المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
في هذه المحاضرة المخصّصة لاستعراض بعض مباني السير والسلوك، والتي ألقاها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمد محسن الطهراني قدس سره تعالى على النساء بقمّ المقدّسة، تطرّق سماحته للنقاط التالية:
محدوديّة القوانين الوضعيّة بالقياس مع القوانين الإلهيّة. لا فرق عند الله تعالى بين الذكر والأنثى. عدم اختصاص مراتب الكمال بالرجال. أهمّية فريضة الحجّ في الشريعة الإسلاميّة وبيان معنى الاستطاعة فيها سقوط الحجّ عن المرأة التي يُضرّ سفرها بطفلها المهمّ في السلوك هو العمل بما يُوافق إرادة الله تعالى. اختلاف الرجل والمرأة في طريق السلوك واتّحادهما في النتيجة. نهج العلاّمة رضوان الله عليه في إقامة مجالس أهل البيت عليهم السلام طبيعة ملابس النساء في الأعراس.. و جدير بالذكر أن هذه المحاضرة مترجمة عن محاضرة ألقاها سماحة السيد في جمع من الأخوات المؤمنات في مدينة قم المقدّسة تحت عنوان (مبانی سیر و سلوک الی الله بانوان(قم) – جلسه 8).
هو العليم
سلوك المرأة والرجل بين الاتّفاق والافتراق
المرأة والأسرة - قم - الجلسة الثامنة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
تقدّم الحديث في المجالس السابقة عن كيفيّة سلوك النساء واختلافه عن كيفيّة سلوك الرجال في انطباقه على المصاديق؛ وهنا يتكرّر السؤال كثيرًا عن سبب وجود مثل هذا الاختلاف، ولماذا يكون الله قد يسَّر هذا السلوك على الرجال؛ وذلك بتقليص القيود المفروضة عليهم مقارنةً بما هو مفروض على النساء، من خلال جعل دائرة اختيار الرجل أوسع من دائرة اختيار المرأة؛ وبالتالي أفضليته عليها.
محدوديّة القوانين الوضعيّة بالقياس مع القوانين الإلهيّة
ونظرًا لغياب الإدراك الصحيح لحقيقة الأمر، نرى بعض المجتمعات تبتكر حلولاً من عندها لهذه المسألة، وكأنَّهم يقومون بعملهم هذا باستحداث شريعة جديدة ذات قوانين ونظريّات مبتكرة في قبال الشرائع الإلهية من أجل تطييب خاطر النساء؛ فهم يُصوّرون المسألة وكأنّ هناك ظلمًا قد حلّ على النساء ــ والعياذ بالله ــ، فلا بدّ من وضع قوانين جديدة لرفع ذلك الظلم عنهنّ.
إنَّ كلّ ذلك ناشئ من الظنّ الخاطئ والتفكير الأجوف لبعض الجهلة غير المطّلعين على حقائق عالم الوجود، وغير العالمين بعلل القوانين والشرائع وأسبابها المرتبطة بهذا الأمر؛ فهم يظنّون بأنَّ سنَّ القوانين الإلهيّة يتمّ بنفس الكيفيّة التي يجري فيها تدوين القوانين الوضعيّة المبنيّة على الفكر المحدود والتفكير غير الناضج؛ فيقومون بعد فترة من الزمان [وذلك بعد أن يعثروا على الخلل فيها]بتعديلها، وجبران ما فيها من نقائص من خلال سنِّ قوانين جديدة.
نعم، إنَّ مثل هذا الأمر يصدق على طبيعة أفكار البشر العاديّين الذين لم يصلوا إلى مقام العصمة الفكريّة، ولم يرتبطوا بحقيقة عالم الغيب؛ فأفكار هؤلاء تكون في حالٍ تبدّل مستمرّ، وهذا أمر طبيعيّ بالنسبة لهذا النمط من الناس.
ولهذا السبب كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يرى في أحد كتبه بأنَّ الأصل والمحور في الحكومة الإسلاميّة هو الارتباط بعالم الغيب، فهو يُثبت هناك بأنَّ الحاكم الإسلامي ينبغي أن يكون مرتبطًا بعالم الغيب؛ علاوة على امتلاكه للفكر البشري الذي اكتسبه من خلال التجربة المتراكمة عنده، وعن طريق التعلّم والمطالعة والتدبّر في الفنون الاجتماعيّة المختلفة واللازمة له في هذا المجال، فحصل عنده من مجموع ذلك رأس مال يستفيد منه في تدبير أمور الدولة؛ فعلاوة على ذلك، لا بدَّ من أن تكون نفسه وروحه وسرّه.. جميعها متّصلة بمنبع عالم الوجود، وأن يكون قد حاز المقام الذي يمكن أن تتنزَّل فيه الحقائق على قلبه من مصدرها بصورة مباشرة وبدون أيّة واسطة؛ فهذا النوع من الرجال هم وحدهم من يمكنهم أن يكونون مصونين من الوقوع في الخطأ، وفي مأمن من هذا الخطر.
أمّا ما سوى هذا الصنف من الناس، فقد يقوم أحدهم بالقيام بعملٍ ما، ثم يتنبّه بعد ذلك إلى أنَّه أخطأ بقيامه بذلك العمل، أو أنَّه كان قد خُدع من قبل الآخرين؛ فيعترف البعض منهم بما وقع فيه من خطأ، بينما لا يعترف البعض الآخر بخطئه؛ فكلّ ذلك يعود إلى محدوديّة خبراتهم العلميّة، ومحدودية منابع أفكارهم، ومحدوديّة جذور رؤيتهم وبصيرتهم.
فإن تعذّر العثور على رجل بهذه المواصفات للتصدّي لأمر الحكومة، فستصل النوبة إلى من هم بدرجاتٍ أدنى، وهذا ممّا يخرج عن محلّ بحثنا؛ ولكن أن نجعل من البداية أساس الحكومة الإسلاميّة متكّئًا على الأصول الظاهريّة وما يحظى برضا عامّة الناس، فهذا ليس إلاّ متابعةً لأفكار الآخرين التي هي أفكار عامّية، وغير ناضجة، وطفوليّة، وغير راجحة في تدبير أمور المجتمع وتكميل النظام الاجتماعي.
لذا، من الطبيعي أن يبعث هذا الموضوع على إثارة الكثير من التساؤلات.
[وللإجابة عن هذه التساؤلات نقول:] إنَّ الله تعالى هو الخالق لجميع بني البشر، فلا فرق لديه بين الرجل والمرأة؛ ونسبة القوى الفاعليّة للرجل والقوى الانفعاليّة لله هو أمر غير صائب، فالله يقول في الآية الكريمة: ﴿أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى﴾۱؛ فلا فرق لدى الله بين الرجل والمرأة؛ إذ هو الخالق لكلا الجنسين، وهو لا ينسب أحد الجنسين إليه بأكثر ممّا ينسب إليه الجنس الآخر؛ فلا يمكن تشبيه أمر الله بتلك الأفكار الجاهليّة الشائعة بيننا، وذلك بأن يكون للولد الذي يُولد في عائلة ما مودّةً تفوق ما تحظى به البنت؛ فجميع هذه الأفكار هي أفكار جاهليّة باطلة، فلا فرق بين الولد والبنت، وكلاهما يُعدُّ نعمة من نِعم الله؛ فلو لم يكن هنالك بنت في العالم، لما وُلد لأحدهم أيّ ولد، ولو لم يكن هنالك ولد، لما وُلدت أيّة بنت؛ فكلاهما من مواهب الله لبني البشر.
لا فرق عند اللـه تعالى بين الذكر والأنثى
من المعروف عن بعض الناس في الزمان السابق بأنَّهم لم يكونوا ليُساعدوا المرأة الحامل ــ تلك المسكينة التي تحمّلت مشقّة حمل جنينها لمدة تسعة أشهر ــ إن وضعت أنثى، حتّى إن كانوا من أقربائها؛ إنَّ ذلك ناشئ عن تلك الأفكار الجاهليّة والأفكار التي كانت سائدةً في القرون الوسطى، وناشئ عن التحجّر العقلي لتلك الأقوام ووحشيّتهم؛ فلا يوجد أيّ فرق بين الولد والبنت، ولا فضل لأحدهما على الآخر، بل إن كان هنالك فضل، فهو إنَّما يعود إلى التفاوت في درجات التقوى بينهما؛ ثم إنَّ الله هو ما فوق الذكورة والأنوثة؛ أي أنَّه لا طريق للذكورة أو الأنوثة في ذات الله؛ فذاته منزّهة عن كلِّ حدٍّ وقيدٍ، والذكورة أو الأنوثة هي عبارة عن تنزّل لأسمائه وصفاته الكلّية على مستوى الأسماء الفاعليّة والانفعاليّة، وجانب القدرة وجانب قبول القدرة، حيث تمثّل الذكورة عند التنزّل إلى هذا العالم جانب القدرة، والأنوثة جانب القبول والتأثّر؛ فبناءً على هذا، فلا وجود لأيّ تمايز بين هذين الجنسين في مقام الذات الإلهيّة.
هذا، وتوجد في الشريعة الإسلامية الكثير من الروايات التي تتصدّى لهذا الموضوع، كما لدينا ما يشير إلى وجود نماذج كثيرة من الكُمّل الذين وصلوا إلى الهدف المنشود من كلا الجنسين؛ فهنالك من حقّق درجات عالية من التقدّم في العلوم الظاهريّة، حيث يوجد لدينا من النساء من وصلنَ إلى درجة الاجتهاد، ومنهنَّ من كان لديها قوى عقليّة وفكريّة عالية، ولديها القدرة على استنباط المسائل الفلسفية؛ وكذلك من حيث القدرة على استنباط الأحكام الفقهية والشرعيّة والتضلّع في مجال المباني والاعتقادات، فهنالك من حاز على مراتب عليا في هذه المجالات منهنَّ.
إنَّه ممّا يؤسف له حقًّا ألاّ نكون نحن الذين نعتبر أنفسنا من أتباع نهج العلم واليقين والإتقان، والهادفين إلى الوصول إلى الحقائق والواقعيّات قد خطونا الخطوات المطلوبة في رشد النساء وتكاملهنّ في مجال العلوم الإسلاميّة، ولم نبذل الوسع المطلوب في ذلك، ولم نهتمّ بهذه المسألة؛ بل قمنا بدلاً عن ذلك بتشجيعهنَّ على تعلّم تلك الفنون والعلوم التي لا تنفع المرأة لا في دنياها ولا في آخرتها، والسعي وراء الأمور الظاهريّة التي يرتضيها العوامّ من الناس ــ هكذا يمكن أن نعبّر عنها ــ، والغفلة عن تلك الحقائق والعلوم الإسلاميّة.
كانت هنالك العديد من بنات العظماء من وصلنَ إلى درجة الاجتهاد، ولم يكنَّ من المقلّدات، كما يوجد في هذه الأزمنة المتأخرّة من النساء النادرات اللاتي حزن على مراتب من الكمال، وذلك واضح من مؤلّفاتهن.
كنت في وقت ما أطالع أحد مؤلّفات تلك السيّدة التي ارتحلت عن الدنيا قبل عدّة سنوات وهي الحاجّة الإصفهانيّة، فوجدت بأنَّ الكثير من الرجال لم يكونوا قادرين على فهم ما طرحتْه من مواضيع في كتابها؛ لقد كانت سيّدة جليلة، وكان المرحوم العلاّمة قد ذكرها في كتاب الروح المجرّد، وأشار إلى اللقاء الذي جرى بينها وبين السيِّد الحدّاد بحضوره؛ فقد كانت على مكانة بحيث طلب السيّد الحدّاد لقائها، ومعلوم بأنَّ تصرّف السيّد الحدّاد لم يكن عشوائيًّا، حيث أعرب عن سروره ورضاه عن ذلك اللقاء.
عدم اختصاص مراتب الكمال بالرجال
إنَّ إمكانيّة الوصول إلى درجات عالية من الكمال غير مختصّ بهذه السيّدة فقط، بل تمتلك جميع النساء تلك المؤهّلات، غير أنَّ الفرق يكمن في استثمار إحداهنَّ لهذا الاستعداد، وعدم استثمار الأخريات له، حيث تراهنَّ يُضيّعنَ أوقاتهنَّ في الذهاب إلى الجامعات من أجل تعلّم تلك العلوم التي لا قيمة لها؛ فلم يُغلق الله تعالى طريق الكمال بوجه أحد من الناس، بل أبقاه مفتوحًا أمام الجميع.
إنَّ الكمال هو عبارة عن اختراق جميع الحجب، وتجاوز الأسماء والصفات الجزئيّة، والعبور منها إلى الأسماء والصفات الكلّية، ثمّ الوصول إلى الذات؛ إنَّ طي تلك المراحل هو أمر متاح لجميع الناس بالسويّة وبدون أيّ استثناء؛ فلا تستطيع أن تعثر في جميع كتب الأديان السماويّة السابقة منها أو اللاحقة ــ والمقصود من الأديان اللاحقة هو الدين الإسلامي المقدّس والذي هو الدين الأبديّ ــ كالتوراة والإنجيل وكتاب الزبور، والذي هو كتاب الدعاء لنبيّ الله داود، والقرآن الكريم على آيةٍ تنصُّ على أنَّ الكمال ـ والذي يعني الوصول إلى المقصد المطلوب ـ هو حِكرٌ على الرجال دون النساء؛ فهل توجد لدينا رواية واحدة عن أئمّتنا تشير إلى اختصاص الكمال بالرجال دون النساء؟
أتذكّر بأنَّني عندما كنت صبيًّا بعمر السبع أو الثمان سنوات، كنت راجعًا في أحد الأيّام من المسجد إلى بيتنا بمعيّة المرحوم العلاّمةً؛ فبينما كنَّا واقفين جنب المسجد ننتظر سيّارة أجرة لتقلّنا، وإذا بسيّارة شخصيّة تتوقّف، ويطلب صاحبها من والدي الصعود؛ فقال له الوالد: «إنّ وجهتنا بعيدة»، فأجابه: «تفضّلوا اصعدوا».
لقد اختلف الأمر اليوم عمّا كان عليه في الماضي، فقد كان هنالك من يتوقّف عندما يرى عالم دين واقفًا ينتظر سيارة لتقلّه؛ وكان يحصل كثيرًا أن يكون المرحوم العلاّمة واقفًا إلى جنب الشارع منتظرًا لسيّارة أجرة، فيتوقّف البعض من أصحاب السيّارات الخاصّة ليُقلّه، وكانوا يُبدون الكثير من الاحترام له، وكان هذا النوع من التعامل يصدر حتّى عن أولئك الذين يحلقون لحاهم ويلبسون ربطة العنق؛ فقد كانوا يوصلوننا إلى باب بيتنا ــ الواقع في منطقة الأحمديّة ــ على الرغم من كون الجزء الأكبر من الشارع المؤدِّي إليه كان ترابيًّا وغير معبّد في ذلك الوقت.
فصعدنا إلى تلك السيّارة، وكان واضحًا بأنَّ صاحبها الذي كان يجلس في المقعد الأمامي إلى جنب السائق، كان يعرف المرحوم العلاّمة؛ فأخذ هذا الرجل بالتحدّث إلى المرحوم العلاّمة، وذكر بعض الرجال من أهل العلم، فذكر اسم أحدهم والذي كان رجلاً طيّبًا، وكان قد ارتحل عن الدنيا في ذلك الوقت، وأخذ ينقل إلى السيِّد العلاّمة بعض ما كان قد سمعه من ذلك العالم، حتّى وصل في حديثه إلى هذا الجزء من الكلام، حيث قال: «كان ذلك العالِم يقول: اشكروا الله على أن خلقكم ذكورًا ولم يخلقكم أناثًا»؛ فاستوقفه المرحوم العلاّمة قائلاً: «أيّ كلامٍ هذا؟» فتعجّب الرجل من ذلك! فقال السيِّد العلاّمة: «إنَّ هذا الكلام غير مقبول، بل الصحيح هو أن نقول: اشكر الله على هذه الكيفيّة التي خلقك عليها».
أي بما أنَّني رجل الآن، فعليّ أن أشكر الله على أن خلقني رجلاً، ولم يخلقني امرأة، وأنت يا أيّتها المرأة، عليك أن تشكري الله على أن خلقك امرأة ولم يخلقك رجلاً؛ فيجب شكر الله على تلك الكيفيّة التي خلقنا عليها فعلاً، لا أن نشكره على أنَّه لم يخلقنا من الجنس الآخر الذي هو على مستوىً أدنىً ممّا نحن عليه؛ فهذا الكلام غير صحيح.
وما يؤاخذ عليه بعض الحكماء من جفائهم لبعض الطوائف يعود إلى الاختلاف في وجهات النظر، والتفاوت في السعة الفكريّة؛ فكون الشخص حكيمًا لا يعني أنّ كل ما يطرحه صحيحًا، فمن قال بمثل هذا الكلام، فكلامه غير صحيح؛ سواء صدر من أحد الحكماء، أو من أحد علماء هذا العصر؛ فمن يقول هذا الكلام [من جفاء بعض الأصناف من الناس] فكلامه خطأ.
فالله تعالى لم يسدّ طريق الكمال أمام أحد من الناس، غير أنَّ لكلّ واحد منهم طريقه المختصُّ به، فلا يقتصر طريق الوصول إلى الكمال على قيام السالك بحفر الأرض، أو حرثها، أو رفع الأشياء الثقيلة بواسطة العتلة، بل قد يُقال للبعض: اجلس في بيتك لكي تستطيع طيّ طريقك؛ فهل إنَّنا نريد أن نسلك طريق الكمال الذي نرتئيه نحن لأنفسنا، أم ذلك الطريق الذي رسمه الله لنا؟ فإن كنَّا نريد سلوك الطريق الذي أمر الله به، فقد بيّن لنا الكيفيّة التي يتوجّب علينا أن نتّبعها في ذلك.
أهمّية فريضة الحجّ في الشريعة الإسلاميّة وبيان معنى الاستطاعة فيها
فمن أجل الوصول إلى حقيقة الدين ومعانيه الواقعية، لا بدّ من العمل بأحكام هذا الدين؛ فلنأخذ فريضة الحجّ على سبيل المثال؛ لأنّ هنالك القليل من الفرائض التي تمّ التأكيد عليها في الشريعة مثلما تمّ التأكيد على فريضة الحج. إنَّني إذ أعرض هذا الموضوع على السيّدات المحترمات، فإنَّما أعرضه كمثال لكي يزداد الانتباه إلى دقّة المسألة التي نتحدّث عنها؛ فقد جاء في الرواية أنَّه من كان مستطيعًا للحجّ، ولم يؤدِّ تلك الفريضة، فسوف يتم تخييره عند الاحتضار بأن يموت على الديانة اليهوديّة أو النصرانيّة؛ ولقد اطلّعت شخصيًّا على ثلاثة أو أربعة حالات وفاة كان المحتضر قد اختار فيها الموت على اليهوديّة أو النصرانيّة، وكان هذا الأمر مشهودًا لمن حضر وفاته بشكل جليّ، حيث قالت له ملائكة قبض الأرواح: «سوف لن نقبض روحك على الدين الإسلامي، بل عليك اختيار اليهوديّة أو النصرانيّة لكي تموت عليها»؛ إنَّ هذا الأمر ينطبق على أولئك الذين وجب عليهم الحجّ ولم يؤدّوه بالطبع.
على المرأة المستطيعة أداء فريضة الحجّ وإن لم يوافق زوجها على ذهابها، بل حتّى وإن وصل الأمر بها إلى الطلاق؛ فلدينا روايات كثيرة في التأكيد على فريضة الحجّ؛ إنَّ موضوع وجوب مخالفة المرأة لزوجها لا يقتصر على موضوع الحجّ فقط، بل لا ينبغي للمرأة طاعة زوجها في كلّ ما يأمر به الزوج ممّا يُعتبر مخالفًا للشريعة الإسلامية؛ كأن يطلب منها الحضور سافرة أمام الضيوف، فعلى المرأة عدم طاعة زوجها في ذلك وإن أدَّى الأمر بها إلى الطلاق، ولا يحقّ لها التحرّز عن مخالفة زوجها خشية تطليقها أو لعدم الرغبة في فراقه؛ نعم، على المرأة مماشاة زوجها في كلّ أمر لا يكون مخالفًا للشرع الواضح؛ فقد يطلب الزوج من زوجته عدم الصيام۱ أو عدم الذهاب إلى مكان ما، فعليها الطاعة في مثل هذه الحالات، بل وفي كلّ ما يتعلّق بحقوق الزوج، ويحرم عليها مخالفته؛ وكذا الحال عندما لا يوافق الزوج على دعوة أحدٍ ما للمنزل، فلا يجوز لها دعوته، وعندما يطلب منها عدم الذهاب إلى مكانٍ ما، فعليها عدم الذهاب، وعندما يطلب منها عدم التحدّث مع أحدٍ ما، فعليها الطاعة؛ ففي جميع هذه الموارد، على المرأة طاعة زوجها؛ أمّا إن أمرها بترك الصلاة أو عدم الصيام، فهذا ليس من حقّه، وعليها مخالفته وإن هدّدها بالطلاق؛، وكذا الحال إن كانت المرأة مستطيعة، ومنعها زوجها من الذهاب إلى الحجّ، فهذا ليس من حقّه، ولا يجوز له أن يلزمها بطاعته بما يخالف حكم الشريعة الإسلامية.
كنت أرافق المرحوم العلاّمة عندما أُجريت عمليّة جراحيّة لعينه في مستشفى "لبّافي نجاد"، فجرى الحديث يومًا عن موضوع الاستطاعة وما هو معناها، وهل أنّ الاستطاعة تعني امتلاك أحدهم لما يكفيه من المال في ذهابه وإيّابه، وأن يكون كلّ طريقه إلى مكّة معبّدًا ومفروشًا لكي يمشي على الحرير والديباج، أو ينقل على سرير متحرّك إلى هناك، وأن يمتلك ذلك المقدار من المال ويترك لمن يعولهم المقدار الفلاني من المال، وأن يتمتّع بكامل الصحة والسلامة، وأن تتحقّق له تخلية السرب والتي يُقصد منها أن يكون الطريق مفتوحًا وآمنًا؛ فهل يجب توفّر كلّ ذلك حتّى يصدق حصول الاستطاعة؟ أم أنَّ معناها هو قدرة أحدهم على الذهاب إلى مكّة بحيث إن عاد إلى وطنه، استمرّ في عمله الذي كان يمارسه؛ أو أنَّه يجب عليه الذهاب وإن اضطر إلى الذهاب مشيًا على الأقدام بالشكل الذي لا يسبّب له المشاكل، فيقوم بقطع عدّة فراسخ على سبيل المثال مشيًا ومن دون أن يتسبّب ذلك في إلحاق الأذى به، وهذا ما كان يفعله الكثيرون في السابق؛ فعلى أيّ هذه الحالات يصدق مصطلح الاستطاعة؟ فقال سماحته: «إنَّ دائرة الاستطاعة هي أوسع من ذلك بكثير»، فالذهاب إلى الحجّ واجب على كلّ من تمكّن من ذلك، وإن كان لا يمتلك المال اللازم للذهاب، غير أنَّه يعلم بأنَّه سيستطيع تأمين قوته خلال سفر الحجّ؛ كأن يقوم بإصلاح أحذية الآخرين خلال السفر إن كان عمله يتمثّل في إصلاح الأحذية؛ أو أن يقوم الخيّاط أو الطبيب أو غيرهم من أصحاب المهن بممارسة مهنهم طول السفر وكسب المال اللازم للسفر منها؛ فيكون الذهاب إلى الحجّ واجب على هؤلاء الناس، فلا يعني الذهاب إلى الحجّ عدم اشتغال الحاج بأيّ عمل وألاّ تمسّ يده رطبًا ولا يابسًا، بل إنَّ سماحته قد وسّع دائرة الاستطاعة إلى أكثر من هذا الحدّ، وهو ما لا أستطيع التصريح به هنا لئلاّ يُساء فهم الموضوع؛ فمسألة الذهاب إلى الحجّ هي مسألة مهمّة إلى هذا الحدّ.
سقوط الحجّ عن المرأة التي يُضرّ سفرها بطفلها
[ومع كلّ هذا التأكيد على أمر الحجّ،] نرى بأنَّ رأي المرحوم العلاّمة يتمثّل في سقوط الحجّ عن المرأة ذات الطفل والتي يؤدِّي ذهابها إلى الحج إلى إلحاق الضرر بطفلها؛ وهذا هو واقع الأمر! فقد يستطيع ذلك الطفل ذو السنتين أو الثلاث أو الأربع سنوات من البقاء في البيت، وقد يكون هنالك من يعتني به في غياب أمّه، غير أنَّ ذهابها قد يُسبب له صدمة نفسيّة، فلا يجب الحجّ على مثل هذه المرأة، بل عليها البقاء في بيتها.
كنت مع المرحوم العلاّمة في منطقة "أخلمد" وهي منطقة تقع بالقرب من مدينة مشهد قبل ارتحاله بسنتين، حيث أمضينا أسبوعين في ذلك المصيف، وكان ذلك بناءً على ما أوصى به الأطبّاء؛ فجرى الحديث في إحدى الليالي عن الفتوى الصادرة عن بعض المراجع بشأن وجوب ذهاب المرأة المرضع إلى الحجّ إن كان بالإمكان تغذية الطفل بالحليب المجفّف؛ إذ إنَّ الإرضاع ليس بواجب على الأمّ ـ أتلاحظون؟!! ـ بينما يكون الحجّ واجبًا عليها إن كانت مستطيعة؛ ومن الطبيعي أنّه: إذا كان من غير الممكن تغذية الطفل بطريقة أخرى سوى حليب الأم، فسيكون الأمر هنا مختلفًا، إذ إنَّ عدم وجوب الحج عليها سيُعدَّ حينئذ أمرًا مُسلّمًا به؛ فالحديث لا يشمل هذه الحالة، بل نحن نتحدّث عن إمكانية تغذيته بحليب آخر ومن دون أن يُسبّب له ذلك أيّ ضرر بدني.
فكانت فتوى ذلك المرجع ـ وهو السيِّد الخوئي ـ والتي ذكرها في رسالته العمليّة، تتمثّل في أنّه يجب أن تقوم الأمّ بتغذية الطفل بالحليب المجفّف، وأن تذهب إلى الحجّ؛ فقال سماحته: «إنَّ هذه الفتوى مخالفة للشريعة الإسلاميّة، ومن الواضح بأنَّ من أصدر هذه الفتوى لم يصل إلى روح الدين»؛ لماذا؟ لأنَّ الله قد جعل وسيلة تغذية الطفل من خلال أمّه، وإلاّ كان بإمكانه تعالى أن يقول: أعطوه شيئًا آخر. ويجب أن يستمرّ ارتباط الطفل هذا بأمه لمدّة عامين، وينبغي أن يبقى هذا النحو من الارتباط بالأمّ والتغذية منها. فبناءً على هذا، تحصل الاستطاعة للمرأة ويجب عليها الحجّ في الوقت الذي لا يكون لطفلها هكذا ارتباط بها ولا حاجة له بحليبها، أو في حالة عدم وجود مانع من الناحية الروحيّة بحسب ظاهر الأمر، فسيختلف الأمر في مثل هذه الحالة؛ أمّا إن أدّى فطام الطفل عن حليب أمّه إلى قطع علاقته الظاهريّة معها، فسيؤدِّي ذلك إلى تعرّض الطفل إلى صدمة تكون فيها الآثار السيّئة الحاصلة جرّاء تلك الصدمة أكبر من انتفاع المرأة من ذهابها إلى الحجّ.
ربّما يأتي هنا من يقول: وكيف يمكن تعطيل فريضة الحجّ التي هي على درجة عالية من الأهمّية والعظمة، وبما تتضمّنه من طواف ووقوف بعرفات، من أجل عدم فطام طفلٍ عن الحليب لعشرين يومًا أو لشهر من الزمان؟ [والجواب على هذا الاستشكال هو:] نعم، إنَّ الحج هو واجب مهمٌ، ولكن من الذي يستطيع إدراك أهمّيته وتحديدها، وهل أنت الذي تدرك أهمّيته، أم الله؟ فإن كان الله هو الذي أمر به، فهو الذي يأتي هنا ليقول لك: يجب عليك ألاّ تؤدّيه في حالة كهذه.
كان أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة ينوي الذهاب لأداء فريضة الحجّ الواجب ـ ولا يخفى أنّ ذلك الرجل لم يكن من أصدقاء المرحوم العلاّمة السلوكيّين، وهو لا يزال على قيد الحياة حيث يسكن الآن في مدينة طهران ـ فطلبت منه زوجته اصطحابها معه، فقال لها: «وكيف يمكن ذلك وأنت حامل؟! نعم، سأصطحبك مستقبلاً»، فقالت له: «بل عليك اصطحابي معك هذه المرّة». أتذكّر جيدًا كيف أنَّنا كنَّا جالسين حول الكرسي۱ في فصل الشتاء، حيث كان عمري بحدود الثمان أو التسع سنوات؛ وقد خنقته العبرة بينما كان يروي حكايته؛ فقال له المرحوم العلاّمة: «وما الذي فعلته؟» فقال: «كنت مجبورًا على اصطحابها معي»، فقال له: «ولماذا كنت مجبورًا على ذلك؟» قال: «لقد هدّدتني بإسقاط الجنين إن لم اصطحبها!»
فيا أيتها المرأة الكريمة، هل إنَّ هدفك من ذلك السفر هو للسياحة، أم لأداء التكليف الإلهي؟ فإن كان بهدف أداء التكليف الإلهي، فاعلمي بأنَّ ملائكة العذاب تكتب لك بكلّ خطوة تخطينها عذابًا، فأنت تريدين إسقاط ذلك الجنين ذي الثلاثة أو الأربعة أشهر من أجل الذهاب إلى الحجّ! إنَّ ذهابك هذا هو بمثابة السخط الإلهي الذي ينزل على رأسك؛ وأمّا إن كان هدفك السياحة، فهنالك أماكن للسياحة هي أجمل من مكّة، فلماذا تريدين الذهاب إلى مكّة للسياحة؟! هذا هو الجهل وعدم الفهم بعينه، فيأتي الإنسان هنا ليريد تطبيق حكم الله وفقًا لأهوائه النفسانيّة.
كان هنالك في عهد المرحوم العلاّمة رجل يذهب إلى الحجّ سنويًّا بصفة المشرف الديني لقافلة الحجّ، ولم أكن أفهم سبب رجحان ذهابه المتكرّر هذا، فعقلي كان قاصرًا عن إدراك ذلك، فلم أكن أتمكّن ـ وفي نطاق معرفتي المحدودة ـ من حلّ تلك المسألة؛ ولمّا كان هذا الرجل قد أصبح من تلامذة المرحوم العلاّمة، فقد أرسل إليه المرحوم العلاّمة من يخبره بالامتناع عن الذهاب إلى الحج اعتبارًا من ذلك العام.
فهل كان تصرّف المرحوم العلاّمة مع هذا الرجل بدافع التعنّت والعناد؟ [بالطبع لا] فلم يكن له به أيّ شأن طوال السنوات السابقة [فلماذا يريد أن يمنعه الآن؟ والجواب على ذلك هو:] بما أنَّك قد أصبحت الآن من تلامذته، فسيكون له معك شأن آخر؛ فلا يمكن لك في الوقت الذي أصبحت فيه تلميذًا له، من أن تعمل وفقًا لمشيئتك؛ فلا يمكن لأحدنا أن يُسمّي نفسه تلميذًا، ثمّ يفعل ما يحلو له؛ فمن يريد أن يفعل ما يحلو له، ويتمتّع بكامل حريّته، فعليه ألاّ يأتي إلى هنا منذ البداية؛ فعندما عزمت على أن تكون تلميذًا، وقرّرت أن تخضع للتربية، فلابد أن تحسب حسابًا لأعمالك.
فأرسل إليه المرحوم العلاّمة يأمره بعدم الذهاب إلى الحجّ.. ولا شكّ أنّ ذهابه كان فيه ضرر؛ فتأثّر الرجل لهذا الأمر كثيرًا؛ إذ إنَّ موسم الحج كان قد اقترب، وبدأت عمليّة تسمية مشرفي القوافل؛ وها هو الوقت يمضي، حيث كان يذهب سنويًّا بصفة مشرف ديني لا على نفقته الخاصّة؛ فأرسل من يتكلّم مع المرحوم العلاّمة بشأن الموضوع لأكثر من مرّة، فلعلّ هناك ما يمكن أن يُثنيه من أمر عدم الذهاب، غير أنَّ المرحوم العلاّمة لم يكن ليجيبه بشيء؛ حتّى حصل أن رآني مرّة، فقال لي: «أرجو أن تتكلّم مع والدك بشأن هذا الموضوع، فأنا أقوم ببعض التحقيقات عن عدد المساجد والحسينيّات الموجودة هناك، وعن عدد المسلمين، فإن لم أذهب، فلن يكتمل هذا التحقيق، وسيبقى ناقصًا»؛ فأجبته: «يا سيّد، إنّ من مصلحتك ألاّ تذهب»؛ فقال: «اذهب أنت وانقل له طلبي»؛ فما إن ذهبت إلى المرحوم العلاّمة وبمجرّد أن فتحت فمي لأقول: إنَّ فلانًا يقول ـ فلا رأت عيونكم ما تكره ـ حتّى قاطعني قائلاً: «هذا ما قلته، فإن كان يريد العمل به، فليعمل، وإلاّ فهو أعلم بحاله!!»
إنَّني لم أكن قد نطقت بما أوصاني به بعد، فكنت قد نطقت بمبتدأ الجملة فقط، ولم أكمل خبرها بشأن ذهابه أو عدم ذهابه إلى مكّة؛ فما أن قلت: إنَّ فلانًا، حتّى صاح بوجهي أنا المسكين: أنا قلت كلمتي، فإن كان يريد العمل بموجبها، فليعمل، وإلاّ فهو أعلم بحاله! على أنَّني لم أنقل لذلك الرجل الجواب بنفس الهيئة التي قالها المرحوم العلاّمة، بل قمت بتلطيف الجوّ فقلت له: «إنَّه يقول إنَّ ذلك ليس من مصلحتك»؛ فكرّر عليّ قائلاً: «قل لي كيف قال لك ذلك، وبأيّ أسلوب؟» فقلت له: «ليس من مصلحتك ذلك».
المهمّ في السلوك هو العمل بما يُوافق إرادة اللـه تعالى
ولقد صادف أن سنحت لي الفرصة للذهاب إلى الحجّ في نفس ذلك العام، حيث حصل ذلك السفر بعد ثلاثةٍ وعشرين عامًا من آخر سفر لي لحجّ البيت، وكان ذلك في حياة المرحوم الوالد؛ فالتفت إليَّ ذلك الرجل قائلاً: «أسألكم الدعاء، فلم يحصل لي التوفيق بالذهاب، في الوقت الذي حصل لكم ذلك»؛ فقلت له: «يُستفاد من كلامك هذا بأنَّني كنت فاقدًا للتوفيق لمدّة ثلاثةٍ وعشرين عامًا، هذا أوّلاً؛ إذ إنَّني لم أذهب إلى الحجّ لتلك الثلاث والعشرين عامًا السابقة، وثانيًا: إن كان الموفّق هو من يذهب إلى الحجّ لا غير، فبناءً على هذا سيكون السيِّد الحدّاد، والذي لم يتمكّن من أداء فريضة الحجِّ سوى مرّة واحدةً في حياته، رجلاً عديم التوفيق بشكل كبير؛ كما أنَّ المرحوم العلاّمة كان قد حجَّ البيت لستّ مرّاتٍ فقط، في الوقت الذي كان يقول لي: «أتمنّى أن أذهب إلى الحجّ سنويًا، ولكنّ ذلك ليس بالمستطاع، فقد تحصل موانع تحول دون ذلك».
كانت ولادة جميع إخوتي وأخواتي تحصل بصورة طبيعيّة، ما عدا أصغر أخواتي التي وُلدت بواسطة عمليّة جراحيّة، فكان ذلك متزامنًا مع اقتراب موسم الحجّ، وكان المرحوم الوالد ينوي الذهاب إلى الحجّ مع عدد من أصدقائه الذين صمّموا على الذهاب في هذا السفر لوجود المرحوم العلاّمة بينهم؛ لقد كان ذلك في السنوات الأخيرة من فترة حكم شاه إيران السابق، وقال الأطبّاء بأنّ الطفل لم يتهيّأ للولادة، ولابدّ من إجراء عملية جراحيّة، فأُجريت العمليّة لوالدتي؛ وفي الوقت الذي كانت لا تزال فيه في المستشفى، وكان مقرّرًا أن يتمّ جلبها إلى المنزل في اليوم التالي أو اليوم الذي يليه، وكانت بعض القوافل قد غادرت فعلاً، بينما كانت القافلة التي كان المرحوم العلاّمة ينوي الذهاب فيها تتهيّأ للسفر، وكان أصدقاؤه يتساءلون عن قراره بشأن ذهابه أو انصرافه عن الذهاب؛ ففي هذا الوقت كنت ذاهبًا بمعيّته إلى مكان ما، حيث كنت أقود السيّارة، في الوقت الذي كان يجلس فيه هو في المقعد الخلفي لها، فقلت له: «سيّدي، إن كنت تريد السفر إلى الحجّ، فلا تقلق من هذه الناحية، فسوف آتي إلى طهران ـ فأنا كنت أدرس في مدينة قمّ وقتها ــ خصوصًا وأنَّ هذه الأيّام هي أيّام شهر ذي الحجّة ويتمّ فيها تعطيل الكثير من الدروس، فاذهب أنت إلى الحج وسأقوم أنا بالاعتناء بأمر والدتي»، فقال لي: «يا سيِّد محسن، أيّ حجٍّ هذا الذي يذهب فيه المرء في الوقت الذي تكون فيه زوجته بحاجة إلى وجوده إلى جنبها؟» هذا مع أنّني كنت أعلم مقدار اشتياقه للذهاب إلى الحجّ، فلا يعلم بذلك أحد سواي.
هكذا يكون حال البعض، فهو لا يُفكّر بشيء سوى الذهاب والتجوال هنا وهناك والطواف حول الكعبة والجلوس مع الأصدقاء والتحدّث إليهم؛ ففي سفر الحجّ السابق، كنَّا نجلس أمام المستجار ليلاً، وكنت أرى من يأتي ـ من أولئك أصحاب اللحى البيضاء والذين يبلغ طول لحية أحدهم الشبرين ـ ليجلس في هذا المكان ويقوم بتحويل المسجد الحرام إلى مجلس أُنس، فكانوا يجلسون الليل كلّه يتداولون نفس تلك الحكايات التي كانوا يتداولونها في المقاهي وهم يحتسون الشاي ويتناولون الحلوى؛ لقد كنت أسمع ذلك بأذني، بحيث انزعجت مرّة عندما ارتفعت أصواتهم بالشكل الذي سلبت فيه توجّه الآخرين إلى الله، فنهضت وقلت لهم: «إن كنتم لا تتحدّثون إلاّ بمثل هذه الأحاديث وأنتم تجلسون في المسجد الحرام وأمام المستجار، فلماذا أتيتم إلى هذا المكان إذًا؟ فلقد كان بإمكانكم الذهاب إلى أماكن أخرى!»؛ لقد كانوا يعرفونني، إذ كان البعض منهم من أهالي مشهد والبعض الآخر من أماكن أخرى؛ فخجلوا من ذلك وأطرقوا برؤوسهم إلى الأرض؛ فهذا نمط آخر من أنماط الذهاب إلى مكّة.
فلم يذهب المرحوم العلاّمة إلى مكّة ذلك العام؛ فهل كان الله سيُثيبه أكثر لو كان قد ذهب في ذلك العام، أم في حال عدم ذهابه؟ فعلينا وبدلاً من إطلاق الشعارات الجوفاء، أن ننظر إلى واقع الأمر، فعلينا أن نرى ما الذي يريده الله منَّا.
قد يُقال هنا بأنَّ الله قد راعى النساء في هذا التعامل فسمح لهنَّ بعدم الذهاب من أجل أطفالهنَّ؛ كلاّ! فهذا الكلام، كلام غير صائب فلم يحابي الله الرجال ولا النساء، بل أمر كلّ منهما أن يقوم بواجبه الملقى على عاتقه بالشكل الصحيح، فإن عمل أيّ منهما بخلاف ما قد أُمر به، فسيحرم نفسه من الثواب.
لقد ذكرت الآن واجبات هذا الطرف، وها أنا أذكر واجبات الطرف الآخر، فلا وجود لأيّ فرق بينهما؛ فقد تشرفّنا بزيارة الإمام الرضا في مدينة مشهد في إحدى السنوات، وكان عمري يبلغ الأربعة عشر أو الخمسة عشر عامًا حينها؛ وكنَّا قد اعتدنا على الذهاب لزيارة الإمام في فصل الصيف لنبقى هناك لمدّة خمسة عشر أو عشرين يومًا أو شهرًا من الزمان؛ كما اعتدنا أن نستأجر غرفة واحدة أحيانًا أو غرفتين لتكون إحداهما مخصّصة للمرحوم الوالد للقيام بأعماله الخاصّة به ولاستقبال ضيوفه، بينما نستقرّ نحن في الغرفة الأخرى، وكنَّا عادة ما نستأجر هذه الغرف في منزل رجل يُسمّى بالحسيني وكان رجلاً طيّبًا ــ رحمه الله ــ حيث يقع منزله في زقاق الطهرانيّين ضمن تلك الأبنية التي كانت تحيط بحرم الإمام الرضا والتي لم يتمّ تهديمها في ذلك الوقت بعد، حيث كان ذلك في عهد النظام السابق وعندما كان المدعوّ "وليان" هو محافظ مشهد.
كانت أختي الثالثة، وهي الأخت ما قبل الأخيرة، قد أصيبت بمرض في جهازها الهضمي، وكانت تعاني من الإسهال؛ ولقد ساء حالها في ذلك الوقت، وكنَّا نأخذها إلى الطبيب لمعاينتها، وكانت تتغذّى على الحليب المجفّف. لقد كانت والدتي تعتبر امرأة مثاليّة في طاعتها للمرحوم الوالد، فلديّ الكثير من الحكايات في هذا المجال، وكانت مسئوليّة رعايتنا بعهدتها.
صادف أن ذهبت الوالدة لزيارة حرم الإمام في إحدى المرّات وتركت الطفلة في الغرفة، فساء حال الطفلة بعض الشيء ـ على ما أتذكّر ـ علمًا بأنَّ الوالدة لم تكن مقصّرة في هذا الجانب، فلقد كانت معتقدةً بأنَّ الوضع الصحّي للطفلة يسمح لها بتركها في الغرفة والذهاب إلى الحرم، فلو كان الوضع الصحّي للطفلة حينها وخيمًا، لما كانت الوالدة ستتركها وتذهب بكلّ تأكيد؛ وعند رجوع الوالدة من الحرم، لامها الوالد، وتعكّرت الأجواء بينهما، وقال لها: «لو كنتِ تريدين أن تزوري زيارة مقبولة، كان عليك أن تبقي إلى جنب الطفلة لرعايتها، لا أن تتركيها وتذهبي إلى الحرم، فالإمام الرضا لا يقبل إلاّ تلك الزيارة التي تكون فيها الطفلة في حال من الهدوء والراحة ومع وجود من يعتني بها» أكرّر القول هنا بأنَّ الوالدة لم تكن قد تركت الطفلة في حالة سيّئة عند مغادرتها، بل كانت معتقدةً بأنَّ الوضع الصحّي للطفلة يسمح لها بالذهاب، غير أنَّ حالة الطفلة الصحيّة تدهورت فجأةً على ما أتذكّر.
يحصل هذا في الوقت الذي إن أرادت فيه إحدى النساء أن تذهب إلى زيارة الإمام الرضا ومنعها زوجها من ذلك وأمرها بالبقاء في المنزل، لقالت له: ماذا تقول؟ هل تريدني أن أبقى في المنزل وتذهب أنت لوحدك دون أن تأخذني معك؟ بل سأذهب في حالة رضاك وعدمه؛ [ثمَّ لا تكتفي بهذا] بل تقوم باصطحاب عدد من النساء وتستقلّ الحافلة أو القطار وتذهب إلى مدينة مشهد؛ إنَّ هكذا تصرّف هو تصرّف غير صحيح، فلا تصحّ زيارتها ما لم يكن ذلك بإذنٍ من زوجها وعن طيب خاطر، لا بالإكراه والتهديد.
اختلاف الرجل والمرأة في طريق السلوك واتّحادهما في النتيجة
فهذا الأمر ينطبق على كلا الجانبين على السويّة، فعندما يذهب الرجل إلى الزيارة في الوقت الذي يكون لديه أمر أكثر أهميّة كان يجب عليه القيام به في البيت، فسوف لن يتقبّل الله منه زيارته أيضًا؛ وكذلك المرأة؛ لماذا؟ لأنّنا نتعامل مع الله لا مع غيره؛ فلو كان تعاملنا مع غير الله، فقد نستطيع المراوغة، إلاّ أنّ ذلك غير ممكن مع الله.
ولهذا السبب نرى بأن نحو سلوك المرأة يختلف تمامًا عن طريق سلوك الرجل، فلكلّ واحد منهما طريقه الخاصّ به؛ علمًا بأنَّ هذا الموضوع طويل الذيل وله مصاديق كثيرة سنتطرّق لها في المجالس القادمة.. كلٌّ في المحلّ المناسب له؛ فسنتحدّث عن هذا الموضوع وهو: كيف أنَّ اختلاف هذين المسيرين عن بعضهما لا يؤدِّي إلى اختلاف المقصد، فالمسير مختلف ولكنَّ المقصد والمطلوب واحد.
كثيرًا ما يحصل أن يُعطي الأستاذ برامج مختلفة لتلامذته، وهذا ما كان يحصل في عهد المرحوم العلاّمة، فلربّما أمر أحدهم بالقيام بعمل معين، والحال أنّه نهى الآخر عن القيام بنفس ذلك العمل، بل كان يأمره بعمل شيء آخر مغاير للأوّل، وهذا ممّا كان يدعو البعض للاعتراض عليه قائلين: «ها أنتم تأمرونني بالقيام بكذا عملٍ اجتماعي أو داخلي، في ذات الوقت الذي تأمرون غيري بالعمل بعكس ما أمرتموني به!».
إنَّ السبب في مثل هذا الأمر يعود إلى اختلاف حالة التلميذين، فلو كان التلميذ هو القادر على التشخيص الصحيح للأمر، لكان ينبغي تبادل الأدوار؛ فلا دخل لاختلاف البرامج السلوكيّة بالجنس، بل يحصل هذا حتّى بين الرجال أنفسهم وبناءً على تفاوت خصائصهم؛ فقد يُقال لأحدهم: عليك أن تشتغل بعمل معيّن، وقد يُقال لآخر: عليك أن تجلس في بيتك وألاّ تذهب للعمل، فالعمل في المحلّ التجاري، والتعامل مع الناس قد يكون مفيدًا ووبالغ الأهميةللأوّل، بينما يكون الجلوس في المنزل هو المفيد للثاني؛ ولقد رأيت بنفسي كيف أنَّ المرحوم العلاّمة كان قد أمر أحدهم بوضع أرائك (كنبات) وكراسي في منزله في نفس الوقت الذي أمر آخر بضرورة التخلّص من الأرائك والكراسي.
لقد كان رسول الله يجلس على الأرض وكما نجلس نحن الآن، فلم يكن يجلس على أريكة؛ وعلينا أن نعرف هنا بأنَّ إحضار الكرسي أو الأريكة (الكنبة) إلى المنزل والجلوس عليها في بعض الأحيان يكون لرفع التعب والنصب، أو في حالة الضرورة كما يحصل ذلك عند من يعاني من التهاب في المفاصل أو ما شابه ذلك، وفي بعض الأحيان لا يكون كذلك، فوضع الأرائك في المنزل لم يكن من سنّة رسول الله ، فلقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أُمرت أن أجلس جِلسة العبيد( )۱، وعلى أمّتي الاقتداء بي»؛ هذا في الوقت الذي ترى فيه البعض يقولون لي: «وكيف يمكن أن يكون المنزل بدون أرائك؟!»، فأجيبهم: هذا لا يعنيني، أو يقولوا: إنّ الناس قد اعتادوا على الجلوس على الأرائك، أو يقولوا: أيّ منزلٍ سيكون ذلك المنزل الذي لا يحتوي على أرائك؟! فأجيبهم: إنَّ هذا الأمر لا يعنيني في شيء.
نعم، قد تكون هنالك ضرورة في بعض الأحيان للجلوس على الكرسيّ، فنفسي أنا إن لم أجلس على الكرسيّ حال المطالعة لسبّب ذلك لي مرض الديسك (انزلاق الفقرات)؛ وذلك لكوني أعاني من آلام في الظهر، أمّا فيما سواها من الحالات، فأنا أجلس على الأرض عادةً.
أو أن يكون لأحدهم آلام في المفاصل .. كنت قد قلت لأخي الأكبر وكان يعاني من التهاب المفاصل: «لماذا تجلس على الأرض؟»، حيث حصل ذلك في سفري الأخير إلى مدينة مشهد قبل حوالي الشهر؛ وذلك عندما كنَّا متواجدين في مجلس دام لمدّة ساعة أو ساعتين، فطلبت إحضار كرسيٍّ له، فلم يوافق على الجلوس على الكرسيّ، فقلت له: «إنَّ حالتك الصحيّة تقتضي جلوسك على الكرسي»؛ فالحالات الاستثنائيّة لها حكمها الخاصّ بها، فلم يكن ذلك الأمر ينطبق عليّ أنا، إذ لم أكن أعاني من هكذا مرض؛ لذا جلست على الأرض. فكان المرحوم العلاّمة يأمر أحدهم باقتناء الأرائك في بيته، فلماذا كان يأمره بذلك؟ قد لا أعلم أنا شخصيًّا السبب.
فبناءً على هذا لا يكون العرفان والسلوك بذلك الأمر الروتيني الجامد والذي يأخذ مسارًا واحدًا في جميع الأحوال، ولا تتمّ فيه رعاية المصالح والمفاسد المترتّبة على ما يقوم به المرء من عمل، فيقوم بشقّ طريقه بدون أن يحسب لكلّ شيء حسابًا؛ كلاّ، لا يمكن أن يكون الأمر بهذه الكيفيّة! بل إنَّ السلوك هو أمر في غاية الدقّة والإتقان والسموّ، فلابدّ من وضع كلّ شيء في موضعه الخاصّ به. ولديّ حكايات كثيرة في هذا المجال كنت أنوي نقلها من باب التذكير، غير أنَّني أرى بأنَّ الوقت قد تأخّر، فلا يسعني الوقت لنقلها الآن.
نعم، فالسلوك لا يكون بتلك الصورة التي تجري فيها الأمور على وتيرة واحدة جامدة ولا يكون فيها مرونة ولطافة وعامل ترغيب، بل السلوك يعني وضع كلّ شيء في موضعه الصحيح بشرط أن يكون التشخيص صحيحًًا.
فطريقا سلوك الرجل والمرأة هما طريقان مختلفان عن بعضهما البعض، غير أنَّهما يشتركان في الهدف والنتيجة. فلنفرض وجود رجلين جائعين، وها نحن نريد إطعامهما، غير أنَّ أحد أنواع الأطعمة يكون مناسبًا لأحدهما وغير مناسب للآخر، فنقوم هنا بتقديم الطعام المناسب لكلّ منهما؛ فلو قمت بإطعام كلّ منهما الطعام المخصّص للآخر، فسيصاب كلاهما باضطراب في جهازه الهضمي؛ فالهدف من الإطعام هو سدّ حاجة الجائع من الطعام وتزويده بالطاقة اللازمة لقيامه بعمله؛ وهنا، قد يعترض أحدهما ويقول: «ولماذا لا تقدّموا لي من ذلك الطعام الذي تُطعمون منه ذلك الرجل؟» فسيكون الجواب: «لو أطعمناك من ذلك الطعام، لأدَّى ذلك إلى التسبّب في حصول اضطراب في جهازك الهضمي، فعليك تناول هذا الطعام المخصّص لك والذي سيعمل على سدّ جوعك وإمدادك بالطاقة اللازمة لاستمرار نشاطك وحيويّتك»؛ ويصدق هذا الأمر على الرجل الآخر أيضًا؛ فهكذا هو أمر السلوك.
فالسلوك هو عبارة عن تغذية النفس والروح بشكلين مختلفين، إلاّ أنّهما يؤدّيان إلى نفس النتيجة ويعملان على إيصال صاحبيهما إلى نفس الهدف والمقصد؛ فالبرنامج السلوكي المعطى لكل من الرجل والمرأة يوصل صاحبه إلى الغاية المطلوبة؛ فما دام الإنسان سيصل إلى هدفه المبتغى، فما الذي يعنيه له إن سلك هذا الطريق أو ذاك؟ فقد يُقال لأحدهم: اسلك هذا الطريق من أجل الوصول إلى مدينة طهران، ويُقال لآخر: خذ أنت ذاك الطريق فسيوصلك إلى مدينة طهران، فكلا الطريقان يوصلان إلى المقصد المطلوب.
هذا ما أردت طرحه اليوم على السيّدات؛ وعلى الرغم من احتياج الموضوع إلى مزيد من البحث والتوضيح، فقد شرحته في هذا المجلس بشكل المختصر.
نهج العلاّمة رضوان اللـه عليه في إقامة مجالس أهل البيت عليهم السلام
[وهنالك موضوع آخر أودّ الإشارة إليه وهو:] لا ينبغي أن يكون الهدف من حضور هذه المجالس هو مجرّد الحضور، ومجرّد لقاء الأصدقاء؛ فمع أنَّ التقاء الأصدقاء الذين يجمعهم مسير واحد ببعضهم هو أمر مستحسن بحدّ ذاته، بل ومن الضروري أن يلتقي الأصدقاء مع بعضهم البعض في كلّ فترة، إلاّ الذي ينبغي الالتفات إليه بشكل أكبر هو ضرورة استغلال هذه المجالس لطرح الأسئلة التي من الممكن أن ترد على الذهن، والمرتبطة بالعرفان وبمدرسة المرحوم العلاّمة على وجه الخصوص، حيث ستجري الإجابة عنها بما يسعفني به عقلي الناقص وبضاعتي المزجاة؛ فهذا هو الهدف من إقامة هذه المجالس، فلا ينبغي أن يكون الهدف من حضور هذه المجالس هو مجرّد لقاء الأصدقاء والأنس بهم.
يشهد الله بأنَّه كان عليّ أن أقوم بعمل مهمّ وضروري جدًّا في مدينة مشهد اليوم، وقد ألحَّ عليَّ البعض على أن أقوم بتأجيل سفري من مدينة مشهد إلى مساء هذا اليوم، حيث كنت قد اشتريت بطاقة الطائرة؛ وقد ألحّ علي أن أأخّر وقتها [حتى أنجز عملي الذي في مشهد]، إلاّ أنَّني لم أوافق على ذلك المقترح، ورجعت أمس لكي أتمكّن من حضور هذا المجلس، فعدتُ الليلة الماضية من مدينة مشهد لشعوري بوجود من لديه الاستعداد والقابليّة للاستفادة، فلا يجب والحال هذه الامتناع عن إفادتهم ما كان ذلك بوسعي.
وكذا الحال فيما يتعلّق بالمجالس التي تقام بمناسبة وفاة المعصومين أو الأعياد؛ فليس الهدف من إقامة هذا النوع من المجالس هو مجرّد ذكر المصيبة ؛ إذ إنَّ من يغادر منزله في فترة ما بين الطلوعين لحضور هذه المجالس، فهو إنَّما يأتي من أجل هدف خاصّ له، وإلا لارتاح من المجيء أو نام.
كانت جميع المجالس التي يقيمها المرحوم العلاّمة تُعقد في فترة ما بين الطلوعين، وذلك بعكس بقيّة المجالس التي تقام من قبل الآخرين، فتلك المجالس تُقام عادةً ساعة أو ساعتين بعد طلوع الشمس أو قد تُقام في وقت العصر أو في الليل. ولقد قال أحد السادة المعروفين في مدينة مشهد والذي لا يزال على قيد الحياة: «إنَّ المجالس الوحيدة التي تُقام في مدينة مشهد وتكون النيّة في إقامتها خالصة لوجه الله، هي تلك المجالس التي تُقام من قبل السيَّد محمّد حسين الطهراني، فهو يُقيم تلك المجالس في فترة ما بين الطلوعين، وهو الوقت الذي نكون فيه نيامًًا!».
فإن دلَّ هذا الأمر على شيء، فإنَّما يدلُّ على أنّ تلك المجالس لم تكن تُعقد لأجل الدنيا أو الاتّجار؛ فهي ليست من قبيل ما يُشاهد في الأماكن الأخرى والتي يقومون فيها بنصب لافتات الإعلان لدعوة الناس لحضور مجلس فاطمي سيُعقد في الحسينيّة الفلانيّة لمدّة خمسة أيّام! فلم يحصل ولا مرّة واحدة أن قام المرحوم العلاّمة بتوزيع هكذا نوع من الإعلانات؛ لماذا لم يفعل ذلك؟ لأنَّه لم يكن من أولئك الذين يسعون لتحقيق مطامع دنيويّة؛ فكانت المجالس التي يُقيمها المرحوم العلاّمة تُعقد في فترة ما بين الطلوعين، وهي الفترة التي يجب أن يكون الجميع فيها مستيقظًا، حيث يتمّ تقديم طعام الفطور، ثمّ ذكر المصيبة وذكر أهل البيت عليهم السلام، ثمّ ينصرف الناس بعدها لمزاولة أعمالهم اليوميّة؛ فلا ينبغي أن تمتدّ فترة إقامة المجالس لوقت أطول.
لقد اقترح الكثيرون على المرحوم العلاّمة تأخير وقت إقامة المجلس لساعة من الزمان، فكان يُجيبهم: «سيبقى وقت المجلس على ما هو عليه، فلا يمكن تأخيره، فمن شاء فليشارك، ومن شاء فليمتنع»؛ كما واقترح عليه آخرون ــ وكنت أنا من بين أصحاب هذا المقترح ــ بناء طابق إضافي للحسينيّة؛ إذ إنَّ المكان لم يكن يسع المشاركين، ممّا كان يضطرّهم إلى الجلوس في الزقاق؛ ففي معظم المجالس المهمّة التي كانت تُقام في السابع والعشرين من رجب أو النصف من شعبان أو عيد الغدير أو أيّام عاشوراء، كان الناس يجلسون في الزقاق، ولم يكونوا ليتمكّنوا من سماع الصوت في بعض الأحيان، فقال سماحته: «لا يمكن إضافة لبنة واحدة إلى هذا البناء، وسيبقى على حاله، فمن أراد أن يحصل على مكان، فليحضر مبكّرًًا».
ويدلّ هذا الأمر على أنَّ الهدف من إقامة تلك المجالس هو هدف إلهيّ، ولا يشبه ما يقوم به البعض من توزيع بطاقات الإعلان على المارّة يدعونهم فيها لحضور المجلس الذي سيُقام في حسينيّتهم، أو لحضور مجلس قراءة دعاء الندبة في يوم الجمعة، أو الدعاء كذا في ليلة الجمعة؛ كما ويقوم البعض بإلصاق الإعلانات الداعية لحضور المجالس التي يقيمونها على الجدران؛ فكلّ هذه الخزعبلات لا تجدها عند المرحوم العلاّمة؛ فهذه المسائل هي من الألاعيب.
وخلاصة الأمر، أنّ نهج المرحوم العلاّمة كان بهذا النحو، ولقد كنَّا نسير على هذا النهج عندما كنَّا في مدينة مشهد، ولا تزال هذه المجالس تُدار بهذه الطريقة التي يتمّ فيها رعاية الانضباط؛ فما كان المرحوم العلاّمة يؤكِّد عليه في عقد هذه المجالس هو: أنّ من يجلب طفلاً معه، عليه إبقاء طفله إلى جنبه؛ فمسألة جلب الأطفال هي أمر لا يمكن الاستغناء عنه، فليجلبه معه لغرض الاستفادة من ذلك الجوّ الروحي للمجلس، ولكي يستوفي نصيبه منه؛ فالمجلس ليس مختصًّا بالرجال أو النساء فقط، بل لا بدّ من جلب الأطفال إلى هذه المجالس، غير أنَّه كان يؤكِّد على ضرورة السيطرة عليهم من خلال إبقائهم إلى جنب ذويهم، وإلاّ سيتحوّل وضع المجلس إلى هرج ومرج.
ولقد شاهدت بنفسي ما حصل في أحد المجالس الذي عُقد في إحدى الليالي، حيث كان الأطفال يلعبون ويمرحون في الوقت الذي كان فيه الحاضرون مشغولين بقراءة الدعاء، مما تسبّب في تشتيت أذهانهم، فلا ينبغي أن يكون الأمر بهذا الشكل.
ولا يخفى أنّ المرحوم العلاّمة كان يؤكِّد على عدم جواز اصطحاب الأطفال لبعض المجالس كمجالس الذكر مثلاً وبأيّ وجه من الوجوه؛ إذ إنَّ ذلك سيُسبّب للطفل ضررًا روحيًّا، وذلك لأنَّ الأجواء المعنويّة لمثل هذه المجالس تكون قويّةً إلى الدرجة التي لا يستطيع الطفل تحمّلها، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنَّ وجود الطفل في المجلس يعمل على تشتيت أذهان الآخرين؛ ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون المجلس مجلس سكوت، من الممكن أن يأخذ الطفل بالبكاء؛ فأيّ مجلس سيكون ذلك؟! إذ سيعمل هذا الأمر على اضطراب حال المجلس؛ فلا ينبغي إذًا جلب الأطفال لهذا النوع من المجالس؛ أمّا فيما يتعلّق ببقيّة المجالس، كمجالس الأعياد والوفيات، فلا مانع من جلب الأطفال بشرط إبقائهم إلى جنب ذويهم.
لقد كان هذا الموضوع أحد المواضيع التي كان المرحوم العلاّمة يوصي الآخرين بضرورة مراعاتها؛ ومن الأمور الأخرى التي كان يؤكِّد عليها هو: بما أنَّ الخطباء الذين يتحدّثون في هذه المجالس لا يحضّرون لمحاضراتهم من الجريدة أو ما شابه ذلك، ثمّ يأتون لتمضية الوقت هكذا من دون أيّ حساب لما سيطرحه؛ بل يجري اختيارهم بحساب دقيق وبعد التأمّل في ذلك، فيتمّ اختيار كلّ خطيب واليوم الذي سيقرأ فيه؛ كما أنّ الخطباء يُراجعون هذا الفقير ويسألونه: ما هو الموضوع الذي نتحدّث عنه؟ وماهي المسائل التي نلقيها؟ وما هي الكتب التي نحضّر منها؟ بالإضافة إلى أنّهم ـ ولله الحمد ـ من ذوي الفنّ والخبرة، فأقوم أنا بدوري بتزويدهم بما أراه بحسب وجهة نظري القاصرة، وهم يقومون من جانبهم بمراجعة المصادر المختلفة المتعلّقة بالمواضيع التي سيتحدّثون عنها؛ فالخلاصة أنهم ليسوا من أولئك العاطلين عن العمل، بل لهم ما يشغلهم من أمور حياتهم اليوميّة، والدراسة والمطالعة.
فرغم مضيّ ما يزيد على الأربعين عامًا من عمري، فها أنا أستفيد ممّا يطرحونه في خطبهم من مواضيع؛ واعلموا بأنَّني لا أقول هذا من باب التواضع، بل أنا أُشهد الله على صحّة ما أقول، فبغضّ النظر عمّا يجري بيني وبينهم من بحث۱، فأنا أستفيد ممّا يطرحونه من مواضيع؛ كما عليكم أن تعلموا بأنَّ ما يُلقى في هذه المجالس من مواضيع ليس موجودًا في أيّ مكان، فإن أردتم التأكّد ممّا أقول، فتأكّدوا منه بأنفسكم، فاذهبوا إلى المجالس الأخرى وشاهدوا ما الذي يُطرح فيها.
في سفري الأخير إلى مدينة الأهواز، عُقد مجلس خاصّ بالنساء لتُطرح فيه الأسئلة ويجاب عليها؛ فكان أحد تلك الأسئلة موجّه من إحدى النساء التي يبدو بأنَّ لديها مشاكل مع زوجها، فأرادت أن تُفرِغ جامّ غضبها عليّ، فأعدّت طومارًا من الأسئلة تلومني فيها وتحمّلني مسؤوليّة علاقتها مع زوجها؛ فبما أنّ الجلسة كانت للإجابة عن الأسئلة، فقد شكرت تلك السيّدة، حيث كانت تلك هي الورقة الأولى التي اخترتها من بين الأسئلة المقدّمة إليّ؛ فبدأت بالإجابة عن أسئلتها واحدًا بعد الآخر وسطرًا سطرًا وبكلّ دقّة؛ فكان أحد إشكالاتها هو: «لماذا يحصل في كلّ مرة تأتي فيها إلى هنا، أن يتأخّر أزواجنا إلى الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل بحيث يؤدِّي ذلك إلى اختلال نظام حياتنا العائلية؟»؛ فقلت لها: «أولاّ، إنَّ هذه هي المرّة الثانية التي أزور فيها مدينة الأهواز، وكانت المرّة الأولى لزيارة هذه المدينة قبل حوالي العامين، وهذه هي الليلة الثانية لي هنا، فلا أدري ما هو الاختلال الذي يمكن أن يحصل في هذه الفترة؟! هذا أولاً، وثانيًا: أريد أن أسألكِ: أيّهما أفضل لزوجك، فهل الأفضل له أن يجلس مع إخوة له ليستمع إلى كلمتين عن الله؟ أم الأفضل له أن يقضي ليلته على ضفاف نهر الكارون٢ وقضاء وقته في مسائل أخرى؟ وثالثًا: لو أنَّ أهلك قد زاروكم وبقوا لديكم إلى ما بعد منتصف الليل، فأنت لا ترين أيّ بأس في ذلك، أمّا إن أراد زوجك حضور هكذا مجلس من أجل الاستماع إلى نصيحة، فسيؤدِّي ذلك إلى إيجاد اختلال في حياتكم العائليّة؛ أنا أعتقد أنّ في ذلك مجانبةً للإنصاف».
وكان سؤالها الآخر هو: «لماذا تقوم خلال حديثك بذكر والدك دائمًا والدعوة إليه؟ فلماذا تريد أن تدعو إليه مع أنّ هناك الكثير من العلماء؟» فقلت: «إنَّ جواب هذا السؤال واضح مع وجود كتبه هذه، فأنا لست في صدد التعريف بوالدي، بل كتبه هي التي تحكي عنه وتعرّفه، فمن أنا حتى أقوم بالتعريف عن والدي؟! فقد ألّف مجموعة من الكتب، وقام غيره بالتأليف أيضًا، والحكم بأفضليّة أيّ المؤلّفات على الأخرى على عهدة القرّاء». وهكذا أجبت على بقيّة الأسئلة التي كانت من هذا القبيل بكلّ هدوء ورصانة وكانت الإجابة مصحوبة بشيء من المزاح.
فما يطرحه الخطباء يكون وفقًا لمباني المرحوم العلاّمة، فلو كانوا يطرحون أمورًا تخالف تلك المباني، لتمّ الاعتراض عليهم من قبل الآخرين؛ فبناءً على هذا، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أمرين وهما: أوّلاً: يجب الإصغاء جيّدًا إلى ما يطرحه الخطيب من مواضيع وعدم التكلّم مع الآخرين أثناء حديثه، ويجب متابعة حديثه بدقّة، وألاّ يكون الحضور مجرّد حضورٍ عابرٍ؛ فلا المتصدّون لإقامة هذه المجالس هدفهم هو مجرد الحضور، ولا المشاركون فيها هم ممّن يحضرون المجالس من أجل تمضية الوقت؛ فيجب مراعاة هذا الأمر جيّدًا، والإصغاء للخطبة جيّدًا بالشكل الذي إن سُئِل أحد الحاضرين بعد انتهاء المجلس عمّا تكلّم به الخطيب، كان قادرًا على الإجابة، ويكون قد استفاد مما تمّ طرحه في المجلس بأحسن وجه.
وهنالك أمر آخر يتعلّق بأولئك المكلّفين بالمحافظة على الانضباط في المجالس ـ سواء كانوا من الرجال أو النساء ـ فهم لا يقومون بذلك العمل من تلقاء أنفسهم، ولا يقومون به بدافع حبّ الترؤّس على الآخرين، بل نحن الذين طلبنا منهم القيام بهذه المهمّة؛ فهؤلاء الناس يحضرون إلى هذا المكان قبل أذان الصبح من أجل التهيئة للمجلس، فيجب على الآخرين تثمين جهودهم والاستماع إلى التعليمات التي يصدرونها؛ فأولئك النسوة لم يقمنَ بما يقمنَ به من تلقاء أنفسهنَّ، بل هنَّ يقمنَ بهذا العمل بناءً على طلبنا نحن منهنَّ.
ولا يخفى أنّ المجلس هو مجلس متعلّق بالجميع، ولكنّه لا يمكن تكليف تلك المرأة التي لديها بعض المشاكل ــ كأن يكون لديها أطفال ــ بمهمّة التنظيم، فكيف يمكنها أن تحضر في مثل ذلك الوقت وتقوم بمهامّها من قبيل فتح الباب أو غلقه أو تنظيم بقيّة الأمور؟! لذا تتمّ إناطة هذه المهمّة بتلك المرأة التي لها استعداد وقابلية روحيّة أكبر من غيرها ولها امتيازات أخرى؛ فلا يمكن تشبيه ما يقوم به المسئولون عن تنظيم المجلس بما يجري في المدارس أو الهيئات أو المؤسّسات الأخرى من فرض ضوابط صارمة، بل إنَّ هذا المجلس يخصّ النساء أنفسهنَّ، وهو متعلّق بالجميع، ويجب أن تتحمّل كلّ واحدة من المشاركات في المجلس مسئولية المحافظة على النظام، ويجب ألاّ تكون هنالك حاجة إلى التنبيه من قبل الأخريات؛ غير أنَّه ومنعًا لما يمكن أن يحصل جرّاء تفاوت الأذواق، أو ما يمكن أن يحصل من عدم الفهم الصحيح لبعض ما يمكن أن يتمّ طرحه من أمور، يتمّ تعيين إحدى النساء لغرض حلّ تلك المشاكل، ولكي يكون لها الكلام الفصل في هذا المجال، فهذا هو الذي دعانا لتعيين تلك النسوة؛ وإنَّه لأمر طبيعي وضروري أن يتمّ اتّخاذ إجراء كهذا.
وهنالك أمر آخر لا بدّ من رعايته ـ على أنَّه يتم بالفعل الآن رعاية هذا الأمر من قبل الأخوات، غير أنَّه من الممكن أن لا يكون البعض منهنَّ قد سمعت به حتّى اللحظة ـ وهو: يجب ألاّ تُظهر المرأة نفسها بحيث تكون في مرأىً من الرجال؛ فلو كان هنالك رجال على الباب مثلاً، فلا ينبغي للمرأة أن تخرج بحيث يراها الرجال؛ أو لو كان هنالك عدد من الرجال، فلا ينبغي أن تظهر المرأة أمامهم لمناداة زوجها على سبيل المثال، أو أن تتكلّم بصوتٍ عال؛ فكلّما سعت المرأة للحفاظ على عفّتها وخِدرها بالشكل الذي لا يراها فيه الرجل، فسيكون ذلك أفضل لنفسها وحالها؛ فعلى سبيل المثال، عندما ينتهي المجلس، ويكون الرجال لا يزالون واقفين جانبًا، فعلى النساء ألاّ يتوقّفنَ، بل عليهنَّ العجلة في مغادرة المكان واستقلال السيارة والذهاب؛ وهذا الأمر ليس مختصًّا بالمجالس التي تُقام في هذا المكان فقط، بل وحتّى وإن كان المجلس منعقدًا في منزلهنّ مثلاً، فعليهنَّ الصبر حتّى ينصرف الرجال، لكي لا يكنَّ على مرأىً منهم؛ فكونها في معرض رؤية الرجال غير مناسب، كما أنَّه ليس من الصواب أن تتحدّث المرأة مع الرجل في الوقت الذي قد يسمع بقيّة الرجال حديثهم.
ويجب تنظيم الأمور بحيث تتمكّن المرأة من صيانة نفسها بشكل أكبر، وكلّما زاد ذلك كلّما كان أحسن؛ لا أن تتّسع هذه الظاهرة، حتّى أنّها تصل إلى حّد الكلام في كثير من الأحيان؛ فحالة الجرأة على الاختلاط ينبغي القضاء عليها بشكل كامل لأنّها أمر ليس فيه إلاّ الفساد.
طبيعة ملابس النساء في الأعراس
والأمر الآخر الذي من المهمّ جدًّا التنبيه عليه ـ فقد بلغ مسامعي الكثير عنه في السنوات السابقة ـ هو طبيعة ملابس النساء في الأعراس، فاعلموا بأنَّه يُمكن للمرأة من الناحية الشرعيّة أن تظهر عارية أمام امرأة أخرى؛ [ليس بمعنى العري الكامل] بل كما يكون في الحمامات مثلاً، فلا يوجد أيّ إشكال من الناحية الشرعيّة في هذا الأمر؛ بشرط ألاّ يبعث ذلك على حصول إثارة جنسيّة؛ وينطبق هذا الأمر بالطبع على الرجال فيما بينهم أيضًا، فلا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة؛ أمَّا فيما يتعلّق بالمجالس التي تُعقد تحت اسم المرحوم العلاّمة والتي يُقال عن المشاركين فيها بأنَّ هؤلاء الناس هم من تلامذة المرحوم العلاّمة ـ فلقد سمعت انتقادات من بعض الغرباء لهذه المجالس ـ فيجب مراعاة الدقّة المتناهية في هذا المجال؛ فلقد كانت النساء اللواتي يشاركنَ في المجالس التي كانت تعقد في السابق ـ في عهد المرحوم العلاّمة ـ يرتدينَ ملابس تُراعى فيها الرزانة والوقار والستر؛ نعم، لا ينبغي أن تتحوّل فيه هذه المجالس إلى مجالس عزاء؛ لأنّها مجالس فرح وسرور؛ فلا بأس بقراءة الأشعار التي تبعث على الفرح والسرور بشرط ألاّ تسّبب إثارة الغرائز الجنسيّة وتحريكها؛ فلا بأس بذلك المقدار الذي يقع ضمن ما هو مسموح به شرعًا؛ وفي أثناء الغناء، من الطبيعي أنّه يَحرُم أن يسمع أصواتهنّ الرجال، أو يقمنَ بحركات تبعث على الإثارة، ففي ذلك إشكال شرعي؛ وأمّا إن لم يكن فيها إثارة فلا يوجد فيها إشكال، فلا يمكننا أن نتزمّت في هذه المسائل ما دامت في حدود الشرع.
حضر صديقنا الدكتور سجّادي أحد مجالس الولادة الذي أُقيم في مدينة مشهد بمناسبة يوم الثالث من شعبان، ولمّا كانت المناسبة مختصّة بسيِّد الشهداء، فإنّ نفس المولد يقترن بنوع من الحزن والبكاء بشكل تلقائيّ؛ فالقارئ وبناءً للمعتاد يتطرّق ضمن قراءته للأشعار والمدائح إلى موضوع مصيبة سيِّد الشهداء؛ فهذه المناسبة تختلف بطبيعتها عن غيرها من المناسبات؛ فبعد ختام المجلس، قال الدكتور غاضبًا: «أيّ مجلسٍ هذا، فهل علينا أن نبكي في مولد سيّد الشهداء أيضًا كما نبكي في وفاته؟!» لقد كان خطابه موجّهًا نحو المرحوم العلاّمة، وكان خلاصة كلامه أنّه علينا أن نبكي في جميع الأحوال؟! فضحك المرحوم العلاّمة وقال للقارئ: «عليكم إضحاكه في المرّات القادمة».
فنحن لا نقول ابكوا واندبوا في مجالس الزفاف، بل يجب أن يكون المجلس مجلس فرح وسرور، وأن يتخلّله الضحك والمزاح وما شابه، فتلك هي طبيعة هذه المجالس، ولكن علينا ألاّ نتجاوز الحدود المسموح بها؛ فأكرّر الآن ما قلته لكم بخصوص وجوب أن تكون الملابس من النوع التي يُراعى فيها جانب الرزانة والاحترام لكي نصلح أن نكون قدوة للآخرين، فنسأل الله أن يتقبّل منَّا أعمالنا.
عليَّ أن أذكر هذه الحكاية أيضًا: حصلت مناسبة زواج سابقًا، وكانت إحدى عمّاتي ـ رحمها الله ـ شديدة التديّن والالتزام والدقّة وكثيرة المؤاخذة، ولم تكن تشارك في مجالس الزفاف؛ إذ إنَّها كانت تمتعض من بعض ما يحصل فيها، فكانت تعترض على بعض الأزياء الملبوسة في تلك الأعراس وما يجري فيها من عمل مخالف للشريعة، وتبدي رأيها ذاك في نفس تلك الأعراس؛ ولهذا السبب، فقد كانت الأخريات ينزعجنَ من مؤاخذاتها، ولم يكنَّ يرغبنَ في حضورها في مجالس الزفاف التي يقمنها.
أتذكَّر جيّدًا أنّ المرحوم الوالد كان قد عاد من المسجد مساءً في الوقت الذي كانت فيه والدتي قد هيّأت نفسها للذهاب معه إلى الحفل، أمَّا نحن، فلم نكن من المدعوّين لحضور الحفل، وكان علينا البقاء في المنزل، وكان مقرّرًا أن يأتي أحد أصدقاء المرحوم الوالد لنقله والوالدة إلى مكان الحفل الخاصّ بزفاف ابن أخته؛ فعاد المرحوم الوالد إلى المنزل وهو غضبان، وقد كان منزلنا في منطقة "بيج شمران"، فأمسك بالهاتف، واتّصل بزوج أخته قائلاً: «يا سيٍّد فلان، هل دُعيت أختي لحضور حفل الزفاف، أم لم تُدع؟» والمراد تلك الأخت التي تكلّمنا عنها والتي كانت تعترض على تلك الحالات، فقال: «لا، لم تتمّ دعوتها»، فقال: «حسنًا»؛ فأغلق سمّاعة الهاتف، والتفت إلى الوالدة قائلاً: «بدّلي ملابسك، فلن نذهب إلى الحفل هذه الليلة، بسبب عدم دعوة أختي!» فقامت والدتي بتغيير ملابسها.
فجرى الكثير من الحديث حول تعمّد المرحوم العلاّمة ـ والذي هو خال العريس ـ عدم حضور حفل الزفاف؛ وفي اليوم التالي، جاءت عمّتي والتي هي أمّ العروس تعتب على المرحوم الوالد على عدم حضوره، وكنت أنا في ساحة البيت، فسمعت صياح المرحوم الوالد عليها وأنا في ذلك المكان وهو يقول: «لقد أخطأت بعدم دعوة أختك، ألا تخجلين من نفسك لعدم دعوتها، حتّى يخلو لكنَّ الجوّ، وتفعلنَ ما يحلو لكنَّ؟ فبدلاً من أن تقمنَ بتصحيح طراز لباسكنَّ، تقمنَ بتحويل الحفل إلى "بِركَة السِباع"».. كانت تلك هي العبارة التي استخدمها وكان يعني بها حديقة الحيوانات! يعني: كان ينبغي عليك بدلاً من أن تعملين على إيجاد بيئة هي أشبه بحديقة الحيوانات، أن تقومي بتصحيح طراز الملابس؛ فلماذا لم تقومي بدعوة أختك تلك المرأة المؤمنة المتديّنة؟ وخلاصة الأمر، فقد ارتفع صوته بالصياح.
وهكذا كان تصرّف العلاّمة نفسه، وهكذا كانت طبيعة المجالس التي كان يُقيمها، فقد كانت على درجة من الرزانة والوقار؛ ونأمل أن يلتزم الأصدقاء بهذا النهج؛ لأنّ المجالس التي نُقيمها لا تتوفّر على جنبة ظاهريّة فقط، بل تحتوي على حمل ثقافيّ أيضًا.
نسأل الله أن يوفّقنا لأن نكون أكثر طاعة والتزامًا بتوصيات المرحوم العلاّمة، وأكثر التزامًا بمبانيه حتى نتمكّن من الاستفادة بشكل أفضل.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد