المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1430
التاريخ 1430/09/18
التوضيح
هو العليم
إن كان العصيان في النيّة فهل كلّ ما يتحقّق في الخارج خير؟
هل ما أصاب الإمام الحسين عليه السلام خيرٌ أم شرٌّ؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ ق – الجلسة العاشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
إذَا رَأیتُ مَولاي ذُنُوبِى فَزِعتُ، وَإذَا رَأَيتُ كرَمَك طَمِعتُ فَإن عَفَوتَ فَخَيرُ راحِمٍ وَ إن عَذَّبتَ فَغَيرُ ظالِم.
عندما أنظر يا مولاي وسيّدي إلى ذنوبي أقع في الفزع، وعندما أنظر إلى عظمتك وكرمك أصاب بالطمع، فإن عفوت فأنت أرحم الراحمين وألطف الملاطفين، وإن عذّبت فلست بظالم لعبادك، ولم تعذّبهم بغير استحقاق منهم للعذاب.
لقد طُرحَت للرفقاء بعض الحقائق حول مسألة العقاب والثواب والمعصية والطاعة، وأعتقد أنّ الأمور صارت واضحة من وجهة نظر كلاميّة حول موضوع العقاب والثواب، وأنّهما لا يترتّبان على الفعل الخارجيّ بعينه. وأنّ الفعل الخارجيّ حقيقة من الحقائق الوجوديّة والمتحقّقة كواحدة من مظاهر الوجود. وأصل الوجود خير، وهو بنفسه منشأ الخير، وجميع آثار الوجود هي آثار خيّرة.
هل ما أصاب سيّد الشهداء خير أم شرّ؟
تلك الحادثة التي وقعت لسيّد الشهداء عليه السلام هل كانت خيرًا أم شرًّا؟ فهل هذه الحادثة في حدّ نفسها وهذه الشهادة بهذه الطريقة لا مجرّد الشهادة، بل الشهادة بهذه الكيفيّة وبهذه الأحوال وبهذه الخصوصيّات كانت خيرًا أم شرًّا؟ هل كانت قبيحة وغير مرغوب بها ومرفوضة؟
الجواب الأوّلي: شرّ
في الجواب للوهلة الأولى وابتداء جميعنا نقول: كانت قبيحة. ولا شكّ في ذلك، فقتل إنسان بريء قبيح. وهذا الفعل فعل غير جيّد وقبيح ومكروه ومنكر وباطل. هذه هي النظرة الأولى للمسألة، ولا بدّ أن تكون هكذا، فمن أرفع من الإمام الحسين؟ وما هو العمل الأقبح من هذا العمل؟! لا شكّ في ذلك.
وقتل أمير المؤمنين عليه السلام واغتياله، إنسان بريء أثناء الصلاة في المسجد وفي محراب مسجد الكوفة، هل قتله هذا عمل جيّد؟ هل هذا العمل مستحسن؟! هل يقول الناس لفاعله أحسنت؟! أم أنّه قبيح في نظرهم؟
لا شكّ أنّ هذا العمل قبيح؛ فحرمان المجتمع من حاكم كأمير المؤمنين عليه السلام، حاكم الإسلام ليس بالعمل الصائب ولا هو عمل مرغوب به، والقضاء على حياة إنسان وإزهاق روحه عمل قبيح جدًّا، ولا يشكّ أحد في ذلك، حتّى من لا يعتقد بالله يرفض ذلك، والإنسان الماديّ يرفض ذلك، والصغير والكبير وأتباع أيّ دين ونحلة يقولون: ما ذنب هذا المقتول بهذه الطريقة؟ ما هي الجريمة التي ارتكبها الإمام الحسين عليه السلام؟ قال: نحن لا نرضى بيزيد. فليكن! أفهل يجب قتل كلّ من لا يرضى بيزيد؟! هل يجب سبي نسائه وأطفاله؟! فأيّ دين وأيّة ملّة وقانون في وجدان الإنسانيّة يجيز هكذا أمرًا، وأنه إذا قال إنسان لآخر: أنا لا أرضى بك يقول: اقتلوه؟ كلاّ فهذا باطل!
وأمر الإمام السجّاد عليه السلام وأمر الإمام الباقر عليه السلام، وأمر الإمام المجتبى عليه السلام انظروا إلى كلّ واحد من هؤلاء لا أحد من الحاضرين يقول إنّ ما حدث لهم كان خيرًا وصلاحًا ورضا لله وكان من الجيّد أن يحدث، شكرًا للجميع إذا قالوا ذلك وفتحوا هذا الباب! لقد قتلوا الإمام الحسين فنأتي لهم بهديّة وتحفة. كلاّ فعملهم باطل ومرفوض ومن وجهة نظر الإسلام والفطرة والوجدان هذا العمل قبيح.
الجواب الدقيق: خير
ولكنّ إذا ما دقّقنا قليلاً في هذه الحادثة وفي هذا الموضوع لرأينا أنّ الأمر ليس هكذا كما يحكم به فكرنا ابتداء، فما جرى لسيّد الشهداء عليه السلام هل كان لها تأثير على مصير سيّد الشهداء عليه السلام أم لا؟! فإن قلتم لم يكن لها تأثير فهي عين الظلم وعين القبح بالنسبة إلى سيّد الشهداء عليه السلام. فما الداعي لأن يخضع إنسان في هذا النظام لهذا التعذيب ثمّ يستشهد؟ ولماذا على الإمام الحسين عليه السلام أن يأتي برفقة نسائه وأبنائه إلى كربلاء مع كلّ تلك المتاعب والآلام ثمّ يخضع لحصار جيش عبيد الله ويزيد ولما قاموا به؟! لماذا على إنسان ما أن يتحمّل بهذه الطريقة هذه البلايا وهذه المصائب والمشاكل؟ لماذا وما المبرّر لأن يقوم إنسان بذلك؟!
هل تضحيات الأنبياء والأولياء بغير مقابل؟
هناك قاعدة تقول إنّ الأنبياء والأولياء والأعاظم يتعبون أنفسهم من أجلنا ويتحمّلون من أجلنا الآلام والمتاعب. نعم صحيح أنّهم يتحمّلون من أجلنا هذه الأمور، ولكن لا بمعنى أنّه لا يترتّب على عملهم أيّ ثواب وأثر ونتيجة، فأن أقوم بعمل ما لإنسان ما وأتعب نفسي لينتفع هو وأمّا أنا فلا شيء لي وكأنّي لم أصنع شيئًا وأبقى على نقطة الصفر التي كنت عليها أو نقطة الاثنا عشر التي كنت عليها، فهذا ظلم وكلّ فعل في هذه الدنيا له ردّة فعل، ولكلّ عِوَض معوَّض. وعندما يقول سيّد شيراز:
من که ملول گشتمی از نفس فرشتگان | *** | قال و مقال عالمی میکشم از برای تو |
والمعنى:
أنا الذي مللت من أنفاس الملائكة *** صرت أحتمل من أجلك عذل العالمين
هل مراده هو أنّي أحرم نفسي من الارتباط بالمحبوب ولقاء جمال المحبوب حتّى أوصل عبادك إلى مأمن ولا أنال شيئًا في مقابل ذلك؟!
كلاّ فلا أحد يقوم بذلك، ولماذا؟ فما الدافع لأن أحرم نفسي من نعمة لكي تصل نعمة إلى آخر ولا أنال أنا شيئًا أبدًا؟! فليس وراء هذا عمل عاديّ وظاهريّ وثواب مقبول من حيث الظاهر، ولا نقول إنّ هناك مراتب عالية ويكفيهم رضى المحبوب، كلاّ فحتّى رضى المحبوب لن يناله، فلن يقول له الله حتّى كلمة: أنا راض عنك. سلمت يداك.
ـ حسنًا كان بإمكانك أن لا تقول لي ذلك! فما أثر ذلك؟ أهذا هو الثواب؟ أنا راض عنك فقط؟ دون أن يكون لها نتيجة ودون أن يكون لها أثر خارجيّ، أنا راض عنك. حسنًا تفضّل وانصرف أنا راض عنك.
ـ حسنًا فلتكن غير راض، فما الفرق بين الرضى وعدمه على حالتي حتّى أنهض وأحرم نفسي من اللذائذ والنعم وهذه الأمور التي أخبرتكم عنها.
الفارق بين تجليّات الأسمائّية والذاتيّة
فقد قلت للرفقاء ذات ليلة إنّ نظرة واحدة إلى إحدى هذه الحجب النوريّة ولحظة واحدة تؤدّي إلى أن ينصرف الإنسان حتّى نهاية عمره عن لذّات الدنيا هذه، فلحظة واحدة من النظر إلى هذه الحجب النوريّة تؤدّي إلى أن لا ينظر الإنسان مدى عمره إلى هذه المظاهر للأسماء الجماليّة التي في هذه الدنيا، لا ينظر إليها أصلاً، وتغدو كلّها في نظره قبيحة لا تلفت نظره، فخذوا ذلك بعين الاعتبار وأنّ مقام الملائكة ومقام رسل الله العظام، ومقام جبرائيل الأمين الذي يأتي بالوحي على النبيّ، يقول حافظ إنّ مرافقتهم بالنسبة إليّ تسبّب الملل، فما هي حقيقة الأمر؟ ماذا هناك؟! علينا أن لا نقرأ شعر حافظ هكذا، لا بدّ من النظر ماذا يريد أن يقول، يقول: أنا أملّ من أنفاس الملائكة المقرّبين عندما تصيبني جذباتك الذاتيّة التوحيديّة، فلا تسمح لي أن أتنزّل من مقام الذات إلى مقام الأسماء والصفات، فهذا المقام الذي يتحدّث عنه هو مقام التجليّات الذاتيّة وليس في هذا المقام اسم وصفة ورسم وحدّ، وهو المقام الذي يقال عنه: لو دنوت أنملة لاحترقت. لو تجاوزت هذه المرتبة لحظة واحدة وبمقدار أنملة واحدة لأحرق شعاع التجلّي جناحي.
... | *** | فروغ تجلّي بسوزد پرم |
والمعنى:
... *** لأحرق شعاع التجلّي جناحي
فما هو شعاع التجلّي؟
الرفقاء يعلمون أنّه شعاع التجليّ الذاتي، فجبرائيل في مقام شعاع تجلّي الأسماء، ومقام تجلّي الأسماء محدود بالمعلوليّة والنقصان العلّي، ولا يمكن للمعلول أن يحتمل مرتبة الذات فيندكّ وتسقط جهة معلوليّته ومحدوديّته ولا يبقى جبرائيل.
اگر ذره اى زين نمط برترم | *** | فروغ تجلّي بسوزد پرم |
والمعنى:
لو تقدّمت ذرّة عن هذه المرتبة *** لأحرق شعاع التجلّي جناحي
إذا أردت أن أتقدّم ذرّة واحدة وأتجاوز حدّي الوجوديّ لأحرق شعاع التجلّي جناجي.
مثال لتوضيح فكرة الحدود الوجوديّة للإنسان
فنحن الآن لنا حدود خاصّة، فلا بدّ أن يكون بدننا في هذه الدرجة من الحرارة، درجة ٣۷، فلو صارت ٣٦ لضعفنا، ولو ارتفعت أصبنا بالحمّى، ويقال: لا بأس نقبل درجة واحدة ودرجتين والبدن يحتمل ثلاثة درجات أو أربع درجات، أمّا خمس درجات فلا يمكن أن تقول إنّه يقبلها، فلو ارتفعت حرارة إنسان ما إلى خمس درجات لاحترقت جميع خلايا الدماغ خلال بضع ساعات. لماذا؟ لأنّ الله جعل لنا هذا الحدّ ولو زادت الحرارة خمس درجات وصارت ٤٢ لانتهى الأمر، ولو انتقلت فجأة من ٣۷ إلى ٥۰ أي أنّ تلك الحرارة القليلة تصبح ٥۰، فإنّه بدلاً من أن يحترق يتبخّر! فإذا نزلت الدرجة عن ٥۰ وجدت أنّه لم يبق عليه تكليف لقد انتهى واستراح من هذه الدنيا قال الشاعر:
عاقل مشو تا غم دیوانگان خوری | *** | دیوانه شو تا غم تو عاقلان خورند |
يقول:
لا تكن عاقلاً فتحمل همّ البلهاء *** كن أبلهًا فيحمل همّك العقلاء
فأن تكون عاقلاً في هذه الدنيا هو أمر مكلف للإنسان، فليكن الحال حال بهلول وأمثاله، فهذه هي الدنيا في النهاية، الدنيا لا تقبل بالعقل. وإن شاء الله يظهر إمام الزمان عليه السلام وإن شاء الله يغلّب العقل في هذه الدنيا: فكملت به عقولهم. فعقول الناس تكمل بواسطة الإمام، هل العقل الآن هو الحاكم؟ هل العقل هو الحاكم في الدنيا وفي الأمور والأحداث؟!
إذا ما أضيف إلى البدن بضع درجات من الحرارة فإنّ أوّل ما يتعطّل فيه هو الدماغ، يصاب بفساد ثمّ يتوقّف، فلا يمكن للإنسان أن يسير في هذه الدائرة. فنحن لنا خصوصيّات محدّدة وموقع معيّن، وبدننا له قابليّاته الخاصّة وهو يقبل الحرارة في مستوى معيّن، فلو كانت النار هنا واقتربنا منها فإنّها تحذّرك أن لا تقترب، ولو اقتربنا وألقينا بأنفسنا في داخل اللهيب ماذا يحصل؟ النتيجة هي أنّنا خلال ربع ساعة أو عشرين دقيقة أو نصف ساعة نصبح فحمًا، الإنسان يصبح فحمًا. إذا ألقي إنسان في النار ماذا يصير؟ بعد مضيّ نصف ساعة يصبح فحمًا، يصبح رمادًا، يتبدّل إلى فحم.
حادثة عجيبة شاهدها المحاضر
وقد رأيت في مكان ما منظرًا عجيبًا، فقد كنّا نقصد مكانًا في منتصف الليل بسيّارة أحد الأصدقاء، كان الوقت في منتصف الليل وفجأة نظرت إلى الأفق فلم أر شيئًا، كأنّما غطّى الضباب ولم يعد شيء واضحًا، اقتربنا أكثر فأكثر فرأينا أنّه دخان، لقد سيطر الدخان على الطريق كلّه ولا يبدو شيء أبدًا، ولا تمرّ أيّة سيّارة فالوقت في نصف الليل، فمشينا في هذا الدخان ومشينا حتّى وصلنا إلى موضع الدخانُ فيه شديد جدًّا بحيث لا يمكن رؤية أيّ شيء في ذلك المكان، ورأينا أنّ هناك باصًا قد انقلب واحترق ويتصاعد منه كلِّه اللهيب بحيث لم نستطع أن نقترب منه إلى مسافة سبعين مترًا، فقالوا اتركوا السيّارة جانبًا فتركناها، فرأينا مناظر عجيبة، الناس يخرجون منه ومنهم من خرجت أمعاؤه ومنهم لا أدري ماذا حلّ به، وكأنّ المشهد مشهد جهنّم، حقًّا رأينا جهنّم بأعيننا، ثمّ رأيت بعض المسافرين الذين نزلوا جلسوا هكذا في الشارع وهم يحدّقون بنا، فقلت لصديقي: لماذا ينظرون هكذا؟! فقال أحد الأصدقاء اللبنانيين من السادة: هذا فحم. نظرنا فإذا هم فحم، نزل ليفرّ وهو مشتعل فصار فحمًا فحمًا ثمّ نام. بقينا هناك ما يقارب الساعة حتّى نزل من استطاع أن ينزل وفي أيّة حالة كانوا؟! ومن لم يتمكّن من النزول تحوّل إلى فحم فحم. فقلت: جهنّم هي هذه. إنّ نار جهنّم هكذا تفعل بالإنسان، تقدّمنا فرأينا إنسانًا تحوّل إلى فحم كلّ بدنه تحوّل إلى فحم، لماذا؟ لأنّه تجاوز حدّه، لقد تجاوز حدود وجوده، فبدن الإنسان لا يتلاءم والنار، فلو جعل الإنسان نفسه في النار أو التهمته النار فإنّ شدّة تلك القوّة القاهرة الناريّة تحرق الحدود الوجوديّة الجسمانيّة للإنسان وتزيلها وتجعلها مضمحلّة، وتقضي عليها بشكل كامل.
معنى حديث: لو دنوت أنملة لاحترقت
وجبرائيل يقول لرسول الله: إنّني ضمن هذه الحدود الوجوديّة الأسمائيّة، فأنا مظهر اسم الله العليم، ولي إحاطة وسيطرة على جميع مظاهر اسم العليم، ومن الآن فصاعدًا أنت تتجاوز يا رسول الله السير الأسمائي والتجلّي الأسمائي، أنت تريد أن ترد مرتبة الذات، وليس لي طريق إلى مرتبة الذات، ووجودي ليس وجودًا منبعثًا من الذات، بل من الأسماء، لذلك إذا أردتُ أن أرد مرتبة الذات فإنّ التجلّي الذاتيَّ يعدمني وتفنيني قهّاريّته وتزيلني.
لماذا؟
لأنّه ليس في مرتبة الذات اسم ولا رسم.
هل انعدام الاسم والرسم في مرتبة الذات يعني أنّها فاقدة للعلم والقدرة وأمثالهما؟
فالاسم في مرتبة الذات مغلوب، والاسم في مرتبة الذات فان، والاسم في مرتبة الذات لا هويّة خارجيّة له، إنّما يتحقّق اسم العليم في مرتبة دون الذات، لا أنّ الذات ليس لديها اسم العليم. فالذات لديها اسم القدير ولديها قدرة، ولديها علم ولديها حياة، ولكنّ هذا العلم والقدرة والحياة لم تتحدّد ولا حدود لها، فإذا ما تنزّل اسم العليم من مرتبة الذات حينها يتقيّد بحدود الماهيّات المختلفة، ولذلك فإنّ اسم العليم ما دام في مرتبة الذات يمكن أن تتوهّموا أنّ الذات فاقدة للعلم، ويمكن أن تتخيّلوا بأنّها فاقدة للقدرة، ولكن هل يعقل أن يكون الله في مقام ذاته بدون قدرة؟! كلاّ لا معنى لذلك. أيعقل أن يكون الله في مقام الذات بدون علم؟! كلاّ لا معنى لذلك. غاية الأمر أنّ العلم في مقام الذات لا حدّ له وله قيد، وهو في حالة إطلاق، لا شكل له، لا نموّ له، لا يمكن الإشارة إليه، لا يمكن وضع اليد عليه، ولكنّ هذا العلم الذي هو في مقام الذات إذا ما وصل إلى مرتبة الماهيّات والعلم الأعياني والعنائي يصبح محدودًا بعلم النبيّ فلان، وعلم الملاك فلان، وعلم سائر النفوس والعقول المجرّدة التي هي ذوات حدود وحظوظ من هذا العلم تناسبها.
ورسول الله بواسطة تلك الحيثيّة الوجوديّة الخاصّة التي يمتلكها ولأجل تنزّله من مرتبة فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ۱ ويريد أن يرجع إلى تلك المرتبة من الذات، يقول له جبرائيل: أنا لا يمكنني بعد هذا أن أتقدّم.
الفارق بين فناء النبيّ في الذات وبين عدم قدرة جبرائيل على بلوغ مقام الذات
فرغم أنّ رسول الله عندما يصل إلى مرتبة الذات تندك حدوده الوجوديّة وتفنى في الذات، ولكن وجود نفس رسول الله هو وجود الذات، وليس وجوده وجود اسميّ.
فلا تتصوّروا أنّه إذا أرادت هذه النفس بحدودها وماهيّتها وهويّتها الخارجيّة الخاصّة أن تكون في مرتبة الذات وفي تلك المرتبة الإطلاقيّة لا تتصوّروا أنّه ستبقى لها تلك الحدود، فلو بقيت لها تلك الحدود لما أمكن أن تكون في مرتبة الإطلاق، خذوا كوبًا من الماء واجعلوه داخل البحر، فهذا الكوب من الماء وهو في البحر لم يعد كوبًا، إنّه بحر، فإذا ما أخرجتموه من البحر ورفعتموه عنه مترًا واحدًا حينها يصبح كوبًا من الماء، وفي مقابله البحر، فكم شيئًا لدينا هنا؟ لدينا شيئان. وطبعًا هذا مجرّد تمثيل، وإلا فإنّ مثال الوجود وماهيّات الوجود هي أدقّ من ذلك، فقد أخرجنا نحن هذا الماء من البحر، ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك، فالوجود المقيّد لا ينفصل وكأنّك تحافط على كوب الماء داخل البحر ولا تخرجه منه، وفي الوقت نفسه الذي تحفظ فيه المحدوديّة فإنّ حقيقة البحريّة حاكمة على هذا المقدار المحدود من الماء وجارية عليه، وليس هناك إخراج إلى الأعلى، فهذا الإخراج غلط، والمثال مثال خاطئ، وهكذا يتصوّر الناس والمخالفون للفلسفة وهذه المسائل ويعتقدون أنّ أمر الوجود يشبه الخروج من البحر، والحال أنّ هذا باطل لأنّه يلزم منه التركّب وأمثاله وهو باطل من أصله.
فعندما يريد رسول الله أن يرجع إلى مرتبة الذات فإنّ هذه المرتبة هي عين ذلك الشأن الوجوديّ لرسول الله، ولكنّه إذا أراد أن يرجع إليها لن يعود هناك وجود لرسول الله، ولن يعود هناك وجود لهويّة منفصلة عن هويّة الذات، ولن يعود هناك وجود لماهيّة تدعى النبيّ، ولن يعود هناك وجود لماهيّة تدعى الأرض والسماء، ليس هناك أيّة ماهيّة، وإنّما ستكون جميع الماهيّات هناك مطلقة تبعًا لإطلاق ماهيّة الذات. ولكن في النهاية فإنّ وجود رسول الله وتلك الحيثيّة الوجوديّة قد ذهبت، وكان لها القدرة أن تكون في تلك المرتبة، وأن تصل إلى مرتبة عالم الذات، في حين أنّ جبرائيل لا يمكنه ذلك أصلاً، ولو جرّ نفسه فإنّه لا يمكنه، لا يمكن ولا يستطيع. وما دام لا يستطيع فهو لا يستطيع في النهاية، نعم له سعة وجوديّة مختلفة في مرتبة اسم العليم، ويمكن لهذه السعة الوجوديّة أن تكون قليلة أو كثيرة وهذا كلّه في العَرْض في النهاية، ولا معنى لذلك في السلسلة الطوليّة، كلّ ذلك هو في السلسلة العرضيّة في الحدود المختلفة والماهيّات والقوالب المختلفة، ولكن لا يمكنه أن يصل إلى تلك المرتبة، لا يمكنه أن يبلغها، تمامًا كالطائرة التي يمكنها أن تحلّق على ارتفاع عشرة كيلومترات لا أكثر من ذلك، فإذا تجاوزت هذا الحدّ توقّفت، لو تقدّمت قليلاً لتوقّفت محرّكاتها؛ لأنّ مقدار الأوكسيجين الذي تحتاجه هذه الطائرة غير متوفّر هناك، فإذا ارتفعت إلى الأعلى توقّفت محرّكاتها، لا يمكنها أن ترتفع، ولكن هناك طائرة يمكنها أن تطير على ارتفاع خمسين كيلومترًا ولكنّها تواجه موانع أخرى تؤدّي إلى خرابها، ولكن على الأقل لها القدرة على الارتفاع.
هذا هو حال وجود النبيّ بالنسبة إلى وجود جبرائيل من حيث طيّ مراتب الأسماء والصفات، فجبرائيل أصلاً لا يمكنه، وبعبارة متعارفة إنّ سقف تحليق جناب جبرائيل هو في حدود اسم العليم، وليس له قدرة على التحليق في مجال الذات، لا يمكنه أن يتقدّم، إذا تقدّم ينتهي وتوقّفت محرّكاته ولم يتمكّن، أمّا رسول الله صلّى الله عليه وآله فيقول: كلاّ أنا أتمكّن من أن أتقدّم نحو الأعلى وأن أخسر نفسي، فيتقدّم ويخسر نفسه، يتقدّم ويعبر مرتبة الاسم، ويعبر مرتبة الصفات، ثمّ مرتبة الأسماء، ثمّ يعبر من مرتبة تعيّن الذات، وحينها لن يكون هناك رسول الله، هناك الله وحده، هناك التوحيد فحسب، هناك لا توجد إلاّ ذات واحدة لا غير، لأنّ المقام مقام الإطلاق، وفي مقام الإطلاق ذاك لا معنى للحدّ، ولا معنى هناك لأن يتقدّم ويكون قسم منه النبيّ والباقي هو الله، فهذا تركيب وأمثاله.
هذه هي مرتبة رسول الله الذي يأتي ويتجاوز هذه المرتبة، فعندما يقول جناب حافظ: أنا الذي وصلت إلى هكذا مقام
من كه ملول گشتمی از نفس فرشتگان | *** | ... |
يقول: أنا الذي مللت من أنفاس الملائكة *** ...
أي أنا صرت في مقام وصلت فيه إلى التجلّي الذاتي، وصارت تنزل عليّ التجليّات التوحيديّة، وأنا لا يمكنني أن…
قيمة كلام أولياء الله بالمقارنة إلى غيره
وحقًّا إنّه لعجيب! فعندما يفكّر الإنسان قليلاً، وعندما يعطى الإنسان قليلاً من المعرفة، وقليلاً من العلم وقليلاً من الوعي… ففي النهاية لم يكن هؤلاء مجرّد أعاظم ينشدون الشعر وينمّقونه ويقولونه هكذا متواليًا، كلاّ يا عزيزي، بل كانت حسابات هؤلاء دقيقة جدًّا، كان عملهم صحيحًا، لم يكونوا يتكلّمون عبثًا، ولم يكونوا يقولون شيئًا ما هكذا، لم يكونوا عاطلين عن العمل فيتكلّمون بشيء ما، فهناك الكثير من الكلام فلماذا يقولون هذا الكلام فقط؟ يمكن التكلّم بآلاف الأنواع من الكلام؟ يمكن أن تقال آلاف الغزليّات، وهناك آلاف المسائل التي يطرحها الشعراء والذين يحيون الليالي بالسمر، فعندما جاء هؤلاء وقالوا هذا الكلام فماذا كانوا يدركون؟! هل كانوا غارقين في الأوهام والخيالات؟! والله نحن نظرنا من أوّل العالم حتّى يومنا هذا فإن كان هناك عقلاء فهم هؤلاء، لقد رأينا جميع الناس بجميع أنواعهم وأصنافهم، وبجميع حركاتهم وسكناتهم وتصرّفاتهم المختلفة، فما يمكن أن يحسب له حساب وما يمكن أن يفكّر به ويتأمّل وما يمكن أن يجعل قدوة وأسوة هم هؤلاء العرفاء وهؤلاء الأولياء لله! هؤلاء يمكن أن يعتمد عليهم، أمّا من يقول الآن كلامًا ثمّ بعد أسبوع يقول كلامًا آخر على درجة مائة وثمانين درجة منه لا يمكن أن يحسب له حساب، وقد ذكرت لكم أنّي منذ مدّة بعيدة جدًّا سمعت أمرًا ما، وقد كنت في مكان ما وكان هناك رجل يتحدّث حول أمر ما ويستدلّ عليه، ويقول: شرعًا لا بدّ أن يكون الأمر هكذا، ولم يمرّ أسبوع حتّى أخذ ذاك الرجل نفسه يتكلّم على العكس من كلامه واستدلاله الشرعيّ السابق بدرجة ۱۸۰. فقلت: يا له من شرع عجيب يمكنه أن يجمع بين استدلالين مخالفين متقابلين خلال أسبوع واحد، على الأقل كان بإمكانك أن تنتظر شهرًا، لأصابت الريح كلامك السابق قليلاً ونسي، يا عزيزي الجميع يذكرون كلامك قبل أسبوع!
ولكنّ هذا لا وجود له في نظام أولياء الله، وفي عمل أولياء الله، وفي عمل العرفاء، بل كلامهم واحد وفكرهم واحد واعتقادهم واحد، لا يقولون إلا حقًّا واحدًا، وفي جميع الأماكن لا يقولون إلاّ كلامًا واحدًا، وفي جميع الأماكن لا يقولون إلا فكرة واحدة. فإن كان هناك عاقل فهو في زمرة حافظ ومولانا، فقط في زمرة هؤلاء، أمّا في الأماكن الأخرى فلا بدّ من التأمّل أكثر. فهؤلاء لا يتكلّمون بكلام باطل، فعندما يقول: من كه ملول گشتمی… (أنا الذي مللت من أنفاس الملائكة) فما هو مراده من هؤلاء الملائكة المقرّبين؟ ما مراده؟! ألم يكن يدرك من هم الملائكة؟!
مرتبة جناب حافظ الشيرازي العلميّة والاجتماعيّة في زمانه
لقد كان حافظ إنسانًا عالمًا، كان فقيهًا، كان أستاذًا، أستاذًا في الفلسفة والكلام، كان أستاذًا رفيع المستوى في علوم اللغة والأدب، وكان يدرّس تفسير الكشّاف للزمخشري للمبتدئين من تلامذته، وكان قبل أن يبلغ تلك المقامات وفي بداياته من أهمّ تلامذة المير السيّد شريف الجرجاني، والذي تعدّ حواشيه وشروحه على المطالع مرجعًا ومصدرًا للمسائل الكلاميّة والمنطقيّة والفلسفيّة وأمثالها، وكان مضرب المثل في دقّته الأدبيّة ودقّته البلاغيّة، لقد كان تلميذ السيّد شريف الجرجاني، وكان في مستوى أنّه إذا دخل مجالس الدرس كان يقف الشريف الجرجانيّ له ويجلسه في مكانه، فهكذا كانت مكانته، ثمّ بعد ذلك تقولون: لم يكن ذا فهم. أعتقد أنّا هذا أشدّ إضحاكًا من أيّة طرفة! أفحافظ لم يكن ذا فهم لما يقول؟! يكون مأنوسًا فيقول كلامًا وفي الليلة التالية يبدّل كلامه! هذا الأنس هو لكم أنتم! هذا النوع من الأنس يحصل قرب المنقل والوافور۱، ولم يكن حافظ من أصحاب هذه الأمور، لم تكن تتوفّر له، لم يكن يملك ثمنها، فأنتم تعلمون أنّ هذه الأشياء غالية الثمن، لا ينالها أيّ إنسان، فهذه الأشياء لها زبائنها الخواصّ، ولا يتسنّى لأيّ إنسان أن يتنعّم بهذه النعم الإلهيّة! وكان حافظ يسكر ويشرب وينتعش بالدعاء وذكر السحر، أمّا الآخرون فقد كانوا بتلك الأمور وأمثالها.
وجوب الشكر على النعمة الإلهيّة الكبرى بمدرسة أولياء الله
وعلى كلّ حال فقد مرّت الدنيا، وقد رأينا كلّ شيء، رأينا كلّ شيء، فقد بيّن الله لنا كلّ شيء، بيّن لنا ما كان يقوله الأعاظم، بيّن لنا ما كانوا يقولونه لنا، بيّن لنا الحقائق، بيّن لنا البواطن، وبيّن لنا التوهّمات والادّعاءات، وهؤلاء المدّعون والذين ينسبون أنفسهم إلى مسائل معيّنة جاؤوا جميعهم ومضوا وبيّنوا فاتّضحت الأمور والحمد لله وله المنّة كانت هذه المدرسة القويمة هي التي حفظتنا من الانحراف نحو هذا الجانب أو ذاك، وكان هذا المنهج المستقيم هو الذي أمسكنا عن الميل نحو هذا الجانب وذاك، وإلاّ فقد كان هناك أناس أخذت بهم الدنيا وخدعتهم فبرّروا أعمالهم بأنواع التبريرات والتأويلات، ثمّ اتّضح أنّ كلّ ذلك كان تسولاً من النفس وتخيّلاً ووهمًا كلّ ذلك، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.۱ وقد كان المرحوم العلاّمة كثيرًا ما يقرأ هذه الآية كثيرًا ما كان يقرأها، وكان يوصي تلامذته بقراءتها دائمًا: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. حسنًا على الإنسان أن يشكر، على الإنسان أن يشكر النعمة الإلهيّة وأنّه كيف جعله الله في منهج ليس فيه يسار ولا يمين، لا الأحزاب المختلفة لها طريق إليها ولا الأفراد المختلفون، الإنسان فيه ونفسه وتكليفه، لا ينظر إلى هذا الجانب، ولا إلى ذاك، يسير في طريقه وهو معتقد بقواعد أصيلة ومتينة، وأسس راسخة بحيث لا يمكن لأيّ خيال وأيّة شائعة وأيّة جاذبة أن تحرف ذهنه، يسير في طريقه ويتابع مستقيمًا، لا شأن له بأحد، وعباد الله بسبب الجهالة إمّا يقعون في هذا الجانب أو في ذاك، إمّا يقعون في أمان هذا أو في أمان ذاك، وكلّ ذلك هو بسبب الابتعاد عن الحقائق والابتعاد عن المعارف وغلبة الأوهام وغلبة التخيّلات، وتسليم القلب والدين والوجدان والعقل للخيالات والأوهام.
لمن يسلّم الإنسان قلبه ودينه؟! لجماعة يقولون له: انطلق. فيقول: حاضر. يقولون: توقّف. فيقول: حاضر. فقط هكذا، يسلّم عقله ويسلّم وجدانه ويسلّم إنصافه، ينسى الإنسان تلك العطايا والذخائر الإلهيّة المودعة فيه لأجل الهداية والتكامل، وبدلاً من استعمال عقله يجعل مغلوبًا لخيالات الآخرين ولدنياهم. كلاّ ولكنّ الأعاظم جاؤوا وبيّنوا وأبانوا الطريق وقالوا لا يذهبنّ الريح بقبّعتك احتفظ بها جيّدًا واعمل بما قيل لك ولا تبال بهذا الجانب وبذاك لا تبال! لا أنّك لا تعمل بوظيفتك وواجبك الشرعيّ، كلاّ على الإنسان أن يعمل بتكليفه ووظيفته، أمّا تسليم القلب والسير مع هذا ومع ذاك فهذا أمر آخر، وهذا جانب آخر. وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أفهل كان الأمر باختيارنا نحن؟! لقد كان هناك من هم أعظم منّا وابتلوا بهذه الأمور وعجزوا، ولم يتمكّنوا من طيّ طريقهم ومسارهم والاستمرار فيه، وحدهما الهداية الإلهيّة والتوفيق الإلهيّ هما اللذان يوقظان الإنسان، ويوضّحان الحقائق للإنسان، الحقائق المختفية خلف الستائر الخادعة والظاهر المحيّر والمشبّه، يوضّحان تلك الحقائق.
ثبات السالك وبصيرته
تفضّل هذه هي الحقيقة إن كنت تريد، وهذا هو الواقع، وهذا ما تراه أيضًا في المقابل، تفضّل اجعل هذين الأمرين أحدهما إلى جانب الآخر يتّضح الأمر، حقًّا هذه النعمة نعمة عجيبة وإكسير قدّمه الله، فكيف يمكن للإنسان أن يشكّ في هذه الحقائق التي لا شكّ فيها أنّها ما هي، ليس فيها نسبة واحد من مليار من الشبهة في أنّها من أيّ نحو. وفي المقابل يرى الإنسان أنّ هؤلاء المساكين يصلّون ويصومون ولكنّهم يفكّرون بنحو مختلف، عجبًا عجبًا يا سيدي العزيز! هذا وهذا وهذا كم واحدًا؟ واحد اثنان ثلاثة أربعة. ولكنّه يجيب بجواب آخر، فما هذا؟! ما حقيقة الأمر؟! ولكن عندما ينظر الإنسان يرى أنّه يفهم ويدرك ويعي ولا يمكن لأحد أن يخدعه، وليحصل ما يحصل. لقد فهم هذا ما فهم وانتهى الأمر وقضي. فمن الذي أعطانا هذا الفهم وهذا الإدراك وهذه الرؤية حتّى أصبحنا نرى الحقّ في هذه الأحداث التي تجري في الدنيا حيث لكلّ إنسان طريق ورسوم وكلّ يتكلّم عن نفسه. فالإنسان يطوي ذلك الطريق الذي عُلِّمه ويقوم بذلك ولا شأن له بأحد، لا يتأثّر بأحد، يسير في طريقه وليست القضيّة مانعة الخلوّ بحيث إمّا أن يكن هذا وإما ذاك، بل هي مانعة الجمع۱ حيث يمكن أن تجد أمرًا ثالثًا سوى هذين.
لا أنسى أبدًا أنّه عندما كان المرحوم العلاّمة يتحدّث حول القضايا والمسائل البعيدة جدًّا ويبيّن الحقائق، كان الأمر بالنسبة إلينا عجيبًا وكان إدراك ما يطرحه صعبًا علينا، فكيف يمكن في النهاية رغم هذه الأوضاع ورغم هذه الأحوال التي نشاهدها والأمور التي نراها كيف يمكن أن يحدث ذلك؟! كيف يمكن؟ كيف يمكن أن يحكم الإنسان في هذا الأمر بهذا النحو؟! ولكن بعد مضيّ سنوات وسنوات وسنوات يرى الإنسان فجأة أنّه يا للعجب لقد كان أولياء الله مطّلعين على ذاك الأمر الذي لم نكن نحن نبالي به وكنّا عنه غافلين لا ننظر إلاّ إلى الظواهر والجواذب الظاهريّة، لقد كان أولياء الله يرون ذلك بدقّة ويشاهدونه ويعلمون إلى أين سيكون المآل وإلى أين ستنتهي الأمور، بحيث تصبح الأمور واضحة للجميع واضحة للجميع. حسنًا تفضّلوا.
ما معنى الحكيم في حديث هلك من ليس له حكيم يرشده؟
وهنا يقول الإمام السجّاد عليه السلام: هلك من ليس له حكيم يرشده۱. فالحكيم هو الإنسان الذي أضاء قلبه لا الذي درس الفلسفة، كلاّ بل هذه واحدة من الطرق التي تحقّق للإنسان بصيرة الباطن: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ٢ نحن أعطينا لقمان الحكمة أي نور الباطن، وبنور باطنه كان يميّز الباطل والحقيقة، يميّز الأمور الاعتباريّة والأمور الحقيقيّة، يميّز بين التوهّمات والتعقّلات، يميّز بين العلم والتخيّل، يميّز بين العلم والظن، بين الخيال وبين الحتم والجزم، لقد آتينا لقمان الحكمة فكان نوره الباطن يقول: هذا خطأ وهذا صواب هذا صواب. هذا لا ينسجم مع الموازين، هذا ينسجم مع الموازين، هذا طريقه صحيح لهذا السبب، وذاك الطريق باطل لهذا السبب، فذلك النور الذي آتيناه لقمان كان نور الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا٣ أي من أعطي نور الباطن ذاك فهو خير كثير، لا مجرّد خير ولا خير قليل، بل خير كثير، خير يجعل حياته وجميع تصرّفاته في طريق الحقّ. فلو أنّ ألف واحد أقسموا أمامه، فقط يبتسم لهم ويقول: أسألكم الدعاء في أمان الله. ولو جاء عشرة آلاف إنسان وقالوا: الأمر هكذا، نحن رأيُنا كذا. ينظر إليهم ويقول: إن شاء الله موفّقون، إن كنتم موفّقين فسأكون في خدمتكم. ولو جاء جميع العالم وجميع الدنيا وقالوا أمرًا ما يقول: لا أدري. فمن كان لا يدري ماذا وراء هذا الجدار فهو لا يدري [ولو جاء ألف مثله وانضمّوا إليه]؛ فهل تعلمون الآن ماذا وراء هذا الجدار؟! وهل نحن نعلم؟! لا نعلم. هل تعلمون ماذا وراء هذه النافذة الزجاجيّة؟ لا تعلمون. فلو جاء اثنان ونظرا فهما أيضًا لا يعلمان، ولو جاء عشرة ونظروا فهم لا يعلمون، ولا جديد في ذلك سواء كانوا عشرة أم مائة مليون فلا أحد منهم يعلم. وذلك لأنّهم محدودون، فلم يزد إلا العدد، أمّا تلك المحدوديّة فلم تتغيّر. وهذه العين لا يمكنها أن ترى ما وراء الجدار، فهل لأنّه جاء اثنان ونظرا سيغوص الإنسان أكثر في الجدار وبما أنّهما اثنان فإنّهما يغوصان في الجصّ مقدار ٢ سم، وإذا كانوا عشرة غاصوا فيه شبرًا، وإذا كانوا مائة انكشف ما وراء الجدار؟! كلاّ ليس الأمر هكذا، ومائة إنسان لا شيء بل لو جاء مائة مليون إلى هذه الغرفة لما اختلف الأمر عمّا لو كان هناك إنسان واحد، فمن حيث التمييز والتشخيص لا يختلف الأمر.
نفوذ بصيرة أولياء الله
ولو جاء الجميع وقالوا: الأمر هكذا. فإنّ وليّ الله يقول: هو بنحو آخر. الجميع يقولون: الأمر هكذا والواقع هذا ووليّ الله يقول: كلاّ ليس هذا.
ـ أفيعقل؟! فهؤلاء الجميع يقولون: لا يمكن.
ـ انظر الآن لترى أنّه يمكن أم لا؟ فبعد سنة وسنتين وثلاث سنوات فجأة نجد أنّه ويا للعجب لقد كان يقول حقًّا. لماذا؟ لأنّنا نحن جميعًا ننظر إلى الظاهر، نحن جميعًا كنّا ننظر بهذه العين بهذه العين، فنحن جميعًا ننظر بهذه العين أمّا هو فلا ينظر بها، بل ينظر بقلبه، لذلك فما يراه هو يختلف عمّا نراه نحن. فليمرّ قليل من الزمان ولتمرّ الأحداث حينها سندرك نحن. لقد قال: اجلسوا واصبروا وسترون ماذا سيجري! سترون ماذا سيجري!
رحمهم الله ففي النهاية كان هؤلاء حتّى شمل لطف الله الجميع والأصدقاء، فبواسطة هدايتهم وإراشادهم اتّضح الصراط المستقيم.
وعلى كلّ حال، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. علينا أن نقرأ هذه الآية كثيرًا ونؤدّي شكر الله، فإنّ نعمة الله وهدايته تتضّحان في هذه الموارد، لا في الموارد التي تكون فيها الأمور طبيعيّة والوقائع متعارفة، وكلّ شيء طبيعيّ، ولا يكون هناك شيء ما في أيّ مكان، حسنًا فلا شيء ولا معضلة، إنّ نفَس أولياء الله وصلحاء الله إنّما ينقذ الإنسان في الموارد التي هي مثار للشبهات ومثار للفتن، فتحفظه من اقتحام المهالك وتحميه، فعلى الإنسان أن لا يقصد أيّ مكان هكذا، وعليه أن لا يتّبع أيّ صوت وأيّ نداء هنا وهناك، فليكن في مكانه وليقم بما بعمله، ليدبّر حياته وليقم ببرنامجه وليعلم أنّ هذا العالم له تدبير ولهذا التدبير مدبّر.
عودة إلى بحث كون واقعة عاشوراء خيرًا
وعلى كلّ حال يقول الإمام السجّاد عليه السلام في هذه الفقرة إنّه إذا نظرت يا مولاي إلى ذنوبي أخذني الفزع وسيطر عليّ. وقد طلبت منكم جوابًا على هذا الأمر فهل وجدتموه؟! فعندما قلنا إنّ حادثة سيّد الشهداء عليه السلام خير هي أم شرّ؟ قلنا إنّها بحسب الظاهر شرّ في النهاية، ولكن قلنا: كلاّ ربّما نجد فيها خيرًا، فلو أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يبتلَ بهذه المسائل فهل كان سينال الشفاعة الكبرى أم لا؟!
لم يكن ليبلغها، فإذن حادثة عاشوراء هذه جيّدة جدًّا، لا يمكن أن تكون شرًّا، لأنّها لو كانت شرًّا فلن يكون هناك شيء [يترتّب عليها] في النهاية، وعلى الإمام الحسين أن لا يطالب بشيء؛ أفيمكن أن ينال أحدٌ من الشرّ خيرًا؟! أفيمكن أن يكون هناك شيء مرّ، سائل مرّ فأقدّمه إليكم فتشربونه فيتحوّل فجأة إلى حلو؟ هذا تحوّل، ولا يمكن أن يتحوّل المرّ. إن شربتموه أنتم [أيّها الجالسون هنا] فستشعرون بالمرارة، وإن شربتموه أنتم [أيّها الجالسون هناك] أيضًا فستشعرون بالمرارة، وكلّ من يشربه فهو مرّ عنده، وإن كان مالحًا فهو مالح عنده، وإن كان حامضًا فهو حامض، وأيّ طعم سيكون عليه سيجده الشارب، إلا أن يكون الإنسان مريضًا ويعاني من مشكلة في ذائقته، وإلاّ فإنّ كلّ من يتناول المرّ سيجده مرًّا، ولا يمكن أن تنشأ الحلاوة من المرارة، وما يمتلك خاصّية ذاتيّة فإنّها لن تتغيّر.
فعندما نقول: إنّ هذه الحادثة خاصّيتها الذاتيّة هي القبح فإنّ قبحها وشرّها وسوءها وفجاعتها لن تتغيّر، وكيف يمكن لهذه الحادثة أن توصل ابن رسول الله إلى مقام الشفاعة الكبرى؟! كيف يمكن أن تكون هذه القضيّة موضعًا لرضا الله؟ إنّ الله شاء أن يراك مقتولاً وإنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا۱. فهل يمكن لمشيئة الله أن تكون مشيئة قبيحة؟! سيقول الإمام الحسين حينها: بماذا قصّرت أنا حتّى كانت مشيئتك بالنسبة إليّ قبيحة؟! لا يصحّ هذا. أيصحّ أن يكون رضا الله قبيحًا؟! لا يمكن. هل يمكن لرضا الله أن يتعلّق بما هو قبيح؟ كلاّ، فإن كانت موضعًا لرضا الله فهي صحيحة وهي خير، لأنّ الخير هو الذي يوصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مقام الشفاعة الكبرى.
عاشوراء وبلوغ الإمام الحسين مقام الشفاعة الكبرى
لذلك لدينا أنّه جاء نداء من الله يوم عاشوراء وضمن أحداث مختلفة فيها أن يا حسين ألست تريد أن تبلغ مقام الشفاعة الكبرى٢؟! ففي بعض الأحداث والقضايا يوم عاشوراء كان الأمر هكذا، فالوصول إلى مقام الشفاعة العظمى والشفاعة الكبرى الذي هو الشفاعة لجميع الأمّة من بداية الخلق وحتّى نهايته بأيّ شيء حصل؟! فرغم أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان إمامًا، والإمام هو في مرتبة من العصمة ولكن هذا شيء أعلى من العصمة، أنّه تجلّي لاسم الرحمانيّة والرحيميّة الخاصة في مقام البقاء، فقد تحقّق هذا التجلّي بنحو غير متناه في نفس سيّد الشهداء عليه السلام في مقام البقاء، وهذا لا بدّ أن يتحقّق هكذا، لا بدّ أن يصل إلى هنا ولا بدّ أن يطوي الإمام الحسين هذا الطريق.
العوالم التي طوتها السيّدة زينب في أحداث عاشوراء
ولا بدّ للسيّدة زينب سلام الله عليها إن شاءت أن تصل إلى هذا المقام أن تتحمّل هذا الأسر، وأن تتحمّل هذه المتاعب، وأن تتحمّل هذه الشدائد، فلو أنّ السيّدة زينب سلام الله عليها بقيت في المدينة كسائر نساء بني هاشم وقالت: في النهاية لديّ زوج وعيال، وزوجي يقول: لديّ زوجة وعيال وأخوك يريد أن يذهب فليذهب، إن شاء الله نزوره وأينما ذهب نأتي ونزوره. لكان الإمام الحسين قد خرج وحدث ما حدث وبقيت زينب سلام الله عليها على المرتبة التي كانت عليها، ولما أصبحت زينب الكبرى، ولما صارت زينب التي لم يأت ولن يأتي لها مثيل في النساء من بداية الخليقة حتّى نهايتها، فلا بدّ أن تأتي زينب وتتحمّل هذه الأمور وتطوي هذا الطريق وتصبر وتطوي في كلّ لحظة عوالم، والله يعلم ما هي العوالم التي طوتها في تلك الأيّام وفي ليلة الحادي عشر وفي يوم العاشر وفي ليلة الحادي عشر واليوم الحادي عشر يوم الأسر، فلا أحد سوى الله يعلم كم عالمًا طوت في كلّ لحظة!
كان السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يقول، والكلام طويل في هذا المجال وسأشير إلى هذا المقطع منه فقد كان يقول: أحيانًا تحدث لديّ سرعة في الحركة بحيث أرى أنّي مررت على عالم ما إن أريد أغوص في نفسي وأرى ماذا كان هذا العالم الذي أطويه من مظاهر الأسماء والصفّات الإلهيّة أرى أنّي دخلت في عالم آخر، لقد مضى ذاك العالم، فسرعتي كانت بنحو بحيث أنّ كلّ عالم من العوالم التي كان يتحدّث عنها ـ ولديّ اطّلاع على ذلك فقد أخبرني هو بذلك ـ لو جلسنا إلى يوم القيامة وفكّرنا فيه وسرنا لنرى ماذا فيه فإنّه لا نهاية له. لقد طوى هذا الرجل هذا العالم في ثانية واحدة ومضى، ووصل إلى عالم أعلى، ثمّ طوى هذا الأعلى. لقد كان يقول: كنت أرى في لحظة واحدة أنّي إذا أردت أن أرى ماذا جرى في هذا العالم وفي هذه المرتبة الأرضيّة من الأسماء والصفات، لم أكن أرى أنّي طويت عالمًا واحدًا بل عوالم عديدة قد طويت، فلنتركها يا عزيزي ولنذهب إلى ما هو أعلى منها ولنبق فيه، وقد غادرنا حتّى هذا الأعلى، وبما أنّه مضى ذاك ومضى هذا الثاني، فنحن الآن حيارى في هذا الثالث، كلّ واحد منها إذا جلسنا إلى يوم القيامة وسرنا فيه فلا إمكانيّة لأن نصل إلى نهايته. فهكذا يطوي أولياء الله المراتب الوجوديّة.
والسيّدة زينب سلام الله عليها طوت هذه العوالم في تلك الأيّام، لقد طوتها آنذاك، وفي كلّ ثانية حركة في عالم نحو ذات الله. فهل كان يمكن ذلك بدون تلك الأحداث؟! هل يمكن أن يتحقّق هذا؟ هل يعطى ذلك مجّانًا؟! هل يعطى الإنسان مجّانًا؟!
ما معنى ما رأيت إلا جميلاً؟
والآن هل كانت حادثة عاشوراء شرًّا بالنسبة إلى السيّدة زينب سلام الله عليها؟ هل كانت شرًّا؟ لا يمكن أن تكون شرًّا؛ لذلك قالت في جواب ابن زياد عندما قال لها: كيف رأيت فعال ربّك؟ أرأيت ماذا فعل ربّك؟ أرأيت ماذا فعل بكم ربّكم؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً.۱ ما رأيت شيئًا إلا الجمال، والله وبالله وتالله لم تكن السيّدة زينب حينها تمزح، ولم ترد أن تتظاهر، نعم هناك من يفعل ذلك، وكلّ إنسان يكون مكانها له جوابه الخاص بحيث لا يشعر الطرف المقابل [بانكساره]، ولكنّ السيّدة زينب كانت تقول الواقع لذاك الحقير الجاهل الذي يرى العالم كلّه فقط في شهوة الدنيا وذلك العرش الذي يجلس عليه ينظر مرّة عن يمينه وأخرى عن شماله حيث يحيط به عدد من حملة السيوف المجرمين، لا يرى من عالم الوجود سوى قصر دار الإمارة، فيا أيّها التعيس الحظّ المسكين ماذا تصنع؟! هذه المرأة تطوي الآن في كلّ ثانية عوالم وجوديّة لا تدركها أنت أصلاً لا تدركها. تقول: أرأيت ماذا فعل؟ أرأيت ماذا صنع بكم الله؟! ما شاء الله اهبط عن عرشك واسجد أمام هذه المرأة حتّى ترى إلى أين تأخذك أيّها المسكين الذي سيطرت على وجوده الدنيا بأيّامها القلائل ولا اطّلاع لك على غدك فماذا تقول أنت؟! ما رأيت إلا جميلاً وكلّ ما رأيته كان خيرًا، وكلّ ما رأيته كان جميلاً. إنّها لا تقول خيرًا، بل تقول جميلاً.
عاشقم بر لطف و بر قهرش به جد | *** | بوالعجب من عاشق این هر دو ضد |
يقول: أنا عاشق حقًّا للطفه ولخشونته *** فيا عجبًا من عشقي لهذين الضدين
عاشوراء خير محض للإمام الحسين عليه السلام وأصحابه
فإذن لا يمكن لواقعة عاشوراء بناء على هذه النظرة أن تكون شرًّا، وستكون واقعة عاشوراء خيرًا محضًا وجمالاً محضًا وبهاء محضًا وكمالاً محضًا وفعليّة محضة وارتقاء محضًا، لمن؟
للإمام الحسين عليه السلام، ولأصحاب الإمام الحسين عليه السلام، وللسيّدة زينب سلام الله عليها، وللأسرى، وللشيعة. أفتدرون ببركة ماذا اجتمعنا نحن الليلة هنا؟ ببركة واقعة عاشوراء اجتمعنا الليلة، فلو لم تكن عاشوراء لما كنّا نحن أيضًا مجتمعين معًا، وكلّ تلك البركات التي تحصل للشيعة هي ببركة عاشوراء، وببركة تلك الواقعة منّ الله بهذه البركات على شيعة سيّد الشهداء إلى يوم القيامة، جميع الأنفاس التي نتنفّسها هي ببركة عاشوراء، وجميع الصلوات التي نصلّيها هي ببركة عاشوراء، وجميع الصيام الذي نصومه هو ببركة عاشوراء، وجميع الحجّ الذي نحجّه هو ببركة عاشوراء، والسير الذي نسيره والرقيّ الذي نرتقيه والإنفاق الذي ننفقه كلّ ما هو موجود من أين ينشأ؟ ينشأ كلّه من نفس الإمام الحسين عليه السلام.
فانظروا إذن كم هي واقعة خيّرة واقعة عاشوراء!
عاشوراء شرّ بالنسبة إلى أعداء الحسين عليه السلام
ولكنّها في المقابل بالنسبة إلى يزيد هي شقاء وخسارة ومسكنة وبوار وهلاك وخسارة للإنسانيّة وخسارة للارتقاء والتكامل، وهكذا هي لابن زياد وابن سعد والتعساء بدلاً من أن ينضمّوا إلى الإمام الحسين… وحقًّا ليس هناك من هو أكثر جنونًا منهم، يتركون كلّ هذه النعم ويقتصرون على تلك، وهذه الواقعة التي تحدث أيّها الأحمق المسكين أنت تقدّم الخيرات فيها بيدك للآخرين وليس لديك علم عمّا يجري في ذاك الجانب ثمّ بعد ذلك تهزأ وتقول: كيف رأيت فعال ربّك؟ أفتدري ماذا جرى على هؤلاء؟ ماذا جرى على أهل هذا البيت؟!
فإذن واقعة عاشوراء في حدّ نفسها مع غضّ النظر عن أيّ أمر آخر، لا بالنسبة إلى هذا الجانب ولا إلى ذاك، لا تتّصف بشيء، نعم هي بالنسبة إلى سيّد الشهداء عليه السلام وأصحابه وأهل بيته تصبح مصدرًا ومنشأ للتكامل والبهاء ومنشأ لهذه الأمور، وما يقوله الإمام السجّاد عليه السلام حول أبي الفضل العبّاس عليه السلام: لقد أعطى الله عمّي العبّاس مرتبة يغبطه عليها الأوّلون والآخرون. فلا بدّ لأبي الفضل العبّاس أن يأتي إلى كربلاء وإلا فلو بقي في المدينة لما كان هناك خبر عن ذلك، ولما كانت تلك الأمور والأحداث، لقد جاء ليقوم بهذه الأعمال وهذه الأمور حتّى يقول الإمام السجّاد إنّ له مقامًا يغبطه عليه الأوّلون والآخرون.
مقام أبي الفضل العبّاس عليه السلام في كلام العلاّمة الطهراني
لقد قلت للمرحوم العلاّمة ذات يوم عندما كنّا في كربلاء حين ذهابنا من حرم سيّد الشهداء عليه السلام برفقته إلى حرم أبي الفضل عليه السلام وذلك قبل سنوات بعيدة قبل انتصار الثورة، كنّا نسير فسألته سؤالاً طفوليًّا فقلت له: سيّدنا هل العرفاء والأولياء أيضًا يستفيدون من بركات أبي الفضل أم أنّ لهم مرتبة خاصّة أخرى؟
فقال: كلّ عارف وكلّ وليّ لله إذا وصل إلى مرتبة فببركة أبي الفضل عليه السلام، ثمّ صرّح وقال: السيّد الحدّاد هذا انكشفت له مراتب ببركة أبي الفضل عليه السلام، فليس عبثًا ما يقال: إنّه قبلة العارفين، فأبو الفضل قبلة العارفين، قبلة العارفين، الناس الآخرون وسائر الناس أيضًا هو قبلة لهم، ولكنّ العارفين وأولياء الله لا بدّ أن يمدّوا يد الاستجداء إلى هذا الحرم وإلى هذه العتبة، وينبغي أن يأخذوا من هذا المكان الذي هو منبع الخير.
فكلّ هذا من أين حصل له؟ حصل له من هذه الواقعة، فكيف تقولون: إنّ هذه الواقعة كانت شرًّا؟ لو كانت واقعة شرّ فمن أين كانت هذه الخيرات ستحصل لأبي الفضل؟! من أين كانت هذه المراتب ستحصل لأبي الفضل؟ من أين؟
فإذن من هنا نلتفت إلى أنّ القضايا الخارجيّة التي نعدّها غير ملائمة ليست غير ملائمة، وهي تختلف بحسب نسبتها إلى الأفراد، فهذه الواقعة بالنسبة إلى سيّد الشهداء عليه السلام وحرمه وأصحابه وأتباعه هي خير وبهاء وبهجة، وهي بعينها بالنسبة إلى عمر بن سعد وابن زياد وهذا النظام والجهاز هي شقاء ونار وجهنّم ونكبة وبعد عن رحمة الله وبعد وبوار وهلاك، في حين أنّ كلا الأثرين ناشئان من حادثة واحدة فهي لم تصبح اثنتين، حادثة واحدة وليس لنا وقعتا كربلاء واقعة ترتبط بالإمام الحسين عليه السلام وأخرى ترتبط بأعدائه، كلاّ بل هي واقعة واحدة.
فإذن أمر الحُسْنِ لا يرجع إلى الحادثة نفسها بل يرجع إلى موقف الإنسان من تلك الحادثة. وإن شاء الله صار الأمر واضحًا، والليلة صار أوضح، ولدينا متّسع من الوقت حتّى آخر شهر رمضان لبيان بقيّة الحقائق، فلا يقلق الرفقاء، وإن شاء الله سننهي هذه الفقرة ولو لم تنته فلا بأس، تبقى للسنة القادمة إن بقينا أحياء وإلا فإن لله ألف طريق وطريق لتوضيح هذه الحقائق، وهو بنفسه يوضّحها بألف طريق وطريق، هو بنفسه يبيّنها، هو بنفسه يبيّن الحقائق للإنسان.
حقًّا لو لم يكن أمثال الإمام السجّاد فكيف كانت ستصلنا هذه الحقائق؟ كيف كانت ستصلنا؟ حقًّا لو لم يكن هؤلاء الأئمّة وهؤلاء الأولياء ولو لم يبيّنوا هذه الحقائق ويوضّحوها حتّى نقيّم نحن أنفسنا وموقعنا ـ وجميع المصائب التي تنصبّ على رؤوسنا هي بسبب أنّنا لم ندرس موقعيّتنا لقد جعلنا أنفسنا بدلاً منهم، لقد جعلنا أنفسنا بدلاً منهم، فلو جعلنا أنفسنا في مكانها وموقعها لعلمنا ماذا علينا أن نفعل ولما أقدمنا على أيّ عمل ولما قلنا أيّ كلام ولما أقدمنا على أيّة خطوة ولكنّا كما يريد الله.
إن شاء الله نأمل من الله بهدايته وهداية وليّ نعمتنا أن يفتح الله لنا الطرق، ويفتح أفهامنا وأن يأخذ هو بأيدينا ويوصلنا إلى المقام المنشود.