المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1427
التاريخ 1427/09/08
التوضيح
كيف تكون المعرفة دليلًا إلى الله؟ وما هو الدور المحوري للمحبة في القرب منه تعالى؟ ولماذا يُركّز الإمام السجاد عليه السلام على الحب كوسيلة للشفاعة بدلًا من العمل والعبادة رغم أهميتهما؟ وهل يكفي مجرّد الإيمان دون عمل؟ تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة وتُبيّن أهمية تركيز السالك على هدف واحد وعدم الالتفات إلى وساوس أهل الدنيا، وتُسلّط الضوء على نورانيّة كلام أهل البيت عليهم السلام مقارنة بكلام غيرهم.
هو العليم
مقام المعرفة والمحبة في وصول الإنسان إلى المقصد
لماذا الحب شفيع الإنسان إلى الله لا العبادة؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۷ هـ - الجلسة الخامسة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
وصلَّى اللهُ على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسمِ مُحمَّدٍ
وعلى آلِهِ الطيّبينَ الطاهرينَ واللعنةُ على أعدائِهم أجمعينَ
«مَعرفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ وحُبّي لَكَ شَفيعي إلَيكَ وأنا واثِقٌ مِن دَليلي بِدَلالَتِكَ وساكِنٌ مِن شَفيعي إلى شَفاعَتِكَ»
معرفتي يا مولاي ويا سيّدي، هي دليلي ومُرشِدي إليكَ، ومحبّتي وتعلّقي القلبي هو شفيعي إليكَ، وأنا واثقٌ تمام الثقة من أنَّ هذا الدليل والمرشد سيوصلني إلى المقصد، وأنا في طمأنينة ضمير وسكون خاطر من أنَّ هذا الشفيع سيكون سبب شفاعتي عندكَ. هذا كلام الإمام السجاد عليه السلام.
أهمية المعرفة وضرورة التركيز على الهدف
حسنًا، لقد تحدثنا في الجلسات السابقة عن مسألة المعرفة وقدّمنا للرُّفقاء بعض الكلام مُفاده أنَّ المعرفة هي الوسيلة الوحيدة التي توصل الإنسان إلى المقصد والمطلوب، وللوصول إلى أي مطلوب لا بُدَّ من المعرفة المتعلّقة بذلك الشيء نفسه. فمَنْ يختار تخصّصًا لا يمكنه الجلوس في صفٍّ آخر، بل يجب أن يجلس في الصف نفسه المخصّص لهذا الفرع. وإذا أراد أحدٌ أن يكتسب معرفةً بالعلوم الظاهريّة والعلوم الماديّة، فعليه قراءة الكتب المتعلّقة بهذه العلوم، ولا يمكنه أن يذهب ويقرأ علم ما وراء الطبيعة على سبيل المثال. ومَنْ يريد أن يصبح طبيبًا لا ينبغي أن يجلس في صف الهندسة المعمارية؛ فالأخير يتحدث عن الحجر والجص والاسمنت والحديد وكيفيّة البناء والخرائط والأسس، بينما الأول يتحدّث عن الجسم وأمراضه والصحّة والسلامة والمشاكل التي تواجه الجسم وكيفيّة العلاج. فكلّ واحدة من هذه الأمور هي مقاصد مختلفة، والطريق لتلك المقاصد أيضًا مختلف، وليس واحدًا. وكذلك العلوم الإلهيّة لها طريقها الخاص. فمَنْ يريد أن يتّجه نحو العلوم الإلهيّة ويحصّل لنفسه تلك الكيمياء النادرة، يجب ألّا يلتفت إلى هذه العلوم مثل الهندسة والطبّ والعمارة والرسم والحدادة والخبازة وغيرها. هذه علوم تتعارض مع تلك العلوم الإلهيّة، وعليه أن يحصر ذهنه وفكره في ذلك العلم حتى تتمكّن نفسه من نيل الحظ الكافي منه. هذه مسألة لا ينتبه إليها أحد. يقول البعض: نحن ندرس هذه العلوم وإلى جانبها ندرس هذا العلم الآخر أيضًا؛ فلا يستفيدون لا من ذاك ولا من هذا. النفس لكي تستفيد من علمٍ ما، يجب أن تكون كلّ حواسّها متوجّهة إليه. فهل تفهمون ما أريد أن أقول!
ضرورة تركيز الذهن في طلب العلوم الإلهية
مَنْ يريد أن يُدخل الله تعالى في قلبه، ويدخل أسماء الله تعالى وصفاته، ويطّلع على آثار الذات، ويكتسب معرفةً بالمبدأ والمعاد والولاية والنبوّة وبعثة الرسل وإنزال الكتب، يجب أن يركّز كلّ ذهنه في ذلك المسار ليتمكّن من تحصيل الحدّ الأعلى والأكمل من هذا العلم. فإذا انشغل بقراءة ودراسة هذا العلم وقال إلى جانبه: لنقرأ درسًا آخر الآن، فكلا! لا فائدة من ذلك، بل سيكون مجرّد محفوظات تدخل ذهنه، ولن تستقرّ هذه العلوم في روحه بعد ذلك. استقرارها في الروح شيء آخر. مسّها ولمسها بالوجود أمر آخر. قد يجلس الإنسان في عشرة صفوف في الجامعة: صف الرياضيّات، وصفّ الكيمياء، وصف فنّ الدمى المتحرّكة والمسرح، وصفّ الحدادة والنجارة. يمكن للإنسان أن يجلس في كلّ هذه الصفوف ويكتسب من كل منها بعض المعلومات وبعض الأشياء. أما مَنْ يريد أن يجلس في صف العلوم الإلهية، فيجب أن يركّز كلّ حواسه حتى يأتي شيء آخر إلى قلبه غير المحفوظات الموجودة في الكتب؛ هذا هو مقصدي. غير هذه المحفوظات، غير هذه الصيغ، غير هذه القوانين، غير هذه الأصول، غير هذه الأمور والكليّات الموجودة، يجب أن يأتي شيء آخر هو الذي يحفظ الإنسان ويثبّته في الحوادث، لا هذه المحفوظات. هذه المحفوظات مثل سائر المحفوظات. نعم، لها قيمة أعلى، وهذا مصون في مكانه، ولكن ذلك الجانب الباطني وذلك النور والروح الذي يأتي من قِبَل هذه العلوم - فهذه علوم لم تخرج من فم باستور وإديسون! هذه علوم جاءت على لسان الإمام السجاد عليه السلام، جاءت على لسان الإمام الباقر عليه السلام، جاءت على لسان الإمام الصادق عليه السلام، نفوس مطهّرة قدسيّة، لا من أفراد مثلي. حتّى لو قلنا نحن أمرًا، ومهما أضفينا عليه من ألوان وزخارف، ومهما راعينا سجعه وقافيته، فهو وليد تفكيرنا وخيالنا النازل. فالرواية التي يقولها الإمام السجاد عليه السلام أو الإمام الرضا عليه السلام، تختلف كثيرًا عمّا أقوله أنا ولو قلت الكلام نفسه، والفرق بينهما كالفرق بين الأرض والسماء. هناك فرق شاسع. لماذا؟
كلام أهل البيت عليهم السلام ونورانيته
قصة دعاء "يا مقلب القلوب" ونهي الإمام الصادق عليه السلام عن الإضافة فيه
بالمناسبة، كنت اليوم أطالع كتابًا، وبالصدفة وقعت عيني على رواية تتعلّق بقضيّة ما، ببحث كنت أدرسه. رأيت رواية عجيبة! رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «في آخر الزمان، الزموا هذا الدعاء دائمًا»، وهو: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». في بدايته بضع جمل ثمّ هذه العبارة: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». فمَنْ يقرأ هذا الدعاء - وعادةً ما كان الأفراد يقرؤونه بعد الصلاة كما أتذكّر، من ضمن التعقيبات كانوا يقرؤون دعاء الإمام الصادق عليه السلام هذا - فإنَّ الله تعالى يحفظ له دينه. سأبحث عنه غدًا إن شاء الله، وفي ليلة الغد إذا وفّق الله سأذكر هذا الدعاء. أو إذا وجده الرفقاء فليأتوا وينقلوه، وأنا أيضًا سأنقله. فالرواية بهذه الكيفيّة: «يا مقلب القلوب» بعد بضع جمل «ثبت قلبي». يقول الراوي: يا ابن رسول الله، نضيف أيضًا "والأبصار" فتصبح: يا مقلب القلوب والأبصار! يقول الإمام عليه السلام: «قل كما أقول»۱ ولا تضف، فأنا الإمام الصادق أعلّمك، فكيف تتجرّأ وتضيف! مَنْ أنت لتضيف؟! أنا أقول قل هذا، وأنت تقول أنا أضيف هذا؟ هذا لا يجوز! هذا يصبح دعاءً من عندك! دعاء من جيبك، ربما في نطاق أوسع قليلًا، أعلى أو أدنى قليلًا! هذه الأدعية تختلف قليلًا عن الدعاء الذي يأتي من مقام الطهارة القدسيّة ومقام عرش الله تعالى. فرق بسيط...! ذاك كلام الإمام الصادق عليه السلام، وهذا كلامك أنت. وقد كان إنسانًا عاديًّا. هناك في الإعلان نوعان: إعلان روائيّ عن سيد الشهداء عليه السلام، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن الإمام الهادي عليه السلام، وإعلان آخر هو كلام جيّد، ناصح، موعظة، نصيحة، من شخص عظيم. نرى أنَّ الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض. ما دام الأمر كذلك، فلماذا نأتي نحن ونقول كلامًا من عند أنفسنا؟! لماذا لا نأتي بكلمات أوليائنا ونعلنها ونجعلها شعارًا للمسلمين؟ ماذا ينقصنا؟ هناك من الروايات عن الأئمة المعصومين عليهم السلام في مختلف المسائل ما يكفي ويزيد عن حاجتنا، فلا حاجة لنا ولأمثالنا أن نأتي ونخترع أمورًا، ونقدّم هديّةً أو تحفةً أو شيئًا جديدًا أو مسألةً جديدةً. في الصلاة لدينا الكثير من الروايات عنهم، وفي الحج كذلك، وفي الخمس والزكاة كذلك، وفي الجهاد في سبيل الله لدينا عنهم ما يزيد عن حاجتنا. ثمّ نقوم ونستعرض عضلاتنا ونقول شيئًا من عندنا أيضًا! لا! من الأفضل أن نراعي حال أنفسنا وألّا نكشف الضمائر والسرائر أكثر من هذا! كلّ ما هو موجود فهو من هناك، وكلّ أمر هو من هناك، جاء من هناك. يقول الإمام الصادق عليه السلام: «قولوا ما أقوله أنا». أنا أقول «يا مقلب القلوب»، ونحن لكي نجعله أجمل قليلًا نضيف إليه "والأبصار" لتصبح العبارة أجمل ويكون سجعها وقافيتها أفضل! هل هو شعر يا عزيزي! هل هذا مقام الشعر والخطابة؟!
شرط تلقي نور كلام الإمام عليه السلام: الانقطاع إليه
مَنْ يريد أن يقرأ كلام الإمام الصادق عليه السلام، لا ينبغي أن يكون في ذهنه أنه قد يكون هناك شيء آخر إلى جانبه، فنلقي نظرةً هناك لنرى هل قال أحد آخر شيئًا أم لا؟ بمجرّد أن يأتي هذا الخيال إلى الذهن، يخرج نور كلام الإمام الصادق عليه السلام! يخرج! لو قرأت هذا الدعاء عشر مرّات فلن يكون له فائدة بعد الآن، لا فائدة! لماذا؟ لأنَّ القلب انصرف. القلب يتلقّى نور الله تعالى عندما يعلم أنه فقط عن طريق الإمام الصادق عليه السلام ولا غير! هذا كلّ شيء! حينها يتلقّى نور الله تعالى، حينها يؤثّر ذلك الكلام في روحه. ولكن بمجرّد أن يتصوّر أنّه ربما فلان الشيخ قد ذكر دعاءً جيّدًا أيضًا في هذا المجال، فلنذهب ونطّلع عليه أيضًا، ربما يكون هناك أمر آخر...!. لقد أفسد نفسه، أفسدها أيّما إفساد؟ فسدت، لماذا؟ لأنَّ تأثير الدعاء هو تأثير من عالم الروح والمعنى ومن عالم الطهارة، ولا يمكن لأحد أن يستجلب الطهارة إلّا إذا كان هو نفسه مطهّرًا، قد بلغ مقام طهارة الذات. طهارة الذات! لا في مقام الفعل. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}۱ كلّ شيء يكمن في كلمة "تطهيرا" الأخيرة. لقد تعلّقت الإرادة والمشيئة الإلهيّة بأن يوصلكم إلى مقام طهارة الذات، أعلى من جميع الأنبياء، أنتم الأربعة عشر معصومًا، يوصلكم إلى مقام طهارة الذات؛ تلك "تطهيرا" هي لإفادة هذا الغرض. قد يحسن الإنسان عمله؛ عندما يريد أن يتوضّأ، يتوضّأ جيّدًا، يستخدم حوضًا - كما ذكرنا قبل بضع ليالٍ - حوض ماء، كرٌّ لا يكفي، يصب طنًا من الماء لوضوء واحد، فهل يمكن أن يكون هناك وضوء أفضل من هذا؟ قال أحدهم: أنا أذهب وأغتسل صباحًا وظهرًا وعصرًا! قيل له: أخشى أن تصبح أنت نفسك ماءً! ناهيك عن استهلاك الماء، أنت نفسك تذوب! أن يستخدم الإنسان طنًّا من الماء للوضوء، تمامًا كالموسوسين! هؤلاء المساكين! أن يستخدم طنًّا من الماء للوضوء، فبحسب الظاهر لا يوجد عند الناس أفضل من هذا! لقد وصل الماء إلى كلّ مكان، حتّى تحت الأظافر وكلّ مكان! قد يأتي إنسان يا سيدي ويقرأ لك الفاتحة والسورة بحيث لا يستطيع أي إمام جماعة في السعوديّة أن يقرأها، ينطق بحرف العين بصوت...! ينطق الغين والصاد والضاد وما إلى ذلك، قد يفعل ذلك. حسنًا، الجميع يقولون...! بل قد يأتي إنسان ويزيد قليلًا، يزيد من توجهه في الصلاة، يزيد من إخلاصه، مهما فعل، فكلّ هذه الأمور هي أمور في عالم الفعل وفي عالم المثال، ولكن في مقام الذات، طهارة الذات هي طهارة بحيث أنَّ الإنسان سواءٌ شاء أم أبى، أراد أم لم يرد، لا يكون في قلبه إلّا ذات الله تعالى ولا يوجد غيره ليزيله، ذلك هو مقام طهارة الذات. كأنَّ الله تعالى المتجسّد هو الذي يصلي، الله المتجسّد هو الذي يصوم، الله المتجسّد هو الذي يحجّ. فماذا يريد الإنسان أن يخرج من ذهنه بعد؟ هل هناك غير الله لتريد إزالته؟! لتريد إخراجه من ذهنك؟! هل هناك مكان لغير الله حتى تكون في مقام المراقبة؟ لمن يتأتى مثل هذا الأمر؟ هذا يختصّ بالأربعة عشر معصومًا عليهم السلام. حينئذ يقول الإمام الصادق عليه السلام: «قل هذا»، وأنت تريد أن تضيف "الأبصار"؟ تبًا لك! ماذا تريد أن تضيف؟ كأنَّ الله نفسه يقول قل هذا، وأنت تقول أنا أفهم أفضل من الله؟
أهمية تطبيق النصائح على النفس ومخاطر وساوس أهل الدنيا
تطبيق النصائح على النفس أولًا
ما أريد أن أعرضه على حضراتكم وأؤكد عليه هو لكي نهتمّ بأمورنا نحن!. كان المرحوم العلامة يقول: السالك الذكيّ والسالك الماهر هو ذلك السالك الذي كلما قيل أمر يأتي أولًا ليطبقّه على نفسه، لا أن يلتفت يمينًا ويسارًا وإلى هذا الطرف وذاك!. لا! بل يذهب أولًا ليطبّقه على نفسه، لا أن يصرف فكره ويمرّ متسلّلاً، فيقول: مقصود السيّد إنسان آخر، مقصود السيّد فلان، ليس نحن، نحن والحمد لله قد بلغنا مقام الطهارة العظمى! لا! فعندما كان المرحوم العلامة في محضر المرحوم السيد الحداد - وكنت أنا شاهدًا بنفسي - كانت كلّ حواسه مركزة فيه. عندما كنت ألاحظ كيفيّة جلوسه مع أساتذته وأساتذة العرفان، كنت أرى أنه يأخذ الأمر ليس فقط من الكلام، بل من إشارات العين والحاجب وحركة اليد وغيرها! يأخذ الأمر ويعمل به! يطبّقه، حسنًا، لم يصبح فلانًا الفلاني عبثًا، فهناك حساب وكتاب في النهاية. كان يعمل.
ضرورة التركيز على الهدف في السلوك
بناءً على ذلك، مَنْ يريد أن يتّجه نحو الله تعالى والعلوم الإلهيّة يجب أن يركّز كلّ قواه وذهنه وتوجّهه وحاجته واحتياجه واستعداده في هذه النقطة. وإلّا فسيكون نصيبه قليلًا؛ لا أنه لا نصيب له، لا! نصيبه قليل. حسنًا، لماذا يقلل الإنسان نصيبه؟ لماذا؟ لماذا يفعل الإنسان شيئًا ثم بعد ثلاثين عامًا يقول: يا للأسف؟ لو لم تقل هذا "يا للأسف"، وفعلت شيئًا بحيث لا تصل القضيّة بعد ثلاثين عامًا إلى قول "يا للأسف".
نورانية كلام أهل البيت عليهم السلام وظلمانية غيره
العلوم التي تأتي من أهل البيت عليهم السلام فيها نور. هي محفوظات كسائر المحفوظات؛ سواءٌ حفظت روايةً أو حفظت شعرًا فاحشًا، كلاهما يشغل جزءًا من ذاكرتك، بضعة بايتات من ملفّ الذاكرة هذا تَشغل، بمقدار ما، هذا يتعلق بالمحفوظات، أمّا تلك الرواية التي تأتي من الإمام عليه السلام، فتلك الرواية فيها نور. وذلك الشعر الفاحش من ذلك الشاعر الفاسق الفاجر وأهل الدنيا فيه ظلمة! عندما تحفظ شعرًا، تكتسب ظلمةً، وعندما تحفظ أغنيةً، تكتسب ظلمةً، وعندما تستمع إلى القرآن، تكتسب نورًا، وعندما تستمع إلى الموسيقى، تكتسب ظلمةً. كلاهما صوت؛ ذاك صوت يجلب النور. الظلمة لا تتنافى مع النشاط؛ يقولون: نحن نستمع إلى الموسيقى فنشعر بالنشاط. لا يا سيدي! ذلك النشاط هو نشاط شهواني. الموسيقى حرام، حرام ولا رجعة فيه. ما حرّمه الله يجلب الظلمة. الرواية التي يقولها الإمام عليه السلام، بمجرّد أن نقرأ هذه الرواية، نهتزّ؛ هذا هو النور الذي أصابنا. بمجرّد أن نطالع روايةً، نشعر بتغيير محسوس في الضمير وفي النفس وفي الوجدان؛ هذا هو النور. {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}۱. هذا هو، هذا جاء من هناك. لكن أحيانًا نأخذ هذا النور ونحتفظ به ونحافظ عليه ونستضيفه ونكرمه، وأحيانًا يصيبنا هذا النور ثم بعد خمس دقائق أو عشر دقائق، ننساه ونودعه طيّ النسيان.
كفاية المعرفة الموجودة إن لم تُشغل بالدنيا
يقول الإمام السجاد عليه السلام: معرفتي ـ وقد ذُكر ليلة البارحة أنَّ المقصود بالمعرفة التي يقولها الإمام عليه السلام هي تلك المعرفة الخاصّة بحضرات المعصومين عليهم السلام والأولياء الخاصّين بالله تعالى، أمّا تلك المراحل الدنيا من المعرفة فهي تخصّنا نحن. نحن لا نستطيع أبدًا ولن ندّعي أنَّ تلك المعرفة التي للإمام السجاد عليه السلام توجد فينا. ولكن كما قيل، من جهتين: أولًا، نعلم أنَّ الكلام الذي يقوله الإمام السجاد عليه السلام هو كلام تامّ، المسألة منتهية، إذن هناك شيء ما. ثانيًا، هذا المقدار من المعرفة الذي نشعر به حتّى في أنفسنا يكفي أيضًا. إذا لم نخدع أنفسنا بالدنيا والأمور والأهواء الدنيئة، ولم نخلق لأنفسنا انشغالًا وانصرافًا، ولم نشغل أنفسنا بالأمور الصارفة والمعيقة، فإنَّ هذا المقدار من المعرفة الذي لدينا يكفي. ألّا نصغي لكلام هذا وذاك، وألّا نلتفت إلى نقنقات الآخرين ووساوس خنّاسي الإنس والشياطين، وألّا نلتفت إلى الأمور الدنيويّة، فماذا يحدث؟ للإنسان...
قصّة تأثّر إنسان بوساوس الأرحام وانصرافه عن الطريق
قبل فترة، طلب أحدهم منّي التحدّث والمذاكرة ومناقشة بعض الأمور. كنت أعلم أنَّ هذه الأمور تتطلّب أهلًا لها، فليس كلّ أحد يستطيع تحمّلها، فكنت أتهرّب وأتهرّب حتّى قبلت بسبب إصرار البعض وميله هو، وعقدنا بضع جلسات للتحدّث وشيء من هذا القبيل. حسنًا، حدثت تغيّرات وظهرت أمور وحالات وميول لديه. بعد فترة من هذه القضيّة، ذهب هذا المسكين إلى مكان ما، فأحاط به بعض أرحامه وقالوا له: هذه الأعمال هي أعمال دروشة وتصوف وانعزال وانفصال...! هل فكّرت في زوجتك وأولادك وهذه الأمور؟ وحاله ليس سيئًا بالمناسبة، هل فكّرت في زوجتك وأولادك و...؟ هؤلاء يريدون الدنيا ويجب تأمين مستقبلهم، وهذا الوضع الذي اتخذته سيدمّرك، وفلان كان كذا، وفلان الشيخ قال عن هؤلاء كذا وكذا، والشيء الفلاني...! يا سيّدي، شبهة تلو شبهة تلو شبهة، وفجأةً وجدنا أنَّ كل ما قلناه قد نسفه المسكين وأطاح به! قلت: يا عزيزي، لقد قلنا لك منذ البداية! قلنا منذ البداية. قلنا إنَّ هذه الأمور تتطلّب سعةً خاصّةً وموهبةً خاصّةً. مستوى تحمّل وتقبّل الأفراد مختلف، مختلف. يقال للبعض: صلِّ، فيقول: حسنًا جدًّا، أصلّي ركعتين. بمجرّد أن يقال له: صلِّ أربع ركعات، لا يصلّي بعد ذلك، لا أصلّي من البداية! لا شيء يا سيّدي.. يقال للبعض: صلِّ أربع ركعات، فيصلّي. إذا قيل له: صلِّ عشر ركعات، يقول: يا سيّدي، لن أصلّي تلك الأربع ركعات أيضًا! حسنًا جدًّا! كلّ شخص له طريقته، كلّ شخص له معياره، له مقدار من التحمّل والمعرفة والإدراك، يجب أن يكون وفقًا لذلك...
خطورة الإصغاء لوساوس أهل الدنيا
الإصغاء لوسوسة الخنّاسين، والالتفات إلى الناس المنحطّين أخلاقيًّا وفكريًّا، والانقياد للأمور التي لا أساس لها ولخيالات وأوهام أهل الزمان، ورهن القلب لها، ما نتيجته؟ شقاء الدنيا والآخرة، {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}۱.
قصة رد المرحوم العلامة على عالمٍ انتقد المثنوي دون علم
كان المرحوم العلامة يقول: عندما جئت من النجف - وكان حاله ووضعه معروفين في النجف، سواء من الناحية العلميّة أو من ناحية التقوى والميول العرفانيّة والسلوكيّة، وكان حديث العلماء وأهل العلم والمحافل في النجف، وبسبب هذا الأمر نفسه حدثت له أمور كان يخبرني ببعضها - قال: عندما جئت، جاء أحد علماء طهران لزيارتي وقال: يا سيّد محمّد حسين، مع هذا الفضل الذي لديك وهذا العلم الذي لديك وهذا الذي لديك، من المؤسف أن تكون في هذه الأمور العرفانيّة، في هذه الأمور الصوفيّة! في هذه الأمور أنت! قال المرحوم العلامة: أيّ أمور؟ أيّ أمر باطل تعالوا وقولوه لنبحث فيه. مجرّد قول الشعر هكذا ليس صحيحًا.
قال الرجل: يا سيّدي، هذا المثنوي، كل هذه الأمور الباطلة، الأمور الفارغة التي قيلت فيه!
قال المرحوم العلامة: المثنوي؟! ذهب وأحضر المثنوي ووضعه أمامه وفتحه وقالوا: أنت أصلًا اقرأ هذا المثنوي واشرحه لنرى هل تفهمه أصلًا أم لا؟. أقسم المرحوم العلامة أنَّ هذا الرجل توقّف عند البيت الثاني! أقسم! توقّف ولم يستطع شرحه.
قال: يا سيدي، ألّا تخجل في النهاية؟ هذا مخجل، لقد تجاوزت السبعين من العمر! لحيتك وصلت إلى هنا! كلّ رأسك ووجهك قد ابيض، هل قرأت سطرين من المثنوي في عمرك حتى تعترض عليّ؟! أنت الذي لا تفهم هذا الشعر، أنت الذي لا علم لك بهذه الأمور، بمجرّد القول بأنَّ هؤلاء صوفيّة وهؤلاء دراويش وهؤلاء عرفاء، قمت وجئت إلى هنا لتلقي علينا حفنةً من الهراء والسخافات وأنت نفسك لا تعلم شيئًا!.
قصّة نصيحة المرحوم العلامة لأحد المنتسبين بعدم الإصغاء للمستهزئين
لذلك، كان المرحوم العلامة يقول لأحد المنتسبين إلينا، عندما جاء ذلك الشخص لخدمته وعلم أقاربه أنّه جاء لخدمة الشيخ، بدأوا في هذه الوساوس الخناسيّة!. هذا هو! يا سيّدي، لقد ذهبت! كان يقول: في المجالس كانوا يلمزونني! سمعت يا سيّدي أنّك أصبحت مريدًا، حسنًا، مبارك جدًّا! سمعت أنّك أصبحت كذا؟ مَنْ كان يقول هذه الكلمات؟ أولئك الذين كانوا يصلّون المغرب والعشاء في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا! هؤلاء! أولئك الذين كانوا يصلّون الظهر والعصر قبل الغروب بنصف ساعة! يظنّون أنّنا لا نعلم! هؤلاء كانوا يأتون بالاستهزاء والسخرية وهذه الأمور! حسنًا يا سيّدي، مبارك، سمعت أنك أصبحت مريدًا، نعم! حسنًا، إن شاء الله يقسم الله لنا أيضًا! لا يا عزيزي، لن يقسم الله لك. جلّ جلال الربّ أن يكون شريعة لكلّ وارد. هل يعقل أن يفتح الله بابه لأمثالكم أيها المحتالون والأوباش وأهل الدنيا وأهل أهواء الدنيا وأهل التوغل في الكثرات وأهل الشهوة وأهل الرياسات وهذه الأمور؟ لا يا عزيزي! ستحملون هذه الأمنية إلى القبر، وهذا الباب سيكون مغلقًا في وجوهكم في الدنيا والآخرة أيضًا! هل يسمحون لأي أحد بالدخول إلى هنا؟ هل يقبلون أيّ أحد؟ يجب أن تتوسّل كثيرًا، يجب أن تلتجئ كثيرًا، يجب أن....! هل هو بهذه السهولة؟ السلام عليكم، لقد جئنا، نحن هنا أيضًا! انهض واذهب، مَنْ قال لك أن تأتي أصلًا؟! الأمر ليس هكذا يا سيّدي. القضيّة ليست بهذه السهولة. بدأ معنا مرّةً أخرى، ثمّ كان هو يحكي هذه الأمور للمرحوم العلامة، كانت القضيّة في السنتين أو الثلاث سنوات الأخيرة من حياة المرحوم العلامة، أنه يقول هكذا! البعض هكذا...! كان المرحوم العلامة مريضًا قليلًا وكان مستلقيًا، مستلقيًا على الفراش وعليه غطاء، في منزلنا بمشهد، كانوا قد جاؤوا هناك لتناول الغداء، كان وقت الظهيرة وكان مستلقيًا، كنا نجلس معه وهذا الرجل بجانبه [وكان هو يقول هذه الكلمات]، وفجأةً قال المرحوم العلامة: يا فلان! عندما ذهبت إلى النجف، سمعت الكثير من هذه الأمور، فهل تعلم ماذا فعلت؟ وضعت يدي في هذه الأذن ويدي الأخرى في تلك الأذن حتى عدت من النجف وذهبت! فماذا تقول لي أنت؟! فلان قال هذا! وفلان قال ذاك! ضع يدك في أذنك يا سيدي واذهب في سبيلك! إذا أردت أن تصغي لهذه الترّهات والسخافات من أهل الزمان، فسنبقى في أماكننا ولن نتكامل أبدًا! أهل الزمان يتّبعون الدنيا وإن كان بأشكال مختلفة وبمظاهر مختلفة، يتزيّنون للناس! افتحوا رؤوسهم فسترون أيّ تعفّن سيصعد من ذلك الدماغ إلى السماء! افتحوا قلوبهم، شرّحوها تشريحًا معنويًا، باطنيًا، روحيًا، فسترون أيّ مستنقع آسن يغلي ويثور ويتجلّى في هذا القلب؟ أيّ مستنقع هو؟ من الضرب والربط! من الرياسات، من الأحقاد، من الضغائن! الضغائن!
قصة عالم أنكر قيمة كتاب "معرفة المعاد"
كان أحدهم يصلي ، وكنت جالسًا بجانبه في مسجد كوهرشاد، وقد توفي الآن. كان الحديث عن كتاب «معرفة المعاد» للمرحوم العلامة. لم يكن يعلم أنّني أسمع. جاء أحد مريديه وقال: يا سيّدي، ما رأيك في كتاب «معرفة المعاد» للسيد الطهراني؟ لا يوجد فيه شيء مهم يا سيدي! لا يوجد فيه شيء مهم يا سيدي! هذه الأمور موجودة في كلّ مكان، لا مشكلة فيها!
يعني هذه المجلّدات العشرة لكتاب السيّد لا يوجد فيها شيء مهم أيّها الأحمق؟! هل أنت الآن مجتهد؟! هل أنت عالم؟! يعني هذه المجلّدات العشرة لكتاب «معرفة المعاد» للمرحوم العلامة كانت صحيفةً كتبها؟ كانت ترّهات وسخافات؟ ثمّ يصبح هؤلاء مرشدين للخلق! يا للويل! يا للويل! آه؟ محاسن مرتّبة، ممشّطة، عمامة كبيرة مرتّبة كما تحبّ! مقام وأمر ونهي. حسنًا، ولكن مَنْ يفهم هذا الباطن؟! بالطبع يمكن فهمه! هؤلاء العاديّون أنفسهم لو كان لديهم القليل من العقل في رؤوسهم، لكانوا قد فهموا القضيّة بمجرّد أن قال هذا الكلام، لكانوا قد فهموا المسألة. ولكن كما قلت قبل بضع ليال، البعض يتظاهرون بالنوم، يتظاهرون بالنوم، يعني الإنسان يرى ويغمض عينيه! كلّ الكلمات التي قلتَها الآن يحاسبونك عليها في الآخرة، يحاسبونك على كلّ شيء، المسألة ليست عبثًا، هناك حساب وكتاب.
قصة مخاطبة العلامة الطباطبائي لأحد الرفقاء من قبره
الليلة جاء أحد الرفقاء وقال: ذهبت إلى قبر العلامة الطباطبائي، الليلة ذهبت لزيارة السيّدة المعصومة سلام الله عليها، قال: ثمّ ذهبت إلى قبر العلامة الطباطبائي، وكان ابنه معه. قال: بدأت بقراءة الفاتحة، في هذه الأثناء جئت لأقبّل القبر، وضعت رأسي فرأيت أنّه يتحدّث معي، يشكرني، يتحدّث معي، يغيّر حالي. قال: نظرت إلى الجوانب فلم أر خبرًا، نظرت إلى الجانب الآخر فلم أر خبرًا، هذا هو. هذا هو العلامة الطباطبائي. المثير للاهتمام هنا أنَّ ابنه قال أيضًا: يا أبي، قبر مَنْ هذا؟ هذا قبر مختلف! لم يكن قد علّمه شيئًا من هذه الكلمات، أو هل كان هذا أيضًا شعوذةً وسحرًا وهذه الأشياء؟ قال: لماذا يختلف حجر هذا القبر عن البقيّة؟ قال: لا عليك الآن، اقرأ الفاتحة للجميع. هل تظنّ أنَّ الأمور هكذا عابرة؟ عابرة؟ الجميع علماء إذن! الجميع صالحون! نعم! نحن نقول الجميع صالحون، وإن شاء الله الجميع مشمولون بمغفرة الله ورحمته، ولكن هناك فرق كبير بين ذلك البلور وذلك الجوهر والدرّة الفريدة التي يصل إليها الإنسان بواسطة المراقبة والطاعة لأولياء الله، وبين حجرٍ ما مثلاً ، حجرٍ لا نقول إنّه سيّء، على أيّة حال، بين الدرّ والعقيق، فهذه أيضًا جيّدة، ليست سيّئة، كلّ إنسان له مراتبه الخاصّة، ولكن العقيق والدر لن يصبحا أبدًا ذلك البلور والزمرّد، تلك مسألة أخرى. نحن لا نقول إنَّ هؤلاء جميعًا سيّئون، لا! فهؤلاء جميعًا صالحون، جميعهم مشمولون بالرحمة والمغفرة، ولكن أين هذا من ذاك؟ ما العلاقة بينهما؟
لماذا الحب هو الشفيع وليس العمل؟
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: معرفتي بك أصبحت دليلي ومرشدي إليك، قادتني نحوك. فصلتني عمّن سواك. ثمّ ينتقل الإمام عليه السلام إلى الفقرة التالية. يقول: «وحبي لك شفیعي إليك». حبّي لك هو شفيعي عندك. لماذا يطرح الإمام عليه السلام مسألة الحبّ من بين كلّ هذه الامتيازات والمؤشّرات والأمور التي يمكن للإنسان أن يقدمها للّه تعالى؟. ألم يكن من أهل العمل؟! ألم يكن من أهل العبادة؟! لماذا لم يقل الإمام عليه السلام: عبادتي التي قمت بها في هذه الدنيا هي شفيعي؟! وحسنًا، الجميع يقولون يجب أن يكون الأمر هكذا! أن يصلي الإنسان صلاته بانتظام، مع مراعاة الشروط، وفقًا للموازين، ويصوم صيامه، وينجز أموره، وعلاقاته بين الناس...، هل هناك غير هذا؟ لماذا لا تكون هذه الأمور هي الموجبة للشفاعة؟! لماذا لا تكون هذه الأمور هي الموجبة لقيمة الإنسان وقدره في عالم الحساب عند الله تعالى؟!
الإيمان والعمل الصالح متلازمان
حسنًا، لا شك أنَّ الإنسان بدون عمل لا تترتّب عليه أيّة فائدة. فلو نظر إلى أيّ مكان من آيات القرآن، تجده يقول: الإيمان والعمل، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}۱. فالإيمان وحده لا فائدة منه. أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتّى بالنسبة لغير المسلمين، هم أيضًا يقولون ذلك. في تلك الآية التي تقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}٢. بالطبع الآية تتعلق بالمستضعفين، لا بجميع الناس. أولئك الذين هم مسلمون ويهود ونصارى وصابئون - عبدة النجوم وهؤلاء - إذا آمنوا بالله وعملوا صالحًا، فإنَّ الله يحفظ لهم أجرهم. وهذه الآية هي إحدى الآيات التي تدلّ على المغفرة لأهل الاستضعاف، وأنَّ أهل الاستضعاف أيضًا مشمولون بالرحمة الإلهيّة، المستضعفون. {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}٣. المستضعفون الذين لا يستطيعون تغيير وضعهم. هذه إحدى تلك الآيات المتعلّقة بالاستضعاف. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}٤. انظروا، بعد الإيمان يقول: أطيعوا. لا يكفي أن تقولوا: لقد آمنّا، ولنذهب وننمّ. لقد آمنا وانتهى الأمر! لا يا عزيزي! انهض وافعل شيئًا في النهاية، يجب أن تفعل شيئًا. صحيح أنّهم يشفعون، ولكن يجب أن تفعل شيئًا.
قصة طلب الصحابي صحبة النبي صلّى الله عليه وآله في الجنة وضرورة العمل ولو بخطوة
ذات يوم كان أحدهم ينقل قائلًا: قلت للمرحوم العلامة - وكان قد جاء من مكان ما وكان يقول هذه الكلمات، إن شاء الله يمد الله يد العون - قال: ذهبت إلى المرحوم العلامة - وكان بينه وبين المرحوم العلامة قرابة رحميّة - فقال: يا فلان! لقد أحببتنا وتلطفت علينا وفعلت كذا، كان وضعي كذا والآن أصبح وضعي بهذه الكيفيّة، جاء الشيطان ووسوس لي! رأيت فلانًا ورأيت فلانًا، كان هنا ثمّ طُردوا وأصبحوا كذا، باختصار، أصابني خوف ورعب شديد. جئت إلى هنا لآخذ ضمانًا منك! أو بتعبيره هو قال: لآخذ "كفالةً"، قال: لقد جئت لآخذ ضمانًا منك لكي لا ينحرف طريقي ولا يتغيّر.
قال: فكان المرحوم العلامة يقول: [لا يمكن أن أعطي ضمانًا...]!
قلت: لا يمكن، لن أغادر من هنا حتى آخذ كفالةً، إذا أردت أن تخرجني من هذا البيت فأعطني كفالةً، وتمسّك بالقضيّة بقوّة!.
قال: فابتسم المرحوم العلامة وقال: ذات يوم ذهب رسول الله صلّى الله عليه وآله ليشتري شيئًا من السوق، فاكهةً، مستلزمات، بطاطس أو بصلًا، والنبيّ صلّى الله عليه وآله كان يذهب بنفسه، لقد تغيّر الزمن، باختصار لم يعد أحد يظهر في الشارع، والجميع خدم وحشم وفلان!. لا! المعصومون والأئمة عباد الله كانوا يحملون السلّة بأيديهم ويذهبون بأنفسهم إلى القصّاب والخبّاز وبائع الفاكهة وهؤلاء۱، يذهبون بأنفسهم، حسنًا جدًا! هذا أيضًا بالمناسبة، بين قوسين أو كما نقول نحن بين الهلالين، وكما تقولون أنتم بين قوسين....! قال: أخذ السلّة واشترى الخضار وهذه الأشياء، وما إن همّ بالذهاب حتّى جاء أحد الأصحاب ليأخذ السلّة، فقال: دعها الآن، أنا أريد أن أحملها، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله لا! «مَنْ لهُ الغُنْمُ فعليهِ الغُرْمُ»٢ مَنْ يشتري شيئًا يجب أن يتعب من أجله بنفسه، أريد أن آخذها إلى بيتي. قال: لا! لا يمكن، يجب أن تعطيني إياها لأحملها. فكان هو يصرّ والنبيّ صلّى الله عليه وآله يرفض قائلًا: لا أنا...! قال: لا! لا يمكن، لن أدعك تتحرّك من هنا حتّى أمسك هذا المكان منها! رأى النبي صلّى الله عليه وآله أنَّ قوته لا تكفي فقال: حسنًا، تعال خذها! فأخذها هذا وحملها لمسافة مائة متر أو مائتي متر، فكم كانت المسافة بين المنزل والسوق؟ حملها مائة متر ووضعها. وبمجرّد أن وضعها التفت إلى النبي صلّى الله عليه وآله وقال: الآن يجب أن تعطيني عوضًا. فقال النبي صلّى الله عليه وآله: يا للعجب! هذا رجل عجيب! أصرّ عليّ وهو يقول يجب أن تعطيني عوضًا! أدخل النبي صلّى الله عليه وآله يده في جيبه.
فقال: لا تدخل يدك في جيبك الآن، فباختصار أنا لا أريد منك مالاً من جيبك، يجب أن تعطيني عوضًا! باختصار.
قال النبي صلّى الله عليه وآله: ماذا تريد؟
قال: هل تعطيني كل ما أطلب؟
قال: نعم، قل! فبما أنّك قد أحضرتها الآن فأنا مضطرّ!
قال: يجب أن تعطيني صحبتك في الجنة!
يا للعجب!
قال النبي صلّى الله عليه وآله: «حسنًا، بما أنّك طلبت منّي هذا ـ وهو بحر رحمة الله ـ ولكن أعنّي...» ۱
ثُمَّ أراد المرحوم العلامة أن يقول له بهذا: لا بأس، نحن نعطي الكفالة والضمان، ولكن يجب أن تخطو خطوةً واحدةً، خطوةً واحدةً على الأقل لتكون ذريعةً ووسيلةً للضمان، وهم بكرمهم يقبلون هذه الخطوة الواحدة.
سعة رحمة الله تعالى وكرمه
أيها الرفقاء، أقول لكم: هناك كرم كثير، هناك رحمة كثيرة. لقد أخبرتكم بقضيّة المرحوم العلامة ليلة البارحة. هناك رحمة كثيرة لدرجة أنَّ أحد العرفاء قال: يا إلهي، هل ستعطيني ما أريده أم لا؟ إن لم تعطني، فسأخبر هؤلاء الناس بشذرة من رحمتك بحيث لا يعبدك أحد حتى يوم القيامة! هل ستعطي أم لا؟ رأى الله أنّه سيدمّر العالم الآن! فقال: حسنًا حسنًا. وباختصار سارت أموره على ما يرام، حُلّت مسألته. هناك كرم كثير، هناك رحمة كثيرة لدرجة أنّه من الأفضل ألّا أقول أكثر من هذا وإلّا فسأفسد أنا أيضًا الأمر!. نحن أيضًا [أدركنا أمورًا]، لم ندركها بأنفسنا، بل هي أشياء سمعناها من الأعاظم هنا وهناك. وهذه لمحة منها. تخطو خطوةً واحدةً، تقول يا الله مرّة واحدةً، تقوم بحركة واحدة، فيقبلون، هم لا يصعّبون الأمر.
حسنًا، إن شاء الله نأمل [أن يوفّقنا الله]، كنّا نريد أن نبدأ بهذه الفقرة ولكن كنت متعبًا قليلًا أيضًا الليلة، وكنت أحتمل أن أحرم ولكن قلت: على الله، لا أفوّت فيض رفقة الرفقاء.
إن شاء الله تتمّة الأمور للجلسة القادمة.
اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّدٍ