المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
من نقاط ضعف المجتمع الإسلاميّ عدم الإتقان في العمل وترك الوفاء بالالتزامات والوعود، رغم ما لدينا من وصايا في الأحاديث وكلمات الأولياء.
ضمن سياق شرح فقرة أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا تناولت هذه المحاضرة التدبير في العلاقات بين الناس، ودرست هذه المفردة من مفرداته، فبيّنت أثر الإتقان والوفاء في تقدّم الإنسان وتكامله وأثر تركهما في توقّف ذلك، وبيّنت اهتمام النبيّ بإتقان العمل حتّى لو كان بناء قبر كما في قصّة قبر سعد بن معاذ، وبيّنت تأكيد الأعاظم على الإتقان في كلّ شيء سواء في الدراسات الدينيّة أو سائر الاختصاصات والأعمال عادّة غير المتقن مخالفًا للإسلام.
ومن مصاديق هذا الإتقان أن يسير الإنسان في طريقه عن يقين لا عن شكّ، ولذلك من المرفوض في السير والسلوك الوسوسة والشكّ في الطهارة والنجاسة وكيفيّة التلفّظ بمخارج الحروف.
وتعرّضت المحاضرة إلى الموضع الذي يحسن فيه الاحتياط وهو ما سوى الأمور العباديّة حيث يكون الاحتياط في سياق إتقان العمل.
واستطرادًا تحدّثت عن أهميّة مقبرة البقيع وآداب زيارتها، وعن كيفيّة الحال التي يجب أن تكون عليها القبور بصورة عامّة بحيث تثير عند الزائر حالة الاعتبار.
هو العليم
إتقان العمل والوفاء بالعهد في العلاقات الاجتماعيّة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦٥
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا!
قلت يا أبا عبد الله ما حقيقة العبوديّة؟!
قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.
فليس لدى العبد تدبير بالنسبة إلى وضعه وحاله وموقعه. والتدبير بمعنى ملاحظة الأعمال التي تبعد الإنسان عن المقصود وتجعله يسير في طريق المعصية وبدلاً من تطهير رواسب الاعتبارات والتعلّقات تؤدّي إلى اهتمامه بعالم الكثرة. كان هذا كلام الإمام الصادق عليه السلام وقد تقدّم أنّه لا بدّ من الالتفات في هذه المسألة إلى أمور:
الأوّل: رعاية التدبير والتنظيم في الأمور الاجتماعيّة.
الثاني: تنظيم الأمور الشخصيّة. والأمور الاجتماعيّة قسّمناها إلى:
أمور حكوميّة وقد تحدّثنا مع الأصدقاء بما يناسب المجلس حول كيفيّة قوانين حكومة الأنبياء وحكومة أولياء الله. وطبعًا لم تُذكر كافّة المسائل، ويحتمل أن يُشار إليها في مواقع مختلفة.
والثاني: يرتبط بالأمور الاجتماعيّة الأعمّ من الشغل والمعاشرة والعلاقة مع الناس.
والثالث: يرتبط بتدبير الأمور في الشؤون الشخصيّة.
الوفاء بالعهد في العلاقات الاجتماعيّة
من الأمور الشائعة والرائجة بين المسلمين، و هو للأسف نقطة ضعف كبيرة بالمقارنة بسائر الأمم والشعوب، مسألة [إهمال] التدبير والتنظيم والتعهّد بالأمور الاجتماعيّة بين المسلمين، فمع كامل الأسف يلاحظ أنّه موجود بين الناس الملتزمين بالسير في الطريق إلى الله، رغم ما بين أيدينا من أوامر في الإسلام تؤكّد على الوفاء بالعهد والالتزام بالتعهّد والتنظيم عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام وعن أولياء الله، ولكن للأسف كأنّنا نهتمّ بكلّ شيء سوى أمر التعهّد الأخلاقيّ هذا، أو الأعلى من ذلك، التعهّد الشرعي بالأمور التي تجري بين الناس. حتّى صرنا نحن الإيرانيّين مضرب المثل بين الشعوب والأمم الأخرى في عدم الالتزام والتعهّد في الأمور الاجتماعيّة والالتزامات الاجتماعيّة، فعندما يقولون: لا تعتمد على كلام فلان يقولون إنّه مثل الإيرانيّين، أو عندما يقال ينبغي أن لا يحسب لكلامه حساب، يقال انظروا هو مثل الإيرانيّين. وفي الصدق يقولون انظروا هل هو صادق أم... يقولون مثل الإيرانيّين.
وتعبير السيّد المدرّس رحمة الله عليه حين كان يقول عندما ذهب إلى بلاد الأجانب، فإمّا سمع منه أو من السيّد جمال أيضًا، فقد نقل هذا الكلام عنه لأنّه كان في بلادهم قبله فكان يقول: هناك أثر من الإسلام ولا خبر عن المسلمين، وفي إيران مسلمون ولا خبر عن الإسلام. أو كما يقال على ما في ذهني أنّ غوتة الكاتب الألمانيّ المعروف نقل عنه أنّه كان يكتب مقالات ضدّ الإسلام وأحكام الإسلام مستهزئًا. ويقال إنّه عندما عرضت عليه المبادئ الإسلاميّة الأصيلة وبيّنت له قال: إن كان الإسلام هذا فأيّ منّا ليس مسلمًا. فهذه النقطة مهمّة جدًّا، نقطة عدم الصدق والوفاء بالتعهّدات بيننا ومع كامل الأسف صارت بيننا أمرًا طبيعيًّا وكأنّه لا محلّ لأمر التعهّد هذا في وادي الأخلاق ومدرسة الفطرة والوجدان.
أثر الإتقان والإحكام والوفاء بالعهد في تكامل الإنسان
ولو ألقينا نظرة على كافّة الروايات وخصوصًا ما عن أمير المؤمنين عليه السلام لرأينا أنّها اهتمّت بهذا الأمر العظيم من أجل تأصيل القواعد الإسلاميّة التي تصنع الإنسان. فمسألة إتقان العمل والمتانة والإحكام في العمل وصحّة العمل في العلاقات الاجتماعيّة والعلاقات الشخصيّة [مسألة مهمّة جدًّا]، ومن لا إتقان له ولا إحكام في عمله فلا تقدّم له في الأمور السلوكيّة، ومن لا يشعر بالواجب بالنسبة إلى تعهّداته الأخلاقيّة أو الشرعيّة بين الناس لا يتقدّم سانتي مترًا واحدًا في الأمور السلوكيّة، ومن لا يشعر بالواجب تجاه العقود المجراة بين الطرفين ويرى أن لا علاقة لله بذلك، ويرى أنّ هذه الأمور هي بينه وبين الناس، فهو ليس أكثر من مدّع في وادي السلوك ووادي السير والعمل.
إنّ تربية النفس هي في الحقائق والأمور الفطريّة، وليس السلوك عبارة عن القيام بمجموعة من الأعمال وأداء الصلاة والأوراد ثمّ العمل بما يحلو وبكلّ أمر مخالف جاعلاً القيم تحت الأرجل. أذكر بشكل كامل أنّي عندما كنت طفلاً كان المرحوم الوالد يواجه بعض المشكلات العمليّة بين أصدقائه حيث كانوا يأتون إليه ليحلّوا المشكلات، فيأتون لعدّة أيّام، وكان عمري حينها حوالي ثمان أو تسع سنوات، كنت طفلاً أجلس في زاوية المجلس كعنصر زائد وأنظر إلى ما يجري بينهم، فأحيانًا يرتفع صوتهم وأحيانًا يصل الأمر إلى الشجار، فأنظر إليهم وآنس بهم، وكلّما ازداد شجارهم كلّما ازداد سروري!! كنت أسرّ أن الحمد لله المجلس فيه حيويّة وليس هامدًا الحمد لله!! (مزاح)
ولكنّي أذكر أنّي كنت أسأل حينها هل هؤلاء سلاّك؟ هل هؤلاء هم مريدو فلان؟ هل هؤلاء هم الذين يدّعون مصاحبة المرحوم العلاّمة؟ هل هؤلاء هم الذين يقرأون في مجالسهم شعر حافظ ودعاء الجوشن ودعاء السمات وأمثال ذلك؟ فهذا الأمر لم يكن مقبولاً عند طفل ابن تسع سنين. لماذا؟ لأنّ الطريقة الذي كنت أراها كانت مخالفة للفطرة والوجدان. فلتقرأ كامل ديوان حافظ من أوّله إلى آخره لن ينفعك، فما دمت في عملك بين الناس وفي عملك وحياتك تخون حافظًا ومدرسة حافظ فأيّة قراءة لشعر حافظ هذه؟ّ وأيّ قراءة لدعاء الجوشن؟! وأيّ ذكر؟ّ أمِن الصواب أنّ فلانًا الذي يعدّ نفسه منتسبًا إلى فلان يكون في السوق وفي المجتمع على نحو في عمله بحيث يجعل الناس يقولون: انظروا هذا تلميذ فلان، حينها يأتي اللاأباليّون وعديمو الأخلاق فيسخرون من ذلك الرجل ومدرسته؟! لماذا؟ لأنّه هو أيضًا لا أباليّ بالنسبة إلى الأمور الأخلاقيّة، وبالنسبة إلى تعهّداته. فهذا ليس صحيحًا، هذا ليس طريق السلوك ومنهجه، هذا ليس طريق أبناء المجتمع العاديّين ومنهجهم فضلاً عن أن يكون طريق الذين يدّعون اتّباع الأعاظم.
في أحد أيّام الجمعات ـ ولأنّي أنوي أن أنقل الكلام الذي سمعته من المرحوم الوالد في هذا المجال ـ أذكر أنّه في أحد الأيّام ـ وكان يوم جمعة ـ كان المرحوم العلاّمة يتحدّث عن هذه الآية الشريفة مع الرفقاء في مسجد القائم في طهران والتي هي: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيًّا}۱ وطبعًا المراد من النبيّ إسماعيل في هذه الآية كما يستفاد من بعض الروايات ليس النبيّ إسماعيل ابن النبيّ إبراهيم، بل كان هناك إسماعيل آخر، كما يمكن أن يكون هو نفسه، على كلّ حال، كان هناك إسماعيل آخر من الأنبياء نزلت هذه الآية تتحدّث عنه {إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيًّا} عندما كان يتكلّم كان يقف عند كلامه، عندما يقول أمرًا كان يقف عنده. لم يكن يقول: أنا أنجز لكم هذا العمل ثمّ يمضي إلى عمله الخاص. هذا كلّه خطأ ومخالف للإسلام، ومخالف للشرع وحرام. لم يكن في تعهّده مع النّاس يطرح أمرًا فينتظرونه ثمّ يقول لم أتمكّن. كلاّ إنّه كان صادق الوعد ثابتًا فما معنى ذلك؟ يعني حتّى على قطع رأسه لم يكن يخالف ما وعد، هذا من يدعى صادق الوعد. كان المرحوم العلاّمة يتحدّث عن هذا الأمر ثمّ تعرّض للأمور الأخلاقيّة والشرعيّة فالإنسان بما هو إنسان فضلاً عن أن يكون مسلمًا، إن كان هذا الإنسان شيعيًّا ويعدّ نفسه من شيعة وأتباع أمير المؤمنين عليه السلام، الشيعيّ الذي يرى نفسه من أتباع الإمام السجّاد عليه السلام الذي قال: والله لو أنّ قاتل أبي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه.٢
الشيعيّ الذي هو تابع لمن يعتقد أنّه أوّل متعهّد وأوّل صادق في جميع القيم الفطريّة والقيم الإنسانيّة بين الأمم، وصاحبِ شعار بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق بعثت لأبلغ بمكارم الأخلاق والمكرمات الإنسانيّة الأخلاقيّة الرفيعة إلى منتهاها، وليس وراء أحكامي الشرعيّة وتشريعيّ الإلهيّ حكم تشريعيّ آخر وحكم أخلاقيّ وقانون تربويّ آخر. فمشايع هذا الرجل كيف ينبغي أن يكون؟ لا بدّ أن يكون بحيث لو سئل الناس ممّن تتعلّمون الصدق؟ لقالوا: من هذا الشيعيّ. ممّن تتعلّمون الوفاء بالعهد؟ لقالوا من هذا الشيعيّ، الوفاء بالعهود التي بين الطرفين و...؟ من هذا الشيعيّ. المتانة والإتقان في العمل والدقّة وعدم المرور على العمل مرور الكرام كلّ ذلك لا بدّ أن يتعلّم من الشيعة.
هناك الآن بين الشعوب والأمم المختلفة أناس عملهم صحيح واقعًا. وقد ذكرت لكم يومًا أنّ هناك الآن في شعوب الدنيا من هم كذلك. ليس الأمر أنّهم حيث لم يكونوا مسلمين فليس لديهم مرافعات ومحكمة وقانون، فالجميع يعملون وفق وظائفهم الخاصّة إمّا على أساس الأخلاق والفطرة أو على أساس حركة ميكانيكيّة لدينا علىها ملاحظات هامّة، فهم متعهّدون بالنسبة إلى الأمور الأخلاقيّة. ولكن لماذا نحن هكذا؟ ثمّ ضرب سماحته مثالاً هنا: فقد كان هناك أحد الأصدقاء وكان عاملاً في تمديد الأسلاك الكهربائيّة في البيوت وتأمين الإضاءة وأمثال ذلك. فوضع شريطًا في مكان ما، وبدلاً من أن يكون للمروحة التي تسحب الهواء كان لمصباح كهربائي، ولم يكن بشكل محكم بل وضعه هكذا ومضى. وبعد مدّة ذهب أحد الأصدقاء لتنظيف المكان غافلاً عن أنّ هذا الشريط لم يكن قد وصل بشكل جيّد، ولم يراعَ فيه جانب الأمان، وكان المكان رطبًا فوقعت يده على مكان فأصابته حالة عجيبة من مسّ التيّار الكهربائي وقُذِفَ به جانبًا وبقي مدّة مغمى عليه. وقد أدركه الله برحمته، فقال المرحوم العلاّمة بعد ذلك كما أذكر: إنّ هذا العمل الذي قام به ذلك الرجل عمل غير إلهيّ.
ثمّ بعد ذلك نقول نحن سالكون في طريق الله، نصلّي صلاة الليل، نداوم على الذكر. هذا العمل غير إلهيّ، صحيح؟ لا بدّ ن يكون هذا الشريط موصولاً بشكل جيّد بذلك الجهاز ويحقّق الأمان ـ وقد كان المرحوم العلاّمة من أهل الخبرة في هذا المجال ـ فهذا يصبح عملاً من أعمال السلاّك، فلا تتصوّروا أنّ معنى السلوك هو مجرّد قراءة الدعاء، كلاّ فمجرّد قراءة الدعاء لا تحتاج إلى جهد.
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: لا تنظروا إلى صلاتهم وصيامهم.۱ وهذا أنا أضيفه: الصلاة والصيام أيضًا أيضًا لا يحتاجان إلى جهد فيمكن لأجل الرياضة أن تقوم وتصلّي بضع ركعات، وربّما نقلق في الليل فنتحيّر ماذا نصنع فنصلّي بعض ركعات نمنّ بها على الله، فهذا لا يحتاج إلى جهد. الصلاة لا تحتاج إلى جهد، الصوم لا يحتاج إلى جهد، بل تسبّب الصحّة والسلامة للإنسان، أليس كذلك؟ إنّ ما يحتاج إلى جهد هو الالتزام الأخلاقيّ والالتزام الشرعيّ بالاتّفاقات بين الطرفين، إنّ الصعب هو العمل بهذا حيث يكون هناك إنسان ينتظر ويفكّر في أمر ما، هناك إنسان قد فرّغ وقته لهذا الأمر، هناك إنسان ينتظر وهذا يمشي في الشوارع هكذا واضعًا يده في جيبه وكأنّ شيئًا لم يكن، فهذا لا إسلام له، هذا ليس مسلمًا، وإن قال أنا مسلم، ولو قال أنا سالك، ولو قال أنا شيعيّ، كلاّ. المسلم هو من يلتزم بالحدّ الأدنى من القواعد والتكاليف الإلهيّة.
ثمّ كان المرحوم العلاّمة يقول: عندما تعِدُ الناس أن تنجز عملاً في أسبوع، فلا بدّ أن تنهيه في أسبوع، ولا ينبغي أن يكون ثمانية أيّام. عندما تقول للنّاس: إنّك ستسلّم إليهم هذا العمل في وقت ما، فلا بدّ أن تسلّمه في الوقت وفقًا للقانون الشرعيّ والتكليف الإلهيّ، لأنّ أفكار الإنسان وانتظاره قد توجّها نحوك. لا أنّه إن لم يمكن اليوم فغدًا ثمّ بعد غد، أو الأسبوع القادم، أو بعد أسبوعين، بعد سنة، بعد سنتين وهكذا. فهذا ليس عملاً إسلاميًّا، ومن يعمل هكذا فليعلم أنّه في تلك الحالة ليس مسلمًا، ليس مسلمًا. من هو المسلم؟ هو الذي إذا قطع وعدًا فكّر فيه قبل أن يفكّر في أموره الخاصّة، لا أن يضع رأسه على الوسادة وينام وإن لم ينجز الأمر فليكن. كلاّ عندما يكون هناك تعهّد مع الناس فلا بدّ أن يعمل به ويفكّر به قبل أن يفكّر في أموره الشخصيّة والأسريّة. فالآن نقوم بهذا العمل ونسافر هذه السفرة ونصرف هذا المال، ونصرف ذاك، ننجز هذا العمل، ثمّ إن لم يكن ذاك العمل فليكن، فهذا ما حصل والله يدبّر الأمر بنحو من الأنحاء. كلاّ فهذا لا معنى له.
أثر مخالفة العهد على النفس
علينا أن نعلم جميعًا أنّ كافّة المخالفات في التعهّدات الشرعيّة والتعهّدات الاجتماعيّة تترك أثرًا سيئًا وخطيرًا على نفوسنا بشكل دقيق، تترك أثرًا سلبيًّا كبيرًا على أرواحنا وسلوكنا بحيث يمكن أن يشاهد في وجوهنا أيضًا، لماذا؟ ثمّ بعد ذلك يأتون ويقولون نحن لم نتقدّم فماذا نفعل؟ هل نفعل كذا؟ لا معنى لـ "ماذا نفعل؟ ماذا نفعل؟" أنت لم تقم بما يجب عليك، أنت لم تقم بتكليفك، أنت تساهلت في الأمور، أليس كذلك؟ فهذه هي النتيجة، أنت لم تهتمّ بالأمور كما ينبغي، أنت لم تهتمّ بإتقان العمل.
أهميّة مقبرة البقيع وضرورة احترامها
عندما توفّي سعد بن معاذ والذي كان من كبار الصحابة، حفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم له قبرًا، شيّعه، وقال النبيّ أرى الملائكة تحمل جنازة سعد بن معاذ، وتتوجّه به إلى المقبرة، مقبرة المدينة البقيع، فهناك دفن سعد بن معاذ، وفيها أبضًا الكثير من الصحابة الكبار، وكثير من أقارب رسول الله وأهل البيت لأنّ الجميع كانوا في المدينة في النهاية، فقد قضوا حياتهم وأعمارهم في المدينة. ولذلك علينا أن لا ننظر إلى مقبرة البقيع على أنّها مقبرة عاديّة. علينا أن نعلم أنّ في كلّ شبر وشبر من هذه المقبرة وليّ من أولياء الله، فيجب أن تذكر هذه المقبرة باحترام. وإذا تشرّفتم بالذهاب لزيارة الأعتاب المقدّسة والمدينة ومكّة ـ رزق الله الجميع ذلك ـ فعلى الرفقاء أن لا ينسوا ذلك، وأنّ كامل مقبرة البقيع لها حكم حرم الإمام عليه السلام. فإذا دخلنا إليها يجب أن نخلع أحذيتنا عند الباب، وأن ندخلها حفاة، سواء قرب قبور أئمّة البقيع الإمام الحسن المجتبى عليه السلام والإمام السجّاد عليه السلام والإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام، والذين هم في القسم الأمامي من المقبرة، فلا يدخلنّ أحد بحذائه ثمّ يزور! وهكذا رأيت بنفسي وكما أعلم ورأيت من المرحوم العلاّمة في زيارته لسائر القبور كقبر إبراهيم بن رسول الله والذي هو أدنى يسيرًا أو سعد بن معاذ والذي هو أدنى منه، وسائر القبور المحترمة لأولياء الله وأهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنا رأيت أنّ المرحوم العلاّمة نفسه كان يذهب إلى تلك القبور حافيًا. على كلّ حال فهذه المقبرة مليئة بالنور وهي مقبرة غير عاديّة.
إتقان النبيّ لقبر سعد بن معاذ
فعندما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يلحد سعد بن معاذ في القبر وفي اللحد الذي يجعل فيه، حيث نزل النبيّ بنفسه ولقّنه بنفسه وفتح الكفن، واهتمّ النبيّ هنا كثيرًا بصاحبه هذا ممّا لفت أنظار الجميع. واللطيف هنا أنّا نجد هذا الإتقان والإحكام في العمل، فكلّ شيء له حسابه، فبينما كان رسول الله يلحده وكان يرصف تلك الأحجار بعضها إلى جانب بعض، كان يسدّ الخُلل والفتحات والفرجات، وكان يقوم بذلك بدقّة، فهذا هو عمل نبيّنا، فليس الأمر بالأمر العاديّ، فلو كنّا نحن ماذا كنّا نصنع؟ لألقينا سطلين من التراب وأنهينا الأمر. ولكن العمل عمل نبيّنا. قالوا لنبيّنا يا رسول الله: إنّه قبر في النهاية ولا يستحقّ كلّ هذا الاهتمام.
ضرورة أن تكون المقابر والقبور على حال من البساطة وإثارة الاعتبار
فقال النبيّ: نعم أعلم أنّه قبر ـ وهذا ما نقوله نحن الآن عن لسان النبيّ ـ وأنا أيضًا آمر بأن تكون المقابر بسيطة لأنّي في الروايات وفي السنن الإسلاميّة أنا آمر بذلك، أنا بنفسي آمر أن تكون المقابر بسيطة، لكي يتحقّق عنصر الاعتبار لمن يدخلها، ليعتبروا من عالم ما بعد الموت، ومن هذه المرتبة من الأمور، وأن يحصل التفات إلى القبور والموت دون غيرهما، وأمّا تزيين المقابر وتزويقها فهو كلّه مخالف للشرع. لقد جعلوا القبور على حالة فيها الأزهار والبلابل والأشجار والسرو والخضرة وأمثال ذلك وباقات الزهور، وهذا كلّه من السنن الغربيّة، وهي مخالفة للإسلام. ما ينبغي أن يكون في المقبرة هو عنصر العبرة فقط وفقط، يجب أن يكون القبر عاديًّا. يجب أن لا يُرفع، إلا قبور أصحاب الشأن فيجب أن تكون أرفع قليلاً لكي يكون لها خصوصيّة عن الآخرين، كما لو كان هناك أحد الأعاظم في مقبرة. أمّا أكثر من ذلك فلا. بل يجب أن يكون القبر عاديًّا ومسطّحًا، وعليه حجر عاديّ لكي يعرف وتقرأ الفاتحة عنده، فهذا لا إشكال فيه. أمّا ما يزيد على هذا المقدار، وجعل المقابر حدائق وإخراجها عن هيئة الاعتبار بها وأخذ العبرة منها، فهذا كلّه خطأ. هل صار الأمر واضحًا؟ يجب أن تكون المقبرة بحيث إذا دخل إليها الإنسان تتغيّر حاله، ينظر إلى هذه القبور حيث الجميع قابعون، يشعر أنّه هو داخل هذا القبور، إذا دخل إلى المقبرة لا بدّ أن يتخلّص من التعلّق بالدنيا وبما وراءه، يجب أن يختلف حاله ما بين الدخول إليها والخروج منها. أليس كذلك؟ أمّا الآن فإنّا نذهب إلى المقابر وكأنّنا ذهبنا إلى حديقة. ندخل إلى المقبرة وكأنّا دخلنا مرجًا أخضر متألّقًا. يقولون: في النهاية يأتي أهل الميت فتسرّ قلوبهم حين يرون هذا. كلاّ فمن هم أهل الميت؟ يجب أن يعتبر أهل الميّت به، وأن يفترض أنّ هذه القبور هي له. هل تلتفتون؟ وأن يجعل نفسه مكانه، لكي تكون هذه الحركة مفيدة له، وهذه الزيارة سببًا ليقظته. صحيح؟
أتقن ولو قبرًا
لقد قال رسول الله: نعم أعلم هذا، وأنا بنفسي أوصي بهذا ولكنّ هناك وصيّة: قال النبيّ: رحم الله من عمل عملاً صالحًا فأتقنه. رحم الله من عمل عملاً صالحًا أمّا السيّء فأصلاً لا شيء، لا كلام عنه، يعمل عملاً صالحًا وبشكل متقن. فأوّلاً لا بدّ أن يكون العمل صالحًا لا فاسدًا، ولا مشتبهًا، ينبغي أن لا يكون عملاً فيه شكّ وشبهة، وثانيًا: أتقنه. فلا بدّ أن يقوم به بشكل صحيح. ثمّ بواسطة أمر ما يزول، فلو زال فهذا أمر آخر. فهذه مسألة أخرى. صحيح؟
وهنا ما أريد أن أقوله هو أنّ لكلّ شيء حسابه الخاص، فبعضهم شعر بالغبطة تجاه سعد بن معاذ، أن ليتنا كنّا مكانه! هنيئًا لك يا سعد! لقد كنت هكذا، فرسول الله نزل إلى قبرك وحلّ كفنك! هو الذي ألحدك، وأنزلك إلى قبرك، فهذا أمر مهمّ للإنسان. فقال النبيّ: لا ليس الأمر هكذا، لكلّ شيء حسابه، فأنتم لا تعلمون كيف هو عذاب القبر عليه، ضغطة القبر لا عذاب القبر، وكيف ضغطه ضغطة عجيبة وشديدة. فتعجّب الجميع، كيف يا رسول الله؟ فقال النبيّ: لأنّه كان فيه غلظة وسوء خلق مع أهله، مع زوجته وعياله. لذلك فقد ضغطه القبر.۱ كان رجلاً عظيمًا جدًّا، فالنبيّ فعل ما فعل والملائكة شاركت في تشييعه، ولكن لأنّه كان يقوم بهذا العمل الخاطئ أثناء حياته فلا بدّ أن يدفع حساب ذلك. وأن يعبر عن هذه العقبة. كلّ شيء لا بدّ أن يكون في مكانه وهذا هو الدين المتقن. لا الدين العبثيّ، الدين الذي يقوم على الإتقان في كلّ أسسه وقواعده.
إيصاء الأولياء والأعاظم بالإتقان في كلّ شيء
لذلك فإنّا نرى أمر الإتقان هذا في كلّ شيء، ونلاحظ الإحكام في كلّ شيء، فإذا نظرنا إلى كلام الأولياء والأعاظم نرى أنّهم يوصون كلّ إنسان في أعماله وأموره الاجتماعيّة بالأفضل. فلو كان الإنسان طالبًا للعلوم الدينيّة فعندما يريد أن يشرع يوصونه بأن لا يضيّع دقيقة واحدة. فهذا العمر الذي وهبك الله هو لتحصيل العلوم، فقد كان [المرحوم العلاّمة] يقول لو كان بمقدار عشرة أضعاف فهو يستحقّ. فلو ضاعفه عشرة أضعاف فهو أيضًا يحتاج إلى تحصيل وتدارك وصعود لقمم الفهم والإدراك. فقد كان دائمًا يوصي بالأفضل، فإن كان إنسان ما طالبًا للعلوم الدينيّة كان يقول له: يجب أن لا تتلف من وقتك ساعة واحدة، لا تتلف دقيقة واحدة. اجعل كلّ شيء مقدّمة للدرس. لا تقل لدرسك عندي عمل، قل لأعمالك عندي درس. عليك أن تجعل مباحثتك بهذا النحو، والتحضير للدرس بهذا النحو، يجب أن يكون الدرس بهذا النحو، يجب أن يكون همّك هو الوصول إلى أعلى قمم المراتب العلميّة، هذه كانت وصاياه.
وللأصدقاء في الاختصاصات الأخرى كالهندسة والطبّ وسائر الاختصاصات الجامعيّة كان يقول: يجب أن تصل إلى أعلى رتبة من ذلك الاختصاص. لا تقنع بالقليل أبدًا. إن كنت تريد أن تكون طبيبًا فلا بدّ أن تكون متخصّصًا أو بروفسور، إن كنت تريد الوصول إلى تجربة فلا بدّ أن تصل إلى الأفضل. وبصورة عامّة انظروا إلى طريقة التفكير، فما أريد أن أصل إليه هو أنّ طريقة تفكير وليّ من أولياء الله هي الأفضل. لماذا؟ لأنّ نظام الخلقة هو على النحو الأفضل. هو نفسه عندما كان يراجع الأطبّاء كان يرجع إلى الطبيب الأفضل في اختصاصه. فمثلاً كان حينها داخليّ وعيون، وأذن أنف حنجرة...
ذات يوم مرض لي ابن فأخذته في مشهد إلى أحد هؤلاء الأطبّاء، أطبّاء الأطفال، وكان جيّدًا، ولكن في مستوى معيّن. ولم يكن في المرتبة العليا بل كان طبيبًا في النهاية وطبيبًا جيّدًا. وعندما سمع المرحوم العلاّمة قال: لماذا لم تأخذه إلى الطبيب فلان؟ انظروا فماذا يريد أن يبيّن؟ يريد أن يبيّن أنّ السالك لا بدّ أن يخطو كلّ خطوة بإتقان. لا تتصوّروا أنّ هذا مجرّد أمر ظاهريّ، كلاّ، بل هو كان هكذا حتّى وصل إلى هذه المرتبة. فلو لم يكن في فكره وطريقه ومسيره هكذا لما وصل إلى هذه المرتبة. وبالطبع لكلّ إنسان استعداده الخاص. وليس من الضروريّ أن يصل كلّ إنسان إلى أيّ مرتبة، وأن يحوز أيّ مرتبة يريدها. فاستعدادات الناس مختلفة. ولكنّ الكلام هو في أنّه في تلك المرتبة من القدرة التي يمتلكها وذلك المقدار من السعة التي لديه لا ينبغي التقصير. فنظام الخلقة هذا القائم على أساس النظام الأحسن والأتقن، فلو أراد الإنسان أن يصل إلى هذا النظام الأتقن الذي هو نظام التكوين من خلال تربية التشريع واتّباعه فلا بدّ أن يكون وفق ما قرّره الله تعالى له فإن لم يكن كذلك فسيخسر. فلو أنّ الإنسان قصّر في إتقانه للأمور فإنّ ذلك سيترك أثرًا سلبيًّا على نفسه بغير شكّ. فليس هناك انفصال بين الأمرين.
من الإتقان في العمل الانطلاق من اليقين
لذلك فإنّ واحدًا من كثير، بل يمكن أن نقول واحدًا من أهمّ الأمور بالنسبة للسالك مسألة اليقين والاستحكام في طريقه الذي يسلكه. فالمبتلون بالشكّ والوسوسة ـ الوسوسة في الأمور الظاهريّة ـ لا يمكن أن يتقدّموا أبدًا على صعيد السير والسلوك. ولو صلّوا صلاة الليل مائة سنة فإنّهم لن يتحرّكوا، لأنّ السلوك يخالف الوسوسة، يعارضها، هما متناقضان. المبتلون بالوسوسة في الطهارات والنجاسات، المبتلون بالقيام بعمل ما بشكل متكرّر، والمبتلون بالشكّ ليس لديهم أيّ حركة سلوكيّة، والشكّ في أساسه مناف للحركة السلوكيّة ولطريق الله.
اعتراض المرحوم العلاّمة على دعوة المجتهد مقلّديه إلى الاحتياط في الأمور العباديّة بدلاً من تقديمه الفتوى
الذين يحتاطون في الأمور، ويحتاطون بشكل دائم ويحتاطون دائمًا في الأحكام الشرعيّة، لا يؤثّر فيهم العمل الشرعيّ أثره المعنويّ. وقد كان المرحوم العلاّمة يعترض بشدّة على الذي يدعون الناس إلى الاحتياط بدلاً من تقديم الفتوى والاجتهاد. كان يقول: إن كنت تستطيع أن تفتي فأفت. وإلاّ فلا تفت! ما هذه الاحتياطات؟! لماذا الاحتياط؟ الاحتياط يعني عدم اليقين بالحكم، الشكّ في الحكم، الشكّ في التكليف، فعندما يريد المكلّف أن يقوم بعمل ولا يدري هل هو صحيح أم باطل، أو لا يدري أيّ عمل هو الصحيح؟ ما النيّة التي ينويها في عمله الذي يقوم به؟ كان يقول: العمل الذي هو قاطع للتعلّقات ومحرّك للنفس نحو التعالي هو العمل الذي يؤدّى عن جزم، يؤدّى عن يقين. إنّه عملي الذي أقوم به، إنّه تكليفي الذي أقوم به، أمّا أن أقوم بهذا وأقوم بذاك وأنا لا أدري أيّهما هو الصحيح فهذا ما لا يمكن أن يؤدّي إلى نتيجة.
الاحتياط في الأمور غير العباديّة نوع من الإتقان
وبالطبع هذا الأمر هو في الأمور العباديّة أمّا في الأمور العاديّة فإنّ الاحتياط بنفسه يؤدّي إلى الإتقان في العمل أحيانًا. فمثلاً لنفترض أنّ طبيبًا لم يكن المرض مشخّصًا عنده يحتمل بنسبة اثنين إلى عشرين أو إلى ثلاثين أن يكون منجّزًا، فلا بدّ أن يعطي الدواء للمرضين كليهما. فلا يمكنه أن يترك هذا الأمر هنا. هذا الاحتياط هنا لا يتنافى مع إتقان العمل، بل هو في سياق إتقانه. أمّا في الأمور العباديّة فعلى المكلّف أن يقوم بالعمل عن يقين بأنّه هو المطلوب منه. أمّا أن أقوم بهذا العمل احتياطًا فهذا ما يؤدّي إلى الترديد في النفس، وفي النتيجة عدم ذلك التأثير اللازم للحركة والعبور من قبل الإنسان.
بالطبع سنتحدّث عن هذا الأمر لاحقًا، والآن أتحدّث مع الأصدقاء بصورة موجزة. وهذا الأمر بنفسه جار في الأمور السلوكيّة. ففي الأمور السلوكيّة من كان صاحب وسواس فهو ليس سالكًا. من كان صاحب وسواس فلا يمكنه أن يتحرّك، من كان لديه وسواس وهو لا يعرف...
سيرة أولياء الله التعامل بعفويّة مع موضوعي النجاسات ومخارج الحروف
أيّها السادة! أيّها الأصدقاء! هل علينا أن نتّبع غير ما ورد عن الأعاظم والأئمّة في أعمالنا؟ هل نقوم بغير ما رأيناهم يقومون به؟ فاللباس الذي نلبسه هم كانوا يلبسونه. والأعمال التي نقوم بها في أيّامنا هم كانوا يقومون بها، كانوا يقومون بها. برامج العمل، السوق والتجارة والدراسة والبحث وأمور المنزل وخارجه كلّ ذلك هم أيضًا كانوا يقومون به، لم يكونوا في وقت من الأوقات يقومون بأمر خارق للعادة. في الطهارات والنجاسات وفي الأمور العباديّة لم يكونوا يقومون بأمور خارقة للعادة، لم يكونوا يجعلون لأنفسهم حريمًا خاصًّا حتّى لا تترشّح إليهم النجاسة. سمعتم أنّ بعضهم من أهل هذه الأعمال الخارقة يقولون إنّهم أخذوا إنسانًا إلى مكان وخطّوا حوله خطًّا لا تدخله الحيوانات، لا تدخله الحيّة والعقرب والصرصار وأمثال ذلك. لم يكن برنامج هؤلاء هكذا. لم يكونوا يجعلون حولهم وحول حدودهم خطًّا لا تترشّح إليه النجاسة، كلاّ بل كانوا بشكل طبيعيّ، كانوا يلبسون الكتّان والصوف الذي نلبسه نحن، وكما نعمل نحن في حياتنا هم كانوا يعملون أيضًا، كما أنّنا على تماسّ بهذه الأمور كانوا هم أيضًا على تماس بها. وكما نقول نحن تكبيرة الإحرام كانوا هم أيضًا يقولونها، هل رأيتم يومًا ما ـ أنا لم أرَ في حياتي ـ وليًّا من أولياء الله أو إنسانًا لم يصل إلى الولاية ولكنّه في طول الولاية، وفي طريق الولاية وفي طريق السلوك، يقول مكرّرًا: الله أكبر. ثمّ يرفع يديه من جديد ويقول: لم تكن صحيحة؟! ليس لدينا شيء من هذا. لم نشاهد شيئًا من ذلك أصلاً. أو يبالغون إلى حدّ كبير في التلفّظ بالكلمات أثناء الصلاة بحيث ينسون الله ورسوله، لا أدري مع من يتكلّمون؟ أنت تتكلّم مع نفسك أم مع الله؟ أنت تؤلّف جملاً أم تتكلّم مع الله؟ عندما تصلّي يا عزيزي فالله أمامك، فمثلاً جاء الله إلى هنا، مثلاً فالله لا يمكن أن يأتي، افترض أنّ إمام الزمان عليه السلام إمام الزمان أرواحنا فداه جاء إلى هنا وأنت تريد أن تقول له أمرًا ما. يا بن رسول الله حاجاتنا... فماذا تقول؟ هل تجعل الحاء۱ هكذا؟! فيقول الإمام: ماذا تقول أنت؟ هل تتكلّم معي أم تريد أن تصحّح الحروف بشكل منتظم؟ ومسألة الصلاة هكذا. هكذا هي الصلاة. يا بن رسول الله اقض حاجاتنا [مع التأكيد على مخرج الحاء] فأيّ نوع من التحدّث هذا؟! يا بن رسول الله اقض لنا حاجاتنا. فهكذا ينبغي أن نتكلّم مع الله، فالله أيضًا هو أمامنا. فالله يقول: أنت في النهاية تتكلّم معي أم تمثّل أداء الصلاة؟ وواقعًا كم نحن بعيدون؟! وكم نحن مبتعدون عن منبع الشريعة بحيث صارت كافّة أعمالنا وكافّة عباداتنا وكلّ ما يسبّب لنا القرب من الله وما ينبغي أن يقام به في سبيل تقرّبنا وحركتنا إلى الله وحضور قلبنا بين يديه، صار كلّ ذلك مصروفًا في الأمور الظاهريّة وتركيب الألفاظ والعبارات وأن أجعل هذا العمل صحيحًا وذلك العمل صحيحًا وهكذا حيث لا أثر لله في أعمالنا.
ولذلك قال المرحوم السيّد الحدّد رضوان الله عليه للمرحوم مطهّري: فمتى تصلّي إذن؟! يا من هو دائمًا... وألف رحمة على المرحوم مطهّري الذي كان يشتغل أثناء الصلاة بتخلية الخواطر وتخلية الأفكار. نحن حتّى بتخلية الأفكار أيضًا لا نشتغل، نحن مشغولون بالألفاظ ومن أين تخرج ضاد {والضالين} وعين {نستعين}. كلاّ يا عزيزي فلتخرج من أيّ موضع فلا إشكال، فلتخرج الضاد من أيّ موضع، انظر ماذا تفكّر أنت الآن ومع من تتكلّم من هو الذي أمامك؟ لماذا لأنّا لا نرى أحدًا في المقابل. لو كنّا نرى في المقابل من هو الذي نكلّمه واقف أمامنا إلى جانبا خلفنا فوق رأسنا وفي جميع جوانب وجودنا حينها لن نفكّر أبدًا في اللفظ. نعم يجب على الإنسان أن يهتمّ بالقراءة ابتداءً ضمن حدود الإمكان، أمّا بعد أن تعلّم تلك القراءة فعليه أن لا يشغل ذهنه بـ {ولا الضالّين} إن بحثتم عن {ولا الضالين} فالله سيختفي بهذا المقدار، لقد قلت لكم الأمر في النهاية. وإن بحثتم عن {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} فالله قد اختفى بهذا المقدار، وانتهى الأمر، وبقيتم أنتم والألفاظ، أنتم وبعض التعب والأذى الذي لم يفدكم شيئًا. أليس كذلك؟
لذلك ففي موضوع الوسواس منتهى كلام الأعاظم أنّه يجب أن لا يكون لدى السالك وسواس، يجب أن لا يكون لديه! عليه أن يترك الوسواس! إذا احتمل أنّه أخطأ فعليه أن لا يعتني ويقول: صحيح. هل المطلوب أن تقبلوا أنتم هذه الصلاة أم أن يقبلها الله؟ الله يقول: هذه صحيحة. الله يقول هي صحيحة. أأنتم تريدون قبولها أم الله؟ عندها يسبّب هذا أن يشكّ الإنسان في باطنه وفي نفسه بكلّ أمر يعرض له، ولا يتمكّن أبدًا من التقدّم خطوة بعد خطوة، لن يتمكّن من التكامل. هذا حول الأمور الاجتماعيّة.
وبالطبع هناك بعض الموضوعات الأخرى ترتبط بهذا المجال، وترتبط كذلك بالأمور الشخصيّة والعلاقات بين الناس فكلّ ذلك يندرج تحت التدبير والتنظيم. وإن شاء الله نوفّق لأن نكون في خدمة الأصدقاء في فرص أخرى.
جعلنا الله إن شاء في زمرة العاملين بتكاليفه، ولا نتصوّر أنّ وضعنا جيّد لمجرّد انشغالنا ببعض الأمور وبعض التصوّرات والتخيّلات فنظنّ أنفسنا في الطريق بغير اهتمام بما أمر به الله من تكاليف ووظائف كما قال الأعاظم.
أذكر أنّ المرحوم العلاّمة في السنة الأخيرة من عمره تقريبًا كان له كلام قال فيه ولا زلت أذكر هذه الجملة في بدايته: لا تظنّوا أيّها الرفاق أنّه يتمّ أمر السلوك بالشعار، وأن يؤدّي السلوك بدون عمل إلى نتيجة. كلاّ فالأمر ليس كذلك. ثمّ قال: لقد أدّيت أنا واجبي في الإبلاغ، والأمر إليكم بعد ذلك. فلا تأتوا إليّ يوم القيامة تقولون: لقد صرنا على هذا الحال، لقد صرنا على ذاك الحال. فالسلوك بغير عمل، والسلوك بغير تعهّد والتزام بالأمور، والسلوك بدون إتقان ليس له أيّة ثمرة للإنسان، بل ما أريد قوله أنّه يؤدّي إلى مشكلة في ذاك العالم. لأنّ الله يقول: لقد فتحت عينك، أمّا الآخرون فيمكن أن يقولوا: نحن لم نلتفت. لم يبلغنا الأمر. لم نعثر على الأمر. ولكن بعد أن فتح الله الأعين فالأمر سيكون مشكلاً.
كلّنا أمل أن يأخذ الله بأيدينا ويوفّقنا لأن نكون كما يحبّ. كلنّا أمل أن لا يحرمنا من الفيوضات التي قدّرها لأوليائه في هذه الأيّام العظيمة التي هي أيّام ذي القعدة وذي الحجّة، والتي أكّد كثيرًا على صيامها، وخصوصًا العشرة الأولى من ذي الحجّة، وعلى التوجّه والابتهال فيها، كما كان يوصي المرحوم العلاّمة أصدقاءه في هذه الأربعين يومًا والتي يعبّر عنها بأربعين النبيّ موسى.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.