المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
تتابع هذه المحاضرة شرح فقرة (أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا)، وتتحدّث حول ثلاثة مواضيع أساسيّة، بعضها لمناسبة زمان إلقائها.
الأول: حقيقة العبوديّة وأنّها استبدال العبد إرادته بإرادة الله. وتعرّضت أثناء ذلك لبعض المعاملات التجاريّة التي مثِّل بها للموضوع. ولأثر كلام الإمام الصادق عليه السلام على النفس مع بعض الشواهد والقصص.
الثاني: تفويض المسؤوليّة إلى من يليق بها وهو أصل المحاضرة حيث تابعت بيان مبادئ الحكومة الإسلاميّة وانتقلت إلى الحديث حول هذا المبدأ، عارضة للجدل الذي كان دائرًا حول أولويّة التخصّص في المسؤول أو الالتزام والتعهّد وتحمّل المسؤوليّة. وقد عرّفت كلاً من العنصرين وبيّنت ضرورة كلّ منهما ممثّلة بخلافة أبي بكر على عدم أهليّته لمنصب خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وبطلحة والزبير وعدم أهليّتهما لأن يتولّيا أيّ منصب في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام. وقد انتهت من هذا البحث إلى كون الاختصاص هو المهمّ والأساس، مع درجة من الالتزام بما يكفي للقيام بالمسؤوليّة ولو كانت من نوع الالتزام الوطني أو الإنساني، وإن كانت الدرجة العليا هي الالتزام الإلهيّ.
ثمّ تعرّضت إلى مواقف العلاّمة الطهراني وجهوده واقتراحاته في كيفيّة تنظيم الثورة والحكومة الإسلاميّة بعد انتصارها، من ضرورة المحافظة على الإخلاص وعدم العمل طلبًا للمواقع، وضرورة استقطاب أهل الاختصاص والالتزام غير الإلهيّ للاستفادة من خبرتهم وتقريبهم إلى الالتزام الإلهيّ.
الثالث: حول شهر رمضان وأهمّ النقاط فيه:
بيان مراتب الصوم الثلاث: صوم العوام والخواص وخواص الخواصّ.
وصايا حول كيفيّة الطعام ومقداره فيه
إحياء العشر الأواخر من لياليه
إصلاح المشكلات القلبيّة مع الناس
هو العليم
تفويض المسؤوليّة إلى من يليق بها
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦٢
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا
قلت يا أبا عبد الله! ما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه.
عندما يسأل عنوان البصريّ عن حقيقة العبوديّة ما هي؟ يقول الإمام: ثلاثة أشياء...
معنى العبوديّة استبدال العبد إرادته بإرادة الله
العبوديّة تعني أن يكون الإنسان واقعًا مسلّمًا لإرادة الله ومشيئته. أي يرفع نفسه ويضع الله بدلاً منها. فهذا الأمر مهمّ جدًّا. واقعًا لو أنّ إنسانًا يريد أن يصنع معروفًا مع إنسان آخر، وأن يقيم معه صداقة، ويطرح معه أمرًا مهمًّا، يشترك معه، يشاركه... وبالطبع لكلّ إنسان فكره وخياله، وسليقته، ونظره، وكثيرًا ما يأتي الشيطان ويوسوس، وبصورة عامّة فإنّ تلك الثقة والقيمة للصحبة الحميمة وخصوصًا في الموارد المهمّة والحسّاسة والأساسيّة، يأتي الشيطان ويوقع الإنسان في بعض الوساوس. فأنا أقوم بهذا ولا أقوم بذاك، هذا يعلمه هو وهذا لا يعلمه فمن لديه خبر؟! يقوم بذلك بحيث يُشعر الآخر بالاطمئنان، فيمكن أن لا يشعر الإنسان بالاطمئنان إلى صديقه. فالإحساس بالقيمة والإحساس بالاطمئنان يزيد شيئًا فشيئًا، فعندما ترون أنّ هناك تبادلاً إيجابيًّا في هذه المسألة، في الموضوعات التي يطرحها، يأتي ويطرح أمورًا، فلو ذهب إلى مكان ليشتري بالوكالة عنه وروعيَ في السعر وأُرفِق به شيئًا ما، وإن كان الموكّل لا يعلم، فإنّه يخبره به ويقول: لقد اشتريت بهذا السعر، وقد راعانا هو بهذا المقدار، فكم يرفع هذا من درجة الاطمئنان. ولو لم يخبره، فيمكن أن لا يلتفت هو، وهذا في المقابل لم يخنه، فأحيانًا ـ كما هو متداول بحمد الله! ـ يرفع البائع المبلغ بمقدار ما، وبعنوان حقّ الدلاّل وما شابه ذلك من أسماء، فهذا خيانة حتمًا، مهما أسموه، أسموه هديّة، أسموه منفعة، يقولون: لا يا سيّد هو الذي يريد أساسًا. أين هو يريد أن يعطي؟! لم يكن عاشقًا لسواد عينيك لكي يدفع هذا المبلغ، حتّى إنّ بعض الدلّالين يقولون: إن لم تعطنا هذا المقدار، فإنّا نذهب إلى بائع آخر ونأخذ منه. فلنترك الحديث في هذه الأمور حيث لا مصلحة فيه. كلّ هذا حرام. أخذه حرام، وإعطاؤه حرام و... نعم أحيانًا تكون هناك علاقة خاصّة بين هذا البائع والدلاّل، ويعطيه الأسعار المتعارفة، بحيث أنّه إن لم يأخذ منه فلا إشكال، يذهب إلى مكان آخر ويأخذ منه، لكن في الوقت نفسه يعطي من عنده مبلغًا معيّنًا، فهذا لا إشكال فيه. هذا ليس مهمًّا. هذا صحيح. ولكن لو أنّ الإنسان يبيّن لصاحب العمل حتّى ما هو حلال وصحيح يبيّنه للذي هو وكيل عنه، ويقول له لقد دفعوا لي هذا المبلغ حتّى القرش الأخير. فكم يرفع هذا من مستوى العلاقة والثقة، فيقول هذا الإنسان إنسان صادق.
فمستوى الثقة والعلاقة يتضاعف هكذا، إلى أن يأتي الإنسان ويقول للآخر ويشعر في نفسه بهذا الشعور فيقول: لقد رفعت إرادتي في علاقتي معك، ووضعت إرادتك بدلاً منها. فعلى هذا الأساس، وفي المقابل فإنّ ذاك يشعر منه بذلك. فهذا يصبح ثقة مائة بالمائة، لأنّ هذه إرادته. اذهب وقم بهذا الفعل! يذهب ويقوم به بحذافيره. اذهب وأنجز هذا الأمر، فكأنّ الإنسان نفسه قد تحرّك برجله هو، وذهب وأنجز هذا الأمر. لا يزيد ولا ينقص كلمة واحدة. لا يريد إرادة واحدة هنا أو هناك. لا يعمل ذوقه الخاصّ مرّة واحدة هنا أو هناك. يقوم بالعمل كما هو.
فهذه هي العبوديّة، أن يجعل الإنسان نفسه جانبًا ويجعل إرادته بدلاً من إرادته الخاصة. حينها ماذا سيكون؟ ستكون هناك عبوديّة.
لدى الإمام الصادق عليه السلام في هذه الفقرات الثلاث التي تريد أن تبيّن حقيقة العبوديّة لعنوان البصريّ ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا. فلا يشعر العبد بالملكيّة فيما أعطاه الله، ولا يرى تعلّقًا. وما معنى التعلّق؟ يعني حين يريد أن ينام الليلة كلّ همّه التفكير في كيفيّة الزيادة وكيفيّة النقصان، ماذا أصنع بذاك الأمر؟ إن لم يكن هكذا فسيكون هكذا. نم يا عزيزي وضع رأسك على التخت واسترح. إن جاء السارق وسرق فليأت، إن حصل الزلزال وخرّب فليخرّب، هل كان لك؟ فلتنم! هل تريد المبنى لنفسك أم تريد نفسك للمبنى؟ هل تريد الرئاسة لنفسك أم تريد نفسك للرئاسة؟ هل تريد المال لنفسك أم تريد نفسك للمال؟ المكانة، الرفيق، الأمر والنهي، لأيّ شيء تريدها؟
كان هناك أحد الأصدقاء، وكان من الأقارب، من الأقارب السببيّين والنسبيّين كليهما. كان يقول: كنت في النجف، حيث كنت قد ذهبت لزيارة العتبات، وعند الظهر ورغم الحرارة العالية، وكان الوقت وقت الغداء. وكنت نازلاً في دار أحد العلماء رحمه الله والذي توفّي قبل بضع سنوات وكان في قمّ من المدرّسين المعروفين ومن الدرجة الأولى وكان من أقاربنا النسبيّين. كان يقول: كنت في منزله. وفي حرارة النجف في وسط الصيف، في وسط هذه الحرارة سمعت باب الدار يطرق، ثمّ قال: ذهب صاحب البيت ـ والذي هو ابن عمّنا ـ ليفتح الباب فبقي على الباب ربع ساعة ثمّ رجع. رأيت أنّه يضحك. قلت له: لماذا تضحك؟ ما الأمر؟ ضحك وقال: جاء أحد الذين هم على علاقة بنا إلى هنا يريد أن يخبرني خبرًا مهمًّا جدًّا! خبرًا مهمًّا جدًّا! قلت ما هو؟ ماذا حصل؟ قال: إنّ فلانًا الذي كان يشارك في درسكم في النجف، رأيته اليوم قد ذهب إلى درس فلان الذي هو من مخالفيكم. لقد جاء في حرارة الظهر في النجف ليعلمني بهذا الخطر أنّه رأى اليوم... يا سيّدي لقد كانت النجف كلّها هكذا، هكذا كانت الأوضاع. هل كان هؤلاء يقرؤون رواية عنوان البصريّ مرّتين في الأسبوع؟ لو كانوا يقرأونها لما كانوا هكذا.
كنت بالأمس أستمع إلى شريط للمرحوم العلاّمة. كان مقطعًا وصلني مؤخّرًا، وقد ورد فيه أنّه عندما ذهبنا إلى النجف كان من الأوامر التي أُمرنا بها وفق برامج المرحوم القاضي أن نقرأ رواية عنوان البصريّ مرّتين في الأسبوع. مرّتين في الأسبوع ليس كثيرًا. نعم نحن أطلنا في شرحها، ولكن كان يمكن منذ اليوم الآن أن ننهي الأمر، وكما يقول بعض الأصدقاء: إنّ هذه الأمور التي تذكرونها تصلنا بإخلاف للوعد. فأنا لست شيئًا، انتهى الأمر. على كلّ حال ما يوفّق به الله تعالى هو الذي يجري.
يقول المرحوم العلاّمة: لم يكن لديّ حينها كتاب بحار الأنوار، فذهبت إلى مكتبة أهالي شوشتر في النجف، وأخذت بحار الأنوار الجزء الأوّل، وعثرت على الرواية، والآن هذه الرواية موجودة في دفتره الصغير، ذلك الدفتر الجيبيّ الذي كان يضعه في جيبه وهو موجود الآن. قال: كتبت هذه الرواية في بداية دفتري الصغير، وكنت أطالعها مرّتين في الأسبوع، إلى آخر تواجدي في النجف. لقد بقي في النجف سبع سنوات. في كلّ سنة اثنا عشر شهرًا فكم يكون المجموع؟ واضربوا كلّ شهر بأربعة أسابيع، واضربوا كلّ أسبوع باثنين. وانظروا كم مرّة قرأها. لقد كان يقول جادًّا! كان جادًّا في قوله إنّه كان يقرؤها مرّتين في الأسبوع.
أثر كلام الإمام الصادق عليه السلام
كلام الإمام الصادق نور. لو قرأته مائة مليون مرّة، فإنّ هذا النور يسطع في قلبك كهذا المصباح. لا تقل قرأتها مرّتين، قرأتها ثلاث مرّات، إنّها نور! اقرأها فإنّك تجد أثرًا جديدًا. في المرّة الثانية أثر جديد، ولكنّ الجريدة ليست كذلك، الجريدة ليست نورًا، كلاّ، بل هي حِبرٌ. اقرأها، وفي المرّة الثانية ترمي بها جانبًا. كلام الآخرين حبرٌ. فتارة يقرأ الإنسان ففي المرّة الثانية لا يتمكّن. أمّا كلام الإمام الصادق فيختلف.
الفرق بين كلام المعصوم وكلام غيره هو في هذا. كلام المعصوم نور محض. الآخرون لديهم مزيج، لديهم خليط، زيادة ونقصان، يضيفون من عند أنفسهم، عندما تكون هناك مصلحة يطرحون شعارًا، وعندما لا يكون هناك مصلحة لا يطرحون هكذا شعارًا، ولا نعلن هكذا إعلانًا. المعصوم دائمًا معصوم. يقاتل معاوية وفي خضمّ المعركة يسألونه عن الصلاة فيتوقّف، بينما هو يقاتل يتوقّف، ويجيب على السؤال والفتوى، يجب أن أبيّن حكم الصلاة. ففي النهاية هذا الوقت وقت الصلاة. القتال هو لأجل الصلاة. هل تلتفتون؟ هذا هو المعصوم وهذا هو الأسوة. وأمّا ذاك فهو الذي ينبغي أن ينحّى جانبًا. لماذا؟ لأنّ الإمام ينظر إلى جميع الأحكام من نافذة النور المطلق، لا من نافذة الأحداث وما يطابق المصالح والمفاسد والسلائق الشخصيّة، فهنا تأتي الزيادة والنقصان.
هذا الكلام كلام الإمام الصادق. لقد كان [المرحوم العلاّمة] يقول: إلى أواخر إقامتي في النجف كنت أقرأ هذه الرواية وأهتمّ بها. فالإنسان الذي يكون كذلك كيف يكون تحصيله؟ كيف سيكون درسه؟ كيف ستكون مباحثته؟ كيف ستكون علاقته مع الناس؟ ومن يكون هكذا كيف سينظر إليه الآخرون؟ كيف سيراه الآخرون؟ عندها ستكون النظرات ناقدة، فهؤلاء ليسوا في النهاية كما ينبغي ليسوا... تصبح النظرات ناقدة. تشرع الاتّهامات الواحدة تلو الأخرى، يشرع السباب، تشرع الغيبة، السيّد محمّد حسين درويش، لقد صار صوفيًّا، لقد ابتعد عن طريق الأئمّة، إنّه يفسد الحوزة. يشرع كلّ ذلك نعم. لماذا؟ لأنّ هؤلاء لا يقرأون رواية عنوان البصري، أصلا لا يدرون هل رواية عنوان البصري موجودة أم لا؟ أو أنّ السيّد محمّد حسين يقرأ هذه الرواية، يقرؤها في كلّ أسبوع مرّتين. حسنًا فالإمام يقول: لو قالوا لك إنّ مريدك فلان سمعنا أنّه ذهب إلى الجهة الأخرى فماذا يقول؟ الأمر الذي يقوله الجميع. لو جاؤوا وقالوا للإنسان رأينا أنّ زعامتك قد أصيبت بكذا، ضعفت، زادت كذا فماذا سيقول؟ ليكن ما يكون. لماذا؟ لو جاؤوا وقالوا للإنسان افترتض أنّه أخذ منك كذا، أضيف إليك كذا، نعم. فإنّه يقوم بما يرتبط بالحقّ وبالتكليف، على أيّ أساس؟ على أساس التكليف، على أساس الأمر الذي أمر به الله، على أساس النيابة والوكالة والوساطة عن صاحب المال، وصاحب الملك. {ولله ملك السموات والأرض)۱ (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء}٢ {ولله ما في السموات وما في الأرض}٣. كلّ هذا الملك والسلطان هو لله، السلطان مختصّ به. يعطي واحدًا ويأخذ من آخر. الملك مختصّ بالله، ينزعه من واحد ويعطيه لآخر. {العزّة لله}٤ المنعة والكرامة مختصّة به، يعطي ويأخذ ويجب أن لا يحصل هناك اختلاف في هذا الأخذ والعطاء. يجب أن يكون الأمران سواء لدى الإنسان. هذا معنى أن لا يرى العبد...
الأمر الثاني: أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا. وقد تحدّثنا عن هذا الأمر ولا زلنا، وأنّه هل التفكير والتدبير خطأ أم صحيح وما هو مراد الإمام الصادق؟
تقدّم أنّ كلّ النظام الإسلاميّ قائم على التدبير، وكامل النظام الإسلاميّ قائم على التنظيم. كلّ النظام الإسلاميّ قائم على التأمّل، والدقّة والمراقبة في كلّ أمر من الأمور، وبشكل دقيق. فكيف يقول الإمام الصادق: أن لا يدبّر ولا يفكّر في التنظيم. وسيأتي جواب هذا السؤال إن شاء الله في نهاية الكلام الذي سنقوله لاحقًا عندما نصل إلى تلك النقطة، وربّما تمّت الإجابة عليه على نحو الإشارة.
من مبادئ الحكومة الإسلاميّة تفويض المسؤوليّة إلى الإنسان اللائق
كان الحديث عن مبادئ الحكومة الإسلاميّة والوظائف التي يجب على الحكومة الإسلاميّة أن تقوم بها ضمن نطاق الحكم الإسلاميّ.
فمن تلك المبادئ تفويض المسؤوليّة إلى الإنسان اللائق. هذا أحد الأمور المهمّة والدقيقة التي يمكن أن تعدّ من الأمور الأساسيّة والأصيلة في نظام الحكم. فكلّ نظام حكم، وبصورة عامّة أساس استقرار أيّ نظام، وأساس ثباته يرتكز إلى تفويضه إلى الإنسان الذي يليق به.
فعندما تريد أن تبني عمارة تنتخب بنّاء يتمكّن من بناء الجدار بشكل صحيح ومستقيم. يمكنه أن ينفّذ الخارطة بطريقة صحيحة. لا يزيد ولا يُنقص من عنده، لا يُعمل مصالحه الشخصيّة في ذلك. وكذلك هو الحال في المصنع، فلو لم تكن هناك مسؤوليّة، لتعطّل المصنع خلال ساعتين، بل قبل ذلك. بعد يومين ينهار البناء، الجدار الذي ينبغي أن يرتفع مستقيمًا، يرتفع أعوج. القواعد التي ينبغي أن تبنى بشكل مستقيم ومنظّم، تبنى بشكل فاسد وغير منظّم، ولا يمكنها أن تحمل ثقل البناء. وهذا القانون عقلائي وعقلانيّ. سواء في النظام الإسلاميّ، أو في غيره، في النظام اليهوديّ، المسيحيّ، العلمانيّ، الإلحاديّ، الاستبدادي، غير الاستبدادي، في أيّ نظام من الأنظمة هذا الأمر مهمّ جدًّا. حتّى في النظام الاستبدادي الأمر هو كذلك، فالآن لدينا في الدنيا الكثير من الأنظمة الاستبداديّة، ولأجل بقائها واستمرارها لا بدّ من إعمال القوانين العقلانيّة. ولو فرضنا محطّة كهربائيّة، فإنّ السدّ الذي يولّد الكهرباء لا يسلّم إلى إنسان غير لائق. لماذا؟ لأنّه لو سلّم إليه فإنّ الطاقة الكهربائيّة ستنقطع بعد يومين. متى يفتح هذا المفتاح؟ ومتى يزيد القوّة ومتى ينقصها؟ ومتى يضيّق النافذة ومتى يوسّعها؟ متى يقلّل ضغط الماء ومتى يزيده؟ مقدار القوّة ومستوى صرف الطاقة من الشبكة، تنظيم المعدّلات والمحوّلات والمولّدات لتنظيم الطاقة بين المحطّة وبين ذلك القسم من الشبكات الداخليّة... فلو فرضنا أنّ هذه الأمور سلّمت إلى رجل لا اطّلاع لديه أبدًا، كما لو كان طبيبًا مثلاً، فماذا لدى الطبيب من شؤون الطاقة الكهربائيّة؟! فماذا يصنع هذا؟! ستتعطّل المحطّة منذ الساعتين الأوليين. يجعل الأمور يدخل بعضها ببعض. تحترق جميع المولّدات، ينهار السدّ، وينتهي كلّ شيء. علينا أن لا نقول بما أنّ النظام استبداديّ فلا بدّ أن يخرب كلّ شيء. إنّ النظام الاستبداديّ يمكنه أن يكون استبداديًّا عندما يعمل بالقواعد الأساسيّة لاستقرار ذلك النظام وفق الأسس العقلانيّة. فلو أعطيت وزارة الاقتصاد في ذلك النظام مثلاً إلى رجل لا اطّلاع له أصلاً، فمن الطبيعيّ أن ينهار الاقتصاد. فإنّه يمشي ويمشي إلى أن يصل إلى حدّ الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها، فهنا لا بدّ من التسليم إلى الإنسان الذي يليق بتلك المهمّة. فالأمر في جميع الأنظمة هو بهذا النحو. وفي الحكومة الإسلاميّة أيضًا الأمر هو كذلك، لا بدّ من إيكال كلّ مسؤوليّة إلى من يليق بها.
أيّهما أولى في المسؤول: الاختصاص أم الالتزام ؟
ذات يوم طرح نقاش حول الاختصاص وحول الالتزام وتحمّل المسؤوليّة وهذه الأمور، فكنت أسمع حينها بعض الآراء، وأنّه إن كان هناك اختصاص ولم يكن تحمّل للمسؤوليّة أو كان هناك تحمّل للمسؤوليّة ولم يكن اختصاص، فقد كان الكلام حينها عن حالة التعارض بين هذين الأمرين، بين الاختصاص وبين تحمّل المسؤوليّة، فأيّهما يقدّم؟ وكان يقال إنّ تحمّل المسؤوليّة هو المقدّم. وهذا الأمر محلّ تأمّل ومحلّ بحث. لأنّه لا بدّ أن يكون واضحًا ما هو المراد من الاختصاص وما هو المراد من تحمّل المسؤوليّة والقيام بأمر من الأمور؟
معنى كلّ من الاختصاص والالتزام
الاختصاص عبارة عن مقدار من المعلومات اللازمة لتطبيق نظام معيّن.
والالتزام وتحمّل المسؤوليّة عبارة عن التعلّق والاهتمام، الاهتمام بتطبيق ذلك النظام وفق النحو الأفضل والطريقة الأمثل. سواء كان هذ الالتزام إلهيًّا أم وطنيًّا، أم إنسانيًّا، فكلّ ذلك داخل في موضوع الالتزام وتحمّل المسؤوليّة. فكثير من الناس لا دين لهم، لا شيء لهم، لكنّهم من باب المسؤوليّة الوطنيّة والالتزام الوطنيّ مستعدّون للمخاطرة بأنفسهم. أو من باب المسؤوليّة الإنسانيّة كما لو لم يكونوا يعتقدون بالله والتوحيد وأمثال ذلك. ولكن من باب المسؤوليّة الإنسانيّة يجدون أنفسهم موظّفين في القيام بخدمة أبناء نوعهم. وهذه على كلّ حال ذخائر أودعها الله في وجودهم، وهم يستعملون هذه الذخائر ويستفيدون منها في خدمة المجتمع، فهذا هو المراد من تحمّل المسؤوليّة أي التعلّق النفسيّ بإدارة وتدبير وتنظيم مؤسّسة أو محطّة أو مديريّة أو مجمّع تربوي أو عائليّ وأسري بحيث يتمكّن من القيام بذلك على أكمل وجه. وبالطبع عند التطبيق تتبيّن الحدود الخاصّة لهذا الأمر.
ضرورة العلم والاختصاص لاستلام أيّ وظيفة
فلأجل إدارة مؤسّسة لا بدّ حتمًا من الاطّلاع الكافي والمفيد على النظام الأساسيّ لها بما هو قاعدة أساسيّة لا فرعيّة، قاعدة أساسيّة لإدارة تلك المؤسّسة أو الدائرة وأمثالهما. فإن لم يكن فكلّ ما هو موجود سيضيع خلال ساعتين، كلّ شيء سيزول. والشواهد والحكايات في هذا المجال كثيرة جدًّا:
عدم امتلاك أبي بكر الاختصاص والأهلية لخلافة النبيّ
فعندما أراد أبو بكر أن يخلف النبيّ كان عليه أن يفكّر في هذا الأمر، فأنت أبو بكر وكان النبيّ قبلك، بمقامه وبقدسه وبطهارته وبتعلّقه وارتباطه بعالم الغيب، وعلى هذا الأساس تعلّق الناس بالنبيّ وانجذبوا إليه. أي بهذا النوع من العلاقة كان بعضهم يأتي ويطلب من النبيّ معجزة فكان النبيّ يقوم بمعجزة بين يديه. كان يجعل الشجرة تتكلّم، فكانوا يرون أنّه لا يتمكّن أيّ إنسان أن يفعل ذلك. طلبوا منه شقّ القمر، فشقّه نصفين، فماذا تريدون بعد ذلك؟ فقد شقّ القمر نصفين في النهاية. لم يره هؤلاء الذين كانوا في مكّة وحدهم، بل الذين كانوا في خارجها أيضًا رأوا. الذين كانوا في الصحراء متّجهين نحو مكّة رأوا أيضًا أنّ القمر قد انقسم فجأة إلى نصفين فتوقّف نصفه وشرع نصفه الآخر بالدوران، فطاف سبعة أشواط حول الكعبة، ثمّ التحق بنصفه الآخر. لم يكن ذلك تصرّفًا في عيون الناس. وهناك آية من القرآن تصرّح بذلك أيضًا {اقتربت الساعة وانشقّ}۱ كانوا يطلبون شهادة الحصى، حصى الصحراء، فكان النبيّ يشير إشارة فتشهد حصى الصحراء. فكما طلب محمّد بن الحنفيّة في زمان الإمام السجّاد عليه السلام، حيث طلب الإمام السجّاد من محمّد بن الحنفيّة أن يذهبوا جميعًا إلى الحجر الأسود، وهو يدرك ويعي ويعترف بإمامة واحد منّا. فجاءا، واجتمع الناس، اجتمع خلق كثير عند الحجر الأسود، فقال الإمام لمحمّد بن الحنفيّة وكان عمّه، عمّه الأكبر، تفضّل أنت أوّلاً. فجاء ودعا ومهما دعا رأى أنّه لا فائدة، وذلك الصوت الذي كان أيضًا قد انتفى! إن كان هناك صوت ورجع صدى فقد انتفى. وصل الدور إلى الإمام السجّاد عليه السلام، فتقدّم ودعا، فشهد الحجر بصوت فصيح بشهادة لا إله إلا الله، وشهادة أنّ محمّدًا رسول الله، ثمّ شهد أنّك ولي الله. شهد بالولاية. ولم يكن ذلك تلاعبًا بالبصر، وجميع الذين كانوا محيطين سمعوا، سمعوا بآذانهم هذه أنّ الحجر الأسود قد شهد.٢ فقد رأى الناس ذلك في النهاية. لقد رأيتم ذلك بأعينكم وسمعتموه بآذانكم أليس كذلك؟ صحيح؟
فيا أبا بكر هكذا كان هذا النبيّ الذي آمن به الناس، وأنت إذ تجعل نفسك خليفة النبيّ وتقصي عليًّا جانبًا، هل تملك تلك اليد البيضاء؟ فدع الخلافة لا بأس، إن لم تكن تملك ذلك فماذا تصنع؟! إنّك تريق ماء وجه الإسلام خلال ساعة واحدة، ساعة واحدة، لا يطول الأمر ساعتين. فقد جاء عدد من اليهود في اليوم الثاني من خلافته، في اليوم الثاني، أي لم يطل الأمر إلى اليوم الثالث، جاؤوا وسألوه سؤالاً. فهو لا يعي ماذا هناك، فلماذا أنت تقصي العقل الأوّل والأخير الذي هو عليّ، تضرب زوجته وتقتلها لماذا؟ لكي تنال الخلافة والرئاسة؟ لا قدرة لك عليها، فلماذا تفضح نفسك وتريق ماء وجهك وتتعبنا؟
جاؤوا وسألوا أين الله؟ فقال: في الأعلى. فقالوا: فإذن هو ليس في الأسفل! قال: عجبًا ماذا حصل؟ فالأرض ليس لها إله، فماذا نصنع؟ فلنخرجهم بعيدًا. يا عجبًا ألأنّك عييت في الجواب تطردهم خارجًا؟! أهذا هو الجواب؟!
فهذا النظام كان نظامًا ذهب بماء وجه الإسلام في يوم واحد. وقد أدرك أمير المؤمنين الإسلام هنا، فجاء وماذا صنع؟ قال: إن لم يجبكم تعالوا لأجيبكم، فأجابهم وأسلموا جميعًا وصاروا من الشيعة، وشهدوا أمام أبي بكر لأمير المؤمنين وخاطبوه: أشهد أنّك خليفة رسول الله. خرجوا من المسجد نحو أمير المؤمنين، فأوصاهم أمير المؤمنين ببعض الوصايا ليلزموها.۱
حسنًا هذا القانون قانون عقلانيّ. الاختصاص لأجل إدراة مجتمع، فهذا اختصاص، وهذا قانون عقلانيّ، لو لم يكن لانتفى المجتمع.
ضرورة الالتزام بما يقضي به الاختصاص وتحمّل المسؤوليّة في العمل
القانون الثاني: تحمّل المسؤوليّة في ذلك العمل. تحمّل المسؤوليّة في ذلك التخصّص، تحمّل المسؤوليّة بالنسبة إلى تلك المعلومات. تحمّل مسؤوليّة هذه المعلومات، هذه المفاهيم. فمن المسلّم أنّه إن لم يكن هناك تحمّل للمسؤوليّة في نظام معيّن فإنّ تلك المعلومات لا يمكن أن تكون كافية. هناك علم واطّلاع، ولكنّ الإنسان لا يتقيّد ولا يلتزم، لا يمضي إلى العمل، يقولون: يا سيّد إنّ أمرًا معيّنًا في الإدارة فاسد، يقول: حسنًا، ولكن لا يهتمّ. يا سيّد ينقصنا كذا، القطعة كذا. يقول: لا بأس فليكن. لديه اختصاص ولكن ليست لديه مسؤوليّة، ليس المراد المسؤوليّة الإلهيّة، المسؤوليّة في تطبيق المعلومات. هذا هو المراد. تلك المعلومات التي عندك، أنت الآن تعلم أنّ هذه القطعة مع هذا الضغط الذي يأتي عليها لا يمكنها أن تقوم بدورها في الأسبوع القادم، فهكذا هي تتآكل حتّى تتوقّف عن العمل، فلا بدّ أن تفكّر بها من الآن. فاذهب من الآن وأحضر تلك القطعة حتّى لا يتوقّف المصنع. من الآن اسع إلى إصلاحها، من الآن اسع إلى استبدالها، وإلاً إن لم تكن هناك مسؤوليّة، فإنّه يقول: إذا تعطّلت فأخبروني. فسيعطّل المصنع إلى شهر.
فإذن بناء على ذلك، المراد من الالتزام والمسؤوليّة في نظام معيّن هو الصدق في العمل، الآن هذا الصدق في العمل توأم مع الأمور الإلهيّة ومع الإخلاص، فهذا نور على نور. وإن لم يكن تحمّل المسؤوليّة في تلك المرتبة العالية، فلا يكون صاحبها مخلصًا إلى حدّ أنّه يريد أن يعمل لله. لم يقرأ بعد رواية عنوان البصري مثلاً هذا المدير، فإن لم يكن قد قرأها فلا بأس، ولكنّه يمكن أن يدير مصنعًا، يمكن أن يدير مؤسّسة، وهذا المقدار من الصدق في العمل وفي استمرار هذا النظام يمكنه أن يقوم به، فلماذا يجب أن لا يكون؟ بأيّ وجه؟ بأيّ قانون عقليّ نتمسّك نحن حتّى نحتّم أن يكون العامل ممّن تطول صلاتهم في الليل إلى ستّ ساعات أيًّا يكن هذا العامل؟! فالآن لم تعد الأمور كما كانت في العصور السابقة وتلك الحكومة البسيطة التي تهتمّ ببعض شؤون الناس. فمسألة الاختصاص المعقّد الآن في حكومة ما تبرز في كافّة النقاط وكافّة الجزئيّات. فليس هذا الزمان هو الزمان السابق! سابقًا ماذا كانوا يصنعون؟ هل كانت لديهم مصلحة للكهرباء؟ هل كانت لديهم مديريّة للشؤون الاقتصاديّة والأملاك؟ مديريّة التسلّح وبهذه الطريقة من الإدارة بواسطة الأمور الإلكترونيّة وأمثالها والرادارات والمواقع الإلكترونيّة وأمثالها. كلاّ يا عزيزي، بل كانوا يصنعون منارة على رأس كلّ بضعة فراسخ فيراقبون ما إن كان العدوّ يأتي أم لا. لم يكن لهم إلاّ هذه المنارة من الآجرّ ويبنون حولها درجًا حتّى يرتفعوا قليلاً فهذا هو موقعهم الإلكتروني، هذا هو رادارهم مثلاً. أمّا الآن فلم تعد هذه الأشياء. الآن بعد هذه التجهيزات لم تعد ترى هذه الأمور، فإذا أردنا أن نبحث عن الالتزام والتعهّد وتحمّل المسؤوليّة فحسب، فسنكون قد خُدعنا.
كما ذكرت لكم مرارًا، لا بدّ في الحكومة الإسلاميّة من تطبيق القوانين العقلانيّة لا الأذواق الشخصيّة. فشأن الإسلام هو تطبيق قواعد الحكم والتي يمكن أن تختلف من زمان إلى آخر. أمّا تلك القاعدة العقلائيّة الثابتة في التاريخ وغير القابلة للتبديل مهما تبدّلت الحكومات، فهي الاعتماد على الاختصاص والاعتماد على تحمّل المسؤوليّة تجاه ذلك النظام.
الاختصاص هو المهمّ والأساس
فإذن لا بدّ أن يقال: لو وجدنا موضعًا ـ وقد ذكرت هذا الأمر كمقدّمة ـ من المسؤوليّات والوظائف والمقامات يطرح فيه الاختصاص كقاعدة أساسيّة في استمرار تلك المؤسّسة واستمرار ذلك النظام، فسيكون هناك تحمّل للمسؤوليّة بحيث يمكن أن يطبّق ذلك النظام وفق القواعد العقلانيّة.
أما لو فرضنا أنّ هناك إنسانًا غير متخصّص ولكنّ تحمّله للمسؤوليّة كبير، فما معنى أن يكون لديه تحمّل كبير للمسؤوليّة؟ هل المراد أنّ لديه اهتمامًا بصحّة العمل أم لا بل فقط يتكلّم كثيرًا عن الله، ويصلّي كثيرًا. نحن لا نسمّي كثرة الصلاة تحمّلاً للمسؤوليّة. نحن لا نسمّي كثرة الذكر تحمّلاً للمسؤوليّة. نحن لا نسمّي إطالة اللحية تحمّلاً للمسؤوليّة. تحمّل المسؤوليّة هو عبارة عن صدق النفس، إن كان لدى هذا الإنسان تحمّل للمسؤوليّة فإنّ ذلك وحده يقتضي أن يتنحّى، التحمّل للمسؤوليّة يقتضي ذلك وحده. ألست تتحمّل المسؤوليّة؟ ألست صادقًا في قولك إنّ هذا النظام وهذا العمل لا بدّ أن يدار بيد متخصّص، فلماذا تراجعت الآن؟ ذلك المتخصّص لا يصلّي، فليكن لا يصلّي، هل هو قائم بمسؤوليّاته في هذا العمل؟ نعم لديه هذا المقدار. أصلاً لو كان لإنسان التزام وطنيّ، فلنسمّه التزامًا وطنيًّا، بالطبع هو خطأ، لا بدّ أن يكون الالتزام إلهيًّا. ولكن لنفترض أنّ لديه التزامًا وطنيًّا، هذا المستوى يمكنه أن يدير النظام بأفضل إدارة، عندها توافقه الحكومة حين يقول أنا مدير.
يقال إنّ إمام الجماعة في أحد الأماكن مرض مؤذّنه، وطبعًا أنا أذكر هذا من باب المزاح لا الجدّ، فبحثوا عن مؤذّن فلم يجدوا فجاؤوا بيهوديّ فقالوا له تعال وأذّن حتّى يشفى المؤذّن، فكان يقول: كما يقول المسلمون: أشهد أنّ محمّدًا رسول الله. فقد كان يقول أنا لا أعتقد. طبعًا نحن لا نوافق على مثل هذا وإنما نذكره مزاحًا.
فلنفترض أنّ إنسانًا جاء وقبل بهذه المسؤوليّة، وقبول هذه المسؤوليّة يعني القيام بها خير قيام، فلماذا لا يستفاد منه؟ ما هو دليل ذلك؟
اقتراح العلاّمة الطهراني ضرورة عدم إقصاء أهل الاختصاص المقصّرين في بعض التكاليف الإسلامية
من هنا فقد طرح المرحوم العلاّمة هذا الأمر من جملة ما طرحه على آية الله الخمينيّ رحمة الله عليه وكان يؤكّد عليه كثيرًا. وهو أنّ هناك عددًا كبيرًا لا اهتمام لهم ولم يكن لهم اهتمام بتكاليف الإسلام والمسجد وأمثال ذلك، فلهم ثقافتهم الخاصّة، ولكنّهم جيّدون، يلتزمون بمسؤوليّاتهم، خبراء، أصحاب حميّة ونخوة، ويريدون أن يعملوا، يريدون أن يخدموا الناس. فلماذا نقصي هؤلاء؟ ولماذا ينبغي أن نكون متعصّبين فلا نأتي إلى الحكومة إلا بجماعة خاصّة فتبقى الحكومة محرومة من الاستفادة من أولئک وتبتلى بمفاسد ومضارّ وتبقى متخلّفة من ناحية القدرة على التطوّر والمستوى العلميّ والتجريبي، كما تسدّ في الوقت نفسه الطريق أمام هؤلاء؟ وهم يقولون أيضًا: تفضّلوا. فقد رأيتموهم في النهاية، إنّهم جماعة خاصّة وكما في سائر الأماكن فإنّ كلّ من يأتي يحضر معه جماعته وأقاربه ومن معه. وبالطبع سينزوي الآخرون، وهؤلاء هم هكذا.
فهذه إحدى الأمور العقلانيّة التي تستند إلى العرفان الأصيل، أي إنّ العارف عندما ينظر إلى الحركة الأصلح والأكمل في نظام اجتماعيّ معيّن فإنّه هكذا ينظر. فأوّلاً هذا هو الأفضل وثانيًا يفتح الباب للآخرين، فيأتون أيضًا يأتون، هم أيضًا يتحدّثون، هم أيضًا يتعرّفون، هم أيضًا يطّلعون على هذا النحو من التفكير، يلتفتون إلى القواعد والمبادئ، يلتفتون إلى الصدق، هم أنفسهم يرجعون ويتحوّلون إلى إنسان ملتزم بالالتزام الإلهيّ. فهذا الإنسان الذي لديه نوع خاصّ من الالتزام، وقد كان هناك الكثير من هؤلاء في عهد المرحوم العلاّمة، أناس لو كنّا نحن لما التفتنا إليهم أصلاً، [ولقلنا:] لا فليذهب هؤلاء، وليضلّوا، وأمثال ذلك الكلام. ولكنّه هو كان يقبل هؤلاء فيدخلون في هذه الثقافة، ويحصّلون تلك الثقافة الصحيحة وتلك الثقافة الإلهيّة.
كيف كان النبيّ؟ وماذا كان يصنع؟ أفهل كان هؤلاء الذين أسلموا مسلمين من البداية؟ هل كانوا يصلّون صلاة الليل؟ وهل نحن ممّن يصلّي صلاة الليل؟ أنا نفسي لست بتلك الدرجة، فلا تثقوا بي إلى ذلك الحدّ، فهذا واقع. أنا شريط لا أكثر، أبيّن لكم وإن شاء الله يوصلكم الله إلى مراتب رفيعة ثمّ تأخذون بيدي. ففي النهاية هذا بنفسه فنّ من الفنون. وهذا طريق أيضًا. كلاّ يا سيّدي.
هؤلاء الذين جاؤوا وأسلموا هم أنفسهم الذين كانوا يسجدون للأصنام واللات والعزّى. هؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا كافرين، هم أنفسهم كانوا عبّاد أصنام. وبالطبع إن صادف أنّ هناك اختصاصًا يقضي على الالتزام، أو ختصاصًا بدون التزام أصلاً، ويكون الانسان بلا قيود، ولا ضوابط والتزامات، ويريد أن يرتكب المخالفات، فإنّ التزامه ومسؤوليّته سيكونان محلّ بحث وتأمّل، لا شكّ في ذلك.
وهذا الأمر يرتبط بكامل الأنظمة، نعم في النظام الإلهيّ لا بدّ أن يكون الأمر أكثر أهميّة. لا بدّ من التأكيد عليه أكثر. ففي الأنظمة الأخرى تتنحّى الأمور الشخصيّة جانبًا لصالح الاختصاص والالتزام، تبتعد الأمور الحزبيّة. ثمّ تعالوا وانظروا أهكذا يكون العمل في النظام الذي يقال فيه إنّنا نريد أن نطيع الله؟ أهكذا يكون؟ ففي النظام الإلهيّ يجب أن لا تُطرح الذات. فعندما استلم أمير المؤمنين عليه السلام الخلافة كان طلحة والزبير منذ الأيّام الأولى يحاولان محاولاتهم أن ها نحن قد جئنا!
ـ إلى أين جئتم؟
ـ يا عليّ جئنا نسألك عن أحوالك ـ كانا يأتيان في منتصف الليل ليسألاه عن أحواله. وفي الصباح كانا يأتون، وعند الظهر كانا يأتون، وعند الغداء ـ فهل يأتي أحد في منتصف الليل؟!
ـ لقد جئنا كيلا يرانا أحد.
ـ لماذا لا تريدان أن يراكما أحد؟
وبالطبع نحن من يقول هذا الآن شرحًا للحال وبيانًا للسان الحال.
ـ جئنا كي لا يرانا أحد. لا يرى أحد في هذا الزقاق أنّا أتينا معًا.
الحاصل أنّ أمير المؤمنين لم يسمح له بالاستمرار في كلامه. قام وأطفأ المصباح، أطفأه، وجاء بمصباح آخر. كان بإمكان أمير المؤمنين أن يتابع، ولكنّه أراد أن يلقّمهما ضربة من البداية. قالا: يا عليّ لماذا جئت بسراج آخر؟ فقال: لقد كان ذلك السراج لبيت المال ويستفاد منه هنا ـ تمامًا مثل وسائل النقل التي يكتب عليها أنّها تابعة لدائرة معيّنة ويمنع الاستفادة منها بشكل شخصيّ ـ نعم كان لبيت المال، وهذا سراج آخر جئت به.۱
رفض المرحوم العلاّمة لاستعمال سيّارة تابعة لمؤسّسة عامّة في شأن شخصيّ
أذكر أنّ المرحوم العلاّمة كان يريد السفر إلى مكّة ـ وقد تذكّرت ذلك الآن فالكلام يجرّ الكلام ـ فجاء من مشهد إلى طهران. وفي طهران عند الليل، أخذنا أحد أقاربنا والذي كان مسؤول هذه السدود في طهران وكرج وما حولها آنذاك، ولا أدري ما إن كان لا يزال هناك أم لا؟ سدود لتيان ولار وكرج وأمثالها. فأخذَنا إلى سدّ لتيان في تلك الليلة، في شارع جاجورد، وكنت أنا والمرحوم العلاّمة وأخي الأصغر الحاج السيّد عليّ، حيث كان قد ذهب برفقة المرحوم الوالد في تلك السفرة، بتنا ليلتنا هناك، ليتكم كنتم معنا هناك فقد كان الهواء لطيفًا جدًّا، وأمضينا وقتًا ممتعًا. كان ذلك الرجل المسؤول عن المكان ابن أخت الوالد، وابن عمّتنا. فجاء بسيّارته، وبالطبع لم تكن لديه سيّارة فجاء بسيّارة المصلحة، وأخذنا إلى ذلك المكان. بتنا الليلة هناك، ولم تكن السيّارة من نوع مارسيدس وأمثالها، بل كانت من نوع بيكان، ولا تتصوّروا أنّها كانت جيّدة بل كانت عاديّة جدًّا. وقد خربت مرّتين أو ثلاث أثناء الطريق. نعم ذهبنا إلى هناك وقدّم لنا الفاكهة، وقال: متى شئتم زيارة المنشآت فأنا في خدمتكم. فقد كان المرحوم الوالد مهندس كهرباء أيضًا، فإضافة إلى هندسة الميكانيك كان مهندس كهرباء أيضًا، وقد درست أنا الكهرباء عنده، عند المرحوم الوالد. ذهبنا لننظر إلى السدّ، إلى تلك الأجزاء، وكان يرينا إيّاها وكانت بالنسبة إليه مثار تعجّب وجميلة، وكان يطرح أسئلة على المهندسين الذين كانوا هناك، وقد سرّوا كثيرًا، وقد بقينا ساعة أو ساعة ونصف في مركز التنظيم، ثمّ خرجنا، وطرح المرحوم الوالد سؤالاً على ابن أخته، فبعد أن بيّن هو ما يجري هناك للمرحوم العلاّمة والإمكانات التي تقدّم للموظّفين، حيث يعطوننهم أرضًا، وقد أحضروا إلى السفرة بعض الخضروات وقالوا هذه من عندنا نحن زرعناها هنا، فقد كان هناك فلفل مثلاً هم زرعوه بأنفسهم. فقال: هل أنت وحدك تتمتّع بهذه الإمكانات أم جميع الموظّفين الذين يسكنون هنا؟ فقال: لا بل نحن أعطينا هذه الإمكانات لهم جميعًا. فإن لم يستفد منها أحدهم فهذا تقصيره هو. ولكن نحن أعطيناهم ذلك إضافة إلى المعاش، وكان ذلك المسؤول صادقًا صحيح العمل أمينًا. وانتهى هذا الأمر. إلى أن أردنا العودة في الصباح، فجئنا لنركب السيّارة، وفجأة وقعت عين المرحوم العلاّمة على تلك اللوحة الموضوعة هناك وكان مكتوبًا عليها: تمنع الاستفادة للأمور الشخصيّة. قال: لقد جئت بنا بسيّارة الشركة؟! هذا ليس عملاً صحيحًا. قال: لا سيّدنا فأنا استأذنت من المسؤول... لا إشكال في أن نستأذن المسؤول أي... فقال: أنا لا أركب. لقد قال ذلك. هل تلتفتون؟ لم يكن يريد أن يتظاهر! لقد كان هذا ابن أخته، ولا معنى لأن يتظاهر. قال: أنت تعيدنا بهذه وكنّا قد جئنا بها، غاية الأمر أنّه كان في الليل ولم ير هذه اللوحة. قال: أنا استأذنت المسؤول وجائز لي شرعًا أن أستفيد منها في الأمور الشخصيّة، فقد أجاز لي هذا المقدار. قال: حسنًا، جيّد جدًّا. إن كان الأمر كذلك فلا إشكال.
إنّ أمر الالتزام والمسؤوليّة هذا هو بأيّ نحو؟ لا بدّ أن يكون بنحو لا يؤدّي إلى اختلال النظام وفساده. وهذا الأمر مهمّ جدًّا في النظام الإلهيّ وفي الحكومة الإلهيّة. لقد حمل أمير المؤمنين ذلك السراج وبدّله، ما إن سمع هؤلاء أنّ هذا لبيت المال، أدركا حقيقة الأمر، فجمعا أغراضهما ومضيا. وأعلنا الجهاد ضدّ أمير المؤمنين. فهنا نحن نفهم جواب أمير المؤمنين، لقد جئتَ إلى الحكومة الإسلاميّة تسعى إلى مقام وولاية؟! أهذا هو معنى الالتزام وتحمّل المسؤوليّة؟! هنا دقّقوا جيّدًا، أريد أن أقول نقطة مهمّة هنا. فهل أنت تشعر بالمسؤوليّة في نفسك أمام الإسلام؟ لو كنت تشعر بالمسؤوليّة فلماذا أعلنت الحرب عندما أخرجك أمير المؤمنين من داره؟! أنت لا تدري أيّ دماء ستراق في هذه الحرب! أنت لا تدري كم من النساء ستترمّل في هذه الحرب! كم من الأطفال سيخسرون آباءهم! أيّ إتلاف للنفوس سيقع! أيّ مفاسد ستقع على هذا المجتمع! أتعرف هذا أم لاتعرفه؟ّ إن كنت لا تدري فلست أهلاً لتولّي السلطة، وإن كنت تدري ومع ذلك أقدمت عليه فأنت بلا مسؤوليّة والتزام، أنت رجل كاذب، أنت مخادع، أنت تريد أن تتحدّث عن الله والإسلام وهذه العناوين لأجل الوصول إلى السلطة، فلئن أخرجك أمير المؤمنين من داره فلتذهب ولتجلس في بيتك ولتعش حياتك! اذهب وعش حياتك، لماذا أعلنت الحرب؟ لماذا قلت للناس كذبًا إنّ عليًّا قتل معاوية؟ فهؤلاء الذين قالوا في النهاية. جعلوا عائشة المسكينة أمامهم وحرّكوا الناس خلفها وجمعوهم. هنا نصل إلى قضيّة الالتزام والمسؤوليّة.
فما معنى الالتزام والمسؤوليّة؟ إنّه الإحساس بالواجب لإقامة العدل في أيّ نظام وأيّ مؤسّسة وأيّ حركة. فهؤلاء لم يكن لديهم التزام، وما داموا بغير التزام وهو جزء أساسيّ من السلطة فسيبقون في تقصير. ولذلك لم يعطهم أمير المؤمنين.
صفات من يليق بالمنصب والمقام
من يأتي إلى أمير المؤمنين يريد منه سلطة، يريد منه قيادة، يريد منه ولاية فإنّ أمير المؤمنين يقرأ الأمر إلى آخره. أمير المؤمنين لا يعطي السلطة لمن يأتي ـ وذلك في نصف الليل أيضًا ـ إلى بيته ويريد أن يجمع الأصوات الانتخابيّة بحملة إعلاميّة وإخبار قبل ليلة وأمثال ذلك.
أمير المؤمنين يعطي السلطة لمن يرسل هو إليه بقوّة وإصرار فيخرجه من داره ويسلّمه المنصب والمقام. هذا يكون ملتزمًا ومسؤولاً. ماذا يكون هذا الرجل؟ هو الذي لديه التزام ومسؤوليّة. أي يشعر بالمسؤوليّة، ويشعر بالواجب. هذا هو. أمّا لو لم يكن الأمر كذلك وكان بنحو آخر، وبصورة أخرى، فإنّ الحال سيختلف.
خطاب المرحوم العلاّمة للمعنيين إبّان الثورة وما قبلها بالحفاظ على الإخلاص
إبّان الثورة، وقبلها بما يقارب العشرين عامًا، وعند شروعها بعد سنة اثنين وأربعين وما رافق ذلك من أحداث، كان ارتباط المرحوم العلاّمة مع المعنيين على هذا الأساس من المسؤوليّة والالتزام؛ فعندما كان يتحدّث معهم ـ وقد كان يتحدّث ـ كان يقول: هذا الالتزام الذي لديكم الآن ينبغي أن لا يتغيّر. هذا الخلوص الذي لديكم الآن ينبغي أن لا يتبدّل. الآن نتحمّل كلّ شيء لأجل الوصول إلى الحكومة الإسلاميّة، نتحمّل السجن، نتحمّل كذا وكذا من المشقّات. لكي نصل إلى الحكومة الإسلاميّة، جئنا لنطبّق أمر الله، وقد وصلنا الآن إلى الحكومة الإسلاميّة، فإن لم يعطوك مقامًا فلا يختلفنّ عملك! ولا يتغيرنّ الأمر لديك! أمر مهمّ جدًّا. ألم نثُر لأجل تحقيق الحكومة الإسلاميّة! ألم نثر لأجل إقرار العدل! حسنًا لقد ذهبنا إلى السجن، بذلنا وجاهدنا، وقمنا بكلّ هذه الأعمال، والآن تحقّقت الحكومة الإسلاميّة. تحقّقت وتحقّقت. فإن أعطونا الحكومة والمقام والمنصب والرئاسة والمسؤوليّة فبها ونعمت، وإلا فلا إشكال. أمّا أن نقوم الآن بهذا العمل لكي نصل لاحقًا إلى ذاك الأمر فبذلك نكون قد أفسدنا جانبًا ما. وأن نخرج الآن ونتوقّع أنّا حيث سجنّا فلا بدّ أن نعطى هذا المقام، فبذلك نكون قد أفسدنا جانبًا آخر. هذه هي حقيقة الأمر، حقيقته أنّه إن كنّا نعمل لأجل الله، فلا بدّ أن يكون لأجل الله دائمًا. نحن شاركنا في زمان أمير المؤمنين في المعركة، شاركنا في معركة أحد، شاركنا في بدر، في زمان النبيّ، في زمان النبيّ وما بعده، شاركنا في معركة الجمل، شاركنا في معركة صفّين، والآن جلسنا إلى جانب أمير المؤمنين وهو يريد أن يعطي بضعة ولايات وقيادات هنا وهناك، فقد كنّا نحن من قادة جيش أمير المؤمنين، أصبنا بالجراح، في معركة صفّين حدث لنا كذا... إن كنت منتظرًا أن يعطيك أمير المؤمنين فاعلم أنّك أفسدت الأمر. أفسدته! لا أقول اترك واهرب، كلاّ ففي حكومة أمير المؤمنين لا ينبغي الفرار. في حكومة أمير المؤمنين لا بدّ من المجيء وملازمة أمير المؤمنين. فإن أعطى أعطى، وإن لم يعط فهل يجب أن نلجأ إلى الحكومات الأخرى؟ في حكومة أمير المؤمنين لا بدّ من ملازمة أمير المؤمنين، الكون معه، الذهاب معه، المجيء معه، الصلاة معه، كلّ شيء معه، ولكن لا بدّ أن يكون عليّ فقط في المخيّلة دون سواه. هذا هو المراد، لا أن يكون عليّ إلى جانب ولاية آذربيجان. أن يكون عليّ إلى جانب ولاية الأهواز، أن يكون عليّ إلى جانب ولاية مصر، أن يكون عليّ إلى جانب ولاية اليمن، فإنّ اليمن ومصر والأهواز تخرّب على عليّ. وفي المكان الذي يكون عليّ يجب أن لا يكون شيء آخر. ولو كان هناك شيء آخر فإنّ أمير المؤمنين لا يأتي ويكلّف. وعندما لا يأتي أمير المؤمنين فهذا يعني أنّ هذا الرجل لا قابليّة له. هذا ما كنّا نريده.
سعي المرحوم العلاّمة الدؤوب لتأييد الثورة ورعايتها
بعد الثورة ـ سأنقل هذه الواقعة ثمّ أتعرّض لموضوع آخر ـ بعد الثورة قال المرحوم العلاّمة لي شخصيًّا: لقد رأينا أنّ الثورة قد حصلت، وبذل الناس الدماء، وجاهدوا، وشُرّدوا، وضحّت النساء بأزواجها، وضحّى الآباء بأبنائهم، ويجب أن لا تضيع هذه الدماء، يجب أن لا تذهب هدرًا، قال: نحن جئنا وماذا صنعنا؟ جئنا تحدّثنا مع بعض العلماء، مع بعض البارزين، مع بعض العلماء في طهران، ففي النهاية ماذا سيجري في هذا الأمر؟! كان يقول: لقد رأيت أنّ آية الله الخمينيّ وحيد فريد، يستغيث وينادي الناس أن تعالوا، يقول للعلماء ابذلوا ما في وسعكم، تعالوا وقدّموا مخطّطًا للدستور. تعالوا إلى الميدان، تعالوا وأصلحوا، تعالوا وصحّحوا، تعالوا وقدّموا البرامج، فالمخالفون يقومون بذلك، الشيوعيّون من جهة يقومون الآن بذلك، وغيرهم كمجاهدي خلق يقومون بذلك، الجماعات المختلفة وبشكل عام المخالفون. وقد رأيت الآن أنّ هذا الرجل وحيد فريد، ونداء استغاثته مرتفع نحو الجميع. فرأيت أنّي واحد من هؤلاء الناس ـ هذه عبارته بعينها وأنا أذكر ذلك حتّى لا يقال: لماذا لم يشارك الحاج السيّد محمّد الحسين في الثورة؟! لا يقال لماذا اعتزل؟! لا يقال لماذا ذهب إلى مشهد؟! لا يقال لماذا كان لا يبالي بهذه الأمور؟! فهذه أمور كنت شاهدًا عليها بنفسي، وحتّى هناك من الرفقاء أيضًا الآن من كانوا شاهدين على ذلك ـ فقد قال: لقد رأيت أنّ هذا الرجل وحيد، وقد رفع نداء استغاثته إلى العلماء، إلى الناس، إلى المصلحين، إلى الذين يأتون ويتعهّدون بموضع من المواضع، يساعدون، يخطّطون. فنحن قلنا حسنًا. كان يقول: تغيّبت عن المسجد، وجلست. ومسودّة القانون الأساسيّ التي كتبها... قال: جلست في المنزل فكتبت تلك المسودّة، ومطالب القانون الأساسيّ.
وكانت هناك حاجة إلى الناس للمشاركة هناك، للمشاركة في مجلس الخبراء، فقال: لقد تشاورت مع علماء طهران المعروفين، وحتّى ذهبت إلى بيوت بعضهم، ذهبت إلى منزل السيّد السبط رحمه الله۱، ومنزل الشيخ محمّد باقر الآشتياني٢. ذهبت إلى هذين المنزلين، وتحدّثت معهما أن تعاليا أيّها العالمان وكوّنا مجموعة. لأنّهم كانوا يريدون حينها من طهران عشرة للانتخابات، انتخابات مجلس الخبراء، فقوموا وشاركوا فيه، وجميعهم وافقوا. وقمت بكتابة أسماء عشرة وأرسلتها إلى قم، حيث كان آية الله الخمينيّ في قم حينها: أرسلتها إلى قم. فقرأها وقال: ممتاز، هذا جيّد جدًّا، ولكن المهمّ أن لا يكون فيها معارَضة للآخرين. فقد كان يبدي القلق تجاه الفتنة وأن تؤدّي هذه التعارضات والمواجهات لا سمح الله إلى فتنة وحينها لن تكون آثارها محمودة، حيث يقول الناس: انظروا كيف صارت الأوضاع، فهم مختلفون فيما بينهم.
كان يقول: ذهبت إلى ذلك المسؤول ـ والذي انتقل إلى رحمة الله وعلى كلّ حال إن شاء الله يتجاوز عن تقصير الجميع، ويجعل الجميع موردًا لغفرانه ـ ذهبت إلى ذلك المسؤول وتحدّثت معه حول الأحداث التي كانت آنذاك، فرأيت أنّه لم يقبل وقال: نحن لدينا جماعة، ونحن بأنفسنا نرشّحهم، ونحن بأنفسنا نعلن عنهم للنّاس، ويمكننا أن ندخل إلى لائحتنا واحدًا منكم فقط لا أكثر، فنحن لا نفعل ذلك.
كان يقول: فذهبت مرّة أخرى إلى هؤلاء العلماء، فرأيت أنّهم مصمّمون على المخالفة ولا يريدون التعاون معنا. هل التفتّم؟ لا يريدون التعاون معنا. قلت: أنا سأعمل، وسأشتغل في الأمر، وسأعلن وأبلغ في جميع طهران، وهنا وهناك، حتّى في النهاية [يتّضح الأمر] فالآن هناك مصلحة، والمصلحة أمر مهمّ. القضيّة الآن هي قضيّة الإسلام، ولا يمكن التقصير في ذلك. قال: أرسلت رجلاً ـ وأنا لن أصرّح باسمه، وهو موجود ومن أصدقائنا ـ أرسلته إلى ذلك الرجل المعروف ليفتح باب الحديث، باب المشاركة: فلنجلس معًا ونتحدّث ونبحث الأمر حتّى نصل إلى نتيجة.
فكان جوابه هكذا: نحن مصرّون على خطّتنا وبرنامجنا وثابتون عليهما، وليست لدينا نيّة لتغييرهما، وليعلم أنّنا سنبذل جهدنا لمنع انتشار هذه الأسماء ونفوذها.
قال لي المرحوم العلاّمة أنّه عندما سمع بذلك قال: هذا يعني إعلان حرب، ونحن لا نريد أن نحارب أحدًا. فهذا الأمر يعني معركة. حسنًا في أمان الله. نحن لا نريد، ورأي آية الله الخمينيّ هو هذا أيضًا أن لا ينتهي الأمر إلى فتنة، ولا يكون هكذا. فإن كان المقرّر أن يكون الأمر بأيّ نحو فحسنًا أيّ نحو يعني أيّ نحو. وفي هذا الكلام كلّ شيء. قال: كلاّ نحن لا نريد أمرًا كهذا، وهذا الكلام ليس في مصلحة الإسلام، وليفعلوا هم ما يشاؤون. فهذا واحد من الأمور.
إصرار الشهيد دستغيب على المرحوم العلاّمة للمشاركة في مجلس الخبراء
الأمر الثاني: لقد كان ممّن انتخب في مجلس الخبراء المرحوم آية الله الشهيد دستغيب رضوان الله عليه، وقد كان رجلاً عظيمًا جدًّا، ورجلاً مخلصًا ورجلاً طاهرًا ومن الأصدقاء القدماء للمرحوم العلاّمة. كان من الأصدقاء القدامى جدًّا ومن تلامذة المرحوم الأنصاري رضوان الله عليه، وواقعًا كان من الأخيار السيّد دستغيب هذا رحمه الله، واقعًا كان من الأخيار، وكان مصباحًا في محافظة فارس۱، كان معلّمًا للأخلاق، ورجلاً مهذِّبًا ومهذَّبًا. كلّما سمعت كلامه، مثلاً في الراديو أحيانًا يبثّون كلامه، فرغم أنّ كلامه موجّه إلى الناس العاديّين ويتحدّث ببساطة ولكنّي كنت أرى أنّ كلماته هذه كلمات مؤثّرة، فقد كانت كلماته مؤثّرة في القلوب، ورغم أنّها كانت متوجّهة إلى الناس العاديّين ولكن في الوقت نفسه لأنّها صادرة من لسان صادق فكنت أشعر أنّي أنا أيضًا أتأثّر بها. لقد كان رجلاً عظيمًا جدًّا. وكان قد انتخب عن محافظة فارس.
حسنًا فقد جاء إلى منزل المرحوم العلاّمة بعد بضعة أيّام من تشكّل مجلس الخبراء، جاء يومًا إلى المنزل، وبالطبع لم أكن أنا حاضرًا يومها. ولكن نقل لي المرحوم العلّامة. جاء إلى المنزل وقال: يا سيّد محمد حسين أدركني! أعنّي!
قال: ماذا حصل؟
فقال: أنا لا يمكنني المشاركة في هذا المجلس! لا يمكنني، أنت من يجب أن يكون في هذا المجلس. أنت يجب أن تكون في هذا المجلس.
فقال: لقد قمتُ بهذه المحاولات ألم تسمع بها؟! وأعلنوا علينا الحرب وقالوا: نحن سنمنع بأيّ ثمن، فماذا تقول أنت؟!
قال: تعال، أنا أجعلك مكاني ممثّلاً لمحافظة فارس، فأنا الآن ممثّل محافظة فارس.
فقال: يا سيّد عبد الحسين، أنت تفكّر ببساطة! تفكّر ببساطة جدًّا.
قال: لا يا سيّد محمّد حسين أنا سأفعل ذلك.
قال: حسنًا أنا قلت ما عندي وأنت قلت ما عندك، لا بأس فلنرَ .
وبعد بضعة أيّام أخرى جاء من جديد إلى منزل المرحوم العلاّمة، فقال المرحوم العلاّمة: حسنًا يا سيّد من الرابح أنا أم أنتم؟! فطأطأ رأسه ذلك المسكين. ثمّ قال: سيّدنا بقي هناك تتمّة للأمر بقي هناك شيء.
قال: حسنًا كيف؟
قال: نعم يا سيّد، ذهبت إلى ذلك المسؤول ـ المسؤول الذي انتقل إلى رحمة الله ـ وقلت له: إنّ السيّد محمّد حسين يأتي بدلاً عنّي.
قال: لا يمكن. لكلّ محافظة ممثّلها، ولا يمكن أن يأتي إنسان آخر، هذا وفق القانون. ولم يكن القانون حينها قد سنّ، وربّما كانت تلك القوانين هي قوانينهم التي دوّنت. فلا يمكن. ومهما حاولت: قال: لا يمكن. ثمّ كان لي اقتراح آخر، كان اقتراحي أن تأتي إلى المجلس بعنوان مستشار متخصّص وخبير في الأمور المختلفة الاقتصاديّة، السياسيّة، التجاريّة، التقنيّة، الاجتماعيّة وغيرها فيستفاد منك. يعطونك بطاقة، بطاقة خاصّة للورود، فلديهم بطاقات كهذه، فيأتي السيّد محمّد حسين وآخرون، فلنعط السيّد محمّد حسين بطاقة أيضًا وليشارك كمتخصّص.
فقال له المرحوم العلاّمة: يا سماحة السيّد عبد الحسين أنت إنسان ساذج! وهذه المرّة الثانية.
ـ كلاّ يا سيّد لا يمكن، سأقوم بذلك حتمًا.
قال: لا بأس. فقد رأيت أنّي في الأمر السابق كنت أنا الرابح.
ذهب وبعد بضعة أيّام رجع مطأطئ الرأس.
قال: يا سيّدي العزيز إنّ النسخة الأصليّة لهم هي عندي. هل التفتّم؟ فهذه العبارة تعني أنّ لديّ إشرافًا على كافّة النفوس. فعندما أقول لك إنّك ساذج ساذج فاقبل وطأطئ رأسك وقم بعملك.
فلم يسمحوا للمرحوم العلاّمة أن يدخل إلى مجلس الخبراء حتّى كمتخصّص. فلتكونوا على علم بهذا! كونوا على علم لتعرفوا أنّ هؤلاء الذين يقولون إنّ أهل العرفان منعزلون، منزوون، فقط يتكلّمون، ولا يتدخّلون في الأمور الاجتماعيّة [هم غير محقّين]. هذه طريقته، وقد رأيت أنا بعينيّ هذه الأحداث وأردت أن أثتبها في التاريخ ليعلم أنّه سعى إلى هذا الحدّ لإصلاح الأمور.
فهذا أحد المواضيع، والكلام فيه كثير ومتشعّب، ولذلك فإنّنا لن نخوض من الآن فصاعدًا في هذا الموضوع، وإن شاء الله إن كان هناك أمر فسنذكره في كتابنا.
حول شهر رمضان
شهر رمضان على الأبواب، ولأنّه ليست هناك جلسة أخرى كما يبدو إلى ما بعد شهر رمضان، فسأتحدّث إليكم قليلاً إن شاء الله حول خصوصيّات شهر رمضان.
كان المرحوم العلاّمة قبل شهر رمضان عادة يتحدّث للرفقاء بأمور، وعلى ما أذكر فقد طرح يومًا هذا الأمر وأنّ الأعاظم كانوا يطلبون من تلاميذهم صيام خواصّ الخواص.
أنواع الصيام
فالصيام ثلاثة أنواع:
فهناك صيام العوام وهو الإمساك عن المفطّرات التي ذكرت في الرسائل العمليّة، من الأطعمة والدخان الغليظ كالسيجارة وغيرها فإنّ إدخالها إلى الحلق يسبّب البطلان، بطلان الصيام. ورمس الرأس تحت الماء، وسائر الأمور التي ذكرت كمفطّرات في الرسائل العمليّة. فمن أوّل الفجر على الإنسان أن ينوي الإمساك، إلى حين غروب الشمس. فلو اغتاب أثناء الصيام، أو اتّهم، فقد ارتكب محرّمًا، ولكن ذلك لا يبطل صوم العوامّ، وصوم العوامّ هذا لا بدّ منه في مرتبته.
وهناك صوم الخواصّ، وهو أن يحفظ الإنسان أعماله وجوارحه عن ارتكاب الحرام، سواء في اللسان أو العين أو الرجل أو اليد. حتّى يمكننا أن ندخل في صوم الخاصّ هذا، الفكر بالحرام قبل أن يصل إلى مرحلة العمل. أن لا يسيء الظنّ بأخيه المؤمن. أن لا يفكّر في أخيه المؤمن بفكرة سيّئة، أن لا يسيء الظنّ بالآخرين، أن لا يشارك في الأماكن المحرّمة، أن لا يحرّك لسانه بالغيبة. حتّى بعض الأشياء الجائزة، فمثلاً سئل المرحوم الأنصاري: إنّ فلانًا يقوم بذنبه علانية، فهل يمكن أن يُغتاب؟ فقال: قالوا غيبته جائزة ولم يقولوا واجبة. فهذه جائزة ولا تعدّ غيبة، ولكن هل هي واجبة؟ الآن يمكن للإنسان أن يقول هذا الأمر، ولكن عليه أن يفعل الأصحّ أن يقوم بالأفضل. أن لا يغتاب، أن لا يتّهم، أن لا يعصي، أن لا يؤذي في علاقته مع الناس، أن لا يسيء الظنّ في علاقته بأخيه المؤمن. أن لا يتلف وقته بغير فائدة في الأمور المضرّة، فالمرحوم العلاّمة كان يهتمّ حتّى بكيفيّة تناول الطعام. فنحن في أوقات الصيام مثلاً كيف نأكل؟ فشهر رمضان هو شهر منّ الله به علينا، وأشهر رجب وشعبان ورمضان هي أشهر لله المنّة بها علينا، والإنسان يشعر فيها وخصوصًا في شهر رمضان الذي هو شهر الصيام أنّ تعلّقه قد قلّ، ويده صارت أكثر انبساطًا في العطاء، يشعر بمحبّة النوع والرحمة لهم والعطف علیهم أكثر. فحتمًا هذا الأمر ثابت. ویقال: فی شهر رمضان تخفّ نسبة الجرائم في الإحصاءات، فلماذا؟ إنّ إحصاءات الجرائم تخفّ ـ وهذا ما يقوله الأجانب أيضًا ـ وذلك لأنّ الإنسان عندما يصوم فإنّ تلك الأحاسيس الشهويّة والغرائز الشيطانيّة تضعف. تقلّ روح التعدّي لدى الإنسان، وتزيد لديه حالة السكينة والطمأنينة، ويستغرق في ذاته أكثر، ويشتغل بنفسه أكثر، لا يريد بعد ذلك النظر إلى أعمال الناس، لا يريد أن تكون له عين. تبدو الأمور بالنسبة إليه أكثر سهولة وبساطة، تحمّله للأمور يكون أكثر. كلّ ذلك هو بسبب الصيام.
وهذه المعدة عجيبة، والأمور المرتبطة بها عجيبة، فالغذاء وما يرتبط به عجيب جدًّا، وهذا الأمر يرتبط بالصيام.
هذه المنّة امتنّ الله بها علينا، فعنايته واهتمامه هو بهذه الأشهر الثلاثة. وبالطبع هناك أيّام بعض الأيّام الخاصّة في السنة لها هذه الخصوصيّة. ولكنّ شهر رمضان هذا، الصيام واجب فيه. ففي شهر رجب يقال: مهما استطعت فصم، أو في شهر شعبان. ولكن الله في شهر رمضان ليتمّ نعمته على العباد أجبرهم على الصيام فقال: يجب أن تصوموا. شئتم أم أبيتم لا بدّ أن تقوموا بهذا العمل. كأنّه طبيب يعطي الدواء بيده ويأتي بنفسه ويعطي الإبرة، حتّى وإن تألّم الطفل وبكى، فإنّه لا يهتمّ إلى بكائه، هو يريد أن يحصل على العافية والصحّة. فالله يريد بهذا الشهر أن يجبرنا على الورود إلى حريمه. يجبرنا على الورود إلى هذه السفرة التي جعلها في هذا الشهر.
حقيقة سفرة شهر رمضان المعنويّة وشروط تحصيلها
فما هي هذه السفرة؟ إنّها سفرة لا تنسجم مع الأكل والنوم. إنّها نعمة تتنافى مع ملء المعدة، إنّها نعمة تعطى للإنسان في حالة الجوع، نعم في حالة الجوع تعطى. إن كنت شبعان فلن تنالها. لا أنالها أنا ولا غيري.
كان المرحوم العلاّمة يقول: إذا صام إنسان، وفي الليل عند الإفطار تناول الأطعمة الدسمة والحلوة والمقليّة وأمثالها لكي يعوّض عن يوم من الصيام، بل يخزّن البروتينات والدهون والكلري لليوم اللاحق أيضًا، كان يقول: لو صمت ألف سنة بهذه الطريقة فلن تصل إلى نتيجة، لن تصل. وعند السحر يجب أن نأكل بطريقة معيّنة، وعند الإفطار بطريقة. فالإفطار خلافًا للثقافة المعروفة يجب أن يكون طعامًا خفيفًا. يجب أن يكون إفطارنا خفيفًا. الطعام الذي يمكن يكون ثقيلاً إلى حدّ ما اتركوه للسحر. لماذا؟ لأنّه إضافة إلى أيّام شهر رمضان هناك آثار أيضًا للياليه. فكيف يمكن أن تنال فضائل الليل تلك مع هذا الإفطار؟! لذلك فقد كان دأبه ودأب الأعاظم ممّن شهدتهم عند الإفطار أن يتناولوا الطعام الذي يرفع ذلك الضعف في النهار لا أكثر. أن يرفع الضعف الذي يظهر في النهار. بحيث أنّ الإنسان إذا قام عن سفرة الإفطار يقوم خفيفًا، لا يشعر بالثقل. إذا شعر بالثقل فقد ذهبت ليلته، عليه أن يفكّر بالليلة الثانية، أن لا يشعر فيها بالثقل. وإذا أحسّ بضعف أثناء الليل فليأكل فاكهة، لا إشكال في ذلك، فلا نأكل بعد ذلك الأطعمة المقليّة، الأطعمة المدهنة، الأشياء المسبّبة للثقل في المعدة، هذا يؤدّي أن تصرف قوى البدن في هضم الطعام. وأن لا تحصل تلك الرقة واللطافة النفسيّة والروحيّة والتي ينبغي أن تحصل بواسطة الخفّة، فعليكم أن لا تغفلوا عن ليالي شهر رمضان. ليالي شهر رمضان!
إحياء العشر الأواخر من شهر رمضان
والعشر الأواخر من شهر رمضان علينا أن نحييها، فالإحياء ليس خاصًّا بليال ثلاث. جميع الأعاظم كانوا يوصون تلامذتهم بأن يبقوا مستيقظين حتّى الصباح. وبالطبع حسب الإمكان، لا أن يصرّ الإنسان على ذلك ولو كان يؤدّي إلى مرض. فهذا ما يرتبط بالطعام وهذا الصوم هو صوم الخواصّ والذي من الجيّد جدًّا القيام به.
صيام خواصّ الخواصّ
ولكن هناك صيام أرفع من هذا على الإنسان أن يهتمّ به، وهو الصوم الذي يغلق فيه القلب ونافذة القلب أمام غير الله. فهذا الصيام رائع جدًّا. هذا الصيام الذي كان الأعاظم أنفسهم يصومونه، حتّى على الإنسان أن لا يقوم بالأعمال العاديّة، الأعمال التافهة، الأعمال التي تتلف الوقت، أن لا يأتي إلى قلبه بغير الله، لا يأتي إلى ضميره بغير الله، لا يدع هذه الدقائق التي تمضي من الصوم تمضي هكذا بلا فائدة. حتّى ينبغي أن لا يفكّر فكرًا بلا فائدة، لا نقول فكرًا محرّمًا، فالصوم عن الفكر الحرام هو صوم الخواصّ. بل حتّى لا يفكّر بفكرة بلا فائدة. لا أريد أن أقول فكّروا دائمًا بالله، فالفكر بالله يمنع الإنسان عن سائر الأمور، أثناء الدراسة، أثناء العمل، أثناء التجارة، أثناء الأعمال الأخرى، لا بل على الإنسان أن يجعل نيّته في هذه الأعمال خالصة، لا يأتي إلى قلبه بغير الله، سأقوم بهذا العمل لأجله، ولا أقوم بهذا العمل لأصل إلى هذه المنفعة، لا أقوم بهذا العمل لآخذ هذا النفع من فلان لنفسي، لأسبق غيري إلى تلك المنفعة ... كلّ هذا ينبغي أن لا يكون في هذا الزمان. طبعًا نحن نقول حتّى في الأوقات الأخرى على السالك أن لا يقوم بذلك، ولكنّه في النهاية لم يرتكب حرامًا. أذهب لأقوم بهذه المعاملة أسرع لتصلني منافعها دون فلان، إن كنّا نصنع ذلك في غير شهر رمضان فعلينا أن نتركه في شهر رمضان، علينا أن نتركه. نجري معاملة، نتاجر كلّ ذلك في مكانه. إن وصلنا فبها، وإن لم نصل فستكون من نصيب أحد آخر. أما أن أعمل بنيّة أن لا يصل غيري وأنا أصل قبله إلى هذا المشروع، أصل قبله إلى هذا المشروع، أقوم بذلك العمل، فهذا ما علينا تركه في شهر رمضان.
إصلاح المشكلات القلبيّة مع الناس
إن كان في ذهننا مشكلة مع أحد فلنبع في شهر رمضان هذا ذهننا إلى الله، ولنجعل نفسنا في اختياره. مثلاً افترضوا أنّ هناك إنسانًا ما لدينا مشكلة معه، نتذكّره أحيانًا لقد فعل معنا هذا العمل، وفعل معنا ذاك العمل، فرغم أنّنا لا نسبّه بحسب الظاهر، ولكن في النهاية لدينا مشكلة معه في النفس. فلنغلق هذا الباب في شهر رمضان هذا، وما إن تأتي هذه الأفكار حتّى نوجّه فكرنا إلى مكان آخر. فلنجرّب بهذا النحو. إذا وجدناها جيّدة، فلنستمرّ عليها بعد شهر رمضان، إذا وجدنا هذه التجربة مفيدة. لذلك فإنّ الأعاظم كانوا يستفيدون من شهر رمضان هذا. كانوا يصومون في شوّال أيضًا. لا أقول صوموا! كلاّ، حافظوا على آثار شهر رمضان، حتّى تصبح كافّة أوقاتنا كما قال أمير المؤمنين عليه السلام كافّة أوقاتنا وكافّة أورادنا ودًا واحدًا، ونكون في خدمته كافّة أوقاتنا، ونقرأ في دعاء كميل: حتّى تكون أعمالي وأورادي كلّها وردًا واحدًا وحالي في خدمتك سرمدًا.۱ يكون قلبي في خدمتك سرمدًا يعني دائمًا. وحينها كلّ ما يأتي إلى ذلك القلب فإنّه مبعوث من عنده، وكلّ ما يخرج من هذا القلب هو أيضًا منه.
إن شاء الله نوفّق إلى هذا الصوم. وكما يقول السيّد الحدّاد رضوان الله عليه: القلب حرم الرحمن فلا تجعل في حرم الرحمن غير الرحمن أو القلب حرم الله فلا تدخل في حرم الله غير الله، القلب حرم الله وحريم الله. ولدينا في الحديث القدسيّ: لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن.٢ فالسموات والأرض لا تتمكن من أن تسعني، أي إنّها لا تمتلك قابليّة جذباتي الجماليّة والجلاليّة، وظرفيّتها الوجوديّة محدودة محدودة محدودة.
ولدينا حول النبيّ موسى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنينَ}.٣ عندما جذب الله تعالى ذلك الجبل بجذباته، وأنزل عليه من أسماء القهّاريّة وصفاتها صار الجبل دكًّا دكًّا، وأغشي على موسى. ولكن الله يقول إنّ قلب عبدي المؤمن يمكنه أن يتحمّل هذه الجذبات ولا يحصل له شيء. إنّه قلب هؤلاء الذين خرجوا من كلّ شيء يمكنه أن يتحمّل ذلك ولا يصيبه شيء. لذلك نقل عن أبي سعيد أو بايزيد خبر: لو وضعت الأرض كلّها والسماء والعرش والفرش في قلب أبي سعيد، أو في قلب بايزيد فإنّه يملأ زاوية منه أو لا يملأ. يعني زاوية من هذا القلب، أي إنّ الله قد وسّع هذا القلب إلى حدّ أنّه صار ينظر إلى كلّ السماوات والأرض بنظرة واحدة، وهذا صحيح! فالمؤمن يصل إلى هنا. فهذا القلب الذي هو مكان الله نأتي نحن ونمزجه بغيره. لقد خُدعنا كثيرًا.
هذا الشهر كما كان السيّد الحدّاد يقول: من هو الشيطان؟ هكذا كان يقول: من هو الشيطان؟ على الإنسان أن يقف على باب قلبه حاملاً خنجرًا، وما إن يره من بعيد يرمي به ولا يدعه يتقدّم. أمّا نحن فإنّه يأتي ويعدّ لنفسه مكانًا، وينصب سريره، ثمّ يستريح ساعة ويرتفع صوت شخيره، ثمّ بعد ذلك نقول: ماذا حصل؟ هل جاء؟! حقًّا!
نسأل الله إن شاء الله وبعون ومدد الأولياء الذي مضوا بقلوب منزّهة وبلغوا المقصود. نسأل الله أن يمنّ علينا بعطف واهتمام صاحب مقام الولاية إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.