المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمرأة والأسرة
المجموعةالمرأة والأسرة - قم
التوضيح
هو العليم
الخطوة الصادقة
المرأة والأسرة - قم - الجلسة الثانية
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سره.
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن كان لدى السيّدات سؤال، يتعلّق بالمواضيع الّتي طُرحتْ في المجلس السابق، فلْيسألنْ. وإن كان هنالك إشكال قد طرأ على ذهن إحداهنّ خلال هذه الفترة، أو قد برز لديها سؤال جديد، فلْتطرحه.
ظاهر العبادات وباطنها
[تطرح إحدى النساء سؤالًا لم يكن واضًحا في التسجيل، فيسألها سماحة السيّد:] هل كان قد طُرح في المجلس السابق ؟ [يبدو أنَّ المرأة تجيبه بنعم. فيقول سماحة السيّد:] بأيّ موضوع يتعلّق الأمر، لأنَّ هناك الكثير مِنَ الأمور قد تكون ذات علاقة بالجواب على هذا السؤال .. على كلّ حال أقول بشكل عام أنَّ صلاة الليل لا تختلف عن غيرها مِنَ العبادات والأوراد والأذكار والصيام – لقد شـرحتُ هذا الموضوع في مجلس عنوان البصريّ على ما يبدو ولعلّ ذلك كان قبل حلول شهر رجب أو خلاله – فإن كان هناك خلاف بين اثنين مِنَ المؤمنين، وحصلت بينهما كدورة باطنية، فلن يقبل الله أعمالهما. فالشخص الّذي يصـرّ على استمرار الخلاف سيكون مشمولًا لهذه القاعدة، والسبب في ذلك هو أنَّ للعبادة وجه ظاهريّ وآخر باطنيّ؛ أمّا وجهها الظاهريّ فيتمثّل في تلك الحركات الّتي يراها الجميع، كحركات الصلاة وألفاظها الخاصّة الّتي يؤدّيها المصلِّي، وكالأفعال الخاصّة بالحجّ المقترنة بالنيّة . [أمّا الجنبة الباطنيّة فنقول:] إنَّ وراء هذه الأعمال الظاهريّة ملكوت يربط بينها وبين عالم الملكوت والعلل الأولى وعالم التجرّد والملائكة والله. وهناك تمايز بين الجانب الملكوتيّ والجانب الظاهريّ للأعمال، حيث أنّ خلوص النفس وكيفيّة ارتباطها وتعلّقها بالمبدأ الأعلى مختصّ بالجانب الملكوتيّ، فكلّما كان هذا الجانب قويّا، كانت طبيعة العبادة وباطنها وروحها وسرّها أقوى، وهذا هو الجانب الّذي يقبله الله مِنَ العبد أو لا يقبله.
يقول الله تعالى عن الذبيحة الّتي يقدّمها الحاجّ في أيّام الحجّ {لَنْ يَنالَ الله لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ}۱، أي لا يصل إلى الله مِنْ ذبيحة عيد الأضحى لحمها ولا دمها، فلحمها إنّما يُطعم للفقراء والمؤمنين ولكم، وهذا هو الجانب الظاهريّ لها، أمّا جانبها الباطنيّ فهو الّذي يصل إلى الله، ويصعد إليه.
وما هو هذا الجانب الباطنيّ ؟ إنَّه حالة العبوديّة والرِّقيّة۱، حيث يُضحّي الإنسان بنفسه أمام إرادة الله ومشيئته، فيجعل كامل نفسه – بتمام معنى الكلمة – وبجميع جوانبها، تحت إرادة الله ومشيئته، فيخضع بكامل وجوده أمام الوجود الحيّ القيّوم الأبديّ ويتواضع له، ويأخذ في قتل ومحو أنانيّته ونفسانيّاته وشؤونه الشخصيّة، فيُرسل كافّة رسوم الجاهليّة إلى مذبح المعبود، ثمّ يقوم أخيرًا بتقديم وجوده الّذي هو عبارة عن إنيّته ونفسه إلى جناب المحبوب .. هذا هو جانب التقوى الّذي هو روح وباطن العمل. فإن راعى الإنسان هذه الأمور عند التضحية، فستقبل أضحيته، وإلّا فلا.
وهذا ما حصل مع هابيل وقابيل٢، حيث أمرهما الله أن يقدّما مقدارًا مِنْ أعمالهم قربانًا إليه ليرى إن كان موردًا لرضاه وقبوله؛ كان قابيل يعمل في الزراعة وكانت لديه أرض يزرعها بالحنطة، فأخذ حزمة مِنَ الأغصان الرديئة والبالية مِنْ محصوله ليقدّمها كنموذج مِنْ غرسه إلى الله بعنوانِ قربانٍ. أمّا هابيل فكان راعيًا للغنم، فاختار أفضل ما في قطيعه مِنَ الأغنام، اختار الأكبر والأسمن بينها وقدّمه بعنوانِ قربانٍ. أتلاحظون كيف أنَّ انتخاب كلّ واحد منهما كان متفاوتًا عن انتخاب الآخر منذ البداية . فلِمَ يحصل ذلك ؟ إنَّ ذلك يحصل بسبب تفاوت النوايا مِنَ البداية.
قال المرحوم الشيخ الأنصاريّ رضوان الله عليه: عندما اُستَضاف في منزل كنتُ أعرف مِنْ خلال الشاي الّذي يُقدّم إليَّ إن كانت ربّة البيت راضية بقدومي أم لا. فما السبب في ذلك ؟ إنَّ السبب يعود إلى أنَّ الروح والنفس تترك أثرًا في ذلك الشاي، فيصبح الشاي إمّا مكدّرًا أو مُنعشًا يجلب السرور والبهجة، فيكون إمّا نورانيّا أو ظلمانيّاً. وهكذا بالنسبة للأشياء الأخرى.. فلكلّ عمل ملكوت خاصّ به يترك أثره عليه، حتّى لو كان تحضيرَ شايٍ، الّذي هو أبسط ما يمكن أن يُقدّم إلى الضيف، إذ لا يتطلّب تحضيره سوى إشعال النار ووضع إبريق الشاي عليها، نعم إنَّه عمل في غاية البساطة.
ولهذا السبب بقيت هدية قابيل في مكانها، أمّا الخروف الّذي قدّمه هابيل فنزلت عليه صاعقة مِنَ السماء وأحرقته، ممّا يعني أنَّه قد تمّ قبوله.
إنَّ ملكوت العبادات وجانبها الربطيّ يعتمد على نيّة الإنسان؛ فإن كانت تلك النيّة غير سليمة – لا سامح الله – كأن تكون لنفس الإنسان خصومة مع المؤمنين، فلن يُرفع عمله ذاك إلى الأعلى وسيبقى مكانه. فصلاة الليل تخضع لنفس هذه القاعدة، فإن كانت هنالك خصومة نفسانيّة لأحدهم مع أحد إخوته المؤمنين فلن يقبل جناب الحقّ صلاة الليل تلك، ولن يستفيد الشخص مِنَ الذكْر والورد الّذي يأتي به.
عندما كان المرحوم العلّامة رضوان الله عليه في طهران، حصلتْ خصومة بين شخصين مِنْ أصدقائه ورفقاء الطريق، فقال لهما: لا يجوز لكما أن تحضرا جلسة عصر الجمعة ما لم تجدا حلّاً لنزاعكما، لأنَّ هذا الحضور لن يكون مفيدًا لكما بل سيُلحق الأذى بالآخرين أيضًا. ومسألة إلحاق الضرّر بالآخرين كانت واضحة في هذا المورد، إذ عندما يحضر المرحوم العلّامة هذه الجلسة كان يلاحظ بوضوح أنّها فاقدة للجوّ المناسب وللروح، والسبب في ذلك يعود إلى الخصومة الموجودة بين هذين الشخصين.
هل يمكن أن تحصل خصومة بين سالكي الطريق إلى الله ؟! فها نحن نرى كيف يدعو كلّ واحد منهما الله، في الوقت الّذي يكُنّ العداوة لغيره، فهل يمكن الجمع بين الحالين ؟! إن كان الأمر كذلك، فأيّ إله هذا الّذي تعبده ! أتعبد إلهًا يدعو إلى الحرب والمخاصمة أم الإله الّذي يدعو إلى الصلح والألفة والصداقة ؟! إنَّنا نقوم بخداع أنفسنا بعملنا هذا. هذا فيما يتعلّق [بهذا السؤال].
علينا أن نتوجّه إلى روح المطالب لا أن نبحث عن مصاديقها بيننا
قلتُ لكم في المجلس السابق أنَّ المرتبة الأولى والخطوة الأولى في الطريق إلى الله تتمثّل في الصدق. ويبدو أنّنا مهما تأمّلنا في هذا الموضوع وتكلّمنا عنه لن نوفّي حقّه.
ولقد تصوّر البعض أنَّني قصدتُ شخصًا بعينه أو مجموعة خاصّة عندما كنتُ أتكلّم عن هذا الموضوع. كلّا، لم أكن أقصد أيّ شخص في ذلك. وعمومًا، قبل أن أبدأ الحديث عن هذا الموضوع، أريد أن أقول أنّه عليكم أن لا تبحثوا عن مصداق الحديث، فعندما لا يريد المتكلّم أن يذكر المصداق فمِنْ غير المستحسن أن يتمّ البحث عن ذلك المصداق. يحصل أحيانًا أن يقصد المتكلّم مصداقًا خاصّا في حديثه ويقوم هو بالإشارة إلى ذلك المصداق كأن يقول: إنَّ هذا الموضوع يتعلّق بفلان مِنَ الناس، فهذا أمرٌ آخر، أمّا عندما لا يبيّن المتكلّم مصداق حديثه، فما هو الداعي إلى البحث عن المصداق، ولماذا يتمّ الإصرار على محاولة معرفته، فلماذا يتمّ تتبّع هذا الموضوع ؟! فأنا المتكلّم لا أريد أن أبيّن مصداق حديثي، فلعلّ بيانه يكون غير مناسب . فما يمكن أنّ يفيد الإنسان هو بيان المطلب والوصول إلى روح الموضوع، أمّا الدخول في الجزئيّات والتحرّي عن المصداق وتفاصيل الموضوع يترك أثرًا سيئًا على نفس السالك. فإن كان الموضوع المطروح صحيحًا، فعلى الإنسان أن يلتزم به، ولا شأن له بما سواه [كمصاديقه وجزئياته]. وإن واجه مسألة، فعليه أن يتأمّل فيها، ولا شأن له بما سواها. كان هذا هو دأبي في مطالعاتي منذ البداية، فعندما كان يطرق سمعي موضوعًا كنتُ أفكّر في نفس الموضوع دون أن ألتفت إلى الكاتب أو المتكلّم، وبعد أن أنتهي من ذلك أنظر لأرى مَنْ يكون ذلك الشخص.
أتذكر أنَّني تحدّثتُ عن قضيّة ما في أحد أيام العشرة الأخيرة مِنْ شهر صفر في مدينة مشهد، وكان المرحوم العلّامة يستمع يوميّا إلى أشرطة تسجيل كلّ مجلس مِنْ تلك المجالس، وكان يتباحث معي في اليوم التالي أو في مساء ذلك اليوم حول ما جاء في التسجيل، وكان ينبهني إلى ما يراه لازمًا.وفي صباح أحد الأيّام ذهبتُ إليه بعد أن عدّت إلى المنزل – وهو اليوم الّذي حضر فيه إحدى مجالس الأيّام العشرة تلك، حيث كان يحضر مجلسًا واحدًا منها لأنّ حالته الصحيّة لم تكن تسمح بأكثر مِنْ ذلك – فالتفت إليَّ ونحن على الشرفة وقال: لماذا تدخل في تفاصيل الموضوع الّذي تتحدّث عنه إلى درجة أنّك تشخّص مصداق حديثك ؟! قلتُ: سيّدي العزيز، لو لم أفعل ذلك لَمَا فهموا قصدي، ولحملوا كلامي على محمل آخر، فأنا مجبور على تضيّيق الدائرة أكثر فأكثر لكي يتمّ تشخيص المطلوب، فلا يقوم أحد بتأويله تأويلًا آخر – كنَّا نعاني ما نعانيه في ذلك الزمان ولكن دعونا مِنْ ذلك الآن، على أنَّني لا زلت حتّى الآن أعاني ممّا كنتُ أعاني منه – فقال لي: يا سيّد محسن عليك أن تطرح موضوعك بشكله العام، فمَنْ يجب أن يفهم فسيفهم، ومَنْ لا يجب أن يفهم فلن يفهم ولو عيّنت له المصداق ألف مرّة، أي مَنْ كان لديه غرض ومرض فلن يفهم مهما بيّنت له وفصّلت.
كنت أحضر مجلسًا انعقد في مدينة قم، في منزل أحد الأفراد – الّذي لا أريد أن أذكر اسمه – فاقتضى سياق الحديث أن أقول: إنّ فلانًا – وذكرتُ اسمه – طرح مطلب كذا بالكيفيّة الكذائيّة. فقال أحد الحاضرين في ذلك المجلس – وهو الآن في مكان آخر – بكلّ صراحة: إنَّ فلانًا كذّاب. لا توجد صراحة أكثر مِنْ هذه الصراحة، نعم لقد قال: فلان كذّاب. هذا مع أنَّني صرّحت بتفاصيل القضيّة وذكرتُ الدليل على قولي – فلو كان حاضرًا الآن لذكّرته بالموضوع – فإن كان الأمر كذلك، فهل هناك جدوى مِنْ ذكر حتّى ألف مصداق؟! كلّا بل سيقولون أيضًا لقد كذب.. أهناك شيء أكثر مِنْ هذا !
بناءً على هذا، لِمَ يعيّن الإنسان المصداق وأسماء الأشخاص. بل عليه أن [يكتفي] بذكر الأمر بشكله العام، فمَنْ شاء قَبِلَه ومَنْ لم يشأ فلا يقبله فنقول له: جعل الله أمرك إلى خير، وأمرنا إلى سلام.
على السالك أن يتوجّه دائمًا إلى روح المطلب المطروح، ولا شأن له بمَنْ قاله وبحقّ مَنْ قد قيل. ولو فرضنا أنَّه عرف بمَنْ يتعلّق الموضوع، فلا شأن له به، بل عليه إن كان الموضوع صحيحًا أن يقبله، وإن لم يكن كذلك فليقل أنَّه غير صحيح بهذا الدليل وذاك. فيجب أن يكون الأمر على هذا النحو، أمّا إن تتبّع [تفاصيل] الموضوع وأخذ بالسؤال عنه هنا وهناك فهو أمر مضرّ بنفس السالك.
عندما طرحتُ موضوع الصدق لم أكن أقصد شخصًا خاصّا أو مصداقًا معيّنًا، بل كان النظر [إلى إيصال فكرة] أنَّ الخطوة الأولى الّتي على السالك أن يخطوها في سلوكه يجب أن تكون خطوة صادقة، أي إنَّ حركته وسيره ونيّته يجب أن تكون صادقة، وعليه أن يُخرج نفسه من التجاذبات الخارجيّة. هذا ما كنتُ أقصده. نعم، عليه أن يُخرج نفسه مِنَ الاشتغال بالعلاقات والتعلّقات الخارجيّة.
الصدق هو الخطوة الأولى والأساسيّة للسالك وهي مناط سلوكه
تذكرتُ حكاية الآن – في الحقيقة هما حكايتان ولكنّي سأصرف النظر عن إحداهما – يُقال أنَّ قاضي طهران، والّذي كان معمّمًا، جاء إلى حاكم اسمه (أمير كبير) في زمن حكومته وقال له: رُفعت إليَّ قضيّة اليوم وأحد أطرافها واحد مِنْ أصدقائك – ويبدو أنَّه كان ابن أخته – فجئت أرى رأيك في هذه القضية لأحكم به غدًا. ألاحظتم، فهذه الأمور كانت تحصل في السابق وهي تحصل الآن أيضًا، فلم يختلف الأمر شيئًا. فغضب (أمير كبير) غضبًا شديدًا وقال له: هل عيّنتك قاضٍ للشرع لكي تحكم بموجب العلاقات بدلًا عن قواعد الحكم. فخلع عنه عمامته وضربه على رأسه، ثمّ عزله وعيّن مكانه أحد كبار علماء قُم المعروفين بالزهد، وجعله قاضي قضاة مدينة طهران.
ما الّذي تعكسه هذه الحكاية ؟ إنَّها تعكس الفرق بين الصدق وعدمه في المسير والمسلك. فعلى الإنسان أن يكون صادقًا مع الله في طيّ الطريق إليه، ويجب أن لا يتفاوت الأمر بالنسبة إليه سواء كان الحقّ على أبيه أم أمّه أم أخيه أم جاره، فالباطل باطلٌ وعلى الإنسان أن يقف بوجهه دائمًا. فإن قدّم أحدهم العلاقات على ضوابط القضاء، فسيأتي عليه اليوم الّذي ستصبح هذه العلاقات بضرره [ستنعكس الأمور]. أتلاحظون ! فإنَّ جميع الناس متساوون عند الله.
لقد رأيتُ بنفسي وشاهدت بعيني، حيث كنتُ حاضرًا هناك، لا أنَّني سمعته بأذني فقط، كيف قضى أحدهم في قضيتين لا تختلفان عن بعضهما شيئًا أبدًا ولو بمقدار رأس إبرة، وكانت كلّ واحدة منهما تخصّ مصداقًا معيّنًا، فقضى فيهما بشكلين مختلفين بتمام معنى الكلمة. نعم، لقد كانتا قضيّتان متشابهتان كليّا، بل لعلّ القضيّة الّتي تخصّ صديقه كانت أشدّ وأحدّ مِنَ القضيّة الأخرى، غير أنَّ الحادثتين متشابهتين. فلماذا تسير الأمور بهذا الشكل، لماذا ؟!
كان حديثي السابق حول فترة ما بعد المرحوم العلّامة يتعلّق بهذا بموضوع، فكنتُ أقول: لماذا لا نتعامل بصدق مع أصدقائنا، ما هو السبب في ذلك ؟! فهل كوننا مِنْ أبناء المرحوم العلّامة يجعل دمائنا أشدّ حمرة مِنْ غيرنا ؟! وهل كوننا مرتبطين به، يجعل حكمنا مختلفًا عن حكم الآخرين وحسابنا متفاوتًا عنهم ؟! غير أنَّهم لم يقبلوا هذا الكلام. كنت أقول لهم: إنَّني أعتبر أصدقائي كالإخوة، فلا فرق بيننا لا ظاهرًا ولا باطنًا. هذا ما كنت أقوله، أمّا الآخرون فكانوا يقولون: لا، بل علينا أن نتعامل في الخرج بشكل وفي الداخل بشكل آخر. أنا أقول هذا لكوني مِنْ هذا البيت، وكنتُ أعدّد الشواهد واحدًا واحدًا، وأعلنت استعدادي للمناظرة العام الماضي، ولم تتم الاستجابة لها حتّى الآن. لماذا يحصل هذا ، فهل كنَّا قد رأينا مِنْ والدنا غير الصدق ؟ وهل كان مسير والدنا كمسيركم، هل كان يتعامل في الداخل بشكل وفي الخارج بشكل آخر أم لا ؟! إنَّني كابن للسيّد محمّد حسين أقول: كنتُ قد قبلت [السيّد محمّد حسين] لأنَّني لمست الصدق منه، فلو لم ألمس منه ذلك لَمَا تبعته، إذ ما الفرق بينه وبين غيره [إن لم يكن صداقًا].
لقد رأينا الكثير ممّن يختلف ظاهرهم عن باطنهم، فيظهرون بين الناس بمظهر يختلف عن حقيقتهم. نعم، لقد رأينا الكثير مِنْ أمثال هؤلاء، ولكن لماذا لم يكن المرحوم العلّامة مثلهم ؟ إنَّه الصدق الّذي شاهدناه منه إذن. وكانت طبيعة معاملته هي الّتي ساقتنا إلى إتّباعه وجعلتنا نطمئن إليه. ولا يزال هذا الأمر يبعث فينا الطمأنينة على صحّة مسيرنا. فكنَّا نرى منه ذلك التعامل والصدق، لقد رأينا صدقه وكيفيّة تعامله بأنفسنا.
لقد كان حديثنا مع تلك المجموعة الخاصّة يدور حول هذا الموضوع، فكنَّا نقول لهم: لا يمكن لنا أن نستغّل صلتنا بالمرحوم العلّامة ومكانتنا الاجتماعيّة في تحميل عقائدنا للآخرين. إن استغلينا صلتنا بوالدنا لنجبر أحدًا على قبول أمر ما فسيكون هذا عملًا مخالفًا للفتوّة۱، وهو ناجم عن الجهل، فها نحن نقوم بتحطيم ذلك الشخص وضربه وطرده، لا لشيء إلّا لكونه لا يملك وسيلة الدفاع عن نفسه، فهو لا يستطيع أن يتكلّم أو أن يتّخذ موقفًا منَّا. إنَّه لأمر عجيب جدّا أن يحصل مثل هذا ، فلسنا في مقام الله لكي نفعل هذا، بل هذا ما كان يفعله عمر، فهو الّذي انقلب على أمير المؤمنين وخلع عنه عمامته ووضع حبلًا في عنقه وجرّه إلى المسجد عنوةً. ليس مِنَ الصواب أن يضرب أحد امرأةً ضعيفةً ويحصرها بين الجدار والباب ويُسقط جنينها، نعم لا يُعدّ ذلك العمل الّذي قمتَ به فضلًا يا عمر، بل إن كنتَ رجلًا فتعال وتنازل مع زوجها في الشارع. فليس مِنَ الرجولة أن تضرب امرأة لا حامي لها وتفتخر بذلك. ثمّ يأتي ذلك الشاعر العربيّ لينشد شعرًا حول ذلك أمام الملك فاروق ويعدّ هذا العمل مِنْ مفاخر عمر حيث يقول [ما معناه]:
مَنْ مثْل عمر يستطيع أن يضرب بنت النبيّ على جنبها | *** | مِنْ أجل الحفاظ على وحدة المسلمين.٢ |
[أقول:] هل يُحسب هذا فضلًا، بل لو كنتَ شجاعًا لثبتَّ مع أولئك الثمانية أو التسعة حول رسول الله يدافعون عنه في معركة أحد٣، لا أن تهرب أنت وأبو بكرٍ وعثمان إلى خارج المدينة، فلم يركم أحد لمدة ثلاثة أيّام، ثمّ أرسلتم شخصًا ليتحرّى الأوضاع ويجلب لكم الأخبار، فلمّا وجدوا الأمور طبيعية جاؤوا إلى رسول الله وهم يقولون: عزّ علينا فراقك يا رسول الله !! كما أنَّك لم تخرج لعمرو بن عبد ودّ في يوم الأحزاب لتبارزه٤،[حيث نزلت الآية] {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ باللهِ الظُّنُونَا}٥، إنَّها آية عجيبة جدّا، فالآية تقول: لقد اقتربت القلوب مِنَ الحناجر في معركة الأحزاب، أي لقد حصل لديكم اضطراب شديد في ذلك اليوم. في بعض الأحيان عندما يخاف الإنسان يصعد الحجاب الحاجز٦ إلى الأعلى ويضغط على الحلقوم، هذا هو معنى وبلغت القلوب الحناجر، أي: تضطرب حالة الحجاب الحاجز، ويخرج عن وضعه الطبيعيّ فيضغط على الحلقوم ويخنقكم؛ فعندما يحصل مثل هذا الخوف للإنسان، يضيق نفَسه {وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا}، أي تشكّكون في وجود الله حينها، وكانوا يفكّرون في تسليم النبيّ إلى الأعداء للتخلّص مِنْ شرّ ما يحصل والاستراحة مِنْ هذا الأمر. فقد كانوا يتحدّثون فيما بينهم حول تسليم النبيّ فيقولون: لقد تعبنا مِنْ هذه الحروب، فمِنْ معركة بدر إلى معركة أُحُد – ثمّ الأحزاب مِنْ بعدها – فإن هجموا علينا هذه المرّة سوف يستأصلوننا. مَنْ كان قد وقف في وجه الأعداء في ذلك الوقت، ألم يكن هنالك رجال وقفوا في وجه الأعداء غير أمير المؤمنين عليه السلام الّذي جُرح فيها.
وقولة لعلَيّ قالها عمر | *** | أكرم بسامعها أعظم بملقيها |
حرقتُ دارك لا أبقي عليك بها | *** | إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها |
ما كان غير أبي حفص يفوه بها | *** | أمام فارس عدنان وحاميها).(م) |
لا تتصوّروا أنَّ أمير المؤمنين عندما يبرز للقتال كانت الملائكة تعاضده، فيقف ستة منهم على يمينه وستة على يساره، وكان هناك مَنْ يزيل العوائق عن طريقه ويفسح له الطريق، كلّا، لم يكن الأمر كذلك، بل كان يتلقّى ضربات السيوف وطعنات الرماح، وإلّا لما كان له فضل في قتاله؛ لقد نزل سيف عمرو بن عبد ودّ على رأسه، فقسم خوذته نصفين، واجتازت العمامة الّتي عمّمه بها النبيّ فوصلت الضربة إلى رأسه وسال منه الدّم – وكان ذلك في الموضع نفسه الّذي ضربه عليه ابن ملجم۱ في ليلة التاسع عشر مِنْ رمضان، أي إنَّ ضربة ابن ملجم قد وقعت في نفس الموضع الّذي ضربه عليه عمرو بن عبد ودّ – وعندما عاد مِنْ قتاله داو النبيّ جرحه بالمراهم وشدّ رأسه. نعم، لم يكن الأمر بالشكل الّذي كانت فيه الملائكة تحيط بأمير المؤمنين وتحمله على سرير مريح.
فيا أيّها الخونة ويا فاقدي الرجولة، ما الّذي دعاكم إلى معاملة زوجة علِيّ [علیه السلام] بتلك المعاملة القاسية بعد وفاة النبيّ ؟! وقد رأيتم جميعًا أنَّ علِيّا هو المدافع الوحيد عن حرم النبيّ، فهل أصبح عليّ كذّابًا الآن ؟! نعم كانوا يقولون مثل هذا الكلام كقولهم: إنَّ علِيّا يكذب. لقد ألصقوا مثل هذه التهمة بأمير المؤمنين !
دعا أمير المؤمنين في إحدى المجالس عددًا مِنَ الأشخاص المتواجدين واحدًا واحدًا للشهادة، فقال لهم: هل كنتم حاضرين في ذلك المكان – في قضية ذُكرتْ بالتفصيل وذكرها المرحوم العلّامة في مؤلّفاته وقد ذكرتُها أيضًا في شرح حديث عنوان البصريّ – وشهدتم تلك القضيّة؟ فتعالوا واشهدوا بذلك وأخبروا بقيّة الناس. فنادى على أنس بن مالك – الّذي كان أحد أصحاب رسول الله فقد صاحبه عشر سنوات في المدينة، ويعتبره أهل السنّة أحد فقهائهم ومراجعهم الرئيسيّين الّذين يأخذون عنهم الحديث والمسائل الفقهيّة – فطأطأ أنس رأسه ولم يتكلّم بشيء، فقال له أمير المؤمنين: ألا تتذكّر هذا الأمر يا أنس. قال أنس: لا، لا أتذكّر فقد نسيته. فقال له أمير المؤمنين: إن كنت كاذبًا في قولك أنَّك نسيت، ولا تريد أن تدلي بالشهادة، فلْيبتلك الله ببرص يُصيب رأسك بحيث لا تواريه العمامة، ولْيبتلك الله بالعمى. فلم يبرح مكانه إلّا وأصاب جبهته البرص، ثمّ عمي بعد عدّة أيّام. ثمّ يُقال أنَّه تاب في آخر عمره.٢
والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تجري الأمور بهذا الشكل ؟! ولماذا يعمل الإنسان على التغطية عندما يرى حقّا يُهضم ؟! لماذا يحصل هذا وما هو السبب وراءه ؟! وأيّ سؤال هذا الّذي لم نعثر له على جواب حتّى الآن ؟! نعم، أيّة قضيّة هذه ؟! ففي أيّ تصرّف للعظماء رأينا شيئًا كهذا ؟! أتلاحظون ؟!
قلتُ للأعزّة والأحبّة في المجلس السابق أنَّ السلوك لا ينسجم مع الألاعيب السياسيّة والحيلة والخداع والتصادم مع الآخرين. ومعرفة هذه الأمور لا تحتاج إلى كثير تأمّل، فعدم انسجام هذه الأمور مع طريق السلوك لهو أمر واضح للعيان. إذن فأوّل خطوة للسالك في هذا الطريق يجب أن تكون خطوة صادقة، وعليه أن يختبر نفسه في ذلك، وأوّل اختبار يتمثّل في أن يسأل نفسه: هل يوجد في مذهب الإمام الصادق عليه السلام – ما نراه [عند البعض اليوم] – طردٌ وإهانة وعدم السماح للمناقشة وما شاكل ذلك ؟! كان الإمام الصادق عليه السلام يتباحث في المسجد الحرام مع ذلك الزنديق الّذي لا يؤمن بالله مِنَ الأساس، ولم يحصل أن قال الإمام لأحد منهم: إنَّك ملعون أيّها الزنديق فاخرج مِنَ المسجد أوّلًا فأنت تنجّسه. أو قال له: أنا لا أتكلّم معك لأنَّك لست إنسانًا ولأنّك زنديق. كلّا، لم يحصل شيء مِنْ هذا، بل كان الإمام يقول: إن كان لديك ما تطرحه فتعال واطرحه.
نعم، فكلامي هو عن وجوب كون الخطوة الأولى للسالك صادقة. فهل فعل ذلك أولئك الّذين يدّعون أنَّهم يسلكون هذا الطريق ؟! وهل حضروا عندي وقالوا لي: هذه أدلتنا وتلك أدلّتك [فلننظر فيها] ؟! هل فعلوا مثل هذا ؟ هذا ما كنتُ أريد قوله. فإن لم يحضروا، فاعلموا أنَّهم غير صادقين، بل هم مِنَ الخائنين للمرحوم العلّامة ولهذه المدرسة، كائنًا مَنْ يكون، إذ كلّ مَنْ كان كذلك فهو خائن للمرحوم العلّامة ولهذه المدرسة، وسيقتصّ الله منه يوم القيامة.
لقد عانى المرحوم العلّامة ما عاناه مدة اثنين وسبعين سنة، حتّى احدودب ظهره وكُسرت عظامه وأصاب عينيه وقلبه ما أصابهما، فلِم حصل كلّ ذلك ؟ إنَّه حصل مِنْ أجل أن يُعرّف الناس العرفان بكلّ صدق، لا باستخدام الحيلة والخداع والنفاق والرياء واستغفال الناس بإطالة اللحى. نعم، لم يستخدم مثل هذه الأساليب، بل تعامل مع الناس بكلّ صدق، فقال: هذا أستاذي ووليّ، فاختبروه واسألوه، ثمّ إن شئتم قبلتم به أو رفضتموه . ولقد بيّن ذلك في الكتاب الّذي ألّفه، فتفحّصوا لتروا هذا الأمر بأنفسكم؛ فهل كان قد قال لا تسألوا عن هذا الأمر، فليس مِنَ المصلحة أن تبحثوا لأنَّ حال أستاذي السيّد الحدّاد لا يساعد على ذلك ؟! هل حصل أن طرح مثل هذا الكلام في مكانٍ ما حتّى الآن ؟! هل قال لأحدٍ: ما دمتَ قد رأيت منامًا أو مكاشفة، فعليك أن تعمل بها ؟! [أقول:] مَنْ كان قد رأى منامًا، فذلك له، وهو لا يُلزم الآخرين في شيء لأنَّهم لم يروا مثله. ولهذا السبب نقول أنَّ مدرسة العرفان، ومدرسة المرحوم العلّامة هي مدرسة الصدق.
كان المرحوم العلّامة قد قال للسيّد إبراهيم الكرمانشاهيّ حفظه الله، فهو لا يزال على قيد الحياة: تعال يا سيّد فاختبره واسأله۱. ألم تقرؤوا ذلك في كتاب (الروح المجرّد)، أم أنّني اختلقته ؟! فقال له: تعال واختبره واسأله، فإن لم تقتنع فلا تقبل به. نعم، هكذا كانت تصرفات المرحوم العلّامة، وهكذا كانت أفعاله وأقواله. وأنا أقول لكم هنا: لا تتوقّعوا أنَّني اعتقدتُ بأبي بسهولة، بل اختبرته ألف مرّة واختبرتُ السيّد الحدّاد أيضًا، نعم لقد اختبرته واختبرت أبي كذلك.
قبل شهر أو شهرين قلتُ لأحدهم فيما يتعلّق بموضوع ما: ما هذا الكلام الّذي تتكلّم به معي يا فلان، وما هي كلمات الأطفال هذه الّتي تتفوّه بها ؟! فطريق معرفة الحقيقة لا يتجاوز العلم القطعيّ أو الشهود القطعيّ، فعندما تعترف أنت بانعدام هذا وذاك، فكيف لي أن أقبل ما يُطرح ؟! أمّا ما يتعلّق بالعلم القطعيّ، فأنت الّذي نفيتَ وجوده، وأمّا ما يتعلّق بالشهود، فقد ذكرتُ لك عدة موارد تؤيّد خلافه، فما الّذي يبقى – والحال هذه – فلا علم قطعيّ ولا شهود فما الّذي عليّ أن أقبله ؟! فإنَّ وضوح هذه القضيّة كوضوح كون حاصل ضرب الاثنين في الاثنين يساوي أربعة.
من آن نيم كه دهم نقد دل به هر شوخى | *** | در خزانه به مهر تو و نشانه توست٢ |
[يقول: أنا لست بالرجل الّذي يُسلّم قلبه لكلّ هراء، بل إنَّ بابه مختوم بختمك، ولا يُفتح إلّا بأمرك]
فأنا لا أستطيع أن أتّبع أيّ شخص، ولا يمكنني أن أثق بأيّ إنسان كائنًا مَنْ يكون، خصوصًا في تلك البيئة الّتي هي سوق رائجة لمثل ذلك الكلام وينزل فيها يوميّا كلُّ متاع استجدّ لأحدهم يبتدع فيها ما شاء مِنْ بدعٍ. نعم هكذا هو الأمر.
إنَّ مدرسة المرحوم العلّامة هي مدرسة الصدق، وكان يتعامل مع الآخرين بصدق. وأنا أسأل الآن: لو سألني الله تعالى يوم القيامة، وأنا على عقيدتي هذه، لماذا لم تتّبع الجهة الفلانيّة، فأجبته بأنَّني لم أتّبعها بسبب معتقداتي الّتي أراها صادقة، فإن قال لي حينئذٍ لقد أخطأت في ذلك، ألن يكون الله قد ظلمني عندها ؟! نعم، سيكون الله ظالمًا [والعياذ بالله]، وحينئذ هل سيكون لآية {فَلِلَهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ}٣ مِنْ معنى. إنَّ حديثي مع الكثير مِنَ السادة كان بهذا الشكل؛ فإن قدّم أحد أدلّة قطعيّة على أمر ما ولم يقبله الآخرون، فبأيّ دليل شرعيّ – بينهم وبين الله – يقومون بطرده وتعنيفه وإخراجه مِنْ هذه المدرسة. أنا أحد تلك الأدلّة القطعيّة، فتعالوا وأجيبوا على أسئلتي، نعم تعالوا، فأنا لم أهرب منكم، وها أنا في إيران وفي مدينة قم، وإن وجهتم دعوة لي آتيكم أينما شئتم وفي أيّ مجلس تختارونه.
جاءني قبل مدّة أحد الرفقاء مِنْ أهالي مدينة طهران، والّذي تربطني به رابطة صداقة منذ الطفولة، وليس له ارتباط وثيق ببقيّة الأفراد، فقال لي: رأيت المرحوم العلّامة – حصل ذلك قبل عدّة أشهر – في المنام، وكان كثير الانزعاج بسبب ما يحصل مِنْ اختلاف بين الأفراد وقال: لماذا يحصل هذا ولماذا تحصل هذه الخلافات ؟! ثمّ قال لي هذا الصديق أمرًا آخرًا لا أريد أن أقوله، لأنّي لا أريد أن أبيّن المصداق كما ذكرتُ آنفًا. أمّا فيما يتعلّق بي فقال: هل أنت مستعدّ لأن تجتمع مع إخوتك في مجلس واحد، وتقوم بطرح هذه الأمور ؟ قلتُ له: كم الساعة الآن ؟ قال: الساعة هي الثانية عشر والربع. قلتُ: أنا أعطيك وكالة عنَّي في هذه الساعة، فذهب بعنوانك وكيلًا عنِّي، وحدّد [معهم] المكان والظرف والمجلس نيابة عنِّي، فهل يوجد ما أستطيع فعله أكثر من هذا، وإن كان لديك اقتراح آخر فاذكره. فقال: يا له مِنْ أمر عجيب جدّا، أهذا هو موقفك، فأنا كنت قد سمعت شيئًا آخرًا .. قلتُ لكم إنَّني لا أستطيع أن أذكر القسم الآخر مِنْ الحديث، ولكن نعم لقد قلتُ له: أنا أعطيك وكالة عنَّي، وأنا مستعدّ للحضور في أيّ مكان وأيّ مجلس يتمّ تشكيله، فأقوم بطرح هذه المواضيع ليرى الآخرون بأنفسهم، هل أنا الصادق أم الآخرون، وليحكم بيننا أفراد غرباء، ولو كانوا حليقي اللحى، وليقضوا بيننا، وسوف أقبل بقضائهم .. فما الّذي عليّ فعله أكثر مِنْ ذلك ؟!
كان الحديث حول ضرورة أن تكون حركة الإنسان حركةً صادقةً منذ البداية، وإلّا لن يصل إلى أيّة نتيجة، لماذا ؟ لأنَّه:
خشت اول چون نهد معمار كج | *** | تا ثريا مى رود ديوار كج۱. |
[يقول: لو أنَّ البَنّاء وضع اللَّبِنَة٢ الأولى بشكل منحرف، فسيكون البناء أعوجًا، حتّى وإن قُدّر له أن يبلغ الثريا في ارتفاعه)].
فعندما يكون الإنسان غير صادقٍ في خطوته الأولى فسيكون غير صادقٍ إلى آخر المطاف.
قلت لأحدهم يومًا: أنا قلتُ كذا للآخرين ولأصدقائي ولرفقاء الطريق. فقال: ولكن صديقك فلان قال عنِّي كذا وكذا. فقلتُ له: سأترك كلّ شيء، وأذهب في هذه اللحظة إلى مدينة قم، فسأعطيه رقم هاتفك لتتكلّم معه بنفسك. نعم هكذا أنا، فذهبت وتكلّمت مع ذلك الشخص، فقال لي: ولكنَّني لم أقل الكلام بهذه الكيفيّة. قلتُ له: لا شأن لي إن كنت قد قلت هذا الكلام أو ذاك، بل عليك أن تتصل تلفونيّا بالسيّد محمّد صادق، ولا شأن لي أنا بهذا الموضوع. فرأى الشخص أنَّ الأمر قد أخذ شكلًا آخر ..
چون گذارد خشت اول بر زمين معمار كج | *** | گر رساند بر فلك باشد همان ديوار كج |
هذا هو دأبي، فأنا أتكلّم بجدّية ولا أمزح، فهل كون الشخص مِنْ أصدقائي يجعلني [أتسامح معه]. نعم، كنتُ قد قلتُ لأخي أنَّني لا أتسامح في هذا الموضوع، فسأذهب إلى قم وأطلب مِنْ ذلك الشخص أن يتّصل بك تلفونيّا، وأترك أمره إليك.
التمرّد مِنْ طبع النفس الإنسانيّة
هكذا يجب أن يكون مسير الأفراد، وإلّا كان سيرهم بمثابة الدوران حول قرص الطاحونة، ويكون مجرّد تمضية وقت بلا طائل، لأنه حينئذ لا فائدة من كثرة العبادة وكثرة الدعاء وكثرة الأذكار والأوراد، فأيّ عبادة هذه وما فائدة هكذا عبادة؟! إنَّ عبادة الخوارج۱ كانت أكثر مِنْ عبادتكم وعبادتي، فقد كانوا يسهرون ليلهم بالعبادة حتّى الصباح. لا تتعجّبوا مِنْ هذا الأمر، فتلك هي طبيعة النفس الإنسانيّة، سأفشي لكم سرّا الآن: للنفس الإنسانيّة طبيعة تمرّد وعصيان واستنكاف مِنْ إطاعة الأوامر الإلهيّة، فإن شعرتْ النفس أنَّها قد كُلّفت بشيء مِنَ الله أو نُهيت عنه، ستجلس وتتأمل لترى كيف يمكن لها أن تتعامل معه؛ فإن استطاعت أن تتخلّص منه ستفعل، وإن رأت أنَّها تستطيع هضمه فستُنجزه. فعلى سبيل المثال: لو رأت النفس أنّ أداء ركعتي صلاة الصبح أمرًا بسيطًا فستأتي بهما، وكذا الأمر في صلاتي الظهر والعصر، أو رأت أنّه مِنْ قبيل التمارين الرياضيّة الّتي لا بدَّ مِنْ الإتيان بها أو أنّه كباقي الأنشطة البسيطة [فستأتي بها]. أمّا إن كانت تلك الأوامر أو النواهي تتعارض مع بعض التوجّهات النفسانيّة فيما يخصّ مثلًا علاقة الرجل بالمرأة، أو علاقة المرأة بالرجل، أو علاقة المرء بأقاربه وأفراد عشيرته، أو علاقته بالأفراد الآخرين، فستراه حينئذ يتعامل مع هذه المسألة تعامل الطفل في المدرسة، الّذي إن يأمره المعلّم بشيء أو نهاه عنه تراه يتظاهر بالمرض قائلًا: إصبعي يُؤلمني، أو يدي تؤلمني، فلم أستطع أن أكتب واجبي البيتيّ .. فيحاول أن يتهرّب مِنَ الموضوع بشكل أو بآخر.
هكذا هي طبيعة النفس الإنسانيّة، فهي تمتثل للأوامر والنواهي الإلهيّة فقط عندما لا يكون في تنفيذها مشقّة تُذكر، أمّا إنْ رأت فيها بعض المشقّة فستتملّص منها؛ فما الّذي ستفعله النفس حينها ؟ إنَّها ستُشغل نفسها بعمل آخر، فهي تعلم أنَّ ترك العمل بالأوامر الإلهيّة والامتناع عن نواهيه، يوجب سخط الله ويستلزم العقاب والعذاب. هذا مِنْ جانب ومِنْ جانب آخر، فهي ترى أنّ الإتيان بذلك العمل شاقّ عليها. فلذا تراها تُشغل نفسها بشكل أو بآخر، فتفعل كالنعامة الّتي تدسّ رأسها في الرمال عندما لا تجد طريقًا للفرار مِنْ يد الصيّاد. هذا هو محلّ الشاهد في قولهم: تدفن النعامة رأسها في الرمال لكي لا يراها الصيّاد.
هكذا يقوم الإنسان بخداع نفسه، والحال أنّ المشكلة الأصليّة تكمن في مكان آخر يا عزيزي. نعم، إنَّ المشكلة الرئيسيّة تكمن في التمرّد على الأوامر والنواهي الإلهيّة، تلك الأوامر والنواهي الّتي مِنْ شأنها أن تَعْبر بالنفس إلى آفاق أعلى. إلّا أنّنا نراه مِنْ أجل أن يجمع بين الأمرين يُشغل نفسه بالعبادة؛ فلمّا كان لا يستطيع أن يقبل كلام أمير المؤمنين ولا أن يطيعه، تراه يشغل نفسه بصلاة الليل ويطيل تلك الصلاة، [ولسان حاله يقول:] لا فضل لعليّ عندما يقف للصلاة في الليل، فها أنا أقوم بنفس العمل، وليس بالأمر المهمّ أن يكون علِيٌّ زاهدًا فأنا زاهد أيضًا فها أنا أكتفي بالخبز اليابس، حتّى يصل به الأمر إلى أن يرى نفس في مستوى الإمام !
إنَّ حالة عدم الانقياد وعدم الطاعة، واستبدال الفرائض بالمستحبات، تجعل مِنْ هذه المستحبات صنمًا يعبده عوضًا عن إطاعة الأوامر الإلهيّة وأوامر وليّ الله والإمام عليه السلام. إنَّ العمل الّذي كان حتّى الأمس مستحبّا أصبح اليوم صنمًا وعملًا محرّمًا. لأنك عندما تريد أن تتخلص من ثقل التكاليف التي يكلفك بها أمير المؤمنين عليه السلام فتهرب منها بكثرة صلاة اللليل فإنَّ ذلك الشخص الذي يمتنع عن تنفيذ أوامر أمير المؤمنين، فإنه لا يذهب إلى اختيار الأطعمة اللذيذة، والاعتناء بوضعه الدنيويّ بدلاً عن ذلك، لأنَّه يعلم بأنَّ أمير المؤمنين لم يكن كذلك. إنَّ هذا الأمر هو واحد مِنَ المهالك الّتي لا يُنجي الإنسان منها سوى الله، وهو أمر لا يتوفّق الإنسان فيه للتوبة إلّا إذا تخلّص منه بخطوة جازمة.
نماذج أخرى عن الصدق والحوار والمواربة واللجاجة
عندما تتخّذ النفس موقفًا معارضًا، وتحاول أن تستغلّ العبادة في هذا المجال، فلا ينفع معها غير سيف إمام الزمان ذي الحدّين، ولا يمكن لها أن تنجو مِنْ هذا الموقف إلّا بعناية ومدّد [خاصّين] مِنَ الله. إنَّ العبادة في تلك الحالة ستتحوّل إلى صنم، وهذا ما كان عليه الخوارج، فقد كان أكثرهم مِنْ ذوي الثفنات حيث تورّمت جباههم مِنْ كثرة السجود ومِنْ سجودهم على الحصى، غير أنَّهم في كلّ صلاة يصلّونها وركوع يركعونه، كانوا يزدادون عن أمير المؤمنين – وهو الوليّ الحيّ – بُعدًا. لماذا؟ لأنَّ صلاتهم تلك كانت تعمل على إحكام إقائهم على ما هم عليه، أي إنَّ هذه الصلاة الّتي يفترض أن تقرّب إلى الله، أصبحت بمثابة المسمار الّذي كلّما ضربته انغرس سنتيمترًا آخر في الأرض. فيا ليتك لم تضربه، فلعلّ أثر الضربة الأولى كان يمكن تُعالج بإخراجه مِنْ مكانه، أمّا ما يحصل الآن هو أنَّ هذه الصلاة تثبّته في مكانه أكثر وأكثر حتّى جعلته يقف ضدّ أمير المؤمنين في معركة النهروان.۱
لاحظوا كيف أنَّ قضية الصدق الّتي نتحدّث عنها تجد لها مصداقًا آخر هنا: فعندما ألقى أمير المؤمنين على الخوارج الحجّة، تراجع ثمانية آلاف مِنَ الاثني عشـر ألفًا الّذين كانوا هناك، أمّا الأربعة آلاف الآخرين فكانوا مِنَ الّذين انغرست مساميرهم إلى آخرها في الأرض. فعندما كان أمير المؤمنين يقول لهم: إن كان لديكم كلام يتعارض مع ما قلته، فتعالوا واطرحوه، وإن كنتم تجدون في كلامي خطأً، فبيّنوه لي. فكانوا يجبونه: لقد كفرت يا عليّ، ويجب علينا قتالك.
فعندما يصل الأمر إلى هذا الحدّ، فمِنَ المعلوم كيف ستكون العاقبة. ما الّذي يمتلكه أمير المؤمنين في دفاعه عن حقّه غير الكلام والتباحث، وأيّ طريق سيسلكه معهم غير محاولة إقناعهم، فهو لا يستخدم أسلوب الإجبار والهراوات، فهو ليس مِنَ الّذين يلجؤون إلى الهراوات واللعن والطرد وتحريم السلام على المخالفين والإعراض عنهم وما شابه ذلك. نعم لم يكن ممّن يستخدمون هذه الأساليب، بل كان مِنْ أهل البحث والمناقشة، فكان يقول لهم: تعالوا لكي نجلس ونتحدّث. فيُجيبون: لا يا علِيّ، لسنا مستعدّين لسماع كلامك.
ما الّذي فعله الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء ؟ كان يخطب في أتباع يزيد، وهم يضعون أصابعهم في آذانهم .. استمعوا له أيّها القوم، فكان عليكم أن تستمعوا لكلامه، وإن كان في كلامه كفر – والعياذ بالله – إلّا أنّهم قالوا: لا نريد أن نستمع إليه، ولا نريد أن نعرف ما يقول، نعم لا نريد ذلك أبدًا أبدًا. وبذلك أصبح معلوم أنَّ الطريق الّذي يسلكونه مخالفٌ.
ترسم نرسى به كعبه اى اعرابى | *** | كين ره كه تو ميروى به تركستان است۱ |
[يقول: أخشى أن لا تصل إلى الكعبة أيّها الأعرابيّ، لأنَّ الطريق الّذي تسلكه يؤدّي إلى بلاد الترك]
إذن فالخطوة الأولى والأساسيّة الّتي على السالك أن يخطوها هي الصدق، أي: يجب علينا – بيننا وبين الله – أن نتعامل بصدق ووفق معتقداتنا [الصحيحة]، فلا نُلقي بغشاوة على أعيننا ونكتفي بالقول: نأمل أن يكون الأمر بشكل آخر. وعندما تتّضح لنا الحقيقة علينا أن لا نضع رأسنا في التراب، بل علينا أن نجلس ونتحدث ونسأل لنعرف.
إنَّ التأريخ ثابت، والحقائق على ما هي عليها، ولكنَّنا نحن الّذين نحاول قلب الحقائق التاريخيّة، ونحاول أن نفسّرها بشكل مغاير للواقع، ونحن الّذين نسعى لتغييره. فنحن مَنْ يخون التاريخ، وإلّا فالتاريخ ليس بخائن؛ فهو ليس سوى ذلك المقطع الزمنيّ الّذي تحصل فيه الأحداث والوقائع، ولا مسؤوليّة ولا وظيفة له غير ذلك، فعلينا أن ننسجم مع التاريخ، لا أن نغيّره لكي يصبّ في مصالحنا، فعلينا أن لا نغير الحقائق والقضايا لتصبّ في صالحنا. إنَّ هذا هو معنى الصدق.
كان لأحد أصدقاء المرحوم العلّامة، وهو الحاجّ هادي الأبهريّ رحمه الله، عقائده الخاصّة، وكان صادقًا في طرح تلك العقائد، فعلى الرغم مِنْ بطلان اعتقاداته بشأن العرفان وعلى الرغم مِنْ كونه أميّ وأنّه كان محاطًا ببعض الشياطين، إلّا أنَّه كان يمتلك الخلوص والصفاء في أعماق قلبه. ففي الوقت الّذي كانت الشياطين تحيط به كان يعترض عليهم في بعض الأمور. لم يكن الحاجّ هادي راضيًا عن اتّباع المرحوم العلّامة للسيّد الحدّاد، وكان يقول: كيف للسيّد محمّد حسين، وهو بهذه المنزلة العلميّة، أن يتّبع الحدّاد الّذي لا علم له والّذي هو كذا وكذا. لقد كنت صبيّا حينها، ولكنَّني أتذكّر القضايا الّتي كانت تحصل جيّدًا. وكان المرحوم العلّامة يتحدّث معه بلسانه وبمقدار ما يفهمه، وكان يرى فيه الصفاء والإخلاص، ومِنْ أجل هذا لم يكن يتركه وحاله.
أتذكّر أنَّ المرحوم العلّامة في سفر الحجّ الّذي رافقته فيه، عندما كنتُ في الثامنة عشر مِنْ عمري، قد كتب له رسالة مِنَ المدينة على ما يبدو، حيث كتب المرحوم العلّامة في ذلك السفر عددًا مِنَ الرسائل العجيبة جدّا – ولا أذكر أنَّ مثل هذه المضامين العالية جدّا قد صدرت منه في غير هذا السفر، فقلّما يترشح عنه مثل ذلك – وذلك إلى اثنين أو ثلاثة أشخاص، وهي رسائل بحكم المستند التاريخيّ في عقيدته بأستاذه السيّد الحدّاد، فهي تُظهر منتهى خضوعه له وخشوعه أمامه، وذلك بسبب ما أدركه مِنْ معانٍ رفيعةٍ وانكشف له مِنْ حقائقٍ ساميةٍ عن السيّد الحدّاد. لقد كان المرحوم العلّامة رجلًا صادقًا، ولعلّي أستطيع القول بعدم وجود شبيه له في هذا المجال.
فالرسالة الّتي كتبها المرحوم العلّامة إلى الحاجّ هادي الأبهريّ في ذلك الوقت – وأتمنّى أن أحصل على تلك الرسائل وعلى هذه الرسالة بالخصوص – قال فيها: أيّها الحاجّ، أنا أكتب هذه الرسالة وأنا في الروضة المنوّرة – يبدو أنَّه كان في المدينة [المنوّرة] وهو الاحتمال الراجح – وأقول لك هذا حتّى لا تأتي يوم القيامة وتقول: لماذا لم تنبهني يا سيّد محمّد حسين – علينا أن نعرف هنا أنَّ المرحوم العلّامة كان قد عقد عقد إخوّة مع الحاجّ هادي الأبهريّ فكانوا إخوة في الإيمان – ولم توفِ بحقّ عقد الإخوة الّذي بيننا، فعليك أن تحذر مِنْ قدوم ذلك اليوم، وهو يوم القيامة، فترى أنَّ مَنْ كنتَ قد أمضيت عمرك في البكاء عليه بحرقة قلب – المقصود هو سيّد الشهداء، إذ كان الحاجّ هادي الأبهريّ مِنَ البكّائين، وبسبب هذا البكاء وكثرة توسّلاته حصلت له مكاشفات ومشاهدات –تراه يخاصمك بسبب ما تظهره مِنْ مخالفة الحقّ وعدم قبول ولاية السيّد الحدّاد ووقوفك في وجهه، نعم سيخاصمك سيد الشهداء وسيكون بمثابة عدوّك، لا بعنوان الشخص الّذي كنتَ قد بكيت عليه طوال عمرك.
ولقد نقل الحاجّ هادي هذه الحكاية بنفسه، وكان يبكي وهو ينقلها، وكان يقول: عندما وصلتني هذه الرسالة وأنا في أبهر۱، حصلتْ لي حالة بكاء شديد. كان عبد الله هذا أميّا لا يتمكن مِنْ قراءة الرسالة، وقد قُرأتْ له مِنْ قِبَل بعض الأشخاص. ثمّ قال: إنَّ السيّد محمّد حسين يؤدّي رسالة جدّه تجاهي. أتلاحظون كيف يأخذ الله بيد الإنسان الصادق في يومٍ مِنَ الأيّام. إنَّه يقول: إنَّ المرحوم العلّامة، بإرساله هذه الرسالة، يفتح طريق الهداية أمامي، فهو لم يفعل ذلك مِنْ أجل مصلحة دنيويّة فلم يكن لديّ ما يمكنني أن أعطيه إيّاه.
قال الدكتور (مهدي الآذر)، وهو الطبيب المعالج للحاجّ هادي، يومًا: ما الّذي تملكه يا حاجّ هادي، هل تملك أرضًا زراعيّة ؟ وما هو سرّ هذه العلاقة الّتي تربطك بالسيّد الطهرانيّ، حتّى يجلب لك الطبيب للمعاينة والمعالجة، فهل سجّلت أموالك وممتلكاتك باسمه ؟! كان الحاجّ هادي يضحك ويقول له: إنَّ علاقتنا هي مِنَ النوع الّذي لا يستطيع الآخرون فهمها !
لاحظوا كيف فعلتْ تلك الرسالة فعلها، فجعلته ينتبه إلى خطئه، ويبتهل إلى الله ويتضرّع، ولأجل إخلاصه هذا أخذ الله بيده وأنقذه. يقول المرحوم العلّامة: لقد انكشفت حقيقة المسألة للحاجّ هادي في أواخر عمره، فقَبِل [ولاية السيّد الحدّاد]. إنَّ صدقه هو الّذي أنقذه، فعلى الإنسان أن يكون صادقًا.
كن صادقًا وافعل ما شئت
قلتُ لأحد الأصدقاء قبل فترة: حتّى لو كنت تعيش مع عمر، فعليك أن تكون صادقًا معه. نعم لا تخدع نفسك وكن صادقًا. كن صادقًا وعِش أينما تريد، نعم بشرط أن تكون صادقًا، على أنَّك إن كنت صادقًا فلا يمكن لك بالطبع [ أن تعيش مع أيٍّ كان]. كن صادقًا واذهب أينما أردت. فعلى الإنسان أن لا يخدع نفسه ولا يغشّها، ولا يجعل علاقته مع الله مبنيّة على المشاعر، فسيأتي اليوم الّذي تذهب فيه هذه المشاعر جانبًا. لقد لمست هذه الأمور الّتي أقولها لكم بنفسي، نعم لقد جرّبتها بنفسي، ولو كان بإمكاني أن أفصح عنها لكم لأفصحت، ولكن اعلموا أنَّني قد اختبرتها بنفسي وأصبحتْ مِنَ الأمور المُسلّمة بالنسبة لي.
إن جعل الإنسان دينه وعلاقته مع الله مبنيّة على العواطف، لا على أساس القواعد الصحيحة، وجعل إلهه المهيمن على حياته هو الله الّذي يرتبط به بمصلحة، فسيأتي عليه ذلك اليوم الّذي تنقطع فيه هذه العلاقة، وسيذهب إله المصلحة هذا جانبًا، إذ لم يكن في حياته وجود لله. فأنت تقبل الآن ذلك الإله الّذي لا يعرّضك إلى هذا الموقف وذاك ويفتح لك هذا السبيل وذاك، وبما أنَّ الموقف قد وصل إلى نهايته لذا فليس لديك الآن أي إله، فستصرخ حينئذ وتصيح: {يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}۱، نعم هذا ما يقوله أهل جهنّم، يقولون يوم القيامة: لقد فرّطنا في جنب الله ولم نؤدّ حقّه، لقد كان الله إلى جنبنا ولم نراعه، وكان الله معنا ولم ننتبه إليه، بل صرفنا أذهاننا إلى جهات أخرى وتوجّهنا نحو العلاقات الدنيويّة، فكنَّا نمتنع عن قبول أمر ما حرصًا على علاقتنا بأخينا، غير عالمين أنَّ هذا الأخ سيتركنا في يوم مِنَ الأيّام – وهذا ما حصل – وحرصًا على عدم التفريط [بعلاقتنا] بأختنا أو أمّنا أو أبينا. كلّا يا عزيزي، فأبوك وأمّك سيُدفنون تحت التراب يومًا، إن لم تصدّقوا فاختبروا ذلك بأنفسكم.
الموت يداهمنا فعلينا أن نطلب ما له البقاء
هل كنَّا نتوقع موت المرحوم العلّامة [بهذه العجالة]. كنتُ أرافق المرحوم العلّامة إلى المستشفى في السنوات الثلاث قبل ارتحاله، كان لا يستطيع النوم ليلًا مِنْ شدّة الألم فيناديني: أنائم أنت أم مستيقظ ؟ فحتّى إن كنتُ نائمًا كنتُ أقول له: بل أنا مستيقظ. فيقول: أنر المصباح إذن. فأنير المصباح له، ثمّ يقول لي: أقرأ لي شيئًا مِنَ (مثنوي)۱. كنت حينها قد جلبت كتاب (مثنوي) معي للمطالعة، وخلال قراءتي له صفحة مِنْ (مثنوي) كان يقول لي أن اقرأ بلحن ويصحّح لي قراءتي فيقول: عليك أن تمدّ في هذا المورد، وعليك أن تتوقف قليلًا هنا .. وعلى أيّة حال، فبالرغم مِنَ الألم والمرض إلّا أنّه كان وقتًا مثمرًا، فكنتُ أنفرد به وأسأله عن أيّ سؤال مِنْ تلك الأسئلة الّتي كانت عالقة في ذهني، فكان يجيبني عليها ويشرحها لي.
وفي إحدى الليالي، وبمناسبة الحديث عن موضوع ما، قال لي: لقد متُّ في هذا المرض، وتمت إعادتي للحياة، وأُعطِيت فرصةً قصيرة، وقيل لي: عليك أن تستغلّ هذه الفرصة بالكامل مِنْ أجل أن تُكمل مؤلفاتك بقدر استطاعتك، فليس لديك المزيد مِنَ الوقت. ثمّ أضاف شيئًا آخر.
كنتُ أتصوّر أن تمتدّ هذه الفترة إلى عشرة أو خمسة عشر سنة على أقلّ تقدير، فكنتُ أقول [في نفسي]: لعلّه يقصد أنَّ المدة ستكون عشر سنوات [مثلًا]. وما كان يدريني أنَّها ستدوم ثلاث سنوات [فقط]. وبينما كنتُ في طهران في ليلة السبت، جالسًا مع بقيّة إخوتي – مع أخي الأكبر، وأخي الأصغر منَّي، أمّا أخي السيّد عليّ فكان في مشهد – وذلك بعد عودتنا للتوّ مِنَ سفر إلى أصفهان على ما يبدو، وإذا بالهاتف يرنّ وكان اتصالًا مِنْ مشهد فقالوا: إنَّ أباكم يسأل عنكم، ويقول أنّه يجب أن تعودوا فورًا. فذهبنا إلى مشهد، وعندما وصلنا كان الأمر قد ... لم نكن نحتمل ذلك ..
إنَّ الموت يداهم الإنسان أيّها السادة، وهو أمر واقعيّ، فقد داهم أشرف المخلوقات وأشرف الممكنات وهو النبيّ الأكرم، كما داهم أمير المؤمنين، وسيداهم إمام الزمان، وكذلك بقيّة الناس. أترون ! فعلينا إذن أن نطلب الّذي لا يموت، والّذي لا يذهب بذهاب جسد النبيّ تحت التراب، والّذي يبقى بعد مقتل سيّد الشهداء [وهو الحقّ]، فسيّد الشهداء باقٍ ببقاء الحقّ، والّذي دُفن تحت التراب هو جسده فقط، أمّا روحه وولايته فباقية وهي موجودة الآن في هذا المكان أيضًا. نعم علينا أن نطلب الحقائق، ولا فرق فيما إن كانت تلك الحقائق هي الله أو الولاية، فنحن نطلب كلّ ما هو باقٍ، نعم علينا أن نطلب ما له البقاء، ولا نخدع أنفسنا بطلب الفاني، ولا نربط أنفسنا به.
كنت أستمع إلى الأخبار هذا اليوم، فسمعتُ في حدود الساعة الثانية إعلان وفاة السيّد مهدي الروحاني رحمة الله عليه، وكنتُ قد سمعت أنَّه كان مريضًا. لقد كان رجلاً نقيّا جدّا وفاضلًا ومجتهدًا، وكان مخلصًا وصافيًا وصادقًا، نعم لقد كان صادقًا. فهل كان مِنْ أهل العرفان ؟ كلّا، لم يكن كذلك، فلم يكن مِنْ أهل العرفان ولا الفلسفة، ولكن عندما كان المرحوم العلّامة يأتي إلى قم غالبًا ما كان يذهب لزياته في بيته وكنت أصاحبه، لماذا ؟ لأنَّه كان إنسانًا نقيّا وصادقًا. فهل يجب أن يكون الإنسان مِنْ أهل العرفان لكي نقيم علاقة معه ؟! وهل نزلت آية في القرآن تصـرّح بضرورة أن يكون جميع الناس مِنَ العرفاء والسالكين ؟! فهل نحن طائفة مصطفاة ومتميّزة عن الآخرين ؟! فقد كان رجلًا مستقيمًا في أمره، محترمًا، مؤمنًا، مخلصًا، صافيًا .. نسأل الله أن يحشره مع الأولياء.
هل يُخبر أحد بالموت قبل حلوله ؟ كلّا، بل يأتي فجأة فيقول: تفضّل، أهلًا وسهلًا بك. أقسم بالله – وأنا الآن أتكلّم معكم – أنَّني لا أعلم شيئًا عمّا سيحصل لي في الغد، نعم أقسم وأقول: والله وبالله – ووقت الغروب يقترب الآن وعلَيَّ أن أنهي حديثي وأرى إن كنتُ صادقًا معكم أم لا – ليس بالضرورة أن أعلم ما سيحصل لي في الساعة القادمة ولا داع يوجب ذلك. نعم، يجب علَيّ الآن في وضعي هذا أن أتفحّص كوني صادقًا مع المجريات أم أنّني أُخفي الحقائق وأغضّ الطرف عنها وأعبر عليها. اعلموا أنّه في الوقت الّذي نريد أن نتملّص مِنْ مسؤولياتنا وأن لا نسمع الكلام، نكون قد خُدعنا. فلا تعرّضوا أنفسكم للخداع، هل إلتفتم !
إنَّ الصدق يمثّل الخطوة الأولى في طريق السلوك. هناك الكثير مِنَ المدارس، وهنالك الكثير مِنَ الادّعاءات، والكثير مِنَ الدعوات للالتحاق بها، فلماذا اخترنا مدرسة عرفان المرحوم العلّامة مِنْ بينها، لماذا ؟ لأن هذه المدرسة مبنيّة على الصدق، وهي مدرسة صحيحة وواضحة ومتطابقة [ للواقع].
كان جدّي المرحوم الحاجّ معين رحمه الله، يمتدح شخصًا يومًا ويقول عنه بأنَّه قد تجاوز نفسه وما شابه ذلك. فقلتُ له: لا يا جدّي، إنَّ الأمر ليس بهذا الشكل. فقال: أنت مخطئ، فهذا الرجل قد تجاوز نفسه، وفلان يقول ذلك أيضًا. قلتُ له: لا شأن لي بما يقوله فلان وفلان، فأنا قد رأيت منه أشياءً بنفسي، فلا يهمني ما يقوله الآخرون وأنا لم أكن هناك لأسمع منه صحّة ما يُنقل عنه،فأمثال هذه الحكايات تُنقل بالآلاف عن الناس، أمّا بالنسبة ليومِنْ خلال معاشرتي له أراه إنسانًا غير صادق. إلّا أنّ جدّي أصرّ قائلًا: أنت مخطئ فيما تقول. فقلتُ له: حسنًا، سأريك ذلك يومًا.
وفي أحد الأيّام الّتي زرت فيها جدّي، اتفق وجود ذلك الرجل عنده، فتكلّم الرجل بكلام قبيح عن الروحانيّين، وكان يذكرهم بكنايات غير مناسبة، فانفتح باب الحديث بيني وبينه نتيجة لذلك، وبما أنَّني طالب علم خضتُ في البحث معه بطريقة البحث الحوزويّ، ولم يكن متوقعا أن أرِدَ في البحث بهذه الطريقة، وكان يتوقّع أن أكون متواضعًا في حديثي معه، ولكن لم أكن كذلك فانزعج كثيرًا، وطغت عليه الأمور النفسيّة وبدأ يتكلّم بشكل مختلف فيقول: يجب على طالب العلوم الدينيّة أن يكون مؤدّبًا، وأن يكون كذا وكذا. فقلتُ له: ما الّذي جرى أيّها الحاجّ، فأنا لم أقل ما يستوجب أن تردّ عليَّ بهذا الشكل، أنا قد طرحتُ أمرًا فأجبني عليه. قال: إنَّ أباك مؤدّبٌ جدّا. فقلتُ له: وأنا إنسان مؤدّبٌ أيضًا، غير أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يغضّ الطرف عن بعض ما يُطرح. فتكلّم وتكلمتُ، واتخذتُ موقفًا صلبًا تجاهه، وبعد مضيّ فترة على الكلام أظهر الرجل ما كان يخفيه، فقال لي كلامًا فلم أردّ عليه، وعند انتهاء كلامه التفتُّ إلى جدّي وقلتُ له: أرأيت يا جدّي – ولم ينبس أحد مِنَ الحاضرين ببنت شفى – أرأيت كيف يسكت أمام الحقّ، وعندما لا يجد جوابًا يوجّه للطرف المقابل كلامًا فاحشًا، فهل رجل كهذا يكون قد تجاوز النفس؟! هل المرحوم العلّامة مثله، وهل كان يجيب بمثل هذا عندما يُسأل ؟! هل يستطيع كلّ أحد أن يتجاوز نفسه، فهل هو بالأمر السهل ؟! وهل يستقم أمر المرء بمجرد التفاف عدد مِنَ الأشخاص حوله ؟! فأيّ كلام هذا ؟! فقلتُ لجدّي: أترى يا سيّدي، وها قد حصل كل شيء أمامك. فلم يستطع حينها أن يقول شيئًا، وكان يرى أنَّ الحقّ معي، فعندما كان يعجز ذلك الرجل عن الإجابة يبدأ بالسبّ والطعن.
هنالك مطالب أخرى كنتُ أريد أن أطرحها، غير أنَّ الوقت قد انتهى. وسأتحدّث في المجلس القادم عن ظروف الصدق، وعن المعايير التي يمكّن للإنسان اعتمادها لاختبار نفسه. إن شاء الله فلْتشملنا جميعًا عناية حضرة الحقّ، ولْتحفظنا يد الولاية في جميع الأوقات مِنَ الانحراف عن الصراط المستقيم، ولْتثبّت أقدامنا بشكل دائم على هذا الصراط.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد