المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
الدَّرْسُ الْحَادِي وَ الثَّلَاثُونَ: تفسير الآية: {يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا}.۱
مفاد هذه الآية قول إبراهيم عليه السلام لمربّيه آزر و احتجاجه عليه إذ كان عابداً للأصنام و مشركاً بالله تعالى.
و لمّا أناطت الآية وجوب الاتّباع بعلم ابراهيم و عدم علم آزر، فيستفاد منها- إذن- أنَّ على كلّ جاهل اتّباع العالم. أي أنَّه يقدّم رأي العالم و إرادته على رأيه و إرادته الشخصيّة في شئونه، و يجعل ذلك بديلًا عن طموحاته و رغباته الخاصّة. و في هذه الحالة فإنَّه يتلذّذ و يتنعّم بسبب اتّباعه للعالم و يتمتّع بالمواهب الإلهيّة المعروضة للإنسان في الصراط المستقيم.
يقول الكبار من أهل العلم إنَّه تمّ التصريح بسبب الاتّباع في هذا الكلام. و إنَّ أمر إبراهيم مقرون بالدليل و البرهان، و هو قوله: جَاءَنِي مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ، فما عليك إلّا الاتّباع حتى أهديك إلى طريق السعادة و كمال الإنسانيّة و ظهور المواهب الكامنة. و هذا أمر يرتكز على الفطرة و حكم العقل برجوع الجاهل إلى العالم في شئونه المختلفة.
لزوم اتّباع العامّيّ للأعلم
يمكننا أن نقتطف ثمرتين من كلّيّة هذا البرهان:
الاولى: رجوع العامّيّ إلى العالِم، و وجوب تقليده في المسائل الشرعيّة الفرعيّة، بل وجوب رجوع العامّيّ إلى الأعلم. هذا مع أنَّي لحدّ الآن لم أجد أحداً من العلماء الكبار قد استدلّ في الكتب الاصوليّة من مسائل الاجتهاد و التقليد على لزوم تقليد الأعلم.
أمّا رجوع العامّيّ إلى العالم فسببه أنَّ العامّيّ لا يعلم و العالم يعلم و لذلك فرض إبراهيم على مربّيه اتّباعه.
و أمّا رجوع العامّيّ إلى الأعلم، فلأنَّ الأعلم أفضل الموجودين اطّلاعاً و تبحّراً، و أكثرهم علماً و قدرة على الاستنباط في جميع المسائل. فالعالم أقلّ من الأعلم علماً و اطّلاعاً و قدرة، فهناك جوانب و زوايا في جميع المسائل قد وصل إليها الأعلم و اكتشفها بَيدَ أنَّ العالم لم يصل إلى تلك الدقائق و لم يتمكن منها، فإذا رجع العامّيّ إلى العالم و لم يرجع إلى الأعلم، فإنَّه يكون قد اتّبع غير العالم في تلك الجوانب و المسائل الدقيقة۱، و أمّا
إذا رجع إلى الأعلم في خصوص هذه المزايا و خواصّها، فإنَّما يكون قد اتّبع العالم الذي هو نفسه الأعلم، و بالتالي فإنَّه قد رجع إلى العالم في جميع الخصوصيّات التي يجهلها، سواء كانت تلك الخصوصيّات ممّا يعلمها العالم و الأعلم كلاهما، أو كانت ممّا يعلمها الأعلم فقط. و قد ألزم إبراهيم آزر أن يتّبعه بوصفه عالماً في جميع الجوانب و الخصوصيّات التي لا يعلمها بشكل مطلق.
الثانية: وجوب اتّباع الإمام. و أنَّ الإمام ينبغي أن يكون أعلم الجميع و أفضلهم. و لو تساوى علمه مع البعض، فرضاً أو كان علمه أقلّ منه، فإنَّه سوف لن يعدّ إماماً بالنسبة إلى ذلك البعض. و في الحالة الاولى سيكون ترجيحاً بلا مرجّح، و في الحالة الثانية سيكون ترجيحاً لمرجوح. لذلك فإنَّ على جميع أفراد الامّة أن يتّبعوا الإمام؛ لأنَّ لديه علماً لم يتيسّر لأحد منهم و في ضوء هذا المعيار، أمر إبراهيم مربّيه آزر أن يتّبعه.
فإنَّ مسألة رجوع الجاهل إلى العالم مسألة فطريّة و عقليّة، و الناس جميعهم يحتاجون إليها في شئون الحياة كلّها. فالمريض ينبغي له أن يراجع الطبيب المتخصّص، و إلّا فسوف يدركه الموت. و البنّاء مع عمّاله ينبغي لهم أن يراجعوا المهندس المعماريّ الخبير، و إلّا فالخلل و الدمار سيكونان حليفا بنائهم.
رجوع الشيعة إلي الإمام محمّد الجواد عليه السّلام بعد استشهاد الإمام الرضا عليه السلام
جاء في «بحار الأنوار» نقلًا عن كتاب «عيون المعجزات» أنَّه لمّا قُبض الرضا عليه السلام كان سنّ أبي جعفر عليه السلام نحو سبع سنين
فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد و في الأمصار [حول إمامته]. و اجتمع الريّان بن الصّلت، و صفوان بن يحيى، و محمّد بن حكيم، و عبد الرحمن بن الحجّاج، و يونس بن عبد الرحمن، و جماعة من وجوه الشيعة و ثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجّاج في بركة ذلول يبكون و يتوجّعون من المصيبة. فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء. مَن لهذا الأمر؟ و إلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر الجواد عليه السلام؟ فقام إليه الريّان بن الصّلت، و وضع يده في حلقه، و لم يزل يلطمه، و يقول له: أنت تظهر الإيمان لنا و تبطن الشكّ و الشرك. إن كان أمر من الله جلّ و علا فلو أنَّه كان ابن يوم واحد، لكان بمنزلة الشيخ العالم و فوقه. و إن لم يكن من عند الله، فلو عمّر ألف سنة، فهو واحد من الناس. هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فأقبلت العصابة عليه تعذله و توبّخه.
و كان وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد و الأمصار و علمائهم ثمانون رجلًا فخرجوا إلى الحجّ و قصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر عليه السلام. فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق عليه السلام لأنَّها كانت فارغة و دخلوها و جلسوا على بساط كبير. و خرج إليهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس، و قام مناد، و قال: هذا ابن رسول الله، فمن أراد السؤال، فليسأله. فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد على الشيعة ما حيّرهم و غمّهم، و اضطربت الفقهاء، و قاموا و همّوا بالانصراف، و قالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر عليه السلام يكمل لجواب المسائل، لما كان من عبد الله ما كان، و من الجواب بغير الواجب.
ففتح عليهم باب من صدر المجلس و دخل موفّق [الخادم]، و قال: هذا أبو جعفر. فقاموا إليه بأجمعهم و استقبلوه و سلّموا عليه، فدخل صلوات الله عليه و عليه قميصان و عمامة بذُؤَابتين، و في رجليه نعلان
و جلس. و أمسك الناس كلّهم. فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحقّ ففرحوا و دعوا له و أثنوا عليه و قالوا له: إنَّ عمّك عبد الله أفتى بكيت و كيت. فقال: «لَا إلهَ إلَّا اللهُ يَا عَمِّ! عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ أن تَقِفَ غَداً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولَ لَكَ: لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وَ في الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟!»
و روي عن عمر بن فرج الرخجيّ قال: قلتُ لأبي جعفر: إنَّ شيعتك تدّعي أنَّكَ تعلم كلّ ماءٍ في دجلة و وزنه! و كنّا على شاطئ دجلة، فقال عليه السلام لي: «يقدر الله تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضةٍ من خلقه أم لا؟» قلتُ: نعم، يقدر. فَقالَ: «أنَا أكْرَمُ على اللهِ مِنْ بَعُوضَةٍ وَ مِنْ أكْثَرِ خَلْقِهِ».۱
الموت مع عدم معرفة الدمام، موت جاهليّ
إنَّ الأحاديث المأثورة عن رسول الله التي تدلّ على ضلال الناس بلا إمام كثيرة للغاية و لها مضامين متنوّعة. و نذكر هنا واحداً منها يتّفق عليه الشيعة و السنّة و يقطعون بصدوره عن الرسول الأكرم، و هو قوله: «مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَعْرِفْ إمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».٢
أمّا عن طريق الشيعة فقد روى هذا الحديث بعبارات متعدّدة. في «روضة الكأي»٣ حديث واحد. و في «بحار الأنوار» عن «محاسن
البرقيّ»، و «رجال الكشّيّ»، و «إكمال الدين» للصدوق ستّة أحاديث بهذا المضمون:۱ «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ لَهُ إمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
و في «بحار الأنوار» أيضاً عن «الكافي»٢ عن الإمام الصادق، عن الرسول الأكرم و عن «غيبة النعمانيّ»٣ عن الرسول الأكرم، و عن «عيون أخبار الرضا»،٤ فيما كتب الرضا للمأمون، ثلاثة أحاديث بهذا المضمون: «مَنْ مَاتَ وَ هُوَ لَا يَعْرِفُ إمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
و عن «ثواب الأعمال»٥ للصدوق حديث واحد بهذا المضمون: «مَنْ مَاتَ وَ لَيسَ عَلَيْهِ إمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
و عن «المحاسن»٦ للبرقيّ حديث واحد بهذا المضمون «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ لَهُ إمَامٌ فَمَوْتُهُ مِيتَةٌ جَاهِليَّةٌ». و عنه أيضاً: «مَن مَاتَ بِغَيْرِ إمَامِ جَماعَةٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
و عن «الغيبة»۷ للنعمانيّ حديث واحد بهذا المضمون: «مَن بَاتَ لَيْلَةً لَا يَعْرِفُ فِيها إمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
و عن «عيون أخبار الرضا»۸ و «كنز الفوائد»٩ للكراجكيّ، عن الرضا، عن آبائه، عن عليّ عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه و آله حديثان بهذا المضمون: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ لَهُ إمَامٌ مِنْ وُلدِي مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً وَ يُؤخَذُ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ وَ الإسلامِ».
و عن كتاب «الغيبة» للنعمانيّ۱ أيضاً ثلاثة أحاديث: الأوّل: عن ابن أبي يعفور، و الثاني: عن سماعة بن مهران، و الثالث: عن حمران بن أعين، يقول هؤلاء الثلاثة باختلاف يسير في المضمون: قلنا للصادق عليه السلام: رجل يتولّاكم، و يبرأ من عدوّكم، و يُحلّل حلالكم، و يحرّم حرامكم، و يزعم أنَّ الأمر فيك لم يخرج منكم إلى غيركم. إلّا أنَّه يقول: إنَّهم [المقصود أبناء السجّاد، و الباقر و أبناء الحسن بشكل عام] قد اختلفوا فيما بينهم و هم الأئمّة القادة. و إذا اجتمعوا على رجل فقالوا: هذا، قلنا: هذا، فقال عليه السلام: «إنْ مَاتَ على هَذَا، فَقَد مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
و ينقل أيضاً ثلاث روايات عن كتاب «الاختصاص».٢
الاولى: عن عمر بن يزيد، عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أنَّه قال: «سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ إمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً، إمَامٍ حَيّ يَعْرِفُهُ» قُلْتُ: لَمْ أسْمَعْ أباكَ يَذْكُرُ هَذَا يَعْنِي إمَاماً حَيّاً، فَقَالَ: «قَدْ وَ اللهِ قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ». قالَ: و قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَليهِ وَ آلِهِ و سَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ لَهُ إمَامٌ يَسْمَعُ لَهُ وَ يُطِيعُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
الثانية: عن محمّد بن عليّ الحلبيّ أنَّه قالَ: قَالَ أبو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السّلامُ: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ إمَامٌ حَيّ ظَاهِرٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
الثالثة: عن أبي الجارود أنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أبا عَبدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ إمَامٌ حَيّ ظاهِرٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». قَالَ قُلْتُ: إمَامٌ حَيّ جُعِلْتُ فِداكَ؟ قَالَ: «إمَامٌ حَيّ، إمَامٌ حَيّ».
حديث: "مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَعْرفْ إمامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"
يقول السيّد عليّ خان المدنيّ في «شرح الصحيفة السجّاديّة»: ۱
الروايات في هذا الموضوع من طرق الخاصّة أكثر من أن تحصى. و أمّا من طريق العامّة،٢ فمنها الحديث المشهور المتّفق على روايته عن النبيّ، و هو قوله: «مَن مَاتَ وَ لَمْ يَعْرِف إمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً». و ذكره الحاكم في «المستدرك» و عدّه صحيحاً عن طريق ابن عمر فقال: قال رسول الله: «مَن مَاتَ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ إمَامُ جَمَاعَةٍ فَإنَّ مَوْتَهُ مَوْتَةٌ جَاهِليَّةٌ».
و روى ابن مردويه حديثاً عن عليّ عليه السلام بسند متّصل أنَّه قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ وَ سَلَّمَ في قَولِ الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}٣ قَالَ: يُدعى كُلُّ قَوْمٍ بِإمَامِ زَمَانِهِمْ وَ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَ سُنَّةِ نِبِيِّهِمْ».
و روى ابن عساكر عن خالد بن صفوان بسند متّصل أنَّ رسول الله قال: «لَا تَخْلُو الأرضُ مِن قَائِم لِلهِ بِحُجَّتِهِ في عِبَادِهِ». و منها عن طريق العامّة ما قاله العلّامة الأمينيّ: روى هذا الحديث من طريق أبي صالح عن معاوية مرفوعاً: [و هو مذكور في المسند، للإمام أحمد حنبل ج ٤، ص ٩٤]: «مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ إمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».٤ ثمّ قال: أخرجه الحافظ الهيثميّ في «مجمع الزوائد» ج ٥، ص ٢١٨، و أبو داود الطيالسيّ في مسنده ص ٢٥٩ من طريق عبد الله بن عمر، و زاد: [عليه جملة عن رسول الله و هي] «وَ مَنْ نَزَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ جَاء يَوْمَ القِيَامَةِ لا حُجَّةَ لَهُ».
و قال أيضاً: و هذا الحديث معتضدٌ بألفاظ اخرى من طرق شتّى منها
قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَن مَاتَ وَ لَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». أخرجه مسلم في صحيحه ج ٦، ص ٢٢، و البيهقيّ في سننه ج ٨، ص ١٥٦، و ابن كثير في تفسيره ج ١، ص ٥١٧، و الحافظ الهيثميّ في «مجمع الزوائد» ج ٥، ص ٢١٨. و استدلّ بهذا اللفظ شاه وليّ الله في كتاب «إزالة الخفاء» ج ١، ص ٣، على وجوب نصب الخليفة على المسلمين إلى يوم القيامة وجوباً كفائيّاً.
الثاني: و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ طَاعةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». أخرجه أحمد في مسنده ج ٣، ص ٤٤٦، و الهيثميّ في «المجمع» ج ٥، ص ٢٣٣.
الثالث: و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَن مَاتَ وَ لَمْ يَعْرِفْ إمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». ذكره التفتازانيّ في «شرح المقاصد» ج ٢، ص ٢٧٥، و جعله كقول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في المفاد. و بهذا اللفظ ذكره التفتازانيّ أيضاً في «شرح عقائد النسفيّ» الطبوع سنة ١٣٢٠هـ. غير أنَّ يد الطبع الأمينة على ودائع العلم و الدين حَرّفت من الكتاب في طبع سنة ١٣١٣ هـ سبع صحائف يوجد فيها هذا الحديث.
و حكاه الشيخ على القاريّ صاحب «المرقاة» في خاتمة «الجواهر المضيئة»، ج ٢، ص ٥٩. و قال في ص ٤٥٧: و قوله عليه السلام في صحيح مسلم: «مَن ماتَ وَ لَمْ يَعْرِف إمَامَ زَمانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، معناه: من لم يعرف إماماً يجب عليه الاقتداء و الاهتداء به في أوانه.
الرابع: و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَن خَرَجَ مِنَ الطّاعَةِ وَ فَارَقَ الجَمَاعَةَ۱ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً». أخرجه مسلم في صحيحه
ج ٦، ص ٢١، و البيهقيّ في سُننه ج ٨، ص ١٥٦. و ذكر في «تَيسير الوصول» في الجزء الثالث، ص ٣٩، نقلًا عن الصحيحين للشيخين من طريق أبي هريرة.
الخامس: و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَن فَارَقَ الْجَمَاعَةَ۱ شِبراً فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ». أخرجه مسلم في صحيحه ج ٦، ص ٢١.
السادس: قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَنْ مَاتَ وَ لَا إمَامَ لَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةٌ». ذكره أبو جعفر الإسكافيّ في «خلاصة نقض كتاب العثمانيّة» للجاحظ ص ٢٩. و ذكره الهيثميّ في «المجمع» ج ٥، ص ٢٢٤ و ٢٢٥ بلفظ: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ إمَامٌ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيةٌ»؛ و بلفظ: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ إمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةٌ».
السابع: و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ لإمَامِ جَمَاعَةٍ عَلَيْهِ طَاعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». أخرجه الحافظ الهيثميّ في «مجمع الزوائد» ج ٥، ص ٢١٩.
الثامن: و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «مَن أتَاهُ مِنْ أمِيرهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإنَّ مَنْ خَالَفَ الْمُسلِمِينَ قَيْدَ شِبْرٍ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَة الجَاهِلِيَّةِ».
[جاء هذا الحديث في] «شرح السير الكبير» ج ١، ص ٢٢
نعم فهذه مجموعة من الأحاديث التي وردت بهذا السياق صرّحت بحكم رسول الله بأنَّ من لم يعرف إمام زمانه و مات، فإنَّه مات ميتة أهل الجاهليّة. و لا مجال للنقاش في سندها؛ لأنَّها بلغت حدّ الاستفاضة، بل حدّ
التواتر من حيث الكثرة مضافاً إلى أنَّ سند أكثرها سند صحيح، بحيث إنَّ بعض الكبار اعتبر هذه الأحاديث في عداد الأحاديث المأثورة عن رسولالله، التي بلغت حدّ التواتر المعنويّ مثل حديث: «مَنْ كُنتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ»، فقد نقلوا أنَّ هذا الحديث مأثور عن رسول الله بالتواتر المعنويّ، و ذهب الكثيرون إلى تواتره اللفظيّ.
حديث جابر بن عبد الله الأنصارى حول الأئمّة الاثني عشر
و روى المرحوم المولى فتح الله الكاشانيّ في تفسيره،۱ في ذيل الآية الكريمة:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}.٢ عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنَّه قال: لمّا أنزل الله عزّ و جلّ على نبيّه محمّد صلّى الله عليه و آله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}،٣ قلتُ: يا رسول الله، عرفنا الله و رسوله، فمن اولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم: «هُمْ خُلَفَائِي يَا جَابِرُ وَ أئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِي، أوَّلُهُمْ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَينُ، ثُمَّ عَلِيّ بنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيّ الْمَعْرُوفُ في التَّوراةِ بِالْبَاقِرِ، وَ سَتُدْرِكُهُ يَا جَابِرُ، فَإذَا لَقِيتَهُ فَأقْرِئهُ مِنِّي السَّلامَ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ موسى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيّ بْنُ
موسى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ، ثُمَّ عَلِيّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ، ثُمَّ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ سَمِيِّي وَ كَنِيِّي حُجَّةُ اللهِ في أرْضِهِ وَ بَقِيَّةُ اللهِ۱ في بِلادِهِ، ذَلِكَ الذي يَفْتَحُ الله تعالى ذِكْرُهُ على يَدِهِ مَشارِقَ الأرْضِ وَ مَغَارِبَهَا، ذَلك الذي يَغيبُ عَن شِيعَتِهِ وَ أولِيائهِ غَيْبَةً لَا يَثبُتُ فِيهَا على الْقَولِ بِإمَامَتِهِ إلّا مَنِ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ».
قال جابر: فقلتُ له يا رسول الله، فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم: «أي وَ الذي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ إنَّهم يَستَضِيئؤنَ بنوره، و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع النّاسِ بالشمس و إن تجلّاها سحاب». ثمّ قال: «يَا جَابِرُ، هَذَا مِن مَكْنُونِ سِرِّ اللهِ وَ مَخْزُونِ عِلْمِ اللهِ، فَاكْتُمْهُ إلَّا عَن أهْلِهِ».
قال جابر: فمرّت مدّة مديدة كنت أنتظر فيها هذا الوعد حتى ذهبت يوماً إلى الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام و بينما كان يحدّثني، إذ خرج محمّد بن على من حجرة النساء، و على رأسه ضفيرتان، و عند ما حدّقت فيه، ارتجفت جوانحي و وقف شعري؛ لأنَّي شاهدتُ فيه جميع العلائم التي ذكرها رسول الله. فقلتُ: يَا غُلامُ، أقْبِل، فأقبل، فقلتُ: أدْبِرْ، فأدبرْ. قلتُ: شَمائِلُ رَسُولِ اللهِ وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قلتُ: ما اسمك؟ قال: محمّد، قلتُ: من أبوك؟ قال: زين العابدين عليّ بن الحسين. قلتُ: أنت الباقر؟ قال: «بلى يا جابر، أخبرني ما قال رسول الله». قلتُ: بشّرني رسولُ الله بأنَّي سأعيش حتى أدرك الباقر من ولده، و إذا أدركته ابلّغه سلام رسول الله. فيا محمّد بن عليّ، اعلم أنَّ رسول الله يبلّغك السلام.
فقال: «على رَسُولِ اللهِ السَّلامُ مَا دَامَتِ السَّماواتُ وَ الأرْضُ، وَ عَلَيْكَ يَا جَابِرُ، كَما بَلَّغْتَ السَّلام».
قال جابر: فكنت أتردّد عليه و أسأله عن بعض المسائل، فسألني يوماً، فقلتُ: لَا وَ اللهِ، لَا دَخَلْتُ في نَهى رَسُولِ اللهِ حَيْثُ قَالَ: إنَّهُمْ الأئمّةُ الهُدَاةُ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أحْلَمُهُمْ صِغاراً وَ أعْلَمُهُم كِبَاراً، لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإنَّهُمْ أعْلَمُ مِنكُمْ. فَقال: «صَدَقَ رَسُولُ اللهِ إنَّي أعْلَمُ مِنكَ بِهَذِهِ الْمَسْألَةِ وَ لَقَدْ اوتِيتُ الْحُكْمَ صَبِيّاً، كُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ عَلينا وَ رَحْمَتِهِ لَنَا أهْلَ الْبَيْتِ».۱
يقول المرحوم الشعرانيّ في الهامش: كان جابر في ذلك الوقت لم يفقد بصره بعدُ و ما قاله البعض من أنَّه كان مكفوف البصر عند ما ذهب لزيارة قبر سيّد الشهداء سنة ٦١ هـ لا نصيب له من الصحّة، لكنّه فقد البصر في آخر عمره. و كان عمره عند وفاته ٩٤ سنة، و توفي سنة ٧٧ هـ على ما ذكره المؤرّخون. و كان عمر الإمام الباقر عليه السلام عشرين سنة آنذاك. و جاء في بعض كتب العامّة أنَّ الإمام الباقر نقل بعض الروايات عن جابر.٢
الأئمّة عليهم السلام يعلمون الغيب
كان الأئمّة عليهم السلام يعلمون الغيب.٣ و قد اعترف بهذه الحقيقة
كثير من كبار أهل السنّة و مشاهيرهم. فهذا ابن الأثير الجزريّ يقول بسلسلة إسناده عن عثمان بن صُهيب، عن أبيه، أنَّه قال:
قَالَ عَلِيّ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مَن أشْقَى الأوَّلينَ؟ قُلْتُ عَاقِرُ النّاقَةِ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَمَنْ أشقى الآخِرينَ؟ قُلتُ: لَا عِلمَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، قالَ: الذي يَضْرِبُكَ على هَذَا- وَ أشارَ بِيَدِهِ إلى يَافُوخِهِ- وَ كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أشْقَاكُمْ فَخَضَبَ هَذِهِ مِن هَذِهِ، يَعْنِي؛ لِحْيَتَهُ مِن دَمِ رَأسِهِ».۱ ثمّ يقول ابن الأثير: إنَّ عَلِيّاً جَمَعَ النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُلْجَمٍ الْمُرادِيّ فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا يَحْبِسُ أشْقَاهَا؟! فَوَ اللهِ، لَيَخْضِبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ»، ثُمَّ تَمَثَّلَ:
اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوتِ | *** | فَإنَّ الْمَوتَ لَاقِيكَ |
وَ لَا تَجَزَعْ مِنَ الْقَتلِ | *** | إذَا حَلَّ بِوَادِيكَ٢ |
ثمّ يقول: قال عثمان بن المُغيرة: لَمّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ جَعَلَ عَلِيّ يَتَعشّى لَيْلَةً عِندَ الْحَسَنِ، وَ لَيْلَةً عِندَ الْحُسَيْنِ، وَ لَيْلَةً عِندَ عَبدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ لَا يَزِيدُ على ثَلَاثِ لُقَمٍ، وَ يَقُولُ: «يَأتى أمْرُ اللهِ وَ أنَا خَمِيصٌ، وَ إنَّمَا هِيَ لَيْلَةٌ أو لَيْلتَانِ».٣
ثمّ يقول: خَرَجَ عَلِيّ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَاسْتَقبَلَهُ الإوَزُّ يَصِحنَ في وَجْهِهِ، قَالَ: فَجَعَلْنَا نطرُدُهُنَّ عَنْهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُنَّ فَإنَّهُنَّ نَوائِحٌ»، وَ خَرَجَ فَاصيبُ. وَ هَذَا يَدُلُّ على أنَّهُ عَلِمَ السّنَةَ وَ الشَّهْرَ وَ اللَّيلَةَ التي يُقْتَلُ فِيهَا، وَ اللهُ أعْلَمُ.٤
و يقول ابن حجر الهيثمي: فَلَمّا كَانَتِ اللَّيلَةُ التي قُتِلَ في صَبِيحَتِهَا
أكْثَرَ الْخُرُوجَ وَ النَّظَرَ إلى السَّماءِ، وَ جَعَلَ يَقُولُ: "وَ اللهِ؛ مَا كَذَبْتُ وَ لَا كُذِبْتُ وَ إنَّهَا اللَّيْلَةُ التي وُعِدْتُ".۱
الدَّرْسُ الثَّاني وَ الثَّلَاثُونَ تفسير الآية: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.}
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم
قال اللهُ الحكيمُ في كِتابِهِ الكَرِيمِ:
{وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.۱
المقصود بالهداية الإلهيّة في هذه الآية الأنبياء و الأئمّة الذين تألّقت قلوبهم و تلألأت ضمائرهم بنور الله، و كشف لهم الغطاء عن الأسرار المكنونة في عوالم الغيب، و لم يضِنّوا على من يلتحق بركبهم أن يبلغوا به الغاية المنشودة. و لو تيّسر لأبناء النوع الإنسانيّ أن يتحرّروا من ربقة متطلّباتهم في شُئونهم التكامليّة لبلوغ الغاية و الكمال البشريّ و يسلّموا لمثل اولئك الهداة تسليماً حقيقيّاً، فمن البديهيّ أنَّ إرادة المربّي ذي البصيرة النافذة، الخبير بجميع ميزات السير و السلوك، و مصالح الطريق و مفاسده ستكون بديلة عن إرادتهم الضعيفة المظلمة في كيان وجودهم. و مثل هذه الحالة، تكون متمّمة لنقاط ضعفهم و فتورهم. تعالج آلامهم المعنويّة و تجتاز بهم عقبات النفس الكؤودة، و تمرّنهم على مجاهدة
النفس و طرق الإخلاص، و الهيمنة المعنويّة و الملكوتيّة على قلوبهم و تشعّ على أذهانهم و نفوسهم بقبس النور الحقيقيّ، و تبلغ بهم محطّة النجاح و التمتّع بجميع المواهب الإلهيّة، و تنضج لهم فاكهة وجودهم الفجّة لتعجل منها فاكهة رويّةً حلوة المذاق، ذلك من خلال التربية التشريعيّة، و التموين بالنور التكوينيّ.
أمّا الإنسان الذي لم يتحرر و لم يتجاوز أفكاره الشخصيّة، و لم يتلقّى تعليمه و تربيته من مثل هذا المربّي، فإنَّه سيظلّ حبيس خيالاته الضيّقة و أفكاره القاصرة. و يوصد باب التكامل بوجهه، و لا يتسنّى له العبور من عمى الجهل إلى بصيرة العلم، و من الظلمات إلى النور. و حقّاً سيكون حرمانه و خسرانه أكثر من الآخرين. و هذا هو الضلال البعيد الذي لا يتيسّر علاجه؛ لأنَّ كلّ داءٍ يمكن علاجه إلّا داء الجهل. و كفى الجاهل داءً أنَّه جاهل، فهو قد انغمس في الزوابع المظلمة منتظراً مصيره الأبديّ الذي يمثّل ردّ الفعل الطبيعيّ لجهله.
الإمام منبع النور و العلم، و إذا أرغمنا القلب المظلم على التسليم له و اتّباعه، فإنَّه سيستضيءُ بنوره. و ستترع العين الجافّة بالماء، و تنبعث الروح في الجسد الذي لا حراك فيه، و الإمام هو الذي ينفخ الروح فيه. و أمّا إذا لم نتّصل بالإمام، فإنَّ العين الجافّة ستظلّ على جفافها، و القلب المظلم على ظلمته، و الجسد على سكونه و جموده.
روى النعمانيّ في كتاب «الغيبة» عن الكلينيّ بإسناده المتّصل، عن أبي النصر، عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام أنَّه قال في تفسير الآية الكريمة: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}: «مَنِ اتَّخَذَ دِينَهُ وَ رَأيَهُ بِغَيْرِ إمَامٍ مِن أئِمَّةِ الْهُدَى».۱ و هذه هي الجاهليّة الواردة في
الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال: «من مات و لم يعرف إمام زمانه».
بحث حول مفهوم الميتة الجاهليّة ومعنى الرواية «من مات و لم يعرف إمام زمانه»
تحدّثنا بالتفصيل حول سند هذه الأحاديث، أمّا مفادها و دلالتها فممّا ينبغي التوقّف عندهما طويلًا. و ينبغي قبل كلّ شيء أن نعرف ما معنى الميتة الجاهليّة؟ و ما هي الدرجة التي كان عليها أهل الجاهليّة من الشقاء و التعاسة بحيث أنَّ الذي يموت بلا إمام، فإنَّه يموت كموتهم؟ و مع أنَّ هذا الشخصِ يتّبع القرآن و السنّة النبويّة، بَيدَ أنَّه في نفس الوقت لا يرى الإمام مربّياً له؛ و يقيم أحكام الإسلام وفق ما يمليه عليه هواه فهو كأهل الجاهليّة. و إنَّ أهل الجاهلية على نقيض أهل الإسلام، و هم و أهل الإسلام قطبان مختلفان متباعدان من حيث الشقاء و السعادة. و كانت جميع القبائح و الرذائل الأخلاقيّة و المفاسد الاجتماعيّة و الانحرافات العقائديّة موجودة عند أهل الجاهليّة، نحو القتل، و ذبح الأطفال و الناشئين قرابين أمام الأصنام، و وَأد البنات البريئات، و شرب الخمر، و السرقة و قطع الطريق، و القمار، و الربا الفاحش، و الزنا و هتك الأعراض، و الشرك و عبادة الأصنام و سائر المفاسد الروحيّة، و قساوة القلب، و الشغف بالماديّات، و فقدان الحميّة و الإنصاف.
أما في التربية الإسلاميّة فإنَّنا نجد الرحمة و المروءة، و الصفاء و الوفاء، و الإيثار و الصفح، و الحياء و العفّة، و معرفة الله و عبوديّته و المعاملات حسب تراضي الطرفين، و حفظ الحقوق الفرديّة و الاجتماعيّة، و التضحية من أجل هداية الكفّار و المشركين، و احتضان
اليتامى و الإحسان إلى الفقراء و المعوزين، و البصيرة، و حصول اليقين، و انشراح الصدر، و تجلّي الأنوار الملكوتيّة الإلهيّة في القلب، بحيث يمكننا أن نعتبر أصحاب هذه الفضائل من أهل العلم، و اولئك من أهل الجهل، و هؤلاء من أهل النور. و اولئك من أهل الظلمة، و هؤلاء من أهل الارتقاء و التكامل، و اولئك من أهل الجمود و النقصان، و هؤلاء من أهل التحليق و الوثبات، و اولئك من أهل الوقوف و المراوحة في أماكنهم. و كلّ تلك الرذائل التي يتّصف بها اولئك التعساء هي بسبب جهلهم. و جميع الفضائل المذكورة لأهل الإسلام هي بسبب العلم و دفقات النور المكثّفة في أرواحهم. و لذلك أطلق القرآن الكريم على ذلك العصر: اسم الجاهليّة، و على هذا العصر: اسم الإسلام.
إنَّ المسلمين أنضووا تحت لواء القطب الموجب بسبب اتّصالهم بالنبيّ الكريم و تلقّيهم التعاليم منه. أمّا الجاهليّون فإنَّهم صاروا في القطب السلبي بسبب عدم وجود الموجّه و المرشد، و نتيجة لتصرّم و شيجتهم مع الهدى الإلهيّ، لذلك أطلق القرآن المجيد عنوان الجهل على أهله بديلًا عن أكبر سبّ و لعن و فحش و استياء و تذمّر، و جعل عنوان الجاهليّة في هويّاتهم معرّفاً لهم و لانتما آتهم معبّراً عن انبثاق جميع هذه المفاسد عن الجهل. و الجهل أكبر ذنب لا يغتفر. و متى ذكر عنوان الجهل و الجاهليّة فإنَّه يستغني عن ذكر أيّ عيب آخر. و هذا العنوان وحده جامع لكافّة العناوين القبيحة. و عند ما يريد أن ينتقد عملًا أو عقيدة إلى الحدّ الأخير فإنَّه يطلق صفة الجاهليّة على ذلك العمل أو تلك العقيدة. قال تعالى: {أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}،۱ و قال: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ}.٢
و قال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ}۱ و قال: {قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ}٢ و قال على لسان موسى في جواب قومه عند ما قالوا له: أ تَتَّخِذُنَا هُزُواً؟: {قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ}.٣
فاذا كانت ممارسات أحد المسلمين و أعماله طاعةً لهواه و مشتهياته و كان متمرّداً على الإمام الحيّ عاصياً له، فما الفرق بينه و بين أهل الجاهليّة؟ إنَّهم معاندون و هو معاند أيضاً، و عناد هم خاصّ، و عناده بنمط خاصّ أيضاً. فإذا لم يكن هناك انشداد حقيقيّ إلى الإمام، فما هو الفرق- إذاً- بين ذلك النمط و هذا النمط؟ لأنَّ حقيقة عدم الانشداد، حيث ظلمة الهوى و الميل النفسانيّ، واحدة عند الاثنين. و الكمال و السموّ الذي ارتقى إليه المسلمون كان بسبب الانشداد إلى النبيّ، و لو انفصم عقد الانشداد إلى الإمام بعد النبيّ، فتلك هي حقيقة الجاهليّة التي تجلّت بهذا النمط، لذلك فإنَّ الإنسان بلا إمام، ستكون حياته و موته كحياة أهل الجاهليّة و موتهم. فالإمام هو الذي يحيى الإنسان بالتعليم و التربية الخارجيّة، و على أثر إشراقات الأنوار الملكوتيّة يحيى الباطن، و يرتبط القلب المظلم بمبدأ النور و الإشعاع، و يبلّ غليل الإنسان و يرويه.
روي عن كتاب «كنز الفوائد» للكراجكيّ بإسناده المتّصل عن سلمه بن عطا، عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قالَ: «خَرَجَ الْحُسَيْنُ بنُ عَلِيّ عليهما السّلامُ ذَاتَ يَومٍ على أصْحَابِهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ جَلَّ وَ عَزَّ و الصَّلَاةُ على مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ. يَا أيُّهَا النّاسُ! إنَّ اللهَ-
وَ اللهِ- مَا خَلَقَ الْعِبَادَ إلَّا لِيَعْرِفُوهُ؛ فَإذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ؛ فَإذَا عَبَدُوُهُ اسْتَغْنَوا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَن سِواهُ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بَأبي أنْتَ وَ امِّي يَا بنَ رَسُولِ اللهِ! مَا مَعْرِفَةُ اللهِ؟ قَالَ: «مَعْرِفَةُ أهْلِ كُلِّ زَمَانٍ إمَامَهُمُ الذي يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ».۱
يلاحظُ هنا أنَّ الإمام عليه السلام اعتبر معرفة الله هي معرفة الإمام ذاتها؛ لأنَّ الطريق الوحيد لمعرفة الله هو معرفة الإمام. إذ تتحقّق التربية و التعليم و أخذ أحكام الدين بواسطة الإمام. هذا أوّلًا، و ثانياً: أنَّ الإمام هو الاسم الأعظم لله، و معرفته بالنورانيّة هي معرفة الله نفسها؛ لذلك فإنَّ معرفة الإمام لا تستقلّ عن معرفة الله و لا تقبل الانفصال عنها.
و في هذا الضوء جاءت الرواية عن «قرب الإسناد» للحميريّ، عن ابن عيسى، عن البزنطيّ، عن الإمام الرضا عليه السلام أنَّه قَالَ: «قَالَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ: مَنْ سَرَّهُ أن لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اللهِ حِجَابٌ حتى يَنْظُرَ إلى الله وَ يَنْظُرَ اللهُ إلَيْهِ فَلْيَتَوَالَ آلَ مُحَمَّدٍ وَ يَتَبَّرأ مِن أعْدَائِهِمْ وَ يَأتَمَّ بِالإمَامِ مِنْهُمْ، فَإنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ، نَظَرَ اللهُ الَيْهِ وَ نَظَرَ إلى اللهِ».٢
يستفاد من هذا الرواية أنَّ مقام لقاء الله لا يتحقّق بدون اتّباع الإمام. و أنَّ عشّاق عِزّهِ و الفانين فيه سوف لن ينالوا عزّ الوصول و مقام اللقاء ما لم يسلّموا خاضعين في حرم إمامه. لذلك نرى كثيراً من السالكين و العاشقين الذين حرموا من عالم التشيّع في بداية السلوك، لمّا كانت نيّتهم صادقة، و بَدأوا في عملية السلوك بلا عناد و لجاج، انكشف لهم الغطاء في آخر المطاف؛ فأقرّوا بمقام الولاية فأصبحوا من الشيعة المخلَصين، و على الرغم من أنَّهم كانوا يعيشون في عصر التقيّة، بَيدَ أنَّ المستفاد من
الكلمات و الإشارات، بل و من بعض التصريحات هو أنَّ إرشادهم إلى مقام الحقّ كان مشهوداً.
و الجهة الاخرى من البحث حول الحديث المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم هي أنَّ الإنسان يجب أن يعرف الإمام الحيّ الظاهر لِئلّا يموت ميتة جاهليّة فالإمام الحيّ، هو المعلّم و المعين و صاحب الولاية الفعليّة المطلقة، و القادر على إفاضة الأنوار الملكوتيّة في قلب المؤمن، و المُسَيطر على عالم المُلك. و أنَّ اتّباع تعاليم الرسول الأكرم و سننه فقط، أو اتّباع الأئمّة الذين ماتوا، سوف لن يؤتي اكله بدون الرجوع إلى الإمام الحيّ، و تلقّى التعليم منه، و التربّي على يديه. و إلّا فما هي الحاجة إلى النبيّ الأكرم نفسه في حين يمكن السير على تعاليم إبراهيم الخليل عليه السلام الذي مات و كان صاحب شريعة؟! و ما هي الحاجة إلى مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات و السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله؟! أ لَمْ يَقل ذلك الرجل: كَفَانَا كِتَابُ اللهِ نعمل به و لا نحتاج إلى إمام؟ إنَّ هذا الكلام ليس له قيمة عند أهل الاختصاص. فاتّباع التعاليم الصادرة عن النبيّ أو عن الإمام الذي مات دون الرجوع إلى الإمام الحيّ، هو اتّباع لهوى النفس و الميول الشخصيّة. إذ استحسن تلك التعاليم، و أوّلَها كيفما تشتهيه نفسه، ثمّ عمل بها حسب هواه، و لكنّ اتّباع الإمام الحيّ في الحقيقة هو اتّباع الحقّ. مضافاً إلى ذلك فإنَّ الولاية و القدرة الروحيّة هي في الإمام الحيّ. و لذلك فإنَّ جميع استشفاعات أصحاب اليقين و توسّلاتهم بأولياء الله و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام هي استشفاعات و توسّلات بالإمام الحيّ.
الناس مكلّفون بمعرفة إمامهم في كلّ عصر
و لذلك نجد في الأحاديث الثلاثة المنقولة عن كتاب «الاختصاص» للشيخ المفيد رضوان الله عليه أنَّ الإمامين الصادق و الكاظم عليهما السلام
يؤكّدان على أنَّ طريق النجاة الوحيد هو معرفة الإمام الحيّ الظاهر. و يرويان عن رسول الله أنَّه قال: «من مات بغير إمام حيّ ظاهر يعرفه و يسمع كلامه، و يسلّم له، و يطيعه، و يتربّى على يديه، فإنَّه مات ميتة أهل الجاهليّة». و هذه مسألة في غاية الصواب، و تستدعي التمعّن و التأمّل كثيراً.
في ضوء ما تقدّم، فإنَّ الأشخاص الذين يعيشون في عصر غيبة الإمام محرومون بلا شكّ من أكثر الفضائل و الفواضل. و ما عليهم إلّا إعداد المقدّمات لظهور الإمام كي يتخلّصوا من ميتة الجاهليّة، و كذلك يمهّدوا الأرضيّة اللازمة لظهوره من خلال العمل بتعاليم القرآن، و الجهاد في سبيل الله، و تآلف القلوب؛ لأنَّ سبب الغيبة هو النقص و الفتور الذي عليه الناس، و عدم استعدادهم، و ليس سببها نقصاً في الإمام نفسه. و لو تضاءل ذلك النقص، و نشطت القلوب شيئاً فشيئاً، و ترسّخت التعاليم القرآنيّة فيها بشكل صحيح، فإنَّ ظهور الإمام سيكون حتميّاً، كما نلاحظ ذلك في رسالة الإمام نفسه إلى الشيخ المفيد رضوان الله عليه حيث ذكَّر بهذه الحقيقة. فهو عليه السلام يقول فيها:
«وَ لَوْ أنَّ أشْيَاعَنَا- وَفَّقَهُمُ اللهُ لِطَاعَتِهِ- على اجْتِماعٍ مِنَ الْقُلُوبِ في الْوَفَاءِ بِالعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأخَّرَ عَنْهُمُ الْيُمْنُ بِلِقَائِنَا».۱
إذاً، يتّضح أنَّ سبب عدم الظهور هو افتراق الآراء و عدم اجتماع القلوب على الوفاء بالعهد الذي قطع معهم. و هذا تقصير عظيم من الشيعة بل من الامّة جميعها. و إنَّ ضروب الحرمان كلّها نحو؛ فقدان الإنصاف و سيادة الظلم و الشرك و التعسُّف، مع جميع مظاهر قبحها. منبعثة عن الفتور و الارتخاء، و بالتالي تكون علّة لغيبة الإمام.
و لا منافاة بين ما ذكرناه هنا، و بين الحديث المأثور عن رسول الله إذ أخبر فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ، أنَّ شيعته تنتفع به في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن تجلّاها سحاب؛ لأنَّه عليه السلام موجود بنفسه الزكيّة و صدره الرحب و ولايته التكوينيّة، غائباً كان أو ظاهراً؛ غاية الأمر ليس له إرشاد ظاهريّ في عصر الغيبة و لا يخضع الناس لتوجيهات الإمام و تعاليمه في سيرهم التكامليّ. و هذا ممّا يبعث على الأسف، و الأسف الشديد طبعاً.
و ثمّة فارق كبير بين الشمس التي تبسط أشعّتها على الطبيعة، فتكسو الأشجار خضرة، و تمنح الأرض نوراً و حرارة أكثر، و تعقّم الطبيعة بالقضاء على الأمراض و الجراثيم، فتستبدلها بالصحّة و السلامة، و تظهر بواطن الأشياء، و بين الشمس المحتجبة خلف السحاب، تملأ السماء ضباباً، و تنغّص على الناس حياتهم بالأجواء الموبوءة بجراثيم الزكام و غيره. أجل، فإنَّ الناس ينتفعون في عصر الغيبة، و ينتفعون في عصر الظهور أيضاً، و لكن شتّان بين الاثنين! هذا مع أنَّ بعض الأشخاص القلائل المتحلّين بالهمّة العالية في عصر الغيبة قد دخلوا ميدان العمل بإرادة وطيدة و عزم راسخ و نيّة قويّة، فنالوا إلى حدٍّ ما شرف معرفة الإمام بسبب صفاء قلوبهم و طهارة أرواحهم. و هذا- طبعاً- ظهور شخصيّ لهم، مثلهم بذلك مثل راكب الطائرة في سماء غائمة فيحلّق فوق الغيوم ليصل إلى إشعاعات الشمس المشرقة. لذلك فإنَّ سبيل التكامل في عصر الغيبة غير مسدود أمام التوّاقين إلى حريمه المقدّس. و أيّ فرق بين الظهور و الغيبة عند من بلغ مقام المعرفة و أدرك ذلك الوجود المقدّس بحقيقة الولاية و النورانيّة. سُئل أحد الأعاظم: متى يتشرّف الإنسان بالحضور عند الإمام؟
فأجاب: حينما لا يكون هناك فرق بين الغيبة و الظهور عند الإنسان.
و سُئل عظيم آخر أيضاً: هل تشرّفت برؤية إمام العصر و الزمان؟ فأجاب: عميتْ عينٌ تستيقظ من نومها وقت الصباح، فلا تراه في أوّل نظرتها.
ذكر البرقيّ في كتاب «المحاسن» بإسناده المتّصل عن فضيل، أنَّه قال: سَمِعْتُ أبا جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ وَ لَيْسَ لَهُ إمَامٌ فَمَوتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَ لَا يُعْذَرُ النَّاسُ حتى يَعْرِفُوا إمَامَهُمْ، وَ مَن مَاتَ وَ هُوَ عَارِفٌ لإمَامِهِ لَا يَضُرُّهُ تَقَدَّمَ هَذَا الأمْرُ أوْ تَأخَّرَ، وَ مَنْ مَاتَ عَارِفاً لإمَامِهِ كَانَ كَمَنْ هُوَ مَعَ الْقَائِمِ في فُسطاطِهِ».۱
و الجهة الاخرى من جهات البحث في الحديث المتواتر عن رسول الله، أنَّ المراد من معرفة الإمام، هو معرفة شخص واحد في كلّ زمان، كما جاء ذلك في حديث جابر، حيث ذكر رسول الله صلّى الله عليه و آله الأئمّة واحداً بعد الآخر. و مجمل القول لو قال أحد: إنَّي أقرّ بآل محمّد، و لم يتّخذ لنفسه إماماً من بين الأئمّة المنصوص عليهم، مثلًا يختار لنفسه محمّد بن الحنفيّة، أو زيد بن عليّ بن الحسين، أو عبد الله بن موسى بن جعفر إماماً فإنَّه يموت ميتة جاهليّة أيضاً.
للأئمّة الطاهرين عليهم السلام خصوصيّات غير متوفّرة للآخرين من ذرّيّة النبيّ من بني الحسن أو بني الحسين. و هذه الميزات الروحيّة و سعة الصدر و مقام الولاية الباطنيّة مواصفات تخصّهم بالذات و منحصرة بهم و لذلك جاء في الروايات الثلاث التي نقلناها عن غيبة النعمانيّ سابقاً أنَّ الأئمّة الطاهرين يعتبرون كلّ من لا يعتقد بإمامة أحدهم ضالًّا، إذ يقول هذا مثلًا: إنَّ أمر الولاية غير خارج عن آل محمّد، و لكن هم مختلفون فيما بينهم، فإذا اتّفقوا على التسليم لأحد منهم، نقرّ بامامته أيضاً، فهذا كما يقول
الأئمّة إذا مات على هذه النيّة فإنَّ ميتته جاهليّة، حتى لو صلّى و دفع الزكاة و اعتبر حلال آل محمّد حلالًا، و حرامهم حراماً؛ لإنَّه لا معنى لاتّفاقهم على تعيين إمام لهم، فتعيين الإمام ليس من صلاحيّة أحد، مضافاً إلى ذلك، أنَّ الإمام لا يستطيع أن يسلّم لأحد، و لو حدث أحياناً أنَّ الآخرين لا يسلّمون للإمام أيضاً، فإمامته في هذه الحالة لا تسقط. و لا يرتفع التكليف بالمعرفة، و حتى لو كان هناك اختلاف بين ذريّة الرسول، فما على الإنسان إلّا البحث عن الإمام الحقيقيّ حتى ينجو من الجاهليّة. و كان بين أصحاب الأئمّة أفراد كثيرون يشكّكون و يتوقّفون في إمامة الإمام الذي يخلف الإمام المتوفى، أو أنَّهم يذهبون إلى إمامة شخص آخر من أبناء أمير المؤمنين، أو أبناء الحسن، أو أبناء سائر الأئمّة، كالكيسانيّة و الفَطَحيّة، و الناووسيّة، و الواقفيّة، و الزيديّة، و الإسماعيليّة و غيرهم فهؤلاء كلّهم ضالّون و من ثمّ لم يعتبر الكبار من الأصحاب و العلماء رواياتهم موثوقة كروايات الشيعة.
نزاع الإمام السجّاد عليه السّلام مع محمّد بن الحنفيّة حول الإمامة
جاء في آخر كتاب «مدارك الأحكام» الذي يعتبر من الكتب الفقهيّة النفيسة، ضمن ذكره عشرين خبراً منطوياً على بعض الفوائد، قوله:
السادس عشر: ما رواه الكلينيّ في الصحيح أيضاً، عن أبي عبيدة [الحذّاء] و زرارة جميعاً، عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام قال: «لمّا قُتل الحسين صلوات الله عليه أرسل محمّد بن الحنفيّة إلى عليّ بن الحسين عليه السلام فخلا به، فقال له: يا بن أخي، قد علمت أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله دفع الوصيّة بعده إلى أمير المؤمنين، ثمّ إلى الحسن ثمّ إلى الحسين صلوات الله عليهم، و قد قتل أبوك رضي الله عنه و صلّي على روحه و لم يوصِ، و أنا عمّك و صنو أبيك، و ولادتي من علي، و أنا في سنّي و قدمي أحقّ بها منك في حداثتك، فلا تنازعني في الوصيّة
و الإمامة و لا تحاجّني. فقال له عليّ بن الحسين عليهما السلام: يَا عَمِّ اتَّق اللهَ وَ لَا تَدَّعِ مَا لَيْسَ لَكَ بِحَقٍّ، إنَّي أعِظُكَ أن تُكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. إنَّ أبي يا عمّ (صلوات الله عليه) أوصى إليّ قبل أن يتوجّه إلى العراق، و عهد إليّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، و هذا سلاح رسول الله صلّى الله عليه و آله عندي [و هو علامة الإمامة]، فلا تتعرّض لهذا، فإنّي أخاف عليك نقص العمر و تشتّت الحال. إنَّ الله تبارك و تعالى جعل الوصيّة و الإمامة في عقب الحسين عليه السلام. فإن أردتَ أن تعلم ذلك، فانطلق بنا إلى الحَجَر الأسود حتى نتحاكم إليه و نسأله عن ذلك».
قال أبو جعفر عليه السلام: و كان الكلام بينهما بمكّة، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود، فقال عليّ بن الحسين عليه السلام لمحمّد بن الحنفيّة: ابدأ أنتَ و ابتهلْ إلى الله عزّ و جلّ و سَلْ [سَلْه] أن ينطق لك الحجر ثمّ سله. فابتهل محمّد بن الحنفيّة في الدعاء، و سأل الله عزّ و جلّ ثمّ دعا الحَجَر فلم يُجبه، فقال عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما: يا عمّ، لو كنتَ وصيّاً و إماماً لأجابك. قال له محمّد: فادع أنتَ يا بن أخي و سله. فدعا الله عزّ و جلّ عليّ بن الحسين عليه السلام بما أراد. ثمّ قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء و ميثاق الأوصياء و ميثاق الخلق أجمعين لما أخبرتنا مَن الوصيّ و الإمام بعد الحسين بن عليّ عليهما السلام قال: فتحرّك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثمّ أنطقه الله عزّ و جلّ بلسان عربيّ مبين فقال: إنَّ الوصيّة و الإمامة بعد الحسين بن عليّ عليهما السلام إلى عليّ بن الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. قال: فانصرف محمّد بن عليّ و هو يتولّى عليّ بن الحسين صلوات الله عليهم أجمعين».۱
أجل، فللإمام مواصفات خاصّة لا يتحلّى بها غيره حتى لو كان عمره أقلّ من الآخرين. فإنَّ حبّة الدّر مع أنَّها ثمينة، بَيدَ أنَّها لا تقاس بحبّة ألماس و ربّما كان لحبّة ألماس قيمة تفوق قيمة حبّة الدرّ آلاف المرّات. إنَّ العقيق اليمانيّ و العقيق الهنديّ كلاهما عقيق، و لكن شتّان بينهما!. و إنَّ لمحمّد بن الحنفيّة و زيد بن عليّ بن الحسين مقامات سامية و سوابقَ طيّبة و أفكاراً عالية، بَيدَ أنَّهما لا يقاسان أبداً بالأئمّة و مقاماتهم و درجاتهم. و كان عليّ بن جعفر رجلًا عالماً و محدّثاً و خبيراً و راوياً و فقيهاً و زاهداً، و كان من كبار بني هاشم، و بني الزهراء، و أبناء سيّد الشهداء عليه السلام و عمّ الإمام الرضا والد الإمام الجواد، و كان في سنّ الشيخوخة، و أقرّ مع جميع ما يتمتّع به من مواصفات بإمامة طفل له من العمر سبع سنين «الإمام الجواد»، و سلّم له خاضعاً، و لم يأل جهداً في توقيره و تعظيمه، و استفاد من علمه كثيراً. و كان ميثم تمّاراً عنده عدد من سلال التمر في مكان قريب من مسجد الكوفة، بَيدَ أنَّه حصل من المقام و المنزلة نتيجة تسليمه للإمام أمير المؤمنين و طاعته له ما جعله يعرف الإمام النورانيّة و الولاية. و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يذهب إلى دكّانه بعض الوقت. فكانا يجلسان مستأنسين كالأخوين الشفيقين. و علّمه الإمام من الأسرار الغيبيّة و المعارف الإلهيّة ما أذهل كلّ ناظر لهما.
و كان ابن عبّاس تلميذ مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أستاذاً في التفسير، و من القادة العسكريّين المشهورين، و من خواصّ الإمام. و كان محمّد بن الحنفيّة يخاطبه بربّانيّ الامّة، بَيدَ أنَّه لم يتحمّل العلوم التي كانت عند ميثم التمّار. و لم يستوعبها، إذ كان ذلك الرجل التمّار على درجة من معرفة إمامه لم تتيسّر لابن عبّاس، فأحياناً كان ابن عبّاس يأمر الإمام أو يؤاخذه على بعض الأعمال.
إخبار أمير المؤمنين عليه السّلام باستشهاده علم بالغيب
ذات يوم قال الإمام لميثم: «كيف أنت إذا طلبك دعيّ۱ بني أميّة و أمرك بالبراءة منّي؟» فقال ميثم: لا و الله، لا أتبرّأ منك. فقال الإمام: «و الله، سيقتلونك و يصلبونك». فقال ميثم: أصبر، و هذا قليل يهون في سبيل الله، فقال الإمام: «ستكون معي و في درجتي يوم القيامة». فهذا التلميذ عارف بإمامه، مدرك لسيطرته الغيبيّة على المُلك و الملكوت. و لذلك كان يخبر بالمغيبات و ما يُخبِئهُ المستقبل من فِتَن و أحداث. و كانت وقائع المستقبل كلّها واضحة و مشهودة أمامه كالمرآة، فكيف بالإمام نفسه الذي كان يخبر صاحبه بالأسرار و المَغيّبات، و الذي أقرّ الصديق و العدوّ بعلومه الغيبيّة.
يقول ابن حجر الهيثميّ: وَ سُئِلَ وَ هُوَ على الْمِنْبَرِ بِالْكُوفَةِ عَنْ قَولِهِ تَعَإلى: {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}٢ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ غَفْراً! هَذِهِ الآياتُ نَزَلَتْ فِيّ وَ في عَمِّي حَمْزَةَ وَ في ابْنِ عَمِّي عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْد الْمُطَّلِبِ، فَأمَّا عُبَيْدَةُ فَقَضَى نَحْبَهُ شَهيداً يَوْمَ بَدْرٍ، وَ حَمْزَةُ قَضَى نَحْبَهُ شَهيداً يَوْمَ احُدٍ، وَ أمّا أنَا فَأنْتَظِرُ أشقَاهَا يَخْضِبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ- وَ أشارَ بِيَدِهِ إلى لِحْيَتِهِ وَ رَأسِهِ- عَهْدٌ عَهِدَهُ إلَيّ حَبِيبي أبُو الْقَاسِمِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ».٣
وَ رُويَ أنَّ عَلِيّاً جَاءَهُ ابنُ مُلجَم يَستَحمِلُهُ٤ فَحَمَلَهُ، ثُمَّ قَالَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ:
ارِيدُ حَيَاتَهُ وَ يُرِيدُ قَتْلِي | *** | عَذِيرى۱ مِنْ خَلِيلِي مِن مُرادِ |
ثُمَّ قالَ: «هَذَا وَ اللهِ قَاتِلِي»، فَقِيلَ لَهُ: أ لَا تَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ: «فَمَنْ يَقْتُلُنِي؟!»٢
الدَّرْسُ الثَّالِثُ وَ الثَّلَاثُونَ: تفسير الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ... لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ ، وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}.۱
ذكرت معظم التفاسير أنَّ الآية الكريمة {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} تشير إلى الحالات المتنوّعة التي يمرّ بها الإنسان في عالم البرزخ، و القيامة، و العرض، و الصراط، و الميزان، و أخيراً الجنّة، و النار.
الحوادث الواقعة بين الامم الماضية ستقع بين المسلمين أيضاً
فقد جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» في ذيل الآية عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال: «لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعلِ وَ الْقُذَّةِ بالقُذَّةِ ،٢ لَا تُخطِئونَ طَرِيقَهُمْ وَ لَا يُخْطَا شِبرٌ بِشِبْرٍ وَ ذِراعٌ
بِذِراعٍ وَ بَاعٌ بِبَاعٍ،۱ حتى أنْ لَوْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ». قَالُوا: الْيَهُودَ وَ النَّصَارى تَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «فَمَنْ أعْنِي؟ لَتَنْقُضُنَّ عُرَى الإسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَيَكُونُ أوَّلُ مَا تَنْقُضُونَ مِنْ دِينِكُمْ الأمَانَةَ وَ آخِرُهُ الصَّلاةَ».٢
وردت أحاديث اخرى أيضاً عن طريق الخاصّة و العامّة تحمل مضمون هذا الحديث نفسه. فقد كان الاختلاف بين الامّة من جملة الأحداث التي وقعت لليهود و النصارى. و نشبت خلافات جمّة في امّة موسى، و امّة عيسى، و ظهرت منازعات و مشاجرات كثيرة بينهم أفضت إلى بروز آراء و نِحَل مختلفة. و ذهبت كلّ طائفة منهم وراء رئيس من رؤسائهم. و بلغ التكتّل و التحزّب و الانحراف عن أصل الشريعة حدّاً ضاع فيه الدين الحقيقيّ بينهم. و قلّ أتباعه حتى أصبحوا يعدّون بالأصابع. و كانت طائفة واحدة من كل امّة موسى قد اتّبعت وصيّة يوشع بن نون. و كذلك فرقة واحدة من امّة عيسى كلّها قد سارت وراء وصيّة شمعون بن الصفا. فلا بدّ- إذَن- أن يظهر الاختلاف في امّة خاتم الأنبياء. و تبقى فرقة واحدة فقط تتّبع وصيّة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و يروي موفّق بن أحمد الخوارزميّ، و هو من أعيان العامّة و كبارهم بسنده المتّصل عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنَّه قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم: يا عَلِيّ مَثَلُكَ في امتى مَثَلُ عيسى ابنِ مَريَمَ، افْتَرَقَ قَوْمُهُ ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ مُؤمِنُونَ وَ هُمُ الْحَوارِيُّونَ، وَ فِرْقَةٌ عَادُوهُ وَ هُمُ الْيَهُودُ، وَ فِرْقَةٌ غَلَوا فِيهِ فَخَرَجُوا عَنِ الإيمانِ. وَ إنَّ امتى سَتَفْتَرِقُ فِيكَ٣
ثَلَاثَ فِرَقٍ: شيعَتُكَ وَ هُمُ الْمُؤمِنُونَ، وَ فِرْقَةٌ هُمْ أعْدَاؤُكَ وَ هُمُ الْنَّاكِثُونَ، وَ فِرْقَةٌ غَلَوا فِيكَ وَ هُمُ الْجَاحِدُونَ وَ هُمُ الضَّالُّونَ، وَ أنْتَ يَا عَلِيّ؛ وَ شِيعَتُكَ في الْجَنَّةِ، وَ عَدُوُّكَ وَ الْغَالي فِيكَ في النَّارِ».
و روي عن ابن مَردويه أيضاً، و هو من كبار العامّة و ثِقاتهم، بسنده المتّصل عن أبان بن تغلب، عن مسلم أنَّه قَالَ: سمِعْتُ أبَا ذرٍّ وَ الْمِقدادَ وَ سَلْمَانَ يَقُولُونَ: كُنّا قُعُوداً عِنْدَ النَّبِيّ إذْ أقْبَلَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: «تَفْتَرِقُ امتى بَعْدِي ثَلاثَ فِرَقٍ: أهْلُ حَقٍّ لَا يَشُوبُونَهُ بِباطِلٍ، مَثَلُهُمْ كَالذَّهَبِ كُلَّما فَتَنَتهُ النَّارُ زَادَ جُودَةً، وَ إمَامُهُمْ هَذَا- وَ أشَارَ إلى أحَدِ الثَّلاثَةِ- وَ هُوَ الذي أمَرَ اللهُ في كِتَابِهِ {إمَامًا وَ رَحْمَةً} وَ فِرْقَةٌ أهْلُ بَاطِلٍ لَا يَشُوبُونَهُ بِحَقٍّ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْحَدِيدِ كُلَّمَا فَتَنَتْهُ النَّارُ زَادَ خُبْثاً، وَ إمَامُهُمْ هَذَا، فَسَألْتُهُمْ عَنْ أهْلِ الْحَقِّ وَ إمَامِهِمْ»، فَقَالُوا: عَلِيّ بنُ أبي طَالِبٍ وَ أمْسَكُوا عَنِ الآخَرَينِ، فَجَهَدْتُ في الآخَرَينِ أن يُسَمُّوهُمَا فَلَمْ يَفْعَلُوا، هَذِهِ روايَةُ أهْلِ الْمَذْهَبِ.۱
جاءت هذه الرواية ذاتها في كتاب «سليم بن قيس الهلاليّ الكوفيّ» و ذكر عباراتها واحدة بعد الاخرى حتى هذه العبارة: «كُلَّما فَتَنَتْهُ النّارُ زَادَ خُبْثاً وَ إمَامُهُم هَذَا»، ثُمَّ قال: «وَ فِرْقَةٌ مُذَبْذَبينَ ضُلّالًا لَا إلى هَؤلاءِ وَ لَا إلى هَؤلاءِ، وَ إمَامُهُمْ هَذَا- أحَدُ الثَّلاثَةِ»- وَ سَألْتُهُمْ عَنِ الثَّلاثَةِ، فَقَالُوا: إمَامُ الْحَقِّ وَ الْهُدَى عَلِيّ بنُ أبي طَالِبٍ، وَ سَعْدُ٢ إمَامُ الْمُذَبْذَبينَ، وَ حَرَصْتُ أن يُسَمُّوا لِيَ الثَّالِثَ فَأبَوا، وَ عَرَّضُوا لِي حتى عَرَفْتُ مَنْ يَعنُونَ.٣
و جاءت أحاديث كثيرة عن الشيعة و السنّة تذكر على أنَّ الامّة ستنقسم إلى ثلاث و سبعين فرقة، واحدة ناجية في الجنّة، و الباقون في النار. و هذه الفرقة الناجية هم شيعة وصيّ رسول الله عليّ بن أبي طالب عليه السلام و أتباعه.
أحاديث حول افتراق الامّة بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
أمّا عن طريق الشيعة فقد وردت في عدّة مضامين: ١- عن «الكافي»، و «تفسير العيّاشيّ»، و «أمالي» الشيخ الطوسيّ، و «جامع الأخبار» و «الخصال» للصدوق، و «الاحتجاج» للطبرسيّ، و «تفسير الثعلبيّ»،۱و كتاب «سليم بن قيس الهلاليّ»، و «فضائل» ابن شاذان، و كتاب «الروضة في الفضائل» هؤلاء جميعاً رووا بإسنادهم عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ امَّةَ موسى افْتَرَقَتْ بَعْدَهُ على إحْدَى وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَّةٌ، وَ سَبْعُونَ في النَّار. وَ افْتَرَقَتْ امَّةُ عيسى بَعْدَهُ على اثْنَتَيْنِ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيةٌ، وَاحِدى وَ سَبْعُونَ في النّارِ. وَ إنَّ امتى سَتَفْتَرِقُ بَعْدِي على ثَلَاثٍ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ، وَ اثْنَتَانِ وَ سَبْعُونَ في النّارِ».٢
٢- عن كتاب «الغارة» عن ابن عقيل، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنَّه قال: «اخْتَلَفَتِ النَّصَارى على كَذَا وَ كَذَا، وَ اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ على كَذَا وَ كَذَا، وَ لَا أراكُمْ أيُّهَا الامَّةُ إلّا سَتَخْتَلِفُونَ كَمَا اخْتَلَفُوا وَ تَزيدُونَ عَلَيْهِمْ فِرْقَةً، ألَا وَ إنَّ الْفِرَقَ كُلَّهَا ضَالَّةٌ إلّا أنَا وَ مَنِ اتَّبَعَني».٣
افتراق الامّة بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى ثلاث و سبعين فرقة
٣- عن كتاب «الفضائل» لابن شاذان، و كتاب «الروضة» أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: «بعد أن ذكر رسول الله صلّى الله عليه و آله افتراق الامم، قال: الفرقة الناجية من قوم موسى هم الذين اتّبعوا وصيّه. و الفرقة الناجية من قوم عيسى هم الذين اتّبعوا وصيّه، ثمّ قال: سَتَفْتَرِقُ امتى على ثَلاثٍ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، اثْنَتَانِ وَ سَبْعُونَ في النّار، وَ وَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ، وَ هِيَ التي اتَّبَعَتْ وَصِيِّي وَ ضَرَبَ بِيَدِهِ على مَنْكِبي ثُمَّ قَالَ: اثنَتَانِ وَ سَبْعُونَ فِرْقَةً حَلَّتْ عَقْدَ الإلهِ فِيكَ، وَ وَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ وَ هِيَ التي اتَّخَذَتْ مَحَبَّتَكَ وَ هُمْ شِيعَتُكَ».۱
٤- و جاءت رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّهُ قَالَ لِرَأسِ الْيَهُودِ: «على كَمِ افْتَرَقْتُمْ»؟ قَالَ: على كَذَا وَ كَذَا فِرْقَةً، «فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: كَذَبْتَ، ثُمَّ أقْبَلَ على الناس فَقَالَ: وَ اللهِ، لَو ثُنِيَتْ لِيَ الْوَسَادَةُ لَقَضَيْتُ بَيْنَ أهْلِ التَّوراةِ بِتَوراتِهِمْ وَ بَينَ أهْلِ الإنْجِيلِ بِإنْجِيلِهِمْ، وَ بَيْنَ أهْلِ الْقُرآنِ بِقُرآنِهِمْ. افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ على إحْدَى وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، سَبْعُونَ في النَّارِ، وَ وَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ، وَ هِيَ التي اتَّبَعَتْ يُوشَعَ بنَ نُونٍ وَصِيّ موسى. وَ افْتَرَقَتِ النَّصَارى على اثْنَتَينِ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً إحْدَى وَ سَبْعُونَ في النَّارِ، وَ وَاحِدةٌ في الْجَنَّةِ وَ هِيَ التي اتَّبَعَتْ شَمْعُونَ وَصِيّ عيسى. وَ تَفْتَرِقُ هَذِهِ الامَّةُ على ثَلَاثٍ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، اثْنَتَانِ وَ سَبْعُونَ في النَّارِ، وَ وَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ، وَ هِيَ التي اتَّبَعَتْ وَصِيّ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ سَلَّم. وَ ضَرَبَ بِيَدِهِ على صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: ثَلاثَ عَشْرَةَ فِرْقَة مِنَ الثَّلاثِ وَ السَّبعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا تَنْتَحِلُ مَوَّدَتِي وَ حُبِّي، وَاحِدَةٌ مِنْهَا في الْجَنَّةِ وَ هُمُ النَّمْطُ الأوْسَطُ وَ اثنَتا عَشْرَةَ في النَّارِ».٢
و أمّا عن طريق أهل السنّة بشأن حديث الافتراق، فقد جاءت أحاديث في «مسند أبي داود»، و «سنن ابن ماجة»، و «مسند أحمد بن حنبل».۱ و روى إمام الحرمين موفّق بن أحمد الخوارزميّ أيضاً بإسناده عن عليّ بن أبي طالب أنَّه قَالَ: «تَفْتَرِقُ هَذِهِ الامَّةُ على ثَلَاثٍ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، ثِنْتَانِ وَ سَبْعُونَ في النَّارِ وَ وَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ، وَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ في حَقِّهِمْ: {وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ}٢ وَ هُمْ أنَا وَ شِيعَتِي».٣
و روى الحافظ محمّد بن موسى الشيرازيّ في الكتاب الذي استخرجه من التفاسير من الاثني عشر تفسيراً (تفسير أبي يوسف يعقوب بن سفيان، و تفسير ابن جُرَيح، و تفسير مُقاتل بن سليمان، و تفسير وَكيع بن الجَرّاح، و تفسير يوسف بن موسى القَطّان، و تفسير قَتادَة، و تفسير أبي عُبَيْدَةَ القاسم بن سلام، و تفسير عليّ بن حرب الطائيّ، و تفسير السُّدّي، و تفسير مجاهد، و تفسير مُقاتل بن حيّان، و تفسير أبي صالح و كلهم من العامة) عن أنس بن مالك [أنَّه] قال: كنّا جلوساً عند رسول الله فتذاكرنا رجلا يصلّي و يصوم و يتصدّق يزكّي فقال لنا رسول الله لا أعرفه، فقلنا يا رسول الله إنَّه عبد الله و يسبّحه و يقدّسه و يوحّده فقال رسول الله لا أعرفه. فبينا نحن في ذكر الرجل، إذ قد طلع علينا، فقلنا: هو ذا. فنظر إليه رسول الله فقال لأبي بكر خذ سيفي هذا و امضِ إلى هذا الرجل فاضرب عنقه فإنَّه أوّل من يأتيه من حزب الشيطان فدخل أبو بكر المسجد فرآه راكعاً فقال و الله لا أقتله فإنَّ رسول الله نهانا عن قتل المصلّين فرجع
إلى رسول الله [و قال:] إنّي رأيته يصلّي فقال رسول الله اجلس فلستَ بصاحبه، قم يا عمر خذ سيفي من يد أبي بكر فاضرب عنقه و ادخل المسجد. قال عمر فأخذت السيف من أبي بكر و دخلت المسجد فرأيت الرجل ساجداً فقلت و الله لا أقتله فقد استأمنه من هو خير منيّ. فرجعتُ إلى رسول الله فقلت يا رسول الله إنّي رأيت الرجل ساجداً. فقال يا عمر! اجلس فلست بصاحبه قم يا عليّ فإنَّك أنت قاتله إن وجدته فاقتله فإنَّك إن قتلته لم يقع بين امتى اختلاف أبداً. قال عليّ عليه السلام. «فأخذت السيف و دخلت المسجد فلم أره، فرجعت إلى رسول الله فقلت يا رسول الله ما رأيتُه. فَقالَ لِي: يَا أبَا الْحَسَنِ، إنَّ امَّةَ موسى افْتَرَقَتْ إحْدَى وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَ الْبَاقُونَ في النَّار؛ وَ إنَّ امَّةَ عيسى افْتَرَقَتِ اثْنَتَينِ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ ناجِيَةٌ وَ الْبَاقُونَ في النَّارِ؛ وَ إنَّ امتى سَتَفْتَرِقُ على ثَلَاثٍ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، فِرْقَةٌ نَاجَيَةٌ وَ الْبَاقُونَ في النَّارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَ مَا النَّاجِيَةُ؟ فَقَالَ: الْمُتَمَسِّكُ بِمَا أنْتَ عَلَيْهِ وَ أصْحَابُكَ. فَأنزَل الله تعالى في ذَلِكَ الرَّجُل: {ثانِيَ عِطْفِهِ [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ}.۱
يقول هذا أوّل من يظهر من أصحاب البدع و الضلالات قال ابن عبّاس: و الله ما قتل ذلك الرجل إلّا أمير المؤمنين يوم صفّين، ثمّ قال: له في الدنيا خزي قال القتل و نذيقه يوم القيامة عذاب الحريق بقتاله عليّ بن أبي طالب عليه السلام يوم صفّين.٢
قال كثير من العلماء: قتل ذلك الرجل المشاغب في حرب النهروان،
و كان من الخوارج، و يُدعى: ذُو الثَّديَة أو ذُو الثُّدَية بالتصغير. و جاء في كتاب «الإصابة»: أنَّه عند ما أقبل، قال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «أنشدك الله، هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل منيّ أو خير منّي؟ قال: اللهم! نعم».
ثمّ قال صاحب «الإصابة»: القول القويّ هو أنَّ ذا الثَّدية هو ذُو الخُوَيْصِرة نفسه و هو حرقوص بن زهير الذي قتل في النهروان على يد عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و لمّا فرغ الإمام من أهل النهروان، قال: «التمسوا المجدع (ذو الثديّة)، فطلبوه»، ثمّ جاءوا، فقالوا: لم نجد، قال: «ارجعوا، ثلاثاً». كلّ ذلك لا يجدونه. فقال [الإمام] عليّ عليه السلام: «و الله، ما كَذبتُ، و لا كُذّبت. قال: فوجدوه تحت القتلى في طين.۱ فظهر صدق كلام رسول الله عند ما قال للإمام: أنت قاتله.
إخبار أمير المؤمنين عليه السلام في معركة النهروان علم غيبي
و من الأخبار الغيبيّة للإمام في حرب النهروان أنَّه قال: لا يبقى منهم عشرة و لا يقتل منّا عشرة. فسلم من أهل النهروان تسعة فقط و كانوا أربعة آلاف. و قتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام تسعة فقط. و كان عبد الرحمن بن ملجم المرادي أحد الخوارج. و قد اتّفق مع اثنين من أصحابه في مكّة على أن يقوم هو بقتل الإمام.
نقل ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» بإسناده المتّصل عن أبي عبد الرحمن السُّلمي أنَّه قَالَ: «قَالَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ عَلَيْهمَا السَّلامُ: خَرَجْتُ وَ أبي يُصَلَّي في الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيّ إنِّي بِتُّ اللَّيْلَةَ اوقِظُ أهْلِي؛ لأنَّها لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ صَبيحَةِ يَوْمِ بَدْرٍ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَمَلَكَتْنِي عَيْنَأي فَشَبَحَ لِي رَسُولُ الله، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ امَّتِكَ مِنَ الأوْدِ وَ اللَّدَدِ! فَقَالَ: ادْعُ عَلَيْهِمْ، فَقُلْتُ:
اللهُمَّ؛ أبْدِلْ لِي بِهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي، وَ أبْدِلْ لَهُمْ بي مَنْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ مِنِّي». فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ «وَ جَاءَ ابنُ أبي النَّبّاحِ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَخَرَجَ وَ خَرَجْتُ خَلْفَهُ، فَاعْتَوَرَهُ رَجُلَانِ، فَأمّا أحَدُهُما فَوَقَعَتْ ضَرْبَتُهُ في الطّاقِ، وَ أمَّا الآخَرُ أثبَتَها في الرَّأسِ».۱
و جاء في بعض الروايات أنَّ هذه الرؤيا التي قصّها أمير المؤمنين عليه السلام على الإمام الحسن عليه السلام رآها الإمام في آخر ليلة من عمره الشريف. و قال بعد ذلك: «قال رسول الله بعد دعائي: يا عليّ؛ دعاؤك مستجاب. و أنت ضيفنا بعد ثلاث ليال. أي حسن: مضت على تلك الرؤيا ليلتان، و هذه هي الليلة الأخيرة».
الدَّرْسَانِ الرَّابِع وَ الثَّلَاثُونَ وَ الْخَامِسَ وَ الثَّلَاثُونَ: تفسير الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
شيعة عليّ عليه السلام هم الفائزون
قَالَ اللهُ الحكيم في كتابه الكريم:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.۱
نزلت هذه الآية الكريمة بحقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و شيعته. و الأحاديث المأثورة بشأن نزول هذه الآية في الإمام عليه السلام و شيعته تفوق الإحصاء. و قد دوّنها العلماء الكبار من الشيعة و السنّة في كتبهم، و ذكرها المفسّرون منهم في تفاسيرهم في ذيل هذه الآية المباركة. في كتاب «غاية المرام» أحد عشر حديثاً عن طريق العامّة، و سبعة أحاديث عن طريق الخاصّة بمضامين مختلفة، كلّها تتحدّث عن شأن نزول هذه الآية بحقّ عليّ بن أبي طالب و شيعته، رواها مؤلّف الكتاب المذكور بإسناده المتّصل.٢ فقد نقل عن الشيخ الطوسيّ في كتاب
«الأمالي»،۱ و عن صاحب كتاب «الأربعين»٢ بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنَّه قالَ: كُنَّا عِندَ النَّبِيّ فَأقْبَلَ عَلِيّ بنُ أبي طالِبٍ، فَقَالَ النَّبِيّ: «قَدْ أتَاكُمْ أخِي»، ثُمَّ الْتَفَتَ إلى الْكَعْبَةِ فَضَرَبَهَا بِيَدِهِ فَقَالَ: «وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ هَذَا وَ شِيعَتَهُ هُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ قَالَ: «إنَّهُ أوَّلُكُمْ إيمَاناً مَعِي، وَ أوْفَاكُمْ بِعَهْدِ اللهِ، وَ أقْوَمُكُمْ بأمْرِ اللهِ، وَ أعْدَلُكُمْ في الرَّعِيَّةِ وَ أقْسَمُكُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَ أعْظَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ مَزيَّةً»، قَالَ: وَ نَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}. قَالَ: وَ كَانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إذَا أقْبَلَ عَلِيّ عَلَيهِ السّلامُ قَالُوا: جَاءَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.٣
و عن طريق محمّد بن العبّاس، عن جعفر بن محمّد الحسينيّ [أوصل المرحوم السيّد البحرانيّ هذا الحديث إلى أبي رافع و قال احتجّ أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الحديث نفسه على الشورى التي شكّلها عمر] أنَّه عليه السلام قال لأهل الشورى: «أنشدكم بالله، هل تعلمون يوم أتيتكم و أنتم جلوس مع رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: هذا أخي قد أتاكم ثمّ التفت إلى الكعبة و قال و ربّ الكعبة المبنيّة، إنَّ هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة، ثمّ أقبل عليكم أما انَّه أوّلهم إيمانا و أقومكم بامر الله و أوفاكم بعهد الله و أقضاكم بحكم الله، و أعدلكم في الرّعيّة
و أقسمكم بالسويّة، و أعظمكم عند الله مزيّة. فأنزل الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} فكبّر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و كبّرتم و هنا باجمعكم. فهل تعلمون أنَّ ذلك كذلك؟» قالوا اللهم نَعَم.۱
أحاديث أهل السنّة في تفسير الآية {...خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} بأمير المؤمنين عليه السّلام
و ذكر هذا الحديث بعينه كلّ من: الإمام الخوارزميّ (موفّق بن أحمد) في «المناقب» الفصل التاسع، ص ٦٢؛ و الحموينيّ في «فرائد السمطين». و رواه السيّد البحرانيّ عن طريق العامّة، عن الأعمش، عن عطيّة، عن الخُدريّ، و كذلك عن صاحب كتاب «الأربعين» في الحديث الثامن و العشرين من بين الأحاديث البالغ عددها أربعين حديثاً في ذلك الكتاب، و رواه أيضاً عن الخطيب الخوارزميّ بسلسلة سنده المتّصل، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ.٢
و روى السيوطيّ في تفسير هذه الآية الكريمة أربعة أحاديث عن رسول الله بشأن عليّ بن أبي طالب و شيعته، و قال قبل ذلك: وَ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنْ أكْرَمُ الْخَلْقِ على اللهِ؟ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ؛ أ ما تَقْرَئينَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} فَكَانَ أصْحَابُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إذَا أقْبَلَ عَلِيّ قَالُوا: جَاءَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.٣
هذا الحديث الذي ذكره ابن عساكر، و هو من مشاهير و أعيان علماء العامّة، يشبه الحديث الذي نقلناه الآن عن «أمالي» الشيخ الطوسيّ
و كتاب «الأربعين»، و «مناقب» الخوارزميّ، و «فرائد السمطين» في المتن و العبارة، و هذا هو الذي احتجّ به أمير المؤمنين عليه السلام في اجتماع الشورى.
و أمّا الحديث الثاني: «وَ أخْرَجَ ابْنُ عَدِيّ وَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أبي سَعِيدٍ مَرْفُوعاً: عَلِيّ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ».
وَ أمّا الحديث الثالث: وَ أخْرَجَ ابْنُ عَدِيّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ لِعَلِيّ: «هُوَ أنْتَ وَ شيعَتُكَ يَوْمَ القِيَامَةِ راضِينَ مَرْضِيِّينَ».۱
وَ أمّا الحديث الرابع: وَ أخْرَجَ ابْنُ مِرْدَوَيْه عَنْ عَلِيّ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أ لَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟ أنْتَ وَ شِيعَتُكَ، وَ مَوْعِدي وَ مَوْعِدُكُمْ الْحَوضُ إذَا جِئتُ الامَمَ لِلْحِسَابِ تُدعَونَ غُرّاً مُحَجَّلِين»َ.٢
و نقل الخوارزميّ في الفصل السابع عشر من «المناقب» هذا الحديث عن أمير المؤمنين أنَّه قال: «حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ وَ أنَا مُسَنِّدُهُ إلى ظَهْرِي فَقَالَ: أي عَلِيّ، أ لَمْ تَسْمَعُ قَوْلَ اللهِ»٣ إلى آخر الحديث، و لكنّه ذكر في ذيله لفظ: «جَاءَتِ الامَمُ لِلْحِسَابِ»، كما أنَّ المرحوم كاشف الغطاء عند ما نقل هذا الحديث عن السيوطيّ في كتابه «أصل الشيعة و اصولها»
ذكر لفظ: «جَاءَتِ الامَمُ لِلْحِسَابِ».۱
رواية «إنَّ عَلِيّاً و شيعَتَهُ هُمُ الْفَائِزون» في مدارك أهل السنّة
و كذلك نقله العلّامة الخبير نجم الدين العسكريّ في استدراكات كتاب «عليّ و الوصيّة» ص ٣٨٢ عن «تاريخ ابن عساكر» المخطوط و قال: و فيه أيضاً (أي في الورقة السادسة و التسعين من الكتاب) أنَّ رسول الله قال: «إنَّ عَلِيّاً وَ شيعَتَهُ هُمُ الفَائِزُونَ».
و جاءَ أيضاً في الحديث التاسع و الثمانين ص ٢٢٩ ضمن حديث مفصّل ينقله عن الخوارزميّ في «المناقب» أنَّ رسول الله قال: «قُومي، يَا فَاطِمَةُ؛ إنَّ عَلِيّاً وَ شيعَتَهُ هُمُ الفَائِزُونَ غَداً».
و نقل أيضاً في الصفحة ٣٨٧ من الورقة السادسة و الثمانين لتاريخ ابن عساكر المخطوط أنَّ أبا القاسم السمرقنديّ نقل عن محمّد بن على أنَّه قالَ: سَألْتُ امَّ سَلَمَةَ زَوجَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَنْ عَلِيّ فَقَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ عَلِيّاً وَ شيعتَهُ هُمُ الفَائِزُونَ يَومَ القِيَامَةِ».
و روي كذلك في الصفحة ٣٨٧ من الورقة الخامسة و الثمانين لتاريخ ابن عساكر، عن أبي العلاء صاعد بن أبي الفضل بن أبي عثمان المالقيّ أنَّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: «يَا عَلِيّ؛ إذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ خَرَجَ قَوْمٌ مِن قُبُورِهِمْ لِبَاسُهُمُ النُّوِرُ على نَجائِبَ مِن نُورٍ، أزِمَّتُهَا يَواقيتُ حُمْرٌ تَزِفُّهُمُ الْمَلَائِكَةُ إلى المَحْشَرِ، فَقَالَ عَلِيّ: تَبَارَكَ اللهُ مَا أكْرَمَ هَؤلاءِ على اللهِ! قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا عَلِيّ؛ هُمْ أهْلُ وِلَايَتِكَ وَ شيعَتُكَ وَ محِبُّوكَ يُحِبُّونَكَ بِحُبِّي وَ يُحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ، هُمُ الفَائِزُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ».
و روى الحموينيّ أيضاً في «فرائد السمطين»، و السيّد البحرانيّ عن موفّق بن أحمد الخوارزميّ بإسناده المتّصل عن طريق العامّة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّهُ قَالَ: «يَا عَلِيّ؛ إنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ وَ لأهْلِكَ وَ لِشِيعَتِكَ وَ مُحِبِّي شِيعَتِكَ وَ مُحِبِّي مُحِبِّي شِيعَتِكَ، فَأبشِرْ فَإنَّكَ الأنْزَعُ الْبَطينُ، مَنْزُوعٌ مِنَ الشِّركِ، بَطِينٌّ مِنَ العِلْمِ.۱
و روى الشيخ سليمان القندوزيّ عن الديلميّ، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، أنَّه قال: «شِيعَةُ عَلِيّ هُمُ الفَائِزُونَ».٢ و روي عن الديلميّ أيضاً أنَّ رسول الله قال: «يَا عَلِيّ؛ أنْتَ وَ شيعَتُكَ تَردُونَ عَلَيّ الْحَوضَ وِرْداً».٣
و كذلك روى الخوارزميّ في «المناقب» الفصل التاسع عشر ص ٢٢٨، بإسناده عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يُنَادُونَ عَلِيّ بنَ أبي طَالِبٍ بِسَبْعَةِ أسْمَاءٍ: يَا صِدِّيقُ، يَا دَالُّ، يَا عَابِدُ، يَا هَادِي، يَا مَهْدِي، يَا فَتَى، يَا عَلِيّ، مُرَّ أنْتَ وَ شيعَتُكَ إلى الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ».
و روى الخوارزميّ أيضاً في هذا الفصل عن ناصر الحقّ بسنده عن رسول الله أنَّه قالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ امتى سَبْعُونَ ألْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ عَلِيّ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: هُمْ شِيعَتُكَ يَا عَليّ، وَ أنْتَ إمَامُهُمْ».٤
و روى الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ بسنده المتّصل عن الشعبيّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنَّه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم: «أنتَ وَ شيعَتُكَ في الْجَنَّةِ».۱
و نقل العلّامة الأمينيّ أحاديث حول شيعة أمير المؤمنين عليه السلام عن «مروج الذهب» ج ٢، ص ٥١، قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ دُعِيَ النَّاسُ بِأسْمَائِهِمْ وَ أسْمَاءِ امَّهَاتِهِمْ إلّا هَذَا (يعني عَلِيّاً) وَ شِيعَتُهُ فَإنَّهُمْ يُدْعَونَ بِأسْمَائِهِمْ وَ أسْمَاءِ آبائِهِمْ لِصِحَّةِ وِلَادَتِهِم».
و عن «نهاية ابن الأثير» ج ٣، ص ٢٧٦ قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «إنَّكَ سَتَقْدَمُ على اللهِ أنْتَ وَ شِيعَتُك رَاضِينَ مَرضِيِّينَ».
و عن «الصواعق المحرقة» ص ٩٦، و ص ١٢٩، و ص ١٤٠قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم لِعَليّ: «يَا عَلِيّ؛ إنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ وَ لِذَنْبِكَ وَ لِوُلْدِكَ وَ لأهْلِكَ وَ شِيعَتِكَ وَ لِمُحِبِّي شِيعَتِكَ».
و عن «مجمع الزوائد» ج ٩، ص ١٣١، و «كفاية الطالب» ص ١٣٥ قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «أنتَ أوَّلُ دَاخِلٍ الْجَنَّةَ مِنْ امتى، وَ إنَّ شيعَتَكَ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ مَسْرُورُونَ مُبْيَضّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلِي، أشْفَعُ لَهُمْ فَيَكُونُونَ غَداً في الْجَنَّةِ جِيْرَانِي».
و عن الحاكم في «المستدرك» ج ٣، ص ١٦٠، و عن ابن عساكر في تاريخه ج ٤، ص ٣١٨، و عن محبّ الدين الطبريّ في «الرياض النضرة» ج ٢، ص ٢٥٣، و عن ابن الصبّاغ المالكيّ في «الفصول المهمّة» ص ١١ و عن الصفوريّ في «نزهة المجالس» ج ٢، ص ٢٢٢ قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم «أنَا الشَّجَرَةُ، وَ فَاطِمةُ فَرْعُهَا، وَ عَلِيّ لِقَاحُهَا، وَ الْحَسَنُ
وَ الْحُسَينُ ثَمَرَتُهَا، وَ شِيعَتُنَا وَرَقُهَا، وَ أصْلُ الشَّجَرَةِ في جَنَّةِ عَدْنٍ وَ سَائِرُ ذَلِكَ في سَائِرِ الْجَنَّةِ».
و عن الطبرانيّ، عن أبي رافع، و ابن عساكر في تاريخه ج ٤ ص ٣٨، عن أمير المؤمنين عليه السلام و عن «الصواعق المحرقة» ص ٩٦ و «تذكرة» سبط بن الجوزيّ ص ٣١، و «مجمع الزوائد» ج ٩، ص ١٣١ و «كنوز الحقائق» للمناويّ في حاشية «الجامع الصغير» ج ٢، ص ١٦ قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «يَا عَلِيّ؛ إنَّ أوَّلَ أربَعَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أنَا وَ أنْتَ وَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ، وَ ذَرارِينَا خَلْفَ ظُهُورِنَا، وَ أزواجُنَا۱ خَلْفَ ذَرارينَا، وَ شِيعَتُنَا عَنْ أيْمَانِنا وَ عَنْ شَمائِلِنَا».
و عن الهيثميّ في «مجمع الزوائد» ج ٩، ص ١٧٢، قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم في خطبة له: «أيُّهَا النَّاسُ مَنْ أبْغَضَنَا أهْلَ الْبَيْتِ حَشَرَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ يَهودِيّاً». فَقَالَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَ إنْ صَامَ وَ إن صَلَّى؟ قَالَ: «وَ إن صَامَ وَ إن صَلَّى وَ زَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ، احْتَجَزَ بِذَلِكَ مِن سَفْكِ دَمِهِ وَ أن يُؤدِّي الْجِزيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صَاغِرُونَ».
و عن الخطيب البغداديّ في «تاريخ بغداد» ج ٧٢ ص ١٤٦ قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «شَفَاعَتِي لُامتى مَنْ أحَبَّ أهْلَ بَيْتِي وَ هُمْ شِيعَتِي».٢
و ذكر الخوارزميّ في الفصل الثالث عشر من «المناقب» بسنده
المتّصل كلام رسول الله بشأن أمير المؤمنين يوم خيبر، إلى أن وصل إلى قوله: «وَ إنَّكَ أوَّلُ دَاخِلٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ امتى وَ شِيعَتُكَ على مَنَابِرٍ مِنْ نُورٍ رِواءً مَرْوِيِّينَ۱ مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلي، أشْفَعُ لَهُمْ فَيَكُونُونَ غَداً في الْجَنَّةِ جِيْرَانِي».٢
أحاديث أهل السنّة حول شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام
و ذكر السيّد البحرانيّ أيضاً خمسة و تسعين حديثاً عن طريق العامّة و ثمانية و أربعين حديثاً عن طريق الخاصّة حول فضيلة أصحاب عليّ و شيعته و مواليه و موالى الأئمّة عليهم السلام.٣ و نقل في تفسير الآية المباركة: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ}٤ حديثاً عن طريق الخوارزميّ موفّق بن أحمد، عن جابر بن عبد الله أنَّه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبيّ فَأقْبَلَ عِليّ بنُ أبي طَالِبٍ رِضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: «وَ الذي نَفسِي بِيَدِهِ؛ إنَّ هَذَا وَ شِيعَتَهُ هُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ القِيَامَة».٥ و ذكر أربعة أحاديث عن طريق الخاصّة تبيّن أنَّ المراد من الفائزين في هذه الآية الشريفة هم على عليه السلام و أصحابه.٦
و من المعلوم- طبعاً- أنَّ هذه الآية تنطبق على الإمام و شيعته من باب الجَري و التطبيق، لا من باب التفسير و شأن النزول. و لا منافاة بين
نقل جابر بن عبد الله الأنصاريّ هذا الحديث عن رسول الله ضمن شأن نزول الآية الواردة في سورة البيّنة مرّة، و بين نقله هذه الحديث ضمن بيان تطبيق هذه الآية الواردة في سورة الحشر مرّة اخرى.
و قال ابن الأثير في مادّة «قمع» وَ في حَدِيثِ عَلِيّ قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ «سَتَقْدَمُ على اللهِ أنتَ وَ شِيعَتُكَ راضِينَ مَرْضِيِّينَ، وَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ عَدُوُّكَ غِضاباً مُقْمَحِينَ. ثُمَّ جَمَعَ يَدَهُ إلى عُنُقِهِ يُرِيهِمْ كَيْفَ الإقْمَاحُ» الإقْمَاحُ رَفْعُ الرَّاسِ وَ غَضُّ الْبَصَرِ. يُقَالُ: أقْمَحَهُ الْغُلُّ إذَا تَرَكَ رَأسَهُ مَرْفُوعاً مِنْ ضِيقِهِ.۱
و قال الزمخشريّ في كتاب «ربيع الأبرار» يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ أنَّهُ قَالَ: «يَا عَلِيّ؛ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أخَذْتُ بِحُجْزَةِ الله تعالى وَ أخَذْتَ أنْتَ بِحُجْزَتِي وَ أخَذَ وُلْدُكَ بِحُجْزَتِكَ وَ أخَذَ شيعَةُ وُلْدِكَ بِحُجَزِهِمْ فَترى أينَ يُؤمَرُ بِنَا».٢
اتّباع شيعة عليّ عليه السلام لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
إنَّ الأحاديث المذكورة جميعها تحوم حول مناقب شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام التي رويت عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و ثبّتها الكبار من أئمّة السنّة و الجماعة في كتبهم المتنوّعة ككتب التفسير، و الحديث و السيرة، و التاريخ، و التراجم و غيرها. و نقل علماء الشيعة كثيراً منها في كتبهم أيضاً. بَيدَ أنَّا لمّا كنّا نتوخّى إثبات الهويّة الشيعيّة لكبار الصحابة، و مناقب شيعة الإمام عليّ بن
أبي طالب باعتراف أهل السنّة أنفسهم، لذلك نقلنا الأحاديث الآنفة عن كتبهم غالباً. و تستفاد من تلك الأحاديث أنَّ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام شيعة في عصر النبيّ الأكرم نفسه، كانوا يتأسّون به في أساليب حياتهم و سلوكيّاتهم، في العبادة، و الصدق، و الاستقامة و الجهاد، و الإيثار، و التضحية في سبيل الإسلام، و عشق الله، و الانشداد إلى مقام لقاء الله، و الزهد، و النسك، و الإطاعة، و التسليم المطلق أمام الآيات القرآنيّة و أوامر الرسول و نواهيه، و عدم الاعتراض و التشكيك في أفعال الرسول و أقواله و سائر أعماله الحسنة و شيمه و شمائله المحمودة. و كانوا يتّبعون أمير المؤمنين عليه السلام في اقتدائه برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على عكس بعض الأشخاص الذين لم يسلّموا تسليماً خالصاً. و كانوا يؤاخذونه بين حين و آخر، و ربّما وجّهوا له الأوامر من وحي فظاظتهم و غلظتهم، و كانوا يشكّكون بنبوّته في مواطن الخطر و يؤوّلون الآيات القرآنيّة حسب هواهم، و ينظرون إلى كلام رسول الله كأيّ كلام عاديّ يقبل الصّحة و الخطأ. و ربّما كانوا يتصوّرون أنَّ آراءهم الشخصيّة في كثير من الامور أفضل من رأي رسول الله و أرفع و أسمى منه و ربّما لجّوا و عاندوا و أصرّوا على آرائهم، و ألحّوا على الأخذ بها في مقابل رأي الرسول الكريم. و كانوا يؤذون النبيّ، و يتدخّلون في شئونه الشخصيّة بدون إذنه، و يسلكون سلوكاً معاكساً لأمره في كثير من المواطن الحسّاسة بكلّ وقاحة، و يخرجون عن تقاليد الأدب و الذوق و المجاملة و يتشاجرون فيما بينهم بحضوره، و أحياناً كانوا يجادلونه و يخاصمونه هادفين إدانته بكلامهم على حدّ زعمهم.
و كانوا يرفعون أصواتهم عنده، و في نفس الوقت كان لهم اتّصال مع كثير من العوامّ و الطبقة الوسطى في المجتمع، و كانوا يرغمون هؤلاء علي
اتّباعهم، و كلّما سمعوا كلاماً من رسول الله بشأن فضائل أهل البيت و أمير المؤمنين عليهم السلام كانوا يمتعضون و يتجهّمون، و يفسّرون كلامه في حقّ أهل البيت و شيعتهم على أنَّه ينطلق من دافع الحميّة و العصبيّة، و قرابة العصب، و ينبع من المشاعر المادّيّة و العواطف الظاهريّة و أحياناً النفعيّة، لا سيّما و إنَّهم كانوا يرون بامّ أعينهم أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لم ينفصل لحظة واحدة عن رسول الله، بل كان ملازماً له في سرّائه و ضرّائه، و في بأسائه و شدائده، و كان نصيره الوحيد و حاميه المتفاني إذا ادلهمّت الخطوب و حمي الوطيس، و نكص الأبطال. و هو الذي قدّمه رسول الله على أنَّه أخوه و وزيره و وصيّه و خليفته، و وليّ أمر المسلمين و صاحب التصرّف المطلق في شئونهم جميعاً. و كانت الآيات القرآنيّة تنزل بحقّه مشيدة به باستمرار، و كان النبيّ صلّى الله عليه و آله يتكفّل ببيانها للناس، كما جاء في الحديث عنه أنَّه قال: «مَا مِن آيَةٍ نَزَلَتْ في القُرآنِ فِيهَا يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إلّا وَ عَلِيّ رَأسُهَا وَ أمِيرُهَا».۱
و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يبيّن للناس مقامات الإمام المعنويّة و درجاته الروحيّة و نتائجه الاخرويّة، و ذلك طيلة فترة النبوّة. و هذا هو الذي صعّد من لهيب الحقد و الحسد و الضغينة في صدور الذين لم يطيقوا رؤية ذلك، و بالتالي فإنَّ ما يغلي في نفوسهم من حبّ الذات، و نزوة حبّ الظهور جعلهم يَنأون عن أبي الحسن و ينظرون إليه نظرة ازدراء و استصغار.
إطلاق اسم الشيعة تعليم نبويّ صلّى الله عليه و آله و سلّم
بَيدَ أنَّ كثيراً من الصحابة الكرام المطيعين و المنقادين لأوامر نبيّهم الذين لم يكن لهم رأي و اعتراض في مقابل كلامه، و كانت روح التعالى و الاعتداد و الاستكبار ضعيفة عندهم أو معدومة، فهؤلاء عند ما كانوا يشاهدون تضحيات أمير المؤمنين و عباداته المعلومة و المشهودة عند الملأ الإنسانيّ من جهة، و تمجيد النبيّ و ثناءه عليه من جهة اخرى، كانوا يتقرّبون منه و يتشرّفون بمودّته و محبّته، و يواسونه في الخطوب و المصاعب، و يلتزمون بمعاشرة أمير المؤمنين عليه السلام و الترّدد عليه و هذا أفضى- شيئاً فشيئاً- إلى ظهور صفات أمير المؤمنين عليه السلام فيهم. و إلى تعمّقهم في العبادة، و الجهاد، و الإيثار، و الإنفاق، و الصدق و المحبّة، و التحمّس، و الشوق إلى لقاء الله، و المروءة، و سائر الصفات الحميدة. و إذ أقرّوا بوصاية عليّ و خلافته من قبل رسول الله، لذلك عرفوا منذ ذلك الحين بشيعة عليّ و أوّل من أطلق عليهم هذا الاسم هو رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و هذا ما ظهر في الأحاديث التي رويناها سابقاً. و نقل العلّامة الطباطبائيّ في هامش الصفحة الخامسة من كتاب «الشيعة و الإسلام» عن الصفحة ١٨٨ من الجزء الأوّل من كتاب «حاضر العالم الإسلاميّ» أنَّ أوّل اسم ظهر في عصر رسول الله هو اسم الشيعة، و عرف به سلمان، و أبو ذرّ، و المقداد، و عمّار و من الطبيعيّ فإنَّ شيعة الإمام عليّ هم المسلمون الحقيقيّون؛ لأنَّ التشيّع يعني الطاعة الخالصة لله، و ذلك هو معنى الإسلام، و الإسلام الحقيقيّ هو التشيّع. و كما تحدّثنا مفصّلًا عن آية الإنذار، و حديث العشيرة في الدروس المتقدّمة، فإنَّ رسول الله قال في أوّل يوم بلّغ فيه نبوّته بحضور بني عبد المطّلب، و كانوا أربعين رجلًا
اجتمعوا بدعوته: «أيُّكُمْ يُوازِرُنِي على أن يَكُونَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فيكُمْ» فلم يجبه أحد، فقام عليّ بن أبي طالب و قال: «أنَا يَا رَسُولَ اللهِ». فبايعه، و تصافحا، ثمّ قال: «إنَّ هَذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أطِيعُوا».۱
فالشيعة في ضوء ما تقدّم ليسوا فرقة خاصّة منعزلة عن الإسلام، بل هم طائفة شيّدوا كافّة أعمالهم و عقائدهم و أخلاقهم و معنويّاتهم على أساس التعاليم الإسلاميّة، و لم يتخطّوا تعاليم نبيّهم الكريم قطّ، بل كانوا يرون أنَّ أمره هو أمر الله نفسه. و لمّا كانوا مطيعين للقرآن وفقاً لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ}٢. و قوله تعالى: {وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}،٣ فهم مطيعون لرسول الله أيضاً، و رسول الله أعلن نبوّته مقرونة بوصاية عليّ بن أبي طالب و خلافته في يوم واحد. و هذه هي حقيقة الموضوع. فما أسخف من يقول بأنَّ التشيّع ظهر في عصر الصفويّين، أو في عصر البويهيّين، أو عند ما انتقلت السلطة من الامويّين إلى العبّاسيّين، أو في زمن الخوارج الذين كانوا في مقابل أصحاب الإمام عليّ عليه السلام أو عند ما قتل عثمان فسُمّي أنصاره: شيعة عثمان، و سُمّي أنصار خلافة الإمام: شيعة عليّ. فهذه كلّها تقوّلات و تخرّصات ما أنزل الله بها من سلطان، و ليست ذا بال و قيمة عند الكبار و العلماء من أصحاب الخبرة بل عند من له أدنى اطّلاع على التاريخ و السيرة و الأحاديث.
و نقل عن عبد الله بن عنان المحامي في تاريخ «الجمعيّات السرّيّة و الحركات الهَدّامة» ص ٢٦، قوله: و كان لعليّ حزب ينادي بخلافته عقب
النبيّ صلّى الله عليه و آله مباشرةً. و يرى أنَّه هو و بنوه أحقّ الناس بها. إلى أن يقول و من الخطأ أن يقال إنَّ الشيعة إنَّما ظهروا لأوّل مرّة عند انشقاق الخوارج. و إنَّهم سمّوا كذلك لبقائهم إلى جانب عليّ. فشيعة عليّ ظهروا منذ وفاة النبيّ كما قدّمنا.
و يقول ابن خلدون في تاريخه ج ٣، ص ١٧١: و في قصّة الشورى إنَّ جماعة من الصحابة كانوا يتشيّعون لعليّ و يرون استحقاقه على غيره لمّا عدل به إلى سواه، تأفّفوا من ذلك و أسفوا له مثل؛ الزبير، و معه عمّار بن ياسر، و المقداد بن الأسود و غيرهم. إلّا أنَّ القوم لرسوخ قدمهم في الدين و حرصهم على الالفة لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفّف و الأسف.۱
أسماء جماعة من شيعة الإمام علي عليه السلام من الصحابة و التابعين
يقول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: كان أعيان صحابة النبيّ و أبرارهم، كسلمان المحمّديّ- أو الفارسيّ- و أبي ذرّ [الغفاريّ]، و المقداد، و عمّار و خُزَيمَة ذِي الشَّهادَتَينِ، و ابن التَّيِّهان، و حذَيفَة اليمان، و الزبير، و الفضل بن العبّاس، و أخيه الحبر عبد الله، و هاشم بن عُتبَة المِرقال، و أبي أيّوب الأنصاريّ، و أبان، و أخيه خالد ابني سعيد العاص الامويّين، و ابيّ بن كَعْب سيّد القرّاء، و أنَس بن حارث الذي سمع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: «إنَّ ابْنِيَ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ في أرْضٍ يُقَالُ لَهَا كَرْبَلاء، فَمَنْ شَهِدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَلْيَنصُرُهُ»، فخرج أنس و قُتل مع الحسين عليه السلام. و راجع «الإصابة» و «الاستيعاب» و هما من أوثق ما ألّف علماء السنّة في تراجم الصحابة، فإنَّهما يعتبران كثيراً من الصحابة من
شيعة عليّ بن أبي طالب.
و لو أردت أن أعدّ عليك الشيعة من الصحابة و إثبات تشيّعهم من كتب السنّة لأحوجني ذلك أن أفرد كتاباً ضخماً، و قد كفاني مئونة ذلك علماء الشيعة، راجع «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة» للسيّد على خان صاحب كتاب «سلافة العصر» و غيرها من الكتب الجليلة ك- «طراز اللغة» الذي هو من أنفس ما كتب في اللغة. على أنَّه رحمه الله لم يذكر في الطبقات مشاهير الصحابة من بني هاشم كحمزة، و جعفر، و عقيل و نظائرهم. و ذكر من غيرهم أكثر من قدّمنا ذكرهم بزيادة عثمان بن حُنَيف، و سَهْل بن حنيف، و أبي سعيد الخُدريّ و قَيس بن سعد بن عُبادة رئيس الأنصار، و بُرَيدة، و البَراء بن مالك، و خَبّاب بن الأرت، و رِفاعة بن مالك الأنصاريّ، و أبي الطُّفيل عامر بن واثلة، و هِند بن أبي هالة، و جُعْدَة بن هُبَيْرة المَخزوميّ، و امّه امّ هاني بنت أبي طالب، و بلال بن رباح المُؤذّن. هؤلاء جلّ ذكرهم أو أكثرهم، (يعدّهم صاحب «الطبقات» من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب) و لكن يخطر على بإلى أنَّي جمعت ما وجدته في كتب تراجم الصحابة ك- «الإصابة» و «اسد الغابة» و «الاستيعاب» و نظائرها من الصحابة الشيعة زهاء ثلاثمائة رجل من عظماء صحابة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كلّهم من شيعة عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام و لعلّ المتتبّع يعثر على أكثر من ذلك.۱
و بعد ذلك يعدّ التابعين الذين كانوا من الشيعة كالأحنَف بن قيس و سُوَيد بن غَفَلَة، و عَطيّة العَوفي، و الحَكَم بن عُتَيْبَة، و سالم بن أبي الجعد، و عليّ بن الجعد، و الحسن بن صالح، و سعيد بن جُبير، و سعيد بن المُسّيب، و الأصبغ بن نُباتة، و سليمان بن مهران الاعمش، و يحيى بن
يَعْمُر العدوانيّ صاحب الحجّاج، و أمثال هؤلاء ممّن يطول تعدادهم، و كانوا مؤسّسي العلوم الإسلاميّة كالنحو، و الصرف، و اللغة، و العروض، و العربيّة و التفسير، و الحديث، و الفقه، و التاريخ، و الكلام، و المناظرات و الفلسفة، و الحكمة، و السِيَر، و الآثار، و الشعر، و يُعدِّد الخلفاء الشيعة و وزراءهم و أصحاب المناصب و الديوان. حقّاً أنَّ كتابه يضمّ كثيراً من المواضيع النفيسة القيّمة. يقول مؤلّفه: و لو أردنا ضبط جميع سلاطين الشيعة و من تقلّد الوزارة و الإمارة و المناصب العالية بعلمهم و كتابتهم و عظيم خدماتهم للإسلام، لما وسعتهم المجلّدات الضخمة و الأسفار العديدة و قد تصدّى والدنا العلّامة أعلى الله مقامه إلى تراجم طبقات الشيعة من علماء و حكماء و سلاطين و وزراء و منجّمين و أطبّاء، و هكذا إلى ثلاثين طبقة كلّ طبقة مرتّبة على حروف المعجم و سمّاه «الحُصُون المَنيعة في طبقات الشيعة» فكتب عشرة مجلّدات ضخام لم تخرج إلى المبيّضة و المطبعة. و مع ذلك لم يأت على القليل منهم.۱
السبب في عظمة الشيعة و كرامتهم
و ينبغي أن نرى لما ذا خصّ الله الشيعة بكلّ هذه العظمة؟ و لما ذا كلّ هذا الثناء و التبجيل الذي صرّح به رسول الوحي و الأمين على سرّ الله؟ يا ترى؛ لما ذا تميّزوا على سائر الخلق أنَّهم يدخلون الجنّة بغير حساب؟ و لما ذا هم الفائزون فقط و غيرهم لا؟ و ما هو السّر المكنون في ما قام به النبيّ الأكرم، و هو خاتم النبيّين و سيّد المرسلين، إذ ضرب الكعبة بيده و أقسم بالله، و أعلم أصحابه أنَّ شيعة عليّ وحدهم هم الفائزون؟ و لما ذا خصّوا بكلّ تلك الدرجات الاخرويّة من الشفاعة، و الكوثر، و التسنيم
و الجنّة، و رضا الله، و الخلود، و النضارة دون غيرهم؟
و تطرّقت أحاديث كثيرة إلى صفات الشيعة و أخلاقهم و أعمالهم قبل: المروءة، و الإنصاف، و الصدق، و الإيثار، و الصبر، و الاستقامة و الصفاء، و الخلوص، و العبادة، و الجهاد، و الصيام، و الصدقة، و الاعتقاد الراسخ بالله و تعاليمه، و هذه صفات قد اجتمعت في مولاهم عليّ بن أبي طالب. إنَّهم صفّوا حسابهم مع الدنيا، و تجلّدوا أمام المشاكل و المصائب و المحن، و تعفّفوا لساناً و قلماً و بطناً و فرجاً، و اجتنبوا المعاصي، بل و جلوا صَدء قلوبهم بعبوديّتهم لمعبودهم الحقّ، و صقلوها حتى تألّقت الأنوار الإلهيّة فيها. فالشيعة اناس تعلّموا دروس العمل في مدرسة مولاهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فاجتازوا بذلك جميع عقبات عالم البرزخ، و القبر، و سؤال منكر و نكير، و الحشر، و العرض و الحساب، و السؤال و الصراط، و الميزان. و رسخ في قلوبهم كلام إمامهم في هذه الدنيا؛ إذ قال: «وَ أخْرِجُوا مِنَ الدنْيَا قُلُوبِكُم قَبْلَ أن تُخْرَجَ مِنهَا أبْدَانُكُم».۱
و من الطبيعيّ فإنَّ الجنّة التي محلّ الأبرار المطهّرين، لا بدّ أن تكون محلّهم و مستقرّهم. إنَّهم ساروا على نهج أمير المؤمنين الذي سلّم لأوامر ربّه و تعاليمه تسليماً خالصاً، لم يعترضوا و لم يناقشوا في ذلك، و اتّبعوا أوامر نبيّهم في أحرج الساعات و أعسر المواطن، و أقرّوا بكافّة الآيات القرآنيّة و الأحاديث النبويّة بشأن أمير المؤمنين و أهل بيته و بقيّة الشؤون الخاصّة بهم. لقد كانوا أصحاب خلوص فكريّ و علميّ أفضى بهم أن يطبّقوا عقيدتهم عمليّاً في العالم الخارجيّ، فكانوا بمأمن عن العناد
و الحسّ الاستكباريّ. و هذا هو مقام الشيعة نموذج وافٍ لمقام الإنسانيّة، و ثمرة ناضجة طريّة في عالم الوجود، و وردة متفتّحة في حديقة الوجدان و الحميّة و الإنصاف.
و ثمّة أشخاص في مقابل هؤلاء أوّلًا: لم ينظروا إلى تعاليم رسول الله على أنَّها تعاليم واجبة التطبيق، و كانوا يتركون النبيّ وحده في الساعات الحرجة، و لم يعرفوا بالخضوع و الخشوع في عبادتهم، و لم يكونوا من أهل الإيثار و التضحية، و لم يوطّنوا أنفسهم على الجهاد و الصبر و التحمّل في المحن و الشدائد، و لم يُشَمّ الصدق في كلامهم و لا الخلوص في عبادتهم، و لا العشق و التحمّس عندهم للقاء الله في السرّ. ثانياً: كانوا متثاقلين متباطِئين في مقام العمل، قلوبهم قاسية و نفوسهم متمرّدة عاصية لم تذعن للحقّ. و بهذه القلوب و النفوس كانوا يتعاملون مع رسول الله، و بسبب تلوّنهم و تشكيكهم، كانوا يحرجون رسول الله في كلّ يوم و كلّ ساعة. إنَّهم أهل جهنّم، و جهنّم مقامهم الأبديّ؛ إنَّهم خلّدوا نفوسهم الشرّيرة في الصفات و الملكات القبيحة في هذه الدنيا، فلا بدّ أن يكونوا مخلّدين في ذلك العالم الذي هو عالم البروز و الظهور. لذلك فإنَّ تقسيم المسلمين إلى شيعة، و غير شيعة في عصر الرسول الأعظم كان أمراً لا مناص منه، فالشيعة يمثّلون الفريق المطيع و اولئك يمثّلون الفريق الصلف المتمرّد.
أحوال المستضعفين من أهل السنّة
يلاحظ هنا فريق آخر لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء. لا كأصحاب أمير المؤمنين قلوبهم طاهرة و أعمالهم محمودة نزيهة، و لا كاولئك من ذوي الأعمال القبيحة. قد ينفقون أموالهم، و يصلّون و يصومون
و يطيعون تعاليم الدين، و لا يشاقّون الرسول و أهل بيته، و لا يميلون مع أعدائهم. فهؤلاء يقضون دهرهم على هذه الحالة بسبب قصورهم و عدم انكشاف الحقيقة لهم. و هذه المجموعة تؤلّف الغالبيّة بين الامم و الشعوب دائماً، و لو اتّضح لهم الحقّ- على سبيل الفرض- فلا يصدّون عنه، بَيدَ أنَّه ظنّوا الخطأ صواباً و الصواب خطأ و عملوا بذلك نتيجة ما تلقّوه من تربية سقيمة غير صحيحة، و ما عاشوه من وسط متضارب بعيد عن الحقّ، إنَّهم مجموعة من المستضعفين لا يدخلون الجنّة دفعة واحدة، و لا يدخلون النار دفعة واحدة، بل يحاسبون على عقيدتهم و عملهم الذي قاموا به في الحياة الدنيا. و نجد أمثال هؤلاء في أغلب جنود الإمام عليّ يوم صفّين الذين صاروا بعد ذلك في عداد الخوارج. و لمّا نصحهم الإمام، و أقام لهم الدليل و البرهان، تابوا و رجعوا عن مخالفتهم. كما نجد أمثالهم في أكثر أهل السنّة الذين يجتمعون في عرفات، و المشعر، و منى، و بيت الله، لا يكنّون العداء لأهل البيت، و لا يقرّون بولايتهم و إمامتهم و خلافتهم الحقّة أيضاً. أمّا علماؤهم و البعض من كبارهم المطّلعين على الكتب و التواريخ و التفاسير، و المستوعبين لجميع الأحاديث و الروايات، فحسابهم عسير للغاية، إذا لم يذعنوا للحقّ. بَيدَ أنَّ الأغلبيّة الذين هم من العوامّ، و ليس لهم اطّلاع على كتب السيرة، و معلوماتهم و عقائدهم مقصورة على إرشاد علمائهم، فلعلّ الله يعفو عنهم و يصفح في حالة عدم تقصيرهم. و تنطبق عليهم آية المستضعفين. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً
وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم و كان الله عفوا غفورا۱
ينقل سُلَيم بن قيس الهلاليّ الكوفيّ رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام يرى الإمام فيها أنَّ أكثر المخالفين هم من المستضعفين، يقول: سمعتُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: «إنَّ الامّة ستفترق على ثلاث و سبعين فرقة، اثنتان و سبعون فرقة في النار، و فرقة في الجنّة». ثمّ يسترسل الإمام في كلامه فيبيّن بالتفصيل أنَّ الفرقة الناجية الوحيدة هي التي عرفت إمامها حقّ المعرفة، و أفرادها يدخلون الجنّة بغير كتاب و لا حساب (و أما أصحاب الموازين و الأعراف، و أهل جهنّم الذين تنالهم شفاعة الأنبياء، و الملائكة، و المؤمنين، فينقذون من جهنّم آخر الأمر، و إنَّهم في عداد الفرق الاثنتين و السبعين، إلى أن يقول: «فَأمَّا مَنْ وَحَّدَ اللهَ وَ آمَنَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ لَمْ يَعْرِفْ وَ لَمْ يَتَناوَلُ ضَلالَةَ عَدُوَّنَا وَ لَمْ يَنْصِبْ شَيْئاً وَ لَمْ يُحِلَّ وَ لَمْ يُحَرِّمْ وَ أخَذَ بِجَمِيعِ مَا لَيْسَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنَ الامَّةِ فِيهِ خِلَافٌ في أنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أمَرَ بِهِ، وَ كَفَّ عَمَّا بَيْنَ الْمُخْتَلِفينَ مِنَ الامَّةِ خِلافٌ في أنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أمَرَ بِهِ أو نَهى عَنْهُ فَلَمْ يَنْصِبْ شَيْئاً وَ لَمْ يُحَلِّلْ وَ لَمْ يُحَرِّمْ وَ لَا يَعْلَمُ وَ رَدَّ عِلْمَ مَا أشْكَلَ عَلَيْهِ إلى اللهِ فَهَذَا نَاجٍ. وَ هَذِهِ الطَبَقَةُ بَيْنَ الْمُؤمِنِينَ وَ الْمُشْرِكِينَ هُمْ أعْظَمُ النَّاسِ وَ أجَلُّهُمْ وَ هُمْ أصْحَابُ الْحِسَابِ»٢ (الحديث).
و يبيّن كذلك جواب الإمام للأشعث بن قيس الذي قال له معترضاً: و اللهِ لإن كان الأمر كما تقول لقد هلكت الامّة غيرك و غير شيعتك. فقال له
الإمام: «إنَّ الْحَقَّ وَ اللهِ مَعِي يَا بنَ قَيْسٍ كَمَا أقُولُ وَ مَا هَلَكَ مِنَ الامَّةِ إلّا النّاصِبينَ وَ الْمُكابِرينَ وَ الْجَاحِدينَ وَ المُعَانِدِينَ، فَأمّا مَن تَمَسَّكَ بِالتَّوحِيدِ وَ الإقرارِ بِمُحَمَّدٍ وَ الإسلامِ وَ لَمْ يَخْرُج مِنَ الْمِلَّةِ وَ لَمْ يُظَاهِرُ عَلَيْنَا الظَّلَمَةَ، وَ لَمْ يَنْصِبْ لَنَا الْعَداوَةَ وَ شَكَّ في الْخِلَافَةِ وَ لَمْ يَعْرِفْ أهْلَهَا وَ وُلَاتَها وَ لَمْ يَعْرِف لَنا وِلَاية، وَ لَمْ يَنْصِبْ لَنا عَداوَةً فَإنَّ ذَلِكَ مُسْلِمٌ مُسْتَضْعَفٌ يُرجَى لَهُ رَحْمَةُ اللهِ، وَ يُتَخَوَّفُ عَلَيهِ ذُنُوبُهُ».۱
و جاء فيه أيضاً ضمن رسالة كتبها الإمام إلى معاوية يذكر فيها سبب عدم قيامه بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول فيها أوصاني رسول الله قائلًا: «وَ اعْلَمْ أنَّكَ إنْ لَمْ تَكُفَّ يَدَكَ وَ تَحْقُنْ دَمَكَ إذَا لَمْ تَجِدْ أعْواناً، تَخَوَّفتُ عَلَيكَ أن يَرْجِعَ النَّاسُ إلى عِبادَةِ الأصْنَامِ وَ الْجُحودِ بِأنِّي رَسُولُ اللهِ، فَاسْتظْهِرْ عَلَيهِمْ بِالحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَ دَعْهُمْ لِيَهْلِكَ النَّاصِبُونَ لَكَ وَ البَاغُونَ عَلَيكَ وَ يَسْلُمَ العَامّةُ و الْخَاصَّةُ، فَإذَا وَجَدتَ يَوْماً أعْوَاناً على إقَامَةِ كِتَابِ اللهِ وَ السُّنَّةِ فَقَاتِلْ على تَأويلِ القُرآنِ كَما قَاتَلتُ على تَنْزِيلِهِ. فَإنَّما يَهْلِكُ مِنَ الامَّةِ مَنْ نَصَبَ لَكَ وَ لأحَدٍ مِن أوصِيائِكَ وَ عَادَى وَ جَحَدَ وَ دَانَ بِخِلافِ مَا أنْتُم عَلَيهِ».٢
يقول سليم بن قيس: لمّا جمعتُ الأحاديث في كتابي، ذهبت إلى المدينة فتشرّفت بلقاء الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام و قرأتُ عليه تلك الأحاديث ثلاثة أيام حسوماً، فصدّقها الإمام كلها. فقلتُ: جعلتُ فداك، إنَّه يضيق صدري ببعض ما فيه؛ لأنَّ فيه هلاك جميع امّة محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم من المهاجرين و الأنصار و التابعين
غيركم أهل البيت و شيعتكم، فقال: يَا أخا عَبدِ الْقيسِ؛ أ مَا بَلَغَكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم: قال: «إنَّ مَثَلَ أهْلِ بَيتي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ في قَومِهِ مَنْ رَكِبَهَا نَجى وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرَقَ، وَ كَمَثَلِ بَابِ حِطَّةٍ في بَنِي إسْرَائِيلَ؟» فَقُلتُ: نَعَمْ- إلى أن قَالَ عَلَيهِ السَّلام: «أ وَ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ يَنْظَمُ جَمِيعُ مَا أفْظَعَكَ وَ عَظُمَ في صَدْرِكَ مِنْ تِلكَ الأحادِيثِ»۱ (الحديث). كناية عن أنَّ كلّ من كان من محبّي أهل البيت فهو كالراكب في سفينة نوح، و هو ناجٍ لا محالة. و أمّا من كان من المعاندين المعادين فهو من الغارقين. و كلام الإمام هنا هو ككلام جدّة أمير المؤمنين عليه السلام حول عامّة الناس، إذ اعتبرهم من المستضعفين.
روى السيّد هاشم البحرانيّ من طريق الخاصّة، عن أبي حمزة الثماليّ عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة عليها السلام: «يا بُنَيّةَ؛ بأبي أنتِ وَ اميّ أرسلي إلَيّ بعلِكِ فادعيه لي، فقالت فاطمة للحسن عليه السلام: انطلق إلى أبيك فقل له: إنَّ جدّي يدعوك، فانطلق إليه الحسن فدعاه. فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و فاطمةُ عنده، و هي تقول: وَا كربَاهُ لِكَربِكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فقال رسول الله: لَا كربَ على أبيكِ بعد هذا اليوم يا فاطمة! إنَّ النبيّ لا يُشقُّ عليه الجيب، و لا يُخمش عليه الوجه، و لا يدعي عليه بالويل، و لكن قولي كما قال أبوكِ على إبراهيم: تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَ قَدْ يُوجَعُ الْقَلْبُ وَ لَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، وَ إنَّا بِكَ يَا إبراهيمُ لَمَحْزُونُونَ، وَ لَوْ عَاشَ إبراهيمُ لَكانَ نِبيّاً.
ثمّ قال: يا عليّ؛ ادنُ مِنّي، فدنا منه، فقال: أ دخل اذُنك في فمي ففعل، فقال: يا أخي، أ لم تسمع قول الله عزّ و جلّ في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}؟ قال: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: هم أنتَ و شيعتك تجيئون غراً محجّلين شباعاً مرويّين. أ لم تسمع قول الله عزّ و جلّ في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}؟۱ قال: بلى يا رسول الله؛ قال: هم أعداؤك و أتباعهم، يجيئون يوم القيامَة مسودّة وجوههم، ظماء مظمئين، أشقياء معذّبين، كفّاراً منافقين، ذلك لك و لشيعتك و هذا لعدوّك و شيعتهم».٢
الدَّرْسَانِ السَّادِس وَ الثَّلَاثُونَ وَ السَّابِع وَ الثَّلَاثُونَ: تفسير الآية: {وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ الرَّسُولَ فَاولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ اولَئِكَ رَفِيقًا}.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
المعيّة و الإتّحاد المعنويّ بين أرواح المؤمنين و الأئمّة المعصومين عليهم السلام
قال اللهُ الحَكيم في كتابه الكريم:
{وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}.۱
يستفاد من هذه الآية أنَّ إطاعَة الله و الرسول تستلزم نوعاً من الاتّحاد المعنويّ و الروحيّ الذي يتحقّق مع الخواصّ المقرّبين من جلاله المقدّس و محارم حريم انسه و حرم أمانه. و لمّا كانت روحُ الإطاعة التسليم في مقابل المطاع، و كلّما كانت الإطاعة أقوى، كان اندكاك المطيع في حقيقة المطاع أكثر، إلى المستوى الذي لو ارتفعت فيه الاطاعة إلى أعلى درجة بحيث أن يصبح بلا رأي من عنده و بلا إرادة أبداً بل إنَّ إرادة المطاع و رأيه يستحوذ ان عليه حقّاً، في مثل هذه الحالة، و بسبب الفناء في ذات المطاع، لا يساور الإنسان الريب، أنَّه ستكون له المعية و الاتّحاد الروحيّ مع الأشخاص الذين كانوا أترابه في هذا الخطّ، و فازوا بهذه الدرجة؛ لأنَّه إذا صرفنا النظر عن التأخّر و التقدّم الزمنيّين في عالم المادّة اللذين هما من
لوازم المادّة، فلا تقدّم و لا تأخّر في السير الروحيّ و المعنويّ بين السابقين و اللاحقين. فالجميع سيشتركون فيما بينهم في عالم ماوراء الزمن، و هو عالم العبور من ملكات الطبع و الغرائز، و أخيراً العبور من شوائب الربوبيّة إلى المقام الرفيع للعبوديّة المطلقة، و سيترافقون و يتلازمون، و لذلك فإنَّهم مشتركون في الهدف أيضاً و هو مقام لقاء الله الواحد الأحد، و سيظهر بين أرواحهم نوع من المعيّة الروحيّة و الخلوص و الحميميّة الفطريّة، و نوع من الاتّحاد الحقيقيّ، و بالتالي فإنَّ تلك الصفات و الخصوصيّات و الأخلاق و الآداب المشهودة عند البعض، مشهودة و واضحة أيضاً عند البعض الآخر.
قال إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.۱ هذا الاتّحاد و الوحدة المستحقّان على أثر الإطاعة التي تجعل أتباع إبراهيم- وفقاً لكلامه- من جنس إبراهيم نفسه، منبعث عن التسليم الروحيّ و المعنويّ؛ على الرغم من عدم وجود رابطة القربى بينهم و بينه من منظار مادّيّ و خارجيّ، و بالعكس لو لم يكن ذلك الاتّحاد و المعيّة الروحيّة، و ساد الاختلاف الروحيّ بين الجسمين، فإنَّ صلة الرحم و القربى سوف لن تؤتي اكُلَها.
{وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ، قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ}.٢ فقد قال نوح هذا الكلام عند ما طغى الماء فبلغ أعلى الجبال و كاد ابنه يغرق بعد ما تمرّد على أبيه فلم يركب معه في السفينة.
و لمّا كان ابن نوح غير منسجم مع أبيه روحيّاً رغم علاقة النبوَّة و الابوّة التي تربطهما، فقد اعتبرته الآيات خارجاً عن أهله غريباً عنهم.
جاء في كثير من الروايات بمضامين مختلفة أنَّ شيعة الأئمّة عليهم السلام هم من الأئمّة أنفسهم، و قد خلقوا من فاضل طينتهم. و ورد في كثير منها أيضاً أنَّ الشيعة جلساء الأئمّة و في درجتهم في الجنّة.
و جاء في «جامع الأخبار»۱ عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قوله:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَقُولُ: «إنَّ الله تعالى خَلَقَنِي وَ خَلَقَ عَلِيّاً وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ وَ الأئِمَّةَ عَلَيْهمُ السَّلامُ مِنْ نُورٍ، فَعَصَرَ ذَلِكَ النُّورَ عَصْرَةً فَخَرَجَ مِنْهُ شِيعَتُنَا فَسَبَّحْنَا وَ سَبَّحُوا، وَ قَدَّسَنَا وَ قَدَّسُوا، وَ هَلَّلْنَا فَهَلَّلُوا، وَ مَجَّدْنَا فَمَجَّدوا، وَ وَحَّدْنَا فَوَحَّدُوا»٢ (الحديث).
يبيّن هذا الحديث جيّداً وجودَ انسجام و وِئام في أرواح الشيعة و الأئمَّة و رسول الله إلى الحدّ الذي يصرّح فيه أنَّ طينة الشيعة من طينة رسول الله و الأئمّة و في ضَوء ما تقدّم ينبغي أن نلاحظ من هم هؤلاء الشيعة الذين بلغوا ذلك المستوى من طهارة الروح؟ و ما هي ميزاتهم الخُلقيّة و الروحيّة؟
صفات الشيعة و علاماتهم
جاء في كتاب «التوحيد» للمرحوم الشيخ الصدوق أنَّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام قال: «إنَّمَا شِيعَتُنَا مَنْ شَيَّعَنَا، وَ اتَّبَعَ آثَارَنا،
وَ اقْتَدَى بِأعْمَالِنا».۱
و ورد في «قرب الإسناد» للحميريّ أنَّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: «امتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَواقِيتِ الصَّلاة كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَليْهَا وَ إلى أسْرَارِنَا كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا عِنْدَ عَدُوِّنَا، وَ إلى أمْوَالِهِمْ كَيْفَ مُواساتُهُمْ لإخْوَانِهِمْ فِيهَا».٢
و نقل صاحب «الكافي» بإسناده عن جابر بن يزيد الجُعفيّ رضوان الله عليه عن الإمام الباقر عليه السلام أنَّه قَالَ لِي: «يَا جَابِرُ؛ أ يَكْتَفي مَنْ يَنْتَحِلُ التَّشَيُّعَ أنْ يَقُولَ بِحُبِّنا أهْلَ الْبَيتِ؟ فَوَ اللهِ ما شِيعَتُنَا إلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَ أطَاعَهُ وَ مَا كَانُوا يُعْرَفُونَ إلَّا بِالتَّواضُعِ، وَ التَّخشُّعِ، وَ الأمَانَةِ، وَ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ، و الصّلاةِ، وَ الصَّوْمِ، وَ الْبِرِّ بِالْوالِدَيْنِ، و التَّعَهُّدِ لِلْجِيرانِ مِنَ الْفُقَراءِ وَ أهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْغَارِمِينَ وَ الأيتَامِ، وَ صِدقِ الْحَدِيثِ، وَ تَلَاوَةِ الْقُرآنِ وَ كَفِّ الألْسُنِ عَنِ النَّاس إلَّا مِنْ خَيْرٍ. وَ كَانُوا امَناءَ عَشَايِرِهِمْ في الأشْيَاءِ». قَالَ جَابِرٌ فَقُلْتُ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ مَا نَعْرِفُ الْيَومَ أحَداً بِهَذِهِ الصِّفَةِ! فَقَالَ عَلَيهِ السَّلامُ: «يَا جَابِرُ لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ، حَسْبُ الرَّجُلِ أنْ يَقُولَ احِبُّ عَلِيّاً وَ أتَوَلَّاهُ ثُمَّ لا يكُونُ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالًا فَلَوْ قَالَ: إنّي احِبُّ رَسُولَ اللهِ- فَرَسُولُ اللهِ خَيْرٌ مِن عَلِيّ- ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَهُ وَ لَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِهِ مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إيَّاهُ شَيْئاً، فَاتَّقُوا اللهَ وَ اعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللهِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَ بَيْنَ أحَدٍ قَرابَةٌ. أحَبُّ الْعِبَادِ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ أتْقَاهُمْ وَ أعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ. يَا جَابِرُ؛ فَوَ اللهِ، مَا يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ تَبَارَكَ وَ تَعالى إلَّا بِالطَّاعَةِ. وَ مَا مَعَنَا بِراءَةٌ مِنَ النَّارِ وَ لَا على اللهِ لأحَدٍ مِن حُجَّةٍ. مَنْ كَانَ لِلهِ مُطيعاً فَهُوَ لَنَا وَليٌّ. وَ مَنْ٣
كَانَ لِلهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌ. لَا تُنَالُ وَلَايَتنا إلَّا بِالعَمَلِ وَ الْوَرَع».۱
و جاء في «أمالى الشيخ الطوسيّ» بسنده المتّصل عن سليمان بن مهران أنَّه قال: دَخَلْتُ على الصَّادقِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ وَ عِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ الشِّيعَةِ وَ هُوَ يَقُولُ: «مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ كُونُوا لَنَا زَيْناً وَ لا تَكُونُوا عَلَينا شَيْناً. قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ احْفَظُوا ألْسِنَتَكُمْ وَ كُفُّوا عَنِ الْفُضُولِ وَ قُبْحِ الْقَوْلِ».٢
و جاء في كتاب «المشكاة» بسنده عن مِهزَم أنَّه قال: دَخَلْتُ على أبي عَبد اللهِ عَلَيهِ السّلامُ- فَذَكَرتُ الشِّيعَةَ فَقَالَ: «يَا مِهْزَمُ؛ إنَّمَا الشِّيعَةُ مَن لا يَعْدُو سَمْعَهُ صَوْتُهُ،٣ وَ لا شَجَنُهُ بَدَنَهُ،٤ و لا يُحِبُّ لَنا مُبْغِضاً، وَ لا يُبغِضُ لَنَا مُحِبّاً، وَ لَا يُجَالِسُ لَنا غَالِباً، وَ لا يَهِرُّ هَريرَ الْكَلْبِ، وَ لا يَطْمَعُ طَمَعَ الْغُرابِ، وَ لا يَسألُ النّاسُ وَ إن مَاتَ جُوعاً، الْمُتَنحِّي عَنِ النَّاسِ، الْخَفِيّ عَنْهُمْ، وَ إنِ اخْتَلَفَت بِهِمُ الدَّارُ لَمْ تَخْتَلِف أقَاوِيلُهُمْ،٥ إن غابُوا لَمْ يُفقَدُوا، وَ إن حَضَرُوا لَمْ يُؤبَه بِهِمْ، وَ إن خَطَبُوا لَمْ يُزَوَّجُوا، يَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنْيَا وَ حَوائِجُهُمْ في صُدُورِهِمْ، إن لَقُوا مُؤمِناً أكْرَمُوهُ، وَ إن لَقُوا كافِراً هَجَرُوهُ، وَ إن أتَاهُمْ ذُو حَاجَةٍ رَحِمُوهُ. وَ في أمْوَالِهِمْ يَتَواسَونَ. ثُمَّ قَالَ: يَا مِهْزَمُ، قَالَ جَدّي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليهِ وَ آلهِ وَ سَلّم لِعَلِيّ رِضوانُ اللهِ عَلَيْهِ: يَا عَلِيّ؛ كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنَّهُ يُحبُّنِي وَ لَا يُحِبُّكَ. أنَا مَدينَةُ الْعِلْمِ وَ أنْتَ الْبَابُ. وَ مِنْ أيْنَ تُؤتى الْمَدينَةُ إلَّا مِن بَابِهَا».٦
و مثل هذه الرواية ورد في كتاب «الكافي»۱ باختلاف يسير في اللفظ.
و عن «الكافي» بسنده عن المفضّل أنَّه قالَ: قَالَ أبُو عَبدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إيَّاكَ وَ السِّفلَةَ، فَإنَّمَا شِيعَةُ عَلِيّ مَن عَفَّ بِطْنُهُ وَ فَرْجُهُ، وَ اشْتَدَّ جِهَادُهُ، وَ عَمِلَ لِخَالقِهِ، وَ رَجا ثَوابَهُ، وَ خَافَ عِقَابَهُ، فَإذَا رأيْتَ اولَئِكَ فَاولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَر»ٍ.٢
و عن «أمالي» الشيخ الطوسيّ، عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنَّه قال لِخَيثَمَةَ: «أبْلِغ شِيعَتَنَا إنَّا لا نُغنِي عَنِ اللهِ شَيئاً، وَ أبْلِغ شِيعَتَنا إنَّهُ لَا يُنَالُ ما عِندَ اللهِ إلَّا بِالعَمَلِ، وَ أبْلِغ شِيعَتَنا إنَّ أعْظَمَ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ القِيامَة مَن وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ خَالَفَهُ إلى غَيْرِهِ، وَ أبْلِغْ شِيعَتَنَا إنَّهُمْ إذَا قَامُوا بِمَا امِرُوا إنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ القِيامَةِ».٣
و عن «الكافي» بسنده عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام أنَّه قال: «وَدِدتُ وَ اللهِ إنِّي افتَدَيْتُ خَصلَتَينِ في الشِّيَعَةِ لَنَا بِبَعْضِ لَحمِ سَاعِدي: النَّزَقَ، وَ قِلَّةَ الكِتْمَانِ»؛٤ لأنَّ العادة جرت في القديم أن يفدي الأسير نفسه بشيء ليطلق بعد ذلك. و لو لم يكن عنده شيء يفدي به نفسه يأخذوا شيئاً من لحمه أو عظمه، و إذا لم يرض، فإنَّه يقتل. و الإمام هنا يعبّر عن امتعاضه و اشمِئزازه من وجود هاتين الصفتين المضرّتين في شيعته بحيث إنَّه مستعدّ أن يفتدي ببعض لحم ساعده لتطهير ساحة الشيعة منهما.
و عن «الكافي» بإسناده المتّصل عن عمرو بن أبي مقدام أنَّه قَالَ: سَمِعْتُ أبَا عَبدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: «خَرَجْتُ أنَا وَ أبي حتى إذَا كُنَّا بَيْنَ الْقَبْرِ وَ الْمِنبَرِ إذَا هُوَ بِانَاسٍ مِنَ الشِّيعَةِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: إنِّي وَ اللهِ لُاحِبُّ رِياحَكُمْ وَ أرْوَاحَكُمْ فَأعِينُونِي على ذَلِكَ بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ اعْلَمُوا أنَّ وِلَايَتَنَا لَا تُنَالُ إلَّا بِالوَرَعِ وَ الإجْتِهَادِ. مَنِ ائْتَمَّ مِنْكُمْ بِعَبدٍ فَلْيَعْمَلْ بِعَمَلَهِ. أنْتُم شِيعَةُ اللهِ وَ أنْتُم أنصَارُ اللهِ وَ أنْتُمُ السَّابِقُونَ الأوَّلُونَ وَ السَّابِقُونَ الآخِرُونَ وَ السَّابِقُونَ في الدُّنْيَا وَ السَّابِقُونَ في الآخِرَةِ؛ قَدْ ضَمِنَّا لَكُمُ الْجَنَّةَ بِضَمَانِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ ضَمانِ رَسُولِ اللهِ؛ وَ اللهِ ما على دَرَجَةِ الْجَنَّةِ أكْثَرُ أرْواحاً مِنْكُمْ، فَتَنافَسُوا في فَضَائِلِ الدَّرَجَاتِ؛ أنْتُم الطَّيِّبُونَ وَ نِسَاؤُكُمُ الطَّيِّباتُ؛ كُلُّ مُؤمِنَةٍ حَوْراءُ عَيْنَاءُ؛ كُلُّ مُؤمِنٍ صِدّيقُّ. وَ لَقَدْ قَالَ أميرُ المؤمِنِينَ لِقَنْبَرٍ: يَا قَنْبَرُ؛ أبْشِرْ وَ بَشِّرْ وَ استَبْشِرْ، فَوَ اللهِ؛ لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ وَ هُوَ على امَّتِهِ سَاخِطٌ إلَّا الشِّيعَةَ. ألَا وَ إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ عِزّاً وَ عِزُّ الإسلامِ الشِّيعَةُ؛ ألَا وَ إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ دِعَامَةً وَ دِعامَةُ الإسلامِ الشِّيعَةُ؛ ألَا وَ إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ ذِرْوَةٌ و ذِروَةُ الإسلامِ الشِّيعَةُ؛ ألَا وَ إنَّ لِكُلّ شَيءٍ سَيِّداً و سَيِّدُ الْمَجَالِسِ مَجَالِسُ الشِّيعَةِ؛ ألَا وَ إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ شَرَفاً وَ شَرَفُ الإسلَامِ الشِّيعَةُ؛ ألَا وَ إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ إمَاماً وَ إمَامُ الأرضِ أرْضٌ تَسكُنُهَا الشّيعَةُ»۱ (الحديث).
و عن «خصال» الشيخ الصدوق بسنده عن أبي المقدام، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنَّه قال: «يَا أبَا الْمِقدام؛ إنَّما شيعَةُ عَلِيّ الشَّاحِبُونَ النّاحِلُونَ الذابِلُونَ. ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ، خَمِيصَةٌ بُطُونُهُمْ، مُتَغَيِّرَةٌ ألْوَانُهُمْ، مُصْفَرَّةٌ وُجُوهُهُمْ، إذَا جَنَّهُمُ الليلُ اتَّخَذُوا الأرضَ فِراشاً، وَ استَقْبَلُوا
الأرضَ بِجِبَاهِهِمْ، كَثيرٌ سُجُودُهُمْ، كَثيرٌ دُمُوعُهُمْ؛ كَثيرٌ دُعَاؤُهُمْ، كَثيرٌ بُكاؤُهُمْ، يَفْرَحُ النَّاسُ وَ هُمْ مَحْزُونُونَ».۱ أي من عدم وصولهم إلى المطلوب و لقاء الله.
و عن «أمالي» الشيخ الطوسيّ و إرشاد الشيخ المفيد بسنديهما المتَّصلين: رُويَ أنَّ أميرَ المؤمِنِينَ عَلَيهِ السَّلامُ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمَسجِدِ وَ كَانَت لَيْلَةً قَمْراءَ فَأمَّ الْجَبَّانَة وَ لَحِقَهُ جَمَاعَةٌ يَقْفُونَ أثَرَهُ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: «مَا أنْتُم؟» قَالُوا: شِيعَتُكَ يَا أميرَ المؤمِنِينَ!، فَتَفَرَّسَ في وُجُوهِهِمْ ثُمَّ قَالَ: «فَما لي لَا أرى عَلَيْكُمْ سيماءَ الشِّيعَةِ؟» قَالُوا: وَ مَا سِيماءُ الشِّيعَةِ يا أميرَ المؤمِنينَ؟ قَالَ: «صُفْرُ الْوُجُوهِ مِنَ السَّهَرِ، عُمْشُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكاءِ، حُدْبُ الظُّهورِ مِنَ الْقِيَامِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ذُبلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدعاءِ، عَلَيْهِمْ غَبْرَةُ الْخَاشِعينَ».٢
و يروي الشيخ الصدوق في كتاب «صفات الشيعة» عن أبيه بإسناده المتّصل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنَّه قالَ: «كَانَ عَلِيّ بنُ الْحُسَيْنِ قَاعِداً في بَيْتِهِ إذ قَرَعَ قَوْمٌ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ انْظُرِي مَن بِالبَابِ؟ فَقالُوا: قَوْمٌ مِن شِيعَتِكَ، فَوَثَبَ عَجِلًا حتى كَادَ أن يَقَعَ؛ فَلَمَّا فَتَحَ الْبَابَ وَ نَظَرَ إلَيْهِمْ رَجَعَ، فَقَالَ: كَذِبُوا، فَأينَ السَّمْتُ في الوُجُوهِ؟ أيْنَ أثَرُ الْعِبَادَةِ؟ أيْنَ سِيماءُ السُّجُودِ؟ إنَّما شِيعَتُنَا يُعْرَفُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ شَعَثِهِمْ؛ قَدْ قَرَحَتِ الْعِبَادَةُ مِنْهُمْ الآنافَ، وَ دَثَرَتِ الْجِبَاهَ وَ الْمَسَاجِدَ؛ خُمْصُ الْبُطُونِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ؛ قَدْ هَيَّجَتِ الْعِبَادَةُ وُجُوهَهُمْ، وَ أخْلَقَ سَهَرُ اللَّيالي وَ قَطَعَ الْهَواجِرُ جُثَثَهُمْ؛٣ الْمُسَبَّحُونَ إذَا سَكَتَ النَّاسُ، وَ الْمُصلُّونَ إذَا نَامَ النَّاسُ،
وَ الْمَحزُونُونَ إذَا فَرِحَ النَّاسُ».۱
و جاء في «الاحتجاج» للشيخ الطبرسيّ، عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أنَّه قال: «قَدِمَ جَمَاعَةٌ فَاستَأذَنُوا على الرِّضا عليه السَّلام وَ قَالُوا: نَحْنُ مِن شِيعَةِ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلامُ فَمَنَعَهُمْ أيَّاماً ثُمَّ دَخَلُوا، قَالَ لَهُمْ: وَيْحَكُمْ إنَّمَا شِيعَةُ أميرِ المؤمِنينَ عَلَيهِ السَّلامُ الْحَسَنُ، و الْحُسَينُ وَ سَلْمَانُ، وَ أبُو ذَرٍّ، و الْمِقدادُ، وَ عَمّارٌ، وَ مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ الَّذِينَ لَمْ يُخَالِفُوا شَيئاً مِن أوامِرِهِ».٢
رفض الإمام الرضا عليه السلام جماعة من الذين ادّعوا التشيّع ثمّ قبولهم و تعليمهم
و جاءت الرواية التالية في «تفسير الإمام العسكريّ»٣ بشكل مفصّل. و ذكرها العلّامة المجلسيّ في باب صفات الشيعة عن الإمام أبي محمّد الحسن العسكريّ عليه السلام أنَّه قال: «و لمّا جعل المأمون إلى عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام ولاية العهد، دخل عليه آذنه و قال: إنَّ قوماً بالباب يستأذنون عليك. يقولون: نحن شيعة عليّ. فقال: أنا مشغول فاصرفهم، فصرفهم. فلمّا كان من اليوم الثاني جاءوا و قالوا كذلك مثلها فصرفهم، إلى أن جاءوا هكذا يقولون و يصرفهم شهرين، ثمّ أيسوا من الوصول، و قالوا للحاجب: قل لمولانا إنَّا شيعة أبيك عليّ بن أبي طالب عليه السلام و قد شمت بنا أعداؤنا في حجابك لنا. و نحن ننصرف هذه الكرّة و نهرب من بلدنا خجلًا و أنفة ممّا لحقنا، و عجزاً عن احتمال مضض
ما يلحقنا بشماتة الأعداء. فقال عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: إئذن لهم ليدخلوا، فدخلوا عليه، فسلّموا عليه، فلم يردّ عليهم، و لم يأذن لهم بالجلوس، فبقوا قياماً فقالوا: يا بن رسول الله. ما هذا الجفاء العظيم و الاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب؟ أيّ باقية تبقي منّا بعد هذا؟ فقال الإمام: إقْرَءُوا: {وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.۱
ما اقتديتُ إلّا بربّي عزّ و جلّ فيكم، و برسول الله، و بأمير المؤمنين و من بعده من آبائي الطاهرين عليهم السلام. عتبوا عليكم فاقتديتُ بهم». قالوا لما ذا يا بن رسول الله؟ قال: «لدعواكم أنَّكم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و يحكم، إنَّما شيعته الحسنُ، و الحسين، و أبو ذرّ، و سلمان، و المقداد، و عمّار، و محمّد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئاً من أوامره. و لم يركبوا شيئاً من فنون زواجره. فأمّا أنتم إذا قلتم إنَّكم شيعته، و أنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون مقصّرون في كثير من الفرائض، متهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، و تتّقون حيث لا يجب التقيّة، و تتركون التقيّة حيث لا بدّ من التقيّة. فلو قلتم إنَّكم موالوه و محبّوه، و الموالون لأوليائه، و المعادون لأعدائه، لم أنكره من قولكم. و لكن هذه مرتبة شريفة ادّعيتموها إن لم تصدّقوا قولكم بفعلكم هلكتم إلّا أن تتدارككم رحمةٌ من ربّكم.
قالوا يا بن رسول الله فإنَّا نستغفر الله و نتوب إليه من قولنا، بل نقول كما علّمنا مولانا حضرة الإمام الرضا: نحن محبّوكم و محبّو أوليائكم و معادو أعدائكم. قال الرضا عليه السلام: مَرْحَباً بِكُمْ يَا إخواني وَ أهْلَ
وُدّي، إرتَفِعُوا، إرْتَفِعُوا، إرْتَفِعُوا، فَما زَالَ يَرْفَعُهُمْ حتى ألصَقَهُمْ بِنَفْسِهِ. ثمّ قال لحاجبه: كم مرّة حجبتهم؟ قال: ستّين مرّةً. فقال لحاجبه: فاختلف إليهم ستّين مرّة متوالية، فسلّم عليهم، و أقرئهم سلامي، فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم و توبتهم، و استحقّوا الكرامة لمحبّتهم لنا و موالاتهم، و تفقّد امورهم و امور عيالاتهم فأوسعهم بنفقات و مبرّات و صلات، و رفع معرّات».۱
مواصفات الشيعة على لسان إمامهم أمير المؤمنين عليه السلام
و جاء في كتاب «صفات الشيعة» للشيخ الصّدوق بإسناده عن أبي العبّاس الدينوريّ، عن محمّد بن الحنفيّة أنَّه قال: «لمّا قدم أمير المؤمنين عليه السلام البصرة بعد قتال أهل الجمل، دعاه الأحنف بن قيس و اتّخذ له طعاماً فبعث إليه صلوات الله عليه و إلى أصحابه، فأقبل ثمّ قال: يا أحنف، ادعُ لي أصحابي. فدخل عليه قوم متخشّعون كأنَّهم شنان بوالى. فقال الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي نزل بهم؟ أ من قلّة الطعام؟ أو من هول الحرب؟ فقال صلوات الله عليه: لا يا أحنف، إنَّ الله سبحانه أحبّ أقواماً تنسّكوا له في دار الدنيا تنسّك من هجم على ما علم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها. فحملوا أنفسهم على مجهودها، و كانوا إذا ذكروا صباح يوم العرض على الله سبحانه توهّموا خروج عنق يخرج من النار يحشر الخلائق إلى ربّهم تبارك و تعالى و كتاب يبدو فيه على رؤوس الأشهاد فضايح ذنوبهم، فكادت أنفسهم تسيل سيلاناً أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طيراناً، و تفارقهم عقولهم إذا غلت بهم مراجل المِجرد إلى الله سبحانه غلياناً. فكانوا يحنّون حنين الواله في دجى الظلم، و كانوا يفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم.
فمضوا ذُبل الأجسام، حزينة قلوبهم، كالحة وجوههم، ذابلة شفاههم، خامصة بطونهم. تراهم سكارى سُمّار وحشة الليل متخشّعون كأنَّهم شنان بوالى. قد أخلصوا لله أعمالًا سرّاً و علانيّةً، فلم تأمن من فزعه قلوبهم، بل كانوا كمن حرسوا قباب خراجهم. فلو رأيتهم في ليلتهم و قد نامت العيون، و هدأت الأصوات، و سكنت الحركات، من الطير في الوكور، و قد نهنههم هول يوم القيامة بالوعيد عن الرقاد كما قال سبحانه: {أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ}.۱
فاستيقظوا لها فزعين، و قاموا إلى صلواتهم معولين، باكين تارةً و اخرى مسبّحين، يبكون في محاريبهم، و يرنّون، يصطفّون ليلة مظلمة بهماء يبكون. فلو رأيتهم يا أحنف؛ في ليلتهم قياماً على أطرافهم منحنية ظهورهم يتلون أجزاء القرآن لصلواتهم. قد اشتدّت إعوالهم و نحيبهم و زفيرهم. إذا زفروا خِلْتَ النارَ قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم. و إذا أعولوا حسبتَ السلاسل قد صفّدت في أعناقهم. فلو رأيتهم في نهارهم إذاً لرأيت قوماً يمشون على الأرض هوناً، و يقولون للناس حسناً، «و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ... و إذا مرّوا باللّغو مرّوا كراماً». قد قيّدوا أقدامهم من التهمات، و أبكموا ألسنتهم أن يتكلّموا في أعراض الناس، و سجموا أسماعهم أن يلجها خوض خائض، و كحّلوا أبصارهم بغضّ البصر عن المعاصي، و انتحوا دار السلام التي من دخلها كان آمناً من الريب و الأحزان.
بعد ذلك تحدّث الإمام عن مكان هؤلاء في الجنّة، و ذكر شيئاً من أوصاف الجنّة، ثمّ قال: فإن فاتك يا أحنف، ما ذكرت لك في صدر كلامي، لتتركنّ في سرابيل القطران و لتطوفنّ بينها و بين حميم آن
و لتسقينّ شراباً حارّ الغَلَيان في أنضاجه، فكم يومئذٍ في النار من صلب محطوم، و وجه مهشوم، و مشوّه مضروب على الخرطوم، قد أكلت الجامعة كفّه، و التحم الطوق بعنقه. فلو رأيتهم يا أحنف، ينحدرون في أوديتها، و يصعدون جبالها، و قد البسوا المقطّعات من القطران، و اقرنوا مع فجّارها و شياطينها، فإذا استغاثوا بأسوء أخذ من حريق شدّت عليهم عقاربها و حيّاتها. و لو رأيت منادياً ينادي و هو يقول: يا أهل الجنّة و نعيمها، و يا أهل حليها و حللها، خلّدوا فلا موت، فعندها ينقطع رجاؤهم، و تنغلق الأبواب، و تنقطع بهم الأسباب. فكم يومئذٍ من شيخ ينادي: وا شَيْبَتَاهُ؟ و كم من شابّ ينادي: وا شَبابَاه! و كم من امرأةٍ تنادي: وا فَضِيحَتَاه!
هتكت عنهم الستور، فكم يومئذٍ من مغموسٍ، بين أطباقها محبوس. يا لك غمسة ألبستك بعد لباس الكتّان، و الماء المبرّد على الجدران، و أكل الطعام ألواناً بعد ألوان. لباساً لم يدع لك شعراً ناعماً كنت مطعمه إلّا بيّضه، و لا عيناً كنت تبصر بها إلى حبيب إلّا فقأها. هذا ما أعدّ الله للمجرمين، و ذلك ما أعدّ الله للمتّقين.۱
فالشيعة يشعّ النور في قلوبهم بسبب الإخلاص في العبادة، فيدركون الحقائق التي لا يتيسّر إدراكها للآخرين من سائر الناس.
الروايات المأثورة عن الإمام الصادق عليه السلام في وصف الشيعة
و جاء في «تفسير العيّاشيّ» عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «إنَّما شيعَتُنا أصْحَابُ الأرْبِعَةِ الأعْيُنِ عَيْنٍ في الرَّاسِ، وَ عَيْنٍ في القَلْبِ ألا وَ الْخَلائِقُ كُلُّهُمْ كَذَلِكَ، إلّا إنَّ اللهَ فَتَحَ أبْصَارَكُمْ وَ أعْمَى أبْصَارَهُمْ».٢
و ورد في محاسن البرقيّ عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ جَوْهَراً وَ جَوْهَرُ وُلِدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ نَحْنُ وَ شِيعَتُنَا».۱
و في «المحاسن» أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام قوله للفضيل ابن يسار و كان من خواصّ الشيعة و من رواة الإمام: «أنْتُمْ وَ اللهِ، نُورٌ في ظُلُمَاتِ الأرْضِ».٢
و نقل في «المحاسن» أيضاً عن عليّ بن عبد العزيز، عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «وَ اللهِ، إنِّي لُاحِبُّ رِيحَكُمْ وَ أرْوَاحَكُمْ وَ رُؤيَتَكُمْ وَ زَيارَتَكُمْ. وَ إنِّي لَعلى دِينِ اللهِ وَ دِينِ مَلائِكَتِهِ فَأعْينُوا على ذَلِكَ بِوَرَعٍ. أنَا في الْمَدِينَةِ بِمَنْزِلَةِ الشُّعَيْرَةِ [الشَّعْرَةَ] أتَقَلْقَلُ حتى أرى الرَّجُلَ مِنْكُمْ فَأسْتَرِيحَ إلَيْهِ».٣
خطبة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في وصف الشيعة
و جاء في كتاب «كنز الفوائد» للكراجُكيّ بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ، عن رجل من قومه اسمه يحيى بن امّ طويل، عن نوف البكاليّ أنَّه قال: «عرضت لي إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام حاجة فاستتبعتُ إليه جُندب بن زُهير، و الربيع بن خُثيم، و ابن أخيه همّام بن عُبادة بن خُثَيمْ، و كان من أصحاب البرانس. فأقبلنا معتمدين لقاء أمير المؤمنين عليه السلام فألفيناه حين خرج يؤمُّ المسجدِ فأفضى و نحن معه إلى نفر مبدَّنين قد أفاضوا في الأحدوثات تفكّهاً، و بعضهم يلهي بعضاً. فلمّا أشرف لهم أمير المؤمنين عليه السلام أسرعوا إليه قياماً فسلموا، فردّ التحيّة، ثمّ قال: من القوم؟ قالوا: اناسٌ من شيعتك
يا أمير المؤمنين، فقال لهم خيراً، ثمّ قال: يا هؤلاء؛ ما لي لا أرى فيكم سمة شيعتنا، و حلية أحبّتنا أهل البيت؟ فأمسك القوم حياءً.
قال نوف البكاليّ: فأقبل عليه جندب و الربيع فقالا: ما سمةُ شيعتكم و صفتهم يا أمير المؤمنين! فتثاقل عن جوابهما، و قال: اتّقيا الله أيّها الرجلان و أحسنا فإنَّ الله مع الذين اتّقوا و الذين هم محسنون.
فقال همّام بن عبادة و كان عابداً مجتهداً: أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت و خصّكم و حباكم، و فضّلكم تفضيلًا إلّا أنبأتنا بصفة شيعتكم. فقال: لا تُقسم، فسأنبئكم جميعاً. و أخذ بيد همّام، فدخل المسجد، فسبّح ركعتين أوجزهما و أكملهما و جلس و أقبل علينا. و حفّ القوم به. فحمد الله و أثنى عليه و صلّى على النبيّ، ثمّ قال:
أمّا بعد. فإنَّ الله جلّ ثناؤه، و تقدّست أسماؤه، خلق خلقه فألزمهم عبادته، و كلّفهم طاعته، و قسّم بينهم معايشهم، و وضعهم في الدنيا بحيث وضعهم، و هو في ذلك غنيّ عنهم، لا تنفعه طاعةُ من أطاعه، و لا تضرّه معصيةُ من عصاه منهم ...
و يواصل نوف سرده لكلام الإمام، إلى أن يقول: ثمّ وضع أمير المؤمنين صلوات الله عليه يده على منكب همام، فقال: ألا من سأل عن شيعة أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس، و طهّرهم في كتابه مع نبيّه تطهيراً، فهم العارفون بالله، العاملون بأمر الله، أهل الفضائل و الفواضل، منطقهم الصواب، و ملبسهم الاقتصاد، و مشيهم التواضع ... و واصل الإمام كلامه في تعداد صفاتهم واحدة بعد الاخرى بالتفصيل و ذكر حالاتهم الروحيّة، و ملكاتهم النفسيّة و مشاهداتهم الغيبيّة، إلى أن قال عليه السّلام: «اولَئِكَ عُمّالُ اللهِ، وَ مَطايَا أمْرِهِ وَ طَاعَتِهِ، وَ سُرُجُ أرْضِهِ وَ بَرِيَّتِهِ، اولَئِكَ شِيعَتُنَا وَ أحِبَّتُنا وَ مِنّا وَ مَعَنا، ألَا هَاه شَوقاً إلَيْهِمْ». فصاح
همّام صيحةً وقع مغشيّاً عليه فحرّكوه فإذا هو قد فارق الدنيا رحمة الله عليه، فاستعبر الربيع بن خثيم عمّه باكياً و قال: لأسرع ما أودت موعظتك يا أمير المؤمنين بابن أخي، و لوددتُ لو أنَّي بمكانه. فقال الإمام: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها. أما و الله، لقد كنتُ أخافها عليه.
فقال له قائل: فما بالك أنت يا أمير المؤمنين؟ فقال: ويحك، إنَّ لكلّ واحد أجلًا لن يعدوه، و سبباً لن يجاوزه، فمهلًا لا تعُدْ لها، فإنَّما نَفَثَها على لسانك الشيطانُ.
قال نوف: فصلّى عليه أميرُ المؤمنين عليه السلام عشيّة ذلك اليوم و شهد جنازته و نحن معه.
قال الراوي عن نوف: فصرتُ إلى الربيع بن خثيم فذكرتُ له ما حدّثني نوف. فبكى الربيع حتى كادت نفسه أن تفيض، و قال: صدق أخي لاجرم أنَّ موعظة أمير المؤمنين و كلامه ذلك منّي بمرأى و مسمع. و ما ذكرتُ ما كان من همّام يومئذٍ و أنا في بلهنية۱ إلّا كدّرها، و لا شدّة إلّا فرّجها.٢
بيان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في وصف الشيعة
و جاء كذلك في أمالى الشيخ الطوسيّ، عن نوف البكاليّ أنَّه قالَ قَالَ لِي عَلِيّ عليه السّلام: «يا نَوفُ؛ خُلِقْنَا مِن طِينَةٍ طَيِّبَةٍ وَ خُلِقَ شِيعَتُنَا مِن طِينَتِنا فَإذَا كَانَ يَومُ القِيامَةِ الْحِقُوا بِنَا»، قالَ نُوفٌ فَقُلْتُ: صِف لِي شيعَتَكَ يَا أمِيرَ المؤمِنِينَ؛ فَبَكَى لِذِكْري شيِعَتِه، وَ قَالَ: «يَا نَوْفُ، شِيعَتِي وَ اللهِ، الْحُكَمَاءُ الْعُلَماءُ بِاللهِ وَ دينِهِ الْعَامِلُونَ بِطَاعَتِهِ وَ أوامِرِهِ»٣ (الحديث).
يقول أبو نعيم الأصفهانيّ في «حلية الأولياء» ج ١، ص ٨٦: حَدَّثنا أحَمدُ بنُ عَلِيّ بنِ مُحَمَّد: عن ... مُجاهِدٍ قالَ: شِيعَةُ عَلِيّ الْحُكَمَاءُ الْعُلَمَاءُ
الذُّبُلُ الشِّفَاهُ، الأخيارُ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِالرَّهبَانِيَّةِ مِنْ أثَرِ الْعِبَادَةِ. و يقول أيضاً: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرُو بنِ سلم، عن ... عن عَلِيّ بنِ الْحُسَيْنِ قالَ: «شِيعَتُنَا الذُّبُلُ الشِّفَاهُ، و الإمَامُ مِنَّا مَن دَعَا إلى اللهِ».
و جاء عن كتاب «الفضائل» لابن شاذان و كتاب «الروضة» في الفضائل عن عبد الله بن أبي أوفى، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال: «لمّا خلق الله إبراهيم الخليل عليه السلام كشف الله عن بصره، فنظر إلى جانب العرش، فرأى نوراً، فقال: إلهي و سيّدي ما هذا النور؟ قال: يا إبراهيم؛ هذا محمّد صفيّي. فقال: إلهي و سيّدي أرى إلى جانبه نوراً آخر. فقال يا إبراهيم، هذا عليّ ناصر ديني. فقال: إلهي و سيّدي أرى إلى جانبهما نوراً ثالثاً. قال: يا ابراهيم؛ هذه فاطمة تلي أباها و بعلها فطمت محبّيها من النار. قال: إلهي و سيّدي أرى نورين يليان الثلاثة الأنوار. قال: يا إبراهيم؛ هذان الحسن و الحسين يليان أباهما و جدّهما و امّهما. فقال: إلهي و سيّدي أرى تسعة أنوار أحدقوا بالخمسة الأنوار. قال: يا إبراهيم؛ هؤلاء الأئمّة من ولدهم.
فقال: إلهي و سيّدي؛ فبمن يعرَّفون؟ قال: يا إبراهيم، أوّلهم عليّ بن الحسين، و محمّد بن عليّ، و جعفر بن محمّد، و موسى بن جعفر و عليّ بن موسى، و محمّد بن عليّ، و عليّ بن محمّد، و الحسن بن عليّ و محمّد بن الحسن، القائم المهديّ.
قال: إلهي و سيّدي أرى عدّة أنوار حولهم لا يحصى عدّتهم إلّا أنت. قال: يا إبراهيم، هؤلاء شيعتهم و محبّوهم. قال: إلهي و بما يعرفون شيعتهم و محبّوهم؟ قال: بصلاة الإحدى و الخمسين، و الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، و القنوت قبل الركوع، و سجدة الشكر، و التختّم باليمين قال إبراهيم: اللهمَ اجعلني من شيعتهم و محبّيهم. قال: قد جعلتك، فأنزل
الله فيه: {وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.۱
قال المرحوم المحدّث القميّ: نقل شيخنا هذه الرواية في «المستدرك» عن كتاب «الغيبة» للفضل بن شاذان، و قال في آخرها: قال المفضّل بن عمر: «إنَّ إبراهيم عليه السلام لمّا أحسّ بالموت، روى هذا الخبر، و سجد، فقبض في سجدته».٢
و نقل في كتاب «الكافي» بسلسلة سنده المتّصل عن أبي يحيى كوكب الدم، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنَّه قالَ: «إنَّ حَوارِيّي عيسى كانُوا شِيعَتَهُ، وَ إنَّ شِيعَتَنا حَوارِيُّونَا. وَ مَا كَانَ حَواريّ عيسى بَأطْوَعَ لَهُ مِنْ حَواريِّنا لَنا. وَ إنَّما قَالَ عيسى لِلْحَواريِّينَ: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ}، فَلَا وَ اللهِ، مَا نَصَرُوهُ مِنَ الْيَهُودِ وَ لَا قَاتَلُوهُمْ دُونَهُ، وَ شِيعَتُنَا،- وَ اللهِ- لَمْ يَزَالُوا مُنْذُ قَبَضَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَنْصُرُونَنَا وَ يُقَاتِلُونَ دُونَنَا وَ يُحَرَّقُونَ وَ يُعَذَّبُونَ وَ يُشَرَّدُونَ في البُلْدانِ، جَزاهُمُ اللهُ عَنَّا خَيْراً».٣
الدَّرْسَان الثَّامِنَ و الثَّلَاثُونَ وَ التَّاسِعَ وَ الثَّلَاثُونَ تفسير الآية: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ}.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ}.۱
تبيّن هذه الآية أنَّ من يطيع رسول الله فإنَّما يطيع الله، إذ أنَّ رسول الله هو المبعوث من الله، و الواسطة بين الناس و خالقهم. و إنَّما تتحقّق إطاعة الموكِّل بإطاعة الوكيل. و إطاعة المنوب عنه بإطاعة النائب، و إطاعة السلطان بإطاعة من يقوم مقامه. و هكذا فإنَّ إطاعة الله تتحقّق بإطاعة رسوله و نبيّه.
و نجد الشيعة فقط من بين الفرق الإسلاميّة المتنوّعة جميعها تتشرّف بإطاعة الله من خلال إطاعة رسوله الكريم، بينما نرى أنَّ سائر الفرق قد تصرّفت في الكتاب و السنّة كيفما شاءت، و بالتالي فإنَّ اعتقاداتها و ممارساتها لم توافق كلام الله و رسوله، بل إنَّ آراءها الشخصيّة قد اقحمت في تلك الاعتقادات و الممارسات.
و بعد رحلة الرسول الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى ربّه سار
الشيعة وراء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و بقيّة الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام عملًا بوصيّة نبيّهم، و رفضوا الأباطيل و الأفكار الطائشة السقيمة التي تجرف أغلبيّة الناس بتيّارها، و طرحوها بعيداً منضمين إلى امّة الحقّ و أهل اليقين، ممّا تمخّض عن ظهور فريقين متميّزين يقابل أحدهما الآخر: الشيعة، أتباع أهل البيت؛ و العامّة، أتباع الشيخين و من تلاهما من الحكّام و السلاطين واحداً بعد الآخر.
يقول الشيعة: لم يرد في الكتاب و السنّة شيء يدعو إلى اتّباع الشيخين، أمّا اتّباع العترة الطاهرة من أهل البيت فقد وردت بشأنه نصوص صريحة متواترة عن رسول الله في مناسبات متنوّعة، و من تفسير الآيات القرآنيّة ذات العلاقة، و التصريح بشأن نزولها. و يرون أنَّ اتّباع أهل البيت هو السنّة النبويّة ذاتها. و القصد من الجماعة التي أمر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم المسلمين أن يكونوا فيها و لا يعرضوا عنها هي جماعة الحقّ لا الباطل. في ضوء ذلك فإنَّ الشيعة هم أهل السنّة و الجماعة بالمعنى الحقيقيّ، و هم أهل الرفض و نبذ الأفكار الباطلة و البدع المستحدثة أيضاً.
يقول العامّة: نحن أهل السنّة و أهل الجماعة. أمّا أهل السنة فلأنّنا اقتدينا بالصحابة و كرّمناهم و احترمناهم و آمنّا بحُجّيّة أحكامهم. و أمّا أهل الجماعة فلأنّنا نمثّل أغلبيّة المسلمين الذين لم يتّبعوا أهل البيت بعد النبيّ و ساروا على ما سنّه الصحابة لهم. و يطلقون على الشيعة لقب الرافضة قاصدين من ذلك أنَّ الشيعة نبذوا سنّة النبيّ وراء ظهورهم، و لم يتّبعوا صحابته و أوجدوا الصدع في كيان المسلمين، و أصبح لهم دين مستقل.۱
يقول الشيعة: الله حقّ، و رسوله حقّ، و كتابه حقّ، و خلق السماوات و الأرض حقّ. قال تعالى: {وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}.۱
المراد من الجماعة أهل الحقّ و إن قلّوا
فقصد الرسول الأعظم من الالتحاق بالجماعة هو الالتحاق بجماعة الحقّ لا الباطل. و الدين الذي جاء على أساس العدل و الحقّ و شيّد جميع مبادئه الإجماليّة و التفصيليّة على هذا الأساس، كيف يعتبر الالتحاق بجماعة الباطل حقّاً! فالقصد من جماعة الحقّ هو عليّ وصيّ رسول الله و أهل بيته، و الشيعة الحقيقيّون الذين تجرّعوا الغصص الممضّة إلى أقصى حدّ، و لم يذهبوا وراء بريق الباطل عند المحن و الخطوب، و لم ينفصلوا عن الحقّ و أهله، على الرغم من امكانيّاتهم الضعيفة.
إنَّ إبراهيم الخليل كان إنساناً واحداً، بَيدَ أنَّ الله ذكره في القرآن الكريم بلفظ: الامّة، و ذلك لما كان يتّسم به من عظمة روحيّة و إيمانيّة. فقد قال جلّ من قائل: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.٢
إذاً، فالجماعة هم أهل الحقّ و إن قلّوا، كما قال المرحوم الصدوق:
أهْلُ الْجَمَاعَةِ أهْلُ الْحَقِّ وَ إن قَلُّوا؛ وَ قَدْ رُويَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ و سَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «الْمُؤمِنُ حُجَّةٌ، وَ الْمُؤمِنُ وَحْدَهُ جَماعَةٌ».۱
في ضوء ما تقدّم، يتبيّن لنا أنَّ الجماعة التي أوصى رسول الله بالاتّصال بها هم جماعة الحقّ. و قد راعى الشيعة فقط هذا الأمر بينما تخلّف عنه العامّة. و بالتالي فإنَّ الشيعة كانوا أهل الجماعة، و العامّة تخلّفوا عن أهل الجماعة.
الشيعة أهل سنّة رسول الله و رافضي الباطل
و يقول الشيعة أيضاً: السنّة تعني العمل بكلام رسول الله و اتّباع فعله و نهجه. إذَن فأهل السنّة هم الذين يعملون بتعاليم النبيّ لا الذين يتخلّفون عنها. و ما هم إلّا الشيعة، أطاعوا تعاليم نبيّهم و اتّبعوا أهل بيته عملًا بتذكيراته و وصاياه المتواترة فيهم. أمّا العامّة فقد تركوا السنّة و خالفوا تعاليم ذلك الرسول العظيم. فالشيعة هم من أهل السنّة، و العامّة من تاركي السنّة.
و أمّا الرفض الذي نسبوه إلى الشيعة، فله معنى صحيح و حقيقيّ، و إن أرادوا خلافه. إنَّهم يقولون: تبرّأ الشيعة بعد رسول الله من صحابته الذين تربّوا على يده، و نبذوا سنّة رسول الله وراء ظهورهم. و يقول الشيعة: نحن كنّا و لا نزال نحترم الصحابة، و لكن ليس جميع الصحابة، لأنَّ الصحابة- من منظور قرآنيّ- غير متساوين، فكان بينهم عدد من المنافقين. مضافاً إلى ذلك فانَّ احترام الصحابة يتوقّف على اتّباعهم تعاليم الرسول الأكرم. أمّا لو خالفوا، و أبدعوا في الدين، و أضاعوا جهود نبيّهم، فهل يا ترى نحترمهم و نطيعهم؟ يقول الشيعة: نحن رفضنا سنّة الباطل و البدعة، و ابتعدنا عن جماعة الباطل و أعوانه الهالكين، و التحقنا بجماعة الحقّ،
فالرفض- إذَن- شرفنا، و عنوان الرافضة فخرنا. إنَّكم أخذتم بعين الاعتبار المعنى الباطل من هذا العنوان و نسبتموه إلينا. فذنبكم هو فهمكم القاصر و إدراككم العاثر.
نقل أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ في كتاب «المحاسن» عن عتيبة بيّاع القصب عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: «وَ اللهِ لَنِعْمَ الاسْمُ الذي مَنَحَكُمُ اللهُ ما دُمْتُمْ تأخُذُونَ بِقَولِنَا وَ لَا تَكْذِبُونَ عَلَيْنا».۱
و في «المحاسن» أيضاً عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام انَّه قال: «أنَا مِنَ الرَّافِضَة وَ هِيَ مِنِّي، قالَها ثَلاثاً».٢
و فيه أيضاً عن أبي بصير أنَّه قال: قُلْتُ لأبي جَعفرٍ عَلَيهِ السَّلامُ جُعِلْتُ فِداكَ اسمٌ سُمِّينا بِهِ اسْتَحَلَّتْ بِهِ الوُلاةُ دِماءَنا وَ أموالَنا وَ عَذَابَنا قَالَ: «وَ مَا هُوَ؟» قَالَ الرّافِضَةُ، فَقَالَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ: «إنَّ سَبْعِينَ رَجُلًا مِن عَسْكَرِ فِرعَونَ رَفَضُوا فِرعَونَ فَأتَوا موسى عَلَيهِ السَّلامُ فَلَمْ يَكُنْ في قَومِ موسى أحَدٌ أشَدَّ اجْتِهَاداً وَ أشَدَّ حُبّاً لِهارُونَ مِنْهُمْ، فَسَمّاهُمْ قَوْمُ موسى: الرّافِضَةَ، فَأوحَى الله تعالى إلى موسى عَلَيهِ السَّلامُ: أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني نحلتهم، و ذلك اسم قد نحلكموه الله».٣
و جاء في «الكافي» أيضاً مثل هذه الرواية عن أبي بصير بشكل مفصّل.٤
قَالُوا تَرَفَّضْتَ قُلتُ كَلّا | *** | وَ مَا الرَّفضُ دِيني وَ لا اعْتِقَادي |
لَكِن تَوَلّيتُ غَيرَ شَكٍ | *** | خَيرَ إمَامٍ وَ خَيْرَ هَادي |
إن كَانَ حُبُّ الْوَلِيّ رَفْضاً | *** | فَإنَّني أرفَضُ الْعِبَادِ |
يَا رَاكِباً قِفْ بِالْمُحَصَّبِ مِن مِني | *** | وَ اهْتِف بِسَاكِنِ خَيْفِهَا وَ النَّاهِض |
سَحَراً إذَا فَاضَ الْحَجيجُ إلى مِني | *** | فَيْضاً كَمُلتَطِمِ الْفُراتِ الْفَائِضِ |
إن كَانَ رَفْضاً حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ | *** | فَلْيَشهَدِ الثَّقَلانِ أنِّي رَافِضي |
كلام عمّار الدهنيّ عند ابن أبي ليلى في شأن الرفض
و ورد في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أنَّه «قيل للصادق عليه السلام: إنَّ عمّاراً الدهنيّ شهد اليوم عند ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بشهادة. فقال له القاضي: قم يا عمّار فقد عرفناك، لا تقبل شهادتك لأنَّك رافضيّ. فقام عمّار و قد ارتعدت فرائصه، و استفرغه البكاء. فقال له ابن أبي ليلى: أنت رجل من أهل العلم و الحديث، إن كان يسؤك أن يقال لك «رافضيّ» فتبرّأ من الرفض، فأنت من إخواننا، فقال له عمّار: يا هذا ما ذهبتُ و الله حيثُ ذهبتَ، و لكنّي بكيتُ عليك و عليّ: أمّا بكائي على نفسي فإنَّك نسبتني إلى رتبةٍ شريفة لستُ من أهلها، زعمتَ أنَّي رافضيّ. ويحك لقد حدّثني الصادق عليه السلام «إنَّ أوّل من سمّي الرافضة: السحرة الذين لمّا شاهدوا آية موسى في عصاه، آمنوا به و اتّبعوه، و رفضوا أمر فرعون، و استسلموا لكلّ ما نزل بهم فسمّاهم فرعون: الرافضة لمّا رفضوا دينه. فالرافضي من رفض كلّ ما كرهه الله، تعالى، و فعل كلّ ما أمره الله، فأين في الزمان مثل هذا؟» فإنَّما بكيتُ على نفسي خشية أن يطّلع الله تعالى على قلبي، و قد تقبّلت هذا الاسم الشريف على نفسي، فيعاتبني ربّي عزّ و جلّ و يقول: يا عمّار، أ كنتَ رافضاً للأباطيل، عاملًا للطّاعات كما قال لك؟ فيكون ذلك تقصيراً بي في الدرجات إن سامحني، و موجباً لشديد العتاب عَلَيّ إن ناقشني، إلّا أن يتداركني مواليّ بشفاعتهم.
و أمّا بكائي عليك، فلعظم كذبك في تسميتي بغير اسمي، و شفقتي الشديدة عليك من عذاب الله تعالى أن صرفتَ أشرف الأسماء إلى أن جعلته من أرذلها، كيف يصبر بدنك على عذاب الله، و عذاب كلمتك هذه؟!
فقال الصادق عليه السلام: «لو أنَّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات و الأرضين، لمحيت عنه بهذه الكلمات. و إنَّها لتزيد في حسناته عند ربّه عزّ و جلّ حتى يجعل كلّ خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرّة».۱
يستنتج ممّا تقدّم أنَّ الرافضة عنوان صحيح للشيعة، بَيدَ أنَّ العامّة قصدت منه معنى سيّئاً، كما أنَّ كلمة الشيعة جاءت من الفعل شاعَ يشيعُ بمعنى المطاوعة، و المشايعة بمعنى المتابعة.
يقول ابن الأثير في كتابه اللغويّ «النهاية» في مادّة «شيع» و أصل الشيعة الفرقة من الناس، و تقع على الواحد، و الاثنين، و الجمع، و المذكّر و المؤنث بلفظ واحد، و معنى واحد. و قد غلب هذا الاسم على كلّ من يزعم أنَّه يتولّى عليّاً رضي الله عنه و أهل بيته، حتى صار لهم اسماً خاصّاً. فاذا قيل: فلانٌ من الشيعة، عُرِفَ أنَّه منهم، و في مذهب الشيعة كذا: أي عندهم. و تجمع الشيعة على شِيَع. و أصلها من المشايعة. و هي المتابعة و المطاوعة- انتهى كلام ابن الأثير.
اختلاف الشيعة مع العامّة في الاصول و الفروع
يختلف الشيعة مع العامّة في الاصول و الفروع معاً. فالعامّة يرون سيرة الشيخين حجّة عليهم، و يعتقدون بوجوب اتّباعها. و على الرغم من إيمانهم الظاهريّ بحجّيّة الكتاب و السنّة وحدهما، بَيدَ أنَّهم يلحقون بهما سيرة الشيخين في جميع المسائل و الشؤون بلا استثناء. و لذلك نجد
عبد الرحمن بن عوف يخاطب عليّاً في الشورى التي شكّلها عمر: ابايعك على أن تعمل بكتاب الله و سنّة نبيّه و سيرة الشيخين. فقال: أعمل بكتاب الله و سنّة نبيّه و رأيي. فلم يبايعه عبد الرحمن و التفت إلى عثمان فقال له مثل ما قال للإمام، فقبل عثمان ذلك، فبايعه خليفةً على الناس.
يعتقد الشيعة بعدم عصمة الصحابة، و لذلك لا يجوّزون اتّباعهم. و عند ما توقّع أبو بكر أن يعتبره النبيّ في عداد أهل الجنّة، و رفض رسول الله ذلك بصراحة قائلًا له: لا أدري ما تحدثون بعدي. فكيف نعتقد بعصمة هذا الرجل و نجعل عمله حجّة علينا؟!
جاء في باب الجهاد عن موطّأ مالك قوله: عَنْ مَالكٍ، عَن أبي النضرِ مَولَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ إنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ قَالَ لِشُهَداءِ احُدٍ: «هَؤلاءِ أشْهَدُ عَلَيهِمْ». فَقَالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أ لَسْنَا يَا رَسُولَ اللهِ إخْوَانَهُمْ؟ أسْلَمْنَا كَمَا أسْلَمُوا، وَ جَاهَدْنَا كَما جَاهَدُوا.۱ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: «بلى وَ لَكِن لَا أدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي». فَبَكَى أبُو بَكرٍ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: أئِنَّا لَكائِنُونَ بَعْدَكَ؟٢
سيرة الشيخين ليست مقياساً للعمل
و كان عمر أيضاً يرى نفسه مجتهداً، و يعمل برأيه، و قد حرّم كثيراً من الأشياء التي كان رسول الله قد حلّلها، و أجرى بعض التغييرات على سنّة النبيّ، في مثل هذه الحالة، كيف يمكن اتّباعه؟ و قد روى الشيعة و السنّة عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَّه قال: «أيُهَا النَّاسُ وَ اللهِ مَا مِنْ شَيءٍ يُقَرِّبكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ، إلَّا وَ قَد أمَرتُكُمْ
بِهِ. وَ مَا مِنْ شَيءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إلَّا وَ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ».۱
و قال أيضاً: «حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ إلى يَومِ القِيَامَةِ وَ حَرامُ مُحَمَّدٍ حَرامٌ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
يقول العلّامة الأمينيّ،٢ و العلّامة الطباطبائيّ:٣ أخْرَجَ الطَّبَرِّيّ في الْمُسْتَبِينِ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ كُنَّ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ أنَا مُحَرِّمُهُنَّ وَ مُعَاقِبٌ عَلَيْهِنَّ: مُتْعَةُ الْحَجِّ، وَ مُتْعَةُ النِّساءِ، وَ حَيّ على خَيْرِ الْعَمَلِ في الأذَانِ.
البدع التي أتى بها عمر
و يروي الطبريّ أيضاً في تاريخه بسلسلة سنده المتّصل عن عمران ابن سواء قال: «صلّيتُ الصبح مع عمر فقرأ سُبحانَ٤ و سورة معها، ثمّ انصرف و قمت معه، فقال: أ حاجةٌ؟ قلتُ: حاجة. قال: فالحق، قال: فلحقت، فلمّا دخل، أذن لي، فاذا هو على سرير ليس فوقه شيء، فقلت: نصيحة، فقال: مرحباً بالناصح غدوّاً و عشيّاً. قلت: عابت امّتك أربعاً. قال: فوضع رأس درَّته في ذقنه، و وضع أسفلها على فخذه، ثمّ قال: هات.
قلت: ذكروا أنَّك حرّمت العمرة في أشهر الحجّ، و لم يفعل ذلك رسول الله، و لا أبو بكر رضي الله عنه و هي حلال. قال: هي حلال وَ لَو
أنَّهُمْ اعْتَمَرُوا في أشْهُرِ الْحَجَّ رَأوها مُجْزِيَةً مِن حَجِّهمْ فَكَانَت قَائِبَةَ قَوبِ عِامِهَا فَقُرعَ حَجُّهُمْ وَ هُوَ بَهاءٌ مِن بَهاءِ اللهِ، وَ قَدْ أصَبْتُ.۱
قلتُ: و ذكروا أنَّك حرّمت متعة النساء و قد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة و نفارق عن ثلاث.۱ قال: إنَّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أحلّها في زمان ضرورة، ثمّ رجع الناس إلى السَّعة، ثمّ لم أعلم أحداً من المسلمين عمل بها و لا عاد إليها. فالآن من شاء، نكح بقبضة و فارق عن ثالث بطلاق، و قد أصبتُ.
قلتُ: و اعتقتَ الأمَة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيّدها. قال: ألْحَقْتُ حُرمَةً بِحُرمَةٍ وَ ما أرَدتُ إلّا الْخَيْرَ وَ أسْتَغْفِرُ اللهَ.٢
قلتُ: و تشكو منك نهر الرعيّة و عنف السياق. قال: فشرع الدرَّة ثمّ مسحها حتى أتى على آخرها، ثمّ قال: أنَا زَميلُ مُحَمَّدٍ- وَ كانَ زامِلَهُ في غَزوَةِ قَرقَرَةِ الْكُدرِ- فَوَ اللهِ إنِّي لأرتِعُ٣ فَاشْبِعُ، وَ أسْقي فَأرْوي، وَ أنْهَزُ اللَّفُوتَ، وَ أزْجُرُ الْعَرُوضَ، وَ أذُبُّ قَدْري، وَ أسُوقُ خَطْوِي، وَ أضُمُّ الْعَنُودَ، وَ الْحِقُ الْقَطُوفَ، وَ اكْثِرُ الزَّجْرَ، وَ اقِلُّ الضَّرْبَ، وَ أشْهَرُ الْعَصَا،
وَ أدْفَعُ بِالْيَدِ، لَو لا ذَلِكَ لأعْذَرتُ.۱
قال: فبلغ ذلك معاوية فقال: كان و الله عالماً برعيتهم.
يلاحظ في هذه الرواية أنَّ عمر يبدي رأيه علناً فيما يلي:
أوّلًا: يستصوب أحكاماً ابتدعها من نفسه و طبّقها خلافاً لأحكام رسول الله، و يقول: قد أصبتُ.
ثانياً: يعتبر نفسه زميل النبيّ أي رديفه و في درجته، و يقول: أنا لي رأيي كما أنَّ للنبيّ رأيه و اجتهاده.
بعض الاختلافات الموجودة بين الشيعة و السنّة في الاصول و الفروع
يقول الشيعة: ليس هناك أي شىء معصوم و يجب تطبيقه ما عدا القرآن و السنّة النبويّة. و أمّا أئمّة أهل البيت فإنَّهم معصومون. أوّلًا: بسبب الكرامات الصادرة عنهم، و عدم وقوعهم في الخبط و الخطأ. ثانياً بسبب النصوص المتواترة المأثورة عن صاحب الشريعة المعصوم، إذ اعتبر طاعتهم واجبة. أي: أنَّهم معصومون، و لا ينبغي النظر إلى أحد على أنَّه مطاع، و يجب اتّباعه ما لم يقم الدليل على ذلك.
كان عمر يعتقد بأنَّه مجتهد، و لكن ما هو الدليل على وجوب العمل بأوامره؟ و ما هو السبب الذي يحتّم على المسلمين اتّباعه في تحريمه متعة الحجّ و متعة النساء؟ في أيّ آية و في أيّ كلمة من كلمات رسول الله، اوتي مثل هذا الحقّ فينسخ حكم الله و رسوله، و يبقى حكمه واجب التطبيق بين المسلمين حتى يوم القيامة؟ و الحكم الواجب التطبيق هو الحكم المصون من الخطأ. و بناءً على لزوم اتّباع الشيخين، فلا بدّ أن يكونا معصومين.
و العجيب أنَّ العامّة لا يقرّون بعصمة الأئمّة. و بعضهم لا يقرّ بعصمة النبيّ أيضاً، و بعضهم يقرّ بعصمته في تلقّي القرآن و تبليغه فقط و لا يقرّ بعصمته في سائر أعماله. و الروايات الواردة عنهم التي تنسب الخطأ و السهو و النسيان إلى رسول الله كثيرة للغاية. حتى أنَّ بعضها يصرّح بأنَّه عند نزول بعض الآيات القرآنيّة، يضع الشيطان على لسانه آية تدعو إلى الصنم و تمجيد الأصنام، و هو يقرأها على الناس، فينزل عليه جبرئيل و ينبّهه على خطأه! و لكن مع ذلك فإنَّهم عملياً يعتبرون الشيخين معصومين أي: أنَّ سيرتهم واجبة الاتّباع، و هي ناسخة لسيرة النبيّ.
يقول الشيعة: الشيخان غير معصومين، بل هما كبقيّة الناس يصدر عنهم الخطأ، و اتّباع سيرتهما اتّباعٌ للخطأ، و نحن نلاحظ أنَّ كثيراً من الآيات القرآنيّة قد نزلت في ذمّ بعض الصحابة و توبيخهم و عتابهم و مؤاخذتهم. و نقل كبار أهل السنّة روايات تدلّ على انحراف بعض الصحابة، و براءة النبيّ منهم، و عدم قبول شفاعته فيهم. بينما نجد أنَّ أحداً إذا حمل عنوان «الصحابيّ» فإنَّه يصبح طاهراً مطهّراً، و مبرءاً من كلّ عيب كما ولدته امّه! أ لم نر أنَّ الاختلافات و المشاجرات و المنازعات جميعها قد وقعت بين الصحابة في عصر النبيّ و ما بعده؟ فكيف نعتبر الصحابة صالحين و نقبل كلامهم بلا نقاش و بدون وعي؟ الدين الإسلاميّ هو دين العلم و الرؤية الواقعيّة، فكيف يمكن أن يأمر باتّباع الباطل و الأخذ بكلام أشخاص مجهولين بلا تحرّ و لا تروّ في غثّه و سمينه؟
أ لم يصرّح القرآن بقوله: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}۱ و قوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.٢
و جاء في الحديث الصحيح عن العامّة أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: «إذا كان يوم القيامة بَينَا أنا قَائِمٌ إذَا زُمرَةٌ حتى إذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِن بَيني وَ بَيْنَهُم، فَقَالَ: هَلُمَّ. فَقُلتُ: أيْنَ؟ قَالَ: إلى النَّارِ وَ اللهِ، قُلْتُ وَ مَا شَأنُهُمْ؟ قَالَ: ارْتَدُّوا على أدْبَارِهِمُ الْقَهقَرى، ثُمَّ إذَا زُمْرَةٌ حتى إذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِن بَيني وَ بَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ، قُلْتُ: أيْنَ؟ قَالَ: إلى النّارِ وَ اللهِ. قُلْتُ: ما شَأنُهُمْ؟ قَالَ: إنَّهُمْ ارْتَدُّوا على أدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرى، فَلا أراهُ يَخْلُصُ إلّا مِثْلُ هَمَلِ الْنَّعَمِ».۱
يقول العلّامة الأمينيّ: قال القسطلانيّ في «شرح صحيح البخاريّ» ج ٩، ص ٣٢٥: هَمَل: ضوالّ الإبل، أو الإبل بلا راع ... يعني: أنَّ الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة.٢
و يقول العلّامة الطباطبائيّ في تفسيره: وَ في الصحيحَينِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ قَالَ: «يَرِدُ عَلَيّ يَوْمَ الْقِيامَةِ رَهْطٌ مِن أصْحابي (أو قَالَ: مِنْ امتى) فَيُحَلَّئونَ عَنِ الْحَوضِ أقُولُ: يَا رَبِّ أصْحَابي، فَيَقُولُ: لا عِلْمَ لَكَ بِمَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ، ارْتَدُّوا على أعْقَابِهِمُ الْقَهْقَرى فَيُحَلَّئُونَ».٣
ينقل العلّامة الأمينيّ في المجلّد الثالث من «الغدير»٤ أحاديث كثيرة
عن صحاح العامّة في هذا الموضوع. و ينقل العلّامة المجلسيّ في المجلّد الثامن من «بحار الأنوار» أخبار كثيرة عن البخاريّ و مسلم و آخرين غيرهم بشأن انحراف الصحابة بعد وفاة رسول الله.۱ و يروي الكلينيّ في «روضة الكافي» بإسناده المتّصل عن زرارة، عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما السلام أنَّه قال: «أصبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ كَئيباً حَزيناً، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلامُ: مَا لى أراكَ يَا رَسُولَ اللهِ كَئيباً حَزيناً؟ فَقَالَ: وَ كَيْفَ لا أكون كَذَلِكَ وَ لَقَدْ رَأيتُ في لَيْلَتي هَذِهِ أنَّ بَني تَيمٍ وَ بَني عَديّ وَ بَني امَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَري هَذَا يَرُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الإسلامِ الْقَهْقَرَى، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ في حَيَأتى أو بَعْدَ مَوتِي؟ فَقَالَ: بَعْدَ مَوْتِكَ».٢
«لَو لا أكْرَهُ أن يُقَالَ: إنَّ مُحَمَّداً اسْتَعَانَ بِقَوْمٍ حتى إذَا ظَفَرُوا بِعَدُوِّهِ قَتَلَهُمْ لَضَرَبْتُ أعْنَاقَ قَومٍ كَثيرٍ».٣
إنحراف بعض الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
فهذه الأحاديث التي ذكرناها بوصفها نماذج على ما نقول تدلّ على أنَّ بعض الصحابة لم يؤمنوا و لم يسلّموا تسليماً حقيقيّاً، و كان بينهم متمرّدون و مخالفون كثيرون. و لمّا حصر القرآن الكريم و السنّة النبويّة شرط العمل بكلام أحد بالعلم بصحّته و موضوعيّته و حقيقته، لذلك ينبغي التروّي و التأمّل في عمل الصحابة و نهجهم. فمن كان منهم من أهل التقوى و العمل الصالح و التسليم لله و رسوله، يؤخذ بما يرويه عن رسول الله، و يقبل كلامه المطابق للكتاب و السنّة. و أمّا الذين لم يسلّموا لله و رسوله، و صدر منهم ما خالف النبيّ في حياته و بعد مماته. فلا يؤخذ بحديثهم و لا يقبل كلامهم، و إلّا فالأمر يتحوّل إلى اتّباع الباطل، و هو ما
منع منه القرآن بصريح آياته.
فهذا هو اختلاف الشيعة مع العامّة في الاصول.
اختلاف الشيعة مع العامّة في الفروع
و أمّا سبب اختلاف الشيعة مع العامّة في الفروع فهو أنَّ العامّة يقولون بوجوب اتّباع أحد رؤوساء المذاهب الأربعة في العمل بالأحكام، أمّا اتّباع أبي حنيفة، أو الشافعيّ، أو مالك، أو أحمد بن حنبل. و لا تجزي آراء غيرهم.
امّا الشيعة فيقولون: نزل القرآن لجميع الناس، و لهم جميعاً حقّ الإفادة منه، و نبيّنا الأكرم هو واسطة الوحي من أجل إفادة الناس. قال تعالى: {وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.۱
الشيعة فتحوا باب الاجتهاد و أهل السنّة أقفلوه
كلام الرسول و السنّة النبوّية الشريفة أيضاً حجّة على كلّ إنسان عاقل. فما هو السبب الذي يجعل المسلمين غير قادرين على الرجوع إلى الكتاب و السنّة و الإفادة منهما في الحكم الشرعيّ، و من ثمّ يظلّ باب الاجتهاد موصداً؟ أ ليس الدين الإسلاميّ هو دين العلم؟ هل وجب التقليد على جميع الناس إلّا على هؤلاء الأربعة؟ أ ليس من الممكن أن يرتقي أحد المسلمين في مدارج العلم أكثر من كلّ واحد من هؤلاء الأربعة، و ذلك من خلال السعي الجادّ في طلب العلم و التنقيب في الآيات القرآنيّة و السيرة النبويّة للظفر بالمطلوب! ما هو المجوّز العقليّ الذي يدعو هذا الإنسان إلى تقليد هؤلاء فقط، و يحرم من حقّ الإفتاء خلاف فتاواهم، و يطوّق نفسه و الآخرين بفتاواهم دون غيرهم؟ هذا المنطق هو خلاف منطق الفطرة
و حكم العقل حكم مستقلّ.
إنَّ الاقتصار على هذه المذاهب الأربعة فقط يعني أنَّ على كلّ مسلم أن يسأل أيّ واحد منهم عن معنى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} و أن يجعل كلام كلّ واحد منهم معياراً في العمل بكلّ آية من الآيات القرآنيّة و كلّ كلمة من كلمات الرسول الأعظم، فهل هؤلاء الأربعة معصومون، و لا خطأ في كلامهم؟ و لو كان الأمر كذلك، فلما ذا صارت المذاهب أربعة و تفرّقت الكلمة الواحدة إلى أربع؟ الدين دين واحد، و هذا الاختلاف خير دليل على عدم عصمتهم. مضافاً إلى ذلك فبالعلم الإجماليّ القطعيّ يتّضح أنَّ هذه الآراء و الفتاوى إمّا باطلة جميعها أو بعضها، و وجوب اتّباع أحدها يعني اتّباع أمر محتمل الخطأ، و هذا حكم معارض لحكم العقل. و كلّ شخص يمكنه اتّباع كتاب الله و سنّة رسوله بعقله و علمه على نحو مستقلّ. و أنَّ عدم جواز الاجتهاد بشكل مطلق و حصره في نطاق أحد المذاهب الأربعة يعني الحكم بوجوب اتّباع الخطأ. و لمّا كانوا هؤلاء الأربعة غير معصومين من الخطأ، و لم يقل أحد بعصمتهم، لذلك فإنَّ باب الاجتهاد المطلق- بدون أن يكون محدوداً بآراء هؤلاء الأربعة و فتاواهم- مفتوح للمسلمين كافّة حتى يوم القيامة. و هذا هو الكلام الصريح الذي قاله الشيعة، و ليس فيه أيّ مجال للإشكال و الإبهام، و ليس بمقدور أحد من العامّة دحضه و تفنيده.
نصّ الفتوى التي أصدرها الشيخ شلتوت في جواز التعبّد بمذهب الشيعة
إنَّ الكتاب المعروف الذي ألّفه علّامة العصر السيّد عبد الحسين شرف الدين تحت عنوان: «النَّصّ و الاجتهاد»۱ من الكتب النفيسة و القيّمة
جدّاً. و لعلّ مطالعة هذا الكتاب مقرونة بجهود المرحوم آية الله البروجرديّ، هي التي دفعت المفتي الأعظم في مصر و رئيس جامعة الأزهر الشيخ محمود شلتوت أن يصدر فتواه العالميّة الشهيرة بجواز التعبّد بفقه الشيعة الإماميّة، و فيما يلي نصّ الفتوى:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
متن الفتوى
التي أصدرها السيِّد صاحب الفضيلة الاستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت
شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة
قيل لفضيلته: إنَّ بعض الناس يرى أنَّه يجب على المسلم لكي تقع عباداته و معاملاته على وجه صحيح أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة و ليس من بينها مذهب الشيعة الإماميّة و لا الشيعة الزيديّة، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة مثلًا.
فأجاب فضيلته:
١- إنَّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن. بل نقول: إنَّ لكلّ مسلمٍ الحقَّ في أن يقلّد بادئ ذي بدءٍ أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلًا صحيحاً و المدوّنة أحكامها في كتبها الخاصّة، و لمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره أيّ مذهب كان و لا حرج عليه في شيءٍ من ذلك.
٢- إنَّ مذهب الجعفريّة المعروف بمذهب الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.
فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك و أن يتخلَّصوا من العصبيّة بغير الحقّ لمذاهب معيّنة. فما كان دين الله و ما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب. فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلًا للنظر و الاجتهاد تقليدهم و العمل بما يقرّرونه في فقههم و لا فرق في ذلك بين العبادات و المعاملات.
محمود شلتوت
السيّد صاحب السماحة العلّامة الجليل الاستاذ محمّد تقي القمّيّ السّكرتير العامّ لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة! سلام الله عليكم و رحمته.
أمّا بعد فيسرّني أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقّع عليها إمضائي من الفتوى التي أصدرتها في شأن جواز التّعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة راجياً أن تحفظوها في سجلّات دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة التي أسهَمنا معكم في تأسيسها و وفّقنا الله لتحقيق رسالتها، و السلام عليكم و رحمة الله.
شيخ الجامع الأزهر
محمود شلتوت
هذه صورة الفتوى و اذيعت من دار التقريب بالقاهرة في ١٧ ربيع الأوّل ١٣٧٨ هـ.۱
أيّ عاقل يمكن أن يظلّ مصرّاً على اتّباع أحد المذاهب الأربعة فقط! مع أنَّ فتاوى هؤلاء الأئمّة الأربعة المعروفين۱ و بعضها قد بلغ في عدم القبول درجة لا يمكن أن يقرّ به كلّ إنسان له ذوق سليم. فعند ما يجيز مالك وطء الغلام، و يبيح الشافعيّ الشطرنج، و يجيز الزواج من البنت المخلوقة من ماء الزنا، و يجيز أبو حنيفة شرب النبيذ. و لا يوجب إقامة الحدّ على اللواط، و كذلك لا يوجب حدّ الزنا على مَن جامع امّه، أو بنته التي عقد عليها، و كان عقده باطلًا. و عند ما لا يرى أحمد بن حنبل مانعاً من استعمال الحشيش و غيره من المخدِّرات، فعلى الإسلام السلام!
لم ينقل البخاريّ رواية واحدة عن إمام جعفر الصادق عليه السلام
العجيب أنَّ العامّة يقولون: لا يمكن أن نتجاوز فتاوى هؤلاء الأربعة و حقيقة هذا الكلام هي القول بعصمتهم. بَيدَ أنَّهم لا يقولون بعصمة الأئمّة الطاهرين و هم معدن العلم و أهل بيت الوحي. يقول البخاريّ: كنت اصلي ركعتين قبل أن أدوّن كلّ رواية في صحيحي. بَيدَ أنَّه لم ينقل في صحيحه المفصّل و الضخم رواية واحدة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام. و يقول في هذا المجال: لم أنقل رواية عن جعفر بن محمّد لأنَّ في النفس شيئاً منه. أي: يخامرني شكّ فيه.
تشيّع السلطان محمّد خدابنده على يد العلّامة الحلّيّ
هذا الاسلوب قد لفت أنظار الناس شيئاً فشيئاً إلى حقيقة معيّنة، و زاد العامّة نفوراً من المذهب غير الصحيح، و قرّبهم إلى مذهب أهل البيت أكثر
فأكثر. و نأمل أن يسمح ذوو العلاقة بدخول كتب الشيعة إلى المناطق السنّية، فيعود الجميع إلى دين الحقّ، و يقرّوا بهذا المذهب الطاهر. و لو انكشف الحقّ فإنَّ النزيهين الباحثين عن الحقيقة سوف يقرّون به بكلّ رغبة و رحب، كما أقرّ السلطان محمّد خدابنده بمذهب الشيعة بعد أن كان حنفيّاً و ذلك على أثر مناظرات العلّامة الحلّيّ مع نظام الدين عبد الملك الشافعي. فعرف الحقّ و استبصر مذهب أهل البيت في تلك الجلسات التي جرت فيها المناظرات.
و خلاصة هذه القصّة هي بالشكل التالي: كان غازان خان بن أرغون خان بن آباقا خان بن هولاكوخان بن تولي خان بن جنگيز خان المعروف ببغداد سند ٧٠٢ هـ. فاتّفق أنَّ سيّداً علوّياً صلّى الجمعة في يوم الجمعة في الجامع ببغداد مع أهل السنّة، ثمّ قام و صلّى الظهر منفرداً، فتفطّنوا أنَّه شيعيّ فقتلوه. فشكا أقاربه إلى السلطان، فانكسر خاطره و أظهر الملالة من أنَّه لمجرّد إعادة الصلاة يُقتل رجل من أولاد الرسول صلّى الله عليه و آله. و لم يكن له علم بالمذاهب الإسلاميّة فقام يتفحّص عنها.
و كان في امرائه جماعة متشيّعون منهم أمير طرمطار بن مانجوبخشي، و كان في خدمة السلطان من صغره، و كان له وجه عنده. و كان يستنصر مذهب التشيّع. و لمّا رآه مغضباً على أهل السنّة، انتهز الفرصة و رغّبه في مذهب التشيّع، فمال إليه، و قام في تربية السادة، و عمارة مشاهد الأئمّة عليهم السلام إلى أن توفي. و قام بالسلطنة أخوه السلطان محمّد المعروف بشاه خدابنده، و كان اسمه في السابق الجايتو. و صار مائلًا إلى الحنفيّة بإغواء جمع من علمائهم، فكان يكرّمهم و يوقّرهم. فكانوا يتعصّبون لمذهبهم و كان وزيره خواجه رشيد الدين الشافعيّ ملولًا من ذلك، و لكن لم يكن قادراً على التكلّم بشيء مقابل السلطان.
إلى أن جاء قاضي نظام الدين عبد الملك من مراغة إلى خدمة السلطان. و كان ماهراً في المعقول و المنقول. فجعله قاضي القضاة لتمام ممالكه. فجعل يناظر علماء الحنفيّة في محضر السلطان في مجالس عديدة، فيُعجزهم. فمال السلطان إلى مذهب الشافعيّة. و نقل الحكاية المشهورة لقتل السيّد العلويّ لإعادته الصلاة لمحضر السلطان في الصلاة. فسأل السلطان العلّامة قطب الدين الشيرازيّ- و هو أحد علماء الشافعيّة- إن أراد الحنفيّ أن يصير شافعيّاً فما له أن يفعل؟ فقال: هذا سهل، يقول: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.
و في سنة ٧٠٩ أتى ابن صدر جهان الحنفيّ من بخارى إلى خدمة السلطان و هو من العلماء المشهورين فشكا إليه حنفيّةُ بغداد من القاضي نظام الدين و أنَّه أذلّنا عند السلطان و امرائه. فألطف بهم و وعدهم إن كان في يوم الجمعة في محضر السلطان، سأل القاضي مستهزئاً عن جواز نكاح البنت المخلوقة من ماء الزنا على مذهب الشافعيّ. فعند مجيء يوم الجمعة سأله عن تلك المسألة. فقال القاضي بلا مهل أنَّه معارض بمسألة نكاح الاخت و الامّ في مذهب الحنفيّة. فطال بحثهما و آل إلى الافتضاح. و أنكر ابن صدر الحنفيّ ذلك، فقرأ القاضي من منظمة أبي حنيفة:
وَ لَيْسَ في لِواطِهِ مِن حَدِّ | *** | وَ لَا بِوَطءِ الاختِ بَعْدَ الْعَقدِ |
فافحموا و سكتوا، و ملّ السلطان و امراؤه و ندموا على أخذهم دين الإسلام و قام السلطان مغضباً. و كان الامراء يقول بعضهم لبعض. ما فعلنا بأنفسنا؟ تركنا مذهب آبائنا و أخذنا دين العرب المنشعب إلى مذاهب و فيها نكاح الامّ و الاخت و البنت، فكان لنا أن نرجع إلى دين أسلافنا.
و انتشر الخبر في ممالك السلطان، كان الناس إذا رأوا عالماً أو مشتغلًا يسخرون منه و يستهزؤن به و يسألونه عن هذه المسائل. فلمّا رأي
أمير طرمطار تحيّر السلطان في أمره، قال له: إنَّ السّلطان غازان خان كان أعقل الناس و أكملهم، و لمّا وقف على قبائح أهل السنّة، مال إلى مذهب التشيّع و لا بدّ أن يختاره السلطان. فقال: ما مذهب الشيعة! قال أمير طرمطار: المذهب المشهور بالرفض. فصاح عليه السلطان: يا شقيّ، تريد أن تجعلني رافضيّاً؟ فأقبل الأمير يزيّن مذهب الشيعة و يذكر محاسنه له إلى أن مال السلطان إلى التشيّع بعد ثلاثة أشهر من التشتّت و الاضطراب و سافر إلى النجف الأشرف. و تفقّد وضع السادة و العلماء هناك ممّا زاد في محبّته. و كتب إلى وزيره رشيد الدين من هناك يطلب منه إحضار أئمّة الشيعة. فأحضر رشيد الدين العلّامة الحلّيّ جمال الدين الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر، و ولده فخر المحقّقين إلى بغداد و كان مع العلّامة من تأليفاته كتاب «نهج الحقّ و كشف الصدق» و كتاب «منهاج الكرامة» فأهداهما إلى السلطان، و صار مورداً للألطاف و المراحم، فأمر السلطان قاضي القضاة نظام الدين عبد الملك، و هو أفضل علماء زمانهم، أن يناظر آية الله العلّامة. و هيّأ مجلساً عظيماً مشحوناً بالعلماء و الفضلاء فأثبت العلّامة بالبراهين القاطعة و الدلائل الساطعة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بلا فصل، و أبطل خلافة الخلفاء الثلاثة بحيث لم يبق للقاضي مجال مدافعة و إنكار، بل شرع في مدح العلّامة و استحسن أدلّته و قال في آخر الكلام: غير أنَّه لمّا سلك السّلف سبيلًا، فاللازم على الخلف أن يسلكوا سبيلهم لإلجام العوامّ و دفع تفرّق كلمة الإسلام، و يستر زلّاتهم (الصحابة) و يسكت في الظاهر من الطعن عليهم. و على أثر هذه المناظرة و وهن دلائل السنّة و قوّة أدلّة العلّامة لإثبات مذهب الحقّ دخل السلطانُ و أكثر امرائه في ذلك المجلس في مذهب الإماميّة بلا مهل، و تابوا من البدع التي كانوا عليها. و أمر
السلطان في تمام ممالكه بتغيير الخطبة و إسقاط أسامي الخلفاء الثلاثة عنها، و بذكر أسامي أمير المؤمنين و سائر الأئمّة عليهم السلام على المنابر و بذكر حَيّ على خَيْرِ الْعَمَلِ في الأذان، و بتغيير السكّة و نقش الأسامي المباركة عليها.
و لمّا انقضى مجلس المناظرة، خطب العلّامة خطبة بليغة شافية و حمد الله تعالى و أثنى عليه، و صلّى على النبيّ المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم و على عليّ المرتضى و أولاده المعصومين من آل النبيّ. فقال السيّد ركن الدين الموصليّ الذي كان ينتظر عثرة منه، و لم يعثر عليها: ما الدليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء، فقرأ العلّامة قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}۱. فقال السيّد الموصليّ: ما الذي أصاب عليّاً و أولاده من المصيبة حتى استوجبوا الصلاة عليهم. فعدّ العلّامة بعض مصائبهم، ثمّ قال: أيّ مصيبة أعظم عليهم من أن يكون مثلك تدّعي أنَّك من أولادهم، ثمّ تسلك سبيل مخالفيهم و تفضّل بعض المنافقين عليهم، و تزعم الكمال في شرذمة من الجهّال. فاستحسنه الحاضرون و ضحكوا على السيّد الموصليّ. فأنشد بعضُ من حضر:
إذَا الْعَلَويّ تابَعَ ناصِبيّاً | *** | لِمَذهَبِهِ فَما هُوَ مِن أبيهِ |
وَ كانَ الْكَلْبُ خَيْراً مِنْهُ طَبْعاً | *** | لأنَّ الْكَلْبَ طَبْعُ أبيهِ فيه ٢ |
...۱
...۱
...۱
۱
الدَّرْسُ الأرْبَعُونَ إلى الدَّرْسِ الْخامِسِ وَ الأرْبَعينَ: تفسير الآية: {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ اهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.۱
هذه الآية الكريمة من آيات سورة الأحزاب. و تعرف بين العلماء و المفسّرين و المحدّثين بآية التطهير. و كلّ من يطّلع على كتب العامّة و الخاصّة، يعلم علم اليقين بأنَّها نزلت في رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، و فاطمة الزهراء، و الإمام الحسن، و الإمام الحسين عليهم السلام و لا مجال للشكّ في ذلك. فهذه المسألة من المسلّمات و المتواترات، و إنكارها في حكم معاندة القرآن و رسول الله، و أهل البيت، إذ قال البعض: إجماع أهل القبلة منعقد على شأن نزولها في الخمسة الطيّبين، و كتب الخاصّة و العامّة مشحونة بالروايات و الأحاديث الواردة في ذلك.
و يرى العامّة أجمع، أحنافهم، و مالكيّوهم، و شوافعهم، و حنابلتهم،
أنَّ هذه الآية نزلت في أصحاب الكساء. و إذا تصفّحنا كلّ كتاب من كتبهم، فإنَّنا نجد هذه الآية و أسماء الخمسة المطهّرين.
فالأحاديث المنقولة في كتاب «غاية المرام» حول هذه المسألة بلغت خمسة و سبعين حديثاً.۱ منها واحد و أربعون حديثاً٢ عن العامّة، تنتهي إلى أمّ سلمة، و عائشة، و أبي سعيد الخدريّ، و سعد بن أبي وقّاص، و واثلة بن أسقع، و أبي الحَمراء، و ثوبان مولى النبيّ، و عبد الله بن جعفر و عليّ ابن أبي طالب عليه السلام و الإمام الحسن عليه السلام. و قد خرّجها الكبار من محدّثيهم و علمائهم و مفسّريهم بأسناد صحيحة و موثّقة، و نقلوها في كتبهم.
أسماء كتب العامّة التي ذكرت نزول آية التطهير في أصحاب الكساء
و من بين الكتب التي نقلت هذه الأحاديث: «صحيح مسلم» و «صحيح الترمذيّ»، و «صحيح البخاريّ» و «مسند أحمد بن حنبل» و «مسند الطيالسيّ»، و «سنن البيهقيّ»، و «مستدرك الحاكم»، و تفسير «الدرّ المنثور» للسيوطيّ و «تفسير الطبريّ» و «تفسير ابن كثير» و «مجمع الزوائد» للهيثميّ و «الصواعق المحرقة» لابن حجر، و «ذخائر العقبي» لمحبّ الدين الطبريّ، و «مشكل الآثار» للطحاويّ، و «تهذيب التهذيب» و «الرياض النظرة» و «فرائد السمطين» للحموينيّ، و «اسد الغابة» لابن الأثير، و «كنز العمّال» للملّا على المتّقي، و «الخصائص» للنسائيّ، و «المقتل» للخوارزميّ، و «المناقب» للخوارزميّ، و «نظم درر السمطين» للزرنديّ، و «ينابيع المودّة» للقندوزيّ، و «الفصول المهمّة» لابن صبّاغ المالكيّ، و «كفاية الطالب» للكنجيّ الشافعيّ، و «المناقب» لابن المغازليّ، و «شواهد التنزيل» للحاكم الحسكانيّ، و «مطالب السُّؤل»
لمحمّد بن طلحة، و «تذكرة خواصّ الامّة» لسبط بن الجوزيّ، و «الشَّرَف المُؤبَّد» ليوسف بن إسماعيل النبهانيّ، و «رشفة الصادي» لأبي بكر بن شهاب الدين العلويّ، و «أسباب النزول» للواحديّ، و «تفسير الثعلبي».
أمّا الأحاديث المنقولة عن طريق الخاصّة، فقد بلغت أربعة و ثلاثين حديثاً،۱ تنتهي إلى أمير المؤمنين، و الحسن، و الباقر، و الصادق، و الرضا عليهم السلام، و امّ سلمه، و أبي ذر، و أبي ليلى، و أبي الأسود الدؤليّ، و عمر بن ميمون الأوديّ، و سعد بن أبي وقّاص، و ذكرها الكبار من علماء الشيعة و محدّثيهم و مفسّريهم نحو: الكلينيّ، و الصدوق في «الأمالي»، و الشيخ الطوسيّ في «الأمالي»، و عليّ بن ابراهيم في تفسيره، و صاحب «تفسير البرهان»، و «تفسير مجمع البيان»، و «تفسير روض الجنان» لأبي الفتوح الرازيّ، و «تفسير بيان السعادة»، و «تفسير منهج الصادقين». كما ذكرها العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه في «الميزان»، و الفيض الكاشانيّ في «تفسير الصافي» و المجلسيّ في «بحار الأنوار»، و المحدّث القمّيّ في «سفينة البحار». و كثيرون غيرهم ذكروها في كتب الحديث و التفسير و كتب المناقب.
فهذه الكتب جميعها سواء السنّيّة منها أو الشيعيّة أكّدت على أنَّ آية التطهير نزلت في الخمسة من آل العباء و محصورة بهم فقط، أوّلهم محمّد المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم، و الثاني وصيّه الذي جعله القرآن نفس النبيّ و هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام و الثالث بنته سيّدة نساء أهل الجنّة فاطمة الزهراء عليها السلام، و الرابع، و الخامس ريحانتاه و سبطاه سيّدا شباب أهل الجنّة: الحسن، و الحسين،
عليهما السلام.
نزلت هذه الآية، ذات الدلالة الواضحة، في الخمسة المعصومين فقط. و لم يشاركهم أحد ممّن أظلّتهم السماء في هذه الفضيلة الفذّة، و لم يستطع أن ينضوي معهم تحت الكساء.
ينقل جلال الدين السيوطيّ في تفسيره «الدرّ المنثور» عشرين حديثاً عن العامّة بطرق متنوّعة تؤكّد على أنَّ المراد من أهل البيت في هذه الآية المباركة هم اولئك الخمسة لا غير.
و يذكر ابن جرير الطبريّ في تفسيره، كما نُقل عن كتاب «الشرف المؤبَّد»، خمسة عشر حديثاً بأسانيد مختلفة جاء فيها جميعاً أنَّ أهل البيت هم اولئك الخمسة فقط، و حسبنا هنا ما قاله رسول الله نفسه في هذا الشأن: «انزِلَت هَذِهِ الآيةُ في خَمسَةٍ: في، و في علي، و الحسن، و الحسين، و فاطمة». و ذكر ابن جرير و الطبرانيّ هذا الحديث بإسنادهما عن رسول الله، كما ذكره النبهانيّ في كتاب «الشرف المُؤبّد» و ابن حجر الهيثميّ.۱ في «الصواعق المحرقة».٢
قال الإمام أحمد بن حنبل في تفسير هذه الآية عن أبي سعيد الخدريّ: إنَّها نَزَلَتْ في خَمْسَةٍ: النبي، و علي، و فاطمة، و الحسن، و الحسين.٣
و خرّج هذا الحديث، الواحديّ في كتاب «أسباب النزول» و الثعلبيّ في «التفسير» عن أبي سعيد الخدريّ.۱
حديث الكساء في كتب أهل السنّة
و تتّفق المذاهب الإسلاميّة جميعها على أنَّ رسول الله عند ما أشفق على أهل بيته، جمعهم تحت الكساء، و غشّاهم به، ثمّ سأل الله الرحمة لهم و قال:
«اللهمَّ إنَّ لكلّ نبيّ أهلًا، و هؤلاء أهل بيتي، هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك و بركاتك على محمّد و آل محمّد إنَّك حميد مجيد». فرفعت امّ سلمة الكساء و قالت: يا رسول الله، و أنا معكم؟ فقال: «لا، أنت على مكانك و أنتِ على خير». و في تلك اللحظة أخرج رسول الله يده من طرف الكساء و أومأ بها إلى السماء قائلًا: «اللهُمَّ أذهِب عن أهل بيتي كلّ رجس و طهّرهم تطهيراً». و إذا جبريل الأمين قد نزل بهذه الآية المباركة: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
و نحن هنا نذكر بعض الأحاديث المرويّة عن طريق الشيعة و السنّة ثمّ نتحدّث عن مفاد هذه الآية و مفهومها.
الحديث الأوّل: روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بسلسلة سنده عن عطاء بن أبي رياح، عن امّ سَلَمة كانت امُّ سَلَمَةَ تَذكُرُ أنَّ النَّبِيّ كَانَ في بَيتِهَا فَأتَتْهُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلام بِبُرمَةٍ فِيها حَرِيرَةٌ فَدَخَلَت بِهَا عَلَيهِ. قَالَ: «ادْعي لي زَوجَكِ وَ ابنَيك، قالَ: فَجَاءَ عَلِيّ وَ حَسَنٌ وَ حُسَينٌ فَدَخَلُوا وَ جَلَسُوا يَأكُلُونَ مِن تِلْكَ الْحَريرَةِ وَ هُوَ وَ هُمْ على مَنامٍ لَهُ على دُكّانٍ تَحْتَهُ مَعَهُ كِساء خَيْبَريّ». قالت: وَ أنَا في الْحُجْرَةِ اصَلّي، فَأنزَلَ الله تعالى هَذِهِ
الآيَةَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قالت فَأخَذَ فَضْلَ الْكِساءِ وَ كَساهُمْ بِهِ ثُمَّ أخْرَجَ يَدَهُ فَألوى بِهَا إلى السَّماء وَ قَالَ: «هَؤُلَاءِ أهلُ بيتِي وَ خاصَّتي، اللهُمَّ فَأذْهِب عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرهُمْ تَطْهِيراً». قالت: فَأدخَلْتُ رَأسِي البيتَ وَ قُلْتُ: أنَا مَعَكُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إنَّكَ إلى خيرٍ إنَّكِ إلى خيرٍ.۱
و روى هذا الحديث نفسه أحمد بن حنبل بسندين آخرين عن أبي
سلمة،۱ و عن شهر بن حوشب،٢ عن امّ سلمة.
الحديث الثاني: روى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه بسنده عن شهر بن حوشب، عن امّ سلمة أنَّها قالت: إنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ لِفَاطِمَةَ: «إيتنِي بِزَوجِكِ وَ ابْنَيكِ»، فَجاءَت بِهِم، فَألْقى عَلَيْهِمْ كِساءً فَدَكِيّاً، قَالَت، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهْ عَلَيْهِمْ وَ قَالَ: «اللهُمَّ هَؤلاءِ آل مُحَمَّدٍ وَ اجْعَلَ صَلَواتِكَ وَ بَرَكَاتِكَ على مَحَمَّدٍ وَ آل مَحمَّدٍ إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ». قَالَتْ امُّ سَلَمةَ: فَرَفَعْتُ الكِساءَ لأدْخُلَ مَعَهُمْ فَجَذَبَهُ مِنْ يَدِي وَ قَالَ: «إنَّكِ على خَيْر»ٍ.٣
الحديث الثالث: روى الثعلبي بسلسلة سنده المتّصل عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه عبد الله بن جعفر أنَّه قال: لَمّا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ إلى إلَةٍ٤ جَمَّةٍ هابِطَةٍ مِنَ السَّماءِ قالَ: «مَنْ تَدَعُ- مَرَّتَينِ-؟» قَالَت زَيْنَبُ: أنا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «ادعي لي عَلِيّاً وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنَ وَ الحُسَيْنَ، قَالَ: فَجَعَلَ حَسَناً عَنْ يَمِينِهِ وَ حُسَيْناً عَن شِمَالِهِ وَ عَلِيّاً
وَ فَاطِمَةَ تِجاهَهُ ثُمَّ غَشّاهُمْ كِساءً خَيبَرِيّاً ثُمَّ قالَ: إنَّ لِكُلِّ نَبِيّ أهْلًا وَ هَؤلآءِ أهْلُ بَيْتِي، فَأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: يَا رَسُولَ اللهِ أ لا أدْخُلُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «مَكَانَكِ فَإنَّكِ إلى خَيْرٍ إنْ شَاءَ اللهُ».۱
الحديث الرابع: يقول الحميديّ: إنَّ الحديث الرابع و الستّين من الأحاديث التي يتّفق فيها البخاريّ و مسلم في صحيحيهما، و قد روي عن مسند عائشة، عن مصعب بن شيبة، عن صفيّة بنت شيبة، عن عائشة أنَّها قالت: خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ ذاتَ غُدْوَةٍ وَ عَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ٢ مِن شَعرٍ أسْوَدَ، فَجاءَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ فَأدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأدْخَلَهُ، ثُمَّ جَائَتْ فَاطِمَةُ فَأدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيّ فَأدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. و ليس لمصعب بن شيبة عن صفيّة بنت شيبة في مسند من الصحيحين غير هذا.٣
الحديث الخامس: جاء مفاد هذا الحديث في الجزء الثالث من كتاب «الجمع بين الصحاح الستّة» في باب مناقب الحسن و الحسين عن صحيح أبي داود المعبّر عنه «سنن أبي داود» بنفس السند المتقدّم عن صفيّة بنت شيبة.۱
الحديث السادس: جاء في كتاب «الجمع بين الصحاح الستّة لأهل السنّة»، و هي عبارة عن «الموطّأ» لمالك بن أنس الأصبحيّ، و «صحيح مسلم»، و «صحيح البخاريّ» و «سنن أبي داود السجستانيّ» و «صحيح الترمذيّ»، و النسخة الكبيرة من «صحيح النسائيّ»، و هذا الكتاب من جمع الشيخ أبي الحسن رزين بن معاوية العبدريّ السرقسطيّ الأندلسيّ، جاء من «صحيح أبي داود السجستانيّ»، و هو سننه نفسه، في تفسير هذه الآية المباركة: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} عن عائشة أنَّها قالت: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، و عَلَيْهِ مِرطٌ مُرَحَّلٌ مِن شَعْرٍ أسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ فَأدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيّ فَأدْخَلَهُ، قَالَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
قَالَ: وَ عَنْ امَّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيّ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في بَيْتِهَا {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. قَالَتْ: وَ أنَا جَالِسَةٌ عَنْدَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ اللهِ أ لَسْتُ مِن أهْلِ الْبَيتِ؟
فَقَالَ: «إنَّكِ إلى خَيْرٍ إنَّكَ مِنْ ازْواجِ رِسُولِ اللهِ»، قَالَتْ: وَ في الْبَيْتِ رَسُولُ اللهِ، وَ عليّ، وَ فَاطِمَةُ، وَ حَسَنٌ، وَ حُسَيْنٌ، فَجَلَّلَهُمْ بِكَسَاءٍ وَ قَالَ: «اللهُمَّ هَؤلاءِ أهْلُ بَيتي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً».۱
الحديث السابع: جاء في تفسير الثعلبيّ في تفسير الآية المباركة طه. عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: «طه» طَهارَةُ أهلِ بيتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، ثُمَّ قَرَأ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.٢
الحديث الثامن: روى الثعلبيّ بإسناده عن ابن عمّ عوام بن حوشب الذي يُدعى مجمعاً أنَّه قال: دَخَلْتُ مَعَ امّي على عائِشَةَ فَسَألَتْهَا امّي قالت: رَأيْتُ خُروجَكِ يَوْمَ الْجَمَلِ؟ قَالَت: إنَّهُ كَانَ هَذَا مِنَ الله تعالى فَسَألَتْهَا عَنْ عَلِيّ، فَقَالَتْ: سَألْتِنِي عَنْ أحَبِّ النّاسِ كانَ إلى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم وَ لَقَدْ رَأيْتُ عَلِيّاً وَ فَاطِمَةَ وَ حَسَناً وَ حُسَيناً وَ قَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللهِ لغوفَ٣ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ هَؤلاء أهْلُ بَيتِي وَ خاصَّتي فَأذهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهيراً»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أنَا مِن أهْلِكَ؟ فَقَال: «تَنَحِّي فَإنَّكِ إلى خَيْرٍ».٤
الحديث التاسع: روى الثعلبيّ بسلسلة سنده عن شدّاد بن عمّار أنَّه
قال: دخلتُ على واثلة بن الأسقع و كان عنده قوم، فذكروا عليّاً فشتموه، فشتمته معهم، فقال واثلة: أ لا اخبرك ما سمعته من رسول الله؟ قَالَ: أتَيْتُ فَاطِمَةَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهَا أسْألُهَا عَنْ عَلِيّ فَقَالَتْ: «تَوَجَّهَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ»، فَجَلَسْتُ فَجاءَ رَسُولُ اللهِ وَ مَعَهُ عَلِيّ وَ حَسَنٌ وَ حُسَيْنٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِهِ حتى دَخَلَ، وَ أدنى عَلِيّاً وَ فَاطِمَةَ فَأجْلَسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أجْلَسَ حَسَناً وَ حُسَيْناً كُلَّ وَاحِدٍ مَنْهُمْا على فَخِذِهِ ثُمَّ لَفَّ عَلَيْهِمْ ثَوْبَهُ- أو قَالَ: كَساهُ- ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ هَؤلاءِ أهْلُ بَيْتِي وَ أهْلُ بَيْتِي.۱
و ذكر أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده بسلسلة سنده، و ذكر في آخره أنَّ رسول الله قال: «هَؤلاءِ أهْلُ بَيتي، و أهلُ بَيتي أحَقُّ».٢
الحديث العاشر: روى إبراهيم بن محمّد الحموينيّ في كتاب «فرائد السمطين في فضائل المرتضى و البتول و السبطين» بسلسلة إسناده المتّصل
عن يوسف بن عبد الحميد أنَّه قالَ: قَالَ لي ثَوْبانُ مولى رَسُولِ اللهِ: أجْلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ على فَخِذَيْهِ وَ فاطِمَةَ في حُجْرِهِ وَ اعْتَنَقَ عَلِيّاً عَلَيهِمُ السلامُ ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ هَؤلاء أهْل بَيتي».۱
شأن نزول آية التطهير في كتب أهل السنّة
الحديث الحادي عشر: روى أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزميّ في كتاب «فضائل عليّ عليه السلام» بإسناده المتّصل عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، و كذلك روى المرحوم الشيخ الطوسيّ في كتاب «الأمالي» بإسناده المتّصل عن طريق الخاصّة، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى أنَّه قال: قال أبي: دفع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم الراية يوم خيبر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام ففتح الله عليه، و أوقفه يوم غدير خمّ، فأعلم الناسُ أنَّه مولى كلّ مؤمن و مؤمنة و قال له: «أنتَ منّي و أنا منك» و قال له: «تقاتل يا عليّ على التأويل كما قاتلتُ أنا على التنزيل» و قال له: «أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى». و قال له: «أنا سلمٌ لمن سالمتَ و حربٌ لمن حاربتَ» و قال له: «أنت العروة الوثقى». و قال له: «أنت تبيّن لهم ما اشتبه عليهم من بعدي». و قال له: «أنت إمامُ كلّ مؤمن و مؤمنة، و وليّ كلّ مؤمن و مؤمنة بعدي». و قال له: «أنت الذي أنزل الله فيه: {وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}.٢
و قال له: «أنتَ الآخذُ بسُنّتي و الذابّ عن ملّتي». و قال له: «أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرضَ و أنتَ معي». و قال له: «أنا عند الحوضِ و أنتَ معيّ». و قال له: «أنا أوّل مَن يدخل الجنّة و أنتَ معي تدخلها أنتَ و الحسنُ و الحسينُ
و فاطمةُ». و قال له: «إنَّ الله أوحى إلَيّ بأن أقوم بفضلك فقمتُ به في الناس و بلّغتهم ما أمرني اللهُ بتبليغه». و قال له: «اتّق الضغائنَ التي في صدور من لا يظهرها إلّا بعد موتي، اولئك يلعنهم اللهُ و يلعنهم اللّاعنون».
ثمّ بكى [النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم] فقيل: ممّ بكاؤك يا رسول الله؟ قال: «أخبرني جبرئيل أنَّهم يظلمونه، و يمنعونه حقّه و يقاتلونه و يقتلون ولده و يظلمونهم بعده. و أخبرني جبرئيل عن الله عزّ وَ جلّ أنَّ ذلك الظلم يزول إذا قام قائمهم، و علت كلمتهم، و اجتمعت الامّة على محبّتهم، و كان الشانئ لهم قليلًا و الكاره لهم ذليلًا، و كثر المادح لهم، و ذلك حين تغيّر البلاد، و تضعف العباد، و اليأس من الفرج، فعند ذلك يظهر القائم فيهم».
قال النبيّ: «اسمه كاسمي و اسم أبيه كاسم أبي،۱ و هو من ولد ابنتي يظهر الله الحقّ بهم و يخمد الباطل بأسيافهم، و يتّبعهم الناس بين راغب إليهم و خائف لهم». قال: و سكن البكاء عن رسول الله ثمّ قال: «معاشر المسلمين أبشروا بالفرج، فإنَّ وعد الله لا يُخلَف و قضاؤه لا يُردّ، و هو الحكيم الخبير، فإنَّ فتح الله قريب. اللهُمَّ إنَّهُمْ أهْلُ بَيتي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرهُمْ تَطْهِيراً. اللهُم اكلأهم و احفظهم و ارعهم و كن لهم و انصرهم و أعنهم و أعزّهم و لا تذلّهم و اخلفني فيهم إنَّك على ما تشاءُ قديرٌ».٢
الحديث الثاني عشر: روى الخوارزميّ موفّق من أحمد بسنده المتّصل عن واثلة بن الأسقع أنَّه قال: لَمَّا جَمَعَ رَسُولُ اللهِ عَلِيّاً وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ تَحْتَ ثَوْبِهِ قالَ: «اللهُمَّ قَدْ جَعَلْتَ صَلَواتِكَ وَ رَحْمَتَكَ وَ مَغْفِرَتَكَ وَ رِضْوَانَكَ على إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبراهيمَ؛ اللهُمَّ إنَّهُمْ مِنّي وَ أنَا مِنْهُمْ فَاجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَ رَحْمَتَكَ وَ مَغْفِرَتَكَ وَ رِضْوَانَكَ عَلَيْهِمْ». قَالَ وَاثِلَةُ: وَ كُنْتُ وَاقِفاً بِالْبَابِ فَقُلْتُ: وَ عَلَيّ يَا رَسُولَ اللهِ بِأبي أنْتَ وَ امِّي؟ قَالَ: «اللهُمَّ وَ على وَاثِلَةَ».۱
الحديث الثالث عشر: روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} يَعنِي الأئِمَّةَ وَ وِلَايَتَهُمْ، مَن دَخَلَ فِيهَا دَخَلَ في بيتِ النَّبِيّ».٢
الحديث الرابع عشر: روى ابن بابويه بسنده عن الحسين بن عليّ سيّد الشهداء عليهما السلام أنَّه قال: «دَخَلْتُ على رَسُولِ اللهِ في بَيتِ امِّ سَلَمَةَ وَ قَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: يا عَلِيّ هَذِهِ الآية فِيكَ وَ في سِبْطَي وَ الأئِمَّةِ مِنْ وُلْدِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَ كَمْ الأئِمَّةُ بَعْدَكَ؟ قَالَ: أنتَ يَا عَلِيّ ثُمَّ الْحَسَنُ وَ الْحُسَيْنُ وَ بَعْدَ الْحُسَيْنِ عَلِيّ ابنُهُ، وَ بَعْدَ عَلِيّ مُحَمَّدٌ ابنُهُ، وَ بَعْدَ مُحَمّدٍ جَعْفَرٌ ابْنُهُ، وَ بَعْدَ جَعْفَرٍ موسى ابنُهُ، وَ بَعْدَ موسى عَلِيّ ابنُهُ، وَ بَعْدَ عَليّ مُحَمَّدٌ ابنُهُ، وَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ عَلِيّ ابنُهُ، وَ بَعْدَ
عَلِيّ الْحَسَنُ ابنُهُ، و الْحُجَّةُ مِن وُلْدِ الْحَسَنِ، هَكَذَا أسماؤُهُمْ مُكْتُوبَةٌ على سَاقِ الْعَرشِ، فَسَألْتُ الله تعالى عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ هَذِهِ الأئِمَّةُ بَعْدَكَ مُطَهَّرُونَ مَعْصُومُونَ، وَ أعْدَاؤُهُمْ مَلْعُونُونَ».۱
الحديث الخامس عشر: روى ابن بابويه بسنده المتّصل عن عبد الرّحمن بن كثير أنَّه قال: قُلتُ لأبي عبد اللهِ: ما عَنَي اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِقُولِهِ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ؟ قَالَ: «نَزَلَتْ في النَّبِيّ وَ أمير المؤمنين وَ الْحَسَنِ وَ الحُسَينِ وَ فَاطِمَةَ علَيهِمُ السَّلامُ فَلمَّا قَبَضَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ نَبِيَّهُ كانَ أمير المؤمنينَ إمَاماً ثُمَّ الحَسَنُ ثُمَّ الحُسَيْنُ ثُمَّ وَقَعَ تَأويلُ هَذِهِ الآيَةِ: {وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ}، و كانَ عَلِيّ بنُ الحُسَيْنِ إماماً ثُمَّ جَرَتْ في الأئِمَّةِ مِن وُلِدِ الأوصِياءِ عليهِمُ السَّلامُ فَطاعَتُهُمْ طَاعَةُ اللهِ وَ مَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَةُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ».٢
و كذلك جاء عن ابن بابويه مثل هذه الرواية المذكورة باختلاف يسير في اللفظ، و نقلها ابن بابويه عن جابر بن يزيد الجُعفيّ عن الإمام محمّد الباقر. عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.٣
الحديث السادس عشر: روى ابن بابويه في «الأمالي» بسنده عن أبي بصير أنَّه قال: قُلْتُ لِلصَّادقِ جَعْفَر بنِ مُحَمَّدٍ علَيهِمَا السَّلامُ مَن آلُ مُحَمَّدٍ؟ قالَ: «ذِرِّيَّتُهُ». قُلْتُ: مَن أهْلُ بَيتِهِ؟ قَالَ: «الأئِمَّةُ الأوصِياءُ»، قُلتُ: مَن عِتْرَتهُ! قَالَ: «أصْحَابُ العَباءِ»، فَقُلتُ، مَن امَّتُهُ؟ قَالَ: «المؤمِنُونَ الَّذِينَ
صَدَقُوا بِما جَاءَ بِهِ مِن عِندِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، المُتَمَسِّكُونَ بِالثَّقَلَيْنِ اللَّذَيْنِ امِرُوا بِالتَّمَسُّكِ بِهِمَا كِتابِ اللهِ وَ عِتْرَتِهِ أهلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ أذهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهَّرهُمْ تَطْهِيراً».۱
الحديث السابع عشر: روى ابن بابويه في «الأمالي» عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: «يَا أبَا بَصِيرٍ، نَحْنُ شَجَرَةُ الْعِلْمِ وَ نَحْنُ أهلُ بيَتِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، و في دارِنا مَهبَطُ جِبرائيلَ عَلَيهِ السَّلامُ وَ نَحْنُ خُزَّانُ عِلمِ اللهِ، وَ نَحْنُ معادِنُ وَحي اللهِ مَن تَبِعَنَا نَجَا، وَ مَن تَخَلَّفَ عَنَّا هَلَكَ، حَقّاً على اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ».٢
الحديث الثامن عشر: جاء في «ذخائر العقبي» عن عمر بن أبي سَلَمَة ربيب رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و الربيب يعني ابن الزوجة، جاء عنه أنَّه قال: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ و آلِهِ وَ سَلَّمَ {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الآية) و في البيتِ امُّ سَلَمَةَ رَضِي اللهُ عَنْها فَدَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ، فاطِمَةَ وَ حَسَناً وَ حُسَيْناً فَجَلَّلَهُمْ بِكساء وَ عَليّ خَلْفَ ظَهْرِه، ثُمَّ قالَ: «اللهُمَّ هَؤلاء أهْلُ بَيتي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً». قَالَتْ امُّ سَلَمَةَ: وَ أنَا مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أنْتِ على مَكَانِكِ وَ أنْتِ عَلَى خَيْرٍ».٣
الحديث التاسع عشر: أخرج السيوطيّ عن ابن مردويه و الخطيب عَنْ أبي سَعيدٍ الخدرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: كَانَ يَوْمُ امِّ سَلَمَةَ امِّ الْمُؤمِنينَ رَضِيّ اللهُ عَنْهَا فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ بِهَذِهِ الآيةِ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهُ صلّى الله عليه و ءَاله و سَلّم بِحَسَنٍ وَ حُسَيْنٍ وَ فَاطِمَةَ وَ عَلِيّ فَضَمَّهُمْ إلَيهِ وَ نَشَرَ عَلَيْهِمْ الثَّوبَ، و الْحِجَابُ على امِّ سَلَمَةَ مَضْرُوبٌ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ هَؤلاءِ أهْلُ بَيتِي، اللهُمَّ أذهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً». قَالَتْ امُّ سَلَمَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا: فَأنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيّ اللهِ؟ قَالَ: «أنتِ على مَكَانِكِ، وَ إنَّكِ على خَيْر»ٍ.۱
الحديث العشرون: أخرج محبّ الدين الطبريّ عن «مسند أحمد بن حنبل»، و الدولابيّ، عن امّ سلمة أنَّها قالت: بَينَما رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، في بَيْتِهِ يَوْماً إذ قَالَتِ الْخادِمُ:٢ إنَّ عَلِيّاً
وَ فَاطِمَةَ بِالسُّدَّةِ، قَالَتْ: فَقَالَ لي: «قُومي فَتَنَحِّي عَنْ أهْلِ بيتي»، قَالَتْ: فَقُمْتُ فَتَنَحَّيْتُ في الْبَيتِ قَريباً فَدَخَلَ عَلِيّ وَ فَاطِمَةُ وَ مَعَهُمْ الْحَسَنُ وَ الْحُسَينُ وَ هُمَا صَبِيّانِ صَغِيرانِ، فَأخَذَ الصَّبِيَّينِ فَوَضَعَهُا في حُجْرِهِ وَ قَبَّلَهُما وَ اعتَنَقَ عَلِيّاً بِإحدى يَدَيْهِ وَ فَاطِمَةَ بِالاخرى وَ قَبَّلَ فَاطِمَةَ وَ قَبَّلَ عَلِيّاً فَأغْدَقَ عَلَيْهِمْ خَمِيصَةً سَوداءَ ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ إلَيكَ لا إلى النَّارِ أنا وَ أهْلُ بَيْتِي». قَالَتْ قُلْتُ: وَ أنَا يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيكَ؟ قَالَ: «وَ أنتِ».۱
استشهاد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بآية التطهير في شأن أهل الكساء
الاستشهادات على أنَّ آية التطهير نزلت في الخمسة أصحاب الكساء فقط:
الأوّل: استشهاد رسول الله نفسه:
نقل المرحوم الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» بسلسلة سنده المتّصل عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام حديثاً مفصّلًا حول خطبة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بعد صلحه مع معاوية. قال في بعضها: "وَ قَدْ قَالَ الله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فَلَمَّا نَزَلَتْ آية التَّطهيرِ جَمَعَنَا رَسُولُ اللهِ أنَا وَ أخِي وَ امِّي وَ أبي فَجَعَلَنا وَ نَفْسَهُ في كِساءٍ لُامِّ سَلَمَةَ خَيْبَريّ وَ ذلِكَ في حُجْرَتِهَا وَ يَوْمِهَا، فَقَالَ: اللهُمَّ إنَّ هَؤلاءِ أهْلُ بَيْتِي وَ هَؤلاءِ أهْلِي وَ عِتْرَتِي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا: أنَا أدْخُلُ مَعَهُمْ يَا رَسُولُ اللهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: يَرْحَمُكِ اللهُ أنْتِ على خَيرٍ وَ إلى خَيْرٍ، وَ مَا أرْضَانِي عَنْكِ وَ لَكِنَّهَا خَاصَّةٌ لِي وَ لَهُمْ، ثُمَّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيه وَ آلِه وَ سَلّم بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةَ عُمْرِهِ حتى قَبَضَهُ اللهُ إلَيْهِ يأتِينَا
في كُلِّ يَوْمٍ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَ يَقُولُ: الصَّلاةُ يَرْحَمُكُمُ اللهُ"۱ {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الحديث).٢
فهذا الحديث الشريف يضمّ استشهاد الرسول الأكرم أوّلًا، و استشهاد الإمام الحسن على نزول آية التطهير فيهم ثانياً.
و ثمّة حديثان آخران ينقلهما الشيخ الطوسيّ بسنده المتّصل في «الأمالي» عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام:" قَالَ عَلِيّ عليه السّلام: كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم يَأتينا كُلَّ غَداةٍ فَيَقُولُ: الصَّلاةَ رَحِمَكُم اللهُ الصَّلاةَ {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
ذكر هذان الحديثان في «غاية المرام» تحت عنوان الحديث الثامن عشر، و التاسع عشر في ص ٢٩٥ من الكتاب المذكور.٣ و ذكره المرحوم الشيخ في «الأمالي»٤ بسنده المتّصل عن أبي الحمراء، و كذلك ذكره السيوطيّ٥ بتخريج ابن مردويه عن أبي سعيد الخُدريّ، و الهيثميّ٦
باختلاف يسير في اللفظ. نحن نذكر هنا لفظ «الأمالي»، قال: شَهِدْتُ النَّبِيّ أربَعينَ صَباحاً يُجيءُ إلى بابِ عَلِيّ وَ فَاطِمَةَ فَيَأخُذُ بِعِضادَتي البابِ ثُمَّ يَقُولُ: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ أهلَ الْبَيتِ وَ رَحْمَةُ اللهِ. الصَّلاةُ يَرْحَمُكُمْ اللهُ {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
و جاء في ذيله حسب تخريج السيوطيّ و الهيثميّ أنَّه قال: "أنا حَرْبٌ لِمَن حَارَبْتُمْ. أنَا سِلْمٌ لِمَن سَالَمْتُمْ".
و قال السيوطيّ بأنَّ الطبرانيّ خرّجه عن أبي الحمراء أنَّه قال: رَأيتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يأتى بابَ عَلِيّ وَ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أشْهُرٍ فَيَقُولُ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.۱
و قال السيوطيّ: و أخرج ابن جرير، و ابن مردويه عن أبي الحمراء أنَّه قال: حَفِظْتُ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ ثَمَانِيَةَ أشْهُرٍ بِالْمَدِينَةِ، لَيْسَ مَرَّةً يَخْرُجُ إلى صَلاةِ الْغَداةِ إلّا أتى إلى بابِ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَوَضَعَ يَدَهُ على جَنْبَتَي الْبَابِ ثُمَّ قَالَ: "الصَّلاةَ الصَّلاة"، {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.٢
و روى كلّ من السيوطيّ۱ بتخريج ابن مردويه عن ابن عبّاس و الثعلبيّ٢ بتخريجه عن أبي الحمراء، و الخوارزميّ٣ بتخريجه عن أبي سعيد الخُدريّ مع اختلاف يسير في اللفظ (و نحن هنا نذكر اللفظ الأوّل) قَالَ: شَهِدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ تِسْعَةَ أشْهُرٍ يَأتى كُلَّ يَوْمٍ بَابَ عَلِيّ بْنِ أبي طالِبٍ رَضِي الله عَنْهُ عِنْدَ وقْتِ كُلِّ صَلاةٍ فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيكُمْ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ أهْلَ الْبَيتِ {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}"الصَّلاةَ رَحِمَكُمُ اللهُ، كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرّاتٍ".
الثاني: استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بآية التطهير لبيان منزلته
و قد تحقّق هذا الاستشهاد في أوقات متعدّدة
الاستشهاد الأول لأمير المؤمنين عليه السلام بآية التطهير لبيان منزلته
عند ما توفي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أتى أبو بكر و عمر إلى منزله، فخاطباه في البيعة، و بعد رفضه جاء إلى المسجد فقال كلاماً بمحضر المسلمين، تطرّق في بعضه إلى آية التطهير مستشهداً بها في بيان منزلته و موقعه المتميّز.
و هذا الحديث رواه الشيخ الطوسيّ في أماليه بسنده المتّصل عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه واحداً بعد الآخر حتى السجّاد عليّ بن الحسين عليهما السلام أنَّه قال: "لَمَّا أتى أبو بكرٍ وَ عُمَرُ إلى مَنزِلِ أمير المؤمنين عَلَيه السَّلامُ وَ خَاطَباهُ في البَيْعَةِ وَ خَرَجا مِن عِنْدِه، خَرَجَ
أمير المؤمنين عليه السَّلامُ إلى الْمَسجِدَ فَحَمِدَ اللهَ وَ أثنى عَلَيْهِ مِمَّا اصْطَنَعَ عِنْدَهُمْ أهْلَ الْبَيتِ إذ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وَ أذهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً. ثُمَّ قَالَ: إنَّ فُلاناً وَ فُلاناً أتيَانِي وَ طالَبَاني لِلْبَيْعَةِ لِمَن سَبيلُهُ أن يُبَايِعَنِي، أنَا ابنُ عَمِّ النَّبِيّ وَ أبُو ابْنَيْهِ وَ الصِّدِّيقُ الأكبَرُ وَ أخُو رَسُولِ اللهِ، لَا يَقُولُهَا أحَدٌ غَيرى إلّا كاذِبٌ، وَ أسْلَمتُ وَ صَلَّيتُ، وَ أنا وَصِيُّهُ وَ زَوْجُ ابْنَتِهِ سَيِّدَةِ نِساءِ الْعَالَمِينَ فَاطِمَةَ بِنتِ مُحَمَّدٍ وَ أبُو الحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ سِبطَيْ رَسُولِ اللهِ وَ نَحْنُ أهلُ بَيتِ الرَّحْمَةِ، بِنَا هَدَاكُمُ اللهُ وَ بِنَا اسْتَنقَذَكُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَ أنَا صَاحِبُ يَوْمِ الرُّوحِ وَ فِيّ سَنَةُ سُورَةٍ مِنَ الْقُرآنِ،۱ و أنا الوَصِيّ على الأمواتِ مِن أهْلِ بَيْتِهِ وَ أنا ثِقَتُهُ عَلي
پس محمّد صد قيامت بود نقد | *** | زآنكه حلّ شد در فنائش حلّ و عقد |
زادة ثاني است احمد در جهان | *** | صد قيامت بود او اندر عيان |
زو قيامت را همى پرسيدهاند | *** | كاين قيامت، تا قيامت راه چند |
با زبان حال مىگفتى بسي | *** | كي ز محشر حشر را پرسد كسي؟ |
به از اين گفت آن رسول خوش پيام | *** | رمز مُوتوا قَبلَ مَوتٍ أي كرام |
همچنان كه مردهام من قبل موت | *** | ز آن طرف آوردهام من صيت و صوت |
پس قيامت شو قيامت را ببين | *** | ديدن هر چيز را شرط است اين |
الأحْياءِ مِن امَّتِهِ فَاتَّقُوا اللهَ يُثَبِّتْ أقدَامَكُمْ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إلى بَيْتِهِ".۱
الاستشهاد الثاني لأمير المؤمنين عليه السلام بآية التطهير مقابل أبي بكر عند غصبه فدك
جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام ضمن حديث قال فيه: "قَالَ أمير المؤمنين عليه السلام لأبي بَكرٍ: يَا أبا بَكرٍ تَقْرَا الْكِتَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأخْبِرنِي عَنْ قَولِ الله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فِيمَن نَزَلَتْ فِينا أم في غَيرِنَا؟ قَالَ: بَل فِيكُمْ".٢
الاحتجاج الثالث لأمير المؤمنين عليه السلام بآية التطهير في مجلس الشوري
روى الشيخ الصدوق في «الأمالي» بسنده المتّصل عن عامر بن واثلة أنَّه قال: كُنتُ في البَيتِ يَومَ الشُّورى فَسَمِعْتُ عَلِيّاً عَلَيهِ السَّلامُ وَ هُوَ يَقُولُ: "اسْتَخْلَفَ النّاسُ أبا بَكرٍ وَ أنَا وَ اللهِ أحَقُّ بِالأمرِ وَ أولى بهِ مِنْهُ و اسْتَخْلَفَ عُمَرَ وَ أنَا وَ اللهِ أحَقُّ بِالأمْرِ وَ أولَى مِنْهُ إلّا أنَّ عُمَرَ جَعَلَني مَعَ خَمْسَةٍ أنَا سادِسُهُمْ لا يَعْرِفُ عَلَيّ فَضْلًا، وَ لَوْ أشاءُ لَاحْتَجَجْتُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ عَرَبْيُّهُمْ وَ لا عَجَمِيُّهُمُ الْمُعاهِدُ مِنْهُمْ وَ الْمُشرِكُ تَغييرَ ذَلِكَ"، ثُمَّ ذَكَرَ عَلَيهِ السَّلامُ مَا احتَجَّ بِهِ على أهلِ الشُّورى، فَقَالَ في ذَلِكَ: "نَشَدتُكُمْ بِاللهِ هَل فِيكُمْ أحَدٌ أنْزَلَ اللهُ فِيهِ آيةَ التَّطْهِير على رَسُولِ اللهِ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}؟ فَأخَذَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم كِساءً خَيبَريّاً فَضَمَّني فِيهِ وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنَ وَ الْحُسَينَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ إنَّ هَؤلاء أهْلُ بَيتِي فَأذهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً؟ قالُوا: اللهُمَّ لَا".۱
و كذلك روى الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» بإسناده المتّصل عن أبي ذرّ الغفاريّ أنَّه قال: إنَّ عَليّاً وَ عُثْمَانَ وَ طلْحَةَ وَ الزُّبَيْرَ وَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عُوفٍ وَ سَعْدَ بن أبي وَقّاصٍ أمَرَهُم عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ أن يَدخُلُوا بَيتاً وَ يغْلِقُوا عَلَيْهِمْ بَابَهُ وَ يَتَشَاوَرُوا في أمرِهِمْ بَيْنَهُمْ ثَلاثَةَ أيْامٍ، فَإن تَوافَقَ خَمْسَةٌ على قَولٍ واحِدٍ وَ أبي رَجُلٌ مِنْهُمْ قُتِلَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَ إنْ
تَوافَقَ أربَعَةٌ وَ أبي اثنانِ قُتِلَ الاثنانِ.۱ فَلَمَّا تَوافَقُوا جَميعاً على رأي واحِدٍ قالَ لَهُمْ عَلِيّ بنُ أبي طالِبٍ عليه السّلام: "إنِّي احِبُّ أن تَسْمَعُوا مِنّي مَا أقُولُ لَكُمْ فَان يَكُن حَقّاً فَاقْبَلُوهُ، وَ إن يَكُن بَاطِلًا فَأنْكِرُوهُ"، قَالُوا: قُلْ فَذَكَرَ فَضَائِلَهُ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَ عَن رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ هُمْ يُوافِقُونَهُ وَ يُصَدِّقُونَهُ فِيمَا قَالَ وَ كَانَ فِيمَا قَالَ عَلَيهِ السَّلامُ: "فَهَلْ فِيكُمْ أحَدٌ أنْزَلَ اللهُ فِيهِ آيَةَ التَّطهير حَيثُ يَقُولُ الله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} غَيرى وَ زَوجَتي وَ ابْنَيّ؟ قَالُوا: لَا".٢
و ذكر الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» حديثاً آخر بهذا المضمون لكن بسند آخر ينتهي إلى أبي الأسود الدؤليّ.٣
الاحتجاج الرابع لأمير المؤمنين عليه السلام بآية التطهير في مسجد النبيّ صلّي الله عليه و آله و سلّم
روى الحموينيّ في كتاب «فرائد السمطين في فضائل المرتضى و البتول و السبطين» بسلسلة سنده المتّصل عن سليم بن قيس الهلاليّ أنَّه قال: رأيت عليّاً عليه السلام في مسجد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في خلافة عثمان و جماعة يتحدّثون و يتذاكرون العلم و الفقه، فذكروا قريشاً و فضلها و سوابقها و هجرتها، و ما قال فيها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من الفضل ... إلى أن قال و عليّ بن أبي طالب عليه السلام
ساكت لا ينطق و لا أحد من أهل بيته، فأقبل القوم عليه فقالوا: يا أبا الحسن ما يمنعك أن تتكلّم؟ فقال: ما من الحيّين يعني المهاجرين قريش و الأنصار إلّا و قد ذكر فضلًا و قال حقّاً، فأنا أسألكم يا معشر قريش و الأنصار مَن [بمن] أعطاكم الله هذا الفضل؟ أ بأنفسكم، و عشائركم، و أهل بيوتاتكم أم بغيركم؟ قالوا: بل أعطانا الله و منّ به علينا بمحمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم و عشيرته، لا بأنفسنا و عشائرنا، و لا بأهل بيوتاتنا. قال: صدقتم يا معشر قريش و الأنصار. أ لستم تعلمون أنَّ الذي نلتم من خير الدنيا و الآخرة منّا أهل البيت خاصّة دون غيرهم؟ [ثُمَّ بدأ عليه السلام يعدّد فضائله و مناقبه واحدة تلو الاخرى، و يقرأ عليهم الآيات القرآنيّة النازلة فيه، إلى أن قال: "أيُّها النّاسُ أ تَعْلَمونَ أنَّ اللهَ أنْزَلَ في كِتَابِهِ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فَجَمَعَنِي وَ فَاطِمَةَ وَ ابْنَيّ حَسَناً وَ الْحُسَينَ ثُمَّ ألْقَى عَلَيْنا كِساءً وَ قَالَ: اللهُمَّ هَؤلاءِ أهْلُ بَيتي وَ لُحْمتى يُؤلِمُني ما يُؤلِمُهُمْ، وَ يَجْرَحُني ما يَجْرَحُهُمْ۱ فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا، فَقَالَتْ امُّ سَلَمَةَ: وَ أنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: أنْتَ إلى خَيْرٍ، فِيّ وَ في أخِي عَلِيّ بنِ أبي طالِبٍ وَ في ابْنَيّ وَ في تِسْعَةٍ مِنْ وُلْدِ ابْنَي الْحُسيْنِ خاصَّةً لَيْسَ مَعَنا فِيها أحَدٌ غَيْرُنَا؟" فَقَالُوا كُلُّهُمْ: نَشْهَدُ أنَّ امَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْنَا بِذَلِكَ فَسَألْنَا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم فَحَدَّثَنا كَما حَدَّثَتنا امُّ سَلَمَة.٢
هذا الحديث مفصّل جدّاً و نحن نقلنا هنا ما يهمّنا في هذا الموضوع من نزول آية التطهير في أهل البيت.
يقول العلّامة نجم الدين الشريف العسكريّ: هذا الحديث الشريف معروف بحديث المناشدة، أخرجه جماعة من علماء الإماميّة و علماء السنّة، و الذين أخرجوه من علماء السنّة كثيرون، منهم الحموينيّ الشافعيّ في «فرائد السمطين»، و الخوارزميّ الحنفيّ في «المناقب» ص ٢١٧ مع اختلاف في اللفظ، و الشيخ سليمان القندوزيّ الحنفيّ في «ينابيع المودّة» ص ١١٤، أخرجه ناقصاً مع اختلاف في بعض ألفاظه، و منهم مؤلّف «المناقب الفاخرة»، و ابن حجر الهيثميّ في «الصواعق المحرقة» ص ٧٧، أخرج بعض ألفاظ الحديث، و قد أخرجه من علماء الإماميّة العلّامة السيّد هاشم البحراني في «غاية المرام» ص ٦٧. و أخرجه أيضاً في كتابه الصغير المسمّى ب- «المناقب» بعد ما علّقنا عليه و ذكرنا مصادر أحاديثه و ذكرنا مستدركات بعض أحاديثه، و قد طبع ببغداد تحت عنوان: «عليّ و السُّنَّة».۱
الاحتجاج الخامس لأمير المؤمنين عليه السلام بآية التطهير قبل نشوب القتال في معركة صفين
لمّا كتب معاوية كتاباً مفصّلًا إلى أمير المؤمنين عليه السلام و أرسله مع أبي الدرداء و أبي هريرة، و مفاده إن كان الأمر كما قلت أي إن كنتَ بريئاً من دم عثمان) فأمكنّا من قتلة عثمان و ادفعهم إلينا نقتلهم، و (عند ذلك) نسلّم إليك الأمر، (و نبايعك نحن و من يخصّنا و جميع أهل الشام).٢
أجاب الإمام أبا هريرة و أبا الدرداء جواباً مفصّلًا، و بيّن لهما خيانة معاوية مع الدليل، إذا أنَّه لا علاقة له بقتلة عثمان، و قد بايعه الناس خليفة عليهم فهو الذي يحكم فيهم و ليس معاوية. لأنَّ معاوية لا خليفة و لا وليّ
دم و لا وريث عثمان بل هو مثير للفتن بذريعة المطالبة بثأر عثمان، ممّا أدّى إلى شقّ عصا المسلمين و الحال أنَّ بيعة معاوية للإمام واجبة و مخالفته حرام. بعد ذلك ألقى الإمام خطبة مفصّلة بحضور أبي هريرة و أبي الدرداء و جماعة من المهاجرين و الأنصار بيّن فيها ماضيه المشرق في الإسلام و أحقّيّته بالأمر مدعِّماً ذلك بالآيات القرآنيّة النازلة بحقّه، و الأحاديث النبويّة الصادرة بشأنه و مناقبه و فضائله.
و ممّا جاء فيها استشهاده بآية التطهير، فقال: "أيُّهَا النَّاسُ أ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ تَبَاركَ وَ تَعالى أنْزَلَ في كِتَابِهِ {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فَجَمَعني رَسُولُ اللهِ وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنَ وَ الْحُسَينَ في كِساءٍ وَ قَالَ: اللهُمَّ هَؤلاء عِتْرَتِي وَ خَاصَّتِي وَ أهْلُ بَيتِي فَأذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطهِيراً، فَقَالَتْ امُّ سَلَمَةَ: وَ أنَا؟ فَقَالَ: إنَّكَ على خَيرٍ وَ إنَّمَا انْزِلَتْ فِيّ وَ في أخي عَلِيّ وَ ابنَتي فَاطِمَةَ وَ ابْنَيّ الْحَسَنِ وَ الْحُسَينِ صَلَواتُ اللهِ عليهم خَاصَّةً لَيْسَ مَعَنا غَيْرُنا وَ في تِسعَةٍ مِن وُلدِ الْحُسَيْنِ مِن بَعْدي". فَقَامَ كُلُّهُمْ فَقَالُوا: نَشْهَدُ انَّ امَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتنا بِذَلِكَ، فَسَألْنَا عَن ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَحَدَّثَنا بِهِ كَمَا حَدَّثَتنا امُّ سَلَمَةَ.۱
و كذلك فإنَّ للإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في هذا العصر احتجاجاً آخر يستشهد فيه بآية التطهير. و لمّا كان مفصّلًا، لذلك نكتفي بنقل طرف منه.
روي في كتاب «المناقب الفاخرة في العترة الطاهرة» بسلسلة سنده المتّصل عن شريك بن عبد الله (الأعور أنَّه) قال: «رأيت أمير المؤمنين ذات يوم و هو قائم و أصحاب رسول الله جلوس و هو يقول لهم: أنشدكم
الذي لا أعظم منه، أ فيكم أخ لرسول الله غيرى؟ قالوا: لا.
قال: انشدكم الله أ فيكم من آمن بالله و رسوله قبلى؟ فقالوا: لا.
قال: فانشدكم الله أ فيكم أحد صلّى القبلتين و بايع البيعتين قبلى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله أ فيكم أحد له زوجة تشبه زوجتي سليلة المصطفى و نبعة العلى و مريم الكبرى و فاطمة الزهراء سيّدة نساء أهل الجنّة؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله أ فيكم أحد له ولد يشبه وَلَدي الحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة؟ فقالوا: لا.
فقال: فانشدكم الله أ فيكم أحد أقرب محتداً من رسول الله غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، هل فيكم أحد غسّله غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، هل فيكم أحد غمّض عينيْ رسول الله غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، أ فيكم أحد فدى رسولَ الله بنفسه و نام على فراشه و بذل مهجته دونه غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، أ فيكم أحد كان إذا قاتل كان جبرائيل عن يمينه، و ميكائيلُ عن شماله غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، هل فيكم أحدٌ أمر الله بمودّته حيث قال: قُلْ لَا أسْألُكُم عَلَيهِ أجْراً إلّا الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، هل فيكم من طهّره الله في كتابه حيث قال: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} غيرى و أهل بيتي؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، هل فيكم أحدٌ أخذ رسولُ الله بيده يوم غدير خمّ، و قال: مَنْ كُنتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عادِ مَن عَادَاهُ غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، هل فيكم أحد كان يأخذ ثلاثة أسهم: سهم القرابة، و سهم الخاصّة، و سهم الهجرة غيرى؟ قالوا: لا.
قال: فانشدكم الله، هل فيكم من أمر الله رسوله فتح بابه حيث سدّت الأبواب غيرى؟ حتى قام عمّي و قال: يا رسول الله أمرتَ بسدّ أبوابنا و فتحت باب عليّ؟ فقال: و الله، ما أسكنت عليّاً بل الله أسكنه و أخرجكم! فقالوا: صدقتَ. فقال: اللهُمَّ اشهدْ و كفى بالله شهيداً».۱
الثالث: استشهاد السيّدة فاطمة الزهراء بآية التطهير في قضيّة فدك
يقول سُليم بن قيس: انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول الله ليس فيها الّا هاشميّ غير سلمان، و أبي ذر، و المقداد، و محمّد بن أبي بكر و عمر بن أبي سلمة، و قيس بن سعد بن عبادة، فقال العبّاس لعليّ صلوات الله عليه: ما ترى عُمَر منعه من أن يغرم قنفذاً كما أغرم جميع عمّاله؟ فنظر عليّ عليه السلام إلى من حوله ثمّ اغرورقت عيناه، ثمّ قال: نشكو له ضربة ضربها فاطمة بالسوط فماتت و في عضدها أثره كأنَّه الدملج. ثمّ قال عليه السلام العجب ممّا اشربت قلوب هذه الامّة من حبّ هذا الرجل
و صاحبه من قبله و التسليم له في كلّ شيء أحدثه. لئن كان عمّاله خونة و كان هذا المال في أيديهم خيانة، ما كان حلّ له تركه، و كان له أن يأخذه كلّه فإنَّه فيء للمسلمين، فما له يأخذ نصفه و يترك نصفه. و لئن كانوا غير خونة، فما حلّ له أن يأخذ أموالهم و لا شيئاً منه قليلًا و لا كثيراً، و إنَّما أخذ أنصاها؛ و لو كانت في أيديهم خيانة ثمّ لم يقرّوا بها و لم تقم عليهم البيّنة، ما حلّ له أن يأخذ منهم قليلًا و لا كثيراً. و أعجب من ذلك إعادته إيّاهم إلى أعمالهم، لئن كانوا خونه ما حلّ له أن يستعملهم.
[ثمّ تطرّق أمير المؤمنين إلى ما أحدثه عمر، و ما أجراه من تغييرات و تبديلات في سنّة النبيّ الأكرم، إلى أن وصل إلى قضيّة فدك، فذكر ما قالته فاطمة عليها السلام عند ما أراد الشيخان أن يأخذا منها فدكاً. قالت:] «أ ليست في يدي و فيها وكيلي، و قد أكلت غلّتها و رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حيّ؟ قالا: بلى. قالت: فلم تسألاني في البيّنة على ما في يدي؟ قالا: لأنَّها فيء المسلمين، فإن قامت بيّنة و إلّا لم نمضها. قالت لهما و الناس حولهما يسمعون: أ فتريدان أن تردّا ما صنع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و تحكما فينا خاصّة بما لم تحكما في سائر المسلمين. أيّها الناس، اسمعوا ما ركب هؤلاء من الإثم. قالت: أ رأيتما أن ادّعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم، تسألونني البيّنة أم تسألونهم؟ قالا: بل نسألك (لأنَّها ليست في يدك). قالت: فإن ادّعى جميع المسلمين ما في يدي، تسألونهم البيّنة أم تسألونني؟
(لمّا كانت حجّة فاطمة قاطعة و عجزا عن الجواب) فغضب عمر و قال: إنَّ هذا فيء للمسلمين و أرضهم، و هي في يدي فاطمة تأكل غلّتها، فإن أقامت بيّنة على ما ادّعت أنَّ رسول الله وهبها لها من بين المسلمين و هي فيئهم و حقّهم، نظرنا في ذلك. فقالت: حسب، انشدكم بالله أيّها
الناس، أ ما سمعتم رسول الله يقول: إنَّ ابنتي سيّدة نساء أهل الجنّة؟" قالوا: اللهُم نعم قد سمعناه من رسول الله، قالت: "أ فسيّدة نساء أهل الجنّة تدّعى الباطل و تأخذ ما ليس لها؟ أ رأيتهم لو أنَّ أربعة شهدوا عليّ بفاحشة أو رجلان بسرقة، أ كنتم مصدّقين عليّ"؟ فأمّا أبو بكر فسكت، و أمّا عمر فقال: نعم و نوقع عليك الحدّ. فقالت: "كذبت و لؤمت إلّا أن تقرّ أنَّك لست على دين محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، إنَّ الذي يجيز على سيّدة نساء أهل الجنّة شهادة أو يقيم عليها حدّاً لملعون كافر بما أنزل الله على محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم. إنَّ مَن أذْهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجسَ وَ طَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً لَا تَجُوزُ عَلَيْهِم شَهادَةٌ لأنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِن كُلِّ سُوءٍ مُطهَّرُّونَ مِن كُلِّ فَاحِشَةٍ".
حدّثني يا عمر من أهل هذه الآية لو أنَّ قوماً شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبرّؤون منهم و يحدّونهم؟
قال: نعم، و ما هم و سائر الناس في ذلك إلّا سواء. قالت: كذبتَ و كفرتَ، ما هُم و سائرُ النَّاسِ سَواءً لأنَّ اللهَ عَصَمَهُمْ وَ أنزَلَ عِصْمَتَهُمْ وَ تَطْهِيرَهُمْ وَ أذْهَبَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، فَمَنْ صَدَّقَ عَليهِمْ فَإنَّمَا يُكَذِّبُ اللهَ وَ رَسُولَهُ. [فلمّا بلغ الأمر حيث بلغ و أفحمهما احتجاجُ فاطمة و استدلالها الرصين] قال أبو بكر: أقسمتُ عليك يا عمر، لما سكتَ۱- (الحديث).
الرابع: استشهاد الإمام الحسن عليه السلام بآية التطهير في ثلاثة مواضع
الأوّل: بعد وفاة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إذ جاء الإمام
الحسن عليه السلام إلى مسجد الكوفة بعد دفن أبيه، و كان المسجد يغصّ بالناس لكثرة الزحام، فخطب في تلك الجموع الغفيرة متطرّقاً إلى شيء من سيرة والده المرتضى. و بعد الخطبة، بايعه الناس جميعه بالخلافة. و كان ممّا ذكره في الخطبة استشهاده بآية التطهير في بيان شأنه و منزلته.
روى محمّد بن العبّاس بن ماهيار- و هو من الموثّقين عند الشيعة- في تفسير القرآن الذي ألّفه للحديث عن الآيات النازلة في أهل البيت بسنده المتّصل عن عمر بن عليّ بن أبي طالب أنَّه قال: خَطَبَ الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ النَّاسَ حِينَ قُتِلَ عَلِيّ عَلِيهِ السَّلامُ فَقَالَ: "قُبِضَ في هذهِ اللَّيلَةِ رَجُلٌ لَم يَسْبِقْهُ الأوَّلُونَ وَ لَا يُدْرِكُهُ الآخِرُونَ. ما تَرَكَ على ظْهرِ الأرضِ صَفْراءَ وَ لَا بيضَاءَ إلّا سَبْعَمِائَةِ دِرهَمٍ فَضَلَت مِن عَطائِهِ أرادَ أن يَبتَاعَ بِهَا خَادِماً لأهْلِهِ". ثُمَّ قَالَ: "أيُّهَا النَّاسُ مَن عَرَفَني فَقَدْ عَرَفَني وَ مَن لَم يَعْرِفِني فَأنَا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ وَ أنَا ابنُ البَشِيرِ وَ النَّذِيرِ وَ الدّاعِي إلى اللهِ بِإذْنِهِ و السِّراجِ المُنِير. أنا مِن أهلِ الْبَيتِ الذي كان يَنزِلُ فِيهِ جَبرئيلُ وَ يَصْعَدُ، وَ أنَا مِن أهْلِ الْبَيتِ الَّذِينَ أذْهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً".۱
و روى الحاكم في «المستدرك» و الهيثميّ في «مجمع الزوائد» أنَّ الْحَسَنَ بنَ عَلِيّ خَطَبَ النَّاسَ حِينَ قُتِلَ عَلِيّ وَ قَالَ في خُطْبَتِهِ: "أيُّهَا النَّاسُ مَن عَرَفَني فَقَدْ عَرَفَني، وَ مَن لَمْ يَعْرِفِني فَأنَا الْحَسَنُ بنُ عَلِيّ، وَ أنا ابنُ النَّبِيّ، وَ أنا ابنُ الوَصِيّ، وَ أنَا ابنُ الْبَشيرِ، وَ أنَا ابنُ النَّذِيرِ، وَ أنَا ابنُ الدّاعي إلى اللهِ بِإذنِهِ، وَ أنَا ابنُ السِّراجِ الْمُنيرِ، وَ أنا مِن أهْلِ الْبَيتِ الَّذِي
كان جَبرَئيلُ يَنْزِلُ إلينَا وَ يَصْعَدُ مِن عِندِنا، وَ أنا مِن أهْلِ الْبَيتِ الَّذِين أذهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرَهُمْ تَطْهيراً"۱- (الخطبة.)
الثاني: الاحتجاج الثاني للإمام الحسن عليه السلام بآية التطهير
بعد الصلح مع معاوية، حيث صعد الإمام المنبر و ألقى خطبة بليغة و مفصّلة للغاية ذكر فيها مناقبه و فضائله جميعها.
نقل الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» هذه الخطبة بسندين. الأوّل: عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام و هذه الخطبة مفصّلة للغاية، و قد بيّن الإمام فيها فضائله، إلى أن قال:
"وَ أقُولُ مَعاشِرَ الْخَلائِقِ فَاسْمَعُوا وَ لَكُمْ أفْئِدةٌ وَ أسْماعٌ فَعُوا: إنَّا أهْلُ بيتٍ أكرَمَنا اللهُ بِالإسلامِ وَ اختَارَنا وَ اصطفانا وَ اجْتَبَانَا وَ أذهَبَ عَنَّا الرِّجْسَ وَ طَهِّرَنا تَطهيراً، و الرِّجْسُ هُوَ الشَّكُّ فَلا نَشْكُّ في اللهِ الْحَقِّ وَ دِينِهِ أبَداً، وَ طَهَّرَنا مِن كُلِّ أفْنٍ وَ عَيبٍ مُخْلَصِينَ إلى آدَمَ نِعْمَةً مِنهُ. لَم تَفْتَرِقِ النَّاسُ فِرقَتَينِ إلّا جَعَلَنَا اللهُ في خَيرِهِمَا، فَأدَّتِ الامورُ وَ أفضَتِ الدُّهُور"ُ.
ثمَّ واصل الإمام كلامه فتطرّق إلى مناقبه الاخرى بالتفصيل، إلى أن قال: "فَنَحْنُ أهْلُهُ وَ لَحْمُهُ وَ دَمُهُ وَ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ مِنْهُ وَ هُوَ مِنّا، وَ قَد قَالَ الله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فَلَمّا انزِلَت آيَةُ التَّطهيرِ جَمَعَنا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم أنَا وَ أخي وَ امّي وَ أبي، فَجَعَلَنا وَ نَفْسَهُ في كِساءٍ لُامِّ سَلَمَةَ خَيبَريّ في حُجْرَتِهَا وَ يَومِها فَقَالَ: اللهُمَّ هَؤلاءِ أهْلُ بَيتِي وَ هؤلاءِ أهْلِي و عِترَتِي٢
فَأذهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرهُم تَطْهِيراً. فَقَالَت امُّ سَلَمَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا أنا أدْخُلُ مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ لَها رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَرحَمُكِ اللهُ أنتِ على خَيرٍ وَ إلى خَيرٍ وَ ما أرضاني عنكِ وَ لكِنَّها خاصَّةٌ لي وَ لَهُم، ثُمَّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةَ عُمْرِهِ حتى قَبَضَهُ اللهُ إلَيهِ يَأتِينا في كُلِّ يَومٍ عِندَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَ يَقُولُ: الصَّلاةَ يَرْحَمْكُمُ اللهُ، {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}۱- (الخطبة).
أمّا السند الثاني فهو عن أبي عمر زاذان قال: لمّا صالح الإمام الحسن عليه السلام معاوية، صعد المنبر فخطب الناس مبيّناً مناقبه، إلى أن قال: "وَ لَمّا نَزَلَتْ آيَة التَّطهِيرِ جَمَعَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في كِساءٍ لُامِّ سَلَمَةَ رَضِي اللهُ عَنْها خَيبَريّ ثُمَّ قالَ: اللهُمَّ هَؤلاءِ أهْلُ بَيْتِي وَ عِترَتي فَأذْهِب عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً".٢
الثالث: بعد طعنه بالخنجر في فخذه أثناء حربه مع معاوية. روي أنَّه خطب الناس بعد أن تحسّنت صحّته. و قد نقل هذه الخطبة من العامّة: الهيثميّ و ابن كثير مع اختلاف يسير في اللفظ. و نحن ننقل هنا كلمات الهيثميّ:
إنَّ الحَسَنَ بنَ عَليّ حِينَ قُتِلَ عَلِيّ استُخْلِفَ، فَبَيْنا هُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ إذ وَثَبَ رَجُلٌ فَطَعَنَهُ بِخَنْجَرٍ في وَرِكِهِ فَتَمرَّضَ مِنها أشْهُراً ثُمَّ قامَ فَخَطَبَ على الْمِنبَرِ فَقَالَ: "يَا أهْلَ الْعِرَاقِ اتَّقُوا اللهَ فِينا فَإنَّا امَراؤكُم وَ ضِيفَانُكُمْ، وَ نَحْنُ أهلُ الْبَيتِ الذي قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فَمَا زالَ يَومَئِذٍ يَتَكلَّمُ حتى ما نَرى في المَسْجِدِ
إلّا بَاكِياً.۱ ثمّ قال الهيثميّ: روى الطبرانيّ هذا الحديث، و رواته من الموثّقين.
الخامس: استشهاد الإمام الحسين سيّد الشهداء عليه السلام بآية التطهير
في الشعر المنسوب إليه الذي أنشده يوم العاشر من المحرّم أمام الجيش الأمويّ و مطلعه:
كَفَرَ الْقَومُ وَ قِدْماً رَغِبوا | *** | عَنْ ثَوابِ اللهِ رَبِّ الثَّقَلَين |
ثمّ تطرّق فيه إلى مناقبه و مفاخره، و بعد ذلك قال:
نَحنُ أصحابُ الكِسا خَمْسَتُنا | *** | قَد مَلَكْنَا شَرْقَها وَ الْمَغْرِبَين |
ثُمَّ جَبريلُ لَنا سَادِسُنا | *** | وَ لَنا الْبَيتُ كَذا وَ المَشْعَرَين٢ |
و في مواطن كثيرة تحدّث الإمام الحسين عن نفسه المقدّسة بوصفه من أهل البيت، منها: عند ما تردّد مسلم بن عقيل في الذهاب إلى العراق و أرسل إليه كتاباً يخبره فيه بتطيُّره من هذه المهمّة، أجابه الإمام عليه السلام قائلًا: "يَا ابنَ العَمِّ إنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: ما مِنّا أهلَ الْبَيتِ مَن يَتَطَيَّر وَ لَا يُتَطَيَّرُ بِهِ، فَإذا قَرأتَ كِتابي فَامضِ على ما أمَرتُكَ، و السَّلامُ عَلَيكَ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ".٣
و منها: عند ما خطب في مكّة قبل تحرّكه تلقاء كربلاء، فقال فيها: "رضا اللهِ رضانا أهلَ الْبَيتِ، نَصبِرُ على بَلائِهِ وَ يُوَفّينا اجُورَ الصَّابِرينَ".٤
نَحنُ وَ جَبريلُ غَداً سَادسُنَا | *** | وَ لَنا الْكَعْبَةُ ثُمَّ الْحَرَمَين |
و منها: عند ما خطب ليلة العاشر من المحرّم و أعلن أمام أصحابه بأنَّ من أحبّ الانصراف، فلينصرف، و قال: "وَ الآنَ لَم يَكُن لَهُمْ مَقْصَدٌ إلّا قَتْلِي وَ قَتلِ مَن يُجاهِدُ بَينَ يَدَيّ وَ سَبْيَ حَرِيمي بَعدَ سَلْبِهمْ، وَ أخشى أنَّكُمْ ما تَعْلَمُونَ او تَعْلَمُونَ وَ تَستَحيُونَ وَ الْخَدْعُ عِندَنا أهلَ الْبَيتِ مُحَرَّمٌ، فَمَنْ كَرِهَ مِنكُمْ ذَلِكَ فَليَنصَرِف".۱ (الخطبة).
السادس: استشهاد الإمام السجّاد عليه السلام بآية التطهير
يقول السيّد ابن طاووس في «اللهوف»: لمّا جاءوا بالسبايا إلى الشام، و سُلِكَ بِهم بين النظّارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي، و في تلك الحالة دنا شيخ من عيال الحسين فقال: الْحَمدُ لِلهِ الذي قَتَلَكُمْ وَ أهْلَكَكُمْ وَ أراحَ الْبِلادَ عَن رِجَالِكُم وَ أمكَنَ أميرُ المؤمنين مِنكُمْ، فَقَالَ لَهُ عَليّ بنُ الْحُسَينِ عَلَيهِمَا السَّلامُ: "يَا شَيخُ هَلْ قَرَأتَ الْقُرآنَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ قَرأتَ هَذِهِ الآيَةَ: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}؟ قَالَ الشَّيخُ: نَعَمْ قَدْ قَرَأتُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلامُ: "فَنَحْنُ القُربى يَا شَيخُ، فَهَلْ قَرَأتَ في بَني إسرائيلَ: «وَ ءَاتِ ذَا الْقُربَى حَقَّهُ»؟ فَقَالَ الشَّيخُ: قَدْ قَرَأتُ، فَقَالَ عَلِيّ بنُ الْحُسَينِ عَلَيهِمَا السَّلامُ: فَنَحنُ الْقُربَى يا شَيخُ، فَهَلْ قَرَأتَ هَذِهِ الآيَةَ: {وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى}؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلامُ: فَنَحْنُ الْقُربَى يَا شَيخُ، فَهَلْ قَرَأتَ هَذِهِ الآيَةَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}؟ قَالَ الشَّيخُ: قَدْ قَرَأتُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلامُ "فَنَحْنُ أهلُ الْبَيتِ الَّذينَ خَصَّصَنَا اللهُ بآيَةِ الطَّهَارَةِ يا شَيخُ". قَالَ الرَّاوي: فَبَقِي الشَّيخُ ساكِتاً نَادِماً عَلَي
مَا تَكَّلَمَّ بِهِ، وَ قَالَ: بِاللهِ إنَّكُمْ هُمْ؟ فَقَالَ عَلِيّ بنُ الْحُسَينِ عَلَيهِمَا السَّلامُ "تَاللهِ إنَّا لَنَحنُ هُم مِن غَيرِ شَكٍّ، وَ حَقِّ جَدِّنا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إنَّا لَنَحنُ هُمْ" فَبَكى الشَّيخُ وَ رَمَى عِمَامَتَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ إلى السَّمَاءِ وَ قَالَ: اللهُمَّ إنَّا نَبرَا إلَيكَ مِن عَدُوِّ آلِ مُحَمدٍ عَلَيهِمُ السَّلامُ مِن جِنٍّ وَ إنسٍ. ثُمَّ قَالَ: هَل لِي مِن تَوبَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ إن تُبتَ تَابَ اللهُ عَلَيكَ وَ أنتَ مَعَنا، فَقَالَ: أنا تائِبٌ. فَبَلَغَ يَزيدَ بنَ مَعاوِيَةَ حَديثُ الشَّيخِ فَأمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.۱
و نقل هذه القضيّة بالتفصيل الخوارزميّ في «المقتل» مع اختلاف يسير في اللفظ.٢ و الطبريّ في تفسير آية التطهير،٣ و ابن كثير٤ في تفسير هذه الآية فقط حيث ذكروا استشهاد الإمام السجّاد بآية التطهير عند حديثه مع ذلك الرجل الشاميّ.
و نقل الآلوسيّ٥ و السيّد شرف الدين٦ أيضاً استشهاد الإمام بآية المودّة {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} للشيخ الشاميّ. و نقل السيّد شرف الدين ذلك عن الطبرانيّ، و كتاب «الصواعق المحرقة».
السابع: استشهاد الإمام السجّاد و السيّدة زينب عليها السلام بآية التطهير في مجلس ابن زياد
لمّا جاءوا بسبايا آل محمّد عليهم السلام إلى مجلس عبيد الله بن زياد،
و اخبر إبن زياد بزينب عليها السلام بعد أن سأل عنها، قال: الْحَمْدُ لِلهِ الذي فَضَحَكُمْ وَ قَتَلَكُمْ وَ أكْذَبَ احْدُوثَتَكُمْ، فَقَالَت زَينَبُ: "الْحَمْدُ لله الذي أكْرَمَنا بِنَبيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ طَهَّرَنا مِنَ الرِّجسِ تَطْهيراً، إنَّما يَفتَضِحُ الْفَاسِقُ وَ يَكذِبُ الْفَاجِرُ وَ هُوَ غَيرُنا و الحَمدُ للهِ".۱
و كذلك عند ما خطبت سلام الله عليها في مجلس يزيد، فإنَّها استحقرت شأن يزيد بهذه الكلمات البليغة التي قالت في بعضها: "أ مِنَ العَدلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخديرُكَ حَرائِرَكَ وَ إماءَكَ، وَ سَوقُكَ بَناتِ رَسُولِ اللهِ سَبايا؟ قَد هَتَكتَ سُتُورَهُنَّ وَ أبدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأعْدَاءُ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، وَ يَستشرِفُهُنَّ أهلُ المَناهِلِ وَ المَناقِلِ، وَ يَتَصَفَّحُ وجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَ الْبَعيدُ وَ الدَّنِيّ وَ الشَّريفُ، لَيسَ مَعَهُنَّ مِن رِجالِهِنَّ وَلِيّ وَ لَا مِن حُماتِهِنَّ حَمِيّ وَ كَيفَ يُرتَجَى مُراقَبَةُ مَن لَفَظَ فُوهُ أكبَادَ الأزكِياءِ، وَ نَبَتَ لَحْمُهُ مِن دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ، وَ كَيفَ يَستَبطِئ في بُغضِنَا أهلَ الْبَيتِ مَن نَظَرَ الَينَا بِالشَّنَفِ وَ الشَّنَآنِ وَ الإحَنِ وَ الأضغانِ"٢- (الخطبة).
الثامن: استشهاد السيّدة فاطمة الصغرى بآية التطهير في مدينة الكوفة
فبعد أن حمدت الله و أثنت عليه و صلّت على النبيّ و آله، و فصّلت في ذكر مصائب أهل البيت، قالت: وَ افتَخَرَ بِذَلِكَ مُفتَخِرُكُمْ شِعراً:
نَحنُ قَتَلنَا عَلِيّاً وَ بَني عَلِيّ | *** | بِسُيُوفٍ هَندِيَّةٍ وَ رِماحِ |
وَ سَبَينا نِساءَهُم سَبْيَ تُرْكٍ | *** | وَ طَعَنّاهُمْ فَأيّ نِطاحِ |
بِفِيكَ أيُّها الْقَائِلُ الْكَثكَثُ وَ الأثلَبُ، افتَخَرتَ بِقَتلِ قَومٍ زَكّاهُمُ الله
وَ طَهَّرَهُمْ وَ أذهَبَ عَنْهُمْ الرِّجسَ؟!۱
التاسع: استشهاد عبد الله بن عفيف الأزديّ بآية التطهير
لمّا فرغ ابن زياد بعد وقعة كربلاء جاء إلى المسجد و خطب الناس فقال في بعض كلامه: الحمد لله الذي أظهر الحقّ و أهله، و نصر أمير المؤمنين [يزيد] و أشياعه، و قتل الكذّاب ابن الكذّاب.
فما زاد على هذا الكلام شيئاً حتى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزديّ و كان من خيار الشيعة و زهّادها، و كانت عينه اليسرى ذهبت في يوم الجمل، و الاخرى في يوم صفّين، و كان يلازم المسجد الأعظم بالكوفة فيصلّي فيه إلى الليل. [قام] فقال له: يا ابن زياد إنَّ الكذّابَ ابن الكذّاب هو أنت و أبوك، و من استعملك و أبوه. يا عدوّ الله، أ تقتلون أبناء النبيّين، و تتكلّمون بهذا الكلام على منابر المؤمنين.
قال [الراوي]: فغضب ابن زياد لعنه الله من كلامه ثم قال: من هذا المتكلّم؟ فقال عبد الله: أنا الْمُتَكَلِّمُ يا عَدُّوَّ اللهِ: أ تَقْتُلُ الذُّرِّيَّةَ الطَّاهِرَةَ التي قَدْ أذهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ تَزعَمُ أنَّكَ على دِينِ الإسلامِ. وا غَوثاهُ أينَ أولادُ المُهَاجِريِنَ وَ الأنصارِ لا يَنتَقِمُونَ مِن طاغَيتِكَ اللَّعينِ ابنِ اللَّعينِ على لِسانِ رَسُولِ رَبِّ العالَمِينَ.٢
العاشر: استشهاد الإمام الرضا عليه السلام بآية التطهير أمام المأمون
روى المرحوم الصدوق ابن بابويه بسنده المتّصل عن الريّان بن
الصّلت، عن الإمام الرضا عليه السلام في جوابه على سؤال المأمون و العلماء عند ما استفسروا منه عن الفرق بين آل رسول الله، و بين الامّة، فقال:
فَكَانَ الوِرَاثَةُ للعِتْرَةِ الطَّاهِرَةِ لَا لِغَيرِهِمْ، فَقَالَ المَأمُونُ: مَنِ الْعِتْرَةُ الطَّاهِرَةُ؟ فَقَالَ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ "الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ في كِتابِهِ، فَقَالَ جَلَّ وَ عَزَّ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}۱- (الحديث).
الحادي عشر: استشهاد سعد بن أبي وقّاص بآية التطهير عند معاوية
روى الشيخ الطوسيّ في «الأمالي» بسنده المتّصل عن ابن عبّاس قال: كنتُ عند معاوية و قد نزل بذي طوى، فجاء سعدُ بن أبي وقّاص فسلّم عليه.
فقال معاوية: يا أهل الشام، هذا سعد و هو صديق عليّ، قال: فطأطأ القوم رؤوسهم و سبّوا عليّاً عليه السلام فبكى سعد، فقال له معاوية: ما الذي أبكاك؟ قال: و لِمَ لا أبكي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يُسَبُّ عندك، و لا أستطيع أن اغيّر.
و قد كان في عليّ خصال لئن تكون فِيّ واحدة منهنّ أحبُّ إليّ من الدنيا و ما فيها.
أحدها: إنَّ رجلًا كان باليمن فجفاه عليّ بن أبي طالب، فقال: لأشكونّك إلى رسول الله. فقدم على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فسأله عن عليّ عليه السلام.
فقال: انشدك الله الذي أنزل عليّ الكتاب و اختصّني بالرسالة، أ عن
سخط تقول ما تقول في عليّ. قال: نعم يا رسول الله. قال: أ لا تعلم أنَّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: بلى. قال: من كنتُ مَولاهُ فعليّ مولاه.
و الثانية: و أنَّه بعث يوم خيبر عُمر بن الخطّاب إلى القتال، فهُزم و أصحابه، فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم لُاعطينَّ الرايةَ إنساناً يحبُّ اللهَ و رسولَه، و يحبّه اللهُ و رسولُه. فقعد المسلمون، و عليّ أرمد، فدعاه فقال: خذ الراية. فقال: يا رسول الله، إنَّ عينيّ كما ترى، فتفل فيها، فقام فأخذ الراية، ثمّ مضى بها، ففتح الله عليه.
و الثالثة: خلّفه في بعض مغازيه. فقال عليّ: يا رسول الله خلّفتني مع النساء و الصبيان؟ فقال رسول الله؟ أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنَّه لا نبيّ بعدي؟
و الرابعة: سدّ الأبواب في المسجد إلّا باب عليّ.
و الخامسة: نزلت هذه الآية: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فدعا النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم عليّاً و حسناً و حسيناً و فاطمة عليهم السلام فقال: "اللهمَّ هَؤلاء أهلي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجسَ وَ طَهِّرهُمْ تَطْهِيراً".۱
و نقل النسائيّ في «الخصائص» عن سعد ثلاث مناقب من مناقب أمير المؤمنين هي: إعطاؤه الراية يوم خيبر؛ و حديث المنزلة، و آية التطهير. و قال: أمر معاويةُ سعدَ بن أبي وقّاص أن يسبّ عليّاً، فامتنع سعدُ و أثنى على عليّ بهذه الفضائل الثلاث.٢
و روى الحاكم۱ في «المستدرك» و الطحاويّ،٢ و ابن جرير الطبريّ،٣ و ابن كثير،٤ عن سعد بن أبي وقّاص في تفسير آية التطهير أنَّه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَأخَذَ عَلِيّاً وَ ابنَيهِ وَ فاطِمَةَ وَ أدْخَلَهُمْ تَحتَ ثَوبِهِ ثُمَّ قَالَ: هَؤلاءِ أهْلِي وَ أهْلُ بَيتِي.
الثاني عشر: استشهاد ابن عبّاس بآية التطهير عند ما أتاه تسعة رهط
نقل أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن ميمون أنَّه قال: إنَّي لجالس إلى ابن عبّاس إذ أتاه تسعة رهط. (و لمّا كان الخبر طويلًا، يقول السيّد البحرانيّ: ذكرناه بطوله في باب خبر غدير خمّ، و ذكرنا عشر خصال نقلها ابن عبّاس في هذا الباب بشأن أمير المؤمنين، في باب خبر الراية، و لذلك نكتفي في هذا الباب، و هو باب آية التطهير بنقل الكلمات الخاصّة بآية التطهير).
قالَ ابنُ عَبّاسٍ: وَ أخَذَ رَسُولُ اللهِ ثَوبَهُ فَوَضَعَهُ على عَلِيّ وَ فَاطِمَةَ وَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَينِ وَ قَالَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.٥
و نقل الطبريّ في تاريخه نقاش ابن عبّاس مع عمر حول النبوّة و الخلافة، و ذكر قول عمر لابن عبّاس و هو أنَّ قريشاً كرهت أن تجتمع
النبوّة و الخلافة في بيت واحد، و جواب ابن عبّاس له: ذلك الجواب الرصين الذي أفحمه. قال الطبريّ، قال عُمر لابن عبّاس: بَلَغَني أنَّكَ تَقُولُ: إنَّمَا صَرَفوهَا عَنّا حَسَداً و ظُلْماً، فَقُلْتُ: أمّا قَوْلُكَ يَا أمير المؤمنين ظُلْماً فَقَدْ تَبَيَّنَ لِلْجَاهِلِ وَ الْحَلِيمَ. وَ أمَّا قَوْلُكَ حَسَداً، فَإنَّ إبليسَ حَسَدَ آدَمَ فَنَحْنُ وُلْدُهُ الْمَحْسُودُونَ، فَقالَ عُمَرُ: هَيهاتَ أبَتْ وَ اللهِ قُلُوبُكُمْ يَا بَني هاشمٍ إلّا حَسَداً ما يَحُولُ، وَضِغناً وَ غِشّاً ما يَزُولُ: فَقُلتُ: مَهْلًا يَا أمير المؤمنين لا تُصِب قُلُوبَ قَومٍ أذْهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجسَ وَ طَهَّرَهُمْ تطَهيراً، فَقالَ: عُمَرُ: إليكَ عَنّي يا ابنَ عَبّاسٍ، فَقُلْتُ: أفْعَلُ، فَلَمّا ذَهَبتُ لأقُومَ، استَحيي فَقُلتُ: يا أمير المؤمنين إنَّ لي عَليكَ حَقّاً وَ على كلّ مُسلَمٍ: فَمَن حَفِظَهُ فَحَظَّهُ أصَابَ، وَ مَنْ أضَاعَهُ فَحَظَّهُ أخْطَأ، ثُمَّ قَامَ فَمَضَى.۱
و كذلك روي عن أحمد بن حنبل بسنده عن عمرو بن ميمون أنَّه قال: إنَّي لَجَالِسٌ إلى ابنِ عَبّاسٍ إذ أتَاهُ تِسعَةُ رَهطٍ فَقَالُوا: يا ابنَ عبّاسٍ: إمّا أن تقومَ مَعَنا و إمّا أن يُخَلُّونَا هؤلاء، قالَ: بل أقومُ مَعَكُمْ، قالَ: وَ هُوَ يَومئِذٍ صحيحٌ قَبلَ أن يَعمَى، قالَ: فَابتَدُؤا فَتَحَدَّثُوا فَلا نَدري ما قالوا: قال: فجاء يَنْفُصُ ثَوبَهُ٢ وَ يَقُولُ: افٍّ تُفٍّ وَقَعُوا في رَجُلٍ لَهُ عَشْرُ خِصالٍ- إلى قَولِهِ- وَ أخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ثَوبَهُ فَوَضَعَهُ على عَلِيّ وَ فَاطِمَةَ وَ حَسَنٍ وَ حُسَينٍ، وَ قَالَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.٣
الثالث عشر: استشهاد امّ سلمة بآية التطهير
الأوّل: استشهادها بهذه الآية في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام عند ما أتتها عمرة الهمدانيّة و سألتها عن أمير المؤمنين بعد استشهاده. قال الطحاويّ في كتاب «مشكل الآثار» قَالَت عُمرَةُ الهَمدانِيَّةُ: أتيتُ امِّ سَلَمَةَ فَسَلَّمتُ عَلَيها فَقَالَت: مَن أنتِ؟ فَقُلتُ: عُمرَةُ الهَمدانِيَّةُ. فَقَالَت عُمرَةُ: يا امَّ المؤمنينَ أخبرِيني عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الذي قُتِلَ بَينَ أظْهُرِنا فَمُحِبٌّ وَ مُبغِضٌّ- تُريد عَلِيّ بنَ أبي طالِبٍ- قَالَت امَّ سَلَمَةَ: أ تُحِبِّينَهُ أمْ تُبغِضينَهُ؟ قَالَت: ما احِبُّهُ وَ لَا ابغِضُهُ۱ ... قالتَ: فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةَ {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} و مَا في البَيتِ إلّا جِبريلُ وَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلمَ وَ عَلِيّ وَ فَاطِمَةُ وَ الْحَسَنُ وَ الْحُسَينُ عَلَيهمُ السَّلامُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ أنا مِن أهْلِ الْبَيتِ؟ فَقَالَ: "إنَّ لَكِ عِندَ اللهِ خَيْراً"، فَوَددتُ أنَّهُ قَالَ: نَعَمْ، فَكانَ أحَبَّ إلَيّ مِمَّا تَطلُعُ الشَّمسُ وَ تَغْرُبُ.٢
الثاني: استشهادها بهذه الآية في عصمة الإمام الحسين عليه السلام
عند ما جاءها نعيه. فقد جاء في «مسند» أحمد بن حنبل بسلسلة سنده عن عبد الحميد بن مهران، عن سهل أنَّه قال: قَالَت امُّ سَلَمَةَ زَوجَةُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ حِينَ جاءَ نَعيُ الحُسَينِ بنِ عَلِيّ عَلَيهِمَا السَّلامُ لَعَنَتْ أهلَ الْعِرَاقِ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ: غَرُّوهُ وَ أذَلُّوهُ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَإنِّي رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ قَد جَاءَتهُ فَاطِمَةُ غُدَيَّةً ببُرْمَةٍ قَد صَنَعَتْ فِيها عَصَيدَةً تَحْمِلُهَا في طَبَقٍ لَهَا حَتَّى
وَضَعَتْها بَينَ يَدَيهِ- إلى أن قَالَت- فَاجتَذَبَ كِسَاءً مِن تَحتى خَيبَرِيّاً كَانَ بِسَاطاً لَنا على مَنامَةٍ في المدينَةِ فَلَفَّهُ رَسُولُ اللهِ وَ أخَذَ طَرَفي الْكِساءِ وَ ألْوَى بِيَدِهِ إلى رَبِّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ قَالَ: "اللهُمَّ هَؤلاءِ أهلُ بَيتي، أذهِبْ عَنْهُمُ الرِّجسَ وَ طَهِّرهُمْ تَطهِيراً".۱
الرابع عشر: استشهاد واثلة بن الأسقع بآية التطهير
عند ما جاؤا برأس سيّد الشهداء عليه السلام إلى الشام.
روى أحمد بن حنبل بسنده المتّصل عن شدّاد بن عبد الله أنَّه قال: سَمِعْتُ واثِلَةَ بنَ الأسقَعِ وَ قَد جِيءَ بِرَأسِ الحُسَينِ بنِ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السّلامُ قالَ: فَلِقيَهُ رَجُلٌ مِن أهلِ الشَّامِ فَأظْهَرَ سُروراً، فَغَضِبَ واثِلَةُ وَ قَالَ: و اللهِ لَا أزالُ احِبُّ عَلِيّاً وَ حَسَناً وَ حُسَيناً أبَداً بَعْدَ إذ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ في مَنزِلِ امِّ سَلَمَةَ يَقُولُ فِيهِم مَا قَالَ. قَالَ واثِلَةُ: رَأيتُني ذاتَ يَومٍ وَ قَدْ جِئتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ هُوَ في مَنْزِلِ امِّ سَلَمَةَ قَد جَاءَ الْحَسَنُ فَأجْلَسَهُ على فَخِذِهِ الْيُمنَى، وَ قَبَّلَهُ، وَ جاءَ الْحُسَينُ فَأجْلَسَهُ على فَخِذِهِ الْيُسرى، وَ قَبَّلَهُ، ثُمَّ جَاءَتَ فَاطِمَةُ فَأجْلَسَهَا بَيْنَ يدَيهِ ثُمَّ دَعَا بِعَلِيّ فَجاءَ ثُمَّ أرْدَفَ عَلَيهِمْ كِساءً خَيبَرِيّاً كَأنّي أنظُرُ إلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قُلتُ لِواثِلَةَ: مَا الرِّجسُ؟ فَقَالَ: الشَّكُّ في اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.٢
قال أبو أحمد العَسكريّ: إنَّ الأوزاعِيّ لَم يَروِ في الفَضَائِلِ حَديثاً غَيرَ هَذا، وَ اللهُ أعْلَمُ.۱
إنَّ النَّبِيّ مُحَمّداً وَ وَصِيَّهُ | *** | وَ ابنَيهِ وَ ابنَتَهُ البَتُول الطَّاهِرَة |
اهْلُ الْعَباءِ فَإنَّنِي بِوِلَائهِم | *** | أرجُو السَّلامَةَ وَ النَّجا في الآخِرة٢ |
يقول يعقوب بن حميد: و أنشد الشاعر في هذه القضيّة قائلًا:
بِأبي خَمسَةٌ هُم جُنِّبُوا الرِّجسَ | *** | كِراماً وَ طُهِّروا تَطْهِيرا |
أحمَدُ المصطفى وَ فاطِمٌ أعْنِي | *** | وَ عَلِيّاً وَ شُبَّراً وَ شُبَيْرا |
من تَوَلّاهُم تَوَلّاهُ ذُو العَرْشِ | *** | وَ لَقَّاهُ نَضْرَةَ وَ سُرُورَا |
وَ على مُبغِضِيهِمْ لَعنَةُ اللهِ | *** | وَ أصلاهُمُ الْمَلِيكُ سَعِيرا٣ |
و ذكر محمّد بن طلحة الشافعيّ الأبيات التالية بعد نقله الأحاديث الخاصّة بنزول آية التطهير في الخمسة البررة:
هُمُ العُروَةُ الوُثقَى لِمُعتَصِمٍ بِها | *** | مَناقِبُهُمْ جَاءت بِوَحْيٍ وَ إنزَالِ |
مَناقِبُ في الشُّورى وَ سُورَة هَلْ أتى | *** | وَ في سُورَةِ الأحزابِ يَعرفُهَا التالي |
وَ هُمْ أهلُ بَيتِ المصطفى فَوِدَادُهُمْ | *** | على الناس مَفرُوضٌ بِحُكمٍ وَ اسْجَالِ |
فَضَائِلُهُمْ تَعلُو طِرِيقَةَ مُنْتَهَي | *** | رُواةٌ عَلَوْا فِيهَا بِشَدٍّ وَ تِرْحَالِ۱ |
تواتر الأحاديث حول نزول آية التطهير في الخمسة
يستفاد من الأحاديث المتقدّمة سواءً التي وردت عن طريق العامّة أو عن طريق الشيعة، و سواءً التي تكفّلت ببيان هذا الموضوع ابتداءً و اعتبرت نزول آية التطهير في الخمسة البررة عليهم السلام فقط، أو التي جيء بها في مجال الاحتجاج، و استشهد بها رسول الله، و أمير المؤمنين، و فاطمة الزهراء، و الحسنان، و الإمام السجّاد عليهم السلام، و زينب، و فاطمة الصغرى، و الإمام الرضا عليه السلام، و سعد بن أبي وقّاص، و ابن عبّاس، و امّ سلمة، و واثلة بن الأسقع، و لم ينكرها أحد أو يعارضها، يستشفّ منها أنَّ حديث الكساء من الأحاديث المتواترة. و قد ورد فيه أكثر من سبعين حديثاً أغلبها عن طريق العامّة، و لها زهاء أربعين سنداً متّصلًا. و هذه الأحاديث و مدوّنة و مثبّتة في كتب العلماء الضليعين.٢ في الحديث و التفسير و التاريخ، و في كتب الفضائل و المناقب مقرونة بكثير من الأسناد الصحيحة و الحسنة و الموثّقة.
و كلّ من كان له اطّلاع على كتب الأخبار إجمالًا، فلا يبقى أمامه أيّ مجال للشكّ و التردد على أنَّ هذه الميزة، و هي العصمة، تخصّ فقط رسول الله، و أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، و فاطمة، و الحسن و الحسين عليهم السلام وفق الأحاديث القطعيّة، لأنَّ الشواهد و القرائن القوليّة و العمليّة عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم قد بلغت حدّاً، يستطيع معه كلّ خبير و بصير أن يقف على حقيقتها و يستوعبها، و يجتاز مرحلة الشكّ و الظنّ و الاحتمال، ليبلغ ثغور اليقين و الاطمئنان.
نساء النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لا يمثّلن المصداق الحقيقيّ لأهل البيت عليهم السلام
أوّلًا: لقد جمع رسول الله اولئك الخمسة في مكان واحد، و أجلسهم جنباً إلى جنب، و دعا لهم بالعصمة، فلم يجلسوا متفرّقين في الغرفة حتى يحوم الشكّ حولهم، و يقول القائل إنَّ آية التطهير لا تخصّهم، و لو فرضنا وجود أحد معهم في نفس المكان، فإنَّه سوف يحظى بهذه الفضيلة.
ثانياً: أنَّه ألقى عليهم الكساء الخيبريّ، فجعلهم في مرتبة متّصلة مع بعضها، يشتركون في وجودهم مجتمعين تحت الكساء.
ثالثاً: أنَّ تخصيصهم بهذه الآية قد بلغ من القوّة درجة نجد معها أنَّ رسول الله كان في غرفة امّ سلمة فألقى الكساء في مكان خال من الغرفة ليشعر من حوله أنَّ العصمة تخصّ هؤلاء لا غيرهم لأنَّ الذي يُفهم من إلقاء الكساء في مكان خالٍ هو الحصر الحقيقيّ بالنسبة إلى جميع الأشخاص الحاضرين و الغائبين. أمّا لو كان المكان مكتظّاً بالناس، لاحتملنا أنَّ هؤلاء الخمسة قد خُصّصوا من بين الحاضرين. فلا يفهم عندئذ هذا الحصر بالنسبة إلى الآخرين.
رابعاً: أنَّ قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم "اللهُمَّ إنَّ هؤلاءِ أهلُ بَيْتي"
يُشعر على أنَّ هؤلاء الأشخاص المعدودين هم فقط أهل بيته، و لو كان أشخاص غير هؤلاء كنساء النبيّ أو أقار به الآخرين في عداد أهل البيت لقال: هؤلاءِ مِن أهل بيتي، وَ لما قال: هؤلاء أهل بيتي.
خامساً: أنَّ قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم لُامّ سَلَمَةَ: "تَنَحيّ عَن أهل بيتي" يشعر على أنَّها لو كانت من أهل البيت، فكيف يصحّ هذا الكلام؟ بل إنَّ هذا الكلام يدلّنا على أنَّ عنوان أهل البيت لا ينطبق على زوجاته صلّى الله عليه و آله و سلّم، فأهل البيت أشخاص معيّنون محدّدون، و زوجاته لا يدخلن في دائرتهم، بل هنّ في جانب، و هم في جانب آخر.
سادساً: ليس في ذلك المكان الخالى أحد غير الخمسة و امّ سلمة. و قد استأذنت امّ سلمة للدخول تحت الكساء قائلة: يا رسول الله و أنا من أهل البيت؟ فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم قِفي بِمَكَانِكِ، إنَّكِ على خير، و لكن أنت لستِ من أهل بيتي، ليس لك أن تدخلي تحت الكساء الخيبريّ العائد لكِ، و إن كان الفراش لكِ و الغرفة غرفتكِ. و هي التي قالت: لو قال لي رسول الله: نعم، لكان أحبّ إليّ ممّا تطلع الشمس و تغرب. و قالت: عند ما رفعت طرف الكساء لاستأذن رسول الله بالدخول، اجتَذَبَهُ مِن يَدي و قال: قفي بمكانك، أنتِ على خير و إلى خير و ما أرضاني عنكِ، و لكنّها خاصّة لي و لهم.
سابعاً: أنَّ إخراج رسول الله يده من تحت الكساء، و رفعها إلى السماء قائلًا: اللهُمّ لكلّ نبيّ أهلٌ و هؤلاء هم أهلي: يدلّ جيّداً على أنَّ انحصار الأهل يكمن في اولئك البررة، كما جاء في بعض الأحاديث أنَّه وضع إحدى يديه على رؤوسهم، و أخرج الاخرى من تحت لكساء و دعا لهم.
ثامناً: أنَّ تكرار هذا العمل من قبل رسول الله عدّة مرّات، و ما تفيده الأحاديث المأثورة من أنَّه كان في بيت امّ سلمة مرّتين، و في بيت فاطمة عليها السلام مرّة واحدة، مع أنَّ آية التطهير نزلت مرّة واحدة فقط- على ما يبدو- و في بيت امّ سلمة لا غير، كلّ ذلك يشعر أكثر فأكثر على أنَّ أهل البيت هم فقط الذين تحت الكساء خاصّة.
تاسعاً: لِمَ كان يذهب النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى بيت فاطمة وقت الصلاة باستمرار و ينادي: الصَّلاةَ يرحمكم الله، السلام عليكم يا أهل البيت، ثمّ يقرأ عليهم آية التطهير، و يكرّر هذا العمل على امتداد أربعين يوماً أو ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة، و عند صلاة الصبح مواصلًا هذا العمل حتى آخر عمره؟ ما ذا كان يعني هذا العمل في قاموسه؟ و ما هو الهدف الذي كان يتوخّاه من وراء ذلك؟ أ لم تكفِ مرّة واحدة لقراءة آية التطهير تبياناً لشأنهم و عظمتهم؟ إنَّ قيامه المتواصل بهذا العمل كان من أجل أن يطّلع عليه الناس و المسلمون كافّة، سواء الذين كانوا في المدينة أو الذين كانوا يفدون إليها من شتّى الحواضر و الأمصار، و لكي ينقله هؤلاء إلى غيرهم.
و العجيب أنَّه صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يكتف بهذا النداء، بل كان يمسك عِضادتي الباب بيديه و ينادي: "الصَّلاةَ يَرحَمْكُمُ اللهُ، السَّلامُ عَلَيكُمْ يا أهلَ البَيتِ وَ رَحمَةُ اللهِ" {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
و لو كانت زوجاته في عداد أهل البيت، لقام و لو مرّة واحدة على الأقلّ بإطلاق هذا النداء عند باب إحداهنّ، فم يدّع أحدٌ، حتى بعض زوجاته اللائي كنّ يرغبن كثيراً أنْ يكنّ محترمات و معزّزات، لم يدّعين الانتماء إلى أهل البيت، و لم يرد هذا الأمر في أيّ حديث و أيّ كتاب، بل
إنَّ عائشة نفسها، التي تروي هذا الحديث أيضاً، تقرّ بأنَّ هذه الآية نزلت في رسول الله، و عليّ، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السلام. و لم يشاهد بعد وفاة الرسول الأكرم أنَّ إحدى زوجاته قد اعتبرت نفسها من أهل البيت، أو أنَّها استشهدت بهذه الآية على أنَّها نزلت في حقّها، كما لم يلاحظ قطّ أنَّ أحد الصحابة أو التابعين قد اعتبر زوجات النبيّ من أهل البيت، أو استشهد بآية التطهير على أنَّها فيهنّ.
حتى أنَّ عائشة عند ما تحرّكت إلى البصرة لحرب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بمعيّة طلحة، و الزبير، و محمّد بن طلحة، و عبد الله بن الزبير، و مروان بن الحكم، و اثني عشر ألفاً من الصحابة و غيرهم، أرسلت كتبها إلى الكبار من صحابة النبيّ و غيرهم تدعوهم فيها لنصرتها، و كانت تكتب فيها ألقاباً خاصّة لنفسها نحو: حَبيبةُ رَسُولِ الله أو امّ المؤمنين، بَيدَ أنَّها لم تطلق على نفسها عنوان أهل البيت قطّ، و ليس من حقّها ذلك كما لم تستطع أن تفعله. و لم ينقل المؤرّخون أنَّها استدلّت بآية التطهير على نفسها مع أنَّ ذلك كان ضروريّاً للغاية في تلك المواقف العجيبة، و المواطن الخطيرة من أجل كسب الناس إلى جانبها، و الدفاع عن جريمتها الشنيعة، فكان لها أن تتشبّث بأبسط ذريعة فيها رائحة من الفضيلة و الامتياز، لكنّها لم تفعل من ذلك شيئاً.
مضافاً إلى ذلك كلّه فإنَّنا لم نجد أحداً على مرّ التاريخ قد أنكر نزول آية التطهير بحقّ اولئك الخمسة المطهّرين و ذلك عند تلاوتها بمحضر المعاندين المناوئين لأهل البيت، مثل معاوية و أشباهه.۱
...۱
نزاهة جميع المراتب الوجودية لأهل البيت عليهم السلام بدلالة الآية على ذهاب الرجس عن نفوسهم
تحدّثنا لحدّ الآن عن شأن نزول الآية و بيان الأحاديث المأثورة في هذا الباب، و لا بدّ لنا فيما يلي أن نتطرّق إلى تفسير الآية الشريفة، و بيان المراد منها:
{أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ ...} «إنَّمَا» من أدوات الحصر، بل هي أقواها جميعاً عند أهل العربيّة، و مفادها حصر إرادة الله في عصمة أهل البيت، إذ إنَّها تحصر إرادة الله في ضمير «كُم»، {لِيُذهِبَ عَنكُم}، أمّا {أهْلَ الْبَيْتِ} فإنَّها منصوبة إمّا على الاختصاص أو المدح أو النداء، أي: أخُصُّ أهلَ البَيتِ أو أمدَحُ أهلَ البَيتِ أو يا أهلَ البَيتِ. على أيّ حال فإنَّها مفسّرة و مبيِنة لضمير عنكم، و بالتالي فَسَيَتَحَقَّق حصر إرادة الله في عصمة أهل البيت.
و ينقسم هذا الحصر إلى قسمين: الأوّل: حصر إرادة الله في العصمة المتمثّلة بإذهاب الرجس و التطهير. و مفاد ذلك أنَّ الله ليس له إرادة في أهل البيت غير إرادة العصمة.
الثاني: حصر إرادة الله في العصمة تخصّ أهل البيت، و مفاد ذلك أنَّ الله ليس له إرادة العصمة في غير أهل البيت، مثل ذلك مثل من يقول لك: أنا لم آت إلى بيتكم إلّا لزيارتكم، فهذا يشعر أوّلًا: أنَّ المجيء كان للزيارة فقط لا لشيءٍ آخر. و ثانياً: يشعر أنَّ المجيء كان فقط لزيارتكم،
لا لزيارتكم و زيارة أفراد آخرين غيركم. و من الطبيعيّ فإنَّ استفادة حصرين بمعزل عن واحدة من أدوات الحصر أمر عسير، بَيدَ أنَّ ما تقدّم حصر واحد ينقسم إلى قسمين.
و إرادة الله هذه هي إرادته التكوينيّة لا إرادته التشريعيّة المتمثّلة بالحكم و القانون و الأمر و النهي، لأنَّ من الواضح أنَّ هذه الأشياء لا تخصّ أهل البيت، بل إنَّ الامّة جميعها، بل البشريّة جميعها متساوية في هذه الإرادة، و لأنَّ إرادة الله بل كلّ إرادة، تكوينيّة كانت أو تشريعيّة لا تتخلّف عن المراد؛ أمّا في التشريع، فإنَّ المراد جعل الحكم، و في التكوين، فإنَّه عين الوقوع في العالم الخارجيّ، لذلك فإنَّ إرادة عصمة الله هي عين تحقّق العصمة و واقعيّة العصمة فيهم، {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.۱
المراد من الرجس في آية التطهير
و بكلمة بديلة، فإنَّ إرادة الله هي سبب ظهور الموجودات، و العلّة لا تتخلّف عن المعلول، لذلك فإنَّ إرادة العصمة تستلزم تحقّق العصمة. و المراد من الرجس٢ القَذَر. و الشيء القَذِر هو الشيء الذي يتنفّر منه
الطبع، و تشمئزّ منه النفس. و يُدعى باللغة الفارسيّة (كَثَافَت، و آلودگى و پليدي) و قد يكون هذا الرجس أحياناً حسب الظاهر، مثل رجس الخنزير في قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}،۱ و قد يكون حسب الباطن، و هو القذارة المعنويّة، كالكفر، و الشرك، و الشكّ في الله عزّ و جلّ و العمل المستقبح، و الأخلاق المذمومة، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ}.٢
على أيّ حال فإنَّ هذه القذارة المعنويّة تمثّل نوعاً من الأثر الشعوريّ و الإدراك النفسانيّ المنبعث عن تعلّق القلب بالعقيدة الباطلة أو العمل القبيح، لأنَّ معنى الرجس و حقيقته و مادّته في الأصل هو التزلزل
و الاضطراب و الحركة و التقلّب. و أنَّ جميع العقائد الباطلة أو الاعمال القبيحة إنَّما تنشأ من اضطراب النفس و عدم الاطمئنان. لذلك فإنَّ إذهاب الرجس، هو إذهاب الاضطراب و التأرجح الروحيّ، و الشكّ، و التردد و بالتالي إذهاب العقائد الباطلة، و الأخلاق المذمومة، و الملكات الرديئة الوضيعة، و أخيراً إذهاب الأعمال القبيحة المشينة. و لمّا كانت الطهارة في مقابل القذارة، و تطهير أهل البيت ملازم لإزالة الأقذار الروحيّة و الأخلاقيّة، و الإثم، لذلك فإنَّ قوله: وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا يعني أنَّ كلّ صفة محمودة، و كلّ ملكة صالحة، و كلّ عقيدة طاهرة، و كلّ عملٍ مرضيّ، هذه كلّها ستحلّ بديلة عن تلك الأقذار المشينة. أيّ أنَّ اليقين سيحلّ بديلًا عن الشكّ، و أنَّ الإنفاق، و الإيثار، و الصفح، و العفو، و حبّ الله، و ذلّ العبوديّة في مقابل، عظمة ربّ الأرباب، كلّ هذه الأشياء ستحلّ بديلة عن البخل، و الإثرة، و الحسد، و الحقد، و حبّ الظهور، و حبّ الجاه، و كنز المال، و حبّ الرئاسة، و تلك هي ملكة العصمة المستفادة من الآية.
في ضوء ما تقدّم، لمّا كانت نفس أهل البيت متنزّهة عن كلّ عيب و قذارة معنويّة بإرادة إلهيّة، لذلك فإنَّ ملكاتهم و أخلاقهم التي تمثّل قواهم النفسيّة، ستكون طاهرة و منزّهة تبعاً لطهارة نفوسهم. و أنَّ أعمالهم المنبعثة عن تلك الملكات و الأخلاق ستكون صالحة و حميدة تبعاً للملكات و الأخلاق نفسها. لذلك فالمعصية لا تصدر عن أهل البيت، لأنَّهم لا ينوون ارتكابها. و أنَّهم لا ينوون ارتكاب المعصية لعدم رغبتهم فيها، و أنَّ عدم رغبتهم فيها منبعث عن طهارة نفوسهم من كلّ لطخة قائمة أو وصمة سوداء، أو بقعة قذرة ملوَّثة، ممّا يستدعي ذلك عدم ظهور تلك الرغبة التي هي في حكم الطفل المتولّد عن القوى النفسانيّة.
و لمّا كانت الآية المباركة معلنة بذهاب الرجس من نفوسهم، لذلك
فإنَّ ذهاب الرجس سيتحقّق في جميع مراتبهم الوجوديّة التابعة لنفوسهم.
و هذه هي أعلى درجات العصمة، أي، العصمة في السرّ، و العصمة في النفس، و العصمة في القوى الخياليّة و الوهميّة، و العصمة في الأفعال الخارجيّة، عَصَمَكُمْ اللهُ مِنَ الزَّلَل وَ آمَنَكُمْ مِنَ الْفِتَنِ وَ طَهَّرَكُمْ مِنَ الدَّنَسِ وَ أذهَبَ عَنكُمُ الرِّجسَ وَ طَهَّرَكُمْ تَطهيراً.۱
و من هنا، يمكن الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام لأنَّه ادّعى الخلافة بعد الرسول الأكرم، صلّى الله عليه و آله و سلّم و ادّعاها بعده ولداه الحسن، و الحسين عليهما السلام، و كانت الزهراء عليها السلام أيضاً ترى إمامتهم. و لمّا كان هؤلاء الأربعة المطهّرون هم من أهل البيت، و أنَّهم معصومون بحكم الآية الكريمة، و المعصوم لا يكذب، لانَّ الكذب رجس، لذلك فإنَّ إمامة عليّ بن أبي طالب ثابتة بالاستلزام، و لا مناصّ للعامّة الَّذين ينكرون إمامته من هذا الاستدلال.
و يمكن الاستدلال أيضاً على غصب فدك، لانَّ الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها السلام معصومة بحكم الآية المباركة، و المعصوم لا يكذب و لا يغصب مال الناس، و لو كانت فدك للمسلمين، فكيف يدّعي المعصوم ملكيّته لها؟!
يقول المرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين رضوان الله عليه: أورد النبهانيّ في أوّل كتابه «الشرف المؤبّد» هذه الآية (آية التطهير) فنقل عن جماعة من الأعلام (أعلام العامّة) ما يدلّ على أنَّهم قد فهموا منها عصمة أهلها (أهل البيت عليهم السلام)، و إليك ما نقله بعين لفظه. قال:
قال الإمام أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ في تفسيره: يقول الله
تعالى: "إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ السُّوءَ وَ الْفَحشَاءَ يَا أهْلَ مُحَمَّدٍ وَ يُطَهِّرَكُم مِنَ الدَّنَسِ الذي يَكُونُ في مَعاصِي اللهِ تَطهيراً".
و روي عن أبي زيد: "إنَّ الرِّجسَ هاهُنَا الشَّيطانُ".
و ذكر الطبريّ أيضاً بسنده إلى سعيد بن قتادة أنَّه قال قوله: {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. قال: فهم أهلُ بَيتٍ طَهَّرَهُمُ اللهُ مِنَ السُّوءِ وَ خَصَّهُم بِرَحمَةٍ مِنهُ.
و قال ابن عطيّة: و الرجس اسم يقع على الإثم و العذاب، و على النجاسات و النقائص، فأذهب اللهُ جميعَ ذلك عن أهل البيت.
و قال الإمام النَّوَويّ، قيل هو الشكّ، و قيل العذاب، و قيل الإثم.
قال الأزهريّ: الرجس اسم لكلّ مستقذر من عمل إنسان و غيره.
و فسّر الشيخ محي الدين بن العربيّ لفظ الرجس في الباب ٢٩، من فتوحاته، بكلّ ما يشين، و إليك عبارته عند ذكر النبيّ: قَد طَهَّرَهُ اللهُ وَ أهلَ بَيتِهِ تَطهيراً وَ أذهَبَ عَنْهُمُ الرِّجسَ، وَ هُوَ كُلُّ ما يَشينُهُم فإنَّ الرِّجسَ هُوَ القَذَرُ عِندَ العَرَبِ، هَكَذَا حَكى الفَرّاءُ.۱
روى الصدوق بسنده المتّصل عن عبد الغفّار الجازيّ، عن الإمام الصادق عليه السلام في قَولِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قالَ: "الرِّجسُ هُوَ الشَّكُّ".٢
و روى محمّد بن الحسن الصفّار في «بصائر الدرجات» بسنده عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنَّه قال: "الرِّجسُ هُوَ الشَّكُّ وَ لا نَشُكُّ في رَبِّنَا أبَداً".٣
و نقل محمّد بن يعقوب الكلينيّ مثل هذا المعنى بسنديه المتّصلين عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام في ذيل رواية مفصّلة.۱ و قد نقلنا في هامش الصفحات المتقدّمة هذا المعنى عن «تاج العروس» و «لسان العرب» حيث ذكر صاحبا هذين الكتابين نقلًا عن الإمام أبي جعفرٍ، الباقر عليه السلام: إنَّ الرجس يعني الشكّ.
المراد بالرجس في آية التطهير كلّ قذارة ظاهريّة و باطنيّة
و روى عن محمّد بن العبّاس بن ماهيار بسنده المتّصل عن الإمام الصادق، عن الإمام الباقر، عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السلام قَالَ عَلِيّ بنُ أبي طالِبٍ في قَولِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: "فَضْلُ أهلِ البَيتِ لا يَكُونُ كَذلِكَ، و اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فَقَدْ طَهَّرَنَا اللهُ مِنَ الْفَواحِشِ ما ظَهَرَ مِنها وَ مَا بَطَنَ على مِنهاجِ الْحَقِّ".٢
و جاء في تفسير «الدرّ المنثور» ج ٥، ص ١٩٩ قوله:
أخرج ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قَالَ: هُمْ أهلُ بَيتٍ طَهَّرَهُمُ اللهُ مِنَ السُّوءِ وَ اختَصَّهُم بِرَحْمَتِهِ، قَالَ: وَ حَدَّثَ الضّحاكُ بن مُزاحم: أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "نَحْنُ أهلُ بَيتٍ طَهَّرَهُمُ اللهُ مِن شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ وَ مَوضِعِ الرِّسالَةِ وَ مُختَلَفِ المَلائِكَةِ وَ بَيتِ الرَّحمَةِ وَ مَعْدِنِ الْعِلمِ". وَ أخرَجَ التَّرمَذِيّ وَ الطَّبرانيّ، و ابنُ مَردَويه و أبو نَعِيمٍ، و الْبَيْهَقِيّ مَعاً في الدَّلائلِ عَنِ ابنِ عبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: "إنَّ اللهَ قَسَمَ الْخَلْقَ قِسمَينِ فَجَعَلَنِي في خَيرِهِما قِسماً، فَذَلِكَ
قَولُهُ: {وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ}، فَأنَا مِن أصحابِ الْيَمِينِ (ثمّ ساق الحديث إلى أن قال:) فَأنَا وَ أهلُ بَيتي مُطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ".
يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام كما جاء في الخطبة ٨٦، من «نهج البلاغة»: "فَأينَ تَذهَبُونَ وَ أنَّي تُؤفَكُونَ وَ الأعلامُ قَائِمَةٌ وَ الآياتُ واضِحَةٌ و الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأينَ يُتاهُ بِكُم وَ كَيفَ تَعمَهُونَ وَ بَينَكُم عِترَةُ نَبِيِّكُمْ وَ هُم أزِمَّةُ الحَقِّ وَ أعلامُ الدِّينِ وَ ألسِنَةُ الصِّدقِ فَأنزِلُوهُمْ بِأحسَنِ مَنازِلِ القُرآنِ، وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الهِيمِ العِطاشِ".۱
يقول ابن أبي الحديد في شرح هذه الفقرات: و قد بيّن رسول الله عترته من هي، لمّا قال: "إنِّي تَاركٌ فيكُمُ الثَّقَلينِ"، فقال: "عِترَتي أهلَ بيتي" و بيّن في مقام آخر مَن أهل بيته حيث طرح عليهم كساءً. و قال حين نزلت {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}: "اللهُمَّ هَؤلاءِ أهلُ بَيتي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجسَ". قال ابن أبي الحديد: فإن قلتُ: فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الكلام؟ قلتُ: نفسه و ولداه [ولديه]؛ و الأصل في الحقيقة نفسه، لأنَّ ولديه تابعان له، و نسبتهما إليه مع وجوده كنسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة. و قد نبّه النبيّ صلّى الله عليه و آله على ذلك بقوله: "و أبُوكُما خيرٌ مِنكُما" و قوله: "وَ هُمْ أزِمَّةُ الْحَقِ" جمع زمام؛ كأنَّه جعل الحقّ دائراً معهم حيثما داروا، و ذاهباً معهم حيثما ذهبوا، كما أنَّ الناقة طوع زمامها، و قد نبّه رسول الله صلّى الله عليه و آله على صدق هذه القضيّة بقوله: "وَ أدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حيْثُ دارَ". و قوله: "و ألسِنَةُ الصِّدقِ"من الألفاظ الشريفة القرآنيّة، قال الله تعالى: {وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} لما كان لا يصدر عنهم حكم و لا قول إلّا و هو موافق للحقّ؛ و الصواب جَعَلَهُم كَأنَّهم ألسنة صدق
لا يصدر عنها قول كاذب أصلًا؛ بل هي كلًّا مطبوعة على الصدق.
و قوله: «فَأنزِلُوهُم مَنازِلَ القُرآنِ» تحته سرٌّ عظيم، و ذلك أنَّه أمر المكلّفين بأن يجروا العترة في إجلالها و إعظامها و الانقياد لها و الطاعة لأوامرها مجرى القرآن.
فإن قلت: فهذا القول منه يشعر بأنَّ العترة معصومة، فما قول أصحابكم في ذلك؟ قلتُ: نصّ أبو محمّد بن متَّويه في كتاب «الكفاية» على أنَّ عليّاً عليه السلام معصوم، و إن لم يكن واجب العصمة، و لا العصمة شرط في الإمامة، لكنّ أدلّة النصوص قد دلّت على عصمته، و القطع على باطنه و مغيبه، و أنَّ ذلك أمرٌ اختصّ هو به دون غيره من الصحابة؛ و الفرق ظاهر بين قولنا: زيد معصوم، و بين قولنا: زيد واجب العصمة لأنَّهُ إمام. و من شرط الإمام أن يكون معصوماً، فالاعتبار الأوّل مذهبنا، و الاعتبار الثاني مذهب الإماميّة.۱
لقد ذكرنا هنا إجمالًا كلام المؤالف و المخالف في معنى الرجس حتى يُفَهم أنَّ الجميع متّفقون على هذا المعنى و هو أنَّ المراد منه في هذه الآية هو كلّ قذارة ظاهريّة نحو: الأعمال القبيحة المذمومة، و كلّ قذارة باطنيّة نحو: الشكّ، و الشرك، و الكفر، و الملكات السيّئة، و الأخلاق المشينة، و النوايا و الخواطر المستقبحة، و أهل البيت معصومون من كلّ الجهات، و لا منافاة بين هذه العصمة و اختيارهم في العمل و كيفيّته، لأنَّ إرادة الله هنا غير خارجة عن مرحلة الاختيار لكن عن طريق الاختيار هي محقّقة للأختيار و مثبّتة له، فالله قد طهّر ذواتهم، و طهّر جميع مراحل
وجودهم، و الاختيار يمثّل إحدى هذه المراحل. إذَن، فالأفعال الصادرة عنهم كلّها مرتكزة على الاختيار. و لمّا كان الاختيار ناتجاً عن نفس شريفة طاهرة نقيّة، لذلك فإنَّهم يقومون بالأفعال و الأعمال المحمودة مختارين لا مجبرين أو مضطرّين. و في مقابل هؤلاء المطهّرين، ثمّة أشخاص ذواتهم ملوّثة و شقيّة، فلا تلحظ فيهم نقطة بيضاء صافية، و تبعاً لتلك الذوات الشقيّة تكون ملكاتهم و أخلاقهم قبيحة و مذمومة، و كذلك تكون نواياهم و خواطرهم تبعاً لذلك، ثمّ تكون أعمالهم قبيحة و مذمومة تبعاً لتلك النوايا و الخواطر. و بين هذين الفريقين أشخاص آخرون خلطوا بين طهارة النفس و قذارتها، فكلّما كانت القذارة أقلّ و الطهارة أكثر، فإنَّ أفعالهم المتحقّقة في الخارج تكون أفضل و أنقى و أرضى. و كلّما كانت الطهارة أقلّ و القذارة أكثر، فإنَّ تلك الأفعال تكون أكثر ظلمة، و أبعد عن الإخلاص، و أقذر. و بين هاتين المرحلتين اناس لا يعدّون و لا يحصون في درجات متنوّعة. و أعمالهم وليدة نيّاتهم، و نيّاتهم وليدة ملكاتهم النفسيّة، و ملكاتهم النفسيّة تتباين تبعاً لاختلاف درجات القذارة و الطهارة التي عليها نفوسهم، و كلّ إناء بالذي فيه يرشح.
مَلَكْنَا فَكانَ الْعَفْوُ مِنّا سَجِيَّةً | *** | فَلَمَّا مَلَكْتُمْ سالَ بِالدَّمِ أبطَحُ |
وَ حَلَّلْتُمْ قَتلَ الأُسَارى فَطَالَمَا | *** | غَدَوْنَا على الأسرى فَنَعْفُو وَ نَصْفَحُ |
وَ حَسْبُكُمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا | *** | وَ كُلُّ إنَاءٍ بِالذي فِيه يَرْشَحُ |
إنَّ عفو أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عن أعدائه مثل: مروان بن الحكم، و عائشة بعد معركة الجمل قد أدهش العقل و حَيّره. فعليّ و غيره
من أئمّة أهل البيت عليهم السلام يتوكّلون على العصمة و ينطلقون في أعمالهم من العصمة، و ما لم تكن النفوس في هذه الدرجة من العصمة و الطهارة و النزاهة فإنَّ أفعالها الخارجيّة سوف لن تكون طاهرة و نزيهة إلى هذا الحدّ.
"وَ إنَّ أرْوَاحَكُمْ وَ نُورَكُمْ وَ طِينَتَكُمْ وَاحِدَةٌ طابَتْ و طَهُرَتْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، خَلَقَكُمْ اللهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ".۱
إلى أهلِ بَيتٍ اذهِبَ الرِّجسُ عَنهُمُ | *** | وَ صُفُّوا مِنَ الأدناسِ طُرّاً وَ طُيِّبُوا |
إلى أهلِ بَيتٍ ما لِمَنْ كان مُؤمِناً | *** | مَن النّاسِ عَنهُمْ في الوِلَايَةِ مَذْهَبُ |
وَ حُبُّهُمْ مِثلُ الصَّلَاةِ وَ إنَّهُ | *** | على الناس مِن بَعضِ الصّلاةِ لأوْجَبُ٢ |
أمّا الشبهات المثارة على الآية
الاولى: أنَّ المراد من الإرادة هنا هي الإرادة التشريعيّة. أي أنَّ الله يريد أن يطهّركم بالأمر و النهي و الوعد و الوعيد و تشريع الأحكام و السنن. فالطهارة هنا ستكون مرتكزة على أفعالهم بسبب اتّباع الأحكام الإلهيّة كما جاء في قوله تعالى: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}.٣
هذه الشبهة غير صحيحة، لأنَّه لو كان المراد من إرادة التطهير، هي
الإرادة التشريعيّة، فهذه لا تخصّ أهل البيت، بل تشمل جميع المسلمين، بل جميع الناس، فالحكم و القانون و الأمر و النهي، كلّ هذه الأشياء تكون للجميع، و قد ذكرنا فيما تقدّم أنَّ الآية بدأت بكلمة «إنَّمَا» و هي تفيد الحصر، أي أنَّ الله أراد تطهير أهل البيت على سبيل الحصر، و هذه الإرادة طبعاً هي الإرادة التكوينيّة المستلزمة للعصمة، كما جاء في مريم، قوله تعالى: {وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ}.۱
فمن الواضح أنَّ هذه الطهارة هي طهارة ذاتيّة قبل العمل، لا طهارة مسبّبة عن العمل و بعد العمل، بل يمكن القول إنَّ آية التطهير {أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ} في الإرادة التكوينيّة و إفادة العصمة من هذه الآية أكثر صراحة، لأنَّ من الممكن أن يطرح احتمال و هو أنَّ طهارة مريم ناتجة عن الطهارة في الأمر و النهي و التشريع، مع أنَّ هذا الاحتمال هو خلاف الظاهر، بَيدَ أنَّه ليس خلاف النصّ و التصريح أمّا في آية التطهير، لمّا كانت الإرادة إنَّما نصّ في الحصر، و الحصر ينأى عموميّة التكليف بالنسبة إلى جميع الاشخاص، لذلك فإنَّ آية التطهير أقوى في إفادة معنى العصمة لأهل البيت من الآية التي تفسِّر معنى العصمة لمريم.
و لو قيل: إنَّ المراد من إذهاب الرجس، و التطهير، هو إرادة التقوى في أعلى درجاتها، إذ إنَّ الله أرادها من أهل البيت فقط، و جعل تكليفهم أشقّ من تكليف غيرهم، كما في وجوب صلاة الليل على الرسول الأكرم و جواز صوم الوصال، و أمثال ذلك من التكاليف الشاقّة و العسيرة، لذلك فإنَّ المراد من إرادة الله في هذه الآية إرادته التشريعيّة و جعل الحكم. و هذا لا ينأى حصر هذه الإرادة في أهل البيت.
و جواب هذه: أنَّ أهل البيت خمسة بلا ريب، و أنَّ رسول الله هو منهم، و أنَّ عصمته ليست مسبّبة عن العمل قطعاً بل هي موهبة إلهيّة لذلك فلا معنى لأن يكون سرّ التكليف بالنسبة إليه مقدّمة للطهارة. و ملخص الكلام أنَّ هذه الآية هي في مقام الامتنان، و تمثّل موهبة في أمر استثنائيّ. و ما هي المنّة من وراء التحلّي بالطهارة بواسطة التكليف الشاقّ. و لمّا كانت إرادة إذهاب الرجس و التطهير في الآية المباركة بالنسبة إلى أهل البيت جميعهم في سياقٍ واحد، و منهج واحد، لذلك فإنَّ المراد من الإرادة هو ليس الإرادة التشريعيّة و جعل الحكم.
الشبهة الثانية على آية التطهير و جوابها
الثانية: أنَّ المراد من أهل البيت في هذه الآية زوجات النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. و أنَّ المراد من إرادة إذهاب الرجس و التطهير، هو ملازمة التقوى في أعلى درجاتها و مراعاة الأحكام الشرعيّة أكثر من بقيّة المسلمين، و القرينة في ذلك هو ما صرّحت به الآيات المتقدّمة على هذه الآية أنَ
الله يؤتيهنّ أجرهنّ مرّتين عند طاعتهنّ و قنوتهنّ لله و رسوله و أنَّه يضاعف لهنّ العذاب ضعفين عند مخالفتهنّ و اتيانهنّ فاحشة مبيّنة. و كذلك صرّحت إحدى الآيات إنهنّ لسنَ كأحد من النساء. مضافاً إلى ذلك فإنَّ آية التطهير جاءت مبثوثة بين الآيات التي تحوم حول نساء النبيّ، فما جاء قبلها و بعدها بيّن أحكامهنّ و تكاليفهنّ، فكيف يمكن أن يكون هذا القسم الضئيل من الآية خارجاً عن نطاق تلك الآيات، و متحدّثاً عن أشخاص غيرهنّ، بحيث إنَّ صدر الآية يخصّ نساء النبيّ، و ذيلها يخصّ الخمسة أصحاب الكساء؟ و الشاهد على هذا الكلام هو الأحاديث المأثورة التي جعلت آية التطهير خاصّة بنساء النبيّ.
أمّا الآيات المتقدّمة على هذه الآية و المتأخّرة عنها فهي: { يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ َعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ، يَا نِسَآءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ، يَا نِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}.۱
و أمّا الأحاديث، فقد قال السيوطيّ في تفسيره، و ابن حجر الهيثميّ في «الصواعق المحرقة»: نسب هذا القول إلى ابن عبّاس.٢
و قال السيوطيّ: روى ابن أبي حاتم و ابن عساكر، عن عِكرَمَة، عن ابن عبّاس أنَّه قال: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} نزلت في أزواج النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و قال عكرمة: مَن شاءَ باهَلْتُهُ، إنَّها نَزلَ في أزواجِ النَّبِيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم.
و روى ابن مردويه عن طريق سعيد بن جبير، عن عكرمة، عن ابن عبّاس أنَّه قال: «نزلت في أزواج النبيّ».
و الحديث الثالث رواه ابن جرير، و ابن مردويه، عن عكرمة، أنَّه قال في قول الله: {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}: لَيسَ بِالذي تَذهَبُونَ، إنَّمَا هُوَ نِساءُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ.
و الحديث الرابع رواه ابن سعد عن عُروة في آية التطهير، قال: نزلت هذه الآية في حجرة عائشة، و يراد بأهل البيت أزواج النبيّ.۱
فهذا عدد من الأحاديث التي اختلقها حثالة من أعداء أهل البيت و دعاة الخوارج، و صنائع بني اميّة. فذهبوا في صرف الآية عن أهلها كلّ مذهب، و عملوا على تشويش أذهان البعض من غير المطّلعين على التفاسير و الأخبار. و نحن بحول الله و قوّته سنكشف كذب هؤلاء و افتراءهم بدرجة لا يبقى معها ريب في قلب أحد.
نقل رواة الأحاديث المتقدّمة هذا القول عن طريقين: الأوّل: عن طريق عِكرَمة، و الآخر: عن طريق مقاتل بن سليمان، و كلاهما من الكذّابين المعروفين، و الوضّاعين المشهورين. و ليس لروايتهما قيمة عند العامّة. فهذان الشخصان أرادا أن يحرّفا مدلول الآية عن اتّجاهه الطبيعيّ طوعاً لما يحملانه من روح عدائيّة لأهل بيت العصمة.
أحوال عكرمة غلام ابن عبّاس
أمّا عِكرَمَة غلام ابن عبّاس فقد كان يرى رأي الخوارج، و بالأخص رأي نجدة الحروريّ، و كان نجدة من أشدّ الخوارج عداوة لأمير المؤمنين عليه السلام. و عكرمة من الدعاة إلى الخوارج، يجوب الأمصار داعياً إلى عداوة عليّ ساعياً في تضليل الناس عنه بكلّ طريق، و لمّا كان غلاماً لابن عبّاس، و ابن عبّاس من مشاهير الصحابة، و أصحاب العلاقة الوطيدة مع النبيّ، و السوابق المشهودة في الإسلام، لذلك فإنَّ كلّ حديث كان يفتريه عكرمة على النبيّ، كان ينقله عن ابن عبّاس فيقول مثلًا حدّثني مولاي ابن عبّاس عن رسول الله كذا و كذا، و نجده في آية التطهير أيضاً ينقل عن ابن عبّاس أنَّه قال بأنَّ المراد من أهل البيت نساء النبيّ.
ذكر الذهبيّ في «ميزان الاعتدال»۱ ترجمة عكرمة بالتفصيل. و ذكر المرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين ملخّص ذلك عند البحث في آية التطهير.٢ و محصّل ذلك: أنَّ عِكرمة كان من غلاة الخوارج مبالغاً في الدعوة إليهم.
فقد نقل عن ابن المدائنيّ أنَّه قال: كان عكرمة يرى رأي نجدة الحروريّ (و كان نجدة من أشدّ الخوارج عداوة لأمير المؤمنين).
و قال يعقوب الحضرميّ: لمّا كان عكرمة من الإباضيّة (و هم من غلاة الخوارج) لذلك كان يكفّر جميع المسلمين. و كان يقف على باب المسجد، و يقول: ما فيه إلّا كافر.
و قال مصعب الزبيريّ: كان عكرمة يرى رأي الخوارج. و عن عطاء: كان عكرمة إباضيّاً.
و قال أحمد بن حنبل: كان عكرمة يرى رأي الصُفريّة (و هم من غلاة الخوارج أيضاً).
و قال يحيى بن بكير: قدم عكرمة مصر و هو يريد المغرب. قال: الخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا [دينهم].
و قال خالد بن أبي عمران: كنّا في المغرب و عندنا عكرمة في وقت الموسم (الحجّ)، فقال: وددتُ أنَّ بيدي حربة فاعترض بها من شهد الموسم يميناً و شمالًا (لبنائه على كفر من عدا الخوارج من أهل القبلة). [و له في القرآن رأي سيّء].
و حدّث أيّوب عن عكرمة أنَّه قال: إنَّما أنزل الله متشابه القرآن
ليضلّ به الناس.
هذا عن مذهبه و عقيدته! و أمّا كذبه فقد نقلوا عنه قصصاً في ذلك. قال ابن أبي شعيب: سألت محمّد بن سيرين عن عكرمة، فقال: ... كذّاب.
و قال عفّان: حدّثنا وهيب، قال: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاريّ و أيّوب، فذكروا عكرمة، فقال يحيى: كذّاب. و قال إبراهيم بن مَيسرةَ عن طاووس اليمانيّ: قال: لو أنَّ عبد ابن عبّاس اتّقى الله و كفّ عن حديثه لشدّت إليه المطايا.
و قال إبراهيم بن المنذر: حدّثنا هشام بن عبد الله المخزوميّ: قال: سمعت ابن أبي ذئب يقول: رأيت عكرمة، و كان غير ثقة.
و قال محمّد بن سعد: كان عكرمة كثير العلم و الحديث، و ليس يحتجّ بحديثه، و يتكلّم الناس فيه. [و لا ريب في وضعه الحديث].
و عن عبد الله بن الحارث، قال: دخلت على عليّ بن عبد الله بن عبّاس، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحشّ (الخلاء) فقلت له: أ لا تتّقي الله؟ فقال: إنَّ هذا الخبيث يكذب على أبي (و يكذب على رسول الله به).
و نقل ياقوت الروميّ في ترجمة عكرمة من معجمه هذه القصّة نفسها. و كذلك نقلها عن يزيد بن زياد أنَّه قال: دخلت على عليّ بن عبد الله بن مسعود و عكرمة مقيّد على باب الحشّ. قلت: ما لهذا كذا؟ قال: إنَّه يكذب على أبي.
فهو بمقتضى هاتين الروايتين تارة يكذب على ابن عبّاس، فينكر عليه ابنه و يعزّره و يوثقه؛ و تارة يكذب على ابن مسعود، فينكر عليه ابنه و يعزّره و يقيّده.
و لمّا عُرِف عكرمة بخيانة مولاه ابن عبّاس و كذبه عليه، لذلك قال ابن المسيّب لمولاه بُرْد: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس.
و يروى ذلك عن عبد الله بن عمر [أنَّه أيضاً قال لمولاه نافع: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على مولاه].
و على هذا الأساس، رفض كبار المحدّثين من العامّة رواياته، و لم يثق أحد بها إلّا البخاريّ. و كان مسلم بن الحجّاج يتجنّب الرواية عنه، و لم ينقل عنه إلّا رواية أو روايتين في سياق روايات اخرى مقرونة بروايته و مؤيّدة لها.
قال مطرف بن عبد الله: سمعت مالكاً يكره أن يُذكر عكرمة و لا رأي أن يروى عنه.
و قال أحمد بن حنبل: ما علمت أنَّ مالكاً حدّث بشيء لعكرمة [إلّا في موضوع واحد].
و أمّا أفعاله الاخرى:
فقد نقل عن كتاب عليّ بن المدينيّ أنَّه قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدّثني والدي عن أيّوب أنَّه ذكر له أنَّ عكرمة لا يحسن الصلاة. فقال أيّوب: و كان يصلّي؟
و قال الفضل السِّينانيّ: رأيت عكرمة قد اقيم قائماً في لعب النرد.
و عن يزيد بن هارون أنَّه قال: قدم عكرمة البصرة، فأتاه أيّوب و يونس، و سليمان التيميّ، فسمع صوت غناء. فقال: اسكتوا، ثمّ قال: قاتله الله، لقد أجاد. فأمّا يونس و سليمان فما عادا إليه. و بسبب أفعاله هذه لم يشهد الناس جنازته عند ما توفي سنة ١٠٥ أو ١٠٦ أو ١٠٧ هـ.
و ورد عن سليمان بن معبد السِّنجيّ أنَّه قال: مات عكرمة، و كثير عَزَّة في يوم، فشهد الناسُ جنازة كُثير، و تركوا جنازة عكرمة، [و لم يشهدها إلّا سُودان المدينة].
و قال مصعب الزبيريّ: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، فطلبه
متولّي المدينة، فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده. [و كان قد جاب الآفاق في الدعوة إلى مذهب الخوارج طيلة عمره].
و قال أبو طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان عكرمة من أعلم الناس، و لكنّه كان يرى رأي الصُفريّة، و لم يدع موضعاً إلّا خرج إليه: خراسان، و الشام، و اليمن، و مصر، و إفريقيا، كان يأتى الامراء فيطلب جوائزهم، و أتى الجَنَدَ إلى طاووس فأعطاه ناقة.
فهذه نبذة موجزة عن ترجمة عكرمة، نقلناها عن كتاب «ميزان الاعتدال». فلمّا كان يرى رأي الخوارج، و كان معروفاً بالكذب، و يجيزه على وجه الخصوص، من أجل تأييد اعتقاده، لذلك يتّضح السرّ من وراء وضع تلك الروايات، و تفسير أهل البيت بنساء النبيّ. لقد كان الخوارج أعداء أمير المؤمنين عليه السلام و لا سيّما عكرمة الذي كان من غلاتهم و دعاتهم، و كان يجوب البلدان من أجل الدعوة إلى مذهبه و ترويج عقيدته بين الناس. فهل نتوقّع من عكرمة، و هو بهذه المواصفات، أن يقول بنزول آية التطهير في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و يرى فيه إماماً معصوماً مفترض الطاعة بين اناس كان يرمي إلى تنفيرهم عنه؟ كلّا.
و لقد كان عالماً و هو يقول عن نفسه: لازمت ابن عبّاس أربعين سنة، و كنت أحدّث الناس، و ألممتُ بفنون العلم. و لمّا كان عكرمة آثماً و من أهل المعاصي و الكذب، لذلك رأى أنَّ أفضل وسيلة لإغواء الناس و دعوتهم إلى مذهب الخوارج هي أن يصرف الآية عن أهل بيت العصمة و يفسّرها بنساء النبيّ. و لمّا لم يشهد النبيّ، فإنَّه استغلّ سمعة مولاه عبد الله بن عبّاس، فنسب إلى هذا الرجل الوجيه الذي يحترمه المسلمون الكذب غير متحرّج عن ذلك. و كان يقول: تأدّبتُ في بيت ابن عبّاس
و علّمت الناس العلم أربعين سنة فيه، فأنا أقول ما قال، فالآية نزلت في نساء رسول الله. و بلغ به التحمّس لاثبات مدّعاه أنَّه طلب المباهلة، و لنا أن نسأل: أنَّه لِمَ لَمْ يطلب المباهلة في المسائل الخلافيّة الاخرى و طلبها فقط في هذه المسألة التي تمسّ عقيدته في الصميم؟
و يتّضح من قوله: لَيْسَ بِالذي تَذهَبُونَ إنَّ الأجواء الفكريّة للناس كانت تعرف أهل البيت على أنَّهم أهل العصمة و الطهارة من آل محمّد صلوات الله عليهم و لم يألف الوسط الاجتماعيّ أحداً غيرهم، إلّا أنَّ عكرمة كان ينادي في الأسواق أيّها الناس، ليس بالذي تذهبون، و ذلك من أجل صرف الناس عمّا يعلمون بتحريف أفكارهم، و بلغ في الصلافة مستوى لم يستطع معه عليّ بن عبد الله بن عبّاس أن يردعه عن عمله على الرغم من التهديد و الوعيد، حتى حبسه في بيته لئلّا يختلط بالناس و يكذب على أبيه أو على رسول الله.
هذا فيما يخصّ رواية عكرمة إذ اتّضح سندها و هويّتها، و انكشف كذبها، مع أنَّ الواحديّ في «أسباب النزول» نقل في هذا الحقل رواية عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس بدون ذكر عكرمة.۱ بَيدَ أنَّا كما نقلنا عن السيوطيّ رواية عن ابن مردويه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس بواسطة عكرمة، فإنَّه يبدو أنَّ هاتين هما خبر واحد. و وقع في الخبر الواحد تدليس، فأسقطوا منه عكرمة الكذّاب من أجل بلبلة الأفكار.
أحوال مقاتل بن سليمان
و أمّا مُقاتل بن سليمان فإنَّه أيضاً يروي هذا الحديث. و هو من الكذّابين و الوضّاعين المشهورين، لم يختلف عن عكرمة، و عدّه النسائيّ من الكذّابين المعروفين بوضع الحديث على رسول الله.٢ و قال
الجوزجانيّ كما جاء في ترجمة مقاتل عن «ميزان الاعتدال»: كان مقاتل كذّاباً جسوراً.۱ و كان يقول للمنصور [الدوانيقيّ]: انظر ما تحبّ أن أحدّثه فيك حتى احدّثه. و قال للمهديّ [الخليفة العبّاسيّ] إن شئت وضعتُ لك أحاديث في العبّاس! قال: لا حاجة لي فيها.٢
يقول السيّد شرف الدين: كان عدوّاً لأمير المؤمنين، و كان دأبه صرف الفضائل و المناقب التي قالها فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عنه حتى افتضح بذلك.
و جاء في «و فيات الأعيان» لابن خَلّكان أنَّ إبراهيم الحربيّ قال: قعد مقاتل بن سليمان فقال (إطفاءً لنور أمير المؤمنين و عناداً له): سَلُوني عَمّا دُونَ الْعَرشِ. فقال له رجل: أخبرني، من حلق رأس آدم حين حجّ؟ فبهت [مقاتل].
و قال الجوزجانيّ: سمعت أبا اليمان يقول: قدم [مقاتل] هاهنا فأسند ظهره إلى القبلة، و قال: سَلُوني عَمّا دونَ الْعَرشِ. قال: و حُدّثت أنَّه قال مثلها بمكّة، فقام إليه رجل، فقال: أخبرني عن النملة، أين أمعاؤها؟ فسكت. و نقل ابن خلّكان هذه الحكاية في ترجمة مقاتل فقال: و إضافة إلى ما كان عليه من الكذب، فإنَّه كان يذهب عند علماء اليهود و النصارى، و يفسّر القرآن حسب كتبهم.
و قال أبو حاتم البُستيّ، كَانَ مُقَاتِلٌ يَأخُذُ عَنِ الْيَهُود وَ النَّصارى عِلْمَ القُرآنِ الذي يُوافِقُ كُتُبَهُمْ. و كان مشبّهاً يشبّه الربّ بالمخلوقين [و يقول إن لله يد و رجل و عين و اذن و غير ذلك].
و قال ابن خلّكان: كان مقاتل من رجال المرجئة و غلاة المشبّهة جماعة منهم ابن حزم في ص ٢٠٥ من الجزء الرابع من كتابه «الفصل» و عدّه الشهرستانيّ في كتاب «الملل و النحل» من رجال المرجئة.
و نقل الذهبيّ في «ميزان الاعتدال» في ترجمة مقاتل عن أبي حنيفة أنَّه قال: أفرط جهم في نفي التشبيه حتى قال: إنَّهُ تعالى لَيسَ بشيءٍ. و أفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه.
و قصارى القول إنَّ رجلًا بهذه المواصفات تسقط روايته من درجة الاعتبار، و لا يحتاج إلى بحث طويل عند أصحاب الاختصاص و أهل الجرح و التعديل. و لا سيّما إذا كانت المسألة تتعلّق بآية التطهير و شأن نزولها إذ تمسّ عقيدتهم في الصميم. بَيدَ أنَّ هذه الحقائق لمّا كانت خافية على بعض الأعلام من العامّة، لذلك أقاموا لرواياتهم وزناً.
نستعرض هنا متن و مفاد الروايات المنقولة عن اولئك الرواة بغضّ النظر عن الخوض في شخوصهم، حتى تتبيّن تفاهة هذه الروايات الموضوعة.
الإجابة على الروايات التي تخصّص آية التطهير بنساء النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم
إنَّ التأمّل في الروايات الواردة يحكي لنا أنَّ كلمة «أهل» في اللغة العربيّة لا تطلق على النساء إلّا من باب التوسّع في اللغة و على سبيل المجاز.
جاء في «صحيح مسلم» عن زيد بن أرقم [و قد قيل له]: مَن أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، و أيم الله، إنَّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثمّ يُطلّقها (و تنقطع العلاقة بينهما) فترجع إلى أبيها و قومها.۱
قلنا فيما تقدّم إنَّ امّ سلمة لمّا أرادت الدخول تحت الكساء، قال لها النبيّ: تنحِّي. فيتّضح من هذا أنَّ عنوان الأهل لا يصدق على امّ سلمة، فنحّاها النبيّ بهذا العنوان مع أنَّها زوجته. و تفيد الرواية التي ينقلها٢
السيوطيّ من أنَّ امّ سلمة بعد أن سألت قائلةً: أ لَسْتُ مِن أهلِكَ؟ قَالَ: "إنَّكَ إلى خَيرٍ، إنَّكَ مِن أزْواجِ النَّبيّ".۱ فرفع النبيّ عنها عنوان الأهل و استبدله بعنوان الزوجة، تفيد تلك الرواية أنَّ النساء لسن أهل الرجل، و لعلّ المراد من كلمة «أهل» أشخاص تربطهم به علاقة وطيدة و راسخة لا تزول مثل: البنت، و الابن، و الحفيد؛ و المرأة مع أنَّها ترتبط بالرجل من خلال عقد الزواج، بَيدَ أنَّ هذا الارتباط يزول بالطلاق و غيره.
مضافاً إلى ذلك، لو كان المراد من أهل البيت نساء النبيّ، لكان ذلك شرفاً لهنّ يتباهين و يفخرن به في الميادين الحسّاسة. بَيدَ أنَّه لم يشاهَد أنَّ إحدى نساء النبيّ قد ادّعت ذلك و أضفت على نفسها هذا اللقب حتى يستغلّ الآخرين من أقربائهنّ هذا الشرف فينسبوا عنوان أهل البيت إليهنّ. و حتى معاوية الذي استغلّ لقب امّ المؤمنين الموسومة به اخته امّ حبيبة بنت أبي سفيان فصعد المنبر و أطلق على نفسه لقب: خَالُ المؤمنين، فلو كان عنوان أهل البيت صادقاً على اخته، لطبّل و زمرّ قائلًا: أنَا أخُو أهلِ الْبَيتِ، و لطبّل و زمرّ من قبله أبو بكر، و عمر قائلًا كلّ منهما: أنَا أبُو أهلِ البَيتِ. بَيدَ أنَّ الجميع يقرّون و يعترفون أنَّ هذه الآية نزلت في النبيّ، و عليّ، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السلام.
مضافاً إلى ذلك فإنَّ الخطاب في هذه الآية المباركة جاء بلفظ جمع المذكّر:{لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ وَ يُطَهِّرَكُمْ}. في حين لو كانت الآية في نساء النبيّ لجاء بلفظ جمع المؤنّث و قال: لِيُذْهِبَ عَنكُنَّ، وَ يُطَهِّرَكُنَّ و هذا أمر بديهيّ.٢
الإجابة على القول بأن آية التطهير راجعة إلى نساء انبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم
و أمّا الجواب على أنَّ آية التطهير جاءت في سياق الآيات الخاصّة بنساء النبيّ، و تقتضي وحدة السياق أنَّ موضوعها ايضاً يخصّ نساء النبيّ فهو على الوجوه التالية:
الأوّل: أنَّ وحدة السياق ليست أكثر من شيء ظاهر، و لا يمكن الركون إليها في مقابل النصّ الصريح؛ فالتمسّك بالسياق في مقابل النصّ الصريح هو اجتهاد في مقابل النصّ. و قد صرّحت جميع النصوص القطعيّة عن الشيعة و السنّة المأثورة عن ما يقارب أربعين طريقاً متنوّعاً و أكثر من سبعين سنداً، أنَّ الآية نزلت في الخمسة فقط. فما هو شأن وحدة السياق و ظهورها في مقابل النصوص المتواترة الصحيحة؟
الثاني: أنَّها لو كانت خاصّة في النساء، لكان الخطاب في الآية بما يصلح للإناث لا للذكور. و هذا دليل قاطع و برهان ساطع على أنَّها لا تخصّ نساء النبيّ.
الثالث: أنَّ الكلام البليغ يدخله الاستطراد. إذ جاء في كلام البلغاء و الفصحاء أنَّهم في الوقت الذي يوجّهون خطابهم إلى شخص أو جماعة فإنَّهم يحوّلون الخطاب إلى غيرهم فجأة فيستعملون جملة اخرى لإفادة قصد آخر، ثمّ يعودون مرّة اخرى إلى موضوعهم السابق فيواصلون حديثهم مع ذلك الشخص أو تلك الجماعة. و هكذا مثلهم بذلك مثل الخطيب الذي يلقي خطابه أمام جماعة. فإذا هو يلتفت إلى الخادم فيقول له: قرّب المصباح، أو شغّل المكبّرة، و قد جاء في القرآن الكريم كثير من
الجمل الاستطراديّة، كقوله تعالى في حكاية خطاب العزيز لزوجته، إذ يقول لها: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} فقوله: يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذَا مستطرد بين خِطابَيهِ معها.
و مثله قوله تعالى في بلقيس ملكة سبأ إذ قالت لأعوانها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ، وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.۱
قالت ذلك بلقيس عند ما أرسل إليها سليمان يدعوها إلى الإسلام أو يحذّرها من العذاب. فقوله: وَ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ مستطرد من جهة الله تعالى بين كلام بلقيس.
و نحوه قوله عزّ من قائل في سورة الواقعة {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} فقوله: {وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} واقع بين القسم و جوابه.
و آية التطهير من هذا القبيل جاءت مستطردة بين الآيات الخاصّة بنساء رسول الله إذ يوجد في تلك الآيات الخاصّة بالنساء أمرٌ و نهى و وعد و وعيد و تشديد و نصيحة و أدب و لأنَّه يمكن أحياناً أن يظنّ البعضُ أهل البيت مثل نساء النبيّ أو توجيه التوبيخ و اللوم اللذينِ يشاهدان في النساء إلى أهل البيت نتيجة للقرابة السببيّة. أو تتوجّه إلى أهل البيت الهناة و الشين جرّاء قرابتهم السببيّة لنساء النبيّ عند ما شاهد الناس فيهم المنقصة و العيب.
فجاء الاستطراد بين تلك الآيات، و تغيّر عنوان الخطاب فجأة
باستعمال ضمير المذكّر، و أراد الله من ذلك أن يبيّن بُعدَ أهل بيت العصمة عن تلك الغلظة و التوعيد بالعذاب و أنَّ الله عصمهم و طهّرهم. و لو لا هذا الاستطراد، ما حصلت هذه النكتة. هذا مع أنَّ الله قد بيّن عصمة أهل البيت في موضع آخر.
الرابع: أنَّ القرآن لم يترتّب في الجمع على حسب ترتيبه في النزول بإجماع المسلمين كافّة، إذ إنَّ أغلب السور الأخيرة في القرآن مكيّة و السور الاولى مدنيّة، فلو كان ترتيب القرآن في الجمع على حسب ترتيبه في النزول، لكانت السور القصيرة في أوّل القرآن، و الطويلة في آخره. و كانت سورة العلق المستهلّة بقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. و هي أوّل سورة نزلت على الرسول الأكرم، في أوّل القرآن، في حين هي ليست كذلك. و جاء في كثير من السور المدنيّة آيات مكيّة أو جاء في بعض السور المكيّة آية أو آيتان مدنيّتان.
في ضوء ذلك، ما هو البعد أن تكون آية التطهير قد نزلت مستقلّة في البداية، ثمّ وضعت بين الآيات الخاصّة بنساء النبيّ عند جمع القرآن. و لم يدّع أحد من الصحابة أو نساء النبيّ، أو العلماء، و المفسّرين، و المحدّثين، و المؤرّخين، سواء من أتباع أهل البيت أو من المناهضين لهم، أنَّ آية التطهير قد نزلت مع الآيات الخاصّة بنساء النبيّ. و لم يرد هذا المعنى أيضاً في خبر أو رواية، حتى في رواية ضعيفة السند. و مع أنَّنا نعلم أنَّ ترتيب النزول هو غير ترتيب التدوين، فبأيّ حجّة قاطعة يمكن الحكم بحجّيّة وحدة السياق و الركون إليها؟ و علماء الشيعة و السنّة كافّة متّفقون على أنَّه عند ما تقوم قرينة قطعيّة خلاف السياق، فلا يكون الظهور السياقيّ حجّةً. و أجمع الرواة و المحدّثون على أنَّ آية التطهير مستقلّة عن بقيّة الآيات نزولًا و قالوا: أنَّها نزلت على رسول الله في بيت امّ سلمة،
حيث كان أصحاب الكساء جميعهم مجتمعين تحت الكساء.
و المحصّل ممّا ذكرنا: أنَّ الزعم بنزول آية التطهير في نساء النبيّ كذب و افتراء محض، و قد وضع ذلك صنائع الأمويّين و غُلاة الخوارج و أتباعهم من أعداء أهل البيت عليهم السلام. و نِعمَ ما نقله المرحوم السيّد شرف الدين عن الإمام أبي بكر بن شهاب الدين في كتاب «رشفة الصادي» قوله:
دَعُوا كُلَّ قَولٍ غَيْرَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ | *** | فَعِنْدَ بُزُوغِ الشَّمْسِ يَنْطَمِسُ النَّجْمُ۱ |
و لقد استفدنا في استدلالاتنا الأخيرة من مائدة العلم المليئة للمرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ رضوان الله عليه.
الشبهة الثالثة على آية التطهير و الإجابة عنها
الثالثة: و من الشبهات المثارة على آية التطهير هي أنَّ المراد بأهل البيت أرحام النبيّ و أقاربه مثل: بني العبّاس، و بني جعفر، و بني عقيل و جميع أبناء عليّ، و بالتالي بني هاشم كافّة الذين تحرم عليهم الصدقة مستدلّين على ذلك بما أخرجه مسلم في باب فضائل عليّ من صحيحه عن زيد بن أرقم، [و قد قيل له] «من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. و أيم الله إنَّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها و قومها. أهلُ بيته أصلُه و عَصبَتُهُ الذين حُرِموا الصدقَةَ بعدَه». و جاء في «الصواعق المحرقة» ص ٨٦ أنَّ الثعلبيّ ذكر في تفسيره أنَّ المراد من أهل البيت بنو هاشم كافّة، ثمّ قال: وَ يُؤيِّدُهُ الْحديثُ الْحَسَنُ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ اشْتَمَلَ على الْعَبَّاسِ وَ بَنيهِ بِمَلاءةٍ ثُمَّ قالَ: "يا رَبِّ هَذَا عَمِّي وَ صِنو أبي، وَ هؤلاءِ أهلُ بَيتي فَاستُرهُمْ مِنَ النّار كَسَترى إيَّاهُم
بِمَلاءتي هَذِهِ، فَأمَّنَتْ اسكُفَّةُ البَابِ وَ حَوائِطُ الْبَيتِ، فَقالَ: آمين وَ هِي ثَلاثاً".
هذا الاستدلال باطل من وجوه: الأوّل: إنَّما سئل زيد بن أرقم عن مراد النبيّ بأهل بيته الذين ذكرهم في قوله: "إنَّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَينِ كِتابَ اللهِ وَ عِترَتي أهلَ بَيتي"، فأجاب زيد بن أرقم عن خصوص هذا السؤال. و كلّ من راجع صحيح مسلم فإنَّه يجد السؤال عن أهل البيت في هذا الحديث لا عن أهل البيت في آية التطهير. و لم تنقل عن زيد بن أرقم رواية في معنى أهل البيت المذكورين في آية التطهير، فكيف ننقل عنه في تفسير آية التطهير ما قاله في تفسير حديث الثقلين! و هل هذا إلّا كالمغالطة؟ و لو سئل زيد عن أهل البيت المذكورين في آية التطهير لأجاب بأنَّهم أصحاب الكساء، لأنَّ هذا المعنى واضح لا يقبل الشكّ و الترديد. و كيف يمكن أن يخالف زيد، و هو صحابيّ، فيفسّر أهل البيت ببني هاشم كافّة مع وجود النصّ النبويّ على حصر أهل البيت بأصحاب الكساء؟ و أما معنى أهل البيت الذي ذكره في الحديث الشريف۱ فيمكن
أن يكون مراده المجموع من حيث المجموع باعتبار دخول أئمّة أهل البيت في بني هاشم و رهط النبيّ، لا باعتبار كلّ فرد من بني هاشم على نحو العموم الاستيعابيّ، و القرينة على ذلك أنَّ الله جعل العترة عِدل الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه. و هذه العترة المقرونة بالكتاب المتحقّقة بالحقّ هم الأئمّة المعصومون فقط. و لو كان مراده أحياناً بني هاشم كافّة على سبيل العموم الاستيعابيّ، كما جاء في إحدى الروايات أنَّه صرّح بآل عليّ، و آل عبّاس، و آل جعفر، و آل عقيل،۱ فهذا تفسير بالرأي. لأنَّه اعتبر أهل البيت رهط النبيّ و أقرباءه كافّة برأيه، لا برواية نقلها عن رسول الله، و كلّ من راجع هذا الحديث في «صحيح مسلم» أو في «فرائد السمطين» للحموينيّ يجده غير صادر عن رسول الله نفسه؛ و لذلك فلا حجّة في هذا الحديث. و ما هي القوّة التي يمتلكها هذا التفسير بالرأي أمام الأدلّة القاطعة و البراهين الساطعة و النصوص الصريحة و الأحاديث المتواترة الصحيحة؟! و مضافاً إلى ذلك كلّه، فلو كان المراد من أهل البيت بني هاشم كافّة، فإنَّ القصد من إذهاب الرجس، و إرادة التطهير ليس العصمة قطعاً، بل القصد هو التقوى و ملازمة الطاعات. و هذا ينأى حصر إذهاب الرجس في أهل البيت. لأنَّ التقوى و ملازمة الطاعات المرغوب إليها يدخل فيها المسلمون جميعهم.
و أمّا حديث الملاءة و اشتمال العبّاس و بنيه بها فهو حديث مختلق لأنَّه- مضافاً إلى ضعف السند- يعارض مدلول الأحاديث الاخرى. فالأفضل أن لا نخوض فيه، و كلّ من أراد الاطّلاع على ضعف سنده و نقاط الضعف الاخرى فيه، فليراجع كتاب «دلائل الصدق» للمظفّر ج ٢، ص ٧٣.
الشبهة الرابعة على آية التطهير و الإجابة عنها
الشبهة الرابعة: أنَّ البعض ذهب إلى أنَّ الآية شاملة لزوجات النبيّ و لأصحاب الكساء جمعاً بين الأدلّة. و هذا الرأي ذهب إليه الفخر الرازيّ و الزمخشريّ عند تفسيرهما الآية. و يردّه:
أوّلًا: أنَّ الدليل على دخول الزوجات هو ما نقلته أحاديث عكرمة و مقاتل التي اتّضح لنا وضعها، و كذلك التمسك بالظهور السياقيّ للآيات قد عرفت ما فيه. لذلك لا تصل النوبة إلى الجمع بينهما. فالجمع بين الدليل القاطع و الشبهة المرفوضة هو الأخذ بالدليل و ردّ الشبهة.
ثانياً: منع امّ سلمة من الدخول تحت الكساء، فإنَّه أقوى دليل على عدم دخول نساء النبيّ في مدلول الآية.
ثالثاً: لو كان غير على و فاطمة و ابنيهما عليهم السلام مراداً، لقال صلّى الله عليه و آله و سلّم حين جلّلهم بالكساء: اللهُمَّ هَؤلاءِ مِنْ أهْلِ بَيتي، لكنّه قال: "اللهُمَّ هؤلاءِ أهْلُ بيتي وَ خاصَّتِي فَأذهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَ طَهِّرْهُمْ تَطْهِيرا ً".
و في رواية ذكرها ابن حجر في «الصواعق المحرقة» أنَّه صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "أنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ وَ سِلْمٌ لِمَنْ سَالمَهُمْ وَ عَدوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمْ".۱
و رابعاً: لو كان مدلول الآية شاملًا للنساء و أصحاب الكساء معاً، فلا محالة أنَّ القصد من التطهير و إذهاب الرجس هو ليس العصمة، بل هو
الطهارة المتأتّية عن التقوى و الطاعة بسبب اتّباع الشرع و الأمر و النهي. و هذا المعنى يدخل فيه المسلمون كافّة، و هو ينأى حصر مدلول الآية بلفظ: إنَّما.
فرغنا و الحمد لله من البحث في رحاب آية التطهير، و ثبت لنا أنَّ احتمال دلالة الآية على غير أهل العصمة يمثّل جزافاً في القول. بَيدَ انّنا ينبغي أن نفهم أنَّه لا مانع من شمول الآية بقيّة الأئمّة المعصومين كما دلّت على ذلك الروايات الواردة التي نقلناها عن طريق الخاصّة فيما تقدّم. لأنَّ هذا الشمول ليس من باب شأن النزول بل من باب التطبيق و ظهور المصداق. في ذلك الوقت الذي جلّل الرسول الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم أهل بيته عليهم السلام بالكساء، لم تُقِلُّ الخضراء، غير اولئك الخمسة المطهّرين، لكنّ صلب سيّد الشهداء عليه السلام كان يحمل تسعة هم مصاديق لعنوان أهل البيت واحداً بعد الآخر. و هذا الموضوع كموضوع آية اولي الأمر إذ كانت في عصر النبيّ شاملة لأمير المؤمنين على وجه الحصر، لكنّ أبناءه الذين جاءوا بعده حتى قائم آل محمّد عَجَّلَ الله تعالى فَرَجَهُ الشريف كانوا مصاديق لها، و يترتّب وجوب الطاعة وفقاً للآية الكريمة. و في القرآن المجيد كثير من أمثال هذه المسائل المتمثّلة بشأن النزول و تطبيق مدلول الآية بالمصاديق المتأخرة عن عصر النزول.
وَ الْحَمْدُ لِلهِ وَ سَلامٌ على عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَ لَعْنَةُ اللهِ على أعْدائِهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى يَوْمِ الدِّين.
وَ قَدْ فَرَغْتُ مِنْ تَحريرِ هَذِهِ الأوْراقِ لَيْلَةَ الأرْبِعاء مِنَ السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ سَنَةَ ١٣٩٥ مِنَ الْهِجرَةِ.