المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
ما معنى أن يدبّر العبد لنفسه في اكتساب المال لمعيشته؟ وما معنى أن لا يدبّر؟
أن يدبّر يعني أن يكون محور عمله هو التوحيد. وأن لا يدبّر يعني أن يكون همّه تحصيل المال كيفما حصل.
تشرح هذه المحاضرة فقرة (ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا) على صعيد التعامل مع الناس في العمل وتأمين المعيشة، وتبيّن أنّ محور هذا التدبير هو التوحيد أيضًا كما كان في إدارة المجتمع، كما توضّح آليّة ذلك من خلال تطبيق القانون الكليّ في التربية الإلهيّة وهو حفظ الباطن بواسطة حفظ الظاهر، فلكي نصل إلى الباطن وحقيقة التدبير التوحيديّ أثناء النهار، لا بدّ من القيام بالخطوات التالية:
1ـ ضرورة عدم الخروج من المنزل ليلاً والنوم باكرًا إلا في حالات خاصّة.
2ـ القيام للعبادة والدعاء وتلاوة القرآن وتلقّي التجليّات الجماليّة والجلاليّة من الله وذلك لما يهيّؤه الليل من أجواء الارتباط بالله لكونه سكنًا ولباسًا يغطّي على تشويش النفوس السيئة.
3ـ ضرورة الخروج إلى العمل في النهار ـ إلا في حالات خاصّة ـ لتطبيق تلك التجليّات في التعامل مع الناس، بالعطف عليهم ورؤيتهم بعين الله ورحمتهم والوفاء بالتعهّدات المقطوعة معهم.
4ـ الغاية من العمل في النهار ليس تحصيل المال، بل ما سبق ولذلك يجب أن تبقى حالة النفس ثابتة في حالات الربح والخسارة.
وتعرّضت المحاضرة أثناء ذلك استطرادًا وتوضيحًا إلى بيان بعض النقاط اللطيفة مثل:
معنى كون كلّ من الرجل والمرأة لباسًا للآخر وسكنًا وأهميّة السكينة في الحياة الزوجيّة.
معنى إيقاظ الله تعالى العبد للصلاة والفرق بين صلاة الليل وصلاة النهار.
قصّة أحد العلماء الذي لا تتأثّر نفسه بحالات الفقر والغنى.
معنى عقل الناس في أمر الدنيا وحماقتهم في أمر الآخرة
ذكاء أمير المؤمنين ودهاء معاوية.
لماذا قال أمير المؤمنين عليه السلام فزت وربّ الكعبة؟
هو العليم
التدبير في اكتساب المعيشة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦٦
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا
قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري:
أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.
تقدّم حول هذه الفقرة أنّه يمكن أن نقول بأهميّة عمل الإنسان في الحياة ضمن ثلاث مراحل ومواقف:
أحدها: الأمور الاجتماعيّة.
الثاني: الاشتغال في أموال الكسب والمعيشة.
والثالث: في خصوص الأمور الشخصيّة.
وقد قسّمنا الأمور الاجتماعيّة إلى قسمين: أحدهما الأمور الحكوميّة والتي تحدّثنا عنها ضمن مباديء حكومة الأنبياء في الجلسات السابقة، وذكرنا أنّ كافّة أمور الحكومة وقوانينها في حكومة الأنبياء ترتكز إلى التوحيد، والقيمة والأفضليّة والرجحان هي بالاقتراب من هذه الحقيقة الرفيعة، بل أرفع الحقائق.
دوران أمور الكسب والمعيشة حول التوحيد أيضًا
والأمر نفسه في اشتغال الإنسان بأمور الدنيا، حيث يتمحور أيضًا حول التوحيد، بدون أيّ اختلاف، فعندما ينشغل عبد ما بأمور الدنيا والأعمال اليوميّة لا بدّ أن تكون قضيّة التوحيد نصب عينيه. وإلاّ لن تكون حركته نحو الله، بل ستكون نحو الكثرات والتوغّل في الكثرات. وإن كانت ذات صبغة ولون إلهيّين، وإن اتّخذت لنفسها طابعًا إلهيًّا. ولكن من حيث الدخول في الكثرات والدخول في عالم الطبع والمادّة والدنيا فإنّها لا تختلف عن سائر أنواع الكسب، ومختلف الانشغالات.
أهميّة الليل وأثره في أعمال النهار
يقول الله تعالى في الآية الشريفة: {وجعلنا الليل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا}۱ وهذا التشبيه باللباس تشبيه عجيب جدًّا. فاللباس يقال لما يحفظ الإنسان، يحفظه من البرد، يحفظه من الحرّ، يحفظه من الآفات. لاحظوا الفواكه لها غطاء، لها قشر، هذا القشر وهذا الغطاء يحفظها من الفساد، فلو لم يكن للإنسان لباس فإنّه عندما يسير يصطدم بالجدار، يصطدم بحجر، يصطدم بشجرة ولا يمكن أن يبقى محفوظًا، بل تؤثّر به الحرارة، ولا مناعة له من الأمراض. والله يقول في آية من القرآن إنّا جعلنا اللباس ليقيكم البردّ والحرّ٢، فهذا اللباس هو للحفظ والصون. فلو لم يكن للفاكهة قشر لفسد لبّها ولدام فسادها. ولو لم يكن للفواكه قشر لما أمكنها أن تبلغ باستعداداتها إلى الفعليّة.
القانون الإلهيّ: حفظ الباطن بواسطة حفظ الظاهر
إنّ نظام العالم التكامليّ لله هو لحفظ الباطن بواسطة حفظ الظاهر. دقّقوا جيّدًا في هذا الأمر، فهو يفيدنا في كثير من المواضع. أي إنّ الباطن إنّما يكون محفوظًا عندما يتمكّن الظاهر من حفظه بتمام معنى الكلمة.
مثال العلاقة الزوجيّة
وفي العلاقة الأسريّة والزوجيّة بين المرأة والرجل نجد أنّ الله يقول: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ}.۱ النساء لكم لباس، واللباس من اللُبس بمعنى الغطاء الساتر، ويقال للاشتباه أيضًا لَبس لأنّ له حكم الغطاء الذي يغطّي وجه الحقيقة. فالاشتباه يقال له: لَبس، والغطاء يقال له: لُبس.
ولُبس عباءة وتقرّ عينين أحبّ إلىّ من لبس الشفوف. ٢
فاللبس يعني الستر، {هنّ لباس لكم} يعني هنّ ستر لكم يحفظنكم. فالنساء تحفظ الرجال، لماذا؟ لأنّ الرجل في نظام الله التكاملي وفي عالم الخلقة يحتاج إلى المرأة، وبدونها لا يمكنه أن يصل إلى الكمالات التي جعل الله الوصول إليها هدفًا للخلقة. إنّ دين النبيّ دين كامل، لأنّ سنّة الزواج في دين النبيّ تعدّ بناء أساسيًّا. أمّا في دين النبيّ عيسى المسيح، فهو نفسه لم يكن له زوجة، لم يتزوّج. {وأنتم لباس لهنّ} أي إنّ الرجل يحتاج إلى المرأة والمرأة تحتاج إلى الرجل أيضًا، فلا تتصوّروا أنّ أمر الزواج هو مجرّد غريزة. خمسة بالمائة منه غريزة، وخمسة وتسعون منه أمور أخرى. ذلك الهدوء والاطمئنان والسكون لا يحصل لدى الإنسان إلا مع الجنس الآخر مهما كان عنده أصدقاء ورفاق وأمثال ذلك، فقد جعل الله خصوصيّة في وجود المرأة والرجل تقتضي أن لا يحصل ذلك الهدوء إلاّ بكونهما إلى جانب بعضهما دون غيرهما، لا إلى جانب الأب، لا إلى جانب الأم، لا إلى جانب الأخت والأخ وأمثال ذلك. فهذا الهدوء في عالم الخلقة وعالم التربية يحصل إلى جانب المرأة، وإلا فلن يحصل، لا يحصل.
يظنّ الإنسان أنّه يقوم بعمل ما، ولكنّه يفسد جوانب أخرى، لا يمكنه أن يوصل نقاط الضعف في نفسه إلى فعليّتها. وكما يقول القرآن أيضًا فإنّ هذا اللباس أيضًا هو موضع للسكينة: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها}٣. فمن آيات الله أن جعل لكم النساء لتحقّق لكم السكينة، لا الشقاء والتعاسة. هل التفتّم؟ لا تؤدّي إلى الصداع والصراخ وأمثال ذلك. فعليكم أن تقرؤوا هذه الآيات! يجب أن تُقرأ في البيت، وتذكر في البيت، لا بدّ من التذكير بهذه الأمور، حتّى لا يقضي الإنسان أوقتاته بالبطالة والخسران. فما دام الإنسان قادرًا على أن يقضيها بالسكينة والهدوء والطمأنينة والاطميئنان فلماذا يتحدّث بطريقة مؤذية؟ لماذا يتعامل بطريقة مؤذية فلا يتحقّق الغرض من هذا النظام؟
يقول الله لقد وضعنا نحن هذا المنهاج، لقد هيّأنا لكم الإمكانات لأجل تحقيق الطمأنينة والسكينة، بشرط أن تتقدّموا أنتم معي أيضًا خطوة بخطوة، لا أن يذهب هذا في سبيل وذاك في سبيل ثمّ تقولون: لا سكينة! كلاّ فلا معنى لهذا. صحيح؟ فهذه السكينة التي عبّر عنها في القرآن باللباس في إحدى الآيات: {هنّ لباس لكم} وفي آية أخرى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها}. هذه السكينة التي هي لباس، هي لباس لأنّ القوى الباطنيّة والاستعدادات الباطنيّة التي لها قابليّة للفعليّة، قابليّة للوصول إلى تلك المرتبة النهائيّة، تلك القابليّة وتلك الفعليّة لا بدّ أن تنمو في هذه الأرضيّة، فلكي تسير وتتحرّك وتؤدّي إلى الوصول إلى الكمالات، فهي تتطلّب أرضيّة كهذه. فشؤون الأسرة وكيفيّة العلاقات فيها، هي أبحاث أخرى تقتضي أن نتحدّث عنها في مكانها إن شاء الله.
إمداد حالات الإنسان في الليل لمواقفه في النهار
يقول الله حول الليل: {وجعلنا الليل لباسًا}۱ {جعل لكم الليل لباسًا}٢ فما معنى ذلك؟ معناه أنّا جعلنا الليل سببًا للهدوء، فالليل هو سبب الطمأنينة والسكينة، الليل هو الذي يشبه الغطاء الذي يمكن للنفس في ظلّه أن تحتفظ بما خزّنته، وما حصلت عليه. فكم لدينا في الإسلام تأكيد على النوم الباكر؟ كم لدينا أن تناولوا العشاء باكرًا واستريحوا باكرًا وقوموا من هنا وهناك؟ كم لدينا توصيات أن لا تذهبوا إلى مكان ليلاً؟٣
المرحوم العلاّمة: الليل ليس وقتًا للخروج
لقد كان أحد الأمور التي يوصي بها المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه والذي إذا طرح ربّما أثار ضحك الكثيرين، هؤلاء الذين ينظرون فقط إلى الظاهر وعالم الظاهر، فقد كان في الدائرة الخاصّة قد منع أن تخرج النساء ليلاً من المنزل، وبالنسبة إلى الدائرة العامّة عدّ ذلك أمرًا غير محمود. فالليل ليس وقتًا للخروج من المنزل، حتّى كان يوصينا أن نذهب إلى منازلنا باكرًا في الليل. لماذا؟ فمثلاً في الليل تذهبون إلى أماكن مختلفة، على الرجل أن يكون في بيته ليلاً، على المرأة أن لا تخرج من البيت من وقت الغروب فصاعدًا، إن كنتم تريدون الذهاب إلى الحرم، فلتذهبوا صباحًا، اذهبوا أثناء النهار، لماذا تذهبون ليلاً؟ إن كانت لديكم دعوة فلتكن ظهرًا، لماذا تكون ليلاً؟ فهذه الحركة في الليل [ليست جيّدة] وهذا أمر دقيق جدًّا، والذين وفّقهم الله وفتح أعينهم وجعل قلوبهم تتأثّر بعلل وعوامل العالم الأعلى وعالم الملكوت، يدركون كلامي هذا، وأنّ الخروج ليلاً يؤدّي إلى كدورة في القلب وخصوصًا للنساء، وإذا كانت المرأة في بيتها ليلاً فإنّها تشعر بحالة من الطمأنينة والراحة لا تشعر بها لو كانت خارجه أينما ذهبت. سواء ذهبت إلى مجلس عزاء، أو إلى مسجد، أو إلى حسينيّة، أينما ذهبت. لم يجعل الله الليل ليكون الإنسان فيه خارجًا. فلو قمنا نحن أنفسنا بذلك وقرّرنا أن لا نخرج ليلاً إلى أيّ مكان [فسنلمس أثر ذلك]. وبالطبع الموارد الضروريّة كمراجعة الطبيب أو أن يكون للإنسان عمل ضروريّ مثلًا وما شابه هذا كلّه مستثنى من القاعدة.
فليقض الإنسان الليل في بيته، ليقض الليل قرب زوجته وأولاده، ليكن في الليل مشغولاً بنفسه وأموره الخاصّة، أو على الأقل إذا مضى قسم من الليل فليرجع. ولا يصبر حتّى يتأخّر الوقت، فليكن في المنزل عند الساعة العاشرة والحادية عشرة والتاسعة والعاشرة. كان المرحوم العلاّمة يقول: كون الرجل خارجًا مضرّ له هو كما هو سبب للضرر والاضطراب عند زوجته. فهذا الكلام ليس كلامي. لماذا؟ لأنّا لا يمكن أن نحارب قوانين الطبيعة، لقد جعل الله هذا القانون هكذا، جعل الله {الليل لباسًا}، اللباس يعني الغطاء، اللباس يعني الشيء الذي يسبّب الهدوء، وهذا الهدوء يحصل في المنزل، يحصل في المنزل. {وجعلنا النهار معاشًا}. جعل النهار لأجل المعاش، جعل النهار لأجل الكسب، وكما يقول حافظ:
روز در كسب هنر كوش كه مىخوردن | *** | روز دل چون آينه در زنگ ظلام اندازد۱ |
[اسع إلى كسب الحرف والفنون في النهار فإنّ شرب الخمر فيه يلقي القلب كالمرآة في صدأ الظلام.]
اقض الليل في المنزل، والمراد من الخمر العلاقة مع الله، القيام، الصلاة، قراءة القرآن، والمناجاة مع الله فهذه يجب أن تكون في جوف الليل، فهذا التعبير بالخمر يعني التجليّات الإلهيّة التي تأتي للإنسان في الليل، ففي الليل قم بهذه الأعمال، وفي النهار اسع وراء الكسب والمعاش، وإن شاء الله سنتحدّث عن ذلك. فلماذا يجب البحث عن الكسب في النهار؟ وإن لم يسع الإنسان إلى الكسب فإنّه يتأذّى الأذى عينه الذي يتأذّاه لو خرج في الليل وعمل في الليل. لا تبحث في النهار عن الخمرة، عليك في النهار أن لا تبحث عن الكون في المنزل والانشغال بالنفس والعبادة، وبالطبع لذلك حدّ، وسنبيّن حدّه، فإن أردت أن تقضي ليلك هكذا، وتقضي نهارك هكذا، فكأنّك تلقي بقلبك في صدأ الظلام. فالقلب يصدأ كالمرآة، يجب أن يكون صافيًا مصقولاً حتّى تتجلّى التجلّيات الجماليّة والجلاليّة فيه. أمّا إذا صدئ [فلن تتجلّى فيه]. انظروا إلى مرآة ما، فإنّها تصدأ ويصبح كلّ وجهها أسود ولا شيء فيه إلا السواد، فمهما وقفت أمامها فإنّك لا ترى نفسك، لأنّها صدئت، أمّا لو قمت بتنظيفها وصقلها بحيث لا يبقى فيها أيّ صدأ، فإنّك سترى نفسك فيها.
عليك في النهار أن تسعى وراء كسب الفنون. فما هو كسب الفنون هذا؟ لقد تحدّثنا شيئًا ما عن ذلك في الجلسة السابقة۱ واليوم نتحدّث أيضًا قليلاً.
بناء على هذا، فالنظام التربويّ والتكاملي الإلهيّ للإنسان، هو نظام حفظ الظاهر والاهتمام بالباطن في مرتبي ومرحلتي الليل والنهار. فكما أنّ الله تعالى خلق الإنسان وجعل نفسه وفق قانون الخلقة هذا، وتلك السنّة الإلهيّة التي لا تبديل لها، فالسنّة تعني العمل بالقانون في كلّ مورد مناسب له، هذه هي السنّة. فهذا الإناء الذي هو الآن إلى جانبي له سعة لاستيعاب هذا المقدار من السائل، فهذه هي ظرفيته وقدرته، فلو أردتم أن تجعلوا فيه أكثر من ذلك هواء أو ماء بواسطة جهاز ضاغط فإنّه يتحمّل قليلاً ثمّ ينفجر فجأة، هذه السنّة هي سنّة مخالفة. العمل بالسنّة بالنسبة إلى هذا الإناء هي أن نحمّله من الضغط المقدار الذي يحتمله وتحتمله أطرافه، لا أكثر منه.
لقد جعل الله نفوسنا هكذا، فنفس الإنسان تصل إلى مرتبة التكامل إذا ما حافظت على هذين الجانبين الظاهر والباطن، وتمّكنت من المحافظة عليهما معًا. ولذلك قال الله: {وجعل الليل سكنًا}٢ فعلى الإنسان أن يقوم ليلاً.
الفارق بين صلاة الليل وصلاة النهار
كان المرحوم العلاّمة يقول: الصلاة التي يصلّيها الإنسان في الليل تختلف كثيرًا عن الصلاة التي يصلّيها في النهار. لأنّه في الليل كما أنّ تفاعل النفوس في عالم الظاهر يؤدّي إلى خلل وتشويش في النفس من حيث الظاهر، كذلك إذا استراحت هذه النفوس في الليل غطّى على تلك المواقف النفسيّة وتلك الأفكار والتخيّلات، فتصبح حالة الإنسان أكثر تهيّؤًا للعلاقة مع الله. لماذا؟ لأجل الليل.
معنى الادّخار في الليل والانفاق في النهار
ثمّ كان يقول: على الإنسان أن يدّخر في الليل وينفق في النهار. ما معنى الإنفاق؟ يعني ما حصلت عليه في الليل من قراءة قرآن، من دعاء، من صلاة، من خلوة مع الله، عليك أن تجعله في المجتمع وفي العلاقة مع الناس في المحكّ، وفي بوتقة الاختبار، تلك الحالات التي حصّلتها طبّقها في العلاقة مع الناس. لا تتصوّر أنّ هذين الأمرين يختلفان بشكل كامل، ففي الليل علاقة مع الله ومناجاة ودعاء وفي النهار يفعل كلّ ما يحلو له، يكذب يخادع ويمكر ويحتال في علاقته مع الناس ويغشّ في المعاملة، ويكذب، ويخالف السنّة، ويخالف الوصايا، ويخالف مبادئ الحياة الإسلاميّة التي وردتنا عن طريق أهل البيت عليهم السلام، على أمل أن يكون حساب الليل منفصلاً عن حساب النهار؛ [فيقول:] على الإنسان أن يكون ذكيًّا، على الإنسان أن يكون واعيًا، على الإنسان أن يرضي الزبائن بأيّة طريقة، على الإنسان أن يرقّي نفسه بأيّة طريقة، أن يترقّى، أن يصعد، فهذا انفصال بين الليل والنهار، انفصال بين مسيري الظاهر والباطن.
فلان ذكيّ جدًّا، يمكنه أن يجذب الزبائن، فهو ذلق اللسان، فهل هذا جيّد؟! فلان جيّد يحسن أن يشدّ الناس إليه ، يمكنه أن يزيّن متجره جيّدًا حتّى يقصده الناس. إنّه ماهر في استقبال الزبائن والمراجعين، فعندما يعلنون في الجرائد كما تقرأون في النهاية يقولون: نحتاج إلى من عمّال ماهرين في العلاقات الاجتماعيّة. فما معنى ذلك؟ يعني يمكنهم أن يتكلّموا مع الناس بشكل جيّد، يمكنهم أن يشدّوا أنظار الناس، يمكنهم أن يحافظوا على الناس، لا يؤذونهم، ويحافظون عليهم بواسطة الوعود العذبة والجذّابة، فما هو كلّ هذا؟ إنّه خداع يا سيّدي. كلّ ذلك مخالف لطريق التوحيد، وبالطبع فإنّ الأخلاق السيئة والحادّة والتعامل غير المناسب غلط، فلا أحد يقول ذلك، ولكن الخداع والمداهنة ليس مسير الأنبياء. لماذا؟ لأنّ هدف الإنسان ماذا يجب أن يكون؟ لو كنت في بيت آخر، في دكّان آخر في دائرة أخرى هل كنت ستتكلّم هكذا؟ لو لم تكن هناك منافع هل كنت هكذا أم لا؟
هذا النظام التكاملي الذي جعله الله يقتضي أن يعمل الإنسان على تكميل هذه النفس في كلي بعديها المختلفين. البعد الأوّل العلاقة مع الله: قيام الليل، التهجّد القرآن الدعاء وإحياء الليل كما ورد في الوصايا، وفي هذه الحالة على الإنسان أن لا يفكّر في النهار، في الغد وبأنّه ماذا جرى في اليوم الماضي، وماذا سيصنع في اليوم التالي؟ على الإنسان أن لا يفكّر ما هي الخطوات التي سيتّخذها غدًا وما هو الطريق الذي سيسلكه في أموره. على الإنسان أن يفكّر في الليل بعيدًا عن أمور النهار، ويخصّه بعلاقته الخاصّة مع الله، أمّا أنّه ماذا سيجري غدًا؟ فلا. ماذا جرى اليوم؟ لقد مضى. ماذا سنصنع غدًا؟ على الإنسان أن يخرج هذه الأفكار من نفسه، وفي مثل هذه الحال يخوض مع الله بعد التخلية والتجريد من تلك التخيّلات التي وقعت في اليوم السابق والمتوقّعة في اليوم التالي، خاليًا خاليًا لا يفكّر في شيء من الأمس والغد، فلو فكّر فكأنّه يقوم بهذا العمل في النهار، لأنّ العلاقة مع الله علاقة باطنيّة، ومجرّد الصلاة والحركات، حركات الأعضاء والجوارح لا تأثير لها على تلك العلاقة. فجهة الباطن تلك [هي الأساس].
فإذا قام بذلك في الليل فعليه في النهار أن يؤدّي ذلك البعد الآخر من النظام التربويّ. عليه أن لا يكون في النهار في المنزل، عليه أن يكون خارجه، يذهب ويتحدّث مع الناس، يذهب إلى المجتمع ويتحدّث، على كلّ إنسان أن يكون على تواصل مع الناس بما يناسب عمله، تلك العلاقة مع الناس على أساس التشريع الإسلاميّ، بحيث يتمكّن من تثبيت ما أخذه في الليلة السابقة وإيصاله إلى الفعليّة، ولذلك فلو كان للإنسان ارتباط في الليل، وفي النهار لا يخرج من المنزل ويبقى فيه، فإنّه لن يوفّق كثيرًا للوصول إلى تلك الحقائق، عليه أن يخرج.
نماذج من ادّخار الليل وإنفاق النهار
العطف على العباد
ماذا أخذ في الليل؟ رؤية الناس كلّهم عبادًا لله، وفي اليوم التالي يذهب إلى عمله فيأتي فجأة واحد منهم ويسبّه، فماذا يفعل؟ ماذا أخذت في الليل؟ في الليل أخذت أنّه لا بدّ من التعامل الصحيح مع الناس، يجب أن يكون حسن الأخلاق مع الجميع. وبالطبع أحيانًا قد يقتضي التكليف شيئًا آخر، فهذا أمره يختلف، كلاّ فالمراد هو التعامل على أساس هوى النفس، فماذا أخذت في الليل؟ لقد أخذت من الله أمس أنّه يجب أن تنظر إلى الجميع بعينه، وأن ترى الناس عبادًا له، وأن ترى الناس مخلوقات له، وأن تنظر إلى المخلوقات بعين الخالق، فما هي نظرة الخالق إلى هذه المخلوقات؟ نحن علينا أن تكون عندنا هذه النظرة عينها. علينا أن نقرّب أنفسنا، لا نقول يا سيّد هو خالق، وأين نحن منه؟ كلاّ علينا أن نقرّب أنفسنا، هو أيضًا لا يتوقّع أن نكون مثله، ولكن على الأقلّ علينا أن نقرّب أنفسنا منه. وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد. ۱
أنتم لا تقدرون أن تكونوا مثلي ولكن يمكنكم أن تقتربوا منّي كلّ حسب استطاعته. لا تقولوا: لقد كان هو عليًّا. فنحن لو تقدّمنا إلى الأمام فيمكن أن نكون عبيد عليّ، يمكن أن نكون شيعة عليّ، ألم يكن سلمان [من شيعة عليّ]؟ هل صار سلمان عليًّا؟ لا لم يصر عليًّا، ولكن صار سلمان من شيعة عليّ. أبو ذرّ صار من شيعة عليّ، عمّار صار من شيعة عليّ، أويس صار من شيعة عليّ، فهؤلاء قرّبوا أنفسهم، ولم يقولوا أين نحن منهم؟ لا يحرّكون ساكنًا. لقد ذكرت في الجلسة السابقة أنّ الله جعل إمكان ذلك عندنا جميعًا، فعلى كلّ حال على الإنسان أن [يسعى].
بالأمس أخذت هذا فعليك اليوم أن تنفقه، عليك اليوم أن تثبّته في علاقتك مع الناس، فما أخذته الليلة الماضية كنظريّة عليك اليوم أن تضعه على محكّ التجربة بصورة عمليّة في السوق والمكتب.
الوفاء بالعهد
فماذا أخذت ليلة أمس من الله؟ أخذت ليلة أمس الوفاء بالعهد، الله يفي بعهده، كنت تقرأ ليلة أمس آية من القرآن فيها أنّ الله رحيم، الله عطوف، الله عادل، واليوم تأتي إلى السوق فتواجه مخالفة للعهد، يأتي إليك رجل له عليك مال ويمكنك أن تدفع له، فماذا تصنع؟ [تقول:] ليس لديّ مال! اذهب بعد شهر لأرى كيف يمكن أن أهيّئه لك! فما هذا؟ إنّه مخالفة. ما أخذته بالأمس عليك أن تطبّقه الآن، عليك أن تخرجه إلى مرتبة العمل.
ماذا أخذت الليلة الماضية؟ أخذت الليلة الماضية من الله مساعدة الخلق، فلو لم يوفّقك الله لما استيقظت من نومك، وكثيرًا ما يحصل أن يقوم الإنسان ويطفئ المنبّه ثمّ ينام.
ما معنى أن يوقظك الله لعبادة الليل؟
فما معنى أن يوقظك الله بغير منبّه؟ يعني أنّي رأيتك الآن لديك القابليّة لأن أتكلّم معك. رأيتك صاحب قابليّة لأن أناجيك، فهذه المناجاة التي لدى الإنسان الآن مع الله، وتلك الصلاة التي له أتعلمون كم لها من قيمة؟ قيمتها أنّ الله يقول: أنا رأيتك الآن لديك قابليّة لأن أتكلّم معك، فلو نزلت الليلة آية أنّه من الليلة فصاعدًا ليس لأحد أن يقوم، ولو قام فلا فائدة من قيامه، حينها ماذا سنصبح جميعًا؟ عجبًا الله يقول الباب مغلق ابتداء من الليلة وإلى أجل غير مسمّى، لا شيء بعد الآن، لقد أغلق باب الملكوت! الآن تريدون أن تقوموا وتصلّوا فلا فائدة، لا يوجد ارتباط من الليلة حتّى الصباح، هناك ارتباط لجماعة وليس هناك لآخرين، نحن جعلنا هذا الارتباط لقارّة أفريقيا أمّا لقارّة آسيا فلا، ألا نفكّر حينها أنّك ظالم يا الله؟! لماذا لم تفتح لنا المجال وفتحته لهم؟ نحن من الليلة نفتح الباب لهذه الجماعة وهؤلاء القوم، ولكن لا نفتحه لغيرهم! ما إن يصنع الله ذلك فإنّا نخاف ونفزع، الله يقول: ما لم نغلق الباب فأنت لا تأتي! أيتحتّم علينا أن نغلق هذا الباب حتّى تستيقظ؟ فأن يقوم الإنسان فهذا دليل أيّ شيء؟ دليل على أنّ الله يقول: أنا وجدتك لديك قابليّة لأن نتحدّث معًا، أنا الإله مالك الملوك، أنا الإله الذي لا يبالي بأحد، أنا الإله الذي لو اجتمعت الخلائق كلّها إن أردت أن أكون معها أكون، وإن أردت أن لا أكون لا أكون. هذا هو مقامي.
تريد أن تذهب إلى مكان، تريد أن تقيم علاقة مع أحد، مع إنسان مهمّ، تُكلّم عشرة، ابتداء من الحارس والحاجب إلى من فوقهما حتّى يوصلوك إلى ذلك الرئيس، تستيقظ الليالي، تنظّم الأوقات وترتّبها، تمنع اللقاءات، نلغي خروجنا إلى بعض الأماكن، لماذا؟ لأنّا نريد أن نلتقي بفلان!
لا محلّ لنا من الإعراب ولكن تفضّلَ علينا
فالله الآن رآنا عندنا قابليّة لأن نقوم ونلتقي به، وبالطبع هذا يجري في الصلوات الخمس أيضًا. ولكنّ خصوصيّة صلاة الليل هي أنّ الله رآنا نملك القابليّة لأن ينزل من مقام عزّه وقدسه ويكلّمنا ونحن لا محلّ لنا من الإعراب في عالم الوجود، لم نكن موجودين، لم نكن، أيّنا يمكنه أن يدّعي أنّ له مكانًا ومحلاًّ في نظام عالم الخلقة هذا؟ من كان يمكنه ذلك فليقم. أنا من جهتي لا أرى نفسي أستحقّ أن يكون لي مكان بأيّ وجه من الوجوه في هذا النظام التربويّ وهذا النظام التكوينيّ لله، فلو لم أكن أنا موجودًا فماذا سيحصل؟ واقعًا أسأل، هل كانت ستسقط السماء على الأرض؟ لو لم يكن من هم أمثالي فماذا سيحصل؟ ماذا؟ لكان جاء آخر أفضل منّي وتحدّث إليكم، لا يحصل شيء أبدًا، نحن أهون على الله من جرعة ماء، فلو لم نكن نحن ماذا كان سيحصل؟ هل كان نظام العرفان ونظام السلوك سيتحطّم؟ ولما كان فيه أحد؟ كلاّ. لجاء ألف إنسان خيرًا منّا ولجعل الله هذه الأمور عندهم، وجعل عندهم عقلاً أفضل ونفسًا أفضل وبيانًا أفضل، وموقعيّة أفضل من كلّ جانب، ولقال هذا الكلام. فهذا عنّي.
وأمّا بالنسبة إلى الرفقاء فلو لم تأتوا أيّها الأصدقاء من الأماكن القريبة والبعيدة، فماذا تتصوّرون كان سيحصل؟ فنحن نتحدّث كأصدقاء لماذا نداري؟ لماذا؟ على الإنسان أن لا يداري في قول الحقائق. لو لم يوفّقكم الله ولم تأتوا وما بذلتم هذه الجهود لتحصيل هذه الأمور، وليصل إلى آذانكم كلام ما، وأنا مجرّد شريط، شريط مسجّل، فلو لم تأتوا ألم يكن لله أحد آخر يأتي به بدلاً منكم؟ لديه عشرة ملايين من الرجال الشجعان. فلنختبر ولنر، نحن نختبر وأنتم تختبرون، فلا أنا لي موقع في عالم الخلقة، ولا الأصدقاء يتصوّرون أنّه إن لم يكونوا لفسدت الدنيا، ولاختلّ نظام السماوات والأرض. كلاّ، فمن الذي وفّقنا؟ الله هو فّقنا أن نأتي في يوم الجمعة هذا، الذي يمكن للإنسان فيه أن يقوم بألف عمل كغيره من الناس، وفّقنا أن نأتي من الأماكن البعيدة لنستمع إلى كلمتين عن الأعاظم، موضوعين اثنين عن أولياء الله، وبالطبع لا عنّي أنا، بل أنا مجرّد واسطة، لنسمع كلمتين عن الأعاظم، عن أولياء الله، عن هؤلاء الذين مضوا، عن هؤلاء الذين تركوا أثرًا.
فلو أنّ الله لم يوفّقنا بهذا التوفيق فماذا كنّا نصنع؟ نعم ماذا كنّا نصنع؟ إنّها العناية الإلهيّة والعناية الربوبيّة التي جاءت بنا إلى هذا المكان وجمعتكم أنتم أيضًا... فقط هذه، ولا شيء سواها. فإذن من الأفضل أن نعرف موقعيّتنا ونقيّمها، ونقيّمها بشكل صحيح وواقعي.
يقولون: لو لم يكن فلان فماذا كان سيحصل؟
ـ كلاّ لجاء خير منه بألف درجة.
ـ هو وحده الذي استطاع أن يقوم بهذا العمل!
ـ كلاّ لم يكن هو.
ـ ما قام به البعض لم يقم به أحد من الماضين!
ـ فمن الذي هيّأ المقدّمات؟ من الذي هيّا هذه المقدّمات؟ من الذي أزال الأمور من الأذهان؟ ومن الذي أوردها إلى الأذهان؟ من الذي ألقى الرعب؟ من الذي أعطى الجرأة؟ من؟ واقعًا كم نحن في جهل؟ لماذا نحن في حماقة إلى هذا الحدّ؟ ما معنى لم يستطع الآخرون أن يفعلوا؟ ما معنى أنّ فلانًا وحده هو الذي استطاع؟ ما معنى فقط أنا أستطيع؟ هذه الأمور لم تكن في الماضي... فما معنى هذا الكلام؟ إلى متى الحماقة؟ وإلى متى الجهل؟ إلى متى؟
لقد كنت بنفسي في أحد المجالس فرأيت أنّ رجلاً ممّن هم موضع اهتمام الناس ومحل اهتمام الشعب، رجل معمّم وفاضل، كان يتحدّث حول أمور الثورة مع الوالد، فقال له: سيّدنا هذه الأمور التي حدثت كيف لم تحصل قبل ذلك؟ لا بدّ أن تحصل هذه الأمور فقط على يد فلان مثلاً؟ فقال له: يعني تقول إنّه أعلى من الأئمّة أيضًا؟ فالأئمّة لم يتمكّنوا من القيام بذلك، فهل هو أعلى من الإمام السجّاد؟ ومن موسى بن جعفر؟ قال: لا، موضوع الأئمّة مختلف. قال: لماذا هو مختلف؟ لماذا هو مختلف؟ من الذي قال؟ لا، لماذا؟ فلتقل إنّه أعلى في النهاية!
فلأنّي الآن أقوم بهذا العمل فأنا ـ أعوذ بالله أعوذ بالله ـ أرفع من الإمام السجّاد؟ وهناك من بلغت به الوقاحة أن صرّح بذلك أيضًا. بعض هؤلاء الكتّاب المستأجرين، رأيت في بعض مقالاتهم أنّهم قالوا إنّ زين العابدين اختار أسوأ ميتة، نعوذ بالله، عجيب عجيب أيمكن أن يتفوّه كاتب شيعيّ بكلام كهذا؟ أفّ لهذا الفم! وكسرت تلك اليد وذلك القلم الذي لم يجعل الله في رأس صاحبه وفي دماغه سوى الحماقة، بعنوان كاتب شيعيّ ومنظّر لمدارس الحريّة ومبيّن للقوانين والمبادئ الإنسانيّة! عجيب! ولكن هذه هي الحقيقة، ولولا عناية الله ماذا كان سيحصل؟ وماذا كان يمكن أن يفتح لنا الطريق لولا عنايته؟
أمر الأعاظم تلامذتهم بالخروج إلى العمل في النهار
فهذه الحالة التي أوجدها الله لا بدّ أن تكون في النهار وأن تقع فيه. لذلك فإنّ من أهمّ الأمور التربويّة عند الأعاظم من أولياء الله مع تلامذتهم، العمل في النهار، أن يعمل هذا التلميذ بما هو سالك في النهار، يخرج ويعمل. بل أذكر أنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كان يرسل بواسطتي رسائل إلى بعض تلامذته الذين لا يحتاجون إلى عمل، وكان معاشهم مؤمّنًا من مكان ما: أن لماذا هو في المنزل؟ لأجل ماذا هو في المنزل؟ لماذا لا يذهب إلى العمل؟ وكان يمنع الكثيرين بنفسه مباشرة من الجلوس في المنزل، وكان يقول: أنت لا يمكنك أن تتحرّك، لا حركة لك، حتّى إنّ بعضهم كان يخالف أمره، يعتقدون أنّ البقاء في المنزل وتحصيل بعض الحالات والاشتغال ببعض الأمور [أمر جيّد] والحال أنّ حافظًا يقول: فإنّه يلقي القلب كالمرآة في صدأ الظلام ، لقد جعل الله نظام التربية في هذا العالم على أساس أن يكون حال الإنسان في الليل بطريقة، وفي النهار بطريقة، فكيفيّة تدبير أمور العالم، والعلاقة بين عالم الملكوت وعالم الدنيا والعلاقة بين النفس وعالم الملكوت في هذه الدنيا يجب أن تكون بحيث يذهب الإنسان إلى العمل ويتعامل مع الناس ليتمكّن من الاستمرار في بعدي الحركة التربويّة، وإلا فلا فائدة. يصل إلى حالة من الإغلاق، وحالة من الانقباض، وبالطبع على كلّ إنسان أن يعمل في وظيفته وطريقته.
إضرار العمل في بعض الحالات
وبالطبع يمكن أن يعطى لكثير من الناس تكليف آخر، فكما أنّ العمل وبذل الجهد والاشتغال بأمور الكسب لازم لجماعة، فكذلك يمكن أن يكون العكس أي يكون مضرًّا لجماعة آخرين، للمتقدّمين في العمر الذين إذا أرادوا أن يدخلوا في هذا العمل خسروا أحوالهم، كلاّ لم يكن مطلوبًا منهم، بل كان المرحوم العلاّمة يمنعهم. فكما أنّ الناس الذين هم في حالة معيّنة يعرضهم الضعف والفتور والجمود بسبب عدم العمل، يمكن أن يؤدّي العمل عند آخرين إلى نظرة خاطئة وعادة نفسيّة بهذه الأمور بحيث يكون الأمر هنا على العكس. وعلى كلّ حال يجب أن يكون نظام عالم التربية والتكامل هو المعيار.
أذكر أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول عن بعض: إلى متى يريد أن يعمل؟ فليسترح في منزله ويوكل الأمر إلى أبنائه! فهذا الإنسان وصل إلى حالة يمنعه العمل فيها عن إيصال تلك الاستعدادات إلى الفعليّة، فهذا العقل ينبغي أن يعمل من الآن فصاعدًا بأمور أخرى، لا يمكن لهذا العقل وهذه النفس بعد الآن أن يشتغلا بالأحداث الخارجيّة فيعتاد، وهذه الحالة ليست جيّدة، هذه العادة مخالفة لنظام التربية. سواء وصل الإنسان في كسبه وعمله هذا إلى نتيجة ومنافع دنيويّة أم لم يصل، فهذا ليس مطلوبًا.
معنى أن لا يدبر العبد لنفسه في كسب المعيشة
هنا يظهر ذلك البعد الإلهيّ للمسألة وأنّه ما هي الرؤية التي ستكون عند السالك عندما يريد أن يشتغل بالكسب وبطلب المعيشة؟ وهو معنى كلام الإمام الصادق وأن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا. فعلى الإنسان أن لا يسعى إلى الكسب والعمل لأجل تحصيل المنفعة والوصول إلى مطامع الدنيا، بل عليه أن يسعى على أساس التكليف، سواء وصل إلى النفع أو لم يصل. فيومًا يربح ويومًا لا يربح، يومًا يخسر ويومًا لا يخسر، يومًا ترتفع أرباحه، ويومًا لا ترتفع، في كافّة هذه المراتب المختلفة من الصعود والنزول وفي جميع حالات المدّ والجزر هذه يجب أن يكون كلام الإمام الصادق هذا حلقة في أذننا أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا. عليك أن لا تدبّر مهما حصل، عليك أن تعمل بواجبك، عليك أن تنزل إلى الشارع، عليك أن تخرج من المنزل، عليك أن تفتح بابك، عليك أن تمضي إلى تلك الدائرة التي تعمل بها، علينا أن نذهب إلى مكان العمل.
أمّا لو كان ذهابنا لأجل الوصول إلى مطامع الدنيا بحيث يؤثّر عدم الوصول إلى الربح في نفوسنا، فإذا خسرنا سنتأثّر أن يا ويلنا لماذا حصل هكذا اليوم؟! لماذا سيحصل كذا غدًا؟! يا ويلنا لقد خسرت تلك الفرصة! لقد جاء فلان وانتهزها! فكلّ ذلك مخالف للصواب، مخالف. علينا أن لا نفكّر أنّنا نقوم بهذا العمل لأجل منافع الدنيا وكسب المال، بل علينا أن نقول: لأنّ الله أمرنا فإنّا نقوم بذلك. وعلينا أن نرتّب الأمور بحيث نصل إلى تلك المنافع وفق هذا النظام. أمّا ماذا يجب أن يكون في القلب؟ يجب أن يكون هذا: إن وصلنا إلى المنافع فبها وإن لم نصل فلا مشكلة. على الإنسان أن لا يختلف عنده الأمر بين اليوم الذي يصل فيه إلى المنافع واليوم الذي لا يصل فيه.
العالِمُ الذي لا يعرف وضعه المالي من سلوكه
رحم الله كباركم جميعًا ورحم الله أمواتكم جميعًا، ذهبت ذات يوم برفقة المرحوم العلاّمة إلى منزل أحد الأعاظم وهو الشيخ محمّد عبد الجواد السدهي الأصفهاني والذي كان من العلماء المنتظمين والمنزّهين وأهل التقوى. لم يكن هو في الدار، بل كان ابنه، دخلنا وكان هنا في قم، ويبدو أنّه إلى الآن لم يهاجر إلى أصفهان. وكان منزله في شارع جهار مردان (الرجال الأربعة)، كان ابنه في المنزل، فدخلنا وجلسنا، جاء بالشاي فكان المرحوم العلاّمة يتحدّث ويضحك وكان يقول له: حدّثنا عن حالاته، عن حالاته وخصوصيّاته، فقد رأيتَ منه أمورًا أو سمعت، فأنت على ارتباط بأبيك، فبيّن لنا. فبدأ بالبيان، وممّا قاله هذا الأمر المهمّ الذي قال عنه المرحوم العلاّمة عندما خرجنا: انظر هذه الجملة تكفي لمجيئنا إلى هنا، فقد أدركناها وفهمناها واستفدنا، فقال: من خصوصيّات والدنا أنّه ـ ولا يزال على قيد الحياة ـ لم نتمكّن من التمييز بين حالتي الغنى والفقر عنده، ففي النهاية تارة يكون لدى الإنسان مال وتارة لا يكون، ونحن لم نتمكّن من معالم وجهه ومن حالته أن نحسّ بوضعه الماديّ، أن نشعر أنّه الآن يملك المال أو لا يملكه، من كيفيّة تصرّفه ومن كيفيّة تعامله...
عندما خرجنا قال المرحوم العلاّمة: انظر، هذا هو الإنسان الذي لا ينفعل أخلاقيًّا وفكريًّا بالعلل والعوامل الماديّة، فإن لم يكن لديه مال عبس بحيث لا يمكن لأحد أن يسلّم عليه، لا يردّ على سلام أحد، وإن حصل على مال فإنّه يضحك حتّى للجدران والأبواب. كلاّ ليس كذلك، بل هو دائمًا على حال واحد، لو ربح في يوم مائة مليونًا ولو خسر في آخر مائة مليونًا فهو يضحك دائمًا، لا ندري ماذا جرى معه اليوم.
المهمّ أثناء الكسب والعمل هو تطبيق التجليّات الجماليّة والجلاليّة
النقطة المهمّة في هذه العلاقة هي أن يحافظ الإنسان على ذلك الجانب في هذا الصعود والهبوط، أمّا أن يربح اليوم أو لا يربح فهذا ليس مهمًّا، الجانب التربويّ هو الذي ينظر إليه الأعاظم، ويوصون مريديهم أن يعملوا في النهار لأجل هذا، فعلى أساس التوحيد وعلى محوريّة التوحيد، اليوم هم مائة وغدًا لا يوجد مائة، اليوم اثنان وغدًا عشرون، لا يختلف الأمر. ينبغي أن يبقى هذا الماء مستقرًّا على حال واحدة، آه لقد ذهب اليوم رجل، وفي اليوم التالي جاء رجل، يتغيّر حال الإنسان ويسرّ، فهذا من النفس، هذا من النفس، اليوم يحصل الإنسان على هذا المقدار من المظاهر، وغدًا تؤخذ منه فينبغي أن لا يتغيّر حاله. هذا المنهج هو منهج الأولياء.
وعلى هذا الأساس يجب أن تكون علاقة الإنسان في العمل والكسب علاقة توحيديّة، فعلى الإنسان أن يستعمل في هذه العلاقات الصفات الجماليّة الجلاليّة التي بثّها الله فيه ليلاً، وما جعل في قلبه من آياته الباهرات، عليه أن يستعمل ذلك في النهار ويطبّقه.
مثل ماذا؟ الوفاء بالعهد، أن يعمل بما قاله، إن لم يكن بمقدوره فلا يعِد. لا يعِد أحدًا عبثًا، لا يجعل الناس ينتظرونه عبثًا، إذا جعلهم ينتظرون فقد خدع نفسه، لا ليله ينفعه ولا نهاره، يجب أن يكون متعهّدًا ملتزمًا في أموره، يجب أن يكون وفيًّا في أموره، لا بدّ أن يراعي التوحيد في هذه العلاقات بشكل كامل. فلو راجعه أحد ورأى أنّ جاره يمكن أن يؤدّي حاجته بشكل أفضل، فعليه أن يدلّه عليه، ولا يقول: سأخسر هذا المقدار من المال. قد يراجعون الإنسان، قد يطرحون عليه سؤالاً يريدون منه بيانًا وتوضيحًا وهو يرى أنّ فلانًا يمكنه ذلك بشكل أفضل منه فعليه أن يقول راجع فلانًا. لماذا؟ عليه أن لا يقول سيقول عنّي هذا لا يعي شيئًا ولا قدرة لديه. فليقل فهل علاقتنا هي مع هذا الرجل؟! عليه أن لا يقول أنا أبعد هذا من عندي مما يؤدّي إلى خسارتي وذهاب هذا الربح إلى جيب إنسان آخر. فهذا من النفس.
فهذا هو معنى الادّخار في الليل والإنفاق في النهار. هل التفتّم الآن إلى معنى عدم الاكتفاء بالصلاة؟ وعدم الاكتفاء بالدعاء؟ ما كانوا يقولونه من أنّه لا بدّ من السعي في النهار، فهو بهذا المعنى، لا أن يذهب ويفتح المتجر ويقول كلّ ما يحلو له، ويعمل كلّ ما يحلو له، ويجذب الزبائن بأيّة طريقة، ويبعدهم عن الآخرين بأيّ نحو، وبأيّ أسلوب ممكن. كلاّ فهذا ليس إنفاقًا.
الناس حمقى في دينهم عقلاء في دنياهم
فالناس ماذا يصنعون؟ كلّ همّ الناس هو في أمور الدنيا هذه، وكلّما اهتمّوا بها أكثر نقص من ذاك الجانب. وهناك رواية عجيبة عن النبيّ الأكرم يقول فيها لأبي ذر: لا تصيب حقيقة الإيمان حتّى ترى الناس كلّهم حمقى في دينهم عقلاء في دنياهم.۱
فما معناها؟ من هو الأحمق؟ يطلق الأحمق على من لا يمكنه أن يعرف مصالحه، يجعل المصالح بدلاً من المفاسد، وبدلاً من أن يشرب الماء يشرب السمّ، وبدلاً من أن يقوم بالعمل المفيد له يقوم بعمل آخر، بدلاً من أن يحقّق نفعًا يشغل نفسه بعمل آخر فهذا هو الأحمق.
بدلاً من أن يتاجر بالمال ويعمل به يلقي به في مجرى الماء، فهذا هو الإنسان الأحمق، فمن هم أهل الدنيا؟ أهل الدنيا هم الذين يجعلون كلّ طاقتهم وقدراتهم وعقلهم لأجل الوصول إلى الدنيا ولأجل الوصول إلى المنصب، وليس المراد من الدنيا هو المال فقط. المال هو جزء من المسألة، لأجل الوصول إلى المناصب، لأجل الوصول إلى الرئاسات، لأجل الوصول إلى الأنانيّات، لأجل الوصول إلى الاستبداد والترفّع، نقول لهذا كذا، ولذاك شيئًا آخر، ننشر إعلانًا ضدّه بهذا النحو، ونفعل كذا ونضرب. أمّا في أمور دينهم فهم حمقى. فيا أيّها الأحمق العزيز! إن كنت تفكّر بالدنيا إلى هذا الحدّ، فلو كنت تفكّر في الله عُشر ذلك لما فعلت هكذا، لما كنت تقول كلّ يخطر في بالك للوصول إلى المنصب. لما أرقت ماء وجه المؤمن لكي تصل إلى الرئاسات، ولما قمت بما يخالف أمر الله ورسوله والإسلام للوصول إلى المال، فمن يكون من يصنع هذا؟ إنّه الأحمق بقدر ما يتذاكى للدنيا.
ذكاء عليّ عليه السلام ودهاء معاوية
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أتعتقدون أنّ معاوية ذكيّ وأنّا أحمق جاهل، والله ما معاوية بأدهى منّي [ولكنّه يغدر ويفجر]۱ أنا لديّ تقوى وهو ليس لديه، إنّ كامل همّه وفكره حين هو جالس على العرش، وحين ينصرف إلى فراشه، وحين يصبح وحين يتناول طعام الغداء وحين يتناول الفطور هو أنّه كيف أبعد فلانًا عن عليّ، كيف أعطي لفلان المال، وللآخر رسالة، ولثالث مقامًا، وأعد فلانًا بالحكومة، فأبعدهم واحدًا واحدًا.
أيّها المسكين ماذا تصنع؟! وأمير المؤمنين جالس مطمئنًا يقول: دعه يخطّط ويخطّط، فنلفترض أنّك تفوّقت في هذه الخطّة، فماذا ستقول بعد يومين لعزرائيل؟! إذا جاءك فماذا؟! هناك أيضًا ستخطّط؟! إن استطعت فخطّط هناك أيضًا. فأنا سأقع في يد عزرائيل وأنت ستقع أيضًا ـ وبالطبع لأمير المؤمنين حكومة على عزرائيل، ولكن وفق الظاهر ـ أنا سأنتهي في معاملتي إليه، وأنت أيضًا يا جناب معاوية، كلانا ستنتهي أمورنا إليه، حينها سيعلم من الذي خطّط، ومن الذي يخادع نفسه. نحن نخطّط ولكن خطّة إليهّة، خطّتنا هي عدم التخطيط، خطّتنا هي خطّة عدم التخطيط، فلتصنع ما شئت. [تقول] سأعطي لفلان مالاً ليبتعد عن عليّ! فليذهب إلى جهنّم فهذا خير، يخفّف عنّا مسؤوليّة. سأخدع فلانًا وأعطيه حكومة، هذا أفضل، سوف لن أعيّن حاكمًا بعد الآن، معاوية نفسه سيعيّن، فلن نتعب أنفسنا بعد ذلك، فأمير المؤمنين يقول لو كنت أنا قد عيّنت لكان عليّ أن ألاحقه أن ماذا فعلت؟ ماذا قصّرت؟ أرسل أموالك، أرسل سجلّك، ولكن هذا عيّنه معاوية فلن يحاسبني الله. فمن هو الأذكى هنا؟ معاوية أذكى أم عليّ؟ نجد الأمر يختلف بشكل كبير، نجد أنّ المعايير تغيّرت، إلى متى كنّا أسرى؟ والآن نجد فجأة أنّا استرحنا. فيا عجبًا إلى متى كنّا نورّط أنفسنا هنا وهناك، ونظنّ أنّ كلّ ذلك هو تكليف. كم استرحنا، هدوء، كلّ إنسان لنفسه، ما شأني؟ أصلاً ما هو دوري في هذه الأوضاع؟ أصلاً ما هو دوري في هذا النظام؟ ما هو دوري في أوضاع التدبير والتكامل هذه؟ هذا معنى أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا. معناه تدبير الإنسان، هو يدبّر، معاوية يدبّر للوصول إلى تلك الحكومة، لنحمل ثلاثين كيلوغرامًا إضافيًّا مثلاً ليزداد حملنا ثلاثين كيلوغرامًا. لنأخذ حكومة الشام ولنضف ثلاثين كيلوغرامًا أيضًا لا بأس. فما كلّ هذا؟ إنّه يضيف الأحمال، ولنأخذ حكومة مصر أيضًا، فهذه ثلاثون كيلوغرامًا جديدة، كم يمكنك أن تحمل أيضًا؟ عليك أن تخلّص نفسك من هذه الأثقال أيّها المسكين، لا زلت تضيف إلى نفسك. فما هو هذا؟ إنّه الخطأ.
أمّا أمير المؤمنين فليس كذلك. إنّه يرجو أن يأتي أحد ويأخذ عنه أحد هذه الأثقال. يهجم الناس على باب داره، فيغلق الباب اذهبوا أعزّائي انتخبوا كما انتخبم من قبل... ألستم تقولون بالديمقراطية؟ ألستم تقولون جمهوريّة؟ فلماذا جئتم إليّ؟ دعوني والتمسوا غيري۱ من هؤلاء، لقد جاؤوا جميعًا، جاء طلحة، جاء الزبير... فلا تأتوا إليّ.
لماذا قال عليّ عليه السلام فزت وربّ الكعبة؟
أفيفرح أمير المؤمنين بهذا الوضع؟ كلاّ بل سروره هو بأنّ الله أراه وجهًا من الوجوه مدّة خمس وعشرين سنة، والآن يريه لأربع سنوات وجهًا آخر، وإن شاء الله يخرج منها سالمًا، لقد كان كامل همّ أمير المؤمنين في أن لا يحصل ظلم هنا لا سمح الله، أن لا يضيع حقّ مظلوم لا سمح الله، أن لا تقع مخالفة لسنّة رسول الله، كلّ اضطراب أمير المؤمنين وقلقه هو لأجل هذا. وعندما جاء ابن ملجم وقام بفعلته قال: لقد استرحت، واقعًا يقول استرحت. ففزت وربّ الكعبة التي قالها أمير المؤمنين، فزت وربّ الكعبة التي قالها لم تكن هكذا لأجل التسلية ولأجل التفاخر. لقد رأى أمير المؤمنين أنّه بضربة ابن ملجم وصل إلى غايته، وكذلك قضى تلك الخمس وعشرين سنة بهذا النحو في المنزل ولم يمدّ يده على الخلافة وبتلك الحالة العجيبة التي أقول للأصدقاء عنها أصلاً إنّ التفكّر في سيرة أمير المؤمنين واقعًا يسبّب الجنون للإنسان، أي هو خارج عن قدرة تفكير الإنسان، أن ماذا تحمّل أمير المؤمنين وكيف عمل؟! ثمّ بعد ذلك أربع سنوات ما إن وصل إلى الخلافة بدأت معركة البصرة معركة الجمل، بدأت معركة الشام، ثمانية عشر شهرًا استشهد فيها خيرة أنصار أمير المؤمنين، ثمّ بعدها معركة النهروان، ثمّ انتهى الأمر تفضّل. لقد كانت فزت وربّ الكعبة هذه التي قالها أمير المؤمنين من أعماق قلبه، من سويداء قلبه، من تلك الحالة الواقعيّة التي كان يقول عنها الإمام: لقد ختمت سجلّي، لقد وصل الأمر إلى هنا.
زبدة الكلام في العلاقة مع الناس عند كسب المعاش
فهذا ما يرتبط بأيّ شيء؟ ما يرتبط بالكسب. فإذن ما يجب أن يلاحظه السالك في علاقته مع الناس، هو تطبيق الأسماء الجلاليّة والجماليّة لله. وسوف لن أتحدّث عن هذا الموضوع أكثر من ذلك، لأنّ الكلام يطول حول أنّ الإدراكات التي يحصّلها الإنسان في الليل لا بدّ أن يجعلها في بوتقة الاختبار في النهار، حينها سترون كيف تضطرب النفس في ورطة التعامل مع الناس ثمّ تنجو من الفساد، وأن اقتلاع ذلك الصدأ لا يمكن بالمطرقة والإزميل وبالفأس، ولكنه بتلك الطريقة يقتلع الواحد منها تلو الآخر ويرمى به بعيدًا. فيستريح شيئًا فشيئًا، وتتفتّح رؤيته، تأتي كلّ علاقة له مع الناس وتنجيه من تلك الأزمات والتعلّقات التي سيطرت على نفسه ووجوده مثل خيوط العنكبوت، فتحلّ الواحدة تلو الأخرى، ما أخذه في الليل هو الذي يحلّها، والعمل بوصايا الإسلام وما تفضّل به الأعاظم وأولياء الدين.
مجلس تمام گشت وبه آخر رسید عمر | *** | ما همچنان در اول وصف تو مانده ایم |
يقول: [انتهى المجلس وانقضى العم *** ولا زلنا حيارى في بداية وصفك]
أنا بنفسي تعبت، وأعتقد أنّ الأصدقاء أيضًا تعبوا. على كلّ حال إن شاء الله يبقى ما تبقّى من كلام حول العمل والكسب إلى الجلسة اللاحقة، لنتحدّث بعدها حول الأمور الأخرى والعلاقات الشخصيّة.
كلّنا أمل أن يجعلنا الله جميعًا عاملين بما قاله الأعاظم ومطيعين ومنقادين لطريق أوليائه ومدرستهم، وأن لا ينقضي عمرنا هكذا، فقد روي عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: مغبون من استوى يوماه.۱ أي يأتي اليوم فيجد أنّه مثل الأمس، وغده أيضًا مثل أمسه، أمّا لو رأى كلّ يوم أنّه قام بعمل ووصل إلى أمر أفضل، ازداد فهمه لأمر ما أكثر، صار طريقه أسهل، ولم يعد يعاني من هذا الغبن. وهذا ينحصر بالمراقبة التي سنتحدّث عن شروطها. وإن شاء الله يجعل هذا العمر مقدّمة للوصول إلى تلك المراتب التوحيديّة التي جعلها لعباده.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد