9

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ

الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

52
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1426

التاريخ 1426/09/15

جلسات المجموعة(9 جلسة)

التوضيح

لماذا تُعدّ المعرفة الحقيقية بالله وبطريقه شرطًا أساسيًا ولازمًا للسير نحوه؟ وكيف يضلّ الطريق من يكتفي بالظواهر والمجاملات دون معرفة راسخة؟ ما هي علامات أهل المعرفة الحقّة وكيف هو ثباتهم؟ وكيف يُمتحن مدّعو الطريق عند الشدائد؟
تجيب هذه المحاضرة عن هذه التساؤلات، موضحةً أهميّة البصيرة والإدراك في السلوك إلى الله، ومحذّرةً من الاغترار بالمظاهر أو اتّباع من لا معرفة له مستشهدةً بقصص ومواقف من حياة العلماء والعارفين.

/۱۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ

  • الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثُّمالي ـ سنة ۱٤٢٦ هـ ـ الجلسة التاسعة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ

  • بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحيمِ

  • و صلَّى‌ اللَهُ عَلَى سيّدنا و نبيّنا أبِي‌ القاسم مُحَمَّدٍ

  • وعلَى آلِه الطَّيّبين الطّاهرين

  • واللَّعنةُ عَلَى أعدائِهم أجمَعينَ

  •  

  •  

  • »مَعرِفَتِي يا مَولايَ دَليلِي عَلَيکَ وَحُبِّي لَکَ شَفِيعِي إلَيکَ وأنَا واثِقٌ مِنْ دَلِيلي بِدَلالَتِکَ، وَساکِنٌ مِنْ شَفِيعِي إلي شَفاعَتِکَ«

  • لماذا المعرفة شرط أساسيّ للسير إلى الله؟

  • تقدّم للرُّفقاءِ أَنَّ شرطَ الدَّلالةِ علَى المقصودِ والمحبوبِ هو معرفته، وبدونِ المعرفةِ، لا سبيلَ للإنسانِ إلَى مطلوبهِ، ويبقى هائمًا علَى وجههِ، وكلَّما قالَ أحدُهم شيئًا، مالَ إليهِ؛ يقولُ أحدُهم تعالَ إلى هنا، فينهض ويأتي إلَى هنا، ويقولُ آخرُ تعالَ إلَى هذا المجلسِ، فينهضُ ويذهب إلَى ذلكَ المجلسِ، فهوَ في حَيرةٍ مِنْ أمرهِ، مُرتبِكٌ، لا يفهمُ هو نفسُهُ ما يفعلونَهُ. يسمعُ كلمتَينِ رقيقتَينِ فيميلُ قلبُهُ إلَى ذلكَ الاتِّجاهِ، ويسمعُ كلمتَينِ قاسيتَينِ مِنْ هذا الجانبِ، فيبردُ قلبُهُ تُجاهَ الجانبِ الذي هو فيهِ، وعندما يرأفُ بهِ الآخرونَ ويعطفونَ عليهِ، يختارُ جانبَهم. قد يعاملهُ أفرادٌ آخرونَ بِبرودٍ، فيتركُ جانبَهم. هو دائمًا في حالةِ دورانٍ وتقلُّبٍ، يسلم اليومَ إلَى الغدِ، والغدَ إلَى الأُسبوعِ القادمِ وإلى الشَّهرِ القادمِ والسَّنةِ القادمةِ، ويبقَى ثابتًا في النُّقطةِ نفسِها التي كانَ فيها، لم يتحرَّكْ، ليسَ لأنَّهُ لا يطلبُ، بل يطلبُ، ولكنَّ طلبَهُ لم يحسمْ أمرَهُ. يقضِي أيامَهُ بهذا الطَّلبِ ويريدُ أَنْ يقضِيها بعافيةٍ. يريدُ أَنْ يكونَ الأمرُ بحيثُ لا يتأذّى هو ولا يتأذّى الآخرون! طلبُهُ في هذا الحدِّ، همَّتُهُ في هذا الحدِّ. هَمُّه أَنْ يقضِيَ حياتَهُ بعافيةٍ وأن لا يتدخَّلَ أحدٌ في شُؤونهِ، وأن لا يتحدَّثَ أحدٌ عنهُ بِالسُّوءِ، وأن يكسبَ ودَّ الجميعِ، فهذا ما لديهِ مِنْ معرفةٍ. عملُهُ هذا لا يوصلُهُ إلَى نتيجةٍ ولا فائدةَ فيهِ.

  • آفة المجاملات الفارغة

  • كنتُ ذاتَ مرَّةٍ مع المرحومِ العلَّامةِ في كربلاءَ في صحنِ سيدِ الشُّهداءِ عليهِ السَّلامُ. وكنَّا خارجين ليلًا، فرأَى شخصًا، تقدَّمَ وسلَّمَ قائلًا: السَّلامُ عليكم، كيفَ حالُكم يا سيدُ محمَّدُ حسينٍ؟ أينَ أنتم؟ لا نراكم. فبادلَهُ شيئًا مِنْ هذهِ المُجاملاتِ، مثلَ: لا تأخذون بِأيدينا، فأنتم في الأعلَى. عندما ذهبنا، قالَ المرحومُ العلَّامةُ: أترَى هذا السَّيدَ؟ حالُهُ هكذا منذُ عشرينَ عامًا، هكذا تمامًا! "سيدُ محمَّدُ حسينٍ، كيفَ حالُكَ؟" لا يتجاوزُ هذا الحدَّ، حسنًا، حالي جيدٌ، ثُمَّ ماذا؟ ماذا تريد بعد؟! "لا تأخذون بِأيدينا"، حسنًا، هل مددتَ يدَكَ حتَّى نأخذ بها؟ لا! فقط مجرّد" لا تأخذونَ بِأيدينا"...! بعضُ النَّاسِ، بمجرَّدِ أَنْ يلتقوا بشخصٍ، يقولونَ: سيدنا، كيفَ حالُكَ؟ ألا تشرّفُ لِزيارتِنا في المنزلِ؟ ألا نأتي لخدمتِكَ؟ ولو التقوا بهِ بعدَ خمسِ سنواتٍ أُخرَى، لقالوا الشَّيء نفسه، وبعدَ عشرِ سنواتٍ أُخرَى، الشَّيءِ نفسه، هذا هو الحدُّ بهذا المقدار، هل أنتَ بخيرٍ؟ سيدي، نحنُ مُشتاقونَ لِرؤيتِكَ، مُشتاقونَ...! أيها الكذّاب! لماذا تكذبُ؟ أنتَ تخدعُ، لستَ مُشتاقًا أبدًا، شوقُكَ لِرؤيةِ زوجتِكَ المصونِ، الذي يجعلُكَ تعودُ إلَى المنزلِ قبلَ ثلاثِ ساعاتٍ، لا تملكُ جزءًا مِنْ مليونٍ منهُ لِرؤيتِنا، بكلِّ بساطةٍ! لا يا عزيزي، لماذا تكذبُ؟ هذهِ كلُّها مجرَّدُ كلماتٍ في مقامِ المُجاملةِ، وعلى كلّ حال، يتجاوز الإنسانُ أيضًا هذهِ المُجاملةَ بِابتسامةٍ وضحكة، فيقول مثلاً: "مؤيَّدون إنْ شاءَ اللّهُ، في أمانِ اللّهِ"، فالوقوفُ والصَّبرُ أكثرَ مِنْ هذا هو إضاعةٌ لِلوقتِ، أُقسمُ بحياتِكَ يا سيدي، إنّما هو إضاعةٌ لِلوقتِ. فمجرّد هذا كافٍ! "مؤيد إن شاء الله"، حسنًا، "ونحنُ كذلكَ"، لماذا نكذبُ؟ قل لذلك الشخص: "إنْ شاءَ اللّهُ، وفّقنا الله وإيّاكم"، واتركه يذهب لمتابعةِ عملهِ، يجبُ علَى الإنسانِ أَنْ يتركَ هذهِ المُجاملاتِ لأهلَها، ليسَ لدينا متَّسعٌ مِنَ الوقتِ لنقضِيَ حياتَنا في المُجاملاتِ. لنقضِيها في هذا الأخذِ والعطاءِ العاميِّ والمتعارفِ، لا يا سيدي، هذهِ لأهلِ المُجاملاتِ وأمثالِهم، فوقتُ الإنسانِ أثمنُ مِنْ ذلكَ.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

3
  • ما هي غاية معرفة أكثر الناس؟ وهل تتجاوز ظواهر العبادة والمجالس؟

  • قال إنَّ هذا السَّيدَ علَى هذا الحالِ منذُ عشرينَ عامًا، وانْتهتِ القصَّةُ الآن، حسنًا، لا يمسكُ بِاليدِ، حسنًا، انهضْ وتابعِ الأمرَ إذن، الآن رأيتَ السَّيدَ محمَّدَ حسينٍ، فلتتابعْهُ إذن، إنْ شاءَ اللّهُ ادعُ لنا أَنْ يوفِّقَنا اللّهُ أيضًا، ادعُ لنا. ندعو لك. لكنّ معرفةُ هؤلاءِ الأفرادِ بِالطَّريقِ والمسارِ والسَّعادةِ، واللّهِ هي بهذا القدرِ، بهذا القدرِ تمامًا، أَنْ ينْهوا يومَهم ويقولوا شيئًا ويذهبوا إلَى مجلسٍ، ولكي لا تكونَ الصَّحيفةُ فارغةً، يقرأونَ رثاءً، وكلمتَينِ مِنْ هذا وذاكَ، وقصيدةً وذكرًا ومقدارًا من دعاء الجوشن وسطرَينِ مِنَ الشِّعرِ وذكرَ مصيبةٍ ودعاءً وبضعَ كلماتٍ مِنَ الأعاظمِ وحكايتَينِ مِنَ الماضينَ، ويلقون الحماس في المجلسَ، ثُمَّ بعدَ ذلكَ يبسطون السُّفرةَ ويقدِّمونَ الأرزَّ والمرقَ، ثُمَّ يملأونَ بطونَهم حتَّى هنا ويعودونَ إلَى منازلِهم ويتفرَّغونَ لبقيةِ المستحبَّاتِ. هذهِ هي غايةُ معرفةِ النَّاسِ للّهِ والنَّبيِّ وعوالمِ الرُّبوبيةِ ودرجاتِ الكمالِ ومراتبِ الأسماءِ وعالمِ الفناءِ وعالمِ البقاءِ والوصولِ والوصلِ والتَّجرُّدِ وهذهِ الأُمورِ، فقط هذا الاستمتاعُ ولقلقةُ اللِّسانِ والحديثُ وهذهِ الأُمورِ. بهذا القدرُ فحسب لا أكثرَ.

  • بين دعاء أمير المؤمنين عليه السلام وغفلة البعض: أين تكمن المعرفة الحقيقية؟

  • أينَ هو ذلكَ الإدراكُ لِلمبدأِ بحيثُ يستقرُّ في أرواحِهم ويحرِّكُهم مِنْ أعماقِ ضمائرِهم وسويداواتِ قلوبِهم، ويحرقُ أكبادَهم ويشعلُها، ويقلقُ أرواحَهم ويذهبُ عنهم الطُّمأنينةَ والسُّكونَ؟ أينَ هذهِ الأقوالُ؟ أينَ هذهِ الأُمورُ؟ ذلكَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السَّلامُ الذي يقولُ في دعاءِ كميلٍ في ليالي الجمعةِ وفي كثيرٍ مِنَ اللَّيالي والمناسباتِ نقرأُ: «هبْني صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نارِكَ، فَكَيفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى كَرامَتِكَ»۱. هبني يا إلهي أنَّني صبرتُ علَى نارِ جهنَّمكَ وتحمَّلتُها، فكيفَ أتحمَّلُ فراقَكَ والبُعدَ عن كرامتِكَ؟ أَيُّة معرفةٍ كانتْ لدَى أميرِ المؤمنينَ هذا؟ ما هذا الإدراكُ الذي يستخفُّ بنارِ جهنَّمَ مقابلَ ذلكَ الاحتراقِ والألمِ والتَّعبِ والاضطرابِ واللَّوعةِ التي تُصيبُهُ لفراقِ المحبوبِ؟ فما هذهِ الحكايةُ؟ هل معرفةُ أميرِ المؤمنينَ هذهِ هي نفسُها معرفةُ ذلكَ الذي لم يقرأْ دعاءَ كميلٍ مرَّةً واحدةً في حياتهِ ويدَّعي ألفَ أمرٍ؟ هل هما واحدٌ؟ يقول: لماذا نقرأُ دعاءَ كميلٍ؟! لا حاجةَ لِدعاءِ كميلٍ، فهذهِ المضامينُ نعرفُها ـ كنتُ في مجلسٍ فسمعت أحد الحاضرين يقول ذلك ـ هذهِ المضامينُ نعرفُها، إن لم يقرأْها أحدٌ، فلا داعي، واجبُنا أعظم من ذلك، واجبُنا هو التَّبليغُ، واجبُنا هو الإرشادُ. ثُمَّ إنّ هذا السَّيد نفسهُ يعطِّلُ مجلسَهُ ليلةَ الجمعةِ في المسجدِ، ويأتي لمشاهدةِ فلمِ أوشين٢. هل هذا واجبٌ؟! إن لم نشاهدْهُ، هل سيفوتُنا؟ عمرُهُ سبعونَ عامًا، يتركُ درسَه في التفسير، يتركُ منبرَهُ ليصلَ مبكِّرًا، حتَّى لا تفوتَهُ اللحظة الأُولَى منهُ. هذهِ المعرفةُ بهذا القدرِ! كلُّها لعبةٌ، لعبةٌ يا عزيزي. المسألةُ ليستْ بِالادِّعاءِ والتَّظاهرِ وهذهِ الأقوالِ. القضيةُ ليستْ بِالتَّظاهرِ والصِّياحِ وهذهِ الأقوالِ، ليستْ بكثرةِ الكلامِ. ليستْ بكثرةِ الكتابةِ. ليستْ بِالهياجِ وهذهِ الأقوالِ، ماذا يوجدُ في قلبِكَ أيها البائسُ المسكينُ؟ ماذا يجري في قلبِكَ؟

    1. مفاتيح الجنان،دعاء كميل بن زياد
    2. اسم ممثّل ياباني كان يعرض له مسلسل في إيران أوائل انتصار الثورة. (م)

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

4
  • هل يمكن لمن لا معرفة له أن يهدي الآخرين؟

  • الإمامُ السَّجَّادُ عليهِ السَّلامُ لا يمزحُ هنا عندما يقولُ: يجبُ أَنْ تكونَ لديكَ معرفةٌ حتَّى يسمحوا لكَ بِالدُّخولِ. ما لم تكنْ لديكَ معرفةٌ، إلَى أينَ يمكنُكَ أَنْ تذهبَ؟ ما لم تكنْ لديكَ معرفةٌ، كيفَ يمكنُكَ أَنْ تهدِيَ النَّاسَ؟ إلَى أينَ تريدُ أَنْ تهديهم؟ إلَى أينَ تريدُ أَنْ تهديهم؟ ذلكَ الذي هو نفسُهُ مبلِّغٌ لِلدِّينِ ولكنَّهُ يجلسُ أمامَ التِّلفازِ حتَّى السَّاعةِ الثَّالثةِ بعدَ منتصفِ اللَّيلِ وهو في السَّبعينَ مِنْ عمرهِ، ثُمَّ يصلِّي قبلَ طلوعِ الشَّمسِ بعشرِ دقائقَ، كيفَ يمكنُ لِهذا أَنْ يهدِيَ النَّاسَ إلَى اللّهِ؟ كانَ هناكَ أحدُ الأفرادِ وقد توفِّيَ، كانَ شخصًا معروفًا، لديهِ الكثيرُ مِنَ العلاقاتِ وهذهِ الأُمورِ. نقلَ شخصٌ مِنَ المقرَّبينَ منهُ لأحدِ الثِّقاتِ عندي أنَّهُ قالَ: لو لم نوقظْهُ لصلاةِ الصُّبحِ، لقضَى صلاتَهُ، كانَ مِنَ المقرَّبينَ منهُ! حينئذٍ كيفَ يمكنُ لِلإنسانِ أَنْ يبحثَ عن طريقِ اللّهِ ومسارهِ بينَ أفرادٍ لم يشمُّوا رائحةَ المعرفةِ؟ لم تصلْ رائحةُ هذا الطَّريقِ إلَى رؤوسِهم أبدًا، كيفَ يمكنُ لِلإنسانِ أَنْ يضعَ يدَهُ في أيديهم؟

  • أفرادٌ ملأَ غبارُ الكثراتِ كلَّ أذهانِهم، وأغشَى دخانُ ورمادُ التَّوغُّلِ في الدُّنيا أدمغتَهم، وسمَّمَ الجوُّ المتعفِّنُ للإعتباراتِ والتَّخيلاتِ ،كلَّ نقاطِ ومنافذِ قلوبِهم. كيفَ يمكنُ لِلإنسانِ أَنْ يكتسبَ المعرفةَ مِنْ هؤلاءِ؟ كيفَ يمكنُ لهُ أَنْ يطوِيَ ويجدَ واديَ الطَّهارةِ وعالمَ الطَّهارةِ والصَّفاءِ والنَّقاءِ المطلقِ والعصمةِ والبهاءِ والبهجةِ بهذهِ الأدمغةِ المتعفِّنةِ والمتوغِّلةِ في الكثراتِ؟! كيفَ يمكنُ ذلكَ؟! كيفَ يمكنُ ذلكَ؟!

  • بين عابد الليل وغافل الليل: هل يستويان في المعرفة والإرشاد؟

  • ذلكَ الذي يستيقظُ قبلَ الصَّلاةِ بثلاثِ ساعاتٍ، أَو بساعتَينِ، وكلُّ فكرهِ وذكرهِ وحديثهِ يدورُ حولَ محورِ العبوديةِ والالتجاءِ والتَّضرُّعِ والابتهالِ إلَى المحبوبِ، وذلكَ الذي مثلُهُ بحسبِ الظَّاهرِ، وبحسبِ المجتمعِ، وبحسبِ المظاهرِ الخادعةِ لِلمجتمعِ بل وأكثرَ، ولكنَّهُ حتَّى الصَّباحِ يقضِي وقتَهُ في مجالسِ اللَّهوِ واللَّعبِ والغيبةِ والبُهتانِ والكلامِ وأكلِ الحلوَى والمكسَّراتِ والتَّجمُّعاتِ وتدخينِ النَّرجيلةِ وهذهِ المسائلِ في ليالي شهرِ رمضانَ، أليسَ بينَهما فرقٌ؟! ألا يختلفانِ؟! هل يمكنُ لِذلكَ أَنْ تكونَ لديهِ معرفةٌ بهذا الطَّريقِ؟! هل يمكنُ لهُ أَنْ يكونَ مرشدًا؟! هل يمكنُ لهُ أَنْ يأخذَ بيدِ الإنسانِ؟! أَيُّ مِنْ هذينِ الاثنَينِ يمكنه ذلك؟ المسألةُ واضحةٌ جدًّا، القضيةُ واضحةٌ جدًّا.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

5
  • قصّة السيّد القاضي والسيّد الخوئي: دعوة للتحقيق قبل الحكم على العرفاء

  • عندما أرسلَ السَّيدُ الخوئيُّ رحمهُ اللّهُ رسالةً إلَى المرحومِ القاضي قائلًا: "سمعنا أَنَّ لِلعرفاءِ أُمورًا مخالفةً، أُمورًا خاطئةً، كلامُهم كلامٌ مخالفٌ، سيرتُهم ونهجُهم مخالفٌ"، أجابَ السَّيدُ القاضي: "وأنتم أيضًا؟ أنتم يا أهلَ العلمِ، أنتم يا فضلاء، لماذا تأخذونَ بكلامِ الآخرينَ دونَ تحقيقٍ وتأمُّلٍ؟ حسنًا، انهضوا وتعالوا وانظروا، يا سيدي، لم نغلقِ البابَ في وجوهكم، اطرقوا البابَ لنفتح، فإذا لم نفتحهُ، وأخفينا أنفسَنا عنكم، حينئذٍ قولوا ما شئتم. بابُنا مفتوحٌ وأنتم لا تأتونَ، تجلسونَ هكذا وتقولونَ أَيَّ كلامٍ، حسنًا، انهضوا وتعالوا، يا سيدي، لن يضرَّكم بضعُ خطواتٍ، امشوا بضعَ خطواتٍ، فهذا جيدٌ لِدهونِكم أيضًا، امشوا قليلًا خمسَ دقائقَ، ما هذا الذي يقولونَهُ عن العرفاءِ؟ حسنًا، أنا هنا حيٌّ حاضرٌ جالسٌ، كيفَ لا تلتفتونَ إلَى كلامِ الآخرينَ وتأخذونَ بِاستنباطِكم أنتم في مسائلِ الأُصولِ ومسائلِ الفقْهِ؟! هكذا قالَ لهُ المرحومُ القاضي، انظروا كم هو كلامٌ متينٌ ومحكمٌ ومتقنٌ، هل تعرفونَ كلامًا أفضلَ مِنْ هذا؟ يقول له: أنتم في أُمورِ استنباطِكم واجتهادِكم، في الأُمورِ الأُصوليةِ والفقْهيةِ والرِّواياتِ وأمثالِ ذلكَ، لا تستمعونَ إلَى كلامِ هذا وذاكَ، بل تستخدمونَ فهمَكم أنتم، كيفَ تقولونَ هنا إنَّ فلانًا يقولُ هذا الكلامَ؟ انهضوا وتعالوا وانظروا، انظروا أينَ الخطأُ في كلامِنا؟ أينَ في كلامِنا ما يخالفُ مدرسةَ أهلِ البيتِ؟ أينَ في كلامِنا ما يتنافَى مع الشَّريعةِ؟ هل نحنُ نشربُ الخمرَ؟ هل نقومُ لا سمحَ اللّهُ، بعملٍ مخالفٍ لِلشَّرعِ؟ ماذا نفعلُ؟ تعالوا وانظروا وتحدّثوا، تجلسونَ هكذا مِنْ بعيدٍ وترمونَ الحجارةَ. حسنًا، هذا ليسَ عملَ عالمٍ، ليسَ عملَ فاضلٍ، هذا عملُ العاجزينَ، هؤلاءِ الذينَ يقولونَ إنَّ هذا كذا، وذاك كذا، العرفاءُ كذا وكذا، فأَيُّ مِنْ أعمالِ العرفاءِ مخالفٌ للصواب؟ تعالَ وأخبرني يا عزيزي! لا كلامَ في أَنَّ جماعةً دخلوا كمدَّعينَ وانتحلوا صفةَ العارفِ الصُّوفيِّ ويرتكبونَ ألفَ خطأٍ، ولكن لا ينبغِي الالتفاتُ إليهم حتّى.

  • قصّة العالم الذي ترك النجف إلى طهران: لماذا التناقض بين العلم والعمل؟

  • كانَ المرحومُ العلَّامةُ يقولُ: عندما كنَّا في النَّجفِ، فإنَّ أحدَ هؤلاءِ السَّادةِ، وكانَ زميلَه في المباحثةِ أيضًا، قالَ إنَّهُ جاءَ إلَى إيرانَ، ورأَى طبعًا أنَّهُ مِنَ الأفضلِ لأولادهِ أَنْ يكونوا أكثرَ ممارسةً لِعلومِ العصر وهذهِ الأُمورِ. هو نفسُهُ لم يستفدْ خيرًا مِنْ علومِ أهلِ البيتِ وأضاعَ عمرَهُ أيضًا! لا بُدَّ أنَّهُ يقولُ هكذا لنفسهِ، فأرسلَ أولادَهُ أيضًا إلَى هنا وهناكَ وفرنسا وهناكَ للدراسة، نعم! ماذا عسايَ أَنْ أقولَ أيضًا؟ كان يقول: إنَّني كنتُ أُفكِّرُ ذاتَ مرَّةٍ في أحوالهِ، أتأمَّلُ، لماذا تركَ هذا السَّيدُ النَّجفَ والسَّكنَ في عتبةِ أميرِ المؤمنينَ وهذهِ الأُمورَ وجاءَ إلَى طهرانَ ونقلَ حياتَهُ إلَى طهرانَ؟ لماذا فعلَ هذا؟ فتوَّصلتُ إلَى نتيجةٍ وهي أَنَّ هذا الرَّجلَ رأَى أنَّهُ لا يستطيعُ في النَّجفِ أَنْ يفعلَ كلَّ ما يحلو لهُ، ولا يستطيعُ أَنْ يرسلَ أولادَهُ إلَى الخارجِ. هذا الشَّيخُ محمَّدُ عليٍّ الكاظميُّ نفسُهُ الذي تحدَّثتُ عنهُ قبلَ بضعِ ليالٍ، هذا السَّيدُ نفسُهُ الذي كانَ يقولُ إنَّنا لا نحتاجُ إلَى المعرفةِ، هذا نفسُهُ الذي كانَ يقولُ إنَّ هذهِ المعرفةَ العامِيةَ تكفينا، هذا نفسُهُ أرسلَ أولادَهُ إلَى الخارجِ، جنابُ مرجعِ التَّقليدِ يرسلُ أولادَهُ مِنَ العراقِ إلَى الخارجِ ويدرسونَ في الخارجِ، لأنَّهُ ثارَ ضجيجٌ حولَ هذا الأمرِ، فقالَ هذا: الآن بما أنَّني سأرسلُهم إلَى هنا وهناكَ، لِيروا العالمَ، وليتجوَّلوا ويستمتعوا ويمرحوا، نعم! نحنُ لم يحالفْنا الحظُّ، علَى الأقلِّ فليصلَ أولادُنا إلَى شيءٍ، في العراقِ والنَّجفِ لا يمكنُ فعلُ هذا، فجاء إلَى طهرانَ ليكونَ لديهم في هذا الجوِّ وفي هذهِ البيئةِ، ذلكَ الاستعدادُ والسُّهولةُ والاختيارُ الأكبرُ. فكان المرحوم العلاّمة يقول: إنَّني رأيتُ أَنَّ هذا هو السَّببُ فقط، لا يوجدُ سببٌ آخرُ، لا يوجدُ سببٌ آخرُ. 

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

6
  • مضَى وقتٌ طويلٌ علَى هذهِ القضيةِ، وفجأةً تشرَّفَ هو في ذلكَ الزَّمانِ السَّابقِ، زمنِ الشَّاهِ، بِزيارةِ مشهد. فكان يقول إنَّني التَقيت بهِ في الصَّحنِ، فقال لي: السَّلامُ عليكم سيدُ محمَّدُ حسينٍ، كيفَ حالُكَ؟ كيفَ أحوالُكَ؟ سيدي، لم تعدْ تذكرُنا؟ أنتَ في طهرانَ ونحنُ أيضًا في طهرانَ، تلكَ المباحثاتُ التي كانتْ بينَنا في النَّجفِ، أينَ ذهبتْ؟ لنبدأْ المباحثة مرَّةً أُخرَى، لِنُجرِ مباحثةً معًا، لم يعدِ المرحومُ العلَّامةُ يرَى أَنَّ السُّكوتَ قد يكونُ جيدًا هنا، فوضع لهُ حدًّا، وقال: ما هذا يا سيدي، أيّ مباحثة ودرس ومناقشة؟! علَى مَنْ يحترقُ قلبُكَ؟! علَى مَنْ يحترقُ قلبُكَ؟! هذهِ عمامةُ النَّبيِّ التي وضعتَها علَى رأسِكَ، لماذا؟! هل يحترقُ قلبُكَ علَى اللّهِ أَمْ علَى نفسِكَ؟ إن كانَ قلبُكَ يحترقُ علَى اللّهِ، فلماذا أرسلتَ أولادَكَ إلَى فرنسا وأنتَ نفسُكَ نهضتَ مِنَ النَّجفِ وجئتَ إلَى طهرانَ لتتمكَّنَ مِنْ فعلِ أَيِّ شيءٍ؟! قال العلاّمة قلتُ له: مَنْ تخدعُ؟! نتباحثُ؟! أَيُّ مباحثةٍ؟! لمَنْ؟! أوَّلُ مَنْ يجبُ أَنْ يعملَ بهذهِ الأقوالِ هو جنابُكم، يجبُ علَى النَّاسِ أَنْ يقلِّدوكم، يتبعوكم ـ وبِالمناسبةِ هو رجلٌ فاضلٌ، رجلٌ محصّل ـ يجبُ علَى النَّاسِ أَنْ يتبعوكم، ثُمَّ جنابُكم تفعلونَ هذهِ الأعمالَ؟! ثُمَّ تقولُ تعالَ يا سيدي نتباحثُ؟ أَيُّ مباحثةٍ تريدُ أَنْ تُجريها؟" قال: إنَّ لونَهُ أصبحَ مثلَ التُّوتِ الأسودِ ولم يقلْ شيئًا وودَّعني وذهب. أنتَ الذي تُرسلُ مِنْ أموالِ سهمِ الإمامِ لِابنِكَ في أمريكا، لماذا تدَّعي نيابةَ الإمامِ؟! هل تُرسلُ المالَ لِابنِكَ هناكَ ليصلِّيَ صلاةَ اللَّيلِ؟! أنتَ الذي تستخدمُ أموالَ سهمِ الإمامِ هذهِ لكلِّ أنواعِ التَّرفِّ، لِهذا وذاكَ، فماذا تدَّعي هنا؟!

  • قصّة المعمّم الذي أرسل أولاده إلى أمريكا: هل طلب العلم الديني يجلب الشقاء؟

  • أحدُ أقاربهِ المقرَّبينَ، شخصٌ معمَّمٌ، لا يزالُ علَى قيدِ الحياةِ على ما يبدو، كانَ قد أرسلَ أولادَهُ إلَى أمريكا، وهما ولدَانِ، ذاتَ يومٍ سألَ زوجتَهُ، لأنَّ زوجتَهُ كانتْ محرمًا لهُ: "لماذا أرسلتم أولادَكم إلَى هناكَ؟ ألم يكنْ بِإمكانِهم البقاءَ هنا؟! هل تعلمونَ ماذا أجابتْ زوجتُهُ؟ أجابتْ زوجتُهُ هكذا: إنّ فلانًا يقولُ ـ تعني ذلكَ السَّيدَ المعمَّمَ إمامَ مسجدِ السُّوقِ وهو مجتهدٌ حسبَ ادِّعائهِ ولديهِ رسالةٌ وهذهِ الأُمورُ ومِنْ أهلِ العلاقاتِ ـ يقولُ: رأيتُ أنَّني شقيتُ بسببِ دراسةِ هذهِ الدُّروسِ، فلم أُردْ أَنْ يشقَى أولادي أيضًا! بعدَ ستِّينَ عامًا، خمسةٍ وستِّينَ عامًا مِنَ العمرِ، يقولُ الآن أنا شقيت بسببِ دراسةِ دُروسِ ورواياتِ الإمامِ الصَّادقِ! ولأنَّني لا أُريدُهم أَنْ يشقوا، أُرسلُهم إلَى أمريكا ليسعدوا في ظلِّ أُولئكَ الذينَ هناكَ. هل هؤلاءِ لديهم معرفةٌ؟! هل هذهِ معرفةٌ؟!

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

7
  • ما قيمة العلم المحفوظ في الصدور أو الأقراص المدمجة إن لم يغير صاحبه؟

  • في ليالي شهرِ رمضانَ أيضًا تعالَ واقرأْ دعاءَ أبي حمزةَ كلَّ ليلةٍ، أنتَ الذي تفكّرُ هكذا، أَيُّ معرفةٍ لديكَ؟ أَيُّ معرفةٍ لديكَ؟ علَى رأسِكَ عمامةٌ، ولحيتك طويلةٌ جدًّا، ومن أهل الموقع والمقام، ومن أهل المنبر، ومن أهل المسجدٍ، ومن أهل التفسيرٍ، ولكن كم لديكَ مِنَ المعرفةِ؟ كم لديكَ مِنَ الإدراكِ؟! كم رسختْ هذهِ الحقائقُ الدِّينيةُ في قلبِكَ؟! التَّسجيلُ الصَّوتيُّ لا يتطلَّبُ جهدًا يا سيدي، لا يتطلَّبُ جهدًا، اليومَ جاءَ أحدُ الرُّفقاءِ عصرًا هنا لعقدِ قرانٍ. فأعطاني قرصًا مِنْ هذهِ الأقراص التي توضعُ في الكمبيوترِ، قرصًا مدمجًا. وعندما طالعتُهُ، رأيتُ أنَّهم وضعوا جميعَ الكتبِ فيه، هل يعني هذا أنَّنا نملكُ معلوماتٍ أكثرَ مِنْ قرصٍ مدمجٍ واحدٍ؟! تفضَّلْ، هذا هو، الآن ما قيمةُ هذا القرص؟ ما قيمتُهُ؟ كم تبلغُ قيمتُهُ؟ ألفُ تومانٍ، ألفا تومانٍ. كم قيمتُهُ؟! كم مِنْ هذهِ العلوم قد رسخَ في هذا القرص؟ كم رسخ؟ صفرٌ! لا شيء، لا شيء، يأخذونَهُ ويكسرونَهُ، ويرمونَهُ. قراءةُ الأُمورِ وحفظُها، والتَّسجيلُ في هذا القرص، كلاهما واحدٌ، لا فرقَ بينَهما أبدًا. لا فرقَ أبدًا، يضعونَ هذا القرص في الجهازِ فيخرجُ صوتُهُ، وتظهرُ خطوطُهُ، وهذا القرص أيضًا يأتي إلَى الذِّهنِ وبِواسطةِ اللِّسانِ وبِواسطةِ القلمِ تُطرحُ أُمورُهُ وتتَّضحُ. كلاهما واحدٌ، لا فرقَ. ليسَ هذا مقصودَ الإمامِ السَّجَّادِ عليهِ السَّلامُ.

  • ما هي المعرفة الحقيقيّة؟ وكيف ترافق صاحبها في كل أحواله؟

  • المعرفةُ تعني إدراكي وفهمي لِلأمرِ وإحساسي بِالمسألةِ، ذلكَ الإحساسُ الذي أُكنُّهُ لكَ، وذلكَ الأمرُ الذي منكَ في روحي، هذا لا يتركُني، هذا لا يدعُني، إنّه يتبعُني ولا يدعُني أرتاحُ، لا يدعُني أفعلُ ما يحلو لي، هو دائمًا فوقَ رأسي لا يتركُني، أينما كنتُ فهو بجانبي، هذا الإدراكُ دائمًا معي. أخرجُ مِنَ المنزلِ فيكون معي، ألتقِي بِالناس، فيكون معي، أذهبُ إلَى المتجرِ فيصحبني، ليسَت حالتي أنَّني عندما أذهبُ إلَى المتجرِ أتركُ هذا الإدراكَ عندَ بابِ المتجرِ ثُمَّ أدخلُ وأفعلُ ما يحلو لي، وعندما أعودُ أضعُهُ مرَّةً أُخرَى في حقيبتي وأُحضرُهُ، لا! فهذا الإدراكُ معي، آتي إلَى المنزلِ ويبقى معي، أنامُ وهو معي، أستيقظُ ويكون معي، أُصلِّي و هو معي، أَيَّ عملٍ أقومُ بهِ يكون معي ولا يتركُني. هذا دليلِي عليكَ، هذا الإحساسُ الذي أُكنُّهُ لكَ، لا أفارقه في كلّ الأحوال سواء في حالات العسر أو اليسر. لماذا؟ لأنَّني وصلتُ إلَى المعرفةِ. مَنْ يصلُ إلَى المعرفةِ والإدراكِ لا يمكنُهُ أَنْ يتركَ. لا يمكنُهُ أَنْ يتركَ، هل يمكنُ أَنْ يتركَ؟ هل يمكنُ أَنْ يتخلَّى عن الأمرِ؟ هل يمكنُ أَنْ يتهاونَ يومًا ما؟ هل يمكنُ أَنْ يتغاضَى في موضعٍ ما ويقول:"حسنًا، فلنتجاوزْ هذا، ولكنَّنا سنمسك بشدَّةٍ في موضعٍ آخرَ؟" لا! فبمجرَّدِ أَنْ يقولَ نتجاوزُ هذا، يأتي هذا الإدراكُ فورًا ويمسكُ بتلابيبهِ، ماذا تتجاوزُ؟! عن ماذا تتجاوزُ هنا؟! يوقفُهُ هناكَ، ما معنَى نتجاوزُ؟ ما معنَى نتجاوزُ.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

8
  • قصّة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني: كيف يثبت أهل المعرفة في الشدائد؟

  • كانَ الشَّيخُ محمَّدُ حسينٍ الأصفهانيُّ رحمه الله مِنَ الأعاظمِ ومِنَ الصُّلَحاءِ ومِنَ العُبَّادِ ومِنَ السُّلاَّكِ. وكانَ الابن البكر لِتاجرِ أصفهانَ في الكاظميةِ. ففي أَيّ وضعٍ كان؟! وفي آخرِ عمرهِ، وبسببِ تركهِ لِلدُّنيا والاعتباراتِ، وصلَ بهِ الحالُ إلَى أَنْ أخرجَ صاحبُ المنزلِ أثاثَهُ مِنَ البيتِ لِعدمِ دفعِه الإيجارِ! مرجعُ تقليدٍ! يا عزيزي، هذهِ الأقوالُ ليستْ مزاحًا. تأخَّرَ دفعُ إيجارهِ عدَّةَ أشهرٍ، لم يكنْ لديهِ مالٌ لِيدفعَ الإيجارَ. وألقَى صاحبُ المنزلِ أثاثَهُ في الشَّارعِ! فجاءَ هو وزوجتُهُ العجوزُ وجلسا علَى قارعةِ الطَّريقِ، والنَّاسُ يمرُّونَ. الفُضلاءُ، يجلسونَ بجانبِ الشَّيخِ محمَّدِ حسينٍ، "شيخنا، ماذا حدثَ؟ قالَ: لا شيءٌ! كانَ يضحكُ. هذهِ أيضًا مرحلةٌ. فجاءَ ووقفَ بجانبِ حرمِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السَّلامُ وقالَ: يا عليُّ، أسألُكَ سؤالًا واحدًا ـ وكانَ مِنْ أهلِ الفلسفةِ، وأسئلتُهُ أيضًا كانتْ فلسفيةً! ـ قالَ: "يا عليُّ، قلْ لي، هل خلقَني اللّهُ متحيزًا أَمْ غيرَ متحيزٍ؟ المتحيزُ يعني المتمكِّنُ، ذو المكانِ، قالَ: اللّهُ الذي خلقَنا، هل خلقَنا بمكانٍ أَمْ بدونِ مكانٍ؟! الآن خلقَنا ولا يعطينا مكانًا. فما هو التَّكليفُ؟ متحيزٌ أَمْ غيرُ متحيزٍ؟! فأشارَ إليهِ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السَّلامُ وقالَ: اذهبْ يا عزيزي، سنقضِي حاجتَكَ الآن، الآن وقد أصبحَ الحديثُ عن التَّحيزِ والتَّعينِ والجسمِ والمادَّةِ والتَّجرُّدِ، فأنا لم أدرسْ هذهِ الأُمورَ، ولم أقرأْ كتبًا.

  • وفجأةً رآه أحدُ تُجَّارِ إيرانَ الذينَ كانوا قد تشرَّفوا بِالزيارة فقالَ له: ماذا حصل يا سماحة الشيخ؟ قال: لا شيء، همسَ في أُذنهِ أن ماذا جرى يا شيخنا؟! 

  • قال: لا شيءٌ يا عزيزي! لقد انتهى عقدُ الإيجارِ، وهذا أيضًا ألقَى بممتلكاتِنا في الخارجِ، فقالَ: تفضَّلْ، تفضَّلْ، وكانَ لديهِ منزلٌ في النَّجفِ، فنقلَ جميعَ أثاثِ الشَّيخِ محمَّدِ حسينٍ وقالَ: شيخنا العزيز ما دمتم علَى قيدِ الحياةِ، فهذا المنزلُ ملكُكم! لكم ولِأهلِ بيتِكم ومن يتعلّق بكم. وهناكَ قضيتْ حاجتُهُ. فهؤلاءِ كانوا هكذا. هؤلاءِ كانتْ لديهم معرفةٌ جعلتْهم يلقونَ بِأنفسِهم في هذهِ الأوضاعِ ولم يتخلَّوا، في حينِ أنَّهُ بجانبِ منزلِهم كم مِنَ المبالغِ كانتْ تُصرفُ علَى أَيِّ أشياءٍ! أَيُّ مسائلَ كانتْ تُصرفُ علَى فلانٍ! لم يكونوا ينظرونَ إلَى هذهِ الأُمورِ أصلًا، لم يكونوا يلتفتونَ أصلًا، وكانوا يضحكونَ عليها. فهذا ما يسمُّونَهُ المعرفةَ، مهما فعلتَ بهِ لن يتخلَّى، مهما فعلتَ بهِ لن يتركَ المسألةَ. وفي أواخرِ عمرهِ أيضًا تحسَّنَ حالُهُ كثيرًا جدًّا وعلاقاتُهُ وهذهِ الأُمورُ.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

9
  • قصة السيد جمال الكلبايكاني: من لا عرفان له فلا دنيا ولا آخرة له

  • عندما كانَ المرحومُ السَّيدُ جمال الكُلبايكانيُّ في أسوأِ الظُّروفِ وكان المرحومُ العلَّامةُ يذهبُ لِزيارتهِ، في أَيِّ وضعٍ كان يجده؟ ـ لا بُدَّ أَنَّ الرُّفقاءَ قد قرأوا في كتبِ المرحومِ العلَّامةِ شيئًا ممَّا كانَ يقصُّهُ علينا ـ عندما كان يذهب لزيارته، كان السيّد جمال يقول له: يا سَّيدُ محمَّدُ حسينٍ، مَنْ لا عرفانَ لهُ، فلا دُنيا ولا آخرةَ لهُ. ألم يكنْ السَّيدُ جمال الكُلبايكانيُّ مِنَ العلماءِ؟! ألم يكنْ مِنَ الفقهاءِ؟! ألم يكنْ مرجعَ تقليدٍ؟! قولُ مَنْ هذا؟ قولُ عالمٍ، مرجعِ تقليدٍ، فقيهِ، آلتْ إليهِ المرجعيةُ بعدَ المرحومِ النَّائينيِّ. فهذا قولُهُ وليسَ قولَ العوامِ. مَنْ لا عرفانَ لهُ، فلا دُنيا ولا آخرةَ لهُ. ترونَني بهذا الوضعِ، أنا سعيدٌ! سعيدٌ! وفي أَيِّ مصاعبَ كانَ! مصاعبُ كانَ المرحومُ العلَّامةُ يقولُ إنَّها لا يمكنُ وصفُها أبدًا.

  • ما هي المعرفة التي قصدها الإمام السجاد عليه السلام؟ وكيف تمنع صاحبها من اللهو؟

  • حسنًا، هذهِ المعرفةُ هي مقصودُ كلامِ الإمامِ السَّجَّادِ عليهِ السَّلامُ. يعني يا إلهي، لقد أعطيتَني معرفةً لم أعدْ أستطيعُ أَنْ أتركَها، لم أعدْ أستطيعُ أَنْ أتخلَّى عن الأمرِ، لقد استحوذتْ هذهِ المعرفةُ عليّ. هذا الإدراكُ قد استحوذَ عليّ، لم أعدْ أستطيعُ أَنْ أقضِيَ أيامي هكذا، أأفتحُ مفتاحَ الرَّاديو وأضغطُ علَى زرِّ التِّلفازِ؟ هل أجلسُ ستَّ ساعاتٍ أمامَه وأقولُ كلامًا فارغًا وأذهبُ ليلاً أتحدَّثُ مع هذا وأتسامرُ مع ذاكَ وهنا وهناكَ...! فهذهِ الأقوالُ قد ولَّتْ عنَّي. هذهِ الأُمورُ قد ولَّتْ عنَّي، الآن لو أردتُ أَنْ أتحرَّكَ، لأمسكتْ هذهِ المعرفةُ بتلابيبي، لو حرَّكتُ رأسي، فهذهِ المعرفةُ وهذا الإدراكُ تلاحقني، هذهِ الأعمال هي لأُولئكَ الذينَ لا معرفةَ لديهم، لا إدراكَ لديهم، يظنُّونَ أَنَّ هذهِ الدُّنيا هي نفسُها إسطبلُ البقرِ والحميرِ، هكذا هي. يذهبونَ ليلًا إلَى هناكَ ليعطوهم العلفَ، ويأتونَ بهم صباحًا لِيشغلوهم. يذهبونَ بهم ليلًا مرَّةً أُخرَى ليعطوهم العلفَ، ثُمَّ يخرجونَهم صباحًا مرَّةً أُخرَى لِيربطوا بهم المحراثَ وهذهِ الأُمورَ. يحرثونَ، هؤلاءِ هكذا . نجلسُ ونضحكُ ونتفرَّجُ ونقضِي الوقتَ وغدًا وبعدَ غدٍ على الحال نفسه! ذلكَ الذي يجدُ المعرفةَ ويدركُ وضعَهُ ويدركُ مآلَهُ، ويدركُ ماذا ينتظرُهُ غدًا وماذا ينتظرُهُ بعدَ غدٍ ويعرف إلَى أينَ يريدُ أَنْ يذهبَ، وأَيّ مسائلَ سيواجهها، وأَيّ استعدادٍ وضعَهُ اللّهُ فيهِ، وأَيّ رأسمالٍ يفقدُهُ يومًا بعدَ يومٍ بدونِ أَنْ يعوِّضَهُ؟ حينئذٍ هل يمكنُ أَنْ يقضِيَ وقتَهُ بهذهِ الأُمورِ؟ حينئذٍ هل يمكنُ أَنْ يتعايشَ مع هذهِ الأُمورِ؟! هذا لم يعدْ ممكنًا.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

10
  • كيف نكتسب المعرفة الحقيقية؟ وما أثرها في مواجهة تقلّبات الدنيا؟

  • لذا يجبُ علينا أَنْ نُفكِّرَ في هذهِ المسألةِ، يجبُ أَنْ نُفكِّرَ في المعرفةِ. ماذا نفعلُ ليرتفعَ مستوى إدراكنا لِلأمورِ؟ ليرتفعَ مستوى إدراكنا لِلحقيقةِ، لا أَنْ يكونَ مجرَّدَ عشقٍ ظاهريٍّ وعلاقةٍ ظاهريةٍ بِالطَّريقِ وباللهِ، فليستْ هذه الأُمورُ مهمّة. هذهِ تأتي ثُمَّ مع الحوادثِ والمسائلِ والأحداثِ، يتبدّل حالها هبوطًا وصعودًا. ولكن إذا حصلت لدى الإنسان معرفة، فإنّها لا تزولُ. الحوادثُ والأحداثُ لا تستطيعُ أَنْ تُؤثِّرَ فيهِا، لا تستطيعُ، وقول الناس:"تفضَّلْ، تفضَّلْ" والتَّحياتُ والصَّلواتُ لا تستطيعُ أَنْ تمنعَهُ مِنَ التَّفكيرِ. إسنادُ المسؤوليّاتِ والتَّرفيعاتُ والجلوسُ في صدرِ المجلسِ، لا يخرجُهُ عن الطَّريقِ إلَى الضَّلالِ، لا يخرجُهُ لأنَّهُ يملكُ الإدراك.

  • تجربة شخصيّة: كيف تكشف الشدائد حقيقة مدّعي القرب من الأولياء؟

  • كانَ الأمر عجيبًا، حقّا كان عجيبًا! كنتُ في زمنِ المرحومِ العلّامةِ رضوانُ اللّهِ عليهِ متعجِّبًا جدًّا مِنْ أحوالهِ، وفي أَيِّة حالة هو وفي أَيِّ أوضاعٍ؟ فمِنْ ناحيةٍ، كنَّا نرَى هذا الرَّجلُ الذي لا يريدُ أَنْ يضيعَ دقيقةً واحدةً مِنْ وقتهِ عبثًا، كنَّا نرَى بِأعينِنا، في النِّهايةِ كنَّا أبناءَه، وكنَّا علَى اطِّلاعٍ بِأحوالهِ أكثرَ مِنَ الآخرين، فكنَّا نرَى أنَّهُ هكذا، ومِنْ ناحيةٍ أُخرَى، كنَّا نراهُ يجلسُ مع هذا، ويتحدَّثُ مع ذاكَ، فنتعجَّبُ، هل هؤلاءِ أيضًا أُناسٌ يجلسُ معهم؟! فكنَّا في حَيرةٍ، حسنًا، ما هذا؟! وما ذاكَ؟! كيفَ تكونُ القضيةُ هكذا؟! حتَّى قالَ لي ذاتَ يومٍ: يا فلان، فيما يتعلَّقُ بمسألةٍ ما، لا تنظرْ إلَى كثرةِ هؤلاءِ المحيطينَ بي، اذهبْ وفكِّرْ في نفسِكَ؛ فهؤلاءِ لديهم مراحلُ ومراتبُ، وبالطَّبعِ قالَ عبارةً لن أقولَها الآن، وربَّما قلتُها فيما سبق، والآن سأقولُ مضمونَها، كلُّ واحدٍ مِنْ هؤلاءِ هو في مرتبةٍ ما، فلا تظنَّ أنَّني عندما أجلسُ وأتعامل مع هذا وذاكَ، فإنَّني أتعلَّقُ قلبيا به، لا يا عزيزي! أنا لم أتعلقْ قلبيا ولن أتعلقَ. ولم أكنْ أفهمُ هذا. لم أكنْ أفهمُ مقصودهُ، لم أكنْ أفهمُ. وفي النِّهايةِ، هؤلاءِ الذينَ يأتونَ،ويرفعون التحيّة والصلوات، ويقولون: نريد أن نلتقي بحضرةَ السَّيدِ ونراه، وكانوا يعدُّونَ الأيامَ لِرؤيتهِ، حتَّى يأتيَ وقتُ الجلسةِ لِيروهُ. حسنًا، فلماذا يقولُ عنهم هذهِ الأقوالَ؟ وكيفَ؟ لم نكنْ نفهمُ، لم تكنْ عقولُنا تصلُ إلَى ذلكَ في ذلكَ الوقتِ، كنَّا نرَى كلَّ هذا التَّعلُّقَ والشَّوقَ والمحبّة والرَّغبةَ الشَّديدةَ، يمدُّون أعناقَهم لِيرَوا السَّيدَ بشكلٍ أفضلَ، يقفزُون ليقبِّلوا يدَ السَّيدِ مبكِّرًا، يفسحُون الطَّريقَ لِيأتيَ السَّيدُ ويمشي، يسوّون حذاءَه، يذهبُون إلى هنا وهناكَ، وإذا أرادَ السَّيدُ عملًا ينجزُونهُ، لقد كانَ امتحانًا يا عزيزي! مات ووضعَ رأسَهُ علَى الأرضِ، فعرفنا حينها ماذا كانَ يعني بقولهِ ذاكَ؟ عرفنا حينها، عجيبٌ! يعني الرُّفقاءُ لا يصدِّقونَ أنَّني بعدَ وفاةِ المرحومِ العلَّامةِ، كنتُ في حَيرةٍ لفترةٍ مِنَ القضايا التي حدثتْ، فعقلي لم يكنْ يعملُ. في النِّهايةِ، كيفَ يمكنُ أَنْ تكونَ القضيةُ هكذا؟ في النِّهايةِ، كيفَ يمكنُ؟! يعني هل الأمرُ بهذهِ الهشاشةِ؟! هل الأمرُ بهذهِ التَّفاهةِ؟! يا عزيزي، أقولُ: اثنانِ زائدَ اثنَينِ، فيقولُ: ستَّةٌ، آهٍ آهٍ آهٍ، هذا هو نفسُهُ الذي كانَ بِالأمسِ هكذا. هذا هو نفسُهُ الذي كانَ يفعلُ تلكَ الأعمالَ بِالأمسِ، هذا هو نفسُهُ الذي كانَ يقولُ تلكَ الأقوالَ بِالأمسِ. هذا هو نفسُهُ الذي كانَ يقولُ تلكَ الأُمورَ بِالأمسِ، الآن أقولُ اثنانِ زائدَ اثنَينِ، فيقولُ: اثنا عشرَ. أصلًا مَنْ قالَ إنَّ اثنَينِ زائدَ اثنَينِ تساوي أربعةً؟ لا يا سيدي! أنا أقولُ اثنا عشرَ. الآن تعالَ وأصلحْها، أقولُ يا عزيزي انظرْ واحدٌ، اثنانِ، ثلاثةٌ، أربعةٌ. يقولُ لا، أربعةٌ، ستَّةٌ، عشرةٌ، اثنا عشرَ. فماذا يجبُ أَنْ يقالَ لِهذا؟! ماذا يقالُ حقًّا؟! كنَّا نرَى ذلكَ، ونرَى هذا. كنَّا نرَى ذلكَ، آهٍ آهٍ عجيبٌ! أفرادٌ، أُقسمُ بحياتِكم لم أكنْ أُصدِّقُ، لم أكنْ أُصدِّقُ،هذا مِنْ قصورِ عقولِنا، أنَّنا لم نكنْ قد أدركنا ما هي حقيقة الأمر؟ لم أكنْ أُصدِّقُ أَنْ يكونَ الأمرُ هكذا، أَنْ تكونَ المسألة هكذا، بمجرَّدِ رحيلِ السَّيدِ، هل انتهى كلُّ شيءٍ؟ آه آه آه، كلُّ شيءٍ انتهى، كأَنْ لا أساسَ أصلًا.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

11
  • قصّة الرفيق الذي تجنّب اللقاء: كيف تكشف المواقف معادن الناس؟

  • منذُ فترةٍ قصيرةٍ، وقبلَ أُسبوعٍ أَو أُسبوعَينِ، عندما تشرَّفتُ بِالزِّيارةِ، كنتُ أمرُّ مِنْ زقاقٍ، فرأيتُ أحدَ هؤلاءِ الذينَ كانوا في إحدَى المحافظاتِ في ذلكَ الوقتِ،كنت أزور مدينة مشهد علَى الأقلِّ مرَّةً في الأُسبوعِ أَو الأُسبوعَينِ، هذا الذي لم يكنْ ليهدأَ حتَّى يتَّصلَ بي هاتفيا، وعندما رآني دخلَ إلَى منزلهِ حتَّى لا تقعَ عينُهُ عليَّ. فضحكتُ هكذا، وقلتُ: حقًّا انظرْ إلَى الدُّنيا، انظرْ إلَى الدُّنيا، لو سألوا هذا الرجل، ما هو العمل المخالفُ للصواب الذي ارتكبه في فلان في هذهِ الفترةِ؟ تعالَ وأخبرنا ما هو؟ فماذا سيقولُ؟ أَيَّ عملٍ مخالفٍ للصواب ارتكبتُه؟ أَيَّ قولٍ مخالف للصواب قلتُهُ؟ أَيَّ باطلٍ قمتُ بهِ؟ حقًّا، حقًّا، حقًّا، ليأتوا ويسألوهُ، هذا هو نفسُهُ الذي أقلَّني ذاتَ يومٍ في مشهدَ وأخذَني إلَى منزلهِ وكانتِ الدُّموعُ تنهمرُ مِنْ عَينيهِ وتسقطُ مِنْ لحيتهِ علَى الأرضِ وكانَ يقولُ لي: يا سيد محسنٌ، أسألُكَ بحقِّ أبيكَ عليكَ، لا تتخلَّ عن فلانٍ، فإنْ تخلَّيتَ عنهُ سيأتي آخرونَ ويمْلأوا مكانَهُ. ثُمَّ هو نفسُهُ، يغلقُ البابَ الآن حتَّى لا ينظرَ إليّ. غريبٌ جدًّا. غريبٌ جدًّا!

  • {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ... يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} كيف تكون تقلبات الناس آية إلهيّة؟

  • وهذهِ عبرةٌ لنا، والله يأتي لنا بهذهِ الأُمور لكي نعتبر، تقول الآيةِ القرآنِيّة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}۱، نحنُ نعرضُ آياتِنا أمامَهم ليقعَ بصرُهم عليها ويفهموا ما حقيقة الأمر؟ ولكنّ هؤلاءِ النَّاسُ يمرُّونَ هكذا ولا يكترثونَ. فهذهِ آيةُ للّه، واللهُ يريدُ أَنْ يقولَ لكَ إنَّ الذي يبقَى لكَ هو أنا. والآخرون كلُّهم يذهبونَ يا سيدي، ألم يكنْ هذا يفديكَ بنفسه؟! ألم يكنْ هذا يتودَّدُ إليكَ؟! ألم يكنْ هذا كذا وكذا، فلو كانَ هناكَ أحدٌ في زمانِ السيدِ، فهو أنتَ فقط، لو كانَ هناكَ أحدٌ يا عزيزي فهو أنت، حسنًا الآن نحنُ موجودونَ وفي خدمتك ولكن هذهِ هي القضيةُ، لم نكنْ نفهمُ في ذلكَ الوقتِ، لم نكنْ نُدركُ المسألةَ في ذلكَ الوقتِ، في ذلكَ الوقتِ، لم نكنْ نفهمُ أَنَّ المرحومَ العلَّامةَ عندما كانَ يقولُ لنا هذا الكلامَ، كانَ يريدُ أَنْ ينبِّهنا: يا عزيزي، فكِّرْ في نفسِكَ، لا تنظرْ كثيرًا إلَى هذا وذاكَ، لا تضعْ وقتًا كثيرًا لِهذا وذاكَ، لكلِّ شخصٍ حسابٌ، لكلِّ شخصٍ كتابٌ، لكلِّ شخصٍ طريقةٌ، يجبُ أَنْ تكونَ مع الأفرادِ بمقتضَى تكليفِكَ، هذا لم نكنْ نفهمُهُ. وعندما جاءَ هذا الامتحانُ، عرفنا حينها الحقيقة وقلنا : عجيبٌ! كيفَ كانتِ المسألةُ! أُقسمُ بِاللّهِ لفترةٍ كنتُ في حَيرةٍ. مثلَ المذهولينَ الذينَ يفقدونَ القدرةَ علَى التَّفكيرِ ولا يستطيعونَ تقييمَ ما حدثَ؟ وبعدَ فترةٍ، استعدْت وعيي شيئًا فشيئًا، وعرفت حقيقة الأمر.

    1. سورة يوسف (۱٢) الآية ۱۰٥.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

12
  • بين التكريم بالإعراض عن المعرفة والإعراض بالتزام المعرفة: أي طريق يختار العارف؟

  • حسنًا، الآن وقد عرفت، يقولونَ لي: يجبُ أَنْ تتخلَّى عن إدراكِكَ، إذا تخلَّيتَ فأنتَ عندَنا معزَّزٌ مكرَّمٌ. سنصنعُ لكَ تمثالًا مِنْ ذهبٍ. سنجعلُكَ في المقدِّمةِ، سنجعلُكَ إمامًا. سنُحيلُ إليكَ الأفراد وأمثال هذا الكلام. فإن لم تتخلَّ عن معرفتِكَ، سنطردُ الجميعَ مِنْ حولِكَ ولن يسلِّمَ عليكَ أحدٌ، حتَّى عائلتُكَ لن تكتَرثَ بكَ، سيتحدَّثُ الجميعُ عنكَ بِالسُّوءِ. فليقولوا ما يريدونَ وليفعلوا ما يشاؤون. وماذا يجبُ أَنْ أفعلَ الآن؟ هل يجبُ علَى الإنسانِ أَنْ يتخلَّى عن معرفتهِ وأَنْ يصبحَ حمارًا؟! مائةُ رحمةٍ علَى الحمارِ، مائةُ رحمةٍ علَى الحمارِ، مائةُ رحمةٍ علَى البقرةِ، عندما يأخذونَها مِنْ هذا المكان لِتحرثَ الأرض تمشي معهم، وعندما تعودُ لا تعودُ مِن المكانِ نفسه، بل تعودُ مِنْ جانبهِ قليلاً، مِنَ الطَّرفِ، حتَّى تصبح الأرضُ كلّها محروثة بنفسِ الطَّريقةِ. فهؤلاءِ لم يكونوا يدركون بمقدارِ ما تدركه بقرة، لم يكونوا يفهمونَ بهذا المقدارِ. حينها عرفنا ـ ويا للعجب! ـ ما هذا الإكسيرُ الذي هو المعرفةُ! وأَيُّ كيمياءٍ هي! وهذا الذي كانَ والدُنا يقولُهُ لنا مرارًا أن "اذهبْ وفكِّرْ في نفسِكَ" ماذا كانَ مقصودُهُ منه؟ ماذا كانَ مقصودُهُ منه؟ يا عزيزي أقولُ لهم: تعالوا لنتباحث ونتحدَّثُ ونبينُ أمامَ الجميعِ. 

  • يقولون: لا يا عزيزي ! لا نفعلُ. ليسَ مِنَ المصلحةِ. ليسَ مِنَ المصلحةِ أَنْ نتحدَّثَ، ليسَ مِنَ المصلحةِ أَنْ تتَّضحَ القضايا، ليسَ مِنَ المصلحةِ مِنْ هذا الجانبِ ومِنْ ذاكَ الجانبِ، فلا يسلِّمْ أحدٌ علَى هؤلاءِ، ولا يكترثْ أحدٌ بهؤلاءِ، ولا يذهبْ أحدٌ إلَى مجالسِ هؤلاءِ. 

  • فإذن ما هي هذه التي نتملكها؟ إنّها المعرفة! فهل يمكنُ لِلإنسانِ الآن أَنْ يضعَ يدَهُ في أيدي هؤلاءِ؟! هل يمكنُ؟! ذلكَ الذي هذهِ مدرستُهُ، ذلكَ الذي هذا مسارُهُ، ذلكَ الذي يقولُ لا ينبغِي الكلامُ، لا ينبغِي الحديثُ، لا ينبغِي تقديمُ الدَّليلِ، هنا كلُّ مَنْ يأتي لا ينبغِي أَنْ يرفعَ رأسَهُ، ألم يقولوا هذا؟ حينئذٍ هل يمكنُ لِلإنسانِ أَنْ يضعَ يدَهُ في أيدي هؤلاءِ؟ هل يمكنُ لِلإنسانِ أَنْ يذهبَ إلَى أَيِّ مكانٍ؟ هل يمكنُ لِلإنسانِ أَنْ يذهبَ إلَى أَيِّة مدرسةٍ؟ هل يمكنُ لِلإنسانِ أَنْ يضعَ قدمَهُ في أَيِّ مكانٍ يدعَى إليهِ؟ أَمْ لا، بل علَيه أَنْ يعلمَ ويفهمَ ويكونَ لديهِ إدراكٌ ثُمَّ يسير ذلك.

معرفةُ الطريقِ مقدّمة للسَّيرِ نحو اللهِ - الفرق بين المعرفة الحقّة والادّعاء

13
  • ما الفرق بين "دليلي إليك" و"دليلي عليك"؟ وما هي مراتب المعرفة؟

  • إذن، لازم الحركةِ نحو اللّهِ في المقامِ الأوَّلِ هي المعرفةُ، وأَنْ يكونَ لدَى الإنسانِ إدراكٌ لِلطَّريقِ الذي يسلكُهُ. ثمّ كم يجبُ أَنْ يكونَ مقدارُ ذلكَ الإدراكِ؟ وبِأَيِّ مستوى يجب أن يكون حتَّى يدلَّ الإنسانَ عليهِ؟ نظرتُ في هذا الكتاب المترجم اللَّيلةَ فرأيتُ مكتوبًا: «معرفتِي يا مولايَ دليلِي عليكَ»، وقد ترجم بأنَّهُ إرشادٌ إليكَ. وإليكَ هذه خطأٌ، فكلمة الإرشاد عليكَ، لا تؤدّي معنى "دليلِي إليكَ"، والفرقُ بينَهما نوضّحه إنْ شاءَ اللّهُ الليلة القادمة إذا وُفِّقنا، فـ "دليلِي عليكَ" و"دليلِي إليكَ" تعبران اثنانِ ويختلفانِ، و"إليكَ" تعني نحوكَ، و"عليكَ" تعني عليكَ بذاتك، والمعرفةُ دليلٌ عليكَ، وليستْ دليلًا نحوُكَ! فكم يجبُ أَنْ يكونَ لدَى الإنسانِ مِنَ المعرفةِ حتَّى تكونَ الدَّلالةُ دلالةً صحيحةً وتامَّةً وبِلا نقصٍ؟ وهل مراتبُ المعرفةِ واحدةٌ أَمْ تختلفُ، هذا إنْ شاءَ اللّهُ للّيلة القادمة إن شاءَ اللّهُ. إنْ شاءَ اللّهُ.

  • اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً

  • نأملُ أَنْ يكونَ اللّهُ تعالَى هو المباشرَ لِقلوبِنا وفكرِنا وضمائرِنا، وأَنْ يأخذَ هو بِأيدينا في طريقِ معرفتهِ وإيصالِنا إليهِ، وأَلَّا يتركَنا صاحبُ مقامِ الولايةِ لِأنفسِنا في أَيِّ حالٍ، فإنَّ خسارةَ الإنسانِ وشقاءَهُ يكمنانِ حيثُ يشعرُ أنَّهُ يفهمُ شيئًا ولا يعلمُ، ويمضِي هكذا أعمَى في طريق {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}۱. هؤلاءِ هم أخسر الناس. قلْ هل أُخبرُكم بِأخسرِ النَّاسِ أعمالًا؟ أُولئكَ الذينَ يظنُّونَ أنَّهم يقومونَ بِالعملِ الصَّحيحِ، وأَنَّ طريقَهم جيدٌ، ولكنَّهم لا يعلمونَ أنَّهم في ضلال وغوايةٍ.

  •  

  • اللَّهمَّ صلِّ علَى محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ

    1. سورة الكهف (۱۸) الآيتان ۱۰٣-۱۰٤