المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1426
التاريخ 1426/09/10
التوضيح
ما هو جوهر الإنسان الذي أهّله للخلافة الإلهية؟ وكيف يتجلى الله في الخلق؟ تشرح المحاضرة مقام الإنسان الكامل وحقيقة الحياة والظهور العرفانية، مؤكدة على مركزية العلم والمعرفة، وضرورة السعي للمعرفة الحقيقية بالله بدل الاكتفاء بالظواهر أو التقليد الأعمى.
هوالعليم
حقيقة مقام الإنسان الكامل ومقام خلافة الله
العلم والمعرفة: جوهر الإنسان ومِلاك قربه من الله
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي ـ سنة ۱٤٢٦ هـ ـ الجلسة السابعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
وَاللَّعنَةُ عَلَى أعدَائِهِم أجمَعِينَ
العلم والمعرفة: جوهر الإنسان ومِلاك قربه من الله
«مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ وَحُبّي لَكَ شَفيقي إلَيكَ»
ذُكر للرفقاء البارحة أن خصوصيّة الإنسان التي بها استحقّ مقام خلافة الله وأصبح خليفة الله ونائبه، هذه الخصوصيّة هي نفس حقيقته العلميّة. وأن اختلاف مراتب الأشياء من ناحية القرب والبعد عن صرافة الوجود، والتي هي نفس وجود الحقّ تعالى، يرجع إلى اختلافها في المعرفة، يرجع إلى ذلك. وكلّ موجود كان استعداد المعرفة فيه أقوى؛ كان قربه من الله تعالى أكثر من سائر الموجودات، هذا هو المعيار. وهو أن جوهر وجود الإنسان يشكّله العلم، وكلّ الصفات ترجع إلى العلم. فالذي يمتلك القدرة على القيام بعمل من نفسه، فذلك بواسطة علمه بذاته وصفاته. وهذا يرجع إلى ذلك العلم الحضوري للذات بالذات. القدرة من الصفات اللازمة للذات، وكلّ ذات تمتلك العلم والحياة والقدرة.
من النبات إلى الجماد، الكلّ حيٌّ بحياة الله
فهي حيّة لأنَّ نفس وجودها مساوٍ ومساوقٌ للحياة. وإن لم تكن هناك حياة، فهذا يعني أنّه لا وجود لتلك الذات، أي هي معدومة. فنفس الوجود الطارد للعدم، هو نفس الوجود المُثبِت للحياة، وهذا أمر معروف. فالحياة ليست بمعنى المشي والتنفّس، كما يتبادر إلى الذهن. الحياة ليست بمعنى النموّ المادي في الطول والعرض والأبعاد الثلاثة. نقول الشجرة لها حياة، والجماد ليس له حياة. يعني النبات ينمو في الأبعاد الثلاثة ولكن الجماد لا ينمو؛ الحجر لا ينمو، ولو بقي مائة ألف سنة على حالته فإن لم يتلاشَ، لا يضاف إليه شيء. وهكذا نعتبر مرتبة الحياة أعلى بالنسبة للحيوان، فالحيوان له حياة ممتازة عن حياة النبات، والإنسان له حياة ممتازة عن حياة الحيوان؛ هذه مراتب الحياة التي نستخدمها في الاصطلاح العرفي المتعارف. حسنًا، لدينا هذا الاصطلاح. ولكنّ الحياة في الاصطلاح الفلسفي، وبشكل أدق في الاصطلاح العرفاني، تعني كون الشيء موجودًا، فعندما يخرج شيء من كتم العدم، الذي هو ظلمة الإمكان، ويضع قدمه في ساحة وجوب الوجود ـ الوجود التعلّقي ـ يصدق عليه عنوان أنّه موجود. وعندما يصدق عنوان الموجود على شيء، يمكن القول: «هذا حي بحياة الله تعالى».
ما هي "الحياة" الحقيقيَّة؟
لماذا؟ لأن أصل الحياة وحقيقتها يرجعان إلى الوجود بما هو وجود، أي يرجعان إلى الوجود عينه. وعندما تكون الحياة لازمًا ذاتيًّا للوجود، فبواسطة إشراق نور الوجود على ماهيّات الأشياء وخروجها من ظلمة العدم واتّصافها بعنوان الموجوديّة، تفيض عليها الحياة أيضًا من تلك الحياة المطلقة للّه تعالى وتحييها، تحييها بحياة الله وتقع تحت اسمه الحيّ. إذًا، ليس فقط الإنسان والحيوان والنبات أحياء، بل الجماد أيضًا حيّ. وهذا السجّاد الذي تجلسون عليه الآن هو أيضًا حيّ، وهذا العمود الذي تستندون إليه هو أيضًا حيّ، وهذا الهواء الذي نتنفّسه هو أيضًا حيّ. وهذا القمر، والشمس، والنجوم كلّها حيّة، أي قائمة وثابتة وموجودة. نعم، مرتبة معرفتها وكم لها من العلم، هذا أمر آخر. ولكنّ الحديث عن الحياة، هذه الحياة تأتي من ذلك الحيّ.
قصّة المؤمن عند الموت: كيف يخاطب اللهُ خليفتَه بصفاته؟
هناك رواية عجيبة أنه عندما يصل المؤمن إلى مقام الكمال ـ نفس مقام خلافة الله، لا أيُّ إنسان وصل مثلًا إلى درجةٍ من الإيمان ـ وتتحقّق فيه بالفعل حقيقة خلافة الله وتخرج هذه الحقيقة من الاستعداد إلى منصّة الظهور ويصبح الإنسان خليفة الله. عندما يريد أن يغادر الدنيا، يأتيه الخطاب: «مِنَ الحَيِّ القَدِيمِ القَيُّومِ إلَى الحَيِّ القَيُّومِ»۱. الآن لا أعلم هل تتضمّن كلمة "القديم" أم لا، ولكنَّها تتضمن "الحيّ القيّوم".فهذا عجيب جدًّا؛ يعني ذلك الوصف الذي هو وصف ذاتيّ للحقّ تعالى، وتقوم به جميع الأشياء بذلك الاسم وبذلك الوصف ـ وهو وصف الحياة ووصف القيّوميّة؛ القيّوم مصدره القوام، القوام يعني التعلّق والتدلّي بالذات ـ حقيقة جميع الأشياء هي بالتعلّق بذات الباري. بدون هذا التعلّق يسودها ويغلب عليها كتم العدم. فهذا «الحيّ»، الذي هو وصف ملازم لذات الحقّ تعالى، له العنوان الإطلاقيّ. أليس لدينا في آيات القرآن: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}٢ {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}٣ الحي يعني هو، الحي يعني القائم بذاته، الذي يقوم بذاته ولا يحتاج في قيامه إلى غير. عندما يريد المؤمن أن يغادر الدنيا، يأتي الخطاب من جانب الله تعالى إلى هذا العبد المؤمن الذي وصل إلى مرتبة الكمال ـ لا أي بائع لبن زبادي أو مدّعٍ، مدّعي الإيمان هو الذي لو سألته بعد تسعين عامًا عن صفات الباري تعالى، بعد كتابته لكلّ هذه الكتب والمسائل وطباعة الرسالة العمليّة، يشرح لك الله بنفس الطريقة التي كان يعرف بها الله في عمر الخامسة عشرة! لا! بل ذلك الذي وصلت فيه الحياة إلى المرتبة التّامّة، وأصبح وجوده وجوهره جوهرًا علميًّا مطلقًا، وتجرّدت حقيقته بتجرّد ذات الحق الذاتيّ، وأصبح وجوده وجودًا بالصرافة، وأدّى رفع التعيّن والتقيّد التّام فيه إلى الاندكاك والفناء في الذات الأحديّة. هذا الإنسان، يأتي الخطاب إليه: «مِنَ الحَيِّ القَيُّومِ» ـ الذي هو الله تعالى ـ «إلَى الحَيِّ القَيُّومِ» ـ الذي هو عبدي. عجيب! حقًّا عجيب!
وهذه ليست أحاديث مسامرة! إنّه حديث قدسيّ! كلام معصوم! كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله، كلام الإمام الصادق عليه السلام؛ ليست أحاديث مسامرة وما شابه ذلك. «مِنَ الحَيِّ القَيُّومِ إلَى الحَيِّ القَيُّومِ». فإلى أين يمكن أن يصل الإنسان؟ سنُصاب بالدوار أصلًا لو أردنا التفكير فيه. هل واقعًا يوجد شيء كهذا؟ هل توجد مقامات كهذه؟ هل توجد أمور كهذه ؟ في النهاية نحن لا نرى إلا هذا الظاهر. نشاهد فقط هذه الأشياء الموجودة في الظاهر. هل توجد مسائل كهذه؟
قصّة الفرق بين وليّين: مطابقة الواقع أم إيجاده بالكلام؟
ذات مرّة وفي مجلس من المجالس كان الحديث يدور حول مقارنة بين بعض الأولياء، فقال أحد رفقاء المرحوم العلامة: «لم أرَ حتّى الآن أحدًا مثل فلان ـ أحد أساتذة المرحوم العلامة ـكان عجيبًا جدًّا، كانت أعماله تدهشني كثيرًا. من خصوصيّاته أنّ ما يقوله كان يطابق الحقيقة، لم أره يخطئ في تشخيصه للأمور. فمثلًا يقول: هذا الإنسان غير صالح. ثمّ يتّضح أنّ هذا مثلًا لديه مشكلة. ويقول: هذا صالح؛ فيتّضح فعلًا أنّه كذلك. ويقول: هذا الإنسان ليس جيّدًا، مثلًا لا ترتبط به. ثمّ تتّضح لنا مثلًا الموانع التي قد توجد. فقال: كلّ ما كنّا نسمعه منه، كنّا نراه يطابق الواقع. ويحكي عن الواقع ولا يخطئ.» فتأمّل المرحوم العلامة ـ رضوان الله عليه ـ قليلًا وابتسم وقال: «نعم، الأمر كما تقوله عنه. ولكنّي لا أعلم ما قضيّة السيّد الحدّاد، حيث إنّ كلامه أصلًا يوجِد الواقع. لا أنّه مطابق للواقع». فهل تعلمون ماذا يعني هذا؟ مَن يستطيع إيجاد الواقع؟ هل يستطيع أحد غير الله؟ هل يستطيع أحد غير الله أن يتصرّف ويوجد؟ وحقيقة كلّ الحقائق والوقائع مستندة إليه. ولكنّ المسألة هي أنّ ما يقوله، ليس أنّه مطابق للواقع؛ بل كلامه بنفسه إنشاءٌ في عالم الإيجاد! هذه هي المسألة. حسنًا، فالمرحوم العلامة وصل إلى هذا، هو أدرك هذه المسألة، وذاك العبد الصالح لم يدركها، حسنًا، لا لوم عليه؛ فالمعرفة لها مراتب. مع أنّ ذاك قد رآه أيضًا، رأى السيد الحدّاد أيضًا، ولكن انظروا كم تختلف معرفة فرد بفرد آخر، بحيث إنّه لا يدرك تلك المرتبة العظيمة والرفيعة لهذا الرجل فحسب، بل يأتي في مقام المقارنة والقياس فيرجّح فردًا آخر على هذا. يرجحه!
قصة الإمام الهادي عليه السلام والجرجاني: لماذا لا يمكن معرفة المؤمن الكامل؟
حينئذٍ هذا الإنسان عندما يريد أن يغادر الدنيا، يأتيه الخطاب: «مِنَ الحَيِّ القَيُّومِ، إلَى الحَيِّ القَيُّومِ»؛ هذا الخطاب هو لهذا، لهؤلاء الأفراد. هذا هو المؤمن الذي يقول عنهالإمام الهادي عليه السلام، الإمام علي النقي في طريقه إلى مكّة، حين التقى الفتح بن يزيد الجرجاني رحمه الله، لا أعلم في أي كتاب للمرحوم العلامة ذكرت هذه القصّة، وربّما ذكرتُ هذا في بعض كتبي. عندما يسأل الفتح بن يزيد الجرجاني الإمام عليه السلام عن خصوصيّات المؤمن وآثار ظهور جلال الله تعالى وجماله في نفس المؤمن، يجيب الإمام عليّ النقيّ عليه السلام في مقام الردّ: «إنّ الله لا يمكن لأحد أن يعرفه، لأنّ مقام الله أعلى من العقول والأوهام، وهذه الحقيقة لا تدخل في العقل والوهم؛ لأنّ إدراك العقل لحقيقة الوجود ليست إلا بنفس حقيقة الوجود التي هي سبب تبلور وتنوّر العقل».
تو چشم عكسى و او نور ديده | *** | ... |
يقول: أنتَ عينُ الصورةِ وهو نورُ البصرِ.
عجيب جدًّا ما يقوله المرحوم الشبستريّ رحمه الله هنا!
تو چشم عكسى و او نور ديده | *** | به ديده، ديده را، ديده كه ديده؟ |
أنتَ عينُ الصورةِ وهو نورُ البصرِ *** بالعينِ، العينَ، مَن رأى العينَ؟
هل يمكن أن يرى الإنسان العين بالعين نفسها؟! هل رأيتم أنتم أعينكم بأنفسكم؟ لا في المرايا. هل رأيتم بأعينكم عيونكم الجميلة ووجوهكم المباركة؟ الآخرون يرونها، أما الإنسان نفسه فلا يستطيع أن يأتي ويرى ذلك الجمال الآسر، لا يستطيع أن يرى. يقول الإمام الهادي عليه السلام ـ الحديث حديث عجيب جدًّا وطويل ـ: «لا يمكن معرفة الله إلا بالله نفسه؛ فالله هو الذي يعرف نفسه فقط وهو الذي يُعرِّف [بنفسه]». لا يستطيع أحد أن يعرف الله؛ لأنّ ذاته أجلّ من معرفة الأوهام والعقول. وكما لا يمكن معرفة الله لأنّه فوق معرفة العقول والأوهام، فكذلك لا يستطيع أحد أن يعرف النبيّ والإمام. لأنّ الإمام عبارة عن تلك الحقيقة النوريّة الولائيّة نفسها، لا مجرّد جسم ماديّ بشري؛ لو أُخذت حقيقة الولاية تلك من الإمام، فما الفرق بينه وبين زيد بن أرقم وفضل بن يحيى؟ لا فرق بينهما. لماذا نقول للإمام عليه السلام إمامًا؟ لأنّه وليّ؛ لأنّه وصل إلى مرتبة الولاية المطلقة، وهو واسطة فيض الله تعالى؛ لذلك نقول له إمامًا. إمام الزمان عليه السلام يعني واسطة الفيض، فلو لم يكن إمام الزمان، لكانت عوالم الوجود كلّها عدمًا! هذه هي نفس الولاية! ثمّ يقول الإمام عليه السلام: «كما لا يمكن معرفة الله، وكما لا يمكن معرفة الإمام، فكذلك المؤمن الذي استنار قلبه بنور ولايتنا ووجد معرفتنا أهل البيت، لا يستطيع أحد أن يعرفه».۱ فماذا يعني هذا الكلام؟ أي أنّه يصبح مثل الله! هذا كلام من؟ كلام الإمام الهادي عليه السلام، والحديث صحيح السند أيضًا. لأولئك الذين يريدون التشكيك أن: «لا يا سيدي، ما هذا الكلام! هذا الكلام مخترع، هذه الأحاديث موضوعة. ليس لها سند، مرسلة، ما شأنها؟ وما شابه ذلك من هذا الكلام ». فهذا المقام هو مقام المعرفة!
حقيقة "الظهور" الإلهي: كيف يتجلى الله في الخلق من الذّرة إلى الإنسان؟
إذًا، الاختلاف بين الإنسان وغير الإنسان هو اختلاف في مقدار الحياة؛ فالموجودات العادية هي أيضًا تمتلك حياة في رؤية أهل العرفان وفي نظر أهل العرفان. كل الأشياء هي مظاهر لتلك الحقيقة الحيّة والعالِمةـ الحقيقة العالمة والتي لها حياةٌ والقائمة بذاتها. قيامها قيام بالذات لا قيام بالغير! والأشياء كلّها ظهورات لهذه الحقيقة؛ أي أنّها هي أيضًا تمتلك حياة؛ لأنّها ظهور لذلك الحيّ، وهي أيضًا تمتلك علمًا. لأنّها ظهور لذلك العلم، وهي أيضًا تمتلك قوامًا. لأنّها ظهور لتلك القيّومية، وهي أيضًا تمتلك قدرة؛ لأنّها ظهور لتلك القدرة. فما معنى الظهور؟ معنى الظهور عند العرفاء هو حضور المُظهِر في قالب المُظهَر والمَظهَر، هذا هو معنى الظهور. ببساطة شديدة: أن يحضر المُظهِر في المَظهَر. لا أن يشرف عليه، لا أن يكون مطّلعًا عليه، هذا الكلام، كلام العوام. لا أن يحيط به، فالإحاطة مثل أن يجلس الرفقاء هنا الآن على سبيل المثال، وأنا بدلًا من الجلوس هنا، أصعد فوق هذا المنبر، فيقال: هذا الآن يحيط بالحاضرين. يرتفع مترًا أو مترًا ونصف المتر فوق الآخرين ويرى الجميع ويجعل المجلس تحت سيطرة نظره. وكلّما ارتفع الإنسان زادت إحاطته، فهذا معنى الإحاطة وليس معنى الظهور. أمّا الظهور فيعني: أن يكون ذلك المُظهِر، وذلك المنبع، وذلك المنشأ، وذلك المبدأ، حاضرًا في نفس القالب والقيّد الخارجي. ولكنّ حضوره هذا في الأشياء الخارجيّة متفاوت. وهنا تختلف مراتب علم الأشياء بكيفيّة حضور المبدأ! ففي مكان يحضر بقدرة بعوضة في الحركة، وفي مكان يحضر بقدرة أسد ونمر وحيوان مفترس قويّ في الحركة والنشاط. وفي مكان يحضر بحجم حيوان يزن عشرات الأطنان ويتحرّك في البحار، ويتحرّك، هذا ما يتعلّق بمادياته. وفي مكان يحضر في قمرٍ وفي كُرةٍ متحرّكة، وفي مكان يحضر وهو ينشر النور حوله ويتلألأ. وهذا البيت من الشعر لمولانا جلال الدين الرومي:
هر لحظه به شکلی بت عیار برآمد | *** | ... |
وفي كلّ لحظة ظهر الصنم الفتّان بشكلٍ.
يشير إلى هذا الظهور نفسه، حيث يبيّن الحضور الخارجيّ للحقّ تعالى في التعيّنات، وكيف هو هذا الحضور. ففي شيء يحضر وتكون مرتبته محدودة، في الملائكة يحضر بمقدار معرفتهم؛ فبذلك المقدار يكون حضوره. وفي الإنسان يحضر بكلّ وجوده؛ هذا يصبح خليفة الله.
الإنسان الكامل: أعظم تجليّات القدرة الإلهيّة
يعني عندما يأتي الله تعالى ويتجلّى ويحقّق إنسانًا هو خليفة الله بالفعل، يصبح هذا هو [الله]. لا يعود لهذا قالب. إذا نظرتم إلى الإنسان بحسب الظاهر، فطوله متر وسبعون أو متر وثمانون سنتيمترًا. حسنًا، هذا تراب، هذا عظمه. بنيته بهذا الحجم، وبنية الإنسان ليست هي الله، البنية ليست هي الله. مثل أن نفترض أن أمير المؤمنين عليه السلام هو فقط هذا المتر والسبعون أو الثمانون الذي نعرفه، هذا كلّ شيء. هل هذا حقًّا ما كان أمير المؤمنين عليه السلام؟ فلماذا إذًا لم يستطع الآخرون القيام بالأعمال التي قام بها؟! أشار فخرجت ناقة من قلب الجبل، جاء إنسان إلى [أمير المؤمنين عليه السلام] وقال: «لقد أقرضت النبيّ صلّى الله عليه وآله، أعطيته عدّة جمال». قال: «كم أعطيته؟ من أين أعطيته؟» قال: «[من هنا]». قال له: «قم وتعالَ معي». جاء إلى سفح الجبل، وقال: «لتخرج كلّ الجمال التي أقرضها هذا للنبي صلّى الله عليه وآله». فانشقّ الجبل وخرجت: جمل، اثنان، ثلاث، أربع، بأحمالها من ذهب وفضة، ومن كلّ شيء. قال: «هل يكفي أم لا؟!» قال: «نعم يا عزيزي، بل هذا كثيرٌ جدًّا».
ـ «حسنًا، قم واذهب!»
فلماذا لا يستطيع البقيّة أن يفعلوا ذلك؟ فهم أيضًا بهذا الحجم. عمرو بن عبد ودّ كان ستة أضعاف أمير المؤمنين عليه السلام في القامة والبنية وما شابه ذلك. كان يرفع جملًا صغيرًا هكذا في ترس واحد ويمسكه بيده. هكذا ينقلون عنه، كان شيئًا عجيبًا غريبًا. في معركة الخندق رأى أمير المؤمنين عليه السلام أنه لا يقدر عليه، وقبل أن يتمكّن أمير المؤمنين عليه السلام من التحرّك، نزل سيف عمرو بن عبد ودّ على رأس أمير المؤمنين عليه السلام، فشق الخوذة نصفين والعمامة نصفين وأصابه، فشُقّ رأس أمير المؤمنين عليه السلام وبدأ الدم بالنزول. رأى الإمام عليه السلام أن الضربة الثانية ستنهي الأمر. وبحيلة ما، شوّش الإمام عليه السلام عليه الرؤيا فجأة، حتّى غفل عنه، فضربه بالسيف فقطع رجله وأسقطه؛ كان رجلاً عجيبًا غريبًا، كان يعادل ألف رجل وحده، ألف رجل! كان يساوي ألف رجل. هذه كانت معركة الأحزاب. إنّهم جاؤوا بهؤلاء لينهوا الأمر، لينهوا المسألة. إذًا، أمير المؤمنين عليه السلام الذي نعرفه كان يضرب بالسيف، هل كان أمير المؤمنين عليه السلام مبارزًا بالسيف؟ كلا يا عزيزي. بل ربما كان رستم الذي في الشاهنامة يضرب بالسيف أفضل من أمير المؤمنين عليه السلام.بل ربّما كان أقوى منه أيضًا؛ فهل لأنّه أمير المؤمنين، يجب أن لا يكون أحد أقوى منه؟! كلاّ، ما الفرق بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين الإمام السجّاد عليه السلام؟ الآن أمير المؤمنين عليه السلام كان قويًا؛ فهل كان الإمام السجّاد مثل أمير المؤمنين عليهما السلام؟ كلا ؛ هو لم يكن هكذا. أو لنفترض الإمام الجواد عليه السلام الذي تولّى الإمامة في العاشرة من عمره. هل كانت لديه قوة أمير المؤمنين عليه السلام؟ إمام الزمان عليه السلام الذي تولّى الإمامة في الخامسة من عمره، هل كان مثل أمير المؤمنين عليه السلام في الأربعين من عمره؟ أو في الثلاثين، عندما بارز في خيبر وهذه المواقع؟ كلا، لم يكن الأمر هكذا. لا ينبغي لنا أن ننظر إلى الأئمة عليهم السلام بالقدرة الظاهرية وقوة الذراع الظاهرية؛ فالعمل الذي كان يفعله أمير المؤمنين عليه السلام، يفعله إمام الزمان عليه السلام نفسه في الخامسة من عمره، دون أيّ فرق. يقلب كل الكون وعالم الملكوت بإصبع واحد يمينًا وشمالًا، يبعثره كلّه. هذه هي المسألة المهمّة!
مقام الخلافة وتعليم الأسماء: سرٌّ إلهي وحقيقةٌ وجوديّة
هذا الحضور للّه تعالى في الأشياء الخارجيّة، هذا الحضور له مراتب. تلك المرتبة العليا من الحضور التي لا يُتصوّر أعلى منها تتعلّق بالإنسان، فهذا هو مقام خلافة الله. أي لو كان الله يستطيع أنْ يخلق موجودًا أعلى من الإنسان [لفعل ذلك]، لكنّه لم يفعل.أعلى حقيقة استطاع الله تعالى أن يظهرها في سلسلة الخلق، تلك القدرة العليا التي استخدمها، خلق بها الإنسان. أي أنّه أعلى قدرة، أعلى إرادة، أعلى نقش وزخرفة وهندسة بذلها في كلّ العوالم، كانت أنه خلق إنسانًا. إنسانًا طوله كلّه متر وستون سنتيمترًا أصلًا. هذا أصبح ماذا؟ أعلى قدرة للّه. خلق الشمس، خلق الأرض، خلق القمر، خلق المجرّات، ولكنّه لم يفتخر بأيٍّ منها. خلق النجوم، نجومًا لم يروها حتى الآن، لقد خلقها. يريدون باستمرار أن يذهبوا ليروا أين نهاية هذا العالم؟ يا عزيزي، اجلسوا في أماكنكم، لن تجدوها؛ هؤلاء الحمقى يظنّون أنهم بهذه المادة يمكنهم الوصول إلى نهاية المادة؛ نهاية المادة! أينما ذهبت فستجد هناك مادّة أيضًا، فأين نهايتها؟! لا معنى لهذا السؤال. يقولون لدينا أربعمائة مليار مجرّة في هذا العالم، هذا طبعًا تخمين. الآن هكذا يقولون من باب الفرضيّة حاليًّا، وفي كلّ واحدة منها يوجد أربعمائة مليار نجم. اذهبوا إلى المنزل واضربوا [الأرقام] لتروا ماذا سينتج؟ ولكنّ الله لم يفخر بهذه أبدًا، لم يباهِ بها أبدًا؛ أما هذا الإنسان ذو القدمين الذي خلقه، هذا الشبر من القامة والارتفاع، هذا فقط! يفخر به على الملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}۱ إنّني أخلق نائبًا لي، أخلق خليفة. قوموا تعالوا وشاهدوا ما صنعت! قوموا تعالوا وانظروا! ما هذا؟ هذا هو مقام {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}٢. لقد علّم الله آدم عليه السلام الأسماء؛ أي كلّ الحقائق الوجوديّة العلميّة التي كانت في ذات الله تعالى، تلك الحقائق العلمية فُوّضت لهذا الإنسان. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي}٣، عندما عرضها على الملائكة، قال: تفضلوا! لماذا لا تقولون لي ماذا خلقت؟!
ـ يا إلهي، لقد خلقت كلّ هذا حتى الآن. {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}٤. هل تريد أن تخلق مرّة أخرى؟ أتريد الحرب من جديد؟! أتريد الجدال من جديد؟! أتريد الشجار من جديد ؟ أتريد أن تخلق الشكوى مرّة أخرى؟ يأتي الرجل إلى المنزل فتبدأ الشكوى: جئتَ متأخرًا، جئتَ مبكّرًا، اشتريت هذا، لم تشترِ ذاك، لماذا فعلت كذا؟ لماذا كذا؟ يا عزيزتي، انتقدي واشتكي قبل مجيئه، بحيث أنّه عندما يأتي زوجك إلى المنزل تكونين قد انتهيتِ من الشكوى، فلا تشتكي أمامه. قبل أن يأتي بخمس دقائق ابدئي بالشكوى مع نفسك ـ وهذا أمر ممكن ـ حينها ينتهي الأمر، فعندما يأتي قولي: السلام عليكم، أهلًا وسهلاً ومرحبًا؛ بهذه السهولة. والعكس صحيح أيضًا. فلا نذهبنّ إلى القاضي مع طرف واحد فقط، الحياة كلّها شجار وكلّها نزاع، فهل تريد يا إلهي أن تبدأ بالخلق مرّة أخرى وتخلق مثل هذه الأجيال التي كانت حتّى الآن وهذه الأمور؟! قال: «لا! هذا الجيل يختلف، هذا الخلق متفاوت، حسابه يختلف عن باقي الحسابات الأخرى؛ فهذا خليفتي». {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. من هنا يتّضح أنَّ الأجيال الماضية التي كانت شبيهة بالإنسان، كانت من ناحية الحقيقة العلميّة أدنى منّا، لم تكن جامعة [لصفات الله تعالى وأسمائه]؛ لأنّ مقام خلافة الله لهذا جُعل. {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}؛ الآن أريد أن أخلق خليفةً لي. {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. أنا أعلم شيئًا لا تعلمونه. أنت جبرائيل عليه السلام، فلتكن! لديك علم كثير جدًا، فليكن! ستوحي للأنبياء لاحقًا. الآن، أنت واسطة الوحي، أنت ملكنا المقرب، جلالك وعظمتك شملت كل عالم الوجود، كل هذا صحيح. أنت ميكائيل عليه السلام، أنت ملك الحياة، أنت عزرائيل عليه السلام، أنت مالك الممات، أنت إسرافيل عليه السلام، مالك الرزق، ولكن مع وجود كل هذا، {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. أنا أعلم شيئًا لا تعلمونه. ذلك الشيء الذي أعلمه أنا، هو أنّي علّمت هذا المخلوق أسمائي، الآن أولئك الذين يأتون ويقولون: المقصود بهذه الأسماء هو البرتقال والطماطم وما شابه ذلك. كيف يتوافق هذا مع هذه الحقيقة التي يخبر بها الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} كيف؟ فهذا الإنسان، إنسان يمكنه أن يتعلّم الكثير. يمكنه أن يتعلّم أسماء كلّ الفواكه، يمكنه أن يتعلّم أسماء كلّ المأكولات، كلّ الأشياء الموجودة في الدنيا، يمكنه أن يتعلّمها كلّها: الخبز، خبز البربري٥، خبز السنكك٦، الخبز المستدير، الخبز الطويل، الخيار، الطماطم، الباذنجان، الخضروات، البصل، البطاطس، الكوسى، يمكنه تعلّم كل هذه الأسماء، أنتم لا تعلمون ماذا خلقت؟ لقد خلقت إنسانًا كهذا. هل تعرفون؟ هل تعرفون هذه الأسماء؟ تعالوا لنرى يا جناب جبرائيل. هل تعلم كم نوعًا من الطماطم لدينا؟ هل تعلم كم نوعًا من الكوسى لدينا؟ لا والله، لم نأكل الكوسى حتى الآن؛ لنرى كم نوعًا منه يوجد؟
أيُّ معرفةٍ يباهي بها الله الملائكة؟ هل هي معرفة أحكام الطهارة؟
هؤلاء أفراد جاؤوا وحصروا مستوى معرفة الإنسان بالكوسى والطماطم. هذه هي القضيّة! أنا أعلم شيئًا لا تعلمونه، لدي علم بسرٍّ لا تعلمونه. فما هو؟ هو عبارة عن المعرفة! لقد وضعت في الإنسان معرفةً، معرفة ليست موجودة في أيِّ مكان آخر! لماذا؟ لأنّ حضوري بكلّ شراشر وجودي وأسمائي الكليّة قد تحقّق في هذا القالب. هذا المقام يصبح مقام خلافة الله. هذا هو المقام، الذي يليق بخلافة الله تعالى. طبعًا، بشرط أن يريد تحقيق هذا بالفعل، أن يشغِّل هذه القابليّة، أن يشغِّلها.
الشيخ محمد علي الكاظمي رحمه الله كان يقول: «ما الداعي لنا لقراءة التوحيد؟ لقراءة الفلسفة؟ لقراءة الحكمة؟ لنرى ما هو الله؟ هل هو رازق؟ هل هو قادر؟ أين مبدؤه؟ أين منتهاه؟ كيف هي أزليته؟ كيف هي أبديته؟ نحن لا نحتاج إلى هذا الكلام؛ كل هذا عبث ولغو. لماذا؟ لأننا عبيد. العبد يجب أن يطيع. أمّا من هو مولاه فليكن كيف شاء».
هل يكفي "دين العجائز"؟ نقد التقليل من شأن المعرفة بالله
لقد خلط بين الله تعالى وساعي البريد ؛ فساعي البريد يأتي إلى الباب ويعطي الرسالة، يرنّ الجرس ويعطي الرسالة، يقول: «يا سيدي، هل هذه الرسالة لك؟» تنظر وتقول: «نعم». لا شأن لك بما سوى ذلك. هل ساعي البريد هذا امرأة؟ رجل؟ خصيّ؟ كم طوله؟ كم شكله؟ هل هو قبيح؟ جميل؟ ماذا يفعل؟ يا سيّدي، خذ الرسالة ووقّع على هذا الدفتر أيضًا، وامض مصحوبًا بالسلامة؛ فلا شأن له بما سوى هذا. لقد خلط بين الله وساعي البريد. قال: «العبد، عمله العبوديّة؛ ما شأنه الآن بمولاه فليكن أيًّا كان. لا ينبغي أن يكون له شأن بذلك!» المعرفة التي يجب أن تكون لدينا تجاه الله، هي نفس المعرفة التي علّمونا إياها في الصف الرابع، روضة الأطفال ـ طبعًا نحن لم نذهب إلى روضة الأطفال، هذه الروضات الموجودة الآن ـ: «هذا البناء له بانٍ؛ هذا العالم أيضًا له إله.» هذا كل شيء! ماذا نريد أكثر من هذا؟ هذا كلّ شيء! هذا القدر يكفي لنصلي، لنصوم. ثم جاء أنبياء في النهاية لهداية البشر، ثمّ في العالم الآخر هناك عقاب وعذاب وكذا. حسنًا إذًا، إن لم نصلِّ فهذا المصير موجود أيضًا، والعقل يحكم بوجوب الطاعة والابتعاد عن المعصية، هذه هي نهاية معرفة السادة العلماء بالله تعالى، ثمّ ترى البقيّة يؤيّدونه أيضًا. ثمّ يأتي البقيّة أيضًا ويقولون: «ما شاء الله! يا له من كلام جيّد قد قاله، العبد لا شأن له؛ فليكن المولى أيًّا كان، بائع شمندر أو ذات الله تعالى، الذات اللامتناهية؛ فلا فرق عندنا، علينا أن نطيع فقط؛ فلا فرق إذًا.»
لماذا ندرس التوحيد والفلسفة؟ معرفة الله كتحقق وتخلق
يجب أن يقال له: «أنت الذي تقول، لا حاجة للإنسان بأن يجد معرفةً بالله تعالى، هل فهمت معنى المعرفة؟ هل تظنّ أنّ معرفة الله تعالى مثل اطلاع الإنسان على ما حدث في مدينة ما في الطرف الآخر من الدنيا؟ فلا علاقة للإنسان بها. علِم أم لم يعلم، إنّه سيّان. يقرأ الجريدة، يفتح الراديو: حدث زلزال في مكان ما من الدنيا، حسنًا، وما دخلي أنا بذلك؟ أو مثلًا لنفترض أنَّ قطةً في الطرف الآخر من الدنيا ولدت ثمانية توائم. حسنًا، هذا الأمر الآن ماذا يفيدني؟ أيُّ مشكلة يحلّ لي؟ هل ظننتم أنّ معرفة الله تعالى هي هكذا أيضًا؟ الآن الله لديه اسم "الحيّ الكليّ". حسنًا، فليكن. الله لديه اسم "القادر". الله أزليّ، الله أبديّ، كيف هو وجود الله؟ هل يوجد تقييد في ذاته؟ هل يوجد اختلاط؟ هل يوجد تركيب؟ هل يوجد؟ هذه أشياء معرفتها وعدم معرفتها لا علاقة لنا بها؛ الله في مكانه يمارس أُلوهيّته. الآن هل نعلم نحن أنّ الله مركّب أم لا؟ هل ذات الله بسيطة أم لا؟ لا يا عزيزي، معرفة الله تعني تحقّق الأسماء الكليّة للّه تعالى في وجود الإنسان والتخلّق بأخلاق الله؛ هذا هو معنى المعرفة يا عزيزي! الذي يسعى وراء الفلسفة والحكمة، يريد أن يصل إلى ذات الله وأسمائه وصفاته بمقتضى سعة وجوده، حتّى يطابق نفسه مع هذه الأسماء، لا أن يقرأ هكذا فقط. التوحيد يقوم بتقريب الإنسان إلى ذلك العالم، يخرجه من عالم الاعتبارات. العرفان يأتي ويصل قلب الإنسان بالملكوت، فلا يعود أحد يستطيع خداعه، تتّضح له حقائق العالم! أنت تشتري بيتًا تريد أن تعيش فيه، لمدّة ثلاثة أيّام كاملة، تأتي وتتفقّد هذا البيت. هل فيه رطوبة؟ هل لديه طابقٌ علوي، بيت من أربعة أمتار تريد أن تعيش فيه يومين، ولكنّك تريد أن تعرف كل شيء عنه. ذاك الذي يسعى وراء التوحيد يريد أن يطابق روحه التي هي روحٌ أبديّة وروح سرمديّة، مع السرمد والأزل المطلق! يُوافِقها معه؛ لهذا السبب يسعى وراء درس التوحيد. ذاك الذي يسعى وراء الحكمة والفلسفة، يريد من خلال الاطلاع على خصوصيّات عالم الوجود، أن يطابق نفسه مع تلك الحقائق. عندما يبحث عن علم الله تعالى، فإنّما يبحث ليعلم ما هو هذا العلم؟ من أين حقيقة العلم؟ حقيقة العلم مستندة إلى ذاته تعالى، كلّ علم موجود في أيِّ إنسان بصورةٍ جزئيَّة، هو بصورة كلّيّة في ذاته، وهذه الصورة الجزئية إفاضة لتلك الصورة الكلّيّة؛ لذا لا يعود بإمكانه أن ينسب هذا العلم إلى نفسه ويباهي به الآخرين؛ هذه هي النتيجة. ذاك الذي يسعى وراء الفلسفة يريد أن يرى القدرة في قدرة الله تعالى ويدركها، ويدرك هذه النقطة بروحه علمًا وعملًا، حتى يتنحّى هو نفسه عن استعراض القوة الذي يقوم به الآخرون بل ينسب هو القدرة إلى الله. ذاك الذي يسعى وراء الفلسفة والحكمة، يريد أن يدرك حقيقة الحياة؛ عندما يدرك أحدٌ حقيقة الحياة، لا يعود بإمكانه أنْ يُبقي نفسه بمعزل عن لوازم هذه المعرفة؛ يجب أن يلتزم بلوازم معرفته.
قصّة تقريظ كتاب: كيف يؤدّي الجهل بالتوحيد إلى الحسد وقطيعة الأستاذ؟
ما هي النتيجة؟ النتيجة هي هذه: تدرس سبعين عامًا، ولا تعلم عن الأسماء والصفات ومباني التوحيد بمقدار طفل في الخامسة عشرة؛ ثمّ عندما يأتي أحدهم ويكتب تقريظا، يغضب السيد لماذا؟ لأنّ أستاذه كتب تقريظا آخر مقابل تقريظه، فيذهب ويقاطع وليّ نعمته، فيذهب ولا يأتي إلى النجف طالما أستاذه ـ النائيني رحمه الله ـ حيٌّ. هذه نتيجة ماذا؟ نتيجة هذه المعرفة الناقصة. تفضّل! لو كنت درست الفلسفة والتوحيد، فهل كنت ستفعل هذا؟ حينها كنت ستدرك أنّ كل ما كتبته هو منه، ولم يكن منك. حينها كنت ستدرك أنّ هذه القدرة التي تدرك هذه الأمور، هي قدرة متعلّقة به عزّ وجل، وليست لك. حينها كنت ستعي أنّ كل إرادة تتحقّق في العالم مستندة إلى إرادته ومشيئته؛ فمن أنت؟! ومن هو زميلك؟! ومن هو أستاذك؟! ومن هو تلميذك؟! كلّكم في حالة واحدة؛ فلماذا لم تدرك هذا؟! لأنّك لم تقرأ الحكمة، لم تقرأ الفلسفة، بل حصرت نفسك في ذلك النطاق المحدود من العلم؛ ونتيجته هي أنّك خنت وليّ نعمتك وبعته بثمنٍ بخس وأهنت وأسأت الأدب ولم تتربَّ. الآن يجب أن تذهب إلى ذلك العالم وتجيب. عجبًا! لماذا كُتب تقريظ لتقريراتي، وكُتب تقريظ لتقريرات السيّد الخوئي أيضًا من قِبل النائيني رحمه الله؟! فمع وجودي أنا لماذا كَتب لغيري؟ كلّ هذا بسبب ماذا؟!
أيّها الشيخ، لأنّك لم تدرس التوحيد، اكتفيت بدين العجائز. لحيتك بيضاء، عمرك سبعون سنة تقريبًا، علمك كثير أيضًا. إنّنا نقبل بذلك! ولكن ليس لديك معرفة، ليس لديك أبدًا. وبما أنّه ليس لديك، فتحمّل النتائج. كَتب تقريظا فليكتب، ليكتب ألف تقريظ آخر، من أين أتيت بهذه العلوم؟ هل أتيت بها من بيت خالتك؟ من الذي أعطاك هذا الاستعداد؟ من الذي أعطاك هذه القدرة؟ من الذي أعطاك حدّة الذهن هذه؟ هل أتيت بهذه من بيت عمّتك؟ أم أنّ الله هو الذي أعطاك إيّاها؟ الله أعطاك الحياة، الله أعطاك الذكاء.
لماذا يعارض بعض العلماء العرفاء؟ صراع "الأنا" أمام حقيقة التوحيد
قال المرحوم العلامة: «هل تعلم يا سيد محسن لماذا يعارض هؤلاء العلماء العرفاء؟ لأنّ العرفاء يقولون: يا سيّدي، كلّ ما هو موجود فهو من الله؛ اجمعوا دكاكينكم وأجهزتكم واذهبوا لشأنكم!» فهذا له مدرسةٌ لنفسه، وذاك له مدرسةٌ لنفسه أيضًا. ذاك يقول تعالوا إليّ، وآخر يقول تعالوا إليّ. هذا أرسل رسالته العمليّة إلى الطرف الآخر من الدنيا، وهذا أرسل إلى الطرف الآخر! هاه! العرفاء يقولون: «يا سيدي، اجمعوا كلّ هذا الكلام. كلّه جاء من مكان واحد، والله أعطى هذا، هذا القدر، وأعطى ذاك، ذاك القدر؛ كلّكم على مائدة واحدة، فاتركوا هذا الكلام جانبًا، واجلسوا وتصالحوا مع بعضكم البعض، أصدروا رسالة عمليّة واحدة والسلام، انتهى الخطاب!» لماذا تضربون بعضكم البعض هكذا؟ نحن كذا، ونحن كذا، نحن الأعلم، فنحن كذا، الأفضل، نحن الأكرم، نحن الأرجح، نحن كذا، نحن، نحن. يا عزيزي، اتركوا هذه الـ «نحن». سيُحلّ الأمر؛ العرفاء يقولون هذا، يقولون: «يا عزيزي، كلّ شيء مستند إليه تعالى؛ أين ذهب هذا المسكين؟» لماذا وضعتم ذلك الإله المسكين جانبًا؟ أنتم نسبتم كلّ شيء لأنفسكم، نحن؛ تعالوا، تعالوا إلى هنا، لا تذهبوا إلى هناك، لا تذهبوا إلى منزل السيّد فلان، تعالوا إلى هنا، إلى هنا! لا تبخلوا علينا بدفئكم، اجعلوا مجلسنا مزدهرًا؛ هذا هو الوضع عند الجميع الآن، الجميع، وكلّ أصحاب المهن هم هكذا. ألا ترون هذا في الأطباء؟ ألا ترونه في المهندسين؟ ألا ترونه في أصحاب المتاجر؟ صاحب المتجر ذاك الذي يقوم ويأتي يعرض بضاعته أمامه، ماذا يعني؟ يعني لا تشترِ منه، تعالَ واشترِ مني! هذا معناه، أليس كذلك؟ ذلك المهندس الذي يضع لافتة. لا أعلم، المهندس المعماريّ كذا وكذا وكذا. معماري وفني وبنّاء و... ماذا، ماذا؟ [يكتب]سطران [موضّحًا عن نفسه]. ماذا يعني هذا؟ أي تعالوا إليّ، أحضروا مشاريعكم إلى هنا، أحضروا المال إليّ، تعالوا إلى هنا وحاسبوا، تعالوا إلى هنا. حينها ماذا يصبح؟ يصبح كل العالَم ضربًا ومشاكل وتعاسة، هذا يضرب ذاك وذاك يضرب هذا والله في خضمّ هذا ذهب ينحّى جانبًا! الله في خضم هذا تعطل عن العمل. هل حدث مرّة ـ فرضًا ـ أن جاء أحدهم ليشتري شيئًا، فيقول له الإنسان: «يا عزيزي، اذهب واشترِ هذا الشيء من ذاك الدكّان؟» هل فعل بقّال هذا حتّى الآن؟ «يا سيّدي، اذهب واشترِ هذا منه.» «يا سيّدي، أليس لديك؟» «لدي. ولكن الآن اذهب واشترِ هذا منه، لوجه الله.» لا! وإن قلنا: «يا سيدي، أين يوجد هذا الصنف؟» يعلم أن المتجرين التاليين لديهما ولكنّه يقول: «لا أعلم!.» «لا يوجد هنا أصلًا. يجب أن تأتي وتبحث الآن ـ وما شابه ذلك من الكلام ـ الآن خذ هذا بدلًا منه.» الآن المتجران المجاوران لديهما، ولكن «الآن خذ هذا بدلًا منه!». هذا بسبب أنّ ذلك الأصل والمنشأ قد ذهب جانبًا، جئنا نحن وجلسنا مكان ذلك المنشأ نقول: «نحن». حسنًا، ما نتيجة هذه المعرفة؟!هذه هي النتيجة.
المعرفة أم الاكتفاء بالظاهر؟ كيف يكمل العلم العبودية؟
أما لو كنت ذهبت بدلًا من كلّ هذه الدقّة في علم الأصول، ثلاث سنوات، أربع سنوات، خمس سنوات، وأخذت بقراءة مقدارٍ من هذه العلوم، ومن هذه المسائل، لانفتح فهمك قليلًا على الأسماء الإلهيّة، وعلى الصفات الإلهيّة، وعلى المعارف، وعلى المباني. لأدركت قليلًا ،أنّه يا عزيزي، ثمّة حسابات أخرى لا تراها. حينها ماذا تصبح النتيجة؟ أن لا ترتكب هذه الأعمال، أن لا تحدث هذه القضايا. ذاك الذي يقول: «ما شأن العبد بالمولى؟» ألا يعلم أنَّ مقدار قرب العبد ونزوله من المولى يتحدّد بحسب مقدار معرفته بالمولى؟! ذلك العبد الذي لديه معرفة وإدراك أكبر بالمولى، هو أقرب وأكثر قربًا عند المولى، وهو صاحب السرّ. والذي ليس لديه المعرفة، ليس كذلك. وهذه الدرجات التي نُقلت للأفراد ـ كلّ هذا في الروايات ـ هل يعطونها فقط بهذا المقدار من المعرفة؟ أم أنّ المسألة في مكانٍ آخر، الأمر في مكانٍ آخر؟
ذاك الذي يحرم نفسه من العلم مريض. جوهر وجود الإنسان هي كونه طالبًا للعلم النافع. العلم الذي يوصله إلى الكمال، يكون ذا منفعة له. الآن يجب أن يُسأل مثل هؤلاء: ـ هؤلاء الذين يقولون لا حاجة إلى الفلسفة ـ هل الاطّلاع على الحقائق والأسماء الإلهيّة ـ لا في عالم الاعتبار، بل بالتعقل والتأمّل والبرهان ـ هل يضيف إلى معرفة الإنسان أم لا؟ إن أضاف، ف هذه الإضافة في حدّ ذاتها كمال. فأيّ جواب لديهم ليقدّموه؟ هذا العلم معناه الكمال! ومن يستطيع أن يمنع الكمال؟! من يستطيع أن يمنع الكمال؟! ألا نراعي نحن هذا نفسه في المباني، وفي الأصول والفقه؟ لماذا لا ينجز الإنسان في عامين ما يقضيه في عشر سنوات. لنفترض في علم الأصول من باب المثال؟ لماذا؟! يقرأ المسائل نفسها بالإجمال. لماذا؟ لابدّ أنّهم يجيبون: كلّما أصبحت أقوى في المباني، يمكنك أن تصبح أقوى في استنباط الفروع والأحكام، يمكنك أن تجد اطّلاعًا أكبر على خصوصيّات مذاق الشارع في الأحكام، يمكنك أن تكون معلوماتك أوسع حول المصالح والشروط، شروط تحقّق الموضوع في القضايا المختلفة. حسنًا، فلماذا لا تقولون هذا الكلام بعينه بخصوص المعارف الاعتقادية؟! لماذا لا تقولونه بخصوص هذه؟! أن يتعرّف الإنسان على علم الله بصورة علم ظاهري، هذا أهمّ، كعلم جزئيّ، أم أنه بواسطة التعلّم يفهم أيّ مراتب لعالم العلم وهذا الاسم الأعظم، وأيّ مدى له، وأيّ سعة له، وأيّ مراحل له، وأيّ مراتب وجوديّة له؟ أيّهما أعلى؟! وأيّهما أكثر إعجابًا للإنسان؟! وأيّهما سيوجب توجّه الإنسان؟! أيّهما يوجب التوجّه؟ كلّما ارتفعت معرفة الإنسان، ارتجف بدنه أكثر من القيامة. ارتجف بدنه أكثر من الحساب والكتاب، وسعى وجدّ أكثر نحو التقرب من الله تعالى.
لماذا يسلم الناس؟ نقد حصر جاذبية الدين في الفقه دون العقائد والبرهان
إذًا، كلّ هذا باطل. سمعت أنّ أحد علماء قم ذهب إلى العراق ـ فقال له أحد علماء العراق في حديثه معه وقد أراد أن يحثّه على ضرورة العمل أكثر في الفقه، و مسائل الارتباط بالناس فقال له: «يا سيدي، الناس لم يُسلموا بسبب الفلسفة والعرفان وهذه الأمور العقليّة؛ الناس أسلموا بسبب الفقهاء والفقه وهذه الأمور واتجهوا إلى الدين». يجب أن يقال له: «من تقصد بهؤلاء الناس؟ هل هم بائعو الشمندر؟ هل هم القصّابون؟ الذين لا يميزون الهر من البر؟ هل هؤلاء هم؟! حسنًا، دين هؤلاء لم يكن له فائدة من البداية أصلًا، وليس ذا شأن كبير. فلماذا تهتمّون بهؤلاء ؟ حسنًا، هؤلاء ليسوا هم الأساس، ليقول إنّهم أسلموا بسبب هذه الأمور، هؤلاء هم الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وآله يتبعون النبي صلّى الله عليه وآله، وعندما مضى النبي صلّى الله عليه وآله، اتبعوا أبا بكر؛ هؤلاء هم أنفسهم. إن كنتم تقصدون الأفراد ذوي الفهم، فهؤلاء لم يأتوا ليتديّنوا بمسائل الطهارات والنجاسات، هؤلاء جاؤوا من أجل المسائل الاعتقاديّة والبرهان وهذه الأمور. الآن في يومنا هذا، من هو الذي يأتي إلى الدين بدافع من مجرّد هذا المظهر الخارجيّ وهذه العمامة والقباء وهذه الأمور؟! الآن في يومنا هذا، الدنيا، دنيا الاعتقاد، دنيا المنطق، دنيا البرهان، دنيا الفلسفة، دنيا الاحتجاج. انتهى وقت ذلك الكلام، كان للأربعمائة عام الماضية. اما الآن فلم يعد هذا الكلام مهمًّا. الآن أنت نفسك لم تقرأ الفلسفة وأنت محروم من هذه المسألة. نعم! هذه العلاقات، العلاقات بالعوام، نقبل بها. هذه العلاقات بالعوام والأفراد وهذه الأمور هي جيّدة. ولكن هل يمكنك أنت أن تجيب بنفسك عن شبهة واحدة من الشبهات المعاصرة تجاه المعتقدات؟ أم تلجأ إلى أهلها؟ حيث يكون الدين في خطر. أين يكون في خطر؟ هل يقع الدين في خطر في دين القصّاب والبقال أم في المسائل الاعتقادية؟ في أي موضع ؟ ثم نأتي نحن ونرجّح ونفضل المسائل والأحكام الظاهريّة على العلوم والقواعد العلميّة والاعتقاديّة؟ فكم نحن بعيدون عن المرتبة الرفيعة؟! كم نحن بعيدون عن تلك المرتبة؟!
ظاهر الشريعة وباطن الحقيقة: هل تتعارضان أم تتكاملان؟
تلك المعرفة التي يتباهي بها الله تعالى بالإنسان أمام الملائكة. أيّة معرفة هي؟! معرفة أنّ العشرين غرامًا من الذهب، كم مثقالًا هي زكاته؟ هل هذه المعرفة؟ أم أنّه لو وقعت ميتة في بئر، فكم دلو ماء ينزح منها؟! هل هذه هي المعرفة التي يباهي بها الله؟ أو أنّه هل يمكن الاستنجاء بالثوب البالي أم لا؟ الآن سواء كان ذا أطراف متعدّدة أم طرفين...، هل هذه هي المعرفة التي يباهي بها الله الملائكة؟ يقول: «هذا الإنسان يصل إلى مقام لا تعلمونه». «هذا الإنسان يصل إلى مقام يعلم أنه لو تنجس مكان ما فيجب أن تصبّ الماء ثلاث مرّات، أو مرّتان تكفي أيضًا»؛ يا له من مقام يا سيدي! لا يوصف أصلًا! يا له من مقام عظيم هذا الذي لا يعلم جبرائيل عليه السلام أيضًا هل يتطهّر هذا بقدحين من الماء أم لا؟ ما هذا يا سيّدي؟! هذا ابتعاد عن أصل الموضوع؛ هؤلاء السادة ابتعدوا عن المسألة، وسلكوا الطريق الضّال. نعم! مراعاة أحكام الشرع لازمة وضروريّة، ومن كان لا يبالي بأحكام الشرع، فلا مكان له في العرفان والتوحيد. على الإنسان أن يراعي الأحكام بدقّة وكمال؛ لأن هذا الطريق، طريق الوصول إلى الباطن، لا بدّ من حفظ الظاهر أيضًا. فالشيء النجس فيه كدورة؛ والإنسان الذي يريد أن يجد طريقًا إلى الحقيقة والباطن، يجب أن يكون ظاهره أيضًا طاهرًا. لا شكّ في هذه المسألة! لو لم تزيلوا الآفات عن ظاهر الفاكهة والشجرة، لسرَت هذه الآفة وأتلفت اللب أيضًا؛ خلافًا لهؤلاء الذين يقولون: ما هو الظاهر وهذه الأمور؛ هذه ألعاب الدراويش المزيفين والصوفيّة المزيفيّن والمنافقين الذين يأتون ويرفعون ظاهر الشرع للفرار من التكليف واللجوء إلى كل تفلّت ولا مبالاة وقذارة. لا! أبدًا، كان العرفاء وأولياء الله أقوى وأدقّ من الذين يدّعون الفقه والفقاهة في العمل بالظاهر، وما زالوا كذلك. كانوا أدقّ! ولكنّ الكلام هو: أين المعرفة؟! هل المعرفة محصورة في الأحكام؟ أم أنّ المعرفة موجودةٌ في الحقيقة والباطن وتلك المراتب العالية للتوحيد؟
لقد مضى الوقت هذه الليلة أيضًا وانتهى الكلام. ولكنّ الموضوع لم ينتهِ بعد؛
مجلس تمام گشت و به آخر رسید عمر | *** | ما هنوز اندر وصف تو ماندهایم |
انتهى المجلس ووصل العمر إلى آخره *** ونحن ما زلنا في وصفك حائرين
إن شاءالله، إذا وفقّ الله، تتمّة الكلام للّيلة القادمة. إن شاء الله.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.