المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1423
التاريخ 1423/09/24
التوضيح
ما الفرق الجوهريّ بين نظرة أهل التوحيد للحوادث ونظرة عامّة الناس؟ ولماذا يُعتبر الانحياز لصديقٍ أو قريبٍ في أيّ خلافٍ قبل التحقيق خروجًا عن جادّة الحقّ؟ وكيف يمكننا محبّة واحترام الأولياء والأساتذة دون الوقوع في فخّ الشخصانيّة والتقديس الأعمى؟ وما هو الدرس الأعظم الذي يمكن استخلاصه من ازدياد إشراق وجه الإمام الحسين عليه السلام كلّما اشتدّت عليه المصائب يوم عاشوراء؟ مواضيع تبحثها هذه المحاضرة بدقّة وعمق.
هو العليم
كيف يفكّر أهل التوحيد؟
العلاقة مع الصديق والقريب
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٣ هـ - الجلسة السابعة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحیم
وصلَّى اللهُ عَلَى سیدنا ونبینا أبيالقاسم مُحَمَّدٍ
وعلى آلهِ الطَّیبینَ الطَّاهرینَ
واللعنةُ عَلَى أعدائِهم أجمَعینَ
«وَلَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْقَائِلُ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَوَعْدُكَ صِدْقٌ: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾۱ وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِكَ يَا سَيِّدِي أَنْ تَأْمُرَ بِالسُّؤَالِ وَتَمْنَعَ الْعَطِيَّةَ وَأَنْتَ الْمَنَّانُ بِالْعَطِيَّاتِ عَلَى أَهْلِ مَمْلَكَتِكَ وَالْعَائِدُ عَلَيْهِمْ بِتَحَنُّنِ رَأْفَتِكَ».
ذُكر سابقًا أنّ الإمام عليه السلام يعرض حاله على الله المتعال فيقول: إلهي، أنت مطّلعٌ على ما يدور في قلبي وضميري، وتَعلم ما يجول في قلبي، وكيف أُفكّر بك، وبواسطة هذه المسألة، أي بواسطة هذا اليقين بالتوحيد والخلوص في الوجود والخلوص في التوحيد الذي أحمله تجاهك، حيث أعتبرك المؤثّر الوحيد، سواء في حقيقة الذات، أم في آثارها ولوازمها، أم في الأفعال المترتّبة على التعيّنات الوجوديّة في عالم الكون، فإنّني لا أرى سواك، ولا أُشرك معك أحدًا في هذه المرتبة، ولا أُشرك أيّ ذاتٍ أخرى هنا. وقد بيّنا بإجمال أنّ مسألة التوحيد بالنسبة لذات الله تعالى تعني الإقرار بوحدانيّته في جميع مراتب الوجود، سواء في أصل الوجود أم في آثاره وتبعاته، بحيث لا يمكن تصوّر أيّ نِدٍّ ونظير أو ضِدٍّ له تبارك وتعالى، وهذا هو معنى التوحيد.
منطق أهل التوحيد: كيف ننظر إلى حوادث الدهر؟
في الحقيقة، لو فكّر الإنسان في مسألة التوحيد على هذا النحو، وأنّ كلّ ما يقع في عالم الوجود هو من آثاره وشؤون ذاته وتجلّياته المختلفة الصادرة عن الذات الواحدة، فإنّ هذا التفكير سيؤثّر تأثيرًا هائلاً في طريقة تفكيره تجاه القضايا ونحو ارتباطه بالمسائل الخارجيّة، وهي مسألةٌ جديرةٌ بالاهتمام، ويمكنها أن تغيّر البنية التحتيّة لصفاته النفسيّة وملكاته، وطبعًا عندما تتغيّر الصفات والملكات، ستتحوّل الأفعال تبعًا لذلك. إذا علم الإنسان أنّ الذات الواحدة في عالم الوجود هي واحدةٌ فقط، وأنّ كلّ هذه الاختلافات هي من شؤون تلك الذات الواحدة التي تتنزّل منها، فحينئذٍ لن تتوجّه نظرته إلى التعيّنات والأشياء الخارجيّة، بل سينظر أولاً إلى ذلك المبدأ، ثمّ يقيّم هذه المسائل من منظور الظاهر وبحسب التكليف.
دقّقوا جيّدًا فيما أريد أن أقول، والرفقاء يعلمون ذلك، ولكن لأنّ النقطة هنا دقيقة جدًّا، فمن الأفضل لفت الانتباه إليها. فنحن، كما ذكرنا سابقًا، كلّما وقعت ظاهرةٌ ما، نبحث أولاً عن عللها وعواملها الظاهريّة، ونتصارع فورًا مع الحوادث الخارجيّة، ونُقحم أنفسنا في هذه الظواهر والخصوصيّات التي وقعت في الخارج، وبعد أن ندور ونُرهق أعصابنا، ونوجّه بعض اللكمات والركلات هنا وهناك، ونتلقّى بعضها، في النهاية نقول: حسنًا، لعلّها كانت مشيئة الله. في آخر المطاف، نأتي لنقول: لعلّها كانت مشيئة الله.
أمّا أهل الله وأهل التوحيد، فإنّهم يرجعون المسألة أولاً إلى مشيئة الله، ثمّ يأتون بعد ذلك لدراسة العلل والأسباب العاديّة. وهذا يُحدث فرقًا كالفرق ما بين الأرض والسماء في نظرة الإنسان وكيفيّة تفكيره، وبالتالي في عمله الخارجيّ.
بين العاقل والجاهل: هل تفكّر قبل أن تتصرّف أم بعده؟
هناك مثلٌ يقول: «العاقل يفكّر أولاً ثمّ يتكلّم، والأحمق يتكلّم أولاً ثمّ يفكّر!».۱ طبعًا الأحمق لا يفكّر، المقصود هم الأفراد الذين يفكّرون بشكل خاطئ، فهذا الأحمق المسكين لا فكر له أصلاً. الفرق بين أهل التوحيد وسائر الأفراد يكمن في نقطةٍ واحدةٍ فقط: فأهل التوحيد لا ينكرون وجود الظواهر والحوادث الخارجيّة، أي أنّهم ليسوا عدميّين أو مثاليّين٢ في تفكيرهم، بل هم واقعيّون، ويفكّرون في أصل الواقع وتحقّقه. فهم لا يشكّون في وجود الإنسان والأرض والسماء والحيوان والأشجار وغيرها من الظواهر في الخارج. إنّما الكلام في العلاقات التي يقيمونها بين الأشياء الخارجيّة في الظواهر التي تحدث؛ فالناس العاديّون يبحثون عن هذه العلاقات في الحوادث الخارجيّة نفسها. فعلى سبيل المثال، إذا قام إنسان بعملٍ ما، فإنّ الناس يختلفون في مراتبهم في كيفيّة المواجهة وتحديد الموقف تجاه هذا العمل. فبعضهم من البداية يلتفت فقط إلى العمل نفسه، ولا يلتفت أبدًا إلى النوايا الكامنة وراءه، فيقولون فورًا: لقد فعل كذا، يا ويلتاه! هيّا بنا نضربه ونفعل كذا.
قصة طريفة: عندما اختلط الأمر على مستقبلِي المرجع!
يُنقل أنّه في الزمن السابق ـ وقد خطرت هذه القصّة على بالي الآن ـ أراد المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ أن يأتي من النجف إلى إيران. وكان من عادة الناس في ذلك الوقت أن يخرجوا لاستقبال المراجع والعلماء، فكان أهل كلّ مدينةٍ يخرجون لاستقبالهم واحترامهم.
في ذلك الوقت، كان أحد أقاربنا، المرحوم الحاج سلطان الواعظين الشيرازيّ، وهو خال جدّنا المرحوم الحاج السيّد معين الشيرازيّ، وصاحب كتاب «ليالي بيشاور» و«مئة مقالة سلطانيّة». كان شخصًا مطّلعًا وفاضلاً، وذا إحاطةٍ واسعةٍ بالتاريخ والروايات، وكتابه «ليالي بيشاور» يحكي عن سعة اطّلاعه على أحاديث أهل السنّة وتاريخهم، لأنّه لم يكن لديه كتب في ذلك المجلس، بل كان يتحدّث من ذاكرته. وقد رأيته أنا أيضًا في طفولتي في جلسةٍ أو جلستين، ثمّ انتقل إلى رحمة الله. وكان مرحًا جدًّا.
كان يقول: ذهبنا لاستقبال المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ خارج كرمانشاه. وكان السيّد أبو الحسن نحيفًا وصغير الحجم، بينما كنت أنا على العكس، ذا هيئةٍ جذّابةٍ، عريض المنكبين، طويل القامة، ووسيمًا. فإذا رأيتم صوره في كتاب «ليالي بيشاور» فستعلمون أنّه كان رجلاً مهيبًا وذا مظهرٍ جذّابٍ جدًّا. قال: ذهبنا إلى خارج المدينة للاستقبال، فظنّ بعض الناس أنّني أنا السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ! فهجموا عليّ وبدأوا بتقبيلي، ومن جملتهم النساء اللاتي كنّ يسحبن عباءتي من كلّ جانب، وتجمّع حشدٌ كبير، وكنتُ أصرخ: والله لستُ أنا! قال: فقالت إحدى النساء: هذا الشقيّ يكذب، قبّلوه! لقد سمعتها بنفسي تقول: الشقيّ يكذب. هؤلاء هم الناس، هو نفسه يقول لستُ أنا، وهي تقول إنّه يكذب! لقد وجدنا شخصًا لنقبّله، فليكن من يكن، السيّد أبو الحسن أو غيره! أصفهانيًّا كان أم شيرازيًّا أم كرمانيًّا، لا فرق عندنا! فهذه فئةٌ من الناس!!
مبدأ أساسيٌّ في السلوك: لا تنحز لصديقك قبل التحقيق!
إنّما أقول هذا لأنّه واقع، وأنتم تعلمون كيف يفكّر الناس في أحكامهم؟ إنّهم لا يفكّرون أبدًا في الواقع. انظروا لو وقع شجارٌ في حيٍّ ما، فبمجرّد أن يُخرج أحدهم رأسه من بيته ويرى أنّهم يضربون صديقه، فإنّه لا يفكّر أبدًا، فلعلّ صديقك هو المخطئ، فيشارك في الضرب ثمّ يقول: حسنًا، لنجلس الآن ونفكّر لنرى من المخطئ!
يُقال لهذا الإنسان أحمق، لأنّ فكره يأتي بعد فعله. يضرب أولاً ويقول: لأنّهم يضربون صديقي، سأضرب أنا أيضًا. فهذا ظلمٌ ومخالفةٌ للشرع، فلعلّ صديقك هو المخطئ هنا. لو كنتَ حريصًا على صديقك، فاذهب وافصل بينهما أولاً، ثمّ اجلس وحقّق في القضيّة لترى ما حقيقتها. لا ينبغي للإنسان، لمجرّد أنّ القضيّة تتعلّق بصديقه، أن يتّخذ موقفًا معاديًا لمن يواجهه، حاشا للّه! هذه مسألةٌ مهمّةٌ جدًّا.
يجب أن تعلموا هذه المسألة: لا ينبغي للإنسان، لمجرّد أنّه يكنّ المودّة لشخصٍ ما، أن ينحاز إليه في قضيّةٍ تقع قبل أن يحقّق فيها. ولا ينبغي له، لمجرّد محبّته لشخصٍ ما، أن يعطيه الحقّ في كلّ قضيّةٍ تقع ويُلقي بالذنب على عاتق الآخرين. بشكلٍ عام، أصل هذا التفكير باطل. فلو قمتُ أنا بعملٍ ما، وجئتم أنتم فورًا دون أن تنظروا هل الخطأ منّي أم من الطرف الآخر، وقلتم: الحقّ مع السيّد محسن الطهرانيّ، إذًا يجب ضربه... كلّا! فهذا خطأ. المحبّة في مكانها، ولكنّ التفكير المنطقيّ والصحيح يجب أن يكون له مكانه أيضًا.
لماذا الحقّ والمنهج فوق الأشخاص حتّى لو كان أستاذك؟
هذا أحد الأصول المسلّمة في السلوك، هكذا يجب أن يفكّر السالك. لعلّني أخطأتُ في قضيّةٍ ما، فهل كلّ عملٍ أقوم به صحيح؟ نعم، بالنسبة للإمام عليه السلام ووليّ الله الذي طوى مراتب الفناء، هذه المسألة لا نقاش فيها، ولكن بالنسبة للأفراد العاديّين الآخرين، أنا وأمثالي، الجميع، وبدون أيّ مجاملة، وما أقوله ليس من باب التواضع! فنحن لسنا من أهل التواضع كثيرًا! فالتواضع في محلّه جيّد، أمّا أن يستخدمه الإنسان كحيلةٍ في كلّ شيء ليجد له مكانًا بين الناس، فهذا ليس بالأمر الجيّد والممدوح. الأهمّ من كلّ شيء هو مدرستنا ومنهجنا.
بعد وفاة المرحوم الوالد رضوان الله عليه، كانت إحدى المسائل المهمّة التي كانوا يطرحونها علينا دائمًا هي هذه القضيّة: لماذا لا تنحازون لهؤلاء الأفراد؟ لماذا تركتَ أقاربك؟ لماذا تركتَ فلانًا وتعلّقتَ بآخر؟ كنّا نسمع هذه الأقوال، وكنتُ أتعجّب كثيرًا. كيف يمكن لشخصيّةٍ عظيمةٍ عُرفت لسبعين عامًا بين تلاميذها وأرحامها وأقاربها بالصدق ونصرة الحقّ، أن تتغيّر المسألة بعدها فجأةً بهذه الكيفيّة؟ كان الأمر عجيبًا جدًّا بالنسبة لي ولم أكن أستطيع تصديقه. أفرادٌ كانوا معه وجالسوه ولاحظوا كيفيّة تعامله في المسائل، ثمّ يأتون ويقولون للإنسان: لماذا تركتَ أقاربك وتعلّقتَ بشخصٍ غريب؟
وهل المسألة أصلاً مسألة "تعلُّق" و"ترك"؟ إنّ الشيء الذي لم يكن يخطر ببالي حتّى في ذلك الوقت، هو أن أجعل الشخص هو محطّ نظري في الطريق الذي أختاره، حتّى المرحوم الوالد لم يكن هو محطّ نظري، فهل هناك أعلى من ذلك؟ كنتُ أقول يجب أن يكون ظهور الحقّ وبروزه أقوى من كلّ شيء. وقد وصل المرحوم الوالد إلى ما وصل إليه لأنّه كان يضع هذا الأمر نصب عينيه، وكان فكره يدور دائمًا على هذا المدار، والتعبيرات التي كان ينقلها عن أساتذته كانت على هذا الأساس. لماذا؟ لأنّ وجهة الإنسان يجب أن تكون إلى حقيقةٍ واحدة، ويجب أن ينطبق سائر الأفراد والأشخاص على هذه الحقيقة، لا أن يأتي الإنسان ويجعل الشخص هو محطّ النظر والاهتمام. وهذه للأسف مشكلة موجودةٌ لدى الكثير منّا، ومهما بيّنّا، فالظاهر أنّ الرفقاء لا يريدون أن يتقبّلوا كيفيّة عطف الفكر من الظاهر إلى تلك الحقيقة، وكيف يجب أن نُضحّي بكلّ الظواهر في سبيل تلك الحقيقة، وأنّ الشخص لا ينبغي أن يكون له أيّ اعتبارٍ هنا. هذه حقيقةٌ يجب القبول بها، لأنّ أساس السلوك ومباني العرفان تقوم على هذه القضيّة. فلو لم يكن هذا، فما الفرق بين هذا المنهج وسائر الفِرق والمذاهب الأخرى؟
الضوابط فوق الروابط: لماذا يطمس أهل الدنيا الحقائق؟
اذهبوا الآن إلى المحافل والجلسات والعلاقات القائمة، وانظروا، ستجدون أنّ كلّ حديث الناس يدور حول العلاقات والروابط، فهل الأمر غير ذلك؟ يدور حول الروابط. لا وجود لشيءٍ اسمه "الضوابط" في قاموس العوام وأهل الدنيا. والضوابط هي هذه المسألة. إن كان إنسان ما صديقًا، فمهما فعل في الدنيا، فلا مشكلة، لأنّه صديق، ومن نفس المجموعة، ونفس الحزب، ونفس الطريق، ونفس المسلك، ورفيق الشراب. ولكن لو قام إنسان بعملٍ صحيح، فلأنّه ليس من نفس الطريق والمسلك والحزب، فإنّهم إمّا أن يبحثوا عن نقطة ضعفٍ له ليُبرزوها، أو إن لم تكن له نقطة ضعفٍ أصلاً، فإنّهم يمرّون عليه بصمت، ومن المستحيل أن يذكروه. لماذا؟ لأنّه ليس على مسلكنا وحزبنا. هذا هو منطق أهل الدنيا.
قصّة من كتاب "الروح المجرّد": لماذا طرد السيد الحداد تلميذه المقرّب؟
انظروا إلى المرحوم الوالد، لقد ألّف كتاب «الروح المجرّد»، وقد ذكر فيه مسائل مهمّة. أحد الأفراد الذين ورد ذكرهم كثيرًا في ذلك الكتاب وكان محطّ اهتمام المرحوم الوالد هو نفس الشخص المذكور في «الروح المجرّد»، الذي طُرد فيما بعد، حيث طرده المرحوم السيّد الحداد وأبعده عن نفسه. هذا فردٌ وردت سيرة أحواله بإيجاز في كتاب «الروح المجرّد». ولو قرأ قارئ هذا الكتاب، سيرى أنّ الوالد لم يذكر عنه الكثير ولم يشرح تفصيلاً، فما نعلمه نحن عنه أكثر ممّا أورده في الكتاب، من حيث قربه من السيّد الحداد وكونه كاتم أسراره، وذلك الودّ والمحبّة والالتصاق الذي كان يشعر به تجاهه. وقد كنّا نرى بعض الأشياء في ذلك الوقت، حتّى إنّني أنا نفسي لم أكن أؤيّد بعض أعماله، وكان عمري حوالي ستة عشر أو سبعة عشر عامًا.
ولكن عندما تُطرح مسألة تحديد الموقف تجاه الحقّ وتشخيص الأستاذ والميل إليه ولزوم طاعته بعد زمن المرحوم الشيخ الأنصاريّ، ترون أنّ جميع الذين كانوا بعده ـ طبعًا ليس الكل، فقد بقي اثنان أو ثلاثة ـ دخلوا جميعًا في تيّارٍ ومجموعةٍ وفئةٍ واحدة. وكان من بينهم أفرادٌ معاندون ومخالفون، وكانوا هم من يؤجّجون نار الفتنة، ولا يدعون الأقوال تؤثّر في الآخرين، ويحيطون بهم ويلقون في أذهانهم الأفكار المخالفة ليشوّشوها. ولديّ ذكرياتٌ مريرةٌ جدًّا من ذلك الزمن، وكان عمري آنذاك حوالي تسع أو عشر سنوات.
كان جميع هؤلاء يشتركون في نقطةٍ واحدة، وهي أنّهم لم يكونوا يريدون قبول الحقّ. ومن بين كلّ هؤلاء، كان هذا الرجل بالذات مستقيمًا جدًّا، وثابت القدم، ومحكمًا، وصلبًا للغاية، حتّى إنّه كان يُبدي قلقه على المرحوم الوالد نفسه، وهو ما ذكره الوالد في الكتاب. لقد أورد الوالد كلّ هذه الأمور،۱بحيث إنّ القارئ عندما يطالع الكتاب يقول: "آه، هذا الرجل أمره تامّ، فهذا الذي يأتي أمام أستاذه ويُبدي مثل هذا الحرص والقلق على صديقه السيد محمد حسين، من المعلوم أنّه هو الأقرب". ولكن عندما يبدأ الوالد بذكر نقاط الضعف والمشاكل التي حدثت، فيرى القارئ العجب! طبعًا لم يبيّن الوالد كلّ الأمور، بل راعى الجوانب وأشار فقط إلى القضيّة ليعرف الإنسان إلى أيّ مدى يجب أن يكون منتبهًا٢. فيقول القارئ: عجباً! هذا الرجل الذي وصل به الحال في نهاية أمره إلى هذا المصير، هو نفسه الذي كانت له مثل هذه الأحوال! أتذكّر في تلك السنة التي ذهب فيها للحجّ في عهد الشاه، وكان الفصل شتاء والجوّ باردًا جدًّا، وكان معه عددٌ من أصدقائه، ومنهم المرحوم الشيخ بيات والمرحوم السبزواريّ وغيرهم ممّن ما زالوا على قيد الحياة وبعضهم انتقل إلى رحمة الله. في تلك السفرة، تشرف هذا الرجل نفسه بالحجّ، وعندما رأى المرحوم الوالد في المسجد الحرام، جاء وجلس، والعجيب أنّه أخذ يتوسّل إليه قائلاً: "سيّدنا، افعل لي شيئًا". فقال له الوالد: "لم يعد بيدي أيّ شيء، مشكلتك فقط مع السيّد الحداد، وإلى أن تُحلّ هذه المسألة معه، فأنا غريبٌ عنك".
انظروا كم يجب أن يكون الشخص منضبطًا وتابعًا لمبادئه، فعندما يرى أنّ هذا الشخص مطرودٌ ويعلم أنّه لا سبيل لإصلاحه، فهل ينهض ويقيم معه علاقة صداقة ويضحك ويمزح معه؟ في حين أنّ الذين ذهبوا معه إلى مكّة في ذلك الوقت كانوا يتحدّثون ويضحكون معه. انظروا كم تختلف المسألة! يتّضح أنّ أولئك لم يفهموا حقيقة الأمر جيّدًا. أمّا المرحوم العلامة، فيعلم أنّ الارتباط يجب أن يكون على أساس الضوابط، والضابطة الآن تقتضي هذا الأمر.
وكأنّ لسان حاله يقول له: كم مرّة تحدّثتُ معك؟ وكم مرّة تشفّعتُ لك وكم مرّة توسّطت؟ كم سنة قلتُ لك: كن مؤدّبًا؟ وكم سنة قلتُ لك: راعِ الأصول؟ في النهاية، سينتهي الأمر يومًا ما، فإلى متى يستمرّ؟ وكم قلتُ إنّ لصبر الله حدودًا؟ وإنّ غيرة الله لا تسمح للإنسان بأن يتعامل مع أستاذه بهذه الطريقة؟ كم كرّرتُ هذه الأقوال؟ كنتَ تتحسّن قليلاً، ثمّ بعد خمسة عشر يومًا تبدأ من جديد! إلى أن وقع ما لم يكن يجب أن يقع، ولم يعد قلب السيّد الحداد يقبله، وانتهى الأمر. فعندما يخرج الإنسان من القلب، تتساقط عليه المصائب من السماء والأرض، وينتهي أمره. قبل ذلك، لم تكن القضيّة قد بلغت الخروج من القلب، أمّا الآن فقد بلغت، وعندما تبلغ ذلك، لا يمكن فعل شيء، إلّا أن تحدث معجزة، وهذا الأمر لم يعد بيد أشخاصٍ مثل السيّد محمّد حسين. هذا ما يُسمّى السير على المبدأ، السير على قواعد المدرسة، تفضيل المدرسة على الفرد، وتفضيل المنهج على الشخص.
أمّا الناس فليسوا كذلك، فالناس ينظرون إلى الشخص أولاً، وإلى المنهج آخرًا. في حين أنّ أهل الله وأهل التوحيد عندما ينظرون، ينظرون أوّلاً إليه تعالى، ليروا ما الذي قدّره في هذا الوضع وما هي الإرادة التي اتّخذها، فوجّهوا أنظارهم إليه، وعندما تتوجّه النظرة إليه، يهدأ القلب وتطمئنّ النفس، ثمّ بعد ذلك ينظرون ليروا ما هو تكليفهم وماذا عليهم أن يفعلوا.
درسٌ من عاشوراء: كيف كان وجه الحسين يزداد إشراقًا؟
عندما ننظر إلى يوم عاشوراء، وهي ليست قضيّةً بسيطة، فلو سال الدم من أنف طفلٍ لأحدنا، لضججنا وصخبنا، فكيف بمن يقدّم أبناءه، ومن هم؟ إنّهم الذين لا يساوي عالم الوجود كلّه شعرةً من رؤوسهم. هل كان حضرة علي الأكبر عاديًّا؟ لو لم تصل الإمامة إلى الإمام السجّاد لوصلت إليه، كان له مقام الإمام، أو مرتبةً دونه! وهل كان حضرة علي الأصغر أو حضرة أبو الفضل عاديّين؟ هل كانوا بائعي لبنٍ أو زبادي ليُقتلوا هكذا جماعاتٍ دون سبب؟ لقد كان كلّ واحدٍ منهم عالمًا بحدّ ذاته. ثمّ يقوم ذلك الخطيب في صلاة الجمعة ويقول: «يا حسين، إن كنتَ قدّمتَ عليًّا أكبر واحدًا، فنحن قدّمنا آلافًا من أمثاله!». قال المرحوم الوالد: «كنتُ جالسًا في ذلك المجلس فقلتُ في نفسي: فَضَّ اللهُ فَاكَ!». كم يحتاج هذا القول من وقاحةٍ وقلّة أدبٍ وسوء تربيةٍ وجهل؟ هذا هو علم الناس يا عزيزي! فهم الناس على هذا القدر! كأنّ عليًّا الأكبر سلعةٌ رخيصةٌ في إيران، فنرسل خمسين مليونًا من إيران، وستين مليونًا من الهند، ومئتي مليون من أمريكا! كلّ من يبلغ الثامنة عشرة أو العشرين من عمره فهو علي الأكبر! فهم لا ينظرون إلّا إلى العمر.
ومع ذلك، كان سيّد الشهداء يقدّم هؤلاء الأفراد يوم عاشوراء، ولكنّ الراوي يقول: «كلّما مرّ الوقت، كنّا نرى وجه الإمام يزداد إشراقًا وبشاشة»۱. فبدلاً من أن يعبس ويقول: «إلهي، نحن راضون، فماذا عسانا نفعل؟»، كان وجهه يزداد إشراقًا، وكانت تجلّيات الله تشرق أكثر في وجهه وسيمائه، وكان جماله وجلاله يشعّان من ذلك الوجه، وفي الوقت نفسه كان يبكي ويتألّم. فما هي حقيقة هذه القضيّة؟
هل ينافي التسليم للقدر الإلهيّ العمل بالأسباب الظاهريّة؟
ذاك الأمر يعود للقضيّة الأولى، وهذا يعود للقضيّة الثانية. فهو أولاً يرى الأمر من جانب الله، ويصفّي حسابه معه، فيقول: إنّ واقعة كربلاء قد أتت من هناك، وقد قال هو نفسه سابقًا: «إِنَّ اللهَ شَاءَ أَنْ يَرَانِي قَتِيلاً». وسألوه عن نسائه وأطفاله فقال: «إِنَّ اللهَ شَاءَ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايَا». أي أنّه حسم الأمر منذ البداية، فالمسألة قد دُبّرت من هناك ويجب أن تتمّ. «يَا حُسَيْنُ، إِنَّ لَكَ عِنْدَ اللهِ لَدرجة لَنْ تَنَالَهَا إِلَّا بِالشَّهَادَةِ»٢. أي لك مقامٌ غير مقام الإمامة، لن تصل إليه إلّا بالشهادة. فكان قلب الإمام في المقام الأوّل متعلّقًا بذلك العالم.
والآن، لمّا كان القلب متعلّقًا بذلك العالم، يأتي إلى العالم الظاهر ليرى ما يجب فعله. فالعالم الظاهر محفوظٌ في مكانه، فيتحدّث مع هذا وذاك، ويرسل الرسائل والرسل، ويقول: تعالوا وساعدوني، افعلوا كذا. حتّى إنّه دعا عمر بن سعد، وجلس معه ليتحدّث إليه لم يقل: "بما أنّ القدر محتوم، فلأتركه وشأنه، فليذهب إلى جهنّم!". كلّا، بل استدعى عمر بن سعد.
وقف أمام الجيش ووعظهم مرّاتٍ عديدة، ولبس لباس النبيّ وعمامة رسول الله، وقال: «يا قوم، انظروا، هذه عمامة رسول الله، وهذا يعني أنّني ابنه، فهل تدركون أم لا؟». كيف له أن يتحدّث مع الناس أكثر من ذلك؟ يخاطب صاحب العقل بالعقل، وصاحب الإحساس بالإحساس، ومن عقله في عينيه يقول له: «انظر! هذا اللباس الذي أرتديه هو لباس جدّي، وهذه العمامة هي عمامة جدّي. يا من عقولكم في عيونكم، تعالوا وانظروا، أم أنّ هذا أيضًا سحر؟». فعل كلّ هذا، ونظّم جيشه ميمنةً وميسرةً وقلبًا، وأعطى الراية لأبي الفضل، ولكن أين كان قرار قلبه؟ كان في ذلك العالم. فكلّ المسائل تعود إلى ذلك المبدأ، والتقدير من هناك، وانتهى الأمر. تلك الطمأنينة التي كان الإمام يشعر بها في وجوده، لو قُسّم واحدٌ على مليار منها على أهل الدنيا جميعًا، لأصبحوا كلّهم عرفاء.
الفرق بين رؤية أهل التوحيد ورؤيتنا
عندما يصل الإنسان إلى هذه الحالة، فإنّه يتعامل مع الحرّ بن يزيد الرياحيّ كما يتعامل مع حبيب بن مظاهر. لماذا؟ لأنّ المسألة تأتي من ذلك المبدأ، فلا فرق عند الإمام من يأتي، فمهما فعلتَ فقد فعلت. لم يعد ينظر إلى الكثرة، انتبهوا! انظروا أيّ تحوّلٍ يحدث في الفكر والعمل والإحساس! أمّا لو كنّا نحن، فماذا نفعل؟ لو رأينا إنسانًا قد فعل شيئًا بصديقنا، ثمّ جاء إلينا، لقلنا له: لن نتحدّث معك حتّى نلطمك لطمتين! نحن لا نفكّر أنّ حاله قد تغيّر الآن، ولا نلتفت إلى هذه الأمور، وهكذا نتعامل في سائر المسائل العاطفيّة. هذا كلّه لأنّ النظر مقصورٌ على الظاهر وعالم الكثرة وعالم المادّة وقوانينه، ونحن غافلون عن أصل القضيّة.
أمّا لو وجّهنا نظرنا أولاً إلى نسبة كلّ الأمور إلى ذلك الهرم وتلك النقطة، وأردنا دراسة الأمور من هناك، فعندها ستختلف الطريقة. ليس معنى هذا أن تتعطّل الأعمال هنا، كلّا! فالأعمال كلّها تُنجز، يقوم الإنسان ويرتبط بالناس ويتعامل معهم ويتحدّث، ولكن كلّ هذه المسائل والعلاقات تقع ضمن تلك النقطة، لا فوقها. ومشكلتنا مع أهل التوحيد هي هنا: فهم يضعون مسائل هذا العالم ضمن تلك المنظومة ثمّ يبدون رأيهم فيها، أمّا نحن فنأتي ونُقدّم هذه المسائل على تلك النقطة، ونأخذ تلك النقطة ونلقي بها في قعر البئر وندفنها. وبعد أن نضرب ونؤذي ونفعل كلّ شيء، نأتي ونُخرج تلك النقطة من قعر البئر ونقول: حسنًا، لعلّ الله كان له دورٌ في هذا!
عندما ينجلي الغبار وتهدأ الأمور، وتنتهي كل أعمال الفوضى وتُنجَز كل الأعمال المخرّبة، نقول: 'حسناً، نعم، لقد كانت مشيئة الله'.
بعد أن نكون قد جئنا وذهبنا وضربنا وحاربنا وهُزمنا، نُلقي باللوم على الله. فنقول: 'حسناً، أحياناً يريد الله للإنسان أن يُهزم أيضاً!'
أمّا إذا ما حاربنا وانتصرنا في مكان ما، فإذا أردنا أن "نمنّ" على الله وكأنّنا نتفضّل عليه نقول: 'بالطبع، لقد كان فضلاً إلهيًّا أيضاً، وكان كذا وكذا، آه؟'. نقول 'بالطبع' هذه على مضض أو كإضافة ثانوية!
ولكن أهل التوحيد يقولون كلّ هذه الجملة في البداية. يقولون: الفضل الإلهي، التقدير الإلهي، العناية الإلهية، اللطف الإلهي، الرحمة الإلهية. ثم ماذا يقولون؟ يقولون: 'إن شاء الله أنتم أيضاً مأجورون'، 'إن شاء الله يوفقكم الله'، 'لقد شملكم توفيق الله فقمتم بهذا العمل!' أولئك هم أهل التوحيد.
أما نحن، فلا. نحن نذهب ونرى القضايا في هذا الظاهر السطحيّ فقط، ولا نستطيع أن نرى أعمق.
نظرة الإمام السجّاد التوحيديّة
والإمام السجاد عليه السلام هنا طرح المسألة من وجهة النظر هذه. فهو يقول أنا لدي يقين بهذه المسألة، ويقيني هذا لن يزول، فأنا لدي يقين بتوحيدك الذاتيّ والأسمائيّ والصفاتيّ والأفعالي، لديّ يقين بجميع مراتب التوحيد.
عندما يكون لدى إنسان ما يقينٌ بهذا، فكيف يمكنه أن يُشرك غير الله في أفكاره؟! كيف يستطيع؟! كيف يمكنه في فكره أن يعتبر غير الله "دخيلاً في الأمور؟!
أما "كيف" ينجز العمل في العالم الخارجي، فلا نقاش في ذلك. إذا قصّر إنسان ما، فستكون النتيجة شيئًا آخر، إذا أهمل إنسان ما في عمله، فستكون النتيجة شيئاً آخر. فهذه المسائل والعلاقات الخارجيّة محفوظة في مكانها. المهمّ هو هذا: الإنسان، من وجهة نظر الفكر والتفكير، أي تفكير يجب أن يكون لديه تجاه هذه المسألة؟ هل يقول: "هذا الإنسان كان السبب" دون الالتفات إلى الله؟! أم لا؟ بل يقول: "الله أراد، ولكن الأمر تمّ عن هذا الطريق". فهذان موقفان مختلفان. يقول: "هو قدّر، ولكن القضيّة ظهرت بهذه الكيفيّة وعبر هذه الواسطة." يقول: "هو تعلّقت إرادته، ولكنّ الوسائط والأسباب هي هذه التي تظهر وتبرز هنا." وعلى هذا الأساس، يرتّب ويؤسّس فكره وعمله وشأنه واختياره. هذا هو كلام الإمام السجاد.
إذاً، بناءً على هذا، يجب علينا أن نقرّب أنفسنا من هذه الحقيقة. يجب علينا أن نقرّب أنفسنا أنا لا أقول يجب أن يكون لدينا يقين الإمام السجاد! هيهات أن نصل إلى هذا اليقين، إلا أن تشملنا عنايتهم. ولكن حيث يمكننا أن ننجز هذا العمل إلى حدّ ما، وحيث يمكننا أن نعيد النظر قليلاً، فهذا العمل يمكننا القيام به.
و «لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك». أنت وحدك فقط الموجود في عالم الوجود ولا شريك لك.
هل مقصود حضرة السجاد عليه السلام أنّه لا شريك لك في "الخلق"؟ فهذا سخيف جدًّا. يعني هل يريد الإمام السجّاد أن يمنّ على الله، نعوذ بالله، ويقول: "إلهي، ليس لك شريك في عالم الخلق"؟ يعني: "أنا لست مثل الزرادشتيين والثنويين القائلين بـ 'يزدان' و 'أهريمن' إله الخير وإله الشر، إله هنا وإله هناك"؟! هل هذا ما يريد الإمام السجاد أن يقوله؟ هذا أشبه باللعب. بل يقول: "إلهي، لا شريك لك في خلقك فليس لدينا ذاتان، ولا ثلاث ذوات، الذات هي ذات واحدة".
الـ "لا شريك لك" التي يقولها الإمام السجّاد تعني نفي الشريك في "الصفات" و "الأفعال"، أي أنه لا شريك لك في أي مرتبة من مراتب الوجود، لا في الذات، ولا في الصفة، ولا في الفعل، فكلّ الأفعال التي تقع في العالم الخارجي، مصدرها ينشأ من ذاتك".
ليس الأمر أن هذا الكلام الذي أتحدّث به أنا، هو "قدرة" و "فعل" بجانب فعل الله. أو تلك "النية" التي أنويها، وهي في النهاية "فعل" من الأفعال، وبالمناسبة، فعلها قوي جداً. فهل نيّتي هذه فعلٌ بجانب فعل الله؟ الله يريد وأنا أيضاً أريد؟ ليس الأمر هكذا. بل: "لا شريك لك في عالم الوجود، في كلّ ما يقع في عالم الوجود بجميع مراتبه". "أنا لدي يقين بهذا المعنى".
الآن وقد أيقنت، حسناً جدّاً. "إلهي، أنت بنفسك قلت" «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْقَائِلُ وَ قَوْلُكَ حَقٌّ وَ وَعْدُكَ صِدْقٌ» إلهي، أنت قلت. والآن بعد أن علمتُ هذا، آتي وأتمسّك بكلمتك آخذك بوعدك. والحرّ عند كلمته. فأنت قلت، ولو شئتَ لما قلت! أنت قلت أنّ شهر رمضان يأتي ورحمتي تشمل الجميع. أنت قلت إنّني أغفر. أنت قلت إنّني "توّاب". أنت قلت إذا قال عبد "يا الله" أقول "لبيك" كلّ هذا أنت قلته، وأنا لم أقله من عندي. فهذه هي أدعية الإمام السجّاد، كلّها أتت من هناك. والقرآن أيضاً صريح في ذلك. أنت قلت هذا الكلام، وقولك حقّ، ووعدك صدق، وهو كلام دقيق لا تشوبه شائبة ولا يدخله خلل: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾. ستشملكم رحمة الله.
«وَ لَیسَ مِنْ صِفَاتک یا سَیدِى أَنْ تَأْمُرَ بِالسُّؤَالِ وَ تَمْنَعَ الْعَطِیةَ» ليس الأمر أنك مثل البقية، تقول كلامًا اليوم وترجع عنه غدًا. فعندما تقول كلمة، فإنّك تلتزم بها وتقف عندها، عندما تقول: "تعالوا إليّ"، فأنت صادق، وعندما يأتي إليك العبد، فإنك تدبّر أموره. وعندما يأتي إليك العبد، فإنّك تقدّم له ما هو في صلاحه، لا ما يدور في خياله هو، مهما كان ذلك الشيء. تقدّم له ما فيه صلاحه، وتقرّر له ما فيه خيره.
قصّة السجين الذي قبّل ثياب السجن
كان أحد أقاربنا في زمن الشاه قد ذهب إلى العراق، فألقى جهاز الأمن العراقيّ القبض عليه وأودعه السجن، وكان سجنًا قاسيًا جدًّا. وعندما عاد إلى إيران، رأيناه وقد أطلق لحيته بمقدار أربعة أصابع. فقال له المرحوم الوالد: "أبقِ على هذه اللحية ولا تحلقها". لكنّه حلقها فيما بعد، وقد توفي وانتقل إلى رحمة الله.
زوجته التي كانت معه في العراق، ذهبت إلى المرحوم السيّد الحداد وأخبرته بما حدث، فكان السيّد الحداد يضحك بصوتٍ عالٍ ويقول: "هذا جيّدٌ له، جيّدٌ له!". وكانت تقول: "سيّدنا، سمعتُ أنّ وضع السجن سيّئ جدًّا..."، فيجيب: "جيّدٌ له، لا تقلقي". ولأنّها كانت تثق بكلام السيّد الحداد، فقد شعرت بالاطمئنان.
بعد أن خرج من السجن، كان هو نفسه يروي ويقول: "عندما كنتُ أخرج من السجن، خلعتُ ثياب السجن وقبّلتها ووضعتها على عيني ثمّ خرجت". لقد فهم الفائدة التي حصل عليها في تلك المدّة. وكان المرحوم السيّد الحداد يعلم ذلك، ولهذا قال: "جيّدٌ له". وكم أصبح وجهه نورانيًّا! فعندما خرجنا من منزله، التفتُّ أنا وشخصٌ آخر إلى الوالد وقلنا: "سيّدنا، كم أصبح وجهه نورانيًّا!"، فقال: "نعم، نعم، كان هذا جيّدًا جدًّا له".
هذه أمورٌ لا نعلمها ولا نفهمها. نحن لا نفهم أنّ هذه المسائل التي تقع هي من أجل طريقٍ طويلٍ أمامنا. نحن نرى مترًا واحدًا أمامنا، والله يرى ذلك الطريق الطويل فينا، تلك المسافة الطويلة، فنحن نجزع ونضطرب ونقفز يمنةً ويسرة، ونتساءل لماذا حدث هذا وذاك. يقول الإمام عليه السلام: لو جئتَ وسلّمتَ الأمر، فإنّ الله سيتولّى تدبير أمورك. لكنّنا لا نأتي لنسلّم، بل نظلّ نضطرب ونفكّر يمنةً ويسرة.
اليقين بالحقّ هو سبيل النجاة
| مجلس تمام گشت وبه آخر رسید عمر | *** | ما همچنان در اول وصف تو ماندهایم |
یقول:
انتهى المجلس وانقضى العمر *** وما زلنا في بداية وصفك حائرين
إذا كان هناك من خبر، فهو فقط في مدرسة الإمام السجّاد ومدرسة أهل البيت. فالمجيء إلى هنا، والإقبال على هذا الباب، وحطّ الرحال هنا، والاتّكاء هنا، هذه أمورٌ قد فهمناها. والآن نحن نقول للإمام السجّاد الشيء نفسه: حسنًا، أنتم علّمتمونا ونحن تعلّمنا.
نحن على يقينٍ بأنّ كلّ ما هو كائنٌ موجودٌ هنا. أنتم تقولون إنّكم على يقينٍ بأنّ الله واحد، ونحن نقول لكم الشيء نفسه، نحن على يقينٍ بهذا الأمر، ويمكننا أن نقوله ولا نهزل فيه. أمّا أنّنا نخالفه أحيانًا، فتلك مسألةٌ أخرى، فلا نبرّئ أنفسنا خفية. كلّا، نحن نرتكب الأخطاء ونثير الضجيج، ولكن من حيث الالتزام الباطنيّ والقلبيّ، فإنّنا على يقينٍ بأنّ الحقّ هنا، وأنّ الطريق هو طريق الأئمّة، وأنّ النجاة فقط في مدرسة الأئمّة، وفي ولاية الأئمّة، وفي متابعة الأئمّة، وفي محبّة الأئمّة، وفي الولاء للأئمّة. الآن وقد أيقنّا بهذا، فبسم الله. من العظماء البذل والرحمة والعناية، ومن الناقصين أمثالنا الشيطنة وإثارة الضجيج! فلتفعلوا أنتم ما عليكم، ونحن نفعل ما علينا. أنتم أيّها الإمام السجّاد بعظمتكم، ونحن بصغرنا.
نسأل الله أن تشملنا رحمته وعطفه وفضله في هذا الشهر، وألّا ينظر إلى نقصنا وفراغنا، وأن يقرّبنا إليه دائمًا أكثر فأكثر بعنايته ولطفه وعظمة أوليائه، وأن يبعدنا عن التوغّل في الكثرات والأنانيّات، إن شاء الله.
اللَّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ