7

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

498
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1430

التاريخ 1430/09/14

جلسات المجموعة(7 جلسة)

التوضيح

ما هي حقيقة الذنب وما هو الذي يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة ويشاهده حاضرًا في صحيفة أعماله؟ وما هي صحيفة الأعمال؟ وما معنى: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد؟
تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة مقدّمة لبحث انسجام اعتراف الإمام عليه السلام بالذنوب مع كونه معصومًا.
كما تتعرّض في بدايتها لسعة الرحمة الإلهيّة وحدود استعمال أولياء الله لقدراتهم ومدى استجابتهم لرغبات تلامذتهم، وإلى مكانة كلّ من بايزيد البسطامي ومعروف الكرخي لدى الأئمّة عليهم السلام وأبحاث أخرى ترتبط بهما.
/۱٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ - الجلسة السابعة 

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

  • قدّس الله سرّه

  •  

  •  

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

2
  •  

  •  

  • أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

  • بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  •  

  •  

  • «إذَا رأيتُ مَولاي ذُنُوبي فَزِعتُ، وَ إذَا رَأيتُ كرَمَك طَمِعتُ فَإن عَفَوتَ فَخَير رَاحمٍ وَ إنّ عَذَّبتَ فَغَيرُ ظَالِم».

  • عندما أنظر إلى ذنوبي يا مولاي أشعر بالخوف والرهبة، وعندما أنظر إلى كرمك أطمع في نعمك. إن عفوت فأنت خير الراحمين، وإن عذبت فلست بظالم.

  • عصمة كلام الإمام عليه السلام وصدقه 

  • قلتُ ليلة أمسِ للرفقاء إنّ كلام الإمام عليه السلام هو كلام معصوم، أي إن كلام الإمام عليه السلام معصوم في كلتا الحالتين، سواءً عندما يتحدّث أو عندما يتضرّع إلى الله تعالى. وبالطبع إذا ما اعترفنا نحن البشر العاديّون بذنوبنا، فإنّا لا نكون قد قمنا بعمل صعب للغاية، فالحمد لله، لدينا جميعًا من هذه الذنوب وهذه الظلمات وهذه الأخطاء في ملفاتنا إلى ما شاء الله. وإذا قلنا لله: يا الله، نحن أهل ذنوب. فما المانع ذلك؟ فهذا أمر صحيح حقًا وصادق وواقع، ولا مشكلة في ذلك.

  • أقول: إن الإمام عليه السلام عندما يتضرّع إلى الله تعالى ويقول: "عندما أنظر إلى ذنوبي أشعر بالخوف والرهبة"، فهو أكثر صدقًا منّا نحن الذين ارتكبنا الذنوب بالفعل، وقمنا بها في الخارج، فأيّ ذنب أردنا أن نفعله فعلناه، أيّة مخالفة لرضا الله تعالى قد صدرت منا، نعم، فنحن لسنا بمعصومين، نرتكب الأخطاء ويصدر عنّا التقصير. ثمّ إنّ الله تعالى قد جعل التوبة لنا، فلو لم يكن الله غافرًا وكريمًا وعظيمًا وغافرًا للذنوب، لكانت الجنّة بنعيمها قد أغلقت أبوابها وانتهى أمرها، وكان يجب توسيع الجحيم بدلاً من ذلك وزيادة طبقاتها وتقوية أساساتها. في النهاية، يجب أن تتحمّل هذه الكثافة والثقل، وسيذهب الجميع إلى الجحيم، ويبقى عدد قليل من الأنبياء والأئمة والأولياء وأمثالهم. وأمّا الباقون، فلا بدّ لجهنّم أن تتحمل ثقلهم.

  • الأسرار التي يطّلع عليها بعض الأولياء حول سعة رحمة الله

  • ولكن ليس الأمر كذلك، بل رحمة الله تعالى وغفرانه وعفوه وكرمه ومغفرته للذنوب هي أوسع من أعمالنا وتصرّفاتنا وما يصدر منّا. ولبایزید وغيره من العارفين والأولياء، أسرارهم مع الله تعالى، ولديهم حساباتهم الخاصّة، يطّلعون على الأمور، وأحيانًا على بعض الأحداث، وعلى عالم التدبير، وعلى عالم القدر، ويحصلون على معلومات، فلا يبقى أمرهم هكذا، فعلى أساس ما ينكشف لهم تزداد توقّعاتهم من الله تعالى بطبيعة الحال، والرؤية التي لديهم تجاه الله تعالى، تجعلهم في مرتبة أخرى، والرحمة التي يعرفها الأولياء والأعاظم من الله تعالى لم تخطر على فكرنا، أصلاً لم تخطر على بالنا، وذلك العفو والتجاوز والكرم التي يعرفها الأعاظم عن مقام مغفرة الله ومقام ساتريّته نحن بعيدون عنه تمامًا ولا علم لنا به أصلاً. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

3
  • سوء استفادة بعض تلامذة الأولياء ممّا انكشف لهم

  • لقد كنت أشاهد ضمن حدود معيّنة في تلك المراحل السابقة التي تلت تلك الأحداث التي نقلها المرحوم العلاّمة في كتبه عن بعض تلامذة السيّد الحدّاد، ولا زلت أذكر أنّ أحد تلامذة السيّد الحدّاد كان قد طلب منه أمرًا ما، وهذا هو الموضع الذي على الإنسان فيه أن يلتفت جيّدًا ويراعي الأدب ويلزم حدوده، ويعلم أنّ النعمة التي قدّرها الله له والتي هي نعمة المعرفة لم يأت بها من جيبه، وأنّ هذا الأستاذ الذي يتتلمذ عنده هو واسطة للوصول إلى مرتبة من المعرفة والشهود. لقد كان أحد الذين يتردّدون على السيّد الحدّاد وكانت حالاته قويّة أيضًا يطلب منه أمورًا معيّنة، كان يطلب منه أمورًا يؤدّي القيام بها إلى مشكلة لا يتحمّل السيّد مسؤوليّتها وليس مكلفًا بها، لقد كنت شاهدًا على أنّ هذا الرجل وبواسطة انفتاح باب المعرفة له كان يريد أن يسيء الاستفادة من ذلك ويضغط على الأعاظم، وكان بسبب تلك البصيرة التي حصل عليها بالنسبة إلى مقام الأستاذ ومكانته، كان يريد منه أمورًا هناك مسؤوليّة كبيرة في تحقيقها له. 

  • حدود استعمال أولياء الله لقدراتهم (تدخّل السيّد الحدّاد عند حصار آية الله الحكيم)

  • فليس هناك ما يقضي بأنّه إذا وصل الإنسان إلى مرتبة معيّنة فله أن يفعل ما يشاء ويقدم على ما يريد ويستفيد من القدرات الربّانيّة لإصلاح أمور الدنيا، نعم في بعض الموارد لا مانع من ذلك، وأذكر أنّه في عصر هؤلاء البعثيّين الذين كانوا قد سيطروا على العراق أو قبلهم، في زمان عبد الكريم قاسم يبدو أنّه حدثت مشكلة وخلاف بينهم وبين آية الله الحكيم رحمة الله عليه، وكان الأمر عليه شديدًا وحاصروا منزله حتّى قطعوا عنه الماء والهاتف والتيّار الكهربائي حتّى إنّهم كانوا يريدون القضاء عليه أو يسلّم إلى ما يريدون منه، وطبعًا وفق النهج الذي كان يتّبعه لم يكن يريد أن يقع ذلك، وعلى كلّ حال فقد كان الأمر صعبًا جدًّا ومشكلاً، نعم يبدو أنّه كان في زمان عبد الكريم قاسم أو زمان عبد السلام عارف، والأقرب على ما في ذهني أنّه في زمان عبد السلام عارف، وشيئًا فشيئًا صار الأمر سببًا لقلق المحيطين وأنّه ماذا سيحدث؟ فهذا السيّد من أبناء رسول الله هو أهله في الدار لا ماء حتّى لديهم، وكانوا يأتون من فوق سطح المنزل ويوصلون إليهم الماء والطعام وما يحتاجون، لأنّهم كانوا محاصرين. وفي يوم من الأيّام يأتي الحاج عبد الجليل إلى كربلاء وقد كان أحد أصدقاء وتلامذة السيّد الحدّاد، ويقول له بقلق شديد إنّ الأوضاع صعبة للغاية وما ينقل يبعث على القلق، فافعلوا شيئًا لهذا الأمر، فتأمّل قليلاً وقال: {إن الله على كلّ شيء قدير} 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

4
  • وفي تلك اللحظة يأتي الأمر بفكّ الحصار، في تلك الثانية مباشرة، فيفتحون داره ويمضون، ويتفرّق الجنود ويذهبون وشأنهم. 

  • تتمّة قصّة مسيء الاستفادة من معرفته بالسيّد الحدّاد

  • فذاك الرجل لم يكن بحيث أنّه رأى هذه الأمور فحسب، فالجميع كانوا يرونها، بل كانت عينه قد فتحت، وكانت قد اتّضحت له أمور أخرى وحقائق أخرى وبواسطة اتّضاحها كان يريد أن يجعله في محذور لأجل الوصول إلى توقّعاته ومطالبه، وعندما كان يطالب بها كان يهدّد بأنّي سأفشي ذرّة من هذه الحقائق! عجيب كيف هذا؟ فأيّ حساب هذا أن يأتي إنسان وبواسطة العناية التي قدّمها وليّ النعمة لهذا الإنسان فوصل إلى مرتبة من المعرفة ومن الشهود ومن فتح الباب ثمّ بعد ذلك يستعملها ضدّه، وكما يقول سعدي: 

  • أعلّمه الرماية كلّ يوم***فلمّا اشتدّ ساعده روماني 
  • فهذا الوضع الذي أنت فيه والذي نلته وهذه المكانة التي حصلت عليها لم تكن من جيبك، بل حصلت عليها من هنا، ثمّ بعد ذلك تريد أن تستعملها للوصول إلى ما تريد، وللوصول إلى رغباتك الخاصّة، تريد أن تستعمل هذا ضدّه، والحال أنّك أنت رأيت هذا الجانب من النقود وهو رأى ذاك الجانب منها، هو مطّلع على أمور لا يجوز أن يستفيد منها في تحقيق هذه الأمور، ولكنّك أنت تضغط عليه أن عليك أن تقوم بذلك، تضيّق عليه وتهدّده بأنّك إن لم تفعل ما أريده سأفشي الأسرار! 

  • مكانة بايزيد البسطامي عند الإمام الصادق واختلاف طلبه عن مطالب الآخرين

  • لقد كانت عين بايزيد البسطامي قد فتحت على أمثال هذه الأمور من الله ونظامه وجهاز تدبيره وعالم تقديره وعالم المشيئة وأمثال ذلك، فقال: ما دام الأمر كذلك فإنّي يا إلهي لن أدعك، وبما أنّي قد عرفت شيئًا ما من الحقيقة فتعال لنجري معًا معاملة، ولن نتنازع فيها، ولكن إن كنت ستقف عند كلامك فعليّ أن أعرف ماذا أصنع أنا، فإمّا أن تعطيني ما أريد ولا بدّ أن تعطيني ما أريده بعينه، لقد حاصر هذا العبد الله، ففي النهاية هذا النوع الكلام ينتهي إلى هنا ولكنّه كان يريد لقاء الله، فبايزيد كان يطلب لقاء الله، إمّا أن تعطيني ما أريد وإمّا أن أفشي إلى الدنيا شيئًا من رحمتك ومعرفتك وكرمك وعفوك وتجاوزك بحيث لا يعبدك أحد إلى يوم القيامة، سأريح بال الجميع. فقال له الله: كلاّ كلاّ سأعطيك بالله عليك لا تفسد الأمور، لا تفسد نظامنا، ماذا صنعنا حين فتحنا لك عينك حتّى صرت تعيّن لنا تكليفنا! حسنًا سنعطيك. فبما أنّا نحن البحر فتعال أنت وقع فيه، فجاء بايزيد ووقع فيه، وقع فيه. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

5
  • من كان بايزيد؟ لقد كان بايزيد تلميذ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام، ورزق الله الإنصاف لهؤلاء الذين ينكرون هذه الحقائق بغير حجّة، فما دام قد دوّن في التاريخ أنّه كان يعمل سقّاءً في منزل الإمام الصادق عليه السلام مدّة ستّ سنوات فلماذا تنكرون؟! ما الفائدة من هذا الإنكار؟! ألأنّ بايزيد كان عارفًا فعلينا أن ننكر ذاك الأمر؟! لقد كان عارفًا نعم هذا صحيح، فلتقل إنّ عقائده كانت فاسدة، فلا بأس في ذلك، هذا الأمر بينك وبينه، ألم يكن هناك أفراد مختلفون عند النبيّ؟ فالإمام الصادق عليه السلام ليس أعلى من النبيّ صلّى الله عليه وآله، لقد كان يأتي إلى النبيّ كافّة أنواع الناس، الجميع كانوا يأتون، الفاسق كان يأتي والتقيّ كان يأتي والذي هو من أهل الدنيا كان يأتي، والذي هو من أهل الآخرة كان يأتي، فلنفترض أنّ هذا واحد منهم وهو على اعتقاده الخاص ونهجه، فلماذا تكذب وتقول إنّه لم يأت؟! لماذا تقول هذا الكلام؟! فلتقل إنّه كان سقّاءً عند الإمام الصادق عليه السلام ولكنّه لم يستفد منه أبدًا، لا بأس فهذا نوع من الكلام أيضًا، وأنت أخبر به، جاء إلى الإمام الصادق ولكنّ أفكاره كانت أفكارًا صوفيّة، أفكاره كانت أفكار الدراويش، ومن هذه الأفكار المعلومة، لا بأس فأنت أعلم بما تقول، لا أن تنكر الحقيقة الثابتة في التاريخ وتقول لم تكن، لماذا؟ 

  • لأنّه لا ينسجم مع مذاقك أنت! فهذا كذب، ولا يمكن القبول به! لا يمكن للإنسان أن ينفي الحقائق التي حصلت أحيانًا، فالآن بعض الرفقاء يسألونني ويقولون إنّ فلانًا صاحب الأفكار الخاصّة الآن والخصوصيّات التي لديه هل كان يأتي إلى المرحوم العلاّمة في زمان حياته أم لا؟! فأقول: كان يأتي إليه ويأخذ منه برنامجًا سلوكيًّا ويتردّد عليه، فهذا الأمر كان يحصل فلماذا أقول إنّه لم يكن؟! الآن وقع في بعض الانحرافات فلا بأس، أمّا في ذلك الزمان فما شأنك أنت، نعم يمكن أن أقول إنّه عندما كان يأتي إليه لم يكن يستفيد منه وكان فقط في الظاهر يتعامل معه، فهذا ما يمكن أن أقوله ولكن لماذا أكذب وأقول إنّه لم يأت؟ لماذ؟! نحن نشاهد الآن أنّه في كثير من الأمور التي ترتبط بالمرحوم العلاّمة يقول الناس إنّ هذا الأمر لم يكن له أثر، ولكنّ هذا غير صحيح، فمن غير الصحيح أن يحرّف الإنسان حادثة ما. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

6
  • مكانة معروف الكرخيّ عند الإمام الرضا عليه السلام

  • ومعروف الكرخي كان في بيت الإمام الرضا عليه السلام وكان يتردّد عليه، وكان منذ شبابه في خدمة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، ثمّ رجع إلى بغداد وسكن فيها وكان له توسّل ومات فيها، وقبر معروف الكرخي معروف الآن في بغداد وله ضريح ومسجد فيها إلى جانب إحدى المقابر، وله بناء خاصّ من حيث الشكل والشمائل، هناك بناء خاصّ، ونحن اليوم نلاحظ أنّهم أنكروا ذلك في كتب التراجم والرجال وأنّ معروفًا الكرخيّ لم يأت إلى الإمام الرضا عليه السلام وأنّ هذا كذب اخترعوه من عند أنفسهم. فما معنى هذا؟ وما هذا الكلام؟! ما دام لدينا في التاريخ أنّ أصحاب الإمام عليه السلام يقولون أنّا رأينا معروفًا هناك، ومعروف نفسه يبيّن حالاته مع الإمام الرضا عليه السلام، وقد أقيمت الشواهد والقرائن على صحّة هذا الأمر فلماذا علينا أن نكن نحن قاصري النظر، وقاصري الفكر، ومتعصّبين وبسبب الاختلاف في الأذواق والمشارب ندوس على الحقائق، إن كان ذوقنا لا ينسجم مع ذوقه فلا بأس، فتلعترضوا إن سمعتم كلامًا باطلاً فاعترضوا اعتراضًا علميًّا فلتعترضوا فما المشكلة في ذلك؟! إنّه ليس معصومًا حتّى يكون الاعتراض عليه مشكلاً، إنّه ليس الإمام الصادق عليه السلام، إنّه إنسان، رجل من الأعاظم، نقول له: لقد كانت عقيدتك تحتوي على شبهات ومشاكل، وفيها اختلاف مثل الآخرين، أفهل كان جميع أجلائنا معصومين، هل كان فقهاؤنا منذ صدر الإسلام معصومين؟ هل كان أصوليّونا معصومين، هل كان مفسّرونا معصومين؟ وهل كان مؤرّخونا معصومين وهل كان فلاسفتنا معصومين؟! كلا بل كان لديهم الصحيح والسقيم وصحيحهم على أعيننا، وسقيمهم لا نقبل به، مهما كان العالم فإنّ الإنسان يرفض الكلام الباطل، لا إشكال في ذلك أبدًا، ولا بدّ أن يكون الأمر هكذا. 

  • في مدرسة التشيّع ليس هناك إلا أربعة عشر معصومًا لكلامهم عصمة، وأمّا الآخرون مهما كانوا فلا، ومهما كا المقام الذي وصلوا إليه من حيث الشهرة ومن حيث العلم ومن حيث المسائل الاصطلاحات والمعارف، فلا بدّ من عرض كلامه على كلام العصمة وعند صوابها تقبل وعند عدم انطباقها تردّ، رغم أنّ صاحبها رجل جليل الشأن. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

7
  • فهذا الشيخ الصدوق في معتقداته أمور باطلة لا نقبل بها ولا نعتقد بها، كسهو النبيّ وأمثال ذلك ممّا أثبته الشيخ الصدوق ونحن لا نقبله، ولديه الكثير من الكلام ردّ عليه الشيخ المفيد في مقالة انتقد فيها اعتقاداته. لقد كان الشيخ المفيد رجلاً عظيم الشأن كثيرًا، كان من أولئك الرجال المستقيمين وذوي القيمة والشأن، لقد كان الشيخ المفيد بلا شكّ من الذين هم موضع اهتمام ونظر إمام الزمان عليه السلام ولا شكّ في ذلك، يشبه السيّد بحر العلوم، وطبعًا يشبهه لا أنّه في مرتبته فقد كان السيّد في مرتبة أخرى. ولكنّ الشيخ المفيد أيضًا كان رجلاً له شأنه، الشيخ المفيد هو ذلك الذي عندما علم أنّه أخطأ في حكم قضائيّ معيّن لم يحاول إخفاء ذلك بأساليب معيّنة من تلك الأساليب التي هي كثيرة بيننا وتختلف بحسب المواقع، فلكلّ مخالفة طريقة خاصّة، وبدلاً من أن نأتي ونصرّح بأنّنا أخطأنا نبدأ بالتدليس والإخفاء، ولكنّ الشيخ المفيد عندما أدرك أنّه أخطأ ذهب إلى داره وأغلق بابه وقال للنّاس: أنتم أخبر بشؤونكم مع ربّكم ولا صلة لي أنا بذلك، فأنا لست المتكفّل بدينكم والقيّم عليكم، لكم ربّ وإمام زمان عليه السلام فاذهبوا إلى ربّكم وإمام زمانكم، وافعلوا ما شئتم فأنا لا عمل لي معكم. فهكذا كانت المسألة، ولها قصّة مفصّلة، حيث كانت هناك امرأة حاملة قد توفّيت… لقد أبرز من نفسه الصدق والوفاء والصفاء والأخلاص فجاء وليّ نعمته وأخذ بيده، جاء وليّ نعمته وأمسك بيده وأرسل إليه أن افتح باب دارك واشرع بالقضاء والفتوى والحكم ونحن نؤيّدك ونرعاك، وهنا انتهى الأمر وصار الشيخ المفيد الشيخ المفيد، ومن اليوم فصاعدًا صار ثابتًا ومحكمًا، امض واحكم وأفت، ومهما كان الأمر فاحكم، منذ ذلك الحين أدرك من يكون خلفه، عرف من أخذه في كنف حمايته ولطفه، فالإمام عليه السلام قد أخذه، وما دام الإمام قد أخذه فلماذا يخاف؟! كان ينبغي أن يرتجف بدنك إلى الآن، كان ينبغي أن تنفصل عظامك بعضها عن بعض، أظننت الأمر سهلاً؟! كان ينبغي أن تقوم كلّ شعرة من بدنك حتّى الآن وتقف أمامك وتمنعك عن الحكم الذي حكمت به، ولكن الآن الإمام عليه السلام لا أنا وأمثالي قال لك تقدّم، سر، امض يا مالك إلى مصر واحكم هناك، امض يا سلمان إلى المدائن واحكم هناك، امض يا عثمان بن حنيف إلى البصرة وتصدّ هناك لإدارة المجتمع وتدبيره، ما دام الإمام عليه السلام يقول: يا عليّ بن يقطين ـ وقد تحدّثنا قبل ليلتين عن عليّ بن يقطين ـ ما دمت أنا موسى بن جعفر عليه السلام أقول امض فامض ولا تنظر خلفك! امض مطمئنّ البال فقد انتهى الأمر، هو بنفسه يعلم ماذا يصنع، هو نفسه يعلم هو نفسه يعلم. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

8
  • وقد كان الشيخ المفيد من هؤلاء، فقد جاء وحكم بحكم هكذا… وماذا عن معروف الكرخي؟! لقد كان معروف الكرخيّ من الذين كانوا مع الإمام الرضا عليه السلام وكان يستفيد منه. والآن نرى أنّه يرفضون ذلك، ويقولون: من قال إنّ معروفًا الكرخيّ كان من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام؟! من قال إنّ بايزيد كان من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام؟! من قال ومن قال…؟ وعلى كلّ حال لهذا الكلام جواب ولا بدّ من الإجابة يومًا ما على هذا الكلام، لا بدّ في هذه الدنيا من تحمّل مسؤوليّة هذا الكلام، وأمّا في الآخرة فشيء آخر، ولكن لا بدّ من تحمّل مسؤوليّة هذا الكلام في الدينا هذه. 

  • جاء بايزيد إلى الإمام الصادق عليه السلام وبقي عنده مدّة ستّ سنوات. فماذا كان يفعل؟ كان يتعهّد بتأمين الماء لدار الإمام، ففي ذلك الزمان لم يكن الماء متوفّرًا في البيوت، كانوا يذهبون إلى مكان ما ويحضرونه ويجولون به بين البيوت والأحياء، وكان في البيوت جرار ومخازن يصبّون فيها الماء ويستعملون منه في الغسل ـ وطبعًا كانت هناك آبار للغسل أيضًا ـ وللشرب، فكانوا يحتفظون بذلك الماء في تلك الجرار فتترسّب الرواسب التي يحتويها في قعره ويصبح زلالاً فيشربون منه. وكان الذين يتولّون هذه الأمور يدعون بالسقّائين، وقد كان منزل الإمام الصادق كثير الضيوف الذين يتردّدون عليه باستمرار فيمتلئ ثم يخلو، فكان يحتاج إلى سقّاء، فجاء بايزيد وقال أنا أتولّى هذا الأمر، فقال له الإمام حسنًا. وبقي يعمل هناك ستّ سنوات، ولكنّه كان له أعمال أخرى هناك أيضًا، فالسقاية هي ظاهر الأمر، ولكن في الواقع كان الإمام الصادق هو السقّاء، هو في الظاهر كان يحضر الماء ولكن في الباطن كان الإمام الصادق عليه السلام يربّيه ويعدّ له برنامجًا خاصًّا. بعد ستّ سنوات طلب الإمام منه في يوم من الأيّام أن يحضر كتابًا من موضع من الدار، فقال له: من أين؟ فقال له الإمام: لا زلت هنا منذ ستّ سنوات ولا تدري أين هو؟! فقال: يا ابن رسول الله منذ أن جئت إلى هنا لم تقع عيني على سواك. انظروا هذا السقّاء يختلف عن سائر السقّائين، هل هو مثلهم؟ هل هم سواء؟! حينها قال الإمام آن الأوان أن تعود إلى بلادك وديارك، آن الأوان أن تعود، ونظر إليه الإمام نظرة من تلك النظرات… 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

9
  • به ذره گر نظر لطف بوتراب کند***به آسمان رود وکار آفتاب کند
  • يقول: إذا نظر أبو تراب إلى ذرّة حلّقت في السماء وصنعت ما تصنعه الشمس

  • من تلك النظرات التي تحوّل الذرّة إلى شمس، تحوّلها إلى شمس، نظر إليه الإمام نظرة من تلك النظرات، وأعاده وقال له: يكفي عملاً بالسقاية، قم وأوصل الحقائق إلى أهلها، أبلغ المسائل إلى المستعدّين، ولدينا في التاريخ أنّ الإمام أرسل برفقته ابنه محمّدًا، والآن هو مدفون في هذا الحرم الذي هو خارج شاهرود في بلدة بسطام، وهو ابن الإمام الصادق بلا واسطة، وعندما أشرف بايزيد على الموت أوصى أن يدفن عند عتبة ضريح ابن الإمام الصادق عليه السلام، وعلّة كون قبر بايزيد الآن في الخارج هي أنّه أوصى بذلك، فهذا قبر ابن النبيّ ولا يجوز أن تدفنوني عنده، فأنا لا أليق أن أدفن إلى جانب ابن النبيّ، ادفنوني جانبًا عند عتبة ضريحه، لذلك فقد انتقل ابن الإمام الصادق عليه السلام أوّلاً إلى رحمة الله ثمّ دفن بايزيد هناك جانبًا، وللمكان صفاؤه الخاصّ.

  • هل تصحّ زيارة غير المعصوم أثناء الذهاب إلى زيارته؟

  • فمن أراد أن يزور ابن الإمام الصادق عليه السلام وبايزيد على طريق مشهد فلا يزورهما في طريق الذهاب كما أخطأت أنا ثمّ نبّهني المرحوم العلاّمة إلى ذلك، فقد نقلت للرفقاء هذا الأمر، فقد كان المرحوم العلاّمة يقول: من أراد أن يزور الإمام الرضا عليه السلام فعليه أن لا يجعل قصد زيارته توأمًا مع زيارة غيره أثناء الطريق، كأن يذهب إلى شاهرود ويزور بايزيد، أو يزور الشيخ أبا الحسن الخرقاني في الموضع الأعلى في القلعة الجديدة، أو يزور الشيخ العطّار في نيشابور، أو يزور قبر الحكيم السبزواري رحمة الله عليه مثلاً في سبزوار. فمن يمشي لزيارة الإمام الرضا عليه السلام يجب أن لا يكون في عقله إلا الإمام الرضا عليه السلام، لا بدّ أن يكون الإمام الرضا عليه السلام وحده وانتهى الأمر، أي يجب أن لا يكون غير الإمام الرضا عليه السلام، نعم هناك في شاهرود بعض المشاهد وفي سبزوار قبر السبزواري، وفي شاهرود لا أدري من، ولكن إذا كان في بالكم هؤلاء فقد خسرتم، رغم أنّ هؤلاء من الأعاظم، رغم أنّ هؤلاء من أولياء الله، رغم أنّ هؤلاء نم العرفاء، ولكنّ الإمام عليه السلام شيء آخر، الإمام عليه السلام أمره يختلف عن الآخرين. فمن كان يزور الإمام الرضا عليه السلام عليه أثناء الطريق أن لا يفكّر بغيره، وينبغي أن لا يكون غيره، فإن كان غيره فإنّه إذا ما وصل إلى مشهد وزار فإنّ زيارته ستكون ناقصة، يعطونه أربعين بالمائة منها، لأنّ ذهنه أثناء سيره كان ممتزجًا. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

10
  • وهذا كلّه لطائف ونكات ظريفة ومسائل دقيقة ذكرها الأعاظم وأولياء الله، فأنا لا أقولها من نفسي، نعم إذا ما ذهبنا إلى الزيارة وعند العودة فلا إشكال في زيارة هؤلاء، فمثلاً نمرّ حين عودتنا على قبر الشيخ العطّار فريد الدين النيشابوري والذي هو أم أكبر العرفاء الشامخين، وهو الذي عندما كان مولانا طفلاً صغيرًا أعطاه كتابه منطق الطير، لا بل كتابًا آخر غيره من كتبه الشعريّة الثلاثة وقال لأبيه: قريباً سيشعل ابنك هذا أرواح العالم. أعطاه الكتاب بينما هم يسيرون نحو بغداد قادمين من بلخ، فالعطّار هناك، وبعده أيضًا الحكيم السبزواري والذي هو رجل جليل الشأن جدًّا جدًّا، وكما يقول رفيقنا الشفيق الشيخ بيات رحمه الله إنّه كان برفقة الشيخ الأنصاري رحمه الله حين عودته من مشهد فذهبوا إلى قبر السبزواري رحمه الله، وأوقفوا الأتوبوس هناك ساعة أو ساعتين من الليل وذهبوا إلى قبره، ولم يكن حينها كما هو عليه الآن، فقد جدّد وحدّث واختلف عمّا كان عليه، وكان يحكي عن تلك الزيارة بالتمجيد والثناء فقد استضافهم جميعًا خير ضيافة في تلك الليلة، وكان حاله عجيبًا غريبًا وكان يعيش حالة من الوجد والشعف، ويبدو أنّ هذا الأمر كان ملموسًا للحاضرين في ذلك المحفل حيث كان الشيخ الأنصاري يقرأ الشعر من ديوانه يقرأ الغزل وكانت لنا ذكريات جميلة، وعندما خرجنا التفت الشيخ الأنصاري إلى الشيخ بيات وقال: يبدو أنّ الإنسان يتأثّر، يبدو أنّه يتأثّر، ولكن أين هو وأين العطّار؟! فالعطّار في مقام آخر، وله منزلة أخرى. أو بايزيد فهو صاحب منزلة وعقيدة أخرى، أو مثلاً في شاهرود فلا إشكال أن يزور الإنسان أثناء رجوعه هؤلاء الأعاظم فهو في النهاية رجوع، رجوع من عند الإمام. 

  • إنّ رعاية هذه الأمور مهمّ جدًّا، وفي الأوقات المفصليّة تساعد هذه الأمور الإنسان وتغيثه، وطبعًا قد ذكرت إلى حدّ ما في أحد هذه المؤلّفات ما يرتبط بهذه المسألة، ولا أذكر أين في أسرار الملكوت الأوّل أو الثاني أو غيرهما، يبدو أنّي ذكرت أمثال هذه المسائل، نعم ذكرت هذه المسألة عند الحديث عن أنّ الإمام عليه السلام معصوم في جميع التصرّفات والمراتب، والعصمة تعني أنّه غير قابل للخطأ، وغير مستعدّ بقبول الخطأ. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

11
  • حقيقة الذنب في نيّة الفاعل 

  • وكما ذكرت ليلة أمس فإنّ الذنب عبارة عن تلك الصورة المثاليّة القائمة بنفس الفاعل في ذلك الفعل الذي يقوم به، أمّا العمل الخارجيّ نفسه فهو لا يسمّى ذنبًا، العمل الخارجيّ في نفسه هو عمل يتّخذ لنفسه صورًا مختلفة من الحسن والقبح بحسب الدواعي المختلفة، حتّى يمكن أن يقوم اثنان بعمل خاطئ ويكون لكلّ منهما ثواب على عمله، ويضربون لذلك مثالاً يقولون إنّ رجلاً ذهب إلى نزل وكان هناك بئر مفتوح، فقال يمكن أن يأتي إنسان إلى هنا على حصانه فينظر ولا يرى شيئًا فنجعل في الأرض وتدًا خشبة حتّى إذا جاء أحد ربط بها حصانه إلى جانب البئر، حتّى لا يذهب الحصان إلى مكان آخر، فقام هذا الرجل بذلك. ثمّ جاء رجل آخر ولمّا رأى ما هناك قال: ربّما تعثّر بها أحد ووقع في البئر، فانتزع الوتد. فأيّهما يستحقّ الثواب؟ كلاهما؛ فالأوّل كانت نيّته أن يربط الحصان به، وهذا نيّته أن لا يصاب أحد بأذى. وكلا هذين العملين الخاطئين من حيث الظاهر، هما موضع رضا الله.

  • أيعقل أن يكون أمران بينهما كمال التقابل بدرجة مائة وثمانين درجة وكلاهما عليهما ثواب؟! أو أن يكون هناك عمل واحد إذا صدر من إنسان كان حسنًا وإذا صدر من إنسان آخر لا يكون حسنًا. افترضوا أنّ طفلاً يقول: أعطوني ورقة وقلمًا لأكتب، فتعطيه قلمًا فيبدأ بالكتابة والرسم والخطوط ويسرف في ذلك فهذا لا إشكال فيه، لأنّه يريد أن يتمرّن على ذلك وتصبح الكتابة عنده سهلة، ولكن أنت الذي قطعت مقدارًا من العمر إذا أردت أن تقوم بما يقوم به الطفل وتأخذ الورقة وتخطّ عليها فيقال لك: لماذا تسرف؟! لقد أفسدت الورقة كما أسرفت في الحبر، فقد فعلت حرامًا حرامًا نعم هو حرام، فالحرام ليس بالأمر الخياليّ الذي لا يتحقّق، فالعمل الذي يكون لغوًا ويسبّب الإسراف حرام، وجميع الأعمال التي نقوم بها هي في نفسها ليس لها صورة قبيحة وصورة مستحسنة، هي في حدّ نفسها فعل من الأفعال الوجوديّة، وإن كان لا بدّ من صفة تحمل على الوجود بما هو وجود فهي الخير، فالوجود خير وآثاره خير وتبعاته خير، وجميع هذه الخصوصيّات التي تتحقّق في عالم الوجود هي من حيثيّتها الوجوديّة وتكوّنها الخارجيّ التي ترجع إلى ذلك هي متّصف بالخير ولا تتّصف بأيّ شيء الحسن والقبح الكلاميّين اللذين يترتّب عليهما تكليف المكلّف، ولا يترتّب عليها أيّ أثر وأيّ شيء من هذا الناحية. تلك النيّة التي ينويها الإنسان، تلك النيّة هي الصورة البرزخيّة لذلك الفعل الخارجيّ سواء تحقّق في الخارج أم لم يتحقّق، فعندما أمسك بالسيف أو السكّين أريد أن أقتل به بريئًا، بمجرّد أن أنوي أن أضربه يسجّل لي قتل، وذلك لأنّي أقدمت على قتل نفس محترمة بإرادة واختيار وهو عمل محرّم ولدينا في القرآن آية تقول: {مِنْ أَجْلِ ذلِك كتَبْنا عَلى‌ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكأَنَّما أَحْيا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيناتِ ثُمَّ إِنَّ كثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِك فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}۱ فمن يقتل نفسًا فكأنّما قتل جميع الناس، وهذا على أساس تلك المسألة الكليّة الشاملة لجميع الناس والتي تسري بواسطتها إلى جميع الأفراد، فالأمر دقيق جدًّا، وهنا يقول القرآن: {مِنْ أَجْلِ ذلِك كتَبْنا عَلى‌ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكأَنَّما أَحْيا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيناتِ ثُمَّ إِنَّ كثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِك فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}‌ جميعًا تعني أنّ من أحيى إنسانًا واحدًا فكأنّه أحيى جميع الناس. فأنا عندما أقدم باختياري وعلمي بأنّ هذا العمل حرام وعلمي بأنّ عليه عقابًا وهو أنّه محرّم فأمسك سكّينًا أو سلاحًا وأتوجّه نحو ذلك الإنسان وأصوّب السلاح نحوه لأقتله فجأة عندما أضغط على السلاح أجد أنّه خال من الرصاص، أو أنّ هذه القطعة منه قد خربت فلا يمكنه أن يطلق النار، وفي هذه اللحظة ينتقل ذلك الرجل من مكانه ولا أتمكّن بعد ذلك من قتله، فبهذا العمل يكتب في صحيفتي أنّي قتلت نفسًا محترمة، ويوم القيامة أقاد بسبب هذا العمل إلى جهنّم بلا ترديد، ومهما صرخ هناك أن إلهي لم أقتله فلا فائدة، وطبعًا لا يمكنه هناك أن يصرخ، والعيون هناك عيون أخرى، والأفكار هي أفكار أخرى، ثمّ القياس والمنطق والمحاكمة ستكون كلّها بشكل آخر، وهناك سيشعر هذا الإنسان في وجوده بهذا القتل للنفس رغم أنّه وصل في تلك اللحظة مثلاً عدد من الحرّاس من خلفه وأمسكوا به وقال القاضي إنّه حيث لم يقتل أحدًا فهو برئ ولا يمكن إعدامه، فتحريره هنا وتبرئته هما في الدنيا وبواسطة الحكم الظاهريّ، ولكن عند الله وحسب السجلّ الذي لدى الله فإنّه لم يبرّأ بل هو محكوم بجريمة قتل محكوم بجريمة قتل. 

    1. سورة المائدة (٥) مقطع من الآية (٣٢)

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

12
  • وعندما يقول الإمام السجّاد في تلك الفقرة «اللهمّ العن بني أميّة قاطبة»۱ عندما يسألون الإمام ويقولون: لم يقم جميع بني أميّة بذلك بل كان هناك عدد منهم قتل ابن رسول الله يقول لهم الإمام: لأنّهم رضوا بعمل آبائهم. وكأنّهم شاركوا في كربلاء من دون أيّ فارق بينهم وبين المشاركين! فهذا الإنسان لم يأت إلى كربلاء ولكنّه يوم القيامة يحشر مع الذين شاركوا في كربلاء، وهو يرى أنّ ذلك صحيح ولا يعترض على الله، يرى أنّ هذا صحيح لأنّ القضاء هناك يختلف {لَقَدْ كنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكشَفْنا عَنْك غِطاءَك فَبَصَرُك الْيوْمَ حَدِيدٌ}٢

  • لقد كنت في هذه الدنيا غافلاً عن إظهار وإبراز هذه الحقائق، فالعمل الذي كنت تريد أن تفعله ولم تتمكّن تتظاهر أمام الناس بمظهر خاصّ وتقول: إنّي لم أفعله. كلاّ فالعالم وصاحب الاطّلاع يدرك أنّك شريك في الجرم غاية الأمر أنّك لم تتمكّن وحدث مانع فحدثت تلك الجريمة باسم غيرك، ولكنّ هذا الأمر لا يمكن إثباته بالنسبة إلى الأناس المتعارفين، جميع الناس أعينهم هي أعين متعارفة، ونظرتهم نظرة متعارفة، لقد كنت غافلاً عن كشف الحقائق وكشف القضايا وكشف السرائر في هذه الدنيا وقضيت الدنيا بالغفلة، وقلت: لا أحد يرى ما نفعل، لا أحد يلتفت إلى ما نصنع، أمّا إذا ما صار الأمر لدينا فإنّنا هنا نكشف الغطاء من أمام عينيك، فالحكم الذي تحكمه هنا يختلف عن الحكم الذي في الدنيا، فحكمك يوم القيامة يختلف عن حكمك في الدنيا، فانظر الآن إلى قولهم إنّه لا بدّ أن يتصدّى للأمور الأئمّة وأولياء الله. فهو لأجل هذا، فذلك الحكم الذي يحكمون به هو حكم يوم القيامة، فكما أنّه في يوم القيامة يكشف الغطاء عن أعين الجميع وتتفتّح أعين الجميع على الواقع كما هو، فإذا ما تفتّحت لم تعد بحاجة إلى قاض، ولم تعد بحاجة إلى بيّنة وشاهد، ينظر فيرى أنّه قتل نفسًا! ولا داعي للاعتراض، أفهل يعترض من تغيّر إدراكه؟! هل يعترض من تبدّلت معرفته بالكامل؟! من يرونه فيلمًا مصوّرًا حول ما كان يصنع وقد صوّر أثناء قيامه بالفعل هل يمكنه أن ينكر أيضًا؟! لا يمكنه، تفضّل هذا السند أيضًا وهذه الدعوى. 

    1. مقطع من زيارة عاشوراء. 
    2. سورة ق (٥٠) الآية (٢٢)

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

13
  • ليس الأمر في يوم القيامة أنّهم يأتون بسجلّ ويرونه للمتّهم ثمّ يعترض أن يا إلهي لم أقتل في الدنيا، لم أزن في الدنيا، لم أسرق في الدنيا، لم أشرب الخمر في الدنيا، لم أصفع اليتيم على وجهه في الدنيا، فما هذا الذي في صحيفتي إذن؟! 

  • ـ لقد كتبنا كلّ ذلك. 

  • ـ إنّ ملائكتك كانوا متعبين ويغفون وبدلاً من أن يأتوا بسجلّي أنا جاؤوا بسجلّ غيري واختلطت السجلاّت بعضها ببعض وجاؤوا بسجلّ آخر. 

  • ـ يقول الله: إنّ هذا الإغفاء والتعب واختلاط السجلاّت هو في الدنيا، ففي الدنيا تختلط السجلاّت، فأحيانًا يكون المطلوب أن يؤخذ السجلّ إلى الطابق الثالث فيؤخذ إلى الأوّل، أو يؤخذ من الطابق الأوّل إلى الطابق السفليّ تحت الأرض، ومن الطابق السفليّ الأول تحت الأرض يغوص في باطن الأرض! قد يقع ذلك أحيانًا، ولكن هنا فإنّ السجلّ ليس هكذا، فكلّ سجلّ في مكانه الخاصّ، بشكل دقيق تمامًا لا يختلف ميليمترًا واحدًا، لا يختلف حتّى ميليمترًا واحدًا حتّى يعترضوا يوم القيامة، فهذه الأمور هي لنا نحن. يأتي الله ويقول: تفضّل! وتشهد الملائكة الذين كانوا قد دوّنوا ويأتون بصورة ذلك العمل كيلا يتكلّم بعد ذلك أمامنا، ولا يفتخر، ائتوا بتصوير العمل وأروه إيّاه، وطبعًا لا يأتي الله هناك بالملائكة: {يوْمَ تَشْهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يعْمَلُونَ}۱‌ ما إن يريد أن ينطق يوم القيامة حتّى يقرّ لسانه بجميع الأحكام التي حكم بها في الدنيا، يأتي لسانه بكلّ شيء تمامًا كالشريط، فيقول: في يوم كذا قلت كذا، وفي يوم كذا صنعت كذا، وقد صرت أنا هكذا في يوم كذا، وهذه الشهادة ليست شهادة زمانيّة ومكانيّة، إنّها شهادة وجوديّة. فتلك الحقيقة الكائنة في هذا اللسان تلك الحقيقة اللسانيّة تتضّح لذلك الإنسان. {لَقَدْ كنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكشَفْنا عَنْك غِطاءَك فَبَصَرُك الْيوْمَ حَدِيدٌ}٢ فهذه هي الشهادة. لا أنّ أذنه تتغيّر، وزبانه يبدأ بالحركة كالمروحة كلاّ ليس الأمر هكذا، ولا أنّه يمسك أذنه وتبدأ يده اليمنى بإصدار صوت وكأنّها مسجّل، كلاّ ليس الأمر هكذا، ولا أنّ القلب مثلاً أو الرجل وأمثال ذلك تفعل ذلك، بل تلك الحقيقة التي قامت هذه الجوارح بالأعمال بواسطتها على اساس خبث الباطن وعلى أساس العناد وعلى أساس الاختيار وعلى أساس العلم والشعور، تلك الصورة المثاليّة له عندما قام بذلك العمل، تلك الصورة المثاليّة تتجلّى في وجوده فيرى الصورة المثاليّة للكلمات التي قالها بغير حقّ، فتشهد عليه، وتلك الصورة المثاليّة للأعمال الباطلة التي قام بها تظهر في وجوده وتأتي فكشفنا عنك غطاءك أزحنا الستار، وهذه هي الشهادة، أزحنا الستار وأظهرنا في وجودك جميع الصور المثاليّة المكدّرة والتي كنت غافلاً عنها في الدنيا وخلت أنّك لم تقم بها أو قمت بها ولم يرك أحد، نريك تلك الصورة المثاليّة للظلمة، الصورة المثاليّة للفحش، وتلك الصورة المثاليّة للسبّ، والصورة المثاليّة للغيبة، فالغيبة أشدّ من الزنا، والصورة المثاليّة لاتّهام البريء، واتّهام الإنسان البريء بما لم يقم به، تلك الصورة المثاليّة تدور في هذا اللسان، ووفق دورة الخلق والإيجاد تتحقّق صور مثاليّة تمامًا كما يوجِدها المصنع، ونحن نريك تلك الصورة المثاليّة مثل المطبعة، تفضّل نقدّمها لك، فلا كذب، ولا يمكننا بعد ذلك أن نقول لم نفعل، أفهل يمكنك الآن أن تدفع خصوصيّات نفسك، هل يمكنك أن تدفع حقيقة ما أفطرت عليه الليلة؟! مهما قلت أفطرت اليوم الأرزّ والمرق كلاّ لم أفطر فلا يمكنك، هذه الحالة التي في نفسك والتي تشعر بها في وجودك وتراها مستمرّة هل يمكنك أن تفصلها عن نفسك؟! لا يمكنك. 

    1. سورة النور (٢٤) الآية (٢٤)
    2. سورة ق (٥٠) الآية (٢٢)

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

14
  • وفي يوم القيامة ينكشف هذا الأمر بعينه للإنسان، بحيث لا يكون هناك ستار ولا فيلم ولا صوت تسمعه أذن الإنسان وماذا يقول اللسان فهو يقول والأذن تسمع، وفجأة يصدر من جميع البدن صوت وينتشر في الهواء ويخرج عن السيطرة، عجيب هذا الإنسان لقد ارتكب المعاصي بكلّ جوارحه عديم الأصل فيده ارتكبت المعاصي ورجله ارتكبت المعاصي وكلّ شيء فيه ارتكب المعاصي ولسانه وعينه وأذنه وكلّ شيء الحمد لله، فهو لم يجلس عاطلاً، فهناك يحوّل الذين لم يجلسوا عاطلين عن العمل إلى العمل عند فلان. 

  • حادثة مخيفة في الطائرة وموعظة

  • أحد الرفقاء حفظه الله حين ذكرنا أمامه اسم المرحوم العلاّمة قال فجأة، كنّا ذات يوم في ذلك العهد السابق عهد الشاه حيث كان هناك سفور، كنّا في الطائرة متوجّهين نحو مشهد، وفي وسط الطريق هبّت عاصفة وبدأت الطائرة ترتفع وتهبط بشكل مخيف فعاش بعض الركّاب لحظات عسيرة، وقد جرّبت أنا ذلك أيضًا في بعض الرحلات، فأحيانًا ينال الإنسان حظّه من هذه الأمور، فخاف الجميع واستوحشوا واضطربوا وأصابهم الفزع الذي تحدّثنا عنه سابقًا، وشيئًا فشيئًا ارتفع الضجيج والبكاء والاضطراب، وكان هناك رجل طاعن في السنّ من التجّار الذين يعملون في السوق وكان قد اضطرب هو الآخر وكان يرفع الصلوات ويقول لهذا أنت قل هذا الذكر ويقول لذلك أنت قل كذا، وكانت هناك بضعة فتيات سافرات في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة أو العشرين وكنّ يضحكن بشدّة وكأنّ شيئًا لم يكن، وكأنّه لا خطر يمكن أن يقع، وطبعًا كان هناك خطر ولكنّهم لا يقولون ذلك لأحد، ولكنّهنّ كنّ يضحكن مسرورات فغضب ذلك الحاج، فقد خاف ورأى الموت أمام عينيه، فبدأ بشتمهنّ وشتم آبائهنّ، وقال إنّ سفوركنّ هذا هو السبب في هذا البلاء، ألا تخجلن؟! تأتين إلى مشهد هكذا وتضحكن، فليكن لديكنّ شيء من الخجل، ضعن شيئًا على رؤوسكنّ واسترنها، وبعد أن قال كلامه قالت له إحداهنّ: يبدو أنّك أصبت بضغط شديد، أنت ستموت وعليك أن تحزن وتلطم على رأسك لأنّك قضيت عمرك في السوق تخادع الناس وتبيع بالأسعار المرتفعة، والآن يريد الله أن يقبض روحك فاضطربت، أمّا نحن فلم نصنع شيئًا، نحن صادقون مع الله وبيننا وبينه علاقة صداقة، فإن متنا فلا بأس؛ نحن نعلم أنّ مكاننا هناك جيّد، اذهب وفكّر في نفسك! ولا تكثر من القول لنا: استرن رؤوسكنّ، وأمثال ذلك! 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

15
  • وقد كان حقًّا ما قلنه، ومن غير المعلوم أنّهنّ بصفائهنّ هذا لسن أمامنا عند الحساب، ليس من المعلوم أن لا يكنّ أمامنا، بل هنّ كذلك، لا شكّ في ذلك لا شكّ، نحن علينا أن نفكّر في أنفسنا، في مسكنتنا في شقائنا في ما تظاهرنا به ثمّ ثبت خلافه!! علينا أن نذهب ونفكّر في ذلك آه آه آه آه ماذا سيحلّ بنا؟! 

  • معنى فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وما هو الأمر الذي يشاهد يوم القيامة؟

  • والنتيجة على كلّ حال أنّ هذه الصورة ستظهر يوم القيامة فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد كشفنا عنك غطاءك فصار بصرك مختلفًا عمّا كان عليه في الدنيا، وصارت نظرتك حادّة وعميقة فحديد يعني حادّ، ذلك الشيء الذي يغوص في الأعماق يدعى حديدًا من الحدّة، أي إنّه يشقّ الظاهر ويصل إلى الباطن، فبصرك اليوم حديد يعني يصبح نظرك دقيقًا جدًّا وعميقًا، ولم يعد نظرًا إلى ذوات الأعمال التي قمت بها بل إلى الصور الملكوتيّة والبرزخيّة لتلك الأعمال، لا تنظر إلى أنّه ماذا قال لسانك؟ بل إلى الحال التي كان عليها حين قال، لا تنظر إلى ما صنعت رجلك بل إلى الحال التي كانت عليها حين صنعت، والحال التي كنت عليها حين صنعت يدك ما صنعت، وعلى هذا… 

  • فإذن عندما يقف الإنسان يوم القيامة في محكمة العدل الإلهيّ لن تكون هذه الآية شاملة للأعمال الماديّة التي قام بها في هذه الدنيا فحسب، بل ماذا تشمل أيضًا؟ تشمل الأعمال سواء الماديّة التي قام بها وذلك البعد المعنويّ والمثاليّ والذي خفي عنه، أي ذلك البعد المثالي، وقد ذكرت أنّه في يوم القيامة وخلافًا لما يقال لا يأتون للإنسان بالعمل الذي قام به في الدنيا بعينه ويحاسبونه عليه، فهو عمل كسائر الأعمال ولا أهميّة له، فالماء الذي أشربه أنا سواء شربته أنا أم غيري لا يختلف الأمر، أمّا ذلك الماء الذي يريد أن يشربه إنسان آخر، يريد أن يشربه طفل وأنا آخذه من أمامه وأشربه فهذا يأخذونه يوم القيامة للحساب، أمّا هذا الماء فقد جاؤوا به من هنا وشربوه وهذا أمر متعارف ومعتاد، وهذا لا يحتاج إلى أن يُرى ويحاسب عليه، يقول الله: لقد أخذت هذا الماء من أمام هذا. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

16
  • ـ لقد أخذته فما المشكلة؟! كنت عطشانًا وأمسكت به وشربته.

  • فالله لا يؤاخذ على شرب الماء. أين هي المشكلة؟! المشكلة هي أنّه وقع هنا ظلم على طفل مظلوم، هذه هي المشكلة! لا شرب الماء، إنّها الظلم الذي حصل هنا وهذا الظلم قد أثبت في النفس وحفر فيها، وبعد أن شرب هذا الماء يقوم فيصلّي فلا يجد حضورًا للقلب بسبب هذا. 

  • فيوم القيامة لا تُخلق صور الأعمال، بل تظهر سيرة الأعمال وحقيقتها، فهما أمران مختلفان: سيرة الأعمال وصورتها المثالية، فالله لا يخلقها بل هي محفوظة في مكانها، لقد كانت وأنا خلقتها فلماذا ألقيها على عهدة الله؟! فأنا خلقتها وبواسطة هذا العمل الباطل الذي قمت به أوجدت أمرين في عالم الوجود: 

  • الأمر الأوّل الذي أوجدته هو العمل الخارجيّ بعينه، وهذا العمل الخارجيّ هو عمل ماديّ، والله لا يؤاخذ على هذا العمل الماديّ، فهناك عمل تحقّق في الواقع الخارجيّ وليست فيه أيّة مشكلة. 

  • وأمّا الأمر الثاني الذي قمت به والذي يؤاخذ عليه الله ويوقفني عليه فما هو؟ إنّه قيامي بذلك العمل بهذه النيّة، تلك النيّة التي خلقتها أنا هي التي تبقى. 

  • فإذن العمل في يوم القيامة هو هذا، أمّا ظهوره وبروزه فلا فائدة منه، لا أنّه لا يحصل، إنّ ظاهر العمل يظهر أيضًا، وذلك لأنّ الإنسان بواسطة ذلك التجرّد النفسيّ الذي يحصل لديه يوم القيامة عندما يحيط بوجود ذاته يحيط أيضًا بجميع آثار وجوده [ومنها ظواهر الأعمال]، وهذا ليس بالأمر ذي البال، الأمرّ ذو البال والذي يحاسب عليه حسابًا عسيرًا هو عبارة عن أنّي بواسطة هذا العمل قد أوجدت صورة برزخيّة، وهذه الصورة البرزخيّة، هذه الصورة البرزخيّة التي كنت غافلاً عنها، يلفتني الله إليها يوم القيامة مجرّد إلفات، إنّه لا يصنع شيئًا، الأمر بسيط جدًّا، فانظروا إذن إنّه ليس عملاً صعبًا، لا يحصل شيء هناك، ولا يقع شيء يوم القيامة، وما يقال من أنّ يوم القيامة هو في هذه الدنيا هذا معناه! فالآن هذه الصورة البرزخيّة موجودة فيّ، وبواسطة الشهوات وبواسطة الغفلات وبواسطة عدم اتّباع منهج أولياء الله والسير والسلوك في الطريق الإلهيّ، فإنّ الذهن والنفس يتوجّهان إلى الدنيا ويتوغّلان فيها، ويغفلان عن تلك الصورة البرزخيّة والملكوتيّة والمثاليّة، ويوم القيامة وعندما يزول هذا الالتفات إلى الدنيا، فإنّ الصورة المثاليّة ستحضر بشكل تلقائي، وستكون هناك، والله لا يصنع شيئًا، وقوله: فكشفنا عنك غطاءك هو فقط لأجل تسليتنا وأنّ هناك شيئًا ما، فالصورة الملكوتيّة بنفسها موجودة والله لا يوجدها حينها، ولكنّ غفلتي هنا بواسطة انصرافي إلى نفسي وتظاهري بالغفلة وبالنوم. وبتغافلي هذا لا تنام تلك الصورة، بل تبقى في مكانها، ويوم القيامة يفتح الإنسان عينه فيرى أنّه لا خبر عن الدنيا، ينظر فيفاجأ بأنّ نفسه قد تجرّدت وحصلت لها إحاطة، وحصلت لها قدرة على معرفة هذه الحقائق التي كانت غافلة عنها، ولكنّ هذه الحقائق كانت موجودة، كلّ هذه الأشياء كانت موجودة، وحال ذلك حال من يصاب بصدمة عصبيّة فيضرب جزء من حافظته فينسى، ينظر إلى أبيه وكأنّه ينظر إلى أيّ إنسان آخر، ينظر إلى أمّه وكأنّه ينظر إلى أيّة امرأة، لا يعرف أخًا ولا أمًّا ولا قرابة ولا جارًا، أبدًا لا يعرف شيئًا، يمشي في الشارع هكذا وبعضهم يبقى حتّى آخر عمره هكذا، وكأنّها لا ترجع، ولكنّ جميع هذه المخزونات باقية في مرتبة النفس، وحلقة الوصل بين النفس وبين ظهور النفس والتي هي عبارة عن الدماغ قد أصيبت بمشكلة ـ وطبعًا يمكن استعادة ذلك عن غير الطريق المعتاد دون أن يتصرّف في الدماغ شيئًا، فهناك حسابات أخرى ـ وما دامت هذه المشكلة موجودة فلا يمكنه أن يظهر الصور التي ادّخرها في نفسه، وفجأة وعلى أثر حادثة أخرى أو صدمة جديدة ترجع في كثير من الأحيان تلك الصور وتتحرّك، يتحرّك الرأس قليلاً وفجأة ترجع هذه الصور، فهذا أبوه وهذه أمّه، وهذا أخوه وهذه أخته. وكأنّك بدّلت قناة التلفزة فجأة وانتقلت إلى قناة جديدة بضغة زرّ، فيواجه هذا عالمًا جديدًا، وهذا العالم الجديد متى خلق؟ لم يخلق، لقد كان هذا العالم موجودًا وهو كان غفلاً عنه، هو لم يكن مطّلعًا، وتلك الحلقة وصلة الوصل التي كان عليها أن توصله بهذا الجوّ الجديد كانت قد أصيبت بمشكلة ونقص فإذا ما رفعت تلك المشكلة حصل الاتّصال بذلك الجوّ الجديد كما هو. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

17
  • فإذن الآية الشريفة عندما تقول: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك تفيد أنّ الله لم يخلق شيئًا جديدًا يوم القيامة، التفتوا جيّدًا! لا يُخلق شيء جديد، لا يتحقّق أيّ شيء، لا يتحقّق يوم القيامة أيّ شيء، كلّ ما يحصل هو ذلك الاتّصال بين الإنسان وذلك الجوّ الجديد، وقد أصيب هذا الاتّصال بمشكلة وخلل، فإذا ما رفع الخلل صلح الاتّصال، يشدّ الله أوصاله ويحكم مساميره. وبمجرّد أن يصلح الاتّصال يرى أنّ كلّ شيء موجود: لقد اغتبتُ في هذه الدنيا وكتب لي أنّي ارتكبتُ الزنا بواسطة هذه الغيبة. وهو يشعر يوم القيامة بكدورة الزنا في وجوده بواسطة الغيبة، يشعر بذلك وليس في الأمر مزاح، فالله لا يمازح. لقد ظلمتُ في الدنيا يتيمًا، لقد أكلتُ في الدنيا مالاً حرامًا، لقد غششت في المعاملة في الدنيا، لقد سرقت في الدنيا، لقد قتلت فيها إنسانًا (لأنّهم رضوا بأفعالهم). 

  • الراضي بفعل قوم يحشر معهم

  • عجيب ما يقوله الإمام: لأنّ هؤلاء رضوا بأعمال آبائهم فإنّهم يرون في صحيفة أعمالهم يوم القيامة ذنب قتل الإمام الحسين عليه السلام، ننظر فجأة يوم القيامة إلى صحائف أعمالنا فنرى فيها أنّا لم ننو حتّى الآن قتل الإمام الحسين عليه السلام، وإن شاء الله لا ننوي ذلك حتّى لاحقًا، ولكن نجد أشياء أخرى، كلّ ما يحصل في هذه الدنيا إذا ما رضينا بشيء منه فإنّه يكتب في صحيفة أعمالنا، كلّ جريمة تقع إذا كنت راضيًا بها كتبت في صحيفة أعمالي، يكتبونها فيها ويوم القيامة يقولون لي: تفضّل، تفضّل وامض إلى جهنّم! {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}۱ يقال لجهنّم هل امتلأتِ؟ فتقول: أمتلئ؟! إنّ موادّ البناء التي ألقيت بي حين تأسيسي تجعلني أتّسع، فهناك مجال واسع في الطبقات المختلفة، فألقِ ما شئتَ! ألقيتَ في داخلي أربعة وتقول لي: {هَلِ امْتَلأْتِ}؟! وتقول: هل من مزيد؟! أين هم؟! أين هم هؤلاء الذين كانوا راضين في الدنيا بأعمال الجناة؟! فليأتوا! فليأتوا برفقة ذلك الجاني كلاهما معًا، لا أنّ هذا قبل ذاك، ذلك الجاني الذي مع الشمر كلاهما معًا يأتيان، فهنا القاتل والظالم والقاضي بالجور والمعتدي على الأعراض والمرتكب للمحرّم، كلّ هؤلاء برفقة الذين هم راضون بأعمالهم ومسرورون بها كلّهم أجمعون في متسوى واحد، ويسقطون معًا عن الصراط إلى قعر جهنّم! أقتلتم أسرقتم وظلمتم واعتديتم؟! فتفضّلوا تفضّلوا! 

    1. سورة ق (٥٠) الآية (٣٠)

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

18
  • لقد كنت في غفلة من هذا أظننت أن لا إله؟! أظننت أن لا آخرة؟! لقد ظنّ هذا الظنّ من هم أعظم منك بكثير، وأكبر منك بكثير، وقام بتلك الأعمال من لا تساوي أنت ظفرًا من أظفارهم. لقد جاء أمثال الإسكندر، وأمثال الامبراطور نيرون، وأمثال تيمور، وأمثال جنكيز وأمثال هتلر وأمثال صدّام، جاء كلّ هؤلاء ولم يكن يخطر على بالهم أنّه سينفخ عليهم كما ينفخ على قشّة صغيرة فتطير في الهواء وتبقى معلّقة فيه، فأين ذلك الجلال وأين الجبروت؟ أين؟! أين؟! أين؟! التفتوا! انتبهوا! لقد كنت في غفلة من هذا أظننت أنّهما هذان اليومان من أيّام الدنيا فاغتررت بزيد وبعمرو وعمّن على يسارك ويمينك؟! اغتررت بهذين الاثنين أو الثلاثة الذين هم حولك؟! أنسيت ماذا جرى للذين من قبلك؟! ألم تعتبر بهم؟! 

  • و{كشفنا عنك غطاءك} الآن نرفع الستار من أمام عينيك ونكتب في حسابك. يا الله! ينظر الإنسان فيجد أنّه لا نهاية لما كتب. آه آه آه جميع الأفعال التي قام بها الآخرون كتبت في صحيفتي! أنت قمت بها وترى أنّك قمت بها. أفهل اقتنعت أنّ المحكمة هناك ليست مثل محاكم هذه الدنيا؟! بما أنّك رأيت بنفسك فتفضّل {بالتي هي أحسن}۱ إلى ذلك المكان، إلى {جهنّم وبئس المصير}٢. عندما كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يواجه أمثال هذه الأمور كان يقول: إلى {جهنّم وبئس المصير} من تلك الكلمات المحكمة الشديدة التي لا تسمح لشعرة رقيقة أن تخترقها. 

  • فإذن أيّها الرفقاء الأحبّاء ما الذي يشاهده الإنسان يوم القيامة؟! إنّه ليس العمل الخارجيّ نفسه، فالعمل الخارجيّ نفسه لا يدعى ذنبًا، إنّ الصورة المثاليّة الظلمانيّة والمكدّرة التي خلقت مع ذلك العمل الخارجيّ هي الذنب لا هذا العمل الخارجيّ الذي قام به، فهذا ليس ذنبًا. 

  • حسنًا نكتفي بهذا المقدار من البحث، وباقيه يبقى لكم في ذمّتي، فقد وصلنا إلى مواضع دقيقة، وإذا ما دقّق الرفقاء في فهمها فلا بدّ أن يصلوا إلى نهاية البحث بأنفسهم من خلال كلامنا هذه الليلة. 

  • كلّنا أمل إن شاء الله أن يساعدنا الله ويؤيّدنا وأن يجعلنا من المصدّقين بما طرق أسماعنا وما لمسناه إلى حدّ ما، حتّى نصدّق ونصدّق أنّ حقائق عالم الآخرة تختلف عمّا هو في هذه الدنيا! وما هو مختلف لا بدّ أن يكون هكذا. وقد ذكرت ليلة أمس أنّ ذلك الرجل وتلك المرأة العجوز التي تتأوّه للذهاب إلى الحجّ ولا تملك شيئًا للسفر ما هو ذنبها حتّى لا يعطيها الله ثواب الحجّ، أمّا ذلك الغنيّ المتموّل والمتمكّن في الأمور والمعاملات والذي يحجّ كلّ عام ويتأثّر بحجّه لا بدّ أن ينال هذه الفيوضات دون ذينك العجوزين، هذا ظلم، هذا ظلم بيّن، لا شكّ في ذلك، ولكنّ الله الذي هو عادل فالله ليس ظالمًا يكتب لهذه المرأة العجوز مقدار ما تريد ومقدار اهتمامها ومقدار ما كانت ستذهب لو كانت تملك المال، هل كانت ستذهب لو ملكت المال؟ أم أنّها كانت ستؤخّر ذلك سنة ثمّ تذهب؟ أم أنّها كانت ستحجّ على الفور، كلّ ذلك يحسب بدقّة وكأنّهم يخرجون الشعرة من العجين ويقولون لهذه العجوز: تفضّلي لقد حججت في هذه الدنيا ثلاثًا وثلاثين حجّة وعمرة مقبولة، تفضّلي، فتنظر فترى أنّها نعم كانت قد حجّت ثلاثًا وثلاثين حجّة وعمرة مقبولة عند الله. 

    1. اقتباس من سورة الأنعام (٦) الآية ۱٥٢ وغيرها. 
    2. سورة آل عمران (٣) مقطع من الآية ۱٦٢. وورد في سور وآيات أخرى أيضًا. 

حقيقة الذنب وكيفيّة الحساب الإلهيّ

19
  • فإذن ماذا حصل؟ لم يعد هناك حاجة إلى العمل. فماذا عن صحيفة الأعمال؟! إنّها صحيفة وجود الإنسان، وصحيفة الوجود تلك هي عبارة عن تلك النفس التي تحوّلت وتشكّل جوهرها وحقيقتها بتلك الحقائق الوجوديّة، وتشكّلها ذلك هو معنى: {فكشفنا عنك غطاءك}. وتتمّة الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.