المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير والأسرة
التوضيح
هو العليم
أسلوب التعامل مع الحقائق الدينيّة وبيانها
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۷٤
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى آل بيته الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
بحثُنا في حديث «عنوان البصريّ» الشريف يدور حول طاعة الزوجة لزوجها، وحدود هذه الطاعة، وأصل هذا القانون والحكم وجذوره؛ فباعتبار تصريح الآية الشريفة ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وبِما أَنْفَقُوا ...﴾۱ بقيمومة الرجال وقوّاميتهم على النساء على أساس التفضيل والفضل الذي عيّنه الله تعالى، يتوجّب علينا أن نبحث عن هذا التفضيل، ونرى ما هي موارده، وما هي القاعدة التي يتّكيء عليها، وهل يوجب أدونيّة المرأة وتنزّل مقامها عن الرجل، أم لا.
ففيما يخصّ البحث السابق، طرحنا مجموعة من المسائل التي كان لها طابع تمهيديّ؛ ومع أنّني صرّحت بذلك في الجلسة السابقة، إلاّ أنّ كلامي هناك تسبّب في إثارة التساؤلات، وطرح الآراء، وإبراز الأذواق الخاصّة، بحيث كان واضحًا من هي الفئة التي صدرت منها هذه التساؤلات، وفي ضمن أيّة حدود؛ ولا يخفى أنّه بالنظر إلى المسائل التي سنبحثها لاحقًا، فإنّنا نرجو إن شاء الله تعالى أن تُعالج هذه الإشكالات، وتنحلّ تلك الأسئلة، ولا تبقى بحول الله تعالى وقوّته أيّة ذرّة من الاستياء والانزعاج جاثمةً على وجوه الأخوة المؤمنين والأخوات المؤمنات، ولا يحملوا ـ لا سمح الله تعالى ـ هذه المسائل على تفضيل وترجيح فئة على أخرى.
الدين واقع في طريق كمال الإنسان
وأمّا المسألة التي أشرنا إليها في الجلسة السابقة، ونرى من المناسب أن نتحدّث عنها هنا قليلاً قبل الدخول في صلب الموضوع، فهي: لأيّ شيء نُريد الدين في هذه الدنيا؟ وما هو هدفنا من المجيء إلى هذا العالم، والقيام بهذه التكاليف، والخوض في الأمور الدينيّة؟ أَ وَليس لأنّ الدنيا مقدّمة للكمال الروحيّ، والولوج إلى عالم القيامة، والاسفادة من النعم الإلهيّة الأبديّة واللامتناهية في ذلك العالم؟ وذلك لأنّه عالم لا نهاية له، بينما مدّة هذه الدنيا محدودة ببقاء روح الإنسان في جسده؛ وحتّى لو عاش هذا الإنسان عمر الخضر عليه السلام، فإنّ حياته ستنتهي يومًا ما؛ والمثير للالتفات أنّه حين انقضاء العمر، فإنّ الإنسان لا يشعر هل عاش ألف سنة أو سنة واحدة؛ أي أنّ إحساس الذي عاش في هذه الدنيا سنة أو سنتين هو عين إحساس الذي عمّر ألفين أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف أو عشرة آلاف سنة؛ لأنّ ملفّات الجميع ستُغلق في الأخير، لتبدأ للتوّ بعدئذ الحياة الأبديّة في ذلك العالم؛ فنخلع هذا اللباس، ويُدفن الجسد تحت التراب، ويتحلّل، ويفنى، أو يُحرق كما هو معمول به في عادات وتقاليد بعض الشعوب، ويُذرى رماده في البحر، ولا يبقى منه أيّ أثر، بحيث لن نعثر منه على ذرّة واحدة، مهما بحثنا عنها في هذا العالم؛ إذ حينما يحترق الجسد، ويتبخّر في الهواء، فلن تعود هناك أيّة فائدة؛ فالحياة الأبديّة تبدأ في ذلك العالم؛ وأمّا هذا العالم والمجيء إلى هذه الدنيا، فهو مقدّمة لتحصيل كمالات في ذلك العالم تُرافقنا في حياتنا الأبديّة؛ ولهذا، علينا ألاّ نتعلّق كثيرًا بهذه الدنيا، ولا نفرح بهذه الأوضاع التي نعيشها هنا، ونولي اهتمامنا بالآخرة.
وفي هذه الحالة، هل من شأن هذه المقدّمة [أي وجودنا في الدنيا] أن تتحقّق بالاتّكاء على قوانين مختلقة واعتباريّة؟ لا يُمكن بتاتًا! فإذا كان الإله الذي خلقنا قد أوجدنا في هذا العالم بمقتضى مجموعة من القوانين، ووضع لنا تكاليفًا، ووجّه إلينا أوامر ونواهٍ، فإنّ هذه الأوامر والنواهي هي التي يُمكنها حتمًا أن تقع في طريق كمالنا، وليس ما يخطر على بالنا، وما يُعجبنا نحن؛ ولهذا، فإنّ المهمّ بالنسبة للإنسان أن يُكيّف نفسه مع تلك القوانين والأوامر التي عيّنها الله تعالى له، لا أن ينزعج منها؛ وعلينا أن نلائم أنفسنا مع القوانين التي أنزلها علينا، لا أن نتملّص منها؛ وإلاّ، فمن الذي سيخسر؟ فإذا لم نمتثل لهذه الأوامر والنواهي، فمن الذي سيلحقه الضرر؟ هل سيلحق الباري تعالى أو رسوله؟ لن يلحق أيّ واحد منهما. فإذا جاء جميع أفراد العالم، وقالوا: «يا إلهي، نحن لن نعبدك»، لقال تعالى: ومن أجبركم على ذلك؟! فعوضًا أن أتدلّل أنا عليكم؛ لما أمتلكه من صفات، وبسبب هذه المنّة التي امتننت وتفضّلت بها عليكم [أي العبادة]، فإنّكم تأتون أنتم، وتتدلّلون عليّ، وتقولون: «إلهي، نحن نعبدك»؛ تعالوا الآن، واتّخذوا قرارًا بالامتناع عن الصلاة منذ هذه الليلة، ثمّ انظروا هل سينزعج الله تعالى، أم لا؟ وقولوا: «إلهي، ابتداءً من ظهر اليوم الجمعة الخامس من رجب، نُريد أن نتدلّل عليك، ونتوقّف عن الصلاة»؛ ففي هذه الحالة، سيقول: «عساكم ألاّ تُصلّوا من الآن إلى مائة سنة، فمن أجبركم على ذلك؟!».
حكمة تشريع العبادات الواجبة والمستحبّة
فعلينا أن نلتفت إلى أنّ عبادتنا وصلاتنا في ساحة القدس الإلهيّ هي حاجة بالنسبة إلينا، ودلال [وغنى] بالنسبة إليه تعالى؛ أي: يا إلهي، إنّني أصلّي؛ لأنّني محتاج، ولأنّ وجودي هذا سيبقى [من دون الصلاة] ناقصًا وغير ناضج، ولأنّني أُقبل على سعادة أبديّة، وأريد الوصول إلى النعمة الإلهيّة الكبرى والخالدة؛ فجميع هذه الأمور تقتضي من الإنسان أن يتوجّه إلى الله تعالى، ويتوجّه إلى الدعاء، والصيام، والعبادة، والإنفاق؛ وهذا الذي يُقال له تطبيق الأحكام الشرعيّة على القوانين الفطريّة والتكوينيّة؛ لكن، كيف هي أحوالنا نحن؟ هي بالنحو التالي: وا وايلتاه، لقد تعلّقت صلاة برقبتنا أيضًا! فنقوم، ونُصلّي، لكي نريح بالنا، ثمّ نُكمل بقيّة كلامنا! أ فلا نقول ذلك؟ تبًّا! ما عسانا أن نفعل؟! إذا لم نُصلّ، فإنّ ملائكة غلاظ شداد سيأتوننا، وعلينا أن نُؤدّي الحساب هناك! لكنّ هذه ليست هي طريقة أداء الصلاة، وهذا ليس هو طريق التوجّه إلى الله تعالى.
فحينما يُريد المسلم أن يتوجّه إلى الله تعالى في الصلاة، فإنّه لدينا رواية تقول: عندما كان رسول الله يتحدّث أحيانًا مع الناس، أو يأتي إلى المنزل، فإنّه كان ينظر إلى السماء، ليرى متى تزول الشمس؛ هذا، مع أنّه كان نبيًّا! أي أنّه كان يستقصي وقت زوال الشمس، لكي يقوم، ويُنادي: أرحني يا بلال۱؛ فتعال یا بلال، وأذّن، وأرحني من هذه المشاكل، ومن هذا الكلام مع الناس، ومعاشرتهم، ومن هذا البُعد؛ ففي نهاية المطاف، تتوفّر الصلاة على حالة حضوريّة لا تحصل في غيرها، ولو لرسول الله! فالمسألة ليست بذلك النحو. إنّ معنى "أرحني يا بلال": متى يحين يا بلال زوال الشمس، فتأتي، وتُعلن عن نداء الولوج إلى الحرم؟ متى يأتي وقت غروب الشمس، ويُمنح لنا بواسطة صوت الأذان الإذن للدخول إلى البلاط [الإلهيّ].. هذا هو معنى الصلاة.
في إحدى الجلسات التي جمعتنا بالمرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه، عبّر عن الصلاة بهذه الجملة: «الصلاة عبارة عن حالة فاقة وافتقار يشعر بها العبد في وجوده شاء أم أبى»؛ وحينئذ، هل نمتلك نحن هكذا شعور؟ وبحقّ، هل لدينا مثل هذا الإحساس؟ فتلك الحالة من الافتقار التي يشعر بها الإنسان في وجوده هي التي تدفعه إلى الصلاة. فلو جئنا الآن إلى عبادة النصارى، كيف هي؟ يذهبون إلى الكنيسة مرّة كلّ أسبوع؛ ومهما كان العمل الذي ارتكبوه طيلة الأسبوع، فإنّهم يذهبون إلى غرفة خاصّة هناك، ويأتي القسّيس، ويجلس إلى جانبهم، ويتبادلون بعض الكلمات، ثمّ يشترون الجنّة، ويبيعون جهنّم، فيُصبحون طاهرين! ثمّ يستمعون إلى نشيد، ويُغادرون المكان.. هذه هي أوضاع الكنيسة، وهذا هو شأن المسيحيّة! فحتّى لو فرضنا أنّ عبادتهم سليمة، وأنّ هذه المراسم التي يُؤدّونها صحيحة بأجمعها، فإنّ معنى ذلك أنّ الله تعالى أذِن لهم في الحضور واللقاء مرّة واحدة في الأسبوع! لكن، كم مرّة أذِن في ذلك للمسلم؟ خمس مرّات كلّ أربعة وعشرين ساعة؛ مع أنّه حضور إلزاميّ ولقاء واجب؛ لا أنّه قال: إن شئت فلتأت، وإن شئت فلا تأت؛ أي أنّ هذا الحضور يُصبح إلزاميًّا بالنظر إلى تلك الحاجة الملحّة والافتقار الشديد؛ وفي هذه الحالة، إذا ازداد شعورك بهذه الحاجة، فأوجب على نفسك أيضًا صلاة الليل؛ أ ولم تكن واجبة في بداية الإسلام؟ لقد كانت واجبة في صدر الإسلام، ثمّ نُسخ هذا الحكم، وصارت مستحبّة؛ أجل، بقيت واجبة على رسول الله تعالى؛ فإذا كنت محتاجًا، فأوجبها على نفسك؛ وإذا رأيت أنّ احتياجك أكبر، فأوجب النوافل أيضًا على نفسك؛ وإذا رأيت مرّة أخرى أنّ افتقارك أكبر، فأوجب على نفسك بعض الأدعية؛ وهكذا دواليك.
ثمّ يصل الإنسان بعد ذلك ـ وأمعنوا النظر فيما أقوله لأنّ هذه المسائل عايشتها بنفسي، وشاهدتها في أحوال العظماء ـ إلى مرتبة يستولي فيها الفقر والفاقة على وجوده بأجمعه؛ وأمّا نحن، فإذا أردنا أن نمتنّ على الله تعالى كثيرًا، ونحترم أنفسنا كثيرًا، فإنّنا لا نتجاوز في تأمّلنا في أنفسنا خمس دقائق؛ فتجدنا نرجع إلى ذواتنا، ونتفحّص أحوالنا، ونُفكّر في نقائصنا لمدّة خمس أو عشر دقائق؛ بينما قد يصل السالك إلى موضع يصير فيه كلّ وجوده فقر محض وحاجة صرفة؛ وهنا فقط تُصبح كافّة أوقاته أوقاتًا للصلاة؛ أي أنّه يصل إلى مرتبة يضحى فيها جميع أرجاء وجوده فقرًا؛ وحينئذ، فإنّ كلّ لحظة تمرّ عليه، يصير فيها وكأنّه قضاها في حال صلاة.
فكلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول فيه: «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الظَّمَأُ والْجُوعُ، وكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ والْعَنَاءُ؛ حَبَّذَا صَوْمُ الْأَكْيَاسِ وإِفْطَارُهُمْ»۱ إشارة إلى هذه المرتبة؛ فكم هناك من أفراد يصومون، لكنّهم لا يحصلون من الصوم إلاّ على العطش والجوع؛ وكم من أفراد يحيون الليل إلى الصباح، ولا يستفيدون من ذلك إلاّ التعب والعناء؛ فطوبى لأصحاب الفطنة والكياسة الذين ينامون أو يفطرون! أي أنّ الأفراد الذين يتّصفون بفطنة كبيرة تمكّنوا من إدراك حقيقة الأمر؛ فسواءً صاموا أم لم يصوموا... أجل، المراد هنا الصوم المستحبّ، وإلاّ فإنّ الإنسان الكيّس والفطن يعلم بنفسه ما هي الأوقات التي يصوم فيها، وما هي الأوقات التي لا يصوم فيها، ويُدرك وقت الاستيقاظ، ووقت النوم، ويستوعب كلّ شيء في موضعه المناسب؛ فهؤلاء الأكياس والفطنين أشخاص تمكّنوا من فهم سرّ العالم، والوصول إلى سرّ وجودهم؛ فلا يُمكن لأيّ أحد بعدئذ أن يخدعهم، ولا يستطيع أحد أن يقول لهم: تخلّوا عن هذه المسألة، وإلاّ ستُبتلون بالأمر الكذائيّ، لأنّهم سيقولون له: فلنُبتل به! فلا يُمكن لأحد أن يخدعهم بهكذا أشياء. ومن هنا، فإنّ المهمّ بالنسبة إلينا أن نُكيّف أنفسنا مع هذه القوانين، لا أن نكيّفها مع أنفسنا، أو نتخلّى عنها، ونودعها في مطاوي النسيان؛ وإلاّ فإنّ ضرر ذلك سيلحق الإنسان بذاته؛ وهذا الأمر ينطبق على كافّة المسائل، ولا يختصّ بهذا الموضوع والمورد.
الهداية من الله تعالى والإنسان مكلّف بالبلاغ فقط
ولدينا آية كريمة تتحدّث عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتقول: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾؛۱ أي قد تلوم نفسك وتشعر بضيق في صدرك ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ﴾؛ وقد تتخلّى عن ذلك، ولا ترغب في الحديث عنه، ويصعب عليك بيان الأحكام الإلهيّة للناس؛ وحينما تريد أن تُبيّن لهم حكمًا، ولا يُعجبهم ذلك، فإنّك تشعر بضيق في صدرك؛ فترغب في أن تُحدّثهم عن المسائل التي تُعجبهم ولا تصعب عليهم؛ وذلك حينما يقولون إنّ هذا الرسول لا يمتلك مالاً، ولا يستطيع تأمين قوت يومه، فلماذا لا يأتي معه كنز من السماء؟ ولماذا لا ينتمي إلى علية القوم والأعيان والأشراف؟ ولماذا لا يأتي معه ملك نراه، فنشاهد تلك القوى الإلهيّة القهّارة المصاحبة لمسألة التكليف والأوامر والنواهي؟ وهذا الكلام الذي يتفوّهون به هو عين الكلام الذي يقوله البعض الآن، من دون أيّ اختلاف، حيث نجد أنّ كلامهم واحد: لماذا الأمر بهذا النحو؟ ولماذا بذلك النحو؟ ﴿إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ﴾: يا رسولنا، ما عليك إلاّ أن تُعلم الناس، وتُحذّرهم من عواقب أعمالهم، ولا يوجد لديك أيّ تكليف آخر؛ ﴿وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ والله هو الموكّل بالأمور، فما دخلك أنت بذلك؟ فالهداية من الله، وإن شاء تعالى، فإنّه سيأخذ بأيدي الناس؛ وما عليك إلاّ أن تبيّن المسائل، وتعرض الأحكام الإلهيّة، فإذا لم يُعجب ذلك البعض، فهم وشأنهم؛ إذ هناك من لو تنصحه لمدّة مائة سنة، لما قبل منك؛ فلماذا ـ والحال هذه ـ تُضيّع وقتك لأجل الناس؟ اهتمّ فقط بالذين يقبلون الكلام. علينا ألاّ نسعى لتقليب المسائل، وتدويرها، وتبريرها، بنحوٍ ينال إعجاب فئة من الناس؛ فهل من اللائق أن يحرم الإنسان من الحقيقة طائفةً من ذوي الاستعداد والقابليّة لأجل نيل ترحيب وإعجاب في غير محلّه؟ وهل يصحّ أن نكتم الحقيقة، ولا نوصلها إلى أسماع ذوي الاستعداد والقابليّة الذين يسعون إلى إدراك الواقع وفهم الحقيقة؛ خوفًا من ألاّ يحظى ذلك بإعجاب فئة من الناس؟ فلا أعجبهم ذلك! أو خشيةً من أن يسوء طائفة من الناس؟ فليسؤهم ذلك! أ فهل أنا موكّل بدين الناس؟! أ وهل أنا وأمثالي وكلاء على دين الناس ومذهبهم؟! إنّ المهمّة الملقاة على عاتقنا تتمثّل في: أوّلاً، أن نقترب كما يجب وينبغي من منهج الإمام عليه السلام ومبادئه ومدرسته، لكن بقدر المستطاع والسعة الوجوديّة؛ ثانيًا، أن نبيّن ما تعلّمناه للناس من دون أيّة اعتبارات؛ ونحن مطالبون بهذين الأمرين فقط؛ وأمّا مسألة أن يُعجب ذلك الناس، أو لا يُعجبهم، فلا تدخل في دائرة تكليفنا؛ فمخاطبة الناس بصدق وصراحة، وبيان الحقائق لهم من دون ستار، وعرضها عليهم من دون غلاف وبنحو شفّاف ليس خروجًا عن الدين، بل أصل من أصوله؛ أجل، أن يلجأ الإنسان إلى شتم الناس، وتعييرهم، والتضييق عليهم، وفرض دين مزيّف واعتباريّ عليهم، ويدعوهم إلى نفسه، ويجعل ذاته هي المحور، ويرى الناس مفتقرين إلى العقل والفهم اللذين أنعم الله تعالى بهما عليهم، ولا يحسب لهم أيّ حساب، ويرى نفسه قيّمًا ووليًّا عليهم.. هذا هو الخروج عن الدين!
فلا يصحّ أن يمتنع الإنسان عن بيان مسألة واقعيّة وحقيقيّة، خوفًا من أن يكره الناس أمير المؤمنين؛ فليكرهوه، فذلك شأنهم! فهل قال أمير المؤمنين هذا الكلام أم لم يقله؟ إذا لم يقله، بيّنوا ذلك بكلّ وضوح، وائتوا بدليلكم على ذلك. ومن المؤسف حقًّا أن نشعر بهذا المرض الذي ألمّ بنا، حيث صرنا نرى أنفسنا أشفق من الأمّ على ولدها، ونعتبر أنفسنا أوصياء [على الدين]، في حين أنّنا نلجأ بواسطة هذه المسألة إلى حرمان الناس من نعم شتّى، ولا ندع الحقائق تصل إلى أسماعهم، ونظنّ أنّنا نمشي في الطريق الصواب.
ومن العجيب حقًّا أن هذه المسألة كانت موجودة في العصور السابقة أيضًا، أي أنّ شكلها واحد، أو بعبارة أخرى: حقيقتها وجذورها واحدة، لكنّ أشكالها مختلفة. لقد كان الحجّاج بن يوسف الثقفيّ يستند إلى آية ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾۱ من أجل إثبات إمارته، حيث كان يقول: «أنا وليّ الأمر، وتجب عليكم طاعتي»! فقتل ثمانين ألفًا من شيعة أمير المؤمنين، ودفن بعضهم داخل الجدران، ثمّ صعد المنبر، وسعى للاستناد إلى نفس هذه الآية الكريمة [لتبرير فعلته]؛٢ وحينئذ، فليعجب ذلك بعضًا من الناس، أو لا يُعجبهم، فلا يهمّ!
طاعة المرأة لزوجها لا تبتني على مسألة القوّة الظاهريّة والإنفاق
أذكر أنّني كنت أتحدّث ذات يوم في مشهد عن ثلّة من الانحرافات والأمور التي شاهدتها في بعض الكتب، وما ورد فيها من مسائل مخالفة لما قاله الإسلام، ومن جملة ذلك ما جاء في أحد الكتب عن آية ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ﴾،٣ حيث تعجّبتُ كثيرًا من هكذا أفراد، والذين لا أعلم، هل لديهم اطّلاع على هذه المسائل، ومع ذلك يُنكرون، أم أنّهم غير مطّلعين عليها حقيقةً؛ لكنّني أستبعد ذلك كثيرًا؛ أي أنّه ليس بمقدورنا احتمال أن يكون تفكيرهم بهذا النحو! فهل هؤلاء غير مطّلعين حقًّا على الأخبار والنصوص الواردة في هذا المجال؟ هذا مستبعد جدًّا! وفي هذه الحالة، فإنّنا نجدهم يلجؤون إلى بعض التفسيرات العجيبة والغريبة التي سأشير إلى بعضها في الجلسات القادمة، لكنّنا سأكتفي الآن بالحديث عن هذا النوع منها، حيث قال بعضهم في تفسيره لآية ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ﴾: إنّ طاعة المرأة للرجل تتكّيء على أمرين: الأوّل مسألة التفضيل، والذي يُراد به حتمًا التفضيل العقليّ؛ لكنّهم رفضوه أيضًا، وادّعوا أنّ التفضيل هنا ناظر إلى كون قوّة الرجل وقدرته أكبر، وتحمّله لمشاقّ خارج البيت أكثر؛ ولهذا، فإنّ الله تعالى جعل نفقة المرأة على عاتقه .. ﴿وَبِما أَنْفَقُوا﴾؛ أي لأنّهم يُنفقون. حسن جدًّا! حينئذ، إذا عثرنا على امرأة تفوق زوجها قوّة، حيث قد يتّفق أن يكون الرجل أضعف من المرأة من حيث القوّة الظاهريّة؛ ففي هذه الحالة، لن يكون هناك تفضيل من هذه الناحية. ومن جهة الإنفاق أيضًا، فإنّ المرأة قد تخرج للعمل، أو تكون لديها أموال شخصيّة، ولا يكون الرجل متمكّن ماليًّا، أو يكون مريضًا، وغير قادر على العمل، فتتحمّل المرأة نفقته؛ ففي هذه الحالة، ينبغي أن تكون تلك الطاعة المترتّبة على الإنفاق والتفضيل بالعكس! أي أنّه على الرجل هذه المرّة أن يستأذن من الزوجة إذا أراد الخروج، لأنّها هي التي تُنفق! وهكذا في بقيّة الأمور التي أنتم على علم بها أكثر منّي!! وكذلك بالنسبة لمسألة الإتيان بالضيوف، والحدود التي وضعها الشرع لأجل مراعاة حقوق الزوجيّة، وحقّ كلّ من المرأة والرجل، حيث ينبغي أن تُصبح كلّها بالعكس.. وهذا كلّه طبقًا للفتوى والتبرير والتفسير الذي قدّمه [ذلك الرجل]! وبحقّ، فإنّ هذا أمر يبعث على الضحك؛ أي أنّه لا يحتاج إلى توضيح؛ لأنّه عبارة عن قلبٍ لحقيقة وردت في الإسلام. فلو أنّ طاعة المرأة للرجل بالنحو الذي سنتحدّث عنه لاحقًا ـ مع كلّ التأكيدات التي بُيّنت بها ـ لم تكن لها أيّة واقعيّة، لماذا لا نجد في كلام الأئمّة عليهم السلام طيلة مائتين وخمسين سنة، ولو موضعًا واحدًا يقولون فيه: «إذا تحمّلت المرأة نفقة زوجها، فإنّ تلك الحقوق التي كان على عاتقها ستصير على عاتق الرجل! ومنذ ذلك الحين، عليه أن يستأذن منها لكي يأتي بالضيوف، ويخرج من المنزل، وعليه الحصول على إجازتها في كافّة الأمور»! إنّ هذه المسألة تبعث على السخريّة، ولا تعدو كونها خروجًا عن الحقائق، وتغييرًا للدين.. هل التفتّم؟
وبالمناسبة، فقد كنت أتحدّث عن هذه المسألة، فبدأت أنزّلها قليلاً، وأنزّلها، إلى أن احتملتُ أن يكون بعض الحاضرين قد تمكّن من التعرّف على المؤلّف والكتاب الذي ألّفه؛ وفي اليوم التالي على ما يبدو؛ لأنّ المرحوم العلاّمة لم يكن في أواخر حياته يحضر مجالس العزاء التي تُقام لعشرة أيّام في منازل الأحبّة، بل يحضر يومًا واحدًا فقط لأنّه أحواله لم تكن على ما يُرام ... وتجدر الإشارة إلى أنّني تحدّثت في اليوم الذي حضر فيه عن مسألة أخرى، لكنّه كان يُؤتى كلّ يوم بتسجيل للمحاضرات التي ألقيها، فكان يستمع إليها، ويُنبّهني إلى المسائل التي تحتاج برأيه إلى تنبيه؛ فحينما ذهبت عنده في اليوم التالي، قال لي: «يا فلان، لقد تحدّثت البارحة عن تلك القضيّة، وكان حديثك جيّدًا جدًّا؛ لكن، لماذا تُنزّل المسألة إلى حدّ يلتفت فيه البعض إلى المصداق، وإلى من ذكر ذلك الأمر؟»؛ فقلت له: «أوّلاً، حينما يكتب أحدهم كتابًا، فإنّه يقوم من خلال فعله هذا بعرض نفسه، ولا يحتاج الأمر لأن أذكره أو لا أذكره؛ لأنّه أقدم بنفسه على تأليف كتاب، ووضع اسمه عليه؛ ولهذا، لا يتوجّه إليّ هنا أيّ إشكال. وثانيًا ـ وهذه هي المسألة التي تحتاج إلى تأمّل وتدقيق ـ إذا لم أعمل على تنزيل هذه المسائل، وتحدّثت عنها بشكل كلّي، فإنّ البعض سيُشكّك في نفس هذه المسائل الكلّية، ولن يقبل بها متذرّعًا بآلاف التبريرات، ولن يُطبّقها على مصاديقها كما يجب وينبغي؛ وبالتالي، لن يتحقّق مرادي من الكلام»؛ فقال لي: «يا فلان، بيّن ما تُريد الحديث عنه بنحو عامّ وكلّي»، ثمّ قال، وهنا تكمن المسألة الأساسيّة: «إنّ الذي جعل الله تعالى فيه النور والاستعداد اللازم، وكان من المقرّر أن يفهم، فإنّه سيفهم، ولو بواسطة تلك المسألة الكلّية؛ وأمّا الذي ليس من شأنه أن يفهم، فإنّه لن يستوعب المسألة، ولو عيّنت مصداقها ألف مرّة؛ ولهذا، لا تُنزّل المسألة، وبيّنها من خلال مصاديقها الكلّية ومبادئها العامّة»؛ والمراد من ذلك أنّ بعض الناس لا يريدون في هذه الدنيا فهم المسائل؛ وليس فقط بعضهم، بل الكثير منهم بهذا النحو؛ فالكثير من الناس مسلمون لكنّهم لا يرغبون في الفهم!
العجز عن فهم النصوص الدينيّة ليس مبرّرًا لإسقاطها من الدين
في الأسبوع الفائت والجلسة السابقة، قلت إنّ أحد المشايخ سُئل في جلسة معيّنة عن معنى آية ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ﴾؛ وبدلاً عن بيان معنى ﴿قَوَّامُونَ﴾، وما هو ومن هو المراد من هذه الآية، فإنّه قال: «ما بلغه علمي لحدّ الآن أنّ الإسلام يقول بالتساوي بين المرأة والرجل».. بالله عليك أيّها التافه! إنّك تلجأ إلى رفض آية قرآنيّة؛ فما معنى قولك «ما بلغه علمي لحدّ الآن»؟ إنّ الذي فهم ذلك هو عقلك الفاسد وفهمك السقيم! أ وليست هذه الآية جزءًا من القرآن؟ أ ويكون الدين شيئًا غير هذه الآيات؟ فمن أين أتى الدين؟ فهل أتيت به من عند خالتك أو عمّتك؟!۱ فيأتي ذاك ويحذف آية أخرى، ثمّ يأتي آخر، ويقول: إنّ الحجّ يختصّ بذلك العصر، وليس بهذا العصر؛ وآخر يقول: إنّ الزكاة تختصّ بذلك الزمان الذي تميّز بالأمر الكذائيّ والأمر الكذائيّ، ونحن الآن ندفع الضرائب، فلا ينبغي علينا أداء الزكاة! ثمّ يقول آخر: إنّ الخمس أيضًا يختصّ بذلك العصر، وليس بهذا العصر؛ وهكذا، نحذف الواحدة تلو الآخرى، ونقول: إنّ الصلاة تتعلّق هي أيضًا بذلك الزمان الذي لم يكن الناس يعقلون فيه أيّ شيء، وأمّا الآن، فقد بلغت عقولهم حدّ الكمال، وبالتالي لا يحتاجون لهذه الانحناءات؛ فيأتي كلّ واحد، ويحذف آية من القرآن؛ فماذا سيبقى من الدين؟ سيبقى منه مجرّد تكتيف الأيادي، والمشي بطريقة مستقيمة في الشارع!! حاشى وكلاّ! إنّ كافّة الآيات القرآنيّة دين، وجميعها أمر أو نهي؛ وإذا كنت أنت لا تفهم، فهذا شأنك! وعليك الآن أن تذهب، وتُحاسب على كلامك، بل أنت الآن تُحاسب عليه؛ فحينما ارتحلت [عن هذا العالم]، فإنّك تُحاسب على كلامك.. هل هذا واضح؟ وأمّا أنا المتكلّم، فإنّني لا أستطيع تحمّل هذه المسؤوليّة، بل عليّ أنا أتحدّث بما أعلمه وأفهمه؛ صحيح، قد يمتلك البعض الجرأة، ويصلون إلى مستوى من التجرّي، بحيث تكون لهم القدرة على التبديل والتغيير والتبرير، وأمّا أنا، فلا أستطيع ذلك. فالواجب عليّ أن أبيّن ما فهمته من النصوص والروايات، لا أن أعتمد في بياني للمسائل على التبريرات والتفسيرات المختلقة للقرآن ونهج البلاغة؛ لا! عليّ أن أسعى لبيان ما سمعته من الإمام الصادق، والإمام الكاظم، والإمام السجّاد، وأبيّن ما رأيته في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين؛ غاية الأمر أنّ ذلك يخضع لحدود فهمي وإدراكي؛ والله تعالى لا يتوقّع منّا أكثر من ذلك؛ فإذا تسلّل الخطأ إلى موضع ما من المسألة، فإنّ ذلك يرجع إليّ؛ وإذا استطاع أحد تقديم تفسيرٍ أحسن، فليطرحه على بركة الله؛ وإذا تمكّن أحد من عرض مسألة أفضل، فليأت ويعرضها؛ لكن، بشرط ألاّ يبعث هذا التفسير على ضحك صاحب الكلام! ولا يكون بنحوٍ لو حضر هنا صاحب نهج البلاغة، للطم المفسّر على وجهه (وليس فقط يضحك عليه)، وقال له: لقد غيّرت كلامي.. أ فهل كنتُ أخرسًا حتّى أتحدّث بهذه الطريقة [التي صوّرتها أنت]؟! فلا ينبغي علينا تفسير الكلام بهذا الشكل، لا! فلا ينبغي أن يكون تفسيرًا يفضي إلى مجيء صاحب نهج البلاغة عند سؤال منكر ونكير، وقوله: هل أقصى ما بلغه فهمك أن تأتي، وتُحرّف حديثي، وتُبدّل كلامي؟ إذا كنت لا تفهمه، فقل: «إنّني لم أفهمه، وهذه المسائل ترجع إلى أمير المؤمنين».
رحمة الله تعالى على أحد الأشخاص الذين توفّوا واستُشهدوا؛ فقد كان رجلاً عظيمًا وعالمًا ومن أصدقاء المرحوم الوالد وتلامذته، حيث كتب في أحد مؤلّفاته: «إنّ هذه المسألة صادرة من أمير المؤمنين، لكنّني لا أستوعبها».. رحم الله والديك، وجُزيت خيرًا؛ فهذا جيّد جدًّا! لكن، لا يجوز أن يأتي الإنسان، ويقول بسخريّة: نحن لا نفهم [هذه الآيات]؛ والمراد من عدم الفهم هنا أنّها هراء وباطل؛ فهذا غير صحيح.
الكشف عن الحقائق مُتاح للذين يطلبونها فقط
بعد ارتحال المرحوم آية الله السيّد الخمينيّ عن الدنيا، عقد المرحوم العلاّمة مجلسًا للعزاء؛ وبمقتضى ذلك المجلس، تحدّثت في جلسة بمشهد عن برامج الحكومة الإسلاميّة، وكيفيّة تأسيس هذه الحكومة اعتمادًا على القوانين الإسلاميّة، لا القوانين المختلقة؛ فأثبتُّ من خلال القوانين والمباديء الإسلاميّة أنّ تأسيس الحكومة الإسلاميّة من أوجب الواجبات؛ وقد نتج عن كلامي هذا إثارة مجموعة من التساؤلات؛ وكأنّ ذلك الكلام والخطبة التي ألقيتها كانت مقدّمة لكي يعمد المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه للحديث طيلة ستّ جلسات بحضور أصدقائه وأحبّائه عن تأسيس الحكومة الإسلاميّة؛ وهي الجلسات التي دُوّنت على شكل كتاب بعنوان وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام؛ فبغضّ النظر عن أنّه لم يطرح كافّة المسائل في هذا الكتاب؛ إذ لم يتحدّث فيه عن القضايا الشخصيّة، والمسائل السرّية، والأشياء التي نعلم بها، إلاّ أنّه أورد فيه مجموعة من المسائل التي كانت واضحة للجميع؛ وفي هذه الحالة، إذا لم يتحدّث الآخرون عن هذه المسائل، فذلك شأنهم! لكن، يبقى أنّ الأمور التي ذكرها في هذا الكتاب كانت واضحة ومبرهنة بالنسبة للعديد من الأفراد الذين لا يزالون الآن على قيد الحياة؛ إذ يعترف الجميع بصحّة هذه الأمور التي بيّنها في ضمن ستّ جلسات، بحيث بعدما أعلن عن ختام تلك الجلسات، قلت له: «لماذا لم تتحدّث يا سيّدي عن تلك الأمور التي نعلم بها؟»، فقال لي: «ليس كلّ ما يُعرف يُقال، مع أنّ ما ذكرناه مفيد بالنسبة للذين يبحثون عن الطريق»؛ وهذه عين عباراته؛ أي أنّ كلامه موجّه للذين لا يُعانون من الأمراض [والنوايا السيّئة]! وللذين يسعون للكشف عن الحقائق، لا إثارة المؤامرات والتشويش والاضطراب؛ فالكشف عن الواقع والحقائق ميسّر للذين لا يسعون تمضية أوقاتهم في البطالة والشعارات.
لقد أُثير الكثير من الضجيج حين تأليف هذا الكتاب؛ وكان البعض يتواصل معي بشكل مستمرّ، ويطلب منّي هاتفيًّا أن أذهب عند المرحوم العلاّمة، وأصرفه عن طبع هذا الكتاب، فكنت أقول له: يا عزيزي، بالله عليك، ماذا سأقول للمرحوم الوالد إذا ذهبت عنده؟! أليس هذا مضحكًا؟! أ فأذهب عنده، مع كلّ ما يمتلكه من عظمة، وجلالة قدر، وتاريخ، وعلم، وتجربة، وخبرة، واطّلاع وإشراف على كافّة المسائل، حيث يُشكّل اطّلاعُه على الماضي والمستقبل بأجمعه أحد المباديء الفكريّة والسلوكيّة التي نؤمن بها؟! لقد كنت أعتبر والدي كرجل يعلم بالماضي والمستقبل كعلمه بكفّه؛ والآن أنا كذلك؛ ففي الأخير، هو والدنا، وكنّا برفقته أكثر منكم، وصُحبتنا له أكثر؛ هذا، مع أنّ العديد من الأحبّاء الذين التقوا به يعترفون بهذه المسألة؛ لكن، يبقى أنّنا كنّا معه دائمًا، ونعلم أنّ ذلك كان بالنسبة إليه كشُرب الماء؛ أي أنّه كان واضحًا لدينا وضوح الشمس في رائعة النهار أنّه مطّلع على الماضي والمستقبل؛ وحينئذ، ماذا أفعل أنا؟ أذهب عنده، وأقول له: «يا سيّدي، ليس من الجيّد طباعة هذا الكتاب»! أليس هذا مضحكًا؟! فلماذا ألّفه إذن؟ وهذا من المآسي التي لا تزال مكنونة؛ ولا يجدر بنا الآن أن نتحدّث أكثر عن هذه الأمور!
فكانوا يتّصلون بي هاتفيًّا مرارًا وتكرارًا، فكنت أقول لهم: «حسنًا جدًّا»؛ لكنّني كنت أتغافل عن كلامهم، ولم أكن أذهب لإيصاله إليه؛ إلى أن جاء يوم من الأيّام، حيث رافقته لزيارة طبيب العيون بمستشفى الإمام الرضا ليفحصه؛ وحينما كنّا نمرّ في ساحة المستشفى، قال لي: «يا فلان! أريد أن أطرح عليك سؤالاً»؛ فقلت له: «تفضّل»؛ قال لي: «برأيك، كيف ستكون ردّة فعل المجتمع وموقفه من كتاب وظيفة الفرد المسلم الذي ألّفته؟»؛ فقلت له: «لا شكّ أنّ هذا الكتاب سيُخلّف موجات من التأثير، وصدى كبيرًا؛ وهذا أمر واضح؛ إذ يشتمل على بعض المسائل التي قد لا تُعجب البعض أو الكثيرين ـ نظير الموضوع الذي بدأنا حديثنا به ـ ، ممّا سيُحدث بعض الأمواج [من ردود الأفعال]، لكنّ هذه الأمواج ستستقرّ وتسكن، وستظهر للناس في نهاية المطاف تلك الحقيقة التي تسعى لإثباتها وبيانها»؛ ثمّ قلت له بعد ذلك: منذ أن حصلَت هذه المسألة قبل ثلاثة أسابيع، وإلى الآن، تلقّيت العديد من الاتّصالات الهاتفيّة، ومن ضمنها اتّصالات من بعض المعنيّين بنشر هذه المسألة، والذين هاتفوني مرارًا وتكرارًا، مؤكّدين عليّ بأن: اذهب عند والدك حتمًا، وأقنعه بالإحجام عن هذا الأمر؛ إذ تترتّب عليه نتائج وأخطار واضطرابات، وسيخلق حالة من الفوضى، وكذا وكذا؛ لكنّني لم أُلق بالاً لكلامهم، وكنت أضحك في نفسي من ذلك، وأقول لهم: أجل، حسن جدًّا، عندما ألتقي به إن شاء الله تعالى، سأحدّثه بذلك؛ فقلت للمرحوم الوالد: «هذا ما يقوله هؤلاء عن هذا الكتاب»؛ فقال لي: «أجل، أجل، هو كذلك، ﴿ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾۱»؛ فهذا هو مستوى فهم وإدراك هؤلاء، ولا يستطيعون تجاوز هذا المستوى ﴿ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾؛ وهذا هو واقع الأمر!
بعد ذلك، قلت له هذه العبارة: «أيّ ظلم وإجحاف هذا يا سيّدي؟ وما هذا الظلم وعدم الإنصاف اللذان علينا تحمّلهما نحن أهل العلم؟»؛ وحينما أذكر لكم هذه المسائل الآن، فإنّ الحالة التي أشعر بها في داخلي هي بعينها التي كنت أشعر بها عندما كنت أحدّثه بذلك الأمر؛ فقلت له: يا له من ظلم وإجحاف أن يحرِم عالمٌ جماعةً من سماع الحقيقة وإدراكها، خشية ألاّ يُعجب ذلك جماعة أخرى! فإلى أيّ مدى سيصل هذا الظلم بالإنسان؟ وبأيّة طريقة يُمكن تبرير هذا الظلم والإجحاف؟ وكيف يتسنّى لنا تقديم جواب عن ذلك؟ هل بسبب ألاّ يُؤدّي ذلك إلى استياء البعض؟ لكن، من هؤلاء الذين سيحصل لهم الاستياء؟ إنّهم أفراد سيُسألون غدًا عنّي وعنك! لماذا؟ لماذا نأتي إلى شابّ يتوفّر الآن على قابليّة واستعداد، ويبحث عن الحقيقة، ونُشغله بالشعارات، ولا نُخبره بالمسائل، ونُخفي عنه الحقيقة؟ وأيّ جواب يُمكننا تقديمه لإمام الزمان بشأن ذلك؟ فهو عليه السلام سيقول لنا: هل هذا هو الدين الذي أتيتكم به واخترته لكم؟ لماذا؟
وهناك حكاية تتعلّق بهذا الموضوع سأتحدّث عنها لاحقًا؛ لكن، بعد أن أُلّف هذا الكتاب، طُرحت العديد من الآراء بخصوص هذه المسألة؛ ولا يخفى أنّ الكتاب لم يتمّ توزيعه، بل وُضعت نسخ منه في بعض المكتبات هنا وهناك، غير أنّه لم يُوزّع في الأسواق، ولا علم لي الآن بمصيره. فبعضٌ من الذين قرؤوا هذا الكتاب أو أرسله إليهم المرحوم العلاّمة بدؤوا في التعليق عليه، ومنهم أحد أصدقائه ومحبّيه، ومن الذين قدّم لهم المرحوم العلاّمة خدمات كبيرة، وتفضّل وتكرّم عليهم كثيرًا، والبعض من الأصدقاء على علم بذلك؛ وأذكر بنفسي أنّني كنت جالسًا في مكان ما، فكان يتحدّث في ليلة من ليالي شهر رمضان، ويعترض على المرحوم العلاّمة، وينتقده بنحو كنائيّ قائلاً: «لقد جاء بعضٌ ممّن قضوا مدّة طويلة في السير والسلوك، وطفقوا بعد كلّ ذلك يبثّون أحاديث النفس والأنانيّة، ويذكرون في كتبهم: أنا قلت، أنا قلت لفلان، أنا قلت لقائد الثورة كذا، أنا قال للسيّد الخمينيّ كذا؛ فهذا الحديث عن النفس يحكي بأجمعه عن إبراز للذات والأنانيّة، ويتعارض مع السلوك، ويتناقض مع طريق الله تعالى»!
وبحقّ، لو كنتَ منصفًا، وأردتَ أن تُطالع هذا الكتاب، هل كنت ستحصل على هكذا نتائج؟ أي: بغضّ النظر عن تلك المسائل، هل كان [المرحوم العلاّمة] في صدد إبراز نفسه في ذلك الكتاب؟ هل الأمر بهذا النحو حقًّا؟ وهل مجرّد أن يقول الإنسان «أنا» يدلّ على الأنانيّة؟ لقد رأيت بنفسي كلامًا للمرحوم الشيخ المطهّري رحمة الله تعالى عليه يقول فيه: «حينما كان السيّد الخمينيّ في النجف بعثت إليه أنا برسالة قلت له فيها: يجب القيام بالأفعال الكذائيّة»؛ فهل هذا يدلّ على إبراز الذات والأنانيّة؟ أيّة أنانيّة؟! فماذا عليه أن يقول إذن؟ هل يقول: «نحن قلنا»؟ عليه أن يقول «أنا قلت»؛ أ وليس "أنا" ضمير المتكلّم المفرد؟! قولوا لي ما هي الكلمة التي يتعيّن عليّ استخدامها عوضًا عنه! فإذا قلت: «أنا بعثت إليه برسالة، وأخبرته بضرورة القيام بالأفعال الكذائيّة»، هل يدلّ ذلك على الأنانيّة وإبراز الذات؟ لا! فَقَولي «أنا بعثت إليه هذه الرسالة، وأخبرته بهذه المسألة، وأمثال ذلك» لا يُثير أيّ إشكال.
لكن، انظروا: حينما يكون العقل فاسدًا، ويُصاب بهذه الأفكار السقيمة، وينحرف عن الطريق السويّ، ويمشي في هذا الاتّجاه أو ذاك، فما هي نتيجة ذلك؟ أن يقرأ الكتاب من بدايته إلى خاتمته، فلا يلحظ فيه إلاّ «أنا»، من دون أن يُشير إلى طبيعة الأفعال التي قام بها [المرحوم العلاّمة]، وهل كانت صحيحة أم لا، ولا إلى المسائل التي ذكرها في الكتاب، وكيف هي، هل هي صحيحة أم لا؟ لماذا؟ ما هو سبب هذا المرض؟ لأنّه يعلم لمن يتوجّه ذلك الكلام! أيّها المسكين، إنّ مؤلّف الكتاب ارتحل عن هذا العالم، وكذلك الشخص الذي أُلّف عنه، وأنت أيضًا ستُغادر هذه الدنيا اليوم أو غدًا؛ لكن، ماذا ستفعل في ذلك العالم؟ فما الذي حصل حتّى قرأ هذه الكتاب ألف شخص، وأثنوا عليه كلّهم، من دون أن يلحظوا أنّ صاحبه يُبرز فيه نفسه، بينما لاحظت ذلك أنت فقط وبعض الأشخاص؟! فأنت الذي عليك أن تسعى لمعالجة نفسك من هذا المرض؛ فلماذا تعمد إلى سحب المسألة إلى هذا الاتّجاه وذاك؟
عظمة الشخصيّات غير مانعة من انتقادها
وأمّا الحكاية التي كنت أريد أن أنقلها كشاهد على الموضوع، فتتعلّق بأحد أقارب المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه، حيث بعث إليه برسالة يذكر فيها نظير ما ذكره ذلك الشخص، حيث قال له: «لقد جرى في هذا الكتاب الحطّ من مكانة فلان ومنزلته، في حين أنّه أعلى من المرحوم آية الله البروجرديّ بمئات الأضعاف، بل آلاف الأضعاف»! هل أنت هو مدير الديوان الإلهيّ؟! وهل أنت مسؤول في الديوان الإلهيّ، حتّى تعمد إلى المقارنة بين الناس واحدًا واحدًا؟ حسن جدًّا، هو أعلى؛ مع أنّنا لا نعلم من هو الأعلى ومن هو الأدنى، فالله أعلم بذلك، ونحن لسنا في مقام الحكم، بل الواجب علينا أن ننظر إلى هذه المسائل، والكلمات، وأسلوب العمل، وطريقة التصرّف بواسطة هذا العقل الناقص الذي منحه الله تعالى إيّاي وإيّاكم ـ ولا أقصدكم أنتم، بل أقصد ذلك الشخص الذي بعث تلك الرسالة ـ وطبقًا لذلك، عليك أن تأتي أنت، وتعقد مقارنة بواسطة عقلك، وتقول: «إنّه أعلى من آلاف الأشخاص من أمثال آية الله البروجرديّ»، وآتي أنا، وأعقد مقارنة بواسطة عقلي، وأبدي رأيي الخاصّ؛ وحينئذ، سيتّضح لاحقًا ما هو الرأي الصواب، وما هو الرأي الخطأ.
وهنا يأتي محلّ الشاهد، حيث إنّ هذا الشخص كان يتكلّم في جلسة ما مع شخص ثان، فبدأ هذا الأخير يُحدّثه عن بعض الحكايات والقصص والمسائل؛ لأنّه كان ضليعًا بالأحداث، وله اطّلاع على الأوضاع؛ فبمجرّد مرور وقت قليل على كلامه، حتّى قال له ذاك: «توقّف، توقّف، توقّف، لا تتحدّث، لا تتحدّث، لا تتحدّث»، فقال له: «لماذا لا أتحدّث؟»؛ قال له ـ وانتبهوا لهذه العبارة ـ: «لقد وضعت لنفسي أساسًا ومرتكزًا في دائرة هذه المسائل، والكلام الذي تذكره يُقوّض هذا الأساس والبناء؛ فأخاف إن تهدّم هذا البناء، ألاّ أجد شيئًا أضعه في مكانه»! انظروا بالله عليكم إلى ما يقول! وانظروا إلى ما آل إليه أمر هذا الرجل الذي يعرفه جميع من يعيش في إيران! فهذا الذي آل إليه أمره! وانتبهوا، فإنّ الكلام الذي أذكره لكم يحظى بأهمّية بالغة! فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّني شيّدت بناءً على أساس حفنة من الشائعات، وأنت تسعى لكي تسلب منّي هذه الشائعات، وتنتزع من يدي محكيّ هذه المسائل غير الواقعيّة؛ وبالتالي، لن يظلّ عندي أيّ شيء آخر، ولن يبقى لي ما أدافع به عن أقوالي السابقة، وأجيب به الناس بخصوص الكلام الذي قلته لهم؛ فلا يوجد لديّ أيّ شيء في هذا الخصوص؛ وإلاّ، لو كان الأمر يتعلّق بي أنا، لقلت لك: تحدّث لمدّة مائة ساعة؛ فكلّما تكلّمت أكثر، كان أفضل؛ لأنّ ذلك سيُساهم في تعرّف الإنسان أكثر على الحقائق، ووصوله إلى الواقعيّات.
وأنا بنفسي كنت أحمل فكرة خاصّة عن المرحوم جدّي، تعتمد على الكلمات التي كان يذكرها لي البعض من الأقارب والأرحام في فترة الطفولة؛ فكنت أنظر إليه كشخصيّة ذات أفق خاصّ؛ لكن، حينما كبرت شيئًا فشيئًا، واجهتني بعض العبارات [الواردة بشأنه]، والتي لا أريد منها اغتيابه أو ذمّه أو الحطّ منه لا سمح الله تعالى، بل الأمر يتعلّق بتحديد المكانة والمرتبة التي يحتلّها كلّ شخص؛ فلا يوجد أحد بلغ مقام الإمامة، ولا النبوّة، ونحن بأجمعنا بشر، وخطّاؤون، ولكلّ واحد منّا مستوى خاصّ من الاعتقادات والاهتمام بالمسائل والمباديء. لقد كان المرحوم جدّنا ـ كما أشار إلى ذلك المرحوم العلاّمة ـ رجلاً متديّنًا جدًّا، وله حميّة دينيّة كبيرة جدًّا، حيث يُحكى عن رضا شاه أنّه قال: «إنّني لا أخشى إلاّ رجلين اثنين: الأوّل السيّد البروجرديّ في بروجرد ـ حينما كان المرحوم السيّد البروجرديّ يقطن هناك ـ، والثاني السيّد محمد صادق اللاله زاريّ الذي يسكن في منطقة شاه آباد بطهران؛ فأنا خائف ومتوجّس من هذين الإثنين فقط»؛ أي أنّه كان على هذه الدرجة من الغيرة، بحيث إنّ جميع علماء طهران، وكافّة الناس، وزعماء البلد كانوا يعترفون بحميّته الدينيّة، وثباته على مبادئه ومعتقداته؛ وحينما وصلته رسالة من وزير العدل "داور" بخصوص مسألة خلع الحجاب، والتي لا أعلم هل طالعها الرفقاء في كتاب وظيفة الفرد المسلم أم لا، فإنّه قام فورًا من مكانه، وبدأ يكيل الشتائم لوزير العدل ورضا شاه وأعوانهما، إلى درجة أنّ المرحوم العلاّمة قال: لم أكن أعلم بتاتًا من أين تعلّم والدنا كلّ هذه الشتائم!! فهي لم تكن شتائم يقولها كلّ واحد!! فقد كان هذا هو شأنه، وكان يقول: «اعتبروا أنّكم جئتم الآن، وقطعتم رأسي، وأعدمتموني».
لكن، حينما يتعلّق الأمر بالتقصّي عن المسائل، فإنّ كونه يتوفّر على ذلك المقام وتلك المنزلة لا يفرض علينا أن نقول عنه إنّه نبيّ، أو عارف بالله تعالى.. لا! فهو لم يكن من العرفاء، ولم يقطع كلّ مراتب التوحيد؛ غير أنّه كان رجلاً ذا حميّة، ومجتهدًا قطعًا، ويشهد له الجميع بالفضل والعلم. لقد حضرت أحد المجالس، فرأيت أحدهم يتحدّث عنه، وينقل عنه بعض الحكايات والقصص؛ فصعُب عليّ القبول ببعضها قليلاً؛ إذ حينما سمعت هذه المسائل، كنت صغيرًا؛ لكن، حينما يكبر الإنسان ويرشد، فإنّ أفكاره تتغيّر وتتبدّل؛ فقال أحد الحاضرين في ذلك المجلس: «أيّها السيّد، إنّ هذه المسائل تحطّ من شأنه!»؛ فقلت: «لا، دعه يكمل الحديث، حتّى يحصل لديّ اطّلاع على الناس، ممّا سيُفيدني، ويُساهم في نُضجي»؛ فقعدت أتحدّث معه لجلسة واحدة، ثمّ ثلاث جلسات، ثمّ تكلمّت معه حول بعض المسائل، فتوصّلت إلى أنّ بعض الأمور التي ذكرها كانت من نسج خياله، بينما كانت بعض الأمور الأخرى صحيحة، وساهمت في تصحيح آرائي السابقة؛ وهكذا ينبغي أن يكون عليه الأمر بالنسبة للجميع! فهل لأنّه جدّي عليّ ألاّ أسمح لأيّ أحد بانتقاده؟ فليفعلوا ذلك.
إخفاء الحقيقة إرضاءً لطائفة معيّنة ظلمٌ لطالبيها
فنحن لدينا أربعة عشر معصومًا وحسب؛ وهم الذين سُكّت العملة بأسمائهم؛ وأمّا بقيّة الناس فخطّاؤون؛ فلا ينبغي علينا أن نحرم الأناس المستعدّين من الوصول إلى الحقيقة، لأجل حفنة من الأفراد داسوا بأرجلهم على الحقائق مراعاةً لمصالحهم الدنيويّة؛ فهذا ظلم كبير؛ وبحقّ، إنّه لمن الجور أن نقوم بهذا العمل!
أذكر أنّ المرحوم العلاّمة أشار في الجزء الخامس عشر من معرفة الإمام۱ إلى أنّ المرحوم الشيخ عبّاس القمّي صاحب المفاتيح التقى في أحد أسفاره للخارج بأحد العلماء، ويبدو أنّه المرحوم السيّد شرف الدين العامليّ، والذي تعرّض لذكر بعض الظلم والجور والاضطهاد الذي لحق بالأئمّة عليهم السلام بواسطة عدد من أقربائهم؛ نظير بني الحسن، حيث إنّهم هم الذين قتلوا الإمام الباقر عليه السلام؛ أي أنّ ابن عمّ الإمام الباقر هو الذي قتله؛ وهكذا أيضًا بالنسبة للمسائل التي حصلت للإمام الصادق عليه السلام بواسطة محمد وإبراهيم ابني عبد الله المحض؛ واللذين ادّعيا المهدويّة، وظهور المهدي، وأجبرا الإمام الصادق على الطاعة والبيعة؛ فلم يقبل عليه السلام؛ ممّا دفعهم لسجنه ليلة كاملة؛ ومن كان هؤلاء؟ أبناء عمومته عليه السلام هم الذين حبسوه ليلة واحدة في أسوء الأمكنة التي لا أستطيع ذكر اسمها، وهدّدوه بقطع رقبته إذا لم يُبايع للغد؛ فلو لم يكن المنصور الدوانيقيّ قد أتى، وواجههم، وردّهم، وأمسك بهم، لقتلوا الإمام الصادق في اليوم التالي؛ فكان المنصور الدوانيقيّ هو من جاء، وأخرج الإمام من السجن؛ وهكذا الشأن بالنسبة لبقيّة المسائل التي حصلت على يد بني الحسن وغيرهم.
فقال الشيخ عبّاس القمّي للسيّد شرف الدين: لماذا أتيت على ذكر هذه المسائل في كتبك؟ فهي أمور حدثت في التاريخ، وستُؤدّي إلى إساءة ظنّ الناس بالأئمّة.. يا للعجب! سيسيؤون الظنّ بهم؟ فهل علينا أن نترك الناس يتخبّطون في الجهل، لكيلا يُسيؤوا الظنّ بالأئمّة؟! علينا أن نقول للناس إنّ طريق الله تعالى لا يخضع للمحسوبيّة والعلاقات، بل يخضع للقواعد والضوابط. لقد جاء ابن الإمام عليه السلام بنفسه، وتمرّد على أبيه؛ فعلينا أن نُطلع الناس على العقائد الحقّة والصحيحة، لا أن نأتيهم بدين منحوت ومنمّق، شأنه في ذلك شأن المرأة التي ستُخطب، فيعملون على إخفاء عيوبها ومثالبها ببعض الأمور، حتّى لا يكتشفها الذي يُريد أن يراها؛ فلو لم تكتشفها اليوم، فماذا ستفعل غدًا حينما تتزوّج بها، وتلتفت إليها؟ سيقع بينكما خلاف؛ ولهذا، بيّن ذلك منذ البداية، وأفصح عنه من الأوّل. فحينما يتقدّم العريس لخطبة امرأة، إذا كان يُعاني من مرض يُثير الإشكال، عليه أن يذكره منذ البداية لهذه المرأة وعائلتها، ويقول: إنّني أعاني من المرض الكذائيّ، وأتوفّر على الخصائص الكذائيّة؛ وإذا كانت المرأة مُصابة ببعض الأمراض، فعليها أن تقول ذلك للعريس وعائلته، لكي يُقدم عن بصيرة؛ فإن قبِل، فعلى بركة الله؛ وأمّا أن يكون الإنسان مصابًا بمرض ما، فيجري التكتّم عليه، ويُقال: «لا ضير في ذلك، فليتزوّجوا الآن، وسيصحّوا بعد ذلك»، فإنّ ألف مشكلة ستحصل فيما بعد؛ فلنمنع حدوث ذلك منذ البداية!
فإذا أتينا، وعرضنا على الناس دينًا لا حقيقة ولا أصالة له؛ بأن نحذف منه هذا المقدار، وذلك المقدار، فإنّنا سنكون قد عرضنا عليهم دينًا منمّقًا، وليس نفس الدين؛ فعلينا أن نقول للناس: إنّ طريق الله تعالى وطريق الإسلام لا يُميّز بين الإمام وغير الإمام؛ فكلّ من يمشي في هذا الطريق يصل إلى الله تعالى، ويوصل كافّة استعدادته إلى مرحلة الفعليّة، ولو كان ابنًا لأبي بكر؛ مثل ما حصل مع محمّد بن أبي بكر؛ وكلّ من لم يمش فيه، وتمرّد على الأوامر الإلهيّة سيُزجّ به في أسفل دركات الجحيم، ولو كان ابنًا مباشرًا للإمام عليه السلام؛ فمن كان جعفر الكذّاب؟ لقد كان نديمًا للخليفة العبّاسي المعتصم، وكُلّف من قبله للبوح عن مكان إمام الزمان عليه السلام حينما كان في الخامسة من عمره، لكي يأتوا، ويقبضوا عليه، ويقتلوه؛ مع أنّه كان من أعمام الإمام عليه السلام، ومن أبناء الإمام الهادي! أجل، فابن الإمام قد يكون بهذا النحو أيضًا. ومن كان أخوة الإمام الرضا؟ كانوا هم الذين شهدوا ضدّه عليه السلام في محكمة المدينة، متّهمين إيّاه ـ ونستجير بالله حقًّا من يأتي على بال الإنسان هكذا أمور ـ بتزوير الوصيّة؛ فمن كان هؤلاء؟ كانوا أخوةً للإمام الرضا؛ فلماذا لا ينبغي علينا الإفصاح عن هذه المسائل؟ والأنكى من ذلك أنّهم رفضوا انتساب الإمام الجواد عليه السلام للإمام الرضا عليه السلام وقالوا... هل تعلمون ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّ هذا الطفل ليس منك، ومع أنّه من نسائك، لكنّه ليس منك أنت! فقالوا هذا الكلام للإمام الرضا، وأجبروه على الاجتماع بهم، وقالوا: يوجد بعض المتخصّصين في القيافة، ويُقال لهم "قافة"۱، فيأتوا، وليُحدّدوا من خلال المطابقة بين الوجوه هل هو ابنك أم لا؛ وبعد ذلك ـ وهنا يعجز الإنسان عن الكلام ـ قالوا للإمام الرضا: «لا ينبغي عليك أن تضع عمامة على رأسك، ولا تلبس عباءة، حتّى تُصبح ملامحك مضلِّلة، ولا يعرفك القافة، وارتد لباس بستانيّ، وخذ بيدك مسحاة»؛ فانظروا إلى ماذا كان يحلّ برؤوس الأئمّة؟! فعليك أن تمسك بيدك مسحاة، وترتدي لباس بستانيّ؛ ثمّ نأتي بهذا الطفل بعيدًا عنك؛ فاذهب إلى تلك الناحية، وانهمك في البستنة، والعمل بالمسحاة، ولا تتدخّل فيما نقوم به. فجاؤوا بالإمام الجواد الذي كان يبلغ بضع سنوات، وقالوا للقافة: عيّنوا شبيه هذا الطفل من بين هؤلاء الواقفين هنا من أعمامه والأفراد الغرباء، وبغضّ النظر عن ذلك البستانيّ. فألقوا نظرةً، وقالوا: لو تقرّر أن يكون له هنا أب، فهو ذلك البستانيّ الذي يعمل بالمسحاة. هل هذا واضح؟ فقد كان هؤلاء أبناء للأئمّة؛ أي أبناء الإمام الكاظم، والإمام الصادق، حيث عمد أعمام الإمام الرضا وأخوته للقيام بهذا الفعل.
خضوع الأكثريّة للأوهام والشائعات
ومن هنا، علينا أن نُبيّن للناس الطالبين للحقيقة ما هو موجود في التاريخ؛ وإلاّ سنصير مثل أولئك الأفراد؛ أ فهل كان أولئك الأفراد الذين عاشوا في الماضي مختلفين عنّا؟ أ وهل كانت كريّاتهم الحمراء مغايرة؟! وهل كانت أجهزتهم الجسميّة والفكريّة متفاوتة؟ فقد كانوا يُشاهدون الإمام بتلك الأوضاع التي كان يعيشها، وذهابه وإيّابه، والأشخاص الذين يتعامل معهم؛ فكاونوا يرون أنّ أحدهم جاء عند الإمام، وأهانه، وأساء إليه، ورحل؛ وأتى آخر، ولم يأبه بالإمام، وذهب؛ وكانوا يُشاهدون الإمام يأتي للبيت من دون أن يكون معه أيّ أحد، ويرونه عليه السلام يأتي أحيانًا برفقة بعض الأفراد، ولوحده أحيانًا أخرى؛ ويرونه فقيرًا أحيانًا، وغنيًّا أحيانًا أخرى؛ ويُشاهدون أحواله المعيشيّة جيّدة أحيانًا، وسيّئة أحيانًا أخرى؛ وبهذا النحو بنى الأفرادُ المحيطون بالإمام دينهم، وليس من خلال إمام منمّق وشبيه بالدمية، وليس من خلال إمام ينبغي عليه حتمًا أن يأتي مُحاطًا بخمسة عشر من الناس كما يفعله البعض! فيأتي بتلك الهالة، والملائكة تمسك بمظلاّت من فوق، والجنّ تبسط السجّادات من تحت، والشياطين تُلقي بكذا وكذا! فيدخل المجلس بهذه الحالة، لكي تخدع تلك السلطة والهيمنة والمكانة أعين الناس، وتتوجّه إليه الأذهان.. لا يا سيّدي! لقد كان الإمام يأتي أحيانًا حاملاً بيديه كيلوغرامين من البصل، فتقع حبّاته على الأرض، فيجمعها واحدة واحدة؛ فلا تظنّوا أنّ الإمام كان بالنحو التالي: عشرة أشخاص من ورائه، وعشرين من أمامه، ومن هذه الجهة ومن تلك؛ لقد كان الإمام يشتري الخبز بنفسه، ويحمله لزوجته وأولاده؛ أ ولم يكن الإمام الباقر يذهب بنفسه إلى المزرعة التي يمتلكها، لكي يعمل فيها؟ بينما نحن لدينا تصوّر مغاير للإمام نسعى تقديمه للناس؛ وحينما تواجهنا بعض المسائل، نرى فجأةً بأنّ الأمر صار مختلفًا؛ لا، علينا أن نبيّن للناس ما هو موجود فعلاً؛ وحينئذ، قد يُعجب ذلك البعض، ولا يُعجب البعض الآخر.. عساه ألاّ يُعجب ألفًا من الناس، فذلك شأنهم؛ إذ يكفي أن يستوعبه شخص واحد يتوفّر على الاستعداد والقابليّة! أ لا توجد لدينا آية في القرآن تقول: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾۱؛ فمعظم الناس لا عقل لهم، والأمر بهذا النحو؛ فنحن نُشاهد ذلك بأمّ أعيننا!
أ فلم يقل الناس: «لقد ظهرت على القمر صورة كذا وكذا»؟! فهل لهؤلاء الناس عقل؟ أ وحقًّا لهم عقل؟! كان أحد أقارب المرحوم الوالد يبلغ السبعين حينما نقل هذه الحادثة، وقد توفّي رحمة الله تعالى عليه؛ فمع أنّ كان يبلغ السبعين من العمر، ولم يكن شابًّا ذا سبعة أو ثمانية عشرة سنة، إلاّ أنّه اتّصل هاتفيًّا، وقال: «يا سيّد محمّد حسين، هل ترى ذلك أم لا؟»؛ قال له: «وماذا عليّ أن أرى؟»؛
ـ لقد ظهرت الصورة على القمر!
ـ ماذا؟
ـ يا سيّدي، اذهب إلى النافذة، وانظر إلى الصورة!
ـ صورة ماذا؟
ـ لقد ظهرت صورة فلان على القمر، فاذهب، وانظر إليها!
ـ ما هذا الكلام يا عزيزي؟
ـ لا، يا سيّدي، اذهب، وانظر!
فقال المرحوم العلاّمة: «لقد بقي يُنازعني في الهاتف لمدّة خمسة دقائق، ويُصرّ عليّ أن أذهب لأنظر، وأنّه إذا لم أجد شيئًا ...»؛ ومن كان هذا؟ كان رجلاً عجوزًا يبلغ من العمر سبعين سنة، وكان مدرّسًا، وفهيمًا، ويُلقي الكثير من الدروس؛ وحينئذ، هل نستطيع القول إنّ الناس لهم عقل؟ ﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾، وأيضًا ﴿أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾۱؛ فمعظم الناس لا علم ولا اطّلاع لهم؛ ولو جاء الآن أحد وقال لآخر: «لقد وقعت في المكان الفلانيّ القضيّة الكذائيّة»، لقال له: «يا للعجب!»، وإن كان في باله عكس ذلك؛ ثمّ يأتي شخص ثانٍ، ويُخبره عن القضيّة ذاتها؛ وهكذا شخص ثالث؛ فتجده يقبل بذلك، من دون أن ينهض، ويذهب ليبحث ويسأل عن حقيقة الأمر. وعلى حدّ قول المرحوم العلاّمة: «لقد سعيت طيلة عشرين سنة لبيان كلّ ما يحتاجه الناس والسلاّك في هدايتهم، بل وأكثر ممّا يحتاجونه»؛ وبحقّ، إذا أراد الإنسان أن يُشغّل عقله، ولا يتعامى عن هذه النعمة الإلهيّة، فإنّ مدّة خمسة أشهر ـ ولا نقول هنا شهرًا واحدًا ـ من صحبته تكفيه إلى آخر حياته، لكي يحصل على الفائدة المرجوّة، من دون أن يحتاج لأيّ شيء آخر؛ والمراد من ذلك أنّه إذا رافق أحد المرحوم العلاّمة لمدّة خمسة أشهر، وحضر لبعض جلساته، وسمع لكلامه، وراقب تصرّفاته لفترة من الزمان، فإنّ ذلك سيكفيه إن كان يُريد أن يُشغّل عقله. فبعدما حدثت مجموعة من المسائل والقضايا، فإنّ أولئك الأفراد الذين صاحبوا المرحوم العلاّمة لمدّة عشرين سنة، وعاشروه ليلاً ونهارًا كانوا يعترفون بأنفسهم أنّه: إذا كان من المقرّر أن يتحدّث أحد عن هذه الأمور، فهو فلان٢؛ لكن، إلى هذا الحين الذي أتحدّث فيه معكم، لم يُخصّص واحد منهم ولو خمسة دقائق، لكي يأتي، ويسألني عن إشكالاته؛ فيأتي لمدّة خمسة دقائق، ويستمع للكلام، فإلّم يقبل، يدعه؛ وإن رأى أنّه صحيح، فليقبله. فما الذي يعنيه [عدم مجئيهم وسؤالهم]؟ يعني أنّ تلك السنوات العشرين أو الخمسة والعشرين ذهبت أدراج الرياح؛ وهنا، سنغضّ الطرف عن أنّ العديد منهم اعترفوا بأنّ الحقّ مع فلان، لكن، إن أرادوا أن يقولوا ذلك، فإنّ زوجاتهم ستتشاجرن معهم ـ وهذا جزء من الموضوع الذي نتحدّث عنه ـ، ولن تسمحن لهم بالدخول إلى المنزل، وسيلجأ أولادهم للقيام بكذا، ويفعل شركاؤهم كذا، وستؤول مكانتهم ومنزلتهم إلى كذا. ودعوني أقول لكم هنا: إنّ معظم هذه الفتن التي حصلت بعد المرحوم العلاّمة كان مصدرها أولئك النسوة! وهي تجربة عشناها نحن بأنفسنا. لقد سعيت منذ اليومين أو الثلاثة الأيّام الأولى بعد وفاة المرحوم العلاّمة إلى بيان الحقائق ضمن جلستين أو ثلاثة، وكنت أعلم إلى أين سيؤول الأمر، وحدّدت الاتّجاهات؛ لكن، مع ذلك، هل أتى أحد من هؤلاء، وسألني ولو بعنوان المشورة كحدّ أقلّ: «يا فلان، أريد أن أعرض ديني عليك، وأتحدّث معك عن هذه المسائل»؟ فهل قام أحد منهم بذلك؟ بتاتًا! فماذا إذن؟ ﴿أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾؛ فمن هم هؤلاء الذين نبحث عنهم [كمصاديق لهذه الآية]؟ في تلك الناحية من العالم؟ لا يا عزيزي، علينا أن نبحث عن هذه المسألة في داخلنا نحن ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾٣.
وعليه، لمن جاءت هذه الحقائق؟ ضرب إثنين في إثنين أربعة؛ لهؤلاء فقط.. ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾؛ وذلك لأنّ ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ و﴿أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾؛ فالبعض فقط يكون شاكرًا، ويشكر نعمة العثور على الحقيقة، ويُواظب على شكر الوجود الإلهيّ الذي وُهب له؛ وهؤلاء هم الذين ينبغي إطلاعهم على الحقيقة؛ وحينئذ، ليُعجب ذلك الباقي، أو لا يُعجبهم [فهذا غير مهمّ].
فهذه كانت مقدّمة للموضوع الذي نريد بحثه، وأمّا بالنسبة لأصل الموضوع ...؛ لقد حلّت الساعة الثانية عشرة تقريبًا، وأظنّ أنّ الرفقاء قد انتابهم التعب؛ أليس كذلك؟ ماذا؟ لا بأس، فلنتحدثّ لمدّة أربع أو خمس دقائق؛ لأنّني تعبت، وقلت إنّكم تعبتم؛ لأنّني كنت أريد أن أجد شريكًا لي في الجريمة!! لكن؛ كأنّ ...؛ فما الذي علينا أن نفعل؟! نحمد الله تعالى على أنّ الجميع متعطّشون للحقيقة، ويسعون لمتابعة المسائل؛ لكنّ القدرة ضعيفة، والمجال محدود أيضًا؛ وعلى أيّ تقدير، علينا التكيّف قليلاً مع هذه المسألة.
اعتماد مسألة الطاعة على قضايا فطريّة
كما أسلفنا الذكر، فإنّ أصل مسألة الطاعة وأساسها يرجعان إلى القضايا الفطريّة، بحيث ينبغي أن تكون المسائل الشرعيّة منطبقة على هذه القضايا الفطريّة؛ فالقاعدة العامّة في هذا المجال ـ مثلما أشير إليه أيضًا في القرآن الكريم ـ أنّ الله تعالى لا يعتبر الدين دينًا إلاّ إذا كان متطابقًا مع الفطرة؛ أي أن تتمكّن الفطرة الإنسانيّة من أن تجد لصلاحيّة هذه الأوامر [المنبثقة من الدين] مكانًا في قلب الواقع. فمن بين المسائل الفطريّة والعقليّة، مسألة اتّباع الأعلم، حيث إنّ لزوم اتّباع الإنسان للأعلم هي مسألة فطريّة وعقليّة؛ أي أنّ العاقل يقول: على الإنسان أن يتّبع الأعلم؛ وعلى هذا الأساس ذكرتُ في الجلسة السابقة أنّه حتّى لو لم تحدث واقعة الغدير، ولم يُصرّح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بتنصيب أمير المؤمنين عليه السلام في مقام الخلافة بنصّ الآية الشريفة ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾۱، فإنّه يكفي أن نأتي بذلك الإثنين، ونجلسهما معًا: في ناحية أبا بكر، وفي ناحية أخرى أمير المؤمنين الذي يقول: «إنّي بِطُرُقِ السَّمَاء أعلَمُ مِنكُم بِطُرُقِ الأرض»٢، فحتّى لو أتى طفل ذو عشر سنوات لا أكثر، فإنّه سيقول: ينبغي اتّباع عليّ؛ فهذه المسألة لا تحتاج إلى عيد الغدير، ولا إلى النصّ على الخلافة؛ لكنّنا نرى هنا أنّ هذه الأمور قد جرى القيام بها أيضًا؛ ولهذا، فإنّ هذه المسألة تكون مسألة فطريّة؛ وعليه، فإنّ الطريق الذي سلكه إخواننا من أهل السنّة يتعارض قطعًا مع مبادئهم الفطريّة؛ أي أنّه يتناقض مع فطرتهم وعقلهم.
فاذهبوا، وطالعوا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وانظروا ما هو التقييم الذي سيحصل لكم بشأن عمر وأبي بكر من خلال سيرتيهما، والمسائل التي نُقلت عنها، والحكايات والقصص التي حدثت لهما مع أمير المؤمنين عليه السلام في زمان خلافتهما؛ اللهمّ إلاّ أن يُفسح المجال للإنكار، ويسود العناد والأنانيّة؛ ففي هذه الحالة، ينبغي التكتّم والتعتيم على جميع هذه الحقائق؛ فهذه هي إذن مسألة فطريّة.
وحينئذ، إذا جاء رسول الله، وأتى بأحمق ـ وحينما نقول هنا أحمق، فينبغي أن يكون في الواقع كذلك فعلاً ـ ، وقال: «يجب على كافّة المسلمين طاعته»، هل سيكون هذا الحكم صحيحًا؟ سيُثار الشكّ في هذه الحالة حول نفس رسالة الرسول! أي: إذا أتى النبيّ الأكرم، وقال بوجوب اتّباع هذا الأحمق، فإنّ الشكّ سيعتري رسالته صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لماذا؟ لأنّ هذا الأمر لا ينسجم مع العقل، ولا يتّفق مع الفطرة؛ أجل، قد يُصيّر الرسول ذلك الأحمق عاقلاً بمعجزة، أو يقوم بتصرّف معيّن، بحيث يصير الكلام الذي يخرج من فم الأحمق عين كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهذه مسألة أخرى؛ وهذا نظير أن يقول النبيّ الأكرم: أطيعوا هذا العمود، وافعلوا كلّ ما يصدر منه؛ وذلك بأن يصير العمود متكلّمًا بإعجاز منه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وأمّا إذا أتى رسول الله، ومع الحفاظ على مسألة الجنون، والقضايا التي تنبع من الجنون، والتعاليم المعتوهة ـ والتي ليست بالقليلة ولله الحمد!! ـ، وقال: «أطيعوا هذا المجنون»، فإنّنا لا نستطيع أن نقبل بذلك؛ لماذا؟ لأنّ هذه المسألة لا تنسجم مع كلام الرسول، ومنهجه، ولا تتواءم مع المباديء الفطريّة والعقليّة؛ وهنا سيقول الإنسان لرسول الله: كيف يتسنّى لنا أن نتّبع أحمقًا؟!
أو أن يأتي النبيّ الأكرم، ويقول: عليك أن تُطيع هذا الإنسان الذي عقله أضعف من عقلك، وفهمه أدون من فهمك؛ كأن تطيع مثلاً طفلك؛ فالمسألة هنا بالنحو ذاته أيضًا. ففي هذه الحالة، ما الذي سيفعله هذا الطفل عديم التجربة، والمفتقر إلى الفهم الصحيح للحياة؟ سيقول لأبيه منذ اليوم الأوّل: أعطني جميع أموالك، لكي أشتري بها ذرة منفوخة! فابتداءً من أوّل يوم، يأخذ الأموال كلّها، ويشتري مخزنًا من الذرة المنفوخة، ويأتي به إلى هنا، وهو فرحان جدًّا أيضًا؛ لأنّ التموين متوفّر لديه لفترة طويلة! وأمّا فيما يخصّ أباه، وهل يحتاج إلى المال أم لا، وكذلك بالنسبة إلى شؤون المعيشة، والماء، والطعام، وبقيّة النفقات، فإنّ ذلك لا يهمّه؛ وهذا هو مآل الاتّباع المتّكيء على ميزان مغاير للعقل والفطرة.
لقد سعى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عقد مؤاخاة بين المؤمنين؛ فآخى بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام بحسب السنخيّة التي كانت بينهما؛ وبمقتضى هذه السنخيّة، آخى بين عمر وأبي بكر، وقال إنّ هؤلاء لا ينسجمان إلاّ مع بعضهما؛ كما آخى صلّى الله عليه وآله وسلّم بين سلمان وأبي ذرّ، غير أنّ مقام سلمان كان أعلى، ومرتبة أبي ذرّ أدنى، وقال: يا أبا ذرّ لقد آخيت بينك وبين سلمان، ولكِن يلزَمُكَ أن تُطِيعَهُ في كُلِّ مَقَال وَفِي كُلِّ شَيء؛۱ فعليك أن تُطيعه في كلّ ما يقول؛ وهنا تكمن المسألة الدقيقة! أي أنّ مسألة الأخوّة محفوظة في مكانها، وكذلك الشأن بالنسبة للأحكام المترتّبة عليها، وبقيّة الشؤون والنتائج؛ كما أنّ حقوق الأخوّة محفوظة في مكانها؛ وأمّا بالنسبة للطاعة، فليست مسألة تقبل الهزل، وليست مسألة اعتباريّة، بل عليها أن تتّكيء على أساس الفطرة؛ وهنا، ما الذي تقوله الفطرة؟ تقول: إنّ سلمان أعلى، وعليك أن تُطيعه؛ والملفت للانتباه أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله سلّم يأمره بطاعته في كلّ شيء، مع أنّ بينهما عقد مؤاخاة!
وحينئذ، لو قام رسول الله بعكس الأمر، فقال لسلمان: عليك أن تُطيع أبا ذرّ، فإنّنا نقول: أوّلاً، هل يُمكن للنبيّ الأكرم أن يتفوّه بمثل هذا الكلام؟ لا يُمكنه أبدًا! وثانيًا، لو فرضنا أنّه قاله، لتوجّب التشكيك في كلامه هذا؛ لماذا؟ لأنّ عقل أبي ذرّ أدون، والمراحل التوحيديّة التي قطعها أدنى بكثير من التي طواها سلمان؛ لأنّ سلمان أدرك حقيقة التوحيد، ووصل إلى حقيقة المصلحة الكلّية، ومرتبة العقل الكلّي، وحصل له اطّلاع على شؤون الماضي والمستقبل، وعلم بالمصلحة والمفسدة الواقعيّتين؛ وفي هذه الحالة، كيف يُمكن للرسول أن يجعل أبا ذرّ [هو المطاع والمتّبع]؛ في حين أنّ بصيرته كان مفتوحة إلى حدّ معيّن، وبلغ مستوى محدودًا من المعرفة؛ هذا، مع أنّه كان من أولئك الممتازين جدًّا! فلا تظنّوا بأنّنا ننتقص منه هنا لا سمح الله تعالى؛ لأنّه كان رجلاً صادقًا جدًّا، وعلى درجة كبيرة من الإيمان، وكان صريحًا جدًّا، ولم توجد في نفسه أيّة نية سوء، وكان من ضمن الأفراد الثلاثة الذين لم يشكّوا أبدًا في خلافة أمير المؤمنين بعد حادثة السقيفة؛ لكن، مع ذلك، فإنّ مسألة الطاعة لا تقبل الهزل؛ لماذا؟ لأنّ الطاعة لا تتعلّق فقط بالأكل والشرب؛ إذ في الموارد التي ينهزم فيها حتّى عقل العقلاء، علينا أن نلتجيء إلى الفطرة، واستمداد العون منها، واللجوء إلى اتّباع الأعلم؛ ولهذا السبب، قال الرسول لأبي ذرّ: عليك بطاعة سلمان؛ لكن، ليس في شرائك للخبز، واقتنائك لبعض الأشياء، ولا في الصلاة والصيام، و...؛ لا! بل في الإشكالات التي تحصل لك، والشبهات التي تطرأ عليك، وفي المواضع التي يحضر فيها الشيطان لمحاربتك ومحاربة دينك بكافّة قواه، ولا تجد أيّ مفرّ ولا مهرب منه؛ ففي تلك اللحظة، اذهب عند سلمان، واستعن به؛ فهو مطّلع على الأمور، وينظر إليها من الأعلى، ويُطلّ على تلك النقاط التي لا تراها أنت؛ ولهذا، فإنّه سيُخبرك بما عليك فعلُه؛ وهذه هي المسألة المهمّة.
في الجلسة القادمة، سنتحدّث إن شاء الله تعالى عن علّة طاعة المرأة لزوجها، وهل إنّ هذه العلّة مجرّد اعتبار أشار إليه الباري عزّ وجلّ، أم لا؟ ولماذا لم يقل الله تعالى: على الرجل أن يطيع زوجته؟ فإذا أمر الله تعالى المرأة بطاعة زوجها، فإنّنا نأتي هنا ونعكس الأمر [لو كانت مسألة اعتباريّة]! فهل من شأن الباري عزّ وجلّ أن يجعل ويُشرّع كلّ ما يحلو له كيفما كان؛ مثلما نفعل نحن؟ أم أنّ المباديء الفقهيّة والتشريعيّة ينبغي أن تكون متطابقة مع مباديء التكوين والفطرة؛ وبالتالي، فإنّ طاعة المرأة لزوجها لا تكون أمرً اعتباريًّا، بل تكون طاعة فطريّة وتكوينيّة؟
نرجو من العليّ القدير أن يُنوّر عقولنا بمعرفة الحقائق، ويُعبّد طريقنا، ويمنحنا كلّ ما يُساهم في صلاحنا وخيرنا، ويُوفّقنا إلى ذلك كلّه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد