وأحيانًا يلقون الإنسان في النار، مثل الفراشة التي تلقي بنفسها في الشعلة وتحترق ويحصل لروحها معيّة مع الشعلة ويهوي بدنها، فهذا حقّ اليقيّن. فعلى الإنسان أن يحصل على حقّ اليقين في معرفة الله ويستمر في التقدّم وأن يُسقط جميع الحجب، ويعبر من جميع الأسماء والصفات ويصل إلى مقام شهود الذات ويفنى هناك؛ ورغم كلّ ذلك: 

  • در ره عشق از آن سوی فنا صد خطر است!***...
    1. سورة المائدة (٥)، الآية ۱٣.
    2. سورة الأنعام (٦)، الآية ۷٥.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

5
  • [يقول: في طريق العشق هناك مئة خطرٍ من جهة الفناء تلك].۱

  • «النّاسُ كلُّهم هالِكون إلّا العالِمونَ؛ والعالِمون كلُّهم هالِكون إلّا العامِلونَ؛ والعامِلون كلُّهم هالِكون إلّا الموقنون [أي: الذي منحهم عملُهم اليقين]؛ والموقنون [ولليقين درجاتٌ، فالموقنون] کلُّهم هالِكون إلّا المُخلِصون [أي: من كانت أعمالهم مبنيّةً على الإخلاص]؛ والمُخلِصونَ في خَطرٍ عظيمٍ!»٢.

  • فعليه أن يعبر من كونه مخلِصًا [بكسر اللام]، ثمّ يضعون الفتحة على الرأس والتاج المبارك ويجعلونه مُخلَصًا [بفتح اللام]؛ فهنيئًا لأولئك الذين يصبحون مخلَصين ولا يعود للشيطان من سبيلٍ عليهم ويزول طمعه بهم.٣ فأولئك وصلوا إلى مقامٍ جيّدٍ جدًا!

  • فطالما لم يصل الإنسان إلى مرحلة المخلَصين، لا يستطيع الثقة والاطمئنان لعمله. نعم، بعد ذلك لا درجة ضلال؛ ولكن ليس أنّ الإنسان ينجي نفسه من الضلال، بل الله لا يضل الإنسان بعدها ولا يتركه لنفسه، مع أنَّه هو الله وإذا شاء ذلك فعل. ولأنَّ الانبياء والأولياء يعلمون بأنَّ القدرة بيد الله فقط، وبأنّ الحول والقوة هي من صفات الله، لذا لزموا جميعًا مقام الأدب والعبوديّة! ولذلك يسألون الله دائمًا؛ ولا يقولون: «بما أنّنا وصلنا إلى هذا المقام، لذا سنعتمد على أنفسنا ونترك الله؛ وليس بإمكان أحدٍ أن يُخرجنا من هذا المقام!» ليس هناك شيءٌ من هذا الكلام!

  • لزوم إكرام الحالات الواردة والأسماء والصفات النازلة على قلب الإنسان وتعزيزيها

  • «فلا تَكفُر بي بَعد المعرفة» فبعد أن عرفتني وطويت درجات الأسماء والصفاء، فامسك بكلّ درجةٍ وصلت إليها بإحكامٍ ولا تدعها، ولا تكن جاحدًا لتلك الدرجة، ولا تكفر بتلك الدرجة، وقم بضيافة ذلك الحال والمقام.

  • فهذه الحال عبارةٌ عن ضيفٍ عزيزٍ وشريف وهو يدخل من باب الدار، ويُمكن أن ينكسر قلبه بسرعةٍ، فإذا تأخرت بفتح الباب له سيذهب ويرحل، وإذا حضر إلى باب الدار ولم تُقبل قدميه سيرحل، وما أن يأتي إلى باب الغرفة وتتأخر في ضيافته سيفرّ ويرحل! كالمرآة سريعة العطب، فما إن تلمسها حتّى تُعطب وتتشقّق. وهكذا هو الحال والواردات؛ لأنَّ واردات الإنسان هي أسماء الله وصفاته، والله غيورٌ ويحضر حيثما يكون هناك ضيافة وترحيب، ولكن حيثما يرى أنّ القلب ساهٍ وغافلٌ يُسرع في الرحيل.

    1. ديوان حافظ، قزويني، ص ٤۰۷، غزل ٣۱٤.
    2. روضة المتّقين، ج ۱٢، ص ۱٤٦؛ مصباح الشّريعة، ص ٣۷؛ مع اختلافٍ يسيرٍ في المصادر.
    3. سورة الحجر (۱٥)، الآية ٣٩ و٤۰: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ﴾.
      سورة ص (٣۸)، الآية ٦٢ و٦٣: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ﴾.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

6
  • فإذا وجدت حالًا في وقت من الأوقات، حال توجّهٍ أو حال عبادةٍ، أو حال ندبةٍ، أو حال خلوصٍ، فحافظ على تلك الحال جيّدًا، واحترمها ولا تدعها ترحل. والمحافظة عليها تكون بالمراقبة؛ فإذا لم يعص الإنسان، ولم يصدر عنه ترك الأوّلى، ولم يغفل ولم يتوجّه إلى غير الله، ستبقى له تلك الحال وستُصبح ملكةً بالتدريج. ولكن ما إن يغفل حتّى تزول؛ وحتّى لو سعيت خلفها دائمًا، فإنّك لن تحوز عليها مُجدّدًا! فقد مضت ميليون عامٍ ورحلت ولن تحصل عليها بعد الآن! فهذا هو الكفر بعد المعرفة؛ «فلا تكفر بعد أن عرفتني!» فإذا حصّلت تلك الدرجة من المعرفة واحترمتها، فسوف يمنحك الله درجةً أخرى أعلى؛ لأنّه:

  • ﴿لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ﴾؛۱ أي: يسلبكم تلك النعمة.

  • فالنعمة لا تنحصر بالخبز والشعير وحساء اللحم، بل هذه الحالات التي يمنحها الله هي نعمة. وشكرها يكون بالمحافظة عليها وبمداراتها بها كي لا تخترق ولا تسوّد ولا تصاب بأيّ خلل، ولا تُعرضها لأهل الدنيا، وإلّا بمجرّد أنّ تتعامل مع أهل الدنيا، يسلبونك تلك الحال! لأنّ أهل الدنيا يمتلكون نفسًا سوداء ملوثة كغول الصحراء، وما إن تتعاملوا معهم وتمنحوهم القلب وتمّدوا مائدة القلب لهم يلقون بأفكارهم الشيطانيّة في قلبكم مِن حيثُ أنكم لا تَشعرون. تجلسون لساعة وتجتمعون وتعقدون جلسةً وتضحكون، ولكن عندما تقومون تجدون أنّكم سُود وثقال؛ تريدون أن تعبدوا فلا حال للعبادة لديكم؛ تريدون أن تذكروا الله ولا حال للذكر لديكم؛ تذهبون لتقرؤوا القرآن ولكن ترون أنّكم أصلًا لا تستطيعون أن تقرؤوا القرآن؛ فماذا حصل؟ وما البلاء الذي حلّ على رؤوسنا؟! والإنسان نفسه لا يعلم! هذا معنى أن تمنح قلبك؛ فهذا الشخص لم يستقبل هؤلاء الضيوف ولم يُرحّب بهم.

  • المراقبة هي الركن الأساسي في السير والسلوك

  • لذلك يقولون: إنَّ المراقبة هي أسّ وأصل درجات الطريق، فإذا كانت مراقبة الإنسان جيّدةً ترقّى وإذا لم تكن مراقبته جيّدةً فمهما عمل ضاع عمله، فالمراقبة هي بحكم الوقاية للمريض. فإذا لم يتوقَ المريض الذي يتناول الدواء، فسيقول الطبيب له: «يا سيّدي كفّ يدك، فيكفي ما أكلت!» وإذا لم تتوقَ، فمن الممكن

    1. سورة إبراهيم (۱٤)، الآية ۷.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

7
  • أن يمتزج ذلك الدواء وذلك الغذاء الذي لم تجتنبه ويتفاعلان معًا ويقتلان المريض، فهذا الدواء إنّما يكون حسنًا حين لا تتواجد تلك الموانع وذلك الغذاء المضادّ للمرض والمضادّ لهذا الدواء، الوقاية تعني إخلاء المعدة مما هو مضادّ لهذا المرض، فالدواء يعطي مفعوله عندما تكون المعدة نظيفة. والمراقبة لها حكم الوقاية،

  • فالمراقبة تعني: أن يُركّز الإنسان ويستجمع حواسه ولا يعطي قلبه لغير الله، فلا يعصي ولا يتوجّه لغير الله ويطأطأ رأسه إلى الأسفل مهتمًا بسبيله فقط دون أن ينظر إلى هذه الناحية أو تلك؛ فالنظر هنا وهناك، يجلب الخواطر إلى الذهن وهذه الخاطرة تترك أثرًا، فيقوم القلب باتباع تلك الخاطرة ويفكّر. فترى اليوم مشهدًا، فتراه في منامك غدًا؛ لماذا يرى الإنسان ذلك المشهد ويحلم به؟! لو فكّر في الله فسيحلم بالله في المنام؛ وأمثال ذلك.

  • فالمراقبة مثل الحفظ، فعندما تحفظ ترتقي درجة أعلى وأعلى وأعلى إلى أن تصل إلى حيث ينبغي أن تصل.۱

  • شدّة عذاب العالم الكافر وعقوبته مقارنةً بالجاهل غير المطلّع

  • «فلا تَكفُر بي بَعد المعرفة، فلا تكونَنّ مِن الجاهلين»؛ فأنتَ إذا كفرت بعد أن اكتسبت المعرفة أصبحت جاهلًا، فلا تكوننّ من الجاهلين!

  • والجاهل يقع في قبال العالم والعارف؛ فذلك الذي يفهم يمتلك معرفة، وذلك الذي لا يمتلك معرفة فهو جاهلٌ. أحيانًا يكون الإنسان جاهلًا منذ البداية؛ ولكنّه أحيانًا أخرى يُصبح جاهلًا بعد المعرفة، وهذا عذابه أشدّ. لذلك ورد لدينا في الروايات أنَّ الله العليّ الأعلى يُعذّب يوم القيامة العلماء غير العاملين أكثر من جهّال الأمّة أضعافًا مضاعفةً؛٢ لانَّ الجاهل لا علم له ابتداءً وأمّا العالم غير العامل فكان عالمًا جاهلًا، وبعد العلم وألقى بنفسه في الجهل في مقام العمل.

  • «فلا تكونَنّ مِن الجاهلين؛ فإنّ الشّيء يكون مَع الشّيء»؛

  • إذا عرفتني ولم ترجع، فقد حصل لك معيّةٌ معي، أي سنصبح أنا وأنت واحدًا، وأمّا إذا أصبحت جاهلًا بعد المعرفة، فسوف تكون لك معيّة مع الجاهلين وستصبح أنت الجهّال واحدًا؛ والجاهل شيطانٌ، فقد أصبح أنت والشيطان واحدًا، وستكون لك معيّة مع الشيطان. ولكن إذا نلت المعرفة بالله فسيكون لك معيّةٌ مع الله.

    1. لمزيد من الاطلاع حول أهميّة المراقبة في السير والسلوك إلى الله، راجع: رسالة لبّ اللّباب، ص ٣۰ و ۱۱٣؛ آیین رستگاری [= سبيل الفلاح]، ص ۱٥٥.
    2. راجع: الكافي، ج ۱، ص ٤٤ و٤٥ و٤۷.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

8
  • قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡ﴾؛۱

  • كيفية اتحاد الموجودات ومعيّتها الإدراكيّة مع الله

  • وهذه المعيّة هي معيّة الله مع الموجودات. ولكن هل لهذه الموجودات معيّة مع الله؟ بالطبع لديها، ولكنّها معيّة تكوينيّة، وليست معيّة إدراكيّة بحيث يدركون أنّهم والله واحدٌ؛ وهذه المعيّة تحصل نتيجةً للمعرفة، وهذه المعيّة هي إحدى خواص الموجودات أصلًا. فمن خصوصيّات كلّ موجودٍ أنّه عند عزل جهة ما به الامتياز وعند وضع خصائصه الفرديّة جانبًا، تحصل له المعيّة.

  • فزيد وعمرو موجودان؛ ولزيدٍ هذا الشكل ولعمروٍ ذلك الشكل، فزيد طويلٌ وعمروٌ قصيرٌ، بشرة زيدٍ بيضاء أمّا بشرة عمروٌ فسوداء، لسان زيدٍ عربيٌّ أمّا لسان عمرو فأعجميٌّ؛ فإذا زالت هذه الخصائص، فهل يمكنك أن تقولوا: إنّ زيدًا وعمْراً شخصان؟! فإنَّ زيدًا وعمْراً فردان مختلفان بسبب اختلاف مشخّصاتهما، وعندما تزول المشخّصات لم يعد للثنائية وجودٌ بعد ذلك. فإذا تم نزع آثار التشخّص وخصائصه في الموجودين، فلن يعودا اثنين.

  • مثلًا سلمان والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ للنبيّ إرادةٌ ومعرفةٌ وأمنيةٌ وسبيلٌ ونهجٌ ومبدأٌ ومعادٌ وهو في عالمٍ آخر، وإذا كان لسلمان مثل هذه الخصائص كان مُغايرًا للنبيّ وليس لديه معيّةٌ مع النبيّ؛ إلّا أنّ سلمان قد أتى إلى النبيّ، وقال لفظًا وعملًا وقلبًا: يا رسول الله، أنا لا شيء! لا إرادة لديّ ولا اختيار؛ الحكم ما حكمتَ والأمر ما أمرتَ! فأخبرني: أين الذهاب، ومتى أنام، وما الشغل الذي يجب أن أختاره، وما العبادة التي ينبغي أن أقوم بها، ومتى أقاتل، ومتى أصالح، وأي أنواع الحجّ أؤدّي، فأنا لا رأي أو نقاش لي في ذلك! فإذا قلتَ لي: طُف حول الكعبة سبع مرات؛ فلن أقول: لماذا سبعة أشواط؟ وإن قلتَ لي: هرول في المسافة الفاصلة بين الصفا والمروة! فسأقول: حاضر، فلا إرادة لي، وإرادتي هي إرادتك. لذا حصلت له معيّةٌ مع رسول الله. هذه هي مجرّد عبارة نردّدها، ولكن ماذا تعني؟ معناها أنّه اتّحد مع رسول الله؛ هناك جسدان ولكن الروح واحدة.

  • أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا***نحنُ روحانِ حلَلنا بَدَنا٢ 
    1. سورة الحديد (٥۷)، الآية ٤.
    2. ديوان الحلاّج، ص ۱٥۸.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

9
  • (يعني: أنا الشخص الذي أهواه، وكذلك الشخص الذي أهواه هو أنا، فأنا لا شيء، ولست اثنان، أنا واحدٌ!

  • لذلك تظهر آثار الوحدة بين الاثنين؛ فإذا سُرَّ النبيّ يومًا، سُرّ سلمان وهو في منزله، وعندما يحزن النبيّ يحزن سلمان أيضًا وهو في منزله.

  • «شيعَتُنا منّا، خُلِقوا من فاضلِ طينَتِنا وعُجِنوا بماء وِلايتِنا، [ومن آثارهم أنَّهم] يحزَنونَ لحزنِنا و يَفرحون لفَرَحِنا»۱.

  • وهذا هو لازم المعيّة.

  • ولقد أحسن شاعرٌ في تشبيه هذا الأمر ـ ولكن لم أصل إلى من يعود أصل هذا الشعر؛ إلّا إنَّ المرحوم صدر المتألهين استشهد به في الأسفار ولكن لم يذكر لمن يعود الشعر؛ ولكن أيّاً كان القائل، فقد أحسن التشبيه ـ حيث قال:

  • رَقَّ الزُّجاج ورقّتِ الخَمرُ***فَتَشابَها وتَشاكلَ الأمرُ
  • فَكأنّما خَمرٌ ولا قَدَحٌ***فَكأنّما خَمرٌ ولا قَدَحٌ٢
  • فعندما تصبّ هذا الشراب في كأسٍ شفّافٍ ولامعٍ، فإنَّ الكأس شفافٌ وللشراب لونٌ؛ فعندما تنظر فبما أنّ هذا الكأس شفّافٌ إلى درجة أنّه لا يظهر، وكأنّما في الأصل شرابٌ ولا وجود للكأس والوعاء، وكأنّما كأسٌ ولا وجود للشراب. فإنَّ رقة وطهارة ذات الكأس، ورقة ذلك الخمر ولطافته أديا إلى زوال التمايز بين الاثنين. فإذا كان الكأس أسودًا والشراب أصفرًا، أو الشراب كدرًا والكأس شفّافًا، فلا فائدة حينها. فتشبيهه بهذا النحو:

  • «رقّ الزّجاج»؛ فالكأس رقيقٌ وشفّافٌ وخالي من أيّ خطٍّ، «ورَقَّت الخَمرُ»؛ والخمر كان نظيفًا وشفّافًا أيضًا، «فتَشابَها وتَشاكلَ الأمرُ»؛ أي: أصبح الأمر مشكلًا، «فَكأنّما خمرٌ ولا قَدَحٌ»؛ حيث أصبح الأمر كأنّ الموجود هو الشراب، أمّا القدح فأصلًا غير موجودٍ، «وكأنّما قَدَحٌ ولا خمرٌ»؛ أو كأنّ الموجود هو القدح، أمّا الخمر فغير موجودٍ.

  • آثار الإتّحاد والإتّصال الروحي

  • هذا هو معنى اتصال هذين الروحين. فهذان الروحان لطيفان إلى درجة أنَّ جسمانيتهما وتعدّد مادّتهما وتجسّمهما لم تُؤدي إلى تعدّد روحهما وأفكارهما وعقائدهما.

  • فبدن سلمان غير بدن النبيّ، وبدن أويس القرني غير بدن النبيّ، وبدن أمير المؤمنين غير بدن النبيّ؛ ولكن الروح واحدةٌ. فأمير المؤمنين لطيف جدًا إلى درجة أنّه وصل إلى عمق روح النبيّ؛ لأنَّ كلّ شيءٍ لطيف فهو نافذٌ. فالماء لطيفٌ وينفُذ، ولكن إذا وضعت رشة من الملح في الماء فإنَّه لا ينفذ بعد ذلك؛ فالملح مادّةٌ لطيفةٌ أيضًا ولكن ما إن يتم إضافتها إلى الماء، فإنَّ الماء لا يعد نفّاذاً، أمّا الماء بدون ملح فينفذ. إنَّ روح أمير المؤمنين لطيفةٌ وروح النبيّ لطيفةٌ أيضًا، فهذا يُحبُّ ذاك وذاك يُحبُّ هذا؛ وروحه [أمير المؤمنين] تصل إلى روحه [النبيّ]، كما أنّ روحه [النبي] تصل إلى روحه [أمير المؤمنين]، بحيث لا تبقى ثنائية. فمن أحبّ النبيّ أحبّ أمير المؤمنين، ومن أبغض أمير المؤمنين فقد أبغض النبيّ. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله:

    1. بحار الأنوار، ج ٥٣، ص ٣۰٣؛ شجرة الطوبى، للحائري المازندراني، ج ۱، ص ٣.
    2. يرى سماحة العلاّمة الطهراني ـ قدّس الله سرّه ـ في كتابه معرفة الله، ج ٢، ص ٢٣٣، بأنَّ هذين البيتين للصاحب بن عبّاد، وذلك نقلًا عن أعيان الشيعة، ج ۱۱، ص ٣٢۷؛ وريحانة الأدب، ج ۸، ص ٩٣. (المحقّق)

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

10
  • «يا عليّ، لا يُبغِضُك إلّا منافقٌ أو كافرٌ!»۱.

  • يعني: إنَّ من يبغضك هو مبغضٌ لي ومبغضٌ لله، وعدوّك عدوٌّ لله وعدوٌّ لي؛ لأنّنا واحدٌ!

  • لقد انكسر سنّ النبيّ في معركة أحد، وفي نفس ذلك اليوم انكسر سنّ أويس في اليمن! وعندما انكسر سنّه، قال: «لقد انكسر سنّ الرسول!» فقالوا: «كيف علمتَ؟!»، قال: «لقد انكسر سنيّ».٢

  • ارتفعت حرارة مجنون ليلى، وصرخ ونادى! فسألوه: «لماذا تصرخ وتنادي؟» أجاب: «لأنَّ ليلى ارتفعت حرارتها». فقالوا: «أين ليلى وأين أنت؟! فهي في مدينة بعيدة!»، فقال: «لقد ارتفعت حرارتي لأنَّ حرارتها ارتفعت، ولا ترتفع حرارتي ما لم ترتفع حرارتها!».

  • وهي قصّةٌ معروفةٌ، يقول الملا الرومي: مرض مجنون وأحضروا له الأطباء وقالوا: «عليك أن تشقَّ عِرقًا وتفصد الدمّ [كي تتحسّن]». فتجمّعوا حول سريره، وأمسكوا بعرق الفصد ورفعوا له الأكمام كي يفصدوه، وما إن أراد أن يفصدوه بالموسي، ولم يكن الطبيب قد وضعه بعد حتّى صرخ ونادى وقال: «آه إنّي أتألم! آه إنّي أتألم! آه لا تقطعه لا تقطعه!» فتعجب النّاس وقالوا: «ماذا حصل؟! لم يمسّك الموسي بعد، وبدأت تصرخ؟! إنّك مجنونٌ وقدرة تحمّلك عاليةٌ، ولديك مصائب وبلايا، وأنت مُبتلى بعشق ليلى، وقد سُحِقت تحت جبال الهجر؛ أتفرُّ من الموسي؟!»، فقال: «لا! إنَّ لبدني قدرة التحمّل، ولو قطعتموه بالساطور قطعةً قطعةً فلن أشعر بالألم؛ ولكن أخاف إن فصدتموني هنا بالموسي، أن يصل إلى ذراع ليلى وتسيل منه الدماء!».

  • ترسم ای فصّاد اگر فصدم کنی***نیشتر را بر رگ لیلی زنی
  • [يقول: أخشى أنّ الفصّاد إذا فصدني، قطع عروق ليلى].

  • من کی‌ام؟ لیلی و لیلی کیست؟ من!***ما یکی روحیم اندر دو بدن
  • [يقول: من أكون أنا؟ ليلى؟ وليس من تكون؟ أنا؟ نحن روحٌ واحدةٌ في بدنين]. ٣

  • وهذا الأمر واقعيٌّ، وهو موجود في العشق المجازي حتمًا، ولا مجال للشبهة والشكّ في ذلك! والأمر كذلك في الأمور الماديّة؛ فإذا أرت أن أشرح لكم عن علم الكيمياء واختلاف الأدوية وامتزاجها، فسوف يقول جناب الطبيب: هذا المجال ليس من حقّك [بل دعني أنا أبيّن لهم ذلك]! أو مثلًا: في الطبيعيات والفيزياء حيث توجد قصصٌ وحول الموجات والأنوار، وعالم الطبيعة قائمٌ على هذه السنّة أصلًا.

    1. الأمالي، للشيخ الطوسي، ص ٤۷٢.
    2. تذکرة الأولیاء، ص ٢۰؛ تاریخ گزیده [= التاريخ المنتخب]، لحمد الله المستوفي، ص ٦٣۰؛ مع اختلافٍ يسيرٍ في المصادر.
    3. مثنوي معنوي، طبع میرخاني، الدفتر الخامس، ص ٤۷٢.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

11
  • تأثير الحبّ في ايجاد المعيّة والاتحاد الروحيّ

  • والآن لنرى ما الخبر فيما يتعلّق بالأرواح! قال النبيّ في جملة مختصرةٍ: «المَرءُ مع مَن أحَبَّ، وله ما اكتَسَب». وراوي هذه الرواية هو أمير المؤمنين عليه السلام، وقد رواها للحارث بن الأعوَر الهمداني. (لا تقولوا: هَمِدان؛ هَمْدان قبيلةٌ من العرب وهي قبيلةٌ جيّدةٌ وكلّهم من المؤمنين والشيعة. وقد قال الإمام: [شعر:]

  • وَلَوْ كُنْتُ بَوَّاباً عَلَى بَابِ جَنَّةٍ***لَقُلْتُ لِهَمْدَانَ ادْخُلِي بِسَلَام۱
  • وهذا ما سيحصل؛ لأنَّ بواب الجنّة ليس إلّا علي عليه السلام! وهذه عبارة مرويّةٌ عن أمير المؤمنين عليه السلام، وجميعهم سيدخلون الجنّة بدون حساب). قال الإمام عليه السلام للحارث بن الأعور الهمداني:

  • یا حارُ هَمدان مَن يمُت يَرَني***مِن مُؤمِنٍ أو مُنافِقٍ قبلاً ٢
  • يعني: «يا حارث، اعلم أنّ كلّ من يَرحل عن هذه الدنيا، فسيلتقي بي!».

  • ثمّ يشرح قائلًا:

  • فأنا أشير إلى النار مَن تأخذ ومن تترك، وأقول للجنّة من تُدخل!

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام للحارث في هذه الرواية:

  • قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «المَرءُ مع من أحَبَّ، وله ما اكتَسَبَ»؛٣ فالإنسان له معيّةٌ مع من محبوبه ويتّحد معه، وكل ما يكتسبه وكل عمله يقوم به فهو من أجل ذلك الشخص.

  • يعني: له معيّة مع من أحبّ؛ له معيّة، والمعيّة تعني: أن يكونا واحدًا. وهذه العبارات عجيبةٌ جدًّا!

  • وقد روى جابر بن عبد الله الانصاري عن النبيّ، وقال:

  • سمعت رسول الله يقول: «مَن أحَبَّ قومًا حُشِرَ معهم ومن أحبَّ عملَ قومٍ أُشرِك في عملِهم»٤.

  • لذلك تؤكد الآيات القرآنية على: اجتناب اليهود والنصارى؛ لأنَّ من يحبّهم يكن منهم!٥

  • فمن يتبع آداب الكفر وعاداتهم، فيصبح لباسه لباس أهل الكفر، ومنزله منزل الكفر، ولباس امرأته لباس كفر، فهو يهوديٌّ ونصرانيٌّ. فاليهوديّة والنصرانيّة ليست سوى ذلك! فمن أحبهم هو منهم؛ أما من أحبّ النبيّ، صار منه؛ ومن أحبّ أمير المؤمنين صار منه؛ ومن أحب سيّد الشهداء صار منه!

  • «يا لَيتَنا كنّا مَعَك»؛٦فالمعيّة مع سيّد الشهداء هي معيّةُ روحٍ، وإذا صدق الإنسان القول، فإنَّه سيحوز على المعيّة؛ ولكن ليس بأن يكون موجودًا في يوم عاشوراء. فمن الممكن أن يكون البعض حاضرين في يوم عاشوراء إلّا أنَّهم لم يكونوا مع سيّد الشهداء. ألم يكن ذلك الجيش الواقف في قبال سيّد الشهداء من المسلمين؟! كانوا بأجمعهم من المسلمين، ولكن لم يكن لهم معيّةٌ. بينما لم يكن البعض حاضرًا، ومع ذلك كان لهم معيّةٌ. وفي كلّ زمانٍ الأمر على هذا النحو، فمن الممكن أن تكون المعيّة روحيّةٌ ولكن ليست معيّةً جسميّةً؛ «المرءُ مع مَن أحبَّ».

    1. وقعة صفّين، ص ٤٣۷.
    2. هذا الشعر للسيّد الحِميري وهو مُتضمّنٌ لكلام أمير المؤمنين عليه السلام لحارث الهمداني؛ راجع: الأمالي، الشيخ المفيد، ص ۷. (المحقّق)
    3. الأمالي، للشيخ الطوسي، ص ٦٣٢؛ الأمالي، للشيخ المفيد، ص ٣ ـ ۷ و ۱٣۱؛ مع اختلافٍ يسيرٍ في المصادر.
    4. بشارة المصطفى، ص ۷٥.
    5. سورة المائدة (٥)، الآية ٥۱: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡ﴾؛ وكذلك راجع سورة آل عمران (٣)، الآية ٢۸؛ وسورة نساء (٤)، الآية ۸٩ و۱٣٩ و۱٤٤؛ وسورة المائدة (٥)، الآية ٥۷.
    6. كامل الزيارات، ص ٢٣۷.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

12
  • ای برادر تو همان اندیشه‌ای***ما بقی تو استخوان و ریشه‌ای
  • [يقول: يا أخي ما أنت إلّا فكرك، وما تبقّى فهو العظام والجلد]

  • گر بوَد اندیشه‌ات گُل، گلشنی***گر تو خاری و هیمه گلخنی 
  • [يقول: فإذا كان تفكيرك وردًا فأنت مزهريّةٌ، وإن كان شوكًا فأنت بيت زهور محترقٍ]. ۱

  • فلا يُمثّل الإنسان بدنه، ولا خلايا بدنه ولا جريان دمّه؛ بل شخصيّة الإنسان بأفكاره فقط، فإذا كانت أفكاره طاهرةً كان طاهرًا، وإذا كانت نجسةً كان نجسًا؛ وإذا كانت أفكاره مع النبيّ، فهو نبيّ، يعني: له معيّةٌ مع النبيّ، وإذا كانت مع الشيطان، فهو شيطان!

  • «فلا تكونَنَّ مِن الجاهلينَ، فإنّ الشّيءَ یكونُ مع الشّيء»؛ يعني: بعد المعرفة لا تنحرف عني، وإلّا تكن مع الجاهلين ومع الشيطان ويكون لك معيّةٌ مع الشيطان؛ لأنَّ الشيء يكون مع الشيء.

  • قال رسول ‌الله صلى الله عليه وآله وسلّم:

  • «مَن أحَبَّ حَجَرًا حشَرهُ الله معه»؛٢ يعني: من أحب قطعة حجرٍ فإنَّ الله سيحشره مع قطعة الحجر هذه!

  • تخيلوا يوم القيامة في أفكاركم وانظروا إلى الأفراد الذين سيُحشرون في يوم القيامة، مع ماذا سيُحشرون؟ أحدهم سيحشر مع جرو كلبه، لأنَّه يُحبّه؛ وأحدهم سيحشر مع قطة المنزل؛ لأنَّه يحبها، والآخر يُحبّ امرأةً زانيةً وسيحشر معها يوم القيامة؛ وأحدهم يحب السرقة فسيحشر يوم القيامة مع عمل السرقة؛ وأحدهم مع ببغاء منزله، والآخر مع ديكور منزله، وأحدهم مع سيارته، والآخر مع بقرته، وأحدهم مع حسابه المصرفي، والآخر مع زوجته، وأحدهم مع أمير المؤمنين، والآخر مع النبيّ إبراهيم، وأحدهم مع الشيطان، والآخر مع عمر و... . فإنَّ الله العليّ الأعلى عادلٌ ومنحنا الاختيار: اتّبع من شئتَ؛ فإذا شئت اتّبع عمر، وستحشر معه!

  • سنّى که روز حشر شفيعش عمر بوَد***کوری عصا کش کور دگر بود
  • [يقول: إذا جاء يوم الحشر فسوف يكون عُمر شفيع السنّي، إنّ الأعمى يجرّ يد الأعمى]

  • وحيثما كان التحق به في مقامه وفي تلك الدركات [السفلى من النّار]؛ فمباركٌ عليك! إذا كنت تريد أن تحشر مع علي عليه السلام، فهذا هو السبيل، والطريق جليٌّ. وقد منحنا الاختيار وواقعًا هذا الأمر مهمٌّ جدًا، فللإنسان كافّة الخيارات. فالإنسان جالسٌ هنا، ولكن جميع العوالم مفتوحة للإنسان؛ عوالم الجنّ والشيطان والملكوت والأنبياء والرسل والإيمان والكفر و... جميعها مفتوحة ويقولون: «اذهب حيثما شئت منها!».

    1. مثنوي معنوي، الدفتر الثاني، ص ۱٩٢.
    2. الأمالي، للشيخ الصدوق، ص ۱٢٩ و٢۰٩، مع أدنى تفاوت.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

13
  • هذا سلك تلغراف وسلك هاتف! خذ رقم السيّد وهاتفه، سيلتقط همدان، وسيلتقط كرمانشاه، وسيلتقط شيراز، وسيلتقط هذا الطرف وذاك، فالتفت سريعًا! فإذا كنت ملتفتًا الآن إلى أمير المؤمنين، فإنَّ صورة أمير المؤمنين ستملأ ذهنك، وإذا التفت إلى سيّد الشهداء، فإنَّ صورة سيّد الشهداء ستملأ ذهنك، وإذا التفت للنبيّ فإنَّ صورة النبيّ ستملأ ذهنك، وإذا التفت إلى الله فإنَّ صورة الله ستملأ ذهنك، وستكون لك معيّةٌ معهم.

  • هداية الرسول الباطنيّة في سبيل الفناء في الله بواسطة المعيّة مع الأنوار الطيّبة والطاهرة للمعصومين عليهم السّلام

  • لصدر المتألهين ـ رحمه الله ـ في الأسفار بحثٌ مهمٌّ جدًا، يقول: «النفس الإنسانيّة، هيولانيّة»۱. يعني: النفس الإنسانيّة ذات استعدادٍ وقوّةٍ قابلة للتغيير والتشكّل بأيّ شكلٍ كان. فيُمكن للإنسان أن يُربّي هذه النفس بحيث تصبح شيطانيّةً، كما يُمكن أن يُربّيها على صفة الحيوان فتصبح هذه النفس ذئبًا، وواقعًا تصبح نفس الإنسان ذئبًا، ومن الممكن أن تصبح نفس الإنسان خنزيرًا واقعًا، أو أسدًا، أو نمرًا، أو ملائكة واقعًا و... .

  • ولكن ما هو الصلاح؟ ومع ماذا يكون للإنسان معيّة؟ ففي نهاية المطاف هذا هو حقيقة الأمر، فقد وضعوا القِدْر ويريدون أن يطبخوا فيه شيئًا، ولا مجاملة في هذا الموضوع. لقد خُلقت نفسنا، وأصبح لها قابلية المعيّة والاتحاد الروحيّ، والآن ما الذي يريد هذا الإنسان أن يخلط نفسه معه في ذلك القدر؟ يخلط نفسه مع نفس الشيطان فقد أضر بنفسه، يخلط نفسه مع أتباع إبليس والشيطان فقد أضرّ بنفسه؛ لأنَّه هناك الكدورة والقذارة والنجاسة والتلف، والظلمة والتعب وعدم الراحة وهذا ما يلمسه الإنسان بالوجدان.

  • وجميعنا عندما نلتفت ولو بمقدارٍ ما، كأن نزور ونبكي أو نؤدّي الصلاة مع الخلوص؛ ألا تظهر عندها حالةٌ من الخفّة والرشاقة والنشاط؟! لا يمكننا إنكار ذلك! ولكن إذا كذّبنا يومًا، أو عصينا أو سرقنا أو قمنا بخيانةٍ؛ ألا نلاحظ ثقلًا في أنفسنا؟ إذا قلتم: لا نُلاحظ ذلك، فهذا كذب؛ لأنّنا نرى ذلك بالوجدان! فإنَّ الله العليّ الأعلى الذي أرشدنا إلى هذه السبل وحتّى إلى هذا الرسول الظاهر والقرآن الظاهر، وضع لنا في الباطن رسولًا باطنيّاً وقرآنًا باطنيّاً وقوّةً مميّزةً تُمكّننا من تمييز الحقائق كلّها عن الأباطيل، والنور عن الظلمة. وبناءً على ذلك، فالصلاح هو أن تكون للإنسان معيّةٌ مع هذه الأنوار الطيبة والطاهرة، وأن يتحرّك في طرق النور وأن تكون له معيّةٌ مع الله.

    1. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج ٣، ص ٤٢۸؛ ج ٥، ص ٣۰٤؛ ج ۸، ص ۸ ـ ٢٣.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

14
  • «فلا تَكفُر بي بَعد المعرفة، فلا تكونَنَّ مِن الجاهلينَ، فإنّ الشّيءَ یكونُ مع الشّيء [أي: محبوبه]».

  • فإذا كنت من الجاهلين، أصبح لك معيّةٌ مع الجاهلين، وإذا لم تكفر من بعد المعرفة فستكون لك معيّة معي.

  • «مَن كان لِلّهِ كان اللَهُ له».۱

  • وحدة اختيار الإنسان وإرادته مع الله بواسطة المعيّة

  • لعبارة «كان الله له» معنىً عظيم؛ يعني: لقد وضع معه جميع خياراته؛ وبالطبع ليس هذا هو المعنى فتعالى الله أن يودع اختياره بيده! ولكن ماذا نصنع، فليس لدينا تعبير أفضل! «كان الله له» يعني: عندما يكون لديك طفلٌ وترى أنَّ هذا الطفل مؤدّبٌ جدًا وعاقلٌ ومتنبهٌ جدًا ويتبعك ويحترمك ويخدمك ويضع نفسه تحت تصرّفك، فأنت تدع حياتك وإرادتك مقابله! فيقول: «يا سيّدي، تعال اليوم إلى هنا»، فتجيب: «حاضر!». يقول: «لا تحضر اليوم إلى هنا»، تجيب: «حاضر!». يقول: «سنذهب اليوم لزيارة الشاه عبد العظيم»، تجيب: «حاضر!»، فأنت لم تعد ترى أيّ اختيارٍ فيه! هذا بسبب المعيّة.

  • أما الطفل الذي يقف في وجهك، وأنت تقف في وجهه أيضًا؛ فهو يشدّك ناحيته وأنت تشدّه ناحيتك؛ وتبعده عن طريقك. فهذا هو لازم المعيّة وعدم المعيّة.

  • حقيقة الفناء في الله

  • إنَّ المعيّة التي تحصل للإنسان مع الله ليست معيّة شيئين أصبحا شيئًا واحدًا، بل يجب أن يفنى أحدهما. وليس الأمر أنَّ الموجودات شيء على حدّة والله شيء آخر على حدة؛ حتى ينبغي للإنسان أن يمزج هذين الإثنين ويخلطهما؛ بل إنَّ الموجودات بأسرها مظاهر الله وظهور الله ونور الله وتجلّي الله، لا أنّه لها وجودٌ في قبال الله. فإذا تجلى هذا النور واعترف أنّني لستُ موجودًا بل أنت الوجود، وترقّى هذا الاعتراف وخرج من مرحلة علم اليقين إلى مرحلة عين اليقين ثمَّ وصل إلى مرحلة حقّ اليقين وأصبح هذا الاعتراف وجدان الإنسان بأنَّه غير موجودٍ والله هو الموجود، الإنسان غير عالم والله هو العالم، الإنسان غير قادر والله هو القادر، الإنسان ليس حكيمًا ولا مدبّرًا والله هو الحكيم المدبّر، وكل شيء هو الله، هنا تظهر المعيّة؛ والمعيّة التي ظهرت لا تعني أنَّ هذا مع ذاك كانا شيئين فأصبحا شيئًا واحدًا، بل هذا فانٍ فيه. الكلام كلّ الكلام عن الفناء، وسبيل العرفان والسلوك هو سبيل الفناء؛ يعني: الاعتراف بالعدم والاعتراف أنَّه في عالم الوجود وجودٌ واحدٌ وهو ذات الله المقدّسة، وأنّ أسماء الله وصفاته الكليّة والجزئيّة ملأت جميع الموجودات.

    1. إحياء علوم الدّين، ج ٣، جزء ۸، ص ٣٣؛ كشف الأسرار، للميبدي، ج ۱، ص ٥٦٣؛ بحار الأنوار، ج ۷٩، ص ۱٩۷.

ضرورة المراقبة في طريق العرفان من أجل الوصول إلى مقام الفناء في الله - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۲)

15
  • نسأل الله ببركته وببركة أولياء الله والأئمّة الطاهرين والأنبياء الذين أرسلهم الله العليّ الأعلى لهداية البشر، أنَّ يجعل قلوبنا أكثر إلتفاتًا إليهم عمّا كانت عليه، وأن يجعل أرواحنا ذات معيّةٍ معهم، وأن لا يجعل لأرواحنا معيّةً مع أرواح الشياطين والأبالسة والمتكبّرين والمستكبرين والمغرورين؛ فوا ويلاه لو أصبحت لنا معيّة معهم، ويا لسوء حالنا إذا أصبحت لنا معيّة معهم! وليجعل الله العليّ الأعلى لأرواحنا معيّة مع الأطهار الموجودين عند عتبته، ومع الأنبياء والسيّدة الزهراء وأمير المؤمنين والأئمّة الأطهار والقائم عليهم السلام أجمعين؛ فكلّ معيّة لنا معهم هي أمرٌ مباركٌ، وكلّما ترقينا كانت هناك السعادة والسرور والبهجة والنور والخفة والنشاط. ولكن كلّما كانت المعيّة من هذا الطرف، فهي أغلال وسلاسل وأصفاد وسرابيل القطران والحميم والحديد وأمثال ذلك؛ ونحن لا طاقة لنا بهذه الأمور حقيقةً، وعلينا أن نكل أنفسنا إلى الله وأن نقول: إلهي، لقد أوكلنا أنفسنا إليك، فافعل أنت ذلك، وامنحنا المعيّة معهم في كافة العوالم، فإذا زلّت أقدامنا أحيانًا، وكَلَّ فكرنا فإن شاء الله بواسطة هذه المعيّة يُمسكون بأيدينا ويشفعون لنا ويحملوننا تحت أجنحتهم، وإن شاء الله يُخلّصوننا من الظلمات ومن أهوائنا وأفكارنا!

  •  

  • اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد