المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التاريخ 1435/03/19
التوضيح
إحدى المحاضرات القيمة و الأساسية التي ألقاها سماحة آية الله السيّد محمد محسن الطهراني قدس سره حول قضايا المرأة و الأسرة و التربية، مع بيان النقاط الأساسية التي تؤثّر في السير و السلوك.
في هذه المحاضرة سلّط سماحته الضوء على أهمّية السكينة و الاطمئنان في السير و السلوك، و بيّن أن ذلك له أهمية خاصة في سلوك المرأة، ثمّ عالج سماحته واحدة من أخطر المسائل المعاصرة و هي مسألة الهاتف الجوال وبرامج التواصل الاجتماعي، فبيّن كيف أنّ هذه الأمور إذا لم يتمّ ضبطها قد تصبح سبباً لذهاب السكينة و الهدوء من نفس الإنسان بل قد يؤول الأمر إلى ما هو أخطر. و جدير بالذكر أن هذه المحاضرة مترجمة عن محاضرة ألقاها سماحة السيد في جمع من الأخوات المؤمنات في مدينة قم المقدّسة تحت عنوان (مبانی سیر و سلوک الی الله بانوان(قم) – جلسه 31).
هو العليم
السكينة والإطمينان من ضروريات السلوك
المرأة والأسرة – قم
ألقيت في ۱٩ ربيع الأول، لعام ۱٤٣٥هجري قمري
سماحة آية اللهالحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
اللهم صل على محمد وآل محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
حال الملائكة السكينة والاطمئنان بينما حال الشياطين التشويش والاضطراب
هنالك رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيها بأنَّ الملائكة يكونون على الدوام في حالٍ من السكون والهدوء والاطمئنان، وذلك بعكس الجنّ والشياطين والذين يكونون دائماً في حالٍ من الحركة والتشويش والاضطراب وعدم الثبات. إنَّ تلك الرواية، هي رواية عجيبة حقاً، فهي تُبيِّن طبيعة سير الإنسان والطريق الذي عليه أن يسلكه والكيفية التي يجب عليه أن يتعامل بها. ويستطيع الإنسان أن يختبر نفسه وفقاً لذلك، فتتضح له بالنتيجة طبيعة سلوكه في مواجهة ما يعترض طريقه في حياته اليوميّة؛ فهل هو من النوع الذي يواجه ما يمرّ به من أحداث بنوعٍ من الفزع والجزع والتذمّر، أم أنَّه يواجهها بهدوء ويتعامل معها على أنَّها أمرٌ عاديّ ممّا يحصل للإنسان في حياته اليومية، ولا بدَّ من أن تأخذ مجراها الطبيعيّ.
لقد كان المرحوم العلاّمة يؤكِّد على هذا الموضوع كثيراً، شأنه في ذلك شأن سائر العظماء، وخصوصاً فيما يتعلّق بكيفيّة سير وسلوك النساء. نعم، لقد كان يؤكِّد على ذلك كثيراً وذلك لأنّ نفس المرأة بطبيعتها أرقّ من نفس الرجل، فهي تتأثرّ بسرعة بما يجري حولها من أحداث.
أرأيتم كيف أنّ البعض يجلس هادئاً ولا يكترث بما يجري من حوله، فهكذا كان حال المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ عندما كنَّا نزوره، وبالأخصّ في أيّام الخميس والجمعة؛ حيث أنّ سماحته كان قد قام بتعطيل دروسه الرسميّة في ذلك الوقت الذي قدمتُ فيه إلى مدينة قمّ لعدم سماح وضعه الصحي بذلك، وأبقى على تلك المجالس الخاصّة التي كان يقيمها في أيّام الخميس والجمعة، و أنا كنت أحضرها، كما كنت أحضر مجالسه في مدينة مشهد عند تشرّفه للزيارة. كان العلاّمة الطباطبائيّ بحيث لو جلست معه لمدّة ساعةٍ كاملةٍ، لما رفع رأسه؛ بل كان يجلس مطأطأ الرأس، ولا ينطق بكلمة واحدة إلاّ إن سُأل عن شيء، حيث كان يرفع رأسه للإجابة على السؤال.
[وفي الجانب الآخر] هل رأيتم كيف أنَّ البعض لا يستطيع الجلوس ساكتاً؟! فلو أنَّه جلس لدقيقتين دون أن يتكلّم، فكأنّما يكون السقف قد تهدّم فوق رأسه، فتجده لا بدّ أن يتكلّم عن شيءٍ ما.. عن لون السجادة أو العمود أو سبب عدم دوران المروحة... فلا بدّ له أن يقول شيئاً، فهو يتكلّم عن زيادة سعر البنزين أو انخفاض سعر الحمّص، فالاضطراب هو المهيمن على تمام وجود هؤلاء الناس.
العلامة الطباطبائي نموذج السكينة و الاطمئنان
كنت أدعو المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ إلى المنزل لتناول طعام الغداء أو العشاء، وكان ذلك في الزمان الذي كنت أدرس فيه. وقد كنت حريصاً على عدم إتعابه، فلم أكن أتكلّم معه، كما كنت أُوصي الأصدقاء بعدم التكلّم؛ وقد كان يتقبّل تلك الدعوات بلطفه وكرمه ويلبّيها. وعندما كان يأتي إلى الدعوة و في جميع ذلك الوقت الذي كان يقضيه في البيت (والذي كان عبارة عن نصف ساعة قبل الطعام، ثم الوقت الذي يستغرقه تناول طعام الغداء أو العشاء ــ ويبدو بأنَّ أكثر الدعوات كانت للعشاء ــ ثم يتمّ جلب الفاكهة حيث يستغرق ذلك نصف ساعة أخرى) .. في جميع ذلك الوقت لم يكن يتكلّم بشيء اللهمّ إلاّ تقديم الشكر و المجاملات المختصرة. ولقد كان جلوسنا معه مفيداً لنا؛ أي إنَّ مجرد النظر إلى سكينته وهدوئه ووقاره ورزانته كان مفيداً لنا، فقد كان يترك علينا أثراً، ولم يكن الأمر بالشكل الذي يتمّ فيه تناول الطعام ثمّ المغادرة، بل كان حضوره يترك علينا آثاراً؛ ولقد كنت أكرّر دعوته أو أحضر مجالسه لأجل هذا التأثير الذي يتركه على نفوسنا، فلماذا يحصل ذلك؟ لأنَّ نفسه وهو على هذا الحال تكون متّصلة بعالم الملائكة وعالم السكون والاطمئنان.
فإن اتّصلتَ بذلك العالم، ترى نفسك هادئة؛ وأمّا إذا لم يحصل الاتّصال بهذا العالم، فلا بدّ وأن يحصل مع عالمٍ آخر، فترى نفسك تميل إلى كثرة الكلام حول أمورٍ لا طائل لها؛ مثل ما يُكتب في الصحف وما تنقله الإذاعات، و هذا النوع من الاضطراب يبعث على منعنا من السير، فأنا أضمن لكم هنا بأنَّكم لو أدّيتم ذكر اليونسيّة باستمرار لمائة ألف سنةٍ، وأتيتم به أربعة آلاف مرّة بدلاً من الأربعمائة مرّة في اليوم، وأنت على هذا الحال من الاضطراب، فسوف لن تترقّى عمّا أنت عليه ولو قيد أنملة! لماذا يحصل ذلك؟! لأنَّك تسير الآن في الاتّجاه المعاكس؛ فإن كنت تردّد الذكر الآن، فمسجل الصوت يستطيع ترديده أيضاً، بل وبشكل أفضل منك وخصوصاً إن كان التسجيل لقارئ جميل الصوت، فهذا الجهاز يستطيع تكرار «لا إله إلاّ أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين» لألف مرة، ولكن بدون أيّة فائدة، لماذا؟ لأنَّ ذلك يتمّ بواسطة آلة التسجيل التي هي عبارة عن جهاز، وهذا الجهاز لا يمتلك روحاً لكي يعمل ملكوتُ الذكر على تغيِّير تلك الروح، فهو مادّة صلبة إذ هو عبارة عن تركيب مصنوع من موادّ بلاستكية ومطاطية وزجاجية وحديد، فهو لا يمتلك روحاً، بل هو معدّ ليقوم بإنجاز عملٍ ما. و نحن أيضاً إن كنَّا على هكذا حالٍ، فقد أصبحنا والحال هذه كآلة التسجيل تلك، فيُردِّد الإنسان تلك الآية، لمائة مرة أو مائتين أو ثمانمائة مرة، ولكن سوف لن يكون لذلك أيّة فائدة. لماذا؟ لأنَّ مسيرنا سوف لن يكون متوافقاً مع مسير تلك العوالم الربوبيّة والتي هي عوالم السكينة والثبات، بل بالعكس، إنَّ مسيرنا سيكون في الاتّجاه المعاكس، حيث سيكون مسيرنا مسير التشويش والاضطراب والحركة وعدم السكون والهدوء والثبات.
عندما يكون ذهنك وفكرك مشغولاً بأمرٍ ما، فهل تستطيع حلَّ مسألة رياضية و أنت على هذه الحال؟! فإن سُئلت عن حاصل ضرب الثلاثة في الأربعة، فسيكون جوابك خمسة عشر، وذلك لأنَّ ذهنك كان مشغولاً بأمرٍ آخر حينها؛ وهذا مع كون الأمر متعلّقاً بمسألة رياضية بسيطة وهي الضرب، فكيف إن كان الأمر يتعلّق بحلّ معادلة رياضية؛ إنّ الفكر إذا ما كان متشتّتاً، فلا يستطيع المرء تركيز فكره على أمر واحد، ولا يمكن له أن يركّز ذهنه على حلّ مسألة رياضية، في الوقت الذي يكون فيه مشغولاً بأمر آخر.
وهذا ما يحصل تماماً فيما يخصّ حركة الإنسان وحضور القلب والتكامل. فمع كون الفكر مشغولاً بأمور أخرى، ومع عدم وجود الهدوء والسكينة، لا يمكن للإنسان أبداً أن يصلِّي صلاةً بحضور القلب؛ ولا فائدة من هكذا صلاة، كما لا يمكن له من قراءة صفحة من القرآن بتدبّرٍ وفهمٍ للمحتوى، مع كون الذهن مشغولاً بأمر آخر، ولا يمكنه والحال هذه أن يقوم بالإتيان بوردٍ أو ذكرٍ إلهي.
قال لي المرحوم الحدّاد: عندما تريد الإتيان بالذكر الفلانيّ، فعليك أن تكون مدركاً للمعنى، وأن تكون قد هيّأت ذهنك وفكرك ونفسك وجعلتها مستعدّة لهذا الأمر، فإن لم تفعل ذلك، فلا فائدة منه، ثم قال: لا أقول بعدم فائدته مطلقاً، بل أقول: ستكون فائدته قليلة ومحدودة جدّاً. وهذا هو واقع الحال، فإن شئت فاختبر ذلك بنفسك! قم بالإتيان بذكرٍ وأنت في حالٍ من الاستعداد، ثمّ قم بهذا العمل وأنت في حالٍ من النُعاس أو مع كون ذهنك مشغولاً بأمر آخر؛ فسترى عدم فائدته في الحالة الثانية.
يقول رسول الله إنَّ الملائكة يعيشون في حالٍ من السكون والهدوء؛ فهم مشغولون بذكر الله، وهم يقومون بأعمالهم الموكلة إليهم وهم في حالٍ من الهدوء؛ كما أنَّهم هم (المدبّرات أمراً)، فهم يقومون بتنظيم وتدبير أمور العالم، غير أنَّهم يؤدّون ذلك وهم هادئين؛ فلا طريق للاضطراب إلى نفوسهم بسبب ما ستؤول إليه الأمور، ولا يكونون في قلق عمّا سيحصل من جرّاء ما يقومون به وكيف ستتمّ معالجة ما سيحصل؛ فهم لا يتصرّفون مثلنا، لذا تراهم يُنزلون الصواعق والزلازل والأمطار وهم هادؤون.
وهكذا هو حال كلّ من ملائكة الرحمة وملائكة الغضب، فكلٌّ منهما يقومان بأداء واجباتهما وهما في حال من الهدوء والسكينة، فلا سبيل للخوف والتوجّس والاضطراب إلى قلوبهم بسبب ما سيحصل؛ فهم يعلمون بأنَّ هذا هو أمر الله ولا بدّ من تنفيذه، فمثلاً هذا الإنسان يجب أن يُولَد في هذا المكان، ويجب قبض روح ذلك الإنسان في مكان آخر، فهذان العملان اللذان صدرا منهم، هما عملان متضادّان من حيث طبيعة العمل فقط، أمّا إن نظرنا إلى قلوب الملائكة الذين قاموا بهما، فسنجدها ساكنة وهادئة كهدوء هذا الماء الذي تشاهدونه أمامكم؛ فأنا قد قمت بتحريكه الآن ولذا ترونه يتموّج الآن، وإلاّ فهو ساكن بطبيعته. إنّ الملائكة يقومون بعملين متضادّين أو أكثر، غير أنَّ قلوبهم عند إنجاز تلك الأعمال تكون هادئة، فعندما يقومون بإنزال المطر في مكان ما، فهم يقومون بذلك وهم هادئين، وقد يقومون بإيجاد القحط في مكان آخر، وهم على نفس الحال من الهدوء، وقد يتسببون في اخضرار الأرض في مكان ما، ويُنزلون الزلازل في مكان آخر، وهم ساكنون وهادئون في كلتا الحالتين.
فكل عملٍ يقومون به وأينما كان ذلك، فهم يقومون به وهم على حالٍ من الهدوء والسكينة. فما هو السرّ في ذلك؟ السرّ فيه أنّ الله تعالى ساكن ومطمئن، وهؤلاء الملائكة متّصلون بذلك الأصل والمبدأ؛ فهم يأخذون ويرتوون من ذلك المبدأ، إنَّهم هادئون مطمئنون؛ لأنَّهم يعلمون بأنَّ أمر الله لا بدّ وأن يتحقّق، شاء الآخرون أم أبوا.
نقل لي أحد الأصدقاء عن أحد الأطبّاء المتخصّصين بالطبّ القديم في همدان، وهذا الرجل كان طبيباً ماهراً ولم يكن من أولئك العطّارين الذين أخذوا يتعاملون بالعلاج بالأعشاب [هذه الأيام من دون خبرة ودراية]، بل كان طبيباً واقعياً درس الطبّ دراسةً وكان حاذقاً. لقد كان هنالك اثنان من أولئك الأطباء القدماء رحمهما الله، أحدهما هو السيِّد أحمد علي خسروي ــ إن لم أكن مخطئاً [في اسمه] ــ وكنت قد رأيته وذهبت إليه مرة للعلاج عندما كنت شاباً.
يقول هذا الرجل: حصل لي نزاع مع أحدهم، وانجرَّ الأمر إلى المحكمة؛ فسمعت في الليلة السابقة للحضور في المحكمة نداءً يقول: إنَّ الله شاء أن يراك مُداناً، فذهبت في الصباح إلى المحكمة وأنا مطمئن الخاطر لما سيحصل، فحضرت المحكمة وتمّت إدانتي على الرغم من أنَّني كنت أنا المحقّ في تلك القضية؛ فخرجت ذاهباً إلى محلّ عملي من دون أن أتأذى أو أنزعج وأنفعل ممّا حصل، بل كنت هادئً ومرتاحاً. فما دامت مشيئة الله قد اقتضت ذلك، فلا بدَّ وأن يحصل ذلك، فهل يُفترض أن يكون الحكم في صالحي على الدوام، فليكن الحكم ضدّي هذه المرّة، فإن كان الحكم لصالح الإنسان، فيجب عليه أن يكون هادئاً، وإن كان الحكم عليه، فيجب أن يكون هادئاً أيضاً؛ فأمر هذه الدنيا بيد غيرنا، بيده التقدير وبيده تدبير الأمور، وعلى كلّ واحد منَّا العمل بموجب تكليفه المطلوب منه.
التشويش والاضطراب حاجب أمام القلب ومانع من الحركة
وهنالك رواية أخرى عن رسول الله أيضاً، حيث يقول: لَولَا تَكْثِيرٌ في كَلَامِكُمْ، وَ تَمْرِيجٌ في قُلُوبِكُمْ لَرَأيْتُمْ مَا أرَى، وَ لَسَمِعْتُمْ مَا أسْمَع۱. التكثير في الكلام يعني أن يتفوّه الإنسان بكل ما يرِد على قلبه من هذا الكلام الفارغ والعبثيّ، فلولا هذا التكثير، ولولا وجود الاضطراب في نفوسكم، لرأيتم ما أرى؛ إنَّه لكلام عجيب حقاً، فرسول الله يقول: لَرَأيْتُمْ مَا أرَى، وَ لَسَمِعْتُمْ مَا أسْمَع. أي لكنتم ستطّلعون على حقائق العالم... إن وفقني الله، فسأتكلّم بشكل مفصّل عن هذه المواضيع في مجالس شرح حديث عنوان البصري، وقد تمّت الإشارة إلى هذا الموضوع هنا بصورة مختصرة.
إنّ كثرة الكلام هذه، وهذا الانشغال الذهني هو الذي يبعث على فقدان ذلك الاستقرار والثبات اللازم للسير وتجاوز النفس للعوائق التي تقع في طريقها؛ فالذهن يجول هنا وهناك، فتراه مشغولاً بتتبّع الأخبار وتتبّع حركة الآخرين. لقد كان المرحوم العلاّمة يذهب إلى كربلاء لزيارة العتبات المقدّسة، وكان ينزل في بيت أستاذه المرحوم الحدّاد لمدّة شهرٍ أو أكثر، ولم يكن له شأن بمن يحضر أو يغادر المنزل ولا بالحديث الذي يدور فيه، أو علاقات أستاذه مع الآخرين (حيث كان يحضر في مجالس السيّد الحدّاد أفرادٌ مختلفون) ؛ بل كان يجلس في زاوية من زوايا الغرفة ونظره متمركزٌ على أستاذه، ولم يكن يُفكّر بشيء آخر، ونتيجةً لذلك، كان ينال نصيبه المكتوب له ويعود إلى إيران. هذا في الوقت الذي كان هنالك آخرون لم يكن لهم عمل سوى متابعة حركة الواردين إلى المنزل والمغادرين له، والتساؤل عن السبب الذي جعل المرحوم الحدّاد يستقبل أحدهم، ولم يستقبل من هو أفضل منه.
وما يعنيك من هذا الأمر أيّها الفضولي؟! فمن تكون أنت؟! إن كنت رجلاً ذا شأن، فلتكن أنت الأستاذ! ما هو شأنك بقدوم فلان من الناس أو عدم قدوم الآخر؟ وما شأنك بسماح الأستاذ بمقابلة أحدهم وعدم سماحه بمقابلة غيره؟
فماذا كانت النتيجة؟ لقد أدّت هذه التصرفات إلى طرد هذا الرجل في نهاية المطاف، وحلول غضب المرحوم الحدّاد عليه، ولا بدّ وأنَّكم قد سمعتم باسمه، هذا في الوقت الذي استحقّ فيه والدي لقب العلاّمة الطهراني ونال هذا المقام. أجل، لقد كانت هذه نتيجة هذه التصرفات، وكانت تلك نتيجة تلك التصرفات.
لقد كان المرحوم العلاّمة في حال سكون واطمئنان وثبات في ذلك الوقت، بينما كان الآخر في حال من الاضطراب وتشويش الخاطر والانشغال بمحاولة معرفة سبب ورود هذا وذاك، فكان يتساءل: لماذا يقتدي الأستاذ بهذا الرجل الوارد حديثاً؟
وما هو شأنك أنت بهذا الأمر، فهل أنت وصيّه؟ فما دام الأستاذ قد سمح لك بالورود في هذا الطريق، فاكشف عن جبهتك وخرَّ ساجداً لله شكراً، وإلاّ سيُسلب منك ما حصلت عليه. وما دام أستاذك الذي لا طاقة له بالتكلّم والاختلاط مع الآخرين، قد فتح لك الباب وسمح لك بالدخول، فلماذا تبدأ بالتدخلّ بشؤون أستاذك وتنتقده على تصرفاته، وتبدأ بالاعتراض عليه أنْ: لماذا تسمح بلقاء هذا الرجل؟ ولماذا تقتدي به؟! بدلاً من ذلك تعال واستفِد أنت من الفرصة التي منحت لك.
إنَّ مثل هؤلاء الناس لا يبرحون مكانهم الذي هم فيه، ولا يمكن لهم أن يتكاملوا، وما يتمّ منحهم إيّاه هو بعض الأمور الظاهرية التي ليس لها تأثير على التكامل الباطني، وذلك أنّ تلك الأمور القيّمة التي تبعث على التكامل الباطني قد لا يكون لها ظهورٌ خارجي، فقد لا يقدر الإنسان من خلالها على طيّ الأرض، وقد لا يستطيع الإخبار عن الغيب، فهذه من المسائل التي لا أهميّة لها؛ أمّا الأمر المهمّ فهو ذلك الذي له تأثيرٌ عميق في نفسه و ذاته.
لقد كان هذا الشخص يخبرني عن بعض المواضيع والمسائل الخفيّة، ويكشف لي بعض الأسرار التي اطّلع عليها، ولكنّها جميعاً لم تكن تتجاوز الظاهر، ولم تترك فيه أيّ تأثير باطني، لم تغيِّر نفسه أو تقودها نحو التكامل، هذه الأمور ليست إلا زخارف ومظاهر وخصوصيّات يفرح بها هذا المسكين ويلهو بها غافلاً عمّا يفقده من إكسير ثمين لا يعوّض. وفي الجانب الآخر، تجد الرجل الثاني [أيّ العلاّمة رضوان الله عليه] يحضر لدى أستاذه وهو ساكتٌ وهادئ، فينال نصيبه ويغادر.
لَولَا تَكْثِيرٌ في كَلَامِكُمْ، وَ تَمْرِيجٌ في قُلُوبِكُمْ لَرَأيْتُمْ مَا أرَى، وَ لَسَمِعْتُمْ مَا أسْمَع.
كان المرحوم العلاّمة يقول مراراً بأنَّ الفيض الذي ينزل على المتواجدين في إحدى المجالس، سيتمّ تقسيمه على جميع الحاضرين فيه إن كانت قلوبهم متحدّة مع بعضها، ولم يكن بينهم أيّ خلاف؛ أمّا إن كان بين الحاضرين واحد أو أكثر ممن لم يكن مستعدّاً لحضور المجلس، أو كان هنالك نزاعٌ داخلي أو خلاف بينهم، فسيؤدِّي هذا إمّا إلى عدم نزول ذلك الفيض على المجلس؛ ولذا فقد كان يقول لهم: اخرجوا من المجلس ولا تكونوا سبباً لحرمان الآخرين من نزول الفيض، ولا تعودوا إلى المجلس إلاّ بعد حلّ المشكلة التي بينكم، ولقد كان قال ذلك للبعض بحضوري، أو يؤدّي إلى عدم شمول أولئك المتخاصمين خصوصاً بذلك الفيض.
ومن هنا فقد كنَّا نلاحظ مراراً ـ عن طريق إبلاغ الأصدقاء لنا ـ بأنَّ اثنين من المتواجدين في المجلس يدركون أمراً واحداً في آنٍ واحد ، فيشير أحدهم إلى الآخر بطرف العين، [فيقول الآخر بلسان الحال:] نعم لقد أدركت هذا الأمر أنا أيضاً، ولقد كانوا يخبرونني بذلك. لماذا يحصل هذا؟ لأنَّ كليهما في نفس الرتبة ولهما نفس التوجّه وهما في أفق واحد، فلا بدَّ وأن ينال هذا الفيض كليهما، إذ أنّ الله تعالى لا تربطه مع أحد رابطة قرابة دون الآخر؛ فعند نزول الفيض، ينظر إلى النفوس، فأيّها يكون مستعداً لنزوله، ينزل هناك، متجاوزاً تلك التي ليس لها استعداد.
إنّ الأمر يشبه عمل الأمواج المستعملة في أجهزة الراديو، فإن وجدتِ الموجةُ جهاز الراديو المستعدّ لاستقبالها، فسيتمّ التقاطها من قِبله، وإلاّ فسوف تخترق الموجةُ الجدار لتذهب إلى مكان آخر حيث سيتمّ التقاطها هناك؛ فإن وضعتَ مائة جهاز راديو في مكان واحد، فسوف تلتقط هذه الأجهزة تلك الموجة ـ إن كانت الأجهزة مضبوطة لاستلام تلك الموجة ـ وسوف تسمع صوت المتكلّم ينبعث من جميع هذه الأجهزة بدون أيّ اختلاف بينها، فهذا الراديو لا يزاحم ذاك ولا يمنعه من التقاط الموجة بدوره، وجميعها تستلم نفس الكلام من متكلّم واحد، وهكذا يكون الأمر مع استقبال النفحات الإلهية.
فلذا علينا الانتباه إلى هذا الأمر المهمّ للغاية، وهو أنَّ علينا إيجاد تلك الظروف التي تعمل على زيادة تحقيق حال السكينة والهدوء والثبات في حياتنا اليومية، فإن التزمنا بهذا الأمر المهم، فسنكون قد استفدنا من حياتنا وترقينا، وإلاّ فإن عملنا بما يتناقض وهذا الأمر وأدخلنا في حياتنا بعض الأمور و القضايا.. وقمنا باستخدام آلات وأدوات تعمل على تسخير أفكارنا وكلّ ما نمتلك من قوىً وتسلب منّا حالة الهدوء والثبات تلك، فلنعلم أنه لن يكون هناك أيّ فائدة [من الأعمال التي نقوم بها ، و سوف يكون ذلك مانعاً من الترقّي].
الجوّال و برامج التواصل الاجتماعي من أهم أسباب ذهاب السكينة
من ضمن تلك الأجهزة هو جهاز التلفون الجوّال (الموبايل)، فهذا الجهاز هو الآفة التي أصبحت تصيب كافّة الأسر في هذه الأيام؛ فما أعظم الأخطار والمفاسد الناجمة عنه! والله العالم بما يحصل في الأماكن الأخرى والتي تصلنا أخبارها، والتي ذكرتها في مقدمة كتاب السعادة الأبدية( ) ــ إن كنتم قد قرأتم ذلك ــ والذي هو عبارة عن ترجمة وشرح لوصيّة أمير المؤمنين عليه السلام.
فما نشاهده وما يطرق مسامعنا من الممكن أن يتطوّر ليصبح أمراً خطيراً؛ فالشيطان يستغلّ كلّ وسيلة من أجل سدّ طريق تكامل الإنسان؛ فإن تمكن من استغلال السبُل المحرّمة كالسرقة والغيبة وإلصاق التهم والغشّ والخداع والظلم والتجاوز على حقوق الآخرين وما شابه ذلك، فهو لا يتوانى عن استغلالها، وإن لم يستطع فهو يلجأ إلى أساليب أخرى تؤدِّي إلى نفس النتيجة.
فما يحصل اليوم من إقامة علاقات بالاستفادة من الموبايل أو الانترنت يكاد أن يبلغ حدّ الفاجعة في مجتمعنا! على أنَّني لا أنكر كون بعض ما فيها مفيداً إذا ما تمّ استغلاله بصورة صحيحة و في مكانه، ولكن ما هي حدود تلك الفائدة [و ما هي ضوابطه] ؟! فعندما يريد الإنسان أن يقوم بتقشير الخيار، فعليه أن يكون حذراً، وإلاّ فإن تغيَّرت زاوية ميل السكين قليلاً، فقد يؤدِّي ذلك إلى جرح اليدّ؛ فإذا ما ازدادت الزاوية التي يجب أن تكون بحدود الثلاث درجات، لتصبح ثلاثون أو خمسة وأربعون درجة، فسوف لن تتوقف السكين عن الحركة ما دامت معرّضة للضغط، بل ستستمر بالحركة لتصيب يدك وتجرحها. لذا يوصى بعدم وضع السكين بيد الطفل وذلك لأنَّه لا يستطيع ضبط الزاوية بالمقدار المطلوب، فالطفل ذو السنتين أو الثلاث سنوات لا يستطيع ذلك، ولذا تراه كثيراً ما يصيب يده ويجرحها؛ وبناءً على هذا يُوصى بعدم السماح له باستخدام السكين، لأنَّه لا يستطيع اختيار الزاوية الصحيحة.
التواصل بين غير المحارم في هذه البرامج حرام وسبب للمهلكة
إنّ ملاحظة البرامج والوسائل الموجودة في الموبايل والانترنت، تسمح لنا أن نقول بأنَّ أكثر من تسعين في المائة من استعمالاتها يؤدِّي إلى الفساد والانحراف، ولا يكاد يسلم منها سوى عشرة بالمائة أو خمسة بالمائة. والأعجب والأكثر خطورة من ذلك هو ما نراه من حصول هذه العلاقات بين المرأة مع الرجل الأجنبي، فنجد بأنَّ رجلاً قد بعث رسالة عن طريق برنامج معيّن إلى امرأة أجنبية! إنّ هذا عمل خاطئ، فبأيّ حق يقوم الرجل الأجنبي ببعث رسالة إلى امرأة هي ليست من محارمه؟! ثم أيّ نوع من الرسالة يبعث؟ فحتّى ولو كان قد بعث لها شعراً، فكيف يحقّ له القيام بهكذا عملٍ محرّم؟! انظروا كيف يرد الشيطان إلى الميدان، فهذا الرجل يرسل شعراً فيه حكمة؛ فلماذا لا ترسله إلى صديقك يا هذا؟! ولماذا ترسله إلى امرأة أجنبية؟! [قد يجيب: أريدها أن تستفيد منه]، ولكن ما علاقتك أنت بها بحيث تريد إفادتها بهذا الشعر؟ فمن تكون أنت؟! إنّك مبتلىً بألف مشكلة و مصيبة، وهنالك ألف نقطة ضعفٍ في نفسك، وعندك ألف علّة.
يُقال بأنَّ الشخص الفلاني عضو في المجموعة [أي مجموعة برنامج التواصل]. لماذا يجب أن يكون عضواً في هكذا مجموعة؟! ومن سمح له بذلك؟ يُقال إنّه يطرح مواضيع جيدة. ولماذا لا يطرحها مع أحد محارمه؟ بالطبع فلا مانع من تبادل المواضيع الجيدة والتي تحتوي على حِكم وعِبر بين الأفراد إن كانوا من المحارم، كقيام الزوجة بإرسالها إلى زوجها أو بالعكس. بل يعتبر ذلك من الأمور الجيدة، فهو يبعث على رفع الكآبة والغمّ من جهة، وقد تكون هذه الأمور مما يستفيد الإنسان منها في حياته اليومية من الجهة الأخرى.
و من جهةٍ أخرى كيف يحقّ لامرأةٍ أن تعرض على زوجها ما أرسلته إليها إحدى صديقاتها من رسائل، وهي تخبره بأنَّها تلقت هذه الرسالة من فلانة؟! أليس هذا عملاً محرّماً؟ فبأيّ حقّ ولأي سبب تقومين بعمل كهذا؟! فأين هي ثمرة تلك المواضيع التي نقلتُها لكم عن العظماء؟! ومتى سنطبّقها إذن؟! فهل تضمنين عدم ورود أوهامٍ وتخيّلات إلى ذهن زوجك عند إراءتك إيّاه لرسالة صديقتك التي تحتوي على دعابة؟! بل حتّى وإن كانت تلك الرسالة تحمل موضوعاً فيه حكمة، فما دمت لا تستطيعين ضمان عدم تأثيرها على زوجك، فاعلمي بأنَّ هذا العمل يعتبر عملاً محرماً، لما كانت صديقتك قد بعثت بتلك الرسالة لك أنت، فكان عليك قراءتها ومسحها بعد القراءة، أو يمكنك الاحتفاظ بها بشرط عدم رؤيتها من قبل غير المحارم، فإن كنت تستطيعين الاحتفاظ بها، فافعلي، وإلاّ فعليك مسح اسمها.
يحصل دائماً أن يسمع الإنسان كلمات مفيدة من هنا أو هناك، وهذا ما يحصل لي شخصيّاً، فعندما أقرأ كتاباً وأجد فيه شعراً جيداً، أقوم بكتابته، فأنا أضع أمامي ورقة وقلماً كلّما كنت أستمع إلى حديث، فما إن أسمع شيئاً مفيداً، إلاّ وقمت بتدوين ذلك الكلام، أو تلك الرواية الواردة فيه. مثلا في هذا اليوم وعندما كنت أقرأ أحد الكتب ــ والذي لا علاقة له بهذه الأمور ــ قرأت رواية فيه، فتعجّبت ممّا جاء فيها، ففي تلك الرواية كلام فيه تبيان لذلك المطلب الذي أتبنّاه فيما يتعلّق بقضيّة معيّنة، فقمت بكتابتها في دفتر الكشكول الخاصّ بي، فالرواية رواية صحيحة، وهي صادرة عن رسول الله، ومنقولة عن الإمام الرضا عليه السلام، و هذا طبيعي إذ يجب أن يكون الإنسان ساعياً وبشكل مستمرّ من أجل كسب العلم والمعرفة والحكمة، غير أنَّ لذلك شروطه الخاصّة به و محلّه المناسب له.
يحاول البعض الاعتذار بقولهم: (إنْ هو إلاّ شعر، وهو أمر عادي ليس فيه حساسيّة أو خطورة، ثمّ إنَّ الطرف الآخر يستطيع أن لا يطّلع على ما يُرسل إليه ويترك استقباله)، و لكن يا عزيزي، إنَّ الشيطان يقوم بالوسوسة في هكذا مواقف، فمن يقوم بكتابة اسمه ووضع صورته، فهو إنَّما يقوم بإراءة نفسه للآخرين وهو يقول: هذا أنا وهذا شكلي، فذلك الذي يقوم بوضع صورته، فهل يكون قد وضعها من أجل أن يراها الجنّ؟ أم من أجل أن نراها أنا وأنت؟! فهو يقوم باستعراض نفسه وهو يقول بعمله هذا: يا من ترون صورتي، انظروا فانا أمتلك هكذا شكل وهذا المظهر وهذه الهيئة. فهل هذا عمل صحيح؟ فلماذا لا تضع صورة وردة أو منظر طبيعي جميل بدلاً من صورتك؟! ولقد شاهدنا في بعض الأحيان أوضاعاً عجيبة حيث يبدو بأنَّنا في آخر الزمان، فلم يبق لهم من الحياء والخجل والقيم شيئاً، فهم يتصرّفون ويتكلّمون مع بعضهم البعض وكأنّهم من المحارم. إنّ هذه المسائل هي التي كانت و ما تزال هي السبب في ما أصاب المجتمع من فجائع، إنَّ الإحصائيات التي أطّلع عليها أحياناً مريعة ومرعبة حقّاً، وهذا هو نتيجة لانتشار هذه البرامج.
على أنَّني لا أعترض على هذه البرامج وأحكم بحرمتها من الأساس كما يفعل البعض، فهي ليست محرّمة ولا بأس فيها بشرط أن تتمّ الاستفادة الصحيحة منها وأن يكون ذلك طبقاً للشريعة لا أن يكون خلافًا للشريعة وبالشكل الذي يتمّ التسامح والتساهل بشأنه ويجري بأيّ شكل كان.
هذه الأجهزة و البرامج تحرِم المؤمن من التوجّه في عبادته
إنّ هذه البرامج تعمل على إيجاد الأوهام والتخيّلات في ذهن الرجل والمرأة، فكيف يمكننا أن نؤدِّي صلاتنا والحال هذه؟! لقد وصل بنا الحال إلى أن يهيمن الموبايل على كلّ حياتنا؛ فعندما تذهب المرأة للمطبخ، تأخذ الموبايل معها. يا هذه، دعيه هناك، ألا تخافي أن ينسكب الزيت على يدك وتحترقي؟ فهي تردّ على المكالمة في ذات الوقت الذي تهيّئ فيه الطعام! هذا هو التشويش والتمريج، فالقلب يكون مشغولاً بشكل دائم بالتفكير بذلك الذي يتّصل الآن، وبمن أرسل هذه رسالة، فقد شغَل الموبايل كلَّ أوقات النوم وإعداد الطعام والصلاة.
تجد الرجل يضع الموبايل جنب سجّادة الصلاة؛ لكي لا يفوته الاطّلاع على الرسالة التي أُرسلت إليه، فأيّ صلاة هذه؟! وأيّة قراءة للقرآن تلك؟! وأيّ نمط من الحياة يعيش هؤلاء الناس؟! ترى أحدهم وقبل أن يتوضّأ لصلاة الصبح، يلقي نظرة على الموبايل؛ لكي يعرف من أرسل إليه رسالة في هذه الفترة الممتدّة من نومه وحتى استيقاظه، فأيّ حياة هذه التي يتقلّص فيها الوقت المثمر للإنسان إلى حدّه الأدنى؟!
أنا أيضاً عندي موبايل ؛ ويحصل أحياناً أن يكون الموبايل على المنضدة التي أمامي، وأسمعه يرن، غير أنَّني أجد أنّ حالي ليس مساعداً على إجابة المتّصل؛ فأنا أنظر إلى الجهاز، وأعلم من هو المتّصل ولا أجيب؛ فهل المرء مجبورٌ على الكلام؟ كلاّ. لقد اتصّل بي أحدهم يوم أمس لعدة مرات، وكنت أنظر إلى الموبايل، وكنت أعلم من هو المتّصل [و مع ذلك لم أردّ]؛ ثم قال لي بعدها: لقد اتّصلت بكم عدّة مرات ولم تردّوا عليّ، فقلت له: لقد رأيت رقمك، ولم أردّ.
فهل أنا مجبور على الردّ على كلّ من يتّصل بي؟! وهل صرّح أحد بذلك؟ فإن كان البعض عاطلاً عن العمل وليس عنده التزامات، فهل علينا أن نكون مثله؟! وهل يجب الرّد على ذلك الذي يتّصل الساعة الثانية أو الثالثة بعد الظهر ودون أن يراعي فيما إن كان المقابل نائماً أو يقظاً؟ إنّ هذا التصرّف يناسب حظيرة الحيوانات، ولا يصلح في العلاقات الطبيعية السالمة والمكالمات المفيدة.
هذه الظواهر قد عملت على تغيِّير حياة الجميع، لذا يجب اليقظة والحذر؛ فالشيطان لا يسعى لإغواء السافرات فقط، بل ويسعى لإغواء حتّى المحجبات اللواتي يرتدين الحجاب المزدوج، وهذا ما قام به بالفعل! وهو لا يسعى لإغواء غير المصلّين فقط، بل ويسعى لإغواء حتّى أولئك الذين يصلّون صلاة الليل! وهو لا يسعى لإغواء الناس العاديِّين فقط، بل ويسعى لإغواء المعمّمين أيضاً، فهو يسعى لإغواء الجميع، وهو يسعى لإغواء كلّ واحدٍ عن خلال ذلك المسلك الذي يسلكه ذلك الشخص، فيُغوي أحدهم بواسطة شعرٍ فكاهي، ويُغوي الآخر عن طريق شعرٍ حكمي؛ ويُغوي ثالثاً عن طريق المزاح والسخرية، وآخر بواسطة الصور غير اللائقة؛ كما ويُغوى آخرين عن طريق الروايات والأحاديث والآيات القرآنية والكلام الجميل، فيجرهم إلى حيث يريد؛ فالشيطان إذاً يغوي كلّ أحد عن طريق ذلك المسلك الذي يسلكه.
اتّصلت بي إحداهنَّ لتقول: إنَّ فلاناً من الناس رجل جيد، فهل تسمحون لي بطرح أسئلتي عليه؟ فقلت: كلاّ، لا أسمح بذلك، بل اسألي غيره. فتعود لتقول: ولكن كلامه يستقرّ في قلبي بشكلٍ أفضل. ماذا ؟! "إنَّ كلامه يستقر في قلبك بشكل أفضل" ؟! ولماذا يحصل ذلك؟ فالشخص الآخر الذي أرجعتك إليه أعلمُ وأكثر تسلّطاً على المواضيع من ذاك، فما الذي يجعل كلامه يستقرّ في قلبك أكثر من الآخر؟! وما الذي حصل؟ هذا هو مكمن الخطر، ههنا الخطر، وهذا ما يجب أن نحذر من وقوعه. إنّ مثل هذه الأمور تؤدِّي إلى ضياع صلاة الليل والدعاء والذكر الذي تمّ أداؤه طوال مدّة أربعين يوماً، وسوف لن يبقى لها أيّ اثر، بل وكأنَّ شيئاً من هذا لم يحصل أبداً.
عندما نراجع تصرّفات المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، يتّضح لنا كم كان مُصيباً في عمله ذاك، فعندما قام ببناء منزله في منطقة الأحمديّة في طهران، لم يكن هنالك تلفون في منزلنا؛ وكان الأقارب وغيرهم يعترضون عليه لعدم وضعه تلفون في المنزل، فكان يقول لهم: لقد أخبرت العاملين ومنذ البداية بعدم تمديد أسلاك للتلفون في الأنابيب الخاصة بالتسليك الكهربائي للمنزل. ولم يسمح بنصب الهاتف في منزلنا إلا بعد مرور سنوات متعدّدة، وبعد حصول تغيِّيرات في الأوضاع، حيث اختلفت عمّا كانت عليه في السابق، فسمح بنصب تلفون، إذ إنّه قد أصبح أداة ضرورية.
فأيّ ميزة ستبقى للتلفون إن تحوّل إلى آفة تهدّد حياة الإنسان وسعادته وسيره، فاعلموا بأنّ هذا التلفون هو من آلات وأدوات الشيطان... على أنَّ هذا الذم يعود إلى ذلك التلفون الذي كان متداولاً تلك الأيّام والذي يستحق ألف ثناءٍ إذا ما قورن مع ما بين أيدينا اليوم من موبايل وغيره؛ والذي تُضاف إليه برامج جديدة في كلّ شهر أخبث وأسوأ من السابق.. هذه البرامج و التقنيات التي إنّما صُنعت من أجل الإطاحة بالكيان الأسري والقِيم الأخلاقية في المجتمع والقضاء على كلّ ما من شأنه المساعدة على تكامل الإنسان. على أنَّه ــ وكما قلت آنفاً ــ إن كانت العائلة قادرة على توظيفه لمصلحتها، فلا بأس به؛ ولكن ذلك أيضاً مشروط بألا يكون سبباً في جلب التشويش والاضطراب إلى حياتهم.
ثمّ إنَّ الشيطان يعرف كيف ينفذ من خلاله؛ فترى اليوم واليومين والعشرة تمضي دون حدوث أيّة مشكلة، وتراهم يقولون: ها نحن مجموعة أصدقاء وكلّ ما نقوم به هو إرسال الرسائل والأشعار إلى بعضنا البعض؛ غير أنَّ السؤال المطروح هنا هو أنّه: هل سيبقى الأمر بهذا الشكل إلى نهاية المطاف؟ أليس من الممكن أن يُستجدّ شيء ما في الوسط وتأتي رسالة أو موضوع أو تتغيِّر قضية ما أو يُستحدث أمر فني، فإذا بكَ قد خسرتَ كلّ شيء وبدون أن تلتفت لذلك؟
إنَّ هذا الذي أقوله للأصدقاء لا أقوله اعتباطاً، بل أقول ذلك وفقاً لتجربتي وعلاقتي مع الآخرين واطّلاعي على ما يجري في المجتمع والذي يصلني بواسطة الرسائل التحريرية والشفهية والإحصائيات التي أطّلع عليها، فهذه المسائل قد وصلت إلى الحدّ الذي أصبحت تهدّد كيان المجتمع.
خلاصة جامعة لمخاطر و أضرار الجوال و برامج التواصل
لقد وددت أن أطرح هذا الموضوع على الأصدقاء حيث يُشاهد هذه الأيّام طغيان هذه المسائل على حياة الأفراد و هذا أمرٌ خطير يجب الانتباه له ، وذلك لأنّه أولاً: إن كانت الرسائل المتبادلة بين الأفراد تصل إلى يد واحدٍ من غير المحارم، فهذا العمل يعتبر عملاً محرماً.
ثانياً: لا يُستبعد أبداً حصول انحراف بسبب هذه الأمور ومع مرور الزمان.
ثالثاً: إنَّ هذا الأمر يُسبب تلف جميع الوقت وضياعه في تتبع هذه الأمور، وتخلّف الإنسان عن أداء تكليفه وحتّى عن أمور حياته اليومية، كإعداد الطعام وتنظيم أمور المنزل.
رابعاً: إنَّ التشويش والاضطراب وما يسببه الموبايل من مسائل أخرى، يحول دون تكامل النفس، فكيف يمكن معالجة ذلك؟
ولو فرضنا انتفاء ما ذكر آنفاً، والتمكّن من الحيلولة دون حصول الانحراف، فاعلمي بأنَّ تضيِّيع الوقت في قراءة الرسائل والأشعار والأمور الطريفة، سوف يسلب منكِ فرصة أداء الصلاة، وتنظيم أمور المنزل والعناية بالزوج والأطفال والتفكير بنفسك وحالك والاستفادة مما وضع بين يديك من أمور كهذه الكتب القيّمة والتسجيلات الصوتية؛ فقد أصبح كلّ وقتك يُصرف في اللعب بالموبايل.
لذا يجب على الإنسان أن يكون فطناً ويقظاً. وخلاصة الأمر فعليكم أن تعلموا بأنَّ يوم الخميس هذا إن مضى، فسوف لن يُعوّض بغيره أبداً، فغداً سيكون يوم الجمعة، ويوم الأمس كان يوم الأربعاء. فقد مضى يوم الأربعاء، وها نحن اليوم في يوم الخميس، فعلينا أن ننظر هل كنَّا قد أنجزنا عملاً في يوم الأربعاء، أم لا؟ فإن لم نكن قد أنجزنا فيه عملاً، فقد ذهب وسوف لن يعود إلينا، وعندما يحلّ يوم القيامة ونطّلع على صحيفة أعمالنا، سنراها خالية من أيّ عمل في يوم الأربعاء من ذلك الشهر وتلك السنة. وعلينا التنبّه بأنَّ الله لم يمنحنا عمرين، بل منحنا عمراً واحداً ولم يضمن لنا مدّة هذا العمر؛ فلا علم لنا إن كنَّا سنبقى على قيد الحياة حتّى يوم الغد أو حتّى الشهر القادم، أم لا؟
وكما قال مولانا الرومي:
صوفى ابْنُ الوَقْت باشد اى رفيق | *** | نيست فردا گفتن از شرط طريق۱ |
(يقول: اعلم يا صديقي بأنَّ الصوفي ابن يومه، واعلم بأنَّ من مستلزمات السير في هذا الطريق هو ترك التسويف وعدم تأجيل العمل إلى الغد).
فكونك ابن الوقت يعني بأنَّه يجب عليك أن تتابع وتهتمّ بإنجاز ذلك العمل الآن، لا أن تعمل على تسويف الأمر وتقول: دع هذا اليوم يمضي ويمكنني فعل ذلك غداً. [كلاّ، فلا ضمان لبقائك حيّاً حتّى الغد].
نسأل الله أن يُثبِّت أقدامنا على هذا الطريق، وألاّ يجعلنا نتبع مسير الشيطان وطريق الانحراف، وأن يجعلنا حذرين على عدم تضيِّيع الفرص وما وهبنا من عمر واستعداد.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد