المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1430
التاريخ 1430/09/26
التوضيح
تناولت هذه المحاضرة العلاقة بين أصالة النيّة ومفهوم البلوغ وكيف يؤثّر البحث الأوّل على الثاني؟ وحيث انتهت إلى مفهوم عقلانيّ للبلوغ توقّفت عند العقلانيّة في أحكام الإسلام مستغربة بعض الفتاوى التي لا تنسجم مع ذلك. مبيّنة شرط الوصول إلى هذه الأحكام العقلانيّة من البصيرة والمعرفة القلبيّة لحقائق الدين دون الاقتصار على القواعد الظاهريّة، ثمّ بيّنت آثار ذلك في بعض أحكام الحجّ.
هو العليم
من آثار أصالة النيّة اتّضاح مفهوم البلوغ
العقلانيّة في أحكام الإسلام، البلوغ والحجّ نموذجًا
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ. ق - الجلسة الثالثة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم
بسم اللَه الرحمن الرحيم
«إذَا رَأَيتُ مَولاي ذُنُوبِي فَزِعتُ، وَإذَا رأَيتُ كرَمَك طَمِعتُ فَإن عَفَوتَ فَخَيرُ راحِمٍ وَإن عَذَّبتَ فَغَيرُ ظالِمٍ».
عندما أنظر يا مولاي وسيّدي إلى ذنوبي يأخذني الفزع والوحشة و الدهشة، وعندما أنظر إلى كرمك وعظمتك يغلبني الطمع، فإن عفوت وتجاوزت عن تقصيري وقصوري وذنوبي فأنت أفضل وخير وأليق راحم، وإن عذّبتني على هذه الذنوب فلم تفعل باطلاً ولا ظلمًا.
الربوبيّة والعبوديّة في هذه الفقرة من الدعاء
هذه عبارة الإمام السجّاد عليه السلام، وهي تتحدّث عن جانبين:
جانب الربوبيّة وجانب العبوديّة والمربوبيّة، فبلحاظ أحد الجانبين ينسب إليه العظمة والكرم وشدّة الرحمة، وهذا بنفسه يستحقّ مقامًا آخر للحديث عنه وأنّه كيف هي رحمة الله غالبة وكيف غلبت على كلّ شيء.
وفي الجانب الآخر فإنّ مقتضى العبوديّة ومقتضى المخلوقيّة هو الذنب والعصيان والأنانيّة، وقد تحدّثنا بعض الشيء حول هذا الأمر. وطبعًا لم يكن ذلك في هذا العام وإنّما في السنوات السابقة، وذكرنا أنّه كيف أنّ الاقتضاء الأوّل للخلق وللنزول إلى عالم الكثرة هو العصيان والاستكبار، والفرق بين الإنسان وبين الملائكة والنفوس القدسيّة من هذه الناحية، وقد تقدّم أنّ مرتبة العقل لدى هؤلاء قد وصلت إلى الفعليّة فلا يتأتّى منهم صدور الذنب، فالملائكة لا يتأتّى منها صدور الذنب، لا أنّهم لا يمكنهم أن يذنبوا، أمّا الخشب والحجر فلا يمكنهما فعل الذنب لأنّ أفعالهما وتصرّفاتهما غير اختياريّة، بل هي أفعال طبعيّة، فهي تتغيّر وتتبدّل بمقتضى ظهور علل وأسباب وحوادث تكوينيّة، هي غير اختياريّة ولا تتحقّ عن اختيار؛ ولذلك فإنّ فالذنب ـ والذي تلاحظ فيه جهة العصيان والامتناع ـ لا سبيل له إليهما.
كما تقدّم في السنوات السابقة أنّ حقيقة الذنب ترجع إلى جهة العصيان والتمرّد فيه، أمّا نفس العمل الخارجيّ فهو لا يوجب العقاب، العمل الخارجيّ في نفسه لا يوجب العقاب، بل جهة الاستكبار والمواجهة لنظام المصلحة الأتمّ والذي هو نظام التشريع هي التي تستوجب العقاب.
لذلك نرى في كثير من الأوقات أنّ الفعل الذي يتحقّق في الخارج هو في نفسه ليس اعتداء على الغير ولكنّه ذنب، ففي بعض العلاقات لا يكون الأمر اعتداء وإضرارًا بالآخرين، بل هو محض مخالفة لأمر الله، ولو قام به الإنسان عن جهل فلا يترتّب عليه شيء، فالذين يرتكبون بعض الأخطاء والاشتباهات جهلاً ثمّ يلتفتون أنّها كانت خطأ واشتباهًا، كأن قاموا بمعاملة كان فيها خطأ واشتباه، فما يرتبط بحقّ الناس لا بدّ من أدائه، أمّا ما يرتبط بحقّ الله فهو يعفو عنه، فالأصل الأوّلي هو التسامح.
من آثار أصالة النيّة عدم تكليف الأطفال ما لم يصبح لديهم قوّة عقليّة
ولذلك فإنّ الذين تصدر منهم أخطاء في سنّ الطفولة فلا يحاسبهم الله أبدًا. فليست حقيقة الأمر في مسألة البلوغ أنّ هناك أمرًا ما يحدث فيرتفع الإنسان من درجة إلى أخرى، كلاّ ليس الأمر هكذا، بل مسألة البلوغ هي علامة وأثر للدخول في مرحلة التكليف ومرحلة الإلزام والالتزام، وليس الأمر أنّه قبل أن يصل الطفل إلى مرحلة البلوغ ويطوي مراحل المراهقة بمجرّد أن يشعر بواحدة من تلك العلامات المكتوبة في الرسالة العمليّة يتغيّر حاله وأجواؤه دفعة واحدة ويقفز ويصبح شيئًا آخر وعلى نحو آخر وفي أجواء أخرى وفي عالم آخر، كلاّ ليس الأمر هكذا، فهو لا يزال عين ذاك الذي كان بالأمس وقبل أمس وقبل شهر لم يختلف، وإنّما جعل الشارع هذا الأمر علامة على الدخول في مرحلة جديدة.
لذلك نرى أنّ الشارع نفسه لديه معايير مختلفة وأحكام مختلفة حول المصاديق المختلفة للبلوغ، فحول الصلاة وأمثالها يقول إنّه إذا أتمّ الخامسة عشرة دخل في البلوغ، وكذلك حول البنات يرى الرابعة عشرة، وما يقال من أنّه في التاسعة فهو ليس على نحو الإلزام بل على نحو المقدّمة.
اختلاف سنّ البلوغ باختلاف التكليف
فحول البلوغ يعلم الرفقاء أنّ رأيي بالنسبة إلى البنات هو إتمام أربعة عشر عامًا، أربعة عشر أو ما يقاربها وفي تلك الحدود، وليس الأمر في هذا الموضوع بأنّه فجأة تحصل حالة جديدة، كلاّ فنحن لم نسمع أبدًا من الذين هم موضع ثقتنا أنّهم يقولون: إذا تمّت السنة الخامسة عشرة القمريّة فبعد دقيقة واحدة فجأة نشعر بشعور مختلف. فعندما ولدت لم يجعلوا قرب والدتك ساعة ترنّ حين خرجت حتّى نحسب خمس عشرة سنة قمريّة بالثانية وبدقّة الحاسوب، فقد كان الصراخ حينها والارتباك إلى حدّ يحعلهم لا ينظرون إلى الساعة. فليس الأمر هكذا، بل هذه العلامات هي آثار يرى فيها الشارع تغييرًا لدى الإنسان ويجعل على أساسها أحكامًا إلزاميّة وتكليفيّة مختلفة، فبالنسبة إلى التكاليف المتعارفة كالصلاة وأمثالها والصيام [جعل سنّ الخامسة عشرة للصبيّ والرابعة عشرة للبنت] بل حتّى الصيام الأمر فيه يختلف أيضًا [وليس كالصلاة].
ما جعل عليكم في الدين من حرج
فالفتى في الخامسة عشرة لا يمكنه أن يصوم تلك الأيّام الصيفيّة الطويلة فلا يجب عليه، كلاّ لا يجب، نعم إذا أردنا أن نحتاط في هذا المجال نقول إن لم يستطع فإنّه يقضي لاحقًا في الأيّام القصيرة، فقط هذا ما يمكن أن يقال وإلا فلا يمكن أن نحكم بالإلزام في مثل هذه الموارد. ﴿وَ جاهِدُوا فِي اللَه حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيكونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيكمْ وَ تَكونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَه هُوَ مَوْلاكمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾۱ فليس لدينا حرج في الدين.
كان المرحوم العلاّمة ينقل عن أحد الأطبّاء أنّه كان يتصوّر هكذا، وأمره إلى الله فهو أعلم بحاله، فقد كان يصوم وكان كبير السنّ بحيث يمكن أنّ يقال إنّه شيخ، وكان رجلاً ملتزمًا يصلّي ويصوم وكلّ أعماله صحيحة، وكان من الأطبّاء المعروفين، وقد نسيت اسمه الآن، ويبدو أنّ له قرابة بنا، فقد كان عند الغروب يأخذ نبض قلبه، مثلاً قبل الغروب بنصف ساعة، فكان يقول: من الآن فصاعدًا الصوم مضرّ لي، فكان يشرع بالطعام قبل الغروب بنصف ساعة، وكان يقول: أنا مكلّف إلى هذا الوقت و قاعدة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» تجعلني أصوم إلى الآن. فكانوا يقولون له: لم يبق إلا نصف ساعة، فهل صرت تدقّق في غير موضع التدقيق؟!
فكان يقول لهم: كلاّ فهذا تكليفي. وكان يستدلّ أيضًا فيقول: كما أنّي كنت مكلّفًا إلى الآن بالصوم فأنا مكلّف الآن بالإفطار؛ وذلك لأنّه كان يأخذ نبض نفسه ويضع الجهاز على صدره فيقول: الآن الصيام مضرّ فيأكل ويفطر بكلّ بساطة ودون أية مشكلة. لقد كان مسلمًا مصليًّا وملتزمًا ويصوم تلك الأيّام الطويلة ولكنّه كان هكذا، وكانت هذه عادته، ولا أريد أن أحاكم فعله الآن وأنّه صحيح أم خاطئ؟ فقد كان طبيبًا ولا يمكنني أن أبدي رأيي في أمره، فلو كان الأمر إلينا فنحن نقول: ما هي النصف ساعة؟! ولو كانت ساعتان إلى ثلاث ساعات أيضًا نستمرّ، ولكنّه هو شعر أنّ تكليفه هكذا، ومن جهة أخرى فإنّه يعلم جيّدًا أنّ الإضرار بالنفس حرام، فيضمّ هذه إلى هذه. لم يبق إلا نصف ساعة وأحيانًا كان يفطر قبل ربع ساعة، فكان المرحوم العلاّمة يقول: قبل الغروب بربع ساعة! لا أدري لماذا ترتفع دقّات قلبه قبل الغروب بربع ساعة ولا ينتظر قليلاً، فلينتظر نصف ساعة، لقد تحمّل من الصباح حتّى هذا الوقت العطش والتعب، والآن قبل ربع ساعة يبدأ بالخفقان، فيقول: من الآن أنا معذور فيفطر. حسنًا هو مسؤول عن فعله والأمر بينه وبين الله والله يعامله بما يناسبه، وربّما كان عمله صحيحًا ونحن لا يمكننا الآن أن نحاكمه.
ضرورة حسن الظنّ بالناس والتأنّي في الحكم عليهم وتبدّل القيم في هذا الزمان
وعلينا أن لا نعجل في الحكم! علينا أيّها الرفقاء أن لا نستعجل في إصدار الأحكام! علينا أن نجعل ذلك في نفوسنا، علينا أن يكون حسن الظنّ بالناس غالبًا عندنا، فهذه وصايا أمرنا بها، أمرونا بها وهي موافقة للواقع، وقد رأينا بأنفسنا ذلك، وللأسف فإنّ الشيء الذي لا نراه في هذا الزمان هو هذه الأمور، لقد زال كلّ شيء، لقد تبدّلت المعايير، وصارت الفضائل رذائل والرذائل فضائل، صار الصدق حماقة، والنفاق والكذب مصلحة، لقد تغيّر كلّ شيء كلّ شيء، ويبدو أنّ الأمر لا يصلح إلا على يد إمام الزمان عليه السلام، ولا ندري ما هي المصلحة التي يراها في تحديد وقت ظهوره فهو أعلم متى يظهر ليعلم الناس على الأقلّ أين كانت الحقيقة، وليدركوا أنّ ما كان يقال ليس كما كان يقال، ونحن علينا أن لا نتدخّل في وظيفة الإمام فهو أعلم بها، فهو صاحب الدين ووليّ الدين وهو بصير وخبير بالمشيئة الإلهيّة والتقدير الإلهيّ، وسائر الناس جاهلون وعمي، وحيث إنّنا عمي فعلينا أن لا نتدخّل في أمر الخبير البصير ووظيفته ونُعمل أذواقنا ونقدّم آراءنا.
اختلاف سنّ البلوغ بين الصلاة والتكاليف الماليّة
هذا البلوغ المطروح هنا هو علامة على الدخول، لذلك فإنّ الصلاة وأمثالها تجب، ولكن هناك كثير من الأمور الأخرى لا تجب، فمال اليتيم الذي بيد وليّه وقيّمه لا يسلّم إليه عند البلوغ الصلاتيّ والصوميّ، فلا دليل على إعطائه، لو أنّ الشارع حكم بإعطاء المال… عندما أقول إنّ جميع أحكام الشرع على أساس العقلانيّة فأنتم تدركون ذلك بأنفسكم، أنتم تشعرون بذلك بأنفسكم، لو أنّ الشارع كان يقول: بمجرّد أن يتمّ الطفل اليتيم الخامسة عشرة فعليكم أن تردّوا إليه جميع الأموال، فماذا كنتم تصنعون؟! لضحكتم على هذا الحكم! لضحكت الدنيا على هذا الحكم، ولضحك النصارى على هذا الحكم، ولضحك اليهود، ولضحك الذين لا يعتقدون بالله، فكيف يمكن أن تسلّم المليارات لطفل في الخامسة عشرة وهو كل همّه اللعب وكرة القدم وأمثال ذلك، لا يستغرق الأمر يومين حتّى يصرفها كلّها.
كان رجل وصيًّا لأخيه والرفقاء يعرفونه، فقد توفّي أخوه الأكبر وجعله وصيًّا، وقد حدث ذلك قبل اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، نعم توفّي أخوه قبل ثلاث عشرة سنة، ولم يكن في إيران بل في إحدى هذه الدول وقد توفّي وكان هذا وصيّه، فجاء إليّ يسألني ويقول: إنّ له ابنًا عمره سبعة عشر عامًا أو ثمانية عشر، فماذا أصنع بهذه الأموال؟!
فقلت: لا يحقّ لك أن تسلّمه إيّاها، فابن الثمانية عشرة لا يسلّم أموال والده، وكانت أموال أخيه كثيرة وكان وضعه جيّدًا وكان ثريًّا جدًّا، فهذا لا يعطى كلّ هذه الأموال.
فقال: أنا مضغوط عليّ.
قلت: أنت مسؤول شرعًا أن لا تجعل هذه الأموال في تصرّفه، عليك أن تعمل بهذه الأموال وتتّجر بها وتشتغل بها، وتصرف عليهم من أرباحها، وما لم يصل إلى مستوى من الرشد لا حقّ لك أن تعطيه إيّاها. ﴿وَ ابْتَلُوا الْيتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يكبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيا فَلْيسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيأْكلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيهِمْ وَ كفى بِاللَه حَسِيباً﴾۱
فقبل أن يصل إلى مرحلة الرشد فهو ليس بالغًا. فوافق ذلك الرجل وجمّد قسمًا من تلك الأموال التي كانت في يده بحيث لا يتمكّن ابنه من التصرّف بها، رغم أنّه كانت زوجة أخيه تضغط عليه وتطالبه بأخذه أو أن يأخذه الأولاد، فقد تعرّضت له بالأذى، ولكنّه رغم ذلك لم يسلّمهم، وكان هناك قسم كبير من الأموال خارج يده هو وكان تحت تصرّف عائلته فصرف خلال أسبوعين، ولن أوضّح أكثر كيف صرف، فبعضه طار في الهواء وبعضه ضاع في الأرض.
حسنًا لماذا؟ لأجل ما ذكرنا، رغم أنّ ابن هذا الرجل كان في الثامنة عشرة وقد مضى على بلوغه ثلاث سنوات، لا أنّه كان في الخامسة عشرة فقط، وهو الآن يقبّل يد عمّه ويقول له: لو أنّك أعطيتنيه حينها فإمّا كان سيطير في الهواء أو في البالوعة، وهذا الذي بقي هو الذي يؤمّن له معيشته. فهذا هو الحكم العقلانيّ، فما يقوله الشارع من أنّ من بلغ الخامسة عشرة فهو بالغ. فإنّه يقول بعد ذلك: لدينا أنواع من البلوغ إلى ما شاء الله، وهي مختلفة، وللبلوغ مراتب تشكيكيّة.
ما هو البلوغ؟
البلوغ عبارة عن اشتداد القوّة العقلانيّة في النفس لأجل تمييز مصالح الدنيا والآخرة ومضارّهما. فهذا هو البلوغ، لا ذاك، إنّه مشكّكّ، فالبلوغ أمر مقول بالتشكيك۱، وليس أمرًا ثابتًا في إطار معيّن، إنّه أمر يشعر به الإنسان في وجوده ويعلمه الناس من حوله أيضًا، وفي المحكمة يعرفون كم هو مستوى هذا الفرد، يمتحنونه في هذا الأمر وفي ذاك فيعرفون قدرته على الفهم ويحدّدون مستوى قدرته حتّى يحكموا بالنسبة لهذا الأمر، فهذا الحكم حكم عقلانيّ.
عقلانيّة أحكام الإسلام وغرابة بعض الفتاوى
أحكام الإسلام أحكام عقلانيّة، والحكم في جميع موارده هو حكم عقلانيّ، وقد تحدّثنا قبل مدّة عن المسائل الولائيّة وقلنا إنّها حكم عقلانيّ للدين، وليست حكمًا اعتباريًّا محضًا وتنزيليًّا وأمثال ذلك، هو حكم عقلانيّ لا بدّ أن يدرس على أساس مستوى تصرّف الإنسان في الأمور الشخصيّة وفي الأمور الحسبيّة، وعلى أساس مستوى معلومات الإنسان ومستوى علمه ومعرفته ومستوى تخصّصه ومستوى معرفته ومتسوى تدبيره ومستوى فهمه للمسائل الدينيّة.
أحيانًا ينظر الإنسان إلى بعض الأحكام والفتاوى التي يسمعها هنا وهناك فتكاد تنبت له قرون أربعة من شدّة تعجّبه أن من أين جاءت هذه الأحكام والفتاوى؟! عجيبة عجيبة!
فقد رأيت في مكان ما فتوى لأحدهم ولا أذكر اسمه لماذا نذكر اسمه؟ رأيت أنّه استفتي في أنّه إذا جعل طفل في رحم أمّ مستأجرة، فماذا سيكون هذا الابن بالنسبة إليها؟! فلو فرضنا أنّ نطفة لقّحت ولا إشكال في ذلك، لا أن تلقّح نطفة رجل ببويضة امرأة أخرى فهذا حرام حرام، فأن تلقّح نطفة رجل ببويضة امرأة بدون نكاح فهذا حرام، ولا بدّ أن يكون النكاح فعليًّا، أي لا بدّ أن يكون النكاح متحقّقًا حين اللقاح، فلهذه المسألة صور مختلفة، فمثلاً لو كان هناك إنسان متزوّج من امرأة، وفي أثناء نكاحهما هذا أخذ من كلّ منهما نطفة ولكن لم تلقّحا، ثمّ طلّقت هذه المرأة، فبمجرّد طلاقها تصبح هاتان النطفتان أجنبيّتين لا ارتباط بينهما أبدًا.
لا بدّ أثناء اللقاح من وجود نكاح وعقد نكاح، وينبغي للرفقاء أن يبحثوا جذور ذلك في بحث الصحيح والأعمّ وأنّ التلبّس بالمبدأ حين الاشتقاق كيف يكون٢؟! وأنّه لا بدّ أن يكون متلبّسًا به بالفعل، فلا بدّ أن يكون النكاح متحقّقًا أثناء اللقاح.
فإذن إذا ما لقّحت امرأة بنطفة رجل في غير وقت نكاح فإنّ هذا الولد يصبح ولد حرام ولا نسب له، لأنّ هذا اللقاح كان بدون نكاح وبدون زواج شرعيّ، وبالتالي فلن يترتّب عليه حكم، فهو لا يلحق بالأمّ ولا بالأب، نعم إذا كان اللقاح في الخارج من رجل وامرأة، وكانت المرأة تعاني من مشكلة بحيث لا يمكنها أن تربّي هذا الجنين في رحمها وتحمل به، فلا إشكال في أن يتمّ اللقاح في مختبر وأمثال ذلك وفي أجهزة معيّنة، ثمّ بعد ذلك لا إشكال في أن يجعل ضمن رحم امرأة على نحو الاستئجار، فلا إشكال في ذلك من الناحية الشرعيّة، وهذا الولد حينئذ يلحق بوالده صاحب النطفة، وبأمّه والتي هي تعيش مع زوجها، ولا صلة له بهذه التي حضنته، نعم إذا أردنا أن ننقّح المناط۱ فهذا يحتاج إلى بحث وأنّه هل يمكن أم لا؟ وهذا له بحث مستقلّ وأنّه هل تحصل محرميّة؟ فهذا بحث آخر. ولكن لا صلة لهذا الولد بهذه الحاضنة كأمّ واقعيّة، فقد كان هذا الجنين في مكان ما كالمختبر مثلاً وهذه المرأة تحمّلت تربيته وحمله.
حسنًا فقد طرح سؤال واستفتاء أنّه في مثل هذه الحالة من هي الأمّ الواقعيّة؟
والجواب الذي أجيب به هو أنّ الأمّ الواقعيّة هي هذه التي وضعته في رحمها، هذه هي الأمّ الواقعيّة!! لماذا؟ لأنّ لدينا آية في القرآن: ﴿الَّذِينَ يظاهِرُونَ مِنْكمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيقُولُونَ مُنْكراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾٢
ما شاء الله! ما شاء الله! ما شاء الله! ولدنهم تعني ولدنهم من النكاح وتكون البويضة لها، لا أنّها فقط دخلت رحمها ثمّ خرجت منه فتصير مصداق ﴿وَلَدْنَهُمْ﴾، فهذه ليست مصداقًا لـ ﴿وَلَدْنَهُمْ﴾ ولو كان الأمر هكذا فلو حصل يومًا أن جعل الجنين في جوف رجل ـ ويقال أنّ ذلك قد حدث ولا أدري إن كان صحيحًا أم كاذبًا فقد سمعنا أنّ الرجل يمكنه ذلك!! ـ فهل يصبح أمًّا؟! فمن أين سيخرج حتّى يصبح الرجل أمّه؟! حقًا يتعجّب الإنسان من ذلك، فأيّ نوع من الاستنباط هذا؟! وأيّ نوع من الاجتهاد؟! كيف ينسجم هذا مع عقل طفل عمره خمس عشرة سنة أن يستنبط هذا من القرآن؟! فما هذا؟! أغاثنا الله، أغاثنا الله من أن يكون للإنسان مقلِّد ثمّ يفتي بهذه الفتوى، فتعدّ تلك أمًّا له فتترتّب على ذلك مسائل أخرى، فبناء على ذلك هل سيرثها وترثه وتنطبق عليه سائر المسائل فيحرم على أبنائها وغير ذلك وتبعات ذلك؟! فما هذا؟!
بعض شروط المجتهد
هذا يرجع إلى ضرورة أن يكون هناك معرفة لدى الإنسان ورؤية للأحكام وللدين ولباطن الدين ومعارف الدين وحقيقة الدين والمراتب الإلهيّة فأين ذهب كلّ ذلك! ماذا حلّ بهذه الأمور؟! أين ذهب هذا الكلام؟ وماذا جرى له؟
عندما كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يلقي دروس ولاية الفقيه في حكومة الإسلام في مشهد وصل إلى هذه الرواية في مصباح الشريعة والتي تقول: «لا تحلّ الفتيا لمن لا يستفتي من الله بصفاء سرّه»۱. ويا لها من رواية عجيبة جدًّا جدًّا، فهي تجبر الإنسان على التفكير، «لا تحلّ الفتيا» وتبيّن أنّ الدين ليس بهذه السهولة والبساطة التي نحسبه عليها مثل الماء الجاري يسير هكذا، فالدين يعني دلالة الناس على الطريق الذي يبلغ بهم إلى الكمال الأخرويّ. أفهل الدين بيع للشمندر يا عزيزي؟! أم هو بيع للحلوى والمكسّرات على مفترق الطرق؟! فلنبيّن للإنسان الطريق الذي يوصله إلى الفعليّة والكمال، لا أنّه مجرّد صلاة ركعتين أوّلهما الله أكبر بسم الله وآخرها أيضًا تكبير وانتهى الأمر وهذا هو الدين، بل الدين هو الذي يوصل الإنسان إلى مقام معرفة الإمام عليه السلام، هو الذي يوصل الإنسان إلى مقام معرفة الله.
وصايا لتحقيق بركات الحجّ
التوجّه إلى الله أثناء الطواف لا إلى اتّجاه الكتف
فمن يقول إنّ عليك أن تطوف وأنت ملتفت أن لا يحيد كتفك عن موازاة الكعبة، فأيّ دين هذا؟! وهل يوصل الإنسان إلى حقيقة الطواف ويجذبه إلى مقام اتّصال الله بالعبد عند الطواف والانجذاب إليه؟! فهذا كلّه توجّه إلى الكثرات، وكلّه توجّه إلى الدنيا والتعلّقات؛ فأيّ من ذلك نراه في سيرة رسول الله؟! عندما حجّ رسول الله وجاء الناس إليه في عرفات عند الغروب قبل الإفاضة إلى المشعر حين كان راكبًا على الناقة وكان الناس يسألونه عن الأحكام الشرعيّة أن يا رسول الله لقد فعلنا كذا، فكان رسول الله يقول: لا إشكال.
ـ لقد فعلنا كذا.
ـ لا إشكال.
ومهما سألوا النبيّ كان يقول: لا إشكال. ثمّ قال: أفيضوا فقد رحمكم الله وغفر لكم الله كيوم ولدتكم أمّهاتكم٢.
المحافظة على السكينة والتوجّه إلى النفس وفقرها في عرفات
فهذه عرفات وهذا الحالات وهذه المسائل لمن هي؟! للذين هم ملتفتون في يوم عرفة لأنفسهم، ملتفتون لحالاتهم، ملتفتون لمشكلاتهم وأزماتهم وموانعهم ومسكنتهم.
ولكنّنا نأتي ونهتمّ بأمور أخرى عجيبة وغريبة، فلا ندرك معنى لعرفات، وتذهب كلّ تلك الحالات جانبًا، تذهب كلّها. ففي إحدى رحلاتي إلى مكّة لحجّ التمتّع كان يوم عجيبًا جدًّا في أجوائه، حيث قمنا من الصباح فكان الجوّ عجيبًا! واقعًا كان عجيبًا! واقعًا كان عجيبًا! فهنا عرفات والمكان الذي لا شكّ أنّ إمام الزمان يكون فيه في ذلك اليوم، وهناك ترشّحات ولائيّة على كلّ صحراء عرفات لمجرّد وجود الإمام ومجرّد حضوره، والإنسان يشعر بذلك، وما يراه ليس بيده، هذه الأجواء التي يشعر بها ليست بيده، هذه الأمور التي يراها ويرى نفسه في جوّ آخر وفي عالم آخر وفي واد آخر ويسير هكذا نحو الأمام ويتقدّم ويصل إلى الظهر وما بعد الظهر وقضايا قصّة دعاء يوم عرفة وتلك الأجواء، فيرى ذلك، والله يخجل من نفسه أن لا يعفو عنه، فالأوضاع هي بنحو بحيث إنّ ما يحدث في ذلك اليوم للناس الحاضرين هناك هي أوضاع تجعل الرحمة والمغفرة والعفو وأمثالها تنزل على الناس كالمطر شاؤوا أم أبوا. وقد استمرّ هذا الحال واستمرّ هكذا وفجأة رأيت أنّ الأمور قد تغيّرت، وصار الوضع على هيئة أخرى۱، وقد ذهب ذلك الحال وذهب وذهب، فقط دعوت دعاء فقلت: الله وحده يلطف الله وحده يلطف بهؤلاء الذين سببوا ذلك، وحده الله يلطف فماذا نقول؟! فقرّرت بصورة عامّة أنّي إذا وفّقت مرّة أخرى للحجّ ـ وقد وفّقت مرّة أو مرّتين ـ أقوم يوم عرفة من الصباح وأخرج إلى وسط الصحراء وإلى مكان أكون فيه وحيدًا، أكون فيه لي أجوائي الخاصّة وأحوالي. فما هو الجواب الذي يمكن أن نجيب به هؤلاء الناس على هذه الحالات والأوضاع، حقًّا ماذا علينا أن نقول؟! ماذا علينا أن نقول؟! والكلام هنا كثير الكلام كثير وهناك الكثير من الأمور التي لا يمكن قولها لا يمكن، الأمور التي صارت أصلاً حاكمًا وجاريًا بيننا، وهذا ما يعلمه كلّ إنسان بنفسه، وربمّا كان بعضنا لا يريد أن يتّصل، وربّما يتّصل آخرون بطريقة أخرى، أفهل لدينا اطّلاع على ارتباط الناس؟ هل لدينا نحن ارتباط؟ هل لدينا نحن ارتباط؟! ربّما كان هناك آخرون يتّصلون بطريقة أخرى، ربّما يتقرّب آخرون بطريقة أخرى، وربّما يشعر البعض بالتكليف بنحو آخر، فكلّ إنسان وتكليفه، كلّ إنسان وتكليفه، ولكن على الأقلّ التكليف الذي نشعر به لا نفرضه على الآخرين! فكلّ إنسان يعلم تكليفه وحسابه.
البقاء بلباس الإحرام بين عمرة التمتّع والحجّ
في هذه الرحلة الأخيرة التي كانت قبل سنتين على ما يبدو حيث تشرّفت قبل سنتين أو ثلاث، يستحبّ أن يبقى الإنسان بين العمرة التي هي عمرة التمتّع وبين حجّ التمتّع، مستحبّ أن يبقى الإنسان في لباس الإحرام، وقد كنت بثوب الإحرام، وكان هناك بضعة أيّام تفصلنا عن الحجّ، فكان كلّما رآني أحد من الرفقاء في ثوب الإحرام يظنّ أنّي جئت للتوّ، وقد رآني أحد أصحاب الشأن في المسجد الحرام قبل يومين من الانطلاق إلى عرفات بهذا الثوب، فتعجّب كثيرًا وقال: هل أتيت للتوّ؟!
فقلت: لا بل قبل ستّة أو سبعة أيّام، قبل مدّة قبل سبعة أو ثمانية أيّام تشرّفت.
فقال: فإذن لباسك؟!
قلت: مستحبّ.
قال: عجيب عجيب وأبدى حياء وندمًا وحسرة أن ليتني كنت ملتفتًا لهذا.
حسنًا كنت أنا والرفقاء بهذا اللباس فجاء عالم الحملة واعترض أن ما هذا اللباس الذي تلبسونه؟! ولم يكن يكلّمني أنا بل كان يكلّم الرفقاء ويقول هذا بدعة. فهكذا كان يفعل ويقول بدعة! فقلت اذهب وقل له كيف تكتب البدعة بالعين أم بالهمزة؟! ما تقوله أنت هو بالهمزة وليس بالعين! فذهب هذا الرجل إلى عالم الحملة ذاك وقال له: إنّ الطهراني يقول إنّك إذ تقول إنّه بدعة فالظاهر أنّها تكتب بالهمزة لأنّها ليست بالعين، ثمّ قلت له: قل له أن يزيد من مطالعاته ثمّ بعد ذلك يكون مسؤول حملة وعالم حملة. والنتيجة أنّه تصادم معه فذهب إلى بعض الأماكن وراجع فرأى أنّ الحقّ ما أقول، ولم يعد يتعرّض لنا.
فانظروا إذا لبس الإنسان ثوب الإحرام يقولون بدعة، ويا لها من بدعة! ثمّ جاء أحدهم فقال للرفقاء صحيح أنّه مستحبّ ولكن لكي تكونوا على هيئة واحدة فاخلعوه. فقلت له: أنت مخطئ! من الذي سمح لك أن تقف أمام سنّة رسول الله؟ على هيئة و احدة! عجيب فلماذا لا تكون أنت مثلنا فنصبح على هيئة واحدة؟! البس أنت لباس إحرام لكي نصبح على هيئة واحدة! لماذا على من يعمل بسنّة رسول الله أن يتركها لكي يكون على هيئة واحدة مع الآخرين؟! فلنكن لا على هيئة واحدة لمائة عام! هل هناك شيء في الحجّ اسمه الكون على هيئة واحدة؟! الكون على هيئة واحدة هو عند الإحرام ويرتبط بالقيام بالأعمال والذهاب إلى عرفات، فما معنى الكون على هيئة واحدة؟! فلنكن جميعًا على هيئة واحدة! من أيّ شيء ينشأ هذا؟! ينشأ من الجهل، هذا ناشئ من الجهل وأن لا نكون على المنهج الذي كان عليه رسول الله وما أمر به، بل نريد أن نكون على المنهج الذي نتخيّله ونفكّر به نحن، لا نريد أن نكون على ذلك المنهج الذي عليه إمامنا في تلك الحالة، إمامنا بين العمرة والحجّ يتجوّل في مكّة بلباس الإحرام ويقال لنا: كلاّ عليكم أن تكونوا على غيره! فلماذا نكون على غيره؟!
أنت يا من يقول بهذا ألا تعلم أنّ وضع هذا الحكم لم يضعه على أساس التوهّمات والتخيّلات البشريّة وإنّما وضعه على أساس نظام التكوين، تلك الحالة التي تحصل للإنسان عند الإحرام يشعر بها إذا ما استمرّ بلباس الإحرام إلى الحجّ، فهناك فارق كبير عندما يحرم الإنسان لعمرة التمتّع يدخل في الإحرام ويدخل في حريم الله، ينزع ثيابه وينزع زينته يلقي على كتفه قطعة من القماش ويلفّ أخرى على خصره، وينتهي الأمر. يرتاح من جميع التعيّنات، يصبح طاهرًا، يخرج ويصبح خالصًا، فيذهب بهذه الحالة ويقوم بأعماله، فالطواف الذي يؤدّيه بهذا الثوب يختلف عن الطواف الذي يؤدّيه بثيابه المعتادة، والنوم الذي ينامه بلباس الإحرام يختلف عن النوم الذي يؤدّيه باللباس المتعارف، ولو لبستم هذه الدشداشة البيضاء فهي أيضًا أفضل من ثياب البنطال والقميص الغربيّين التي جاءتنا نحن المسلمين، فالدشداشة تختلف عنهما. فالإنسان بثياب الإحرام يستصحب معه حالات الإحرام وأجواءه، ويتقدّم ويتقدّم حتّى يصل إلى اليوم الثامن الذي هو يوم الانطلاق إلى عرفات، وطبعًا المفروض أن يذهب الإنسان الليلة التاسعة إلى منى لا إلى عرفات، فهذا مستحبّ، وأهل السنّة يذهبون إلى منى والحقّ معهم، الحقّ مع أهل السنّة هؤلاء الذين يعملون بسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله.
المبيت في الليلة التاسعة والليلة الحادية عشرة والثانية عشرة في منى لا في عرفات
يستحبّ في الليلة التاسعة أن يكون الإنسان في منى، ثمّ ينطلق صباحًا من منى إلى عرفات، ومن الظهر الذي هو وقت زوال الشمس لا بدّ أن يقصد الوقوف في عرفات حتّى غروب الشمس والمغرب، وفي إحدى السنوات التي ذهبنا فيها غير مقيّدين بحملة بتنا في منى الليلة التاسعة، قضيناها هناك وكانت ليلة عجيبة، كانت عجيبة جدًّا، فقد كان من الواضح أنّ الأجواء والأحوال هناك مختلفة، وقد خطّط لها. فعندما يقولون: كونوا الليلة التاسعة في منى فلهذا حسابه! ولم يقولوا ذلك هكذا عبثًا ولغوًا فيكون سواء قمنا به أم لم نقم، فللمبيت في منى في الليلة التاسعة حساب، والوقوف في عرفات يجب أن يكون ظهرًا، والليلة الحادية عشرة والثانية عشرة يجب أن يكون الحاجّ في منى، وإن كان يمكن للإنسان أن يكون في مكّة أو في المسجد الحرام ويشتغل بالعبادة وبذكر الله ولكنّ آثار منى لا تحصل له، فينبغي أن يكون الحاجّ في منى ليلتي الحادي عشر والثاني عشر، وإن كان لا إشكال في أن يكون في المسجد الحرام أيضًا، ولكنّ المستحبّ هو المبيت في منى، أي قضاء الليل، ولا يقتصر الأمر على الرمي، فيا عزيزي قضاء الليل هناك والاستفادة من أجواء ليالي منى تلك له حسابه الخاصّ هناك.
وكثير من تلك الحالات التوحيديّة لأولياء الله وللأعاظم التي تحصل في الحجّ قد حصلت في منى لا في عرفات، فعرفات وأمثالها لها شأنها الخاصّ، لها حالاتها ومسائلها الخاصّة، فلعرفات شأنه الخاصّ ولمنى والمشعر شأنهما الخاصّ أيضًا، ولكن الحالات التوحيديّة العجيبة إنّما حصلت في تلك الليالي الثلاث في منى، والخلاصة أنّ علينا أن نعرف قدر منى، وعلينا أن نحسب لها حسابًا.
عدم الاستعجال بأداء الطواف والسعي اليوم العاشر وإمكان تأخيرهما
وإذا ما ذهب الإنسان إلى مكّة فجيّد، فليذهب وليقم بالأعمال ثمّ يرجع إلى منى أو يترك الأعمال لما بعد الثاني عشر فيكون مرتاح البال، فليقم بها في الثاني عشر، فلا أحد يلحقك بعصى ويحثّك على الإسراع حتّى تؤدّيها بسرعة وترتاح، كلاّ بل على الإنسان أن يكون مطمئنًّا هادئًا يقضي اليوم العاشر ويقضي الحادي عشر والثاني عشر ثمّ يذهب إلى مكّة، وهنا أيضًا لا عجلة لأداء الأعمال، لماذا نستعجل فماذا ينتظرنا؟! فلا أحد ينتظرنا هناك، فدعوها على رسلكم حتّى تحين الفرصة ولا يشغلنّكم التفكير بالقيام بها، وإنّما هو عمل تقومون به في المستقبل، يمضي يوم في مكّة فلا تذهبوا وتؤدّوا الأعمال، يمضي يومان فلا تذهبوا وتؤدّوا الأعمال، تمضي ثلاثة أيّام فلا تذهبوا، دعوها تخلو من الازدحام أكثر فأكثر، ويصبح مكان الطواف أقلّ ازدحامًا، ويصبح المسعى أقلّ ازدحامًا، فمن الذي قال لا بدّ مباشرة بعد حلق الرأس والذبح أن ننتعل أحذيتنا وننطلق كالصاروخ نحو مكّة ونؤدّي الأعمال، ونخلع ثوب الإحرام، وإن كان يمكن خلعه بعد الذبح، ويقوم بالأعمال، كلاّ فليدع ذلك لوقته المناسب وليمش مع الوقت وليتقدّم به الوقت نحو الأمام، فلا يسابق الزمان، وليجعل نفسه موافقة لحركة الزمان بشكله المتعارف، نعم فليذهب في الثاني عشر، وقد حصل لي ذلك كثيرًا، وأحيانًا حدث أن تأخّرت يومين أو ثلاثة، فقد حصل أن قمت بالأعمال بعد مجيئي من منى إلى مكّة بثلاثة أيّام، وكنت أصلّي صلاتي مرتاحًا، وأذهب إلى الحرم، وطبعًا على الإنسان أن لا يطوف إلا إذا طاف الطواف الواجب أولاً، فالطواف المستحبّ قبل القيام بالطواف الواجب ليس جائزًا، فلتتذكّروا ذلك، ولكن كنت أذهب إلى مكان الطواف وأنا متعب والأعمال التي يقوم بها الإنسان متعبًا لا بدّ أن تكون بنشاط، فمتى سندرك هذا الكلام، لقد قالوا لنا الأمور مقلوبة، قالوا للناس الأمور مقلوبة أن أدّوا أعمالكم بسرعة واستريحوا.
أداء الطواف بفرح وسرور وتكراره مرّتين وثلاث بعد استراحة
لا بدّ أن تقوم بالطواف وأنت فرح مسرور، ويمكنك أن تطوف مرّتين فقد قالوا أدّ الطواف مرّتين وقالوا أدّه ثلاث مرّات، وبهذه الحالة عليك أن تذهب إلى الطواف ثمّ تذهب وتجلس ساعة واسترح واشرب الماء ماء زمزم… .
الإكثار من شرب ماء زمزم والإراقة منه على الرأس والبدن
والذي قال المرحوم العلاّمة عنه مهما شربت من ماء زمزم أكثر فقد حصلت على بركات ونصيب النبيّ إبراهيم وإسماعيل سلام الله عليهما أكثر. فليأخذ الإنسان الماء وليشرب. ويستحبّ أن يريق على رأسه وبدنه، ونحن عندما كنّا نذهب كنّا نريق على أنفسنا ونبلّل أنفسنا بشكل كامل، ففي تلك الرحلة الأولى التي كانت برفقة المرحوم العلاّمة كان الرفقاء يقولون للعلاّمة: أنت أرق علينا. وكان عمري ستة عشر عامًا فجاء العلاّمة بإناء… وإن كان العلاّمة ذكر أنّ عمري خمسة عشر عامًا ولكن لا بل كان ستة عشر عامًا، كان عمري حينها ستة عشر عامًا وبضعة أشهر، ستة عشر عامًا ونصف العام أو ما يقرب من ذلك، فكان المرحوم العلاّمة يملأ الإناء ـ وكان صنبور الماء حينها في المسجد الحرام نفسه وليس كما هو الآن فقد حصلت تغييرات ـ فكان يملأ الإناء ويريقه على رأس كلّ واحد منّا الواحد تلو الآخر حتّى يبلّلنا وكأنّنا استحممنا، وكنّا نطوف مستأنسين ونسعى، فكنّا ندرك ما هي حقيقة الأمر! أمّا الآن فهناك عجلة شديدة، اذهب وطف وبعده بسرعة اذهب إلى السعي، آه انتهت الأعمال واسترحت من هذا الطواف وهذه الأعمال التي فرضت عليّ، فهذا ليس جيّدًا، أقسم بالله إنّ أئمّتنا لم يكونوا يحجّون هكذا! أقسم باسم الجلالة وأنا مسؤول عن قسمي يوم القيامة، والله إنّهم لم يكونوا يفعلون هكذا!
لقد كان الإمام الصادق عليه السلام يطوف والإمام الباقر عليه السلام كان جالسًا، فكان الإمام الصادق يطوف ويطوف وكان العرق يتصبّب من رأسه ووجهه، فقد كان شابًّا فناداه الإمام الباقر عليه السلام أن تعال. فجاء، فقال: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَ رَضِيَ عَنْهُ بِالْيَسِيرِ».۱ بهذه العبارة إن لم أكن مخطئًا. فلا تتعب نفسك هكذا فماذا جرى حتّى صرت تتصبّب عرقًا هكذا؟! تعال واجلس، طف طوافًا واحدًا وصلّ وتعال واجلس ساعة، اقرأ القرآن وانظر إلى الكعبة فـ «النظر إلى الكعبة عبادة»٢، فبمجرّد أنّك تنظر إلى الكعبة فأنت في عبادة، فتتنزّل عليك الرحمة وتتنزّل من هناك، فالتوجّه إلى ذلك المكان يؤدّي إلى تفاعل، لا أن تجلس وتعطي ظهرك للكعبة كما فعل فلان الذي لن أذكر اسمه وأخذ يتحدّث مع الآخرين ويلغو حتّى جاء هؤلاء السنّة واعترضوا عليهم، فمن كان هؤلاء؟ إنّهم علماؤنا الذين جاؤوا من إيران إلى مكّة، وأخذوا يتحدّثون حول أيّ أمور! فقال لهم ذلك: هنا المسجد الحرام فإن أردتم أن تتحدّثوا فاخرجوا إلى الشارع، ما شاء الله ما شاء الله هؤلاء السنّة يعترضون علينا! فذهبت إليهم فقلت: اخجلوا! لقد قطعتم مئات الفراسخ وأتيتم إلى هنا واستدبرتم الكعبة وأنتم تتكلّمون بهذا الكلام! فانزعجوا منّي فقلت: اخجلوا فهذا المكان ليس مكان هذا الكلام. النظر إلى الكعبة يؤدّي إلى حصول ارتباط، ارتباط الإنسان بمظهر نزول الجذبات، فالكعبة مظهر النزول في النهاية، مظهر نزول الجذبات، فعندما تكون على ارتباط مع الكعبة فإنّك تأخذ منها بمثالك وبرزخك وملكوتك كلّ بحسب مرتبته.
وطبعًا عندما ينظر المرحوم الوالد فإنّ نظرته تختلف عن نظرتنا، فنظرتنا بنحو، ونظرته ونظرة الأعاظم والأولياء بنحو آخر، هو ينظر… .
حسنًا تعال واجلس فإذا استرحت وصلّيت ركعتين، وجلست ساعة فقم من جديد وطف طوافًا آخر. يقول الإمام الباقر عليه السلام لابنه: لا تتعب نفسك هكذا فالله يقنع من عبده باليسير. بأيّ يسير بيسير مقرون بالحيويّة، هذا ما يريد الإمام الباقر عليه السلام أن يقوله وأنا أقوله توضيحًا، فهو بهذا التعبير الحيويّ لي أنا ولكنّه ضمير كامن ومستتر وجوبًا! إنّه يكتفي باليسير المقرون بالنشاط والحضور، أمّا الذهاب هكذا وصبّ العرق [فليس مطلوبًا]، وأمّا «أفضل الأعمال أحمزها»۱ فليس لهذا المقام، إنّه لمقام يكون فيه العمل منحصرًا بهذا الطريق، أو لا تكون هناك مهلة لتبديل الفعل فهناك يقولون: «أفضل الأعمال أحمزها»، عندما يريد الإنسان أن يقوم بعمل فيقوم بالأصعب، فالعبوديّة فيه أكبر، ولكنّ لو أنّ أمر الصعوبة تنحّى جانبًا فسيبقى مجرّد عمل فيه حالة التكرار والتعب، والإمام الباقر يقول: لا تفعل ذلك، أدّ طوافًا واحدًا واجلس، تستريح جيّدًا، تشرب الماء، تصلّي ركعتين، فإذا مرّت ساعة، أو نصف ساعة، وصرت بحالة جيّدة، وعاد لك النشاط من جديد للطواف، فقم وطف حينها يكون هذا الطواف مرضيًّا عند الله، هذا هو الطواف.
ملاحظة حول أحوال الحاج عبد الزهراء الكرعاوي
في مسألة البلوغ التي انتهينا إليها… نعم تذكّرت أمرًا الآن وسأذكره قبل أن أنساه، فقد نُبّهت عليه قبل عدّة ليال، فقد ذكرت قصّة حينها عن الحاج عبد الزهراء الكرعاوي رحمة الله عليه، ولأنّي ذكرت اسمه، لذلك هناك تتمّة أصلح بها ما نقلته سابقًا، فقد قلت حينها إنّ الشيطان تمثّل بصورته في مكّة ولم يلتفت جدّنا رحمة الله عليه إلى ذلك، فقد كان هذا الحاجّ قد انفصل عن الولاية! وابتعد عن إرشاد وهداية السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، لذا ﴿فماذا بعد الحقّ إلا الضلال﴾؟!٢ فقد جاءت الضلالة وسيطرت والذين كانوا ينظرون إلى المسألة من الباطن كانوا يرونها هكذا، ولكن لا يفوتنا أنّه في آخر حياته شملته الرحمة والكرم الإلهيّان وتاب وعاد من جديد من جملة حواريّي السيّد الحدّاد وتلامذته ومريديه، ومات على ولايته ومحبّته وكان تحت إرشاده، فقد أردت أن أقول هذا للرفقاء كيلا تكون المسألة لا قدّر الله مسألة إهانة، وبصورة عامّة لكي ينقل ما كان كما كان.
تتمّة بحث البلوغ
ففي مسألة البلوغ، علّة هذا الإلزام والتكليف الذي جاء به الله تعالى هو ذلك التغيير والتبدّل، وهذا لا يحصل في ليلة واحدة وليلتين لدى الإنسان، بل هو يستمرّ ويستمرّ وعلى هذا الأساس يحكم الله على الإنسان. وبناء على ذلك لا يمكن أن نجعل الناس في مستوى واحد حتّى بعد تعلّق التكليف، وأن نجعلهم سواسية من حيث ترتّب الآثار.
كنت أريد أن أتحدّث حول مسألة الذنب ولكن انجرّ الكلام إلى هنا، وعلى كلّ حال فإنّ الذنب هو عبارة عن جانب الاستكبار النفساني وجانب التقابل النفساني، فهذا هو الذنب وعلى أساس [الحالة النفسيّة تلك] فإنّ الله يعاقب أو يثيب، ومستوى العقاب أيضًا يتناسب ومستوى الاستكبار ومستوى المواجهة، لا أنّ الجميع هم على نحو واحد وكيفيّة واحدة.
كيفيّة سير البحوث في ليالي شهر رمضان
حسنًا فقد انتهى الوقت الليلة أيضًا ونحن كما يقول مولانا:
اندر خم يك كوچه ايم [والمعنى: لا نزال في منعطف واحد من أزقّة الطريق].
فكم بقي من الليالي؟! ادعوا أن لا تؤجّل هذه العبارة على الأقل إلى المستقبل وأن ننهيها. ولكن أنا من جهة أخرى أعتقد أنّه هو يريد أن يكون الأمر هكذا، فأنا لم أكن عازمًا على التكلّم بأيّ من هذه المواضيع التي طُرحت الليلة، وكنت أريد أن أنهي البحث بطريقة فنيّة وعلميّة، ولكن على كلّ حال كان البناء على ذلك ونحن لا نعترض، فإذن لم يكن الأمر باختيارنا، فهو يرسل ما يشاء ونحن لم نأت [في محاضرات هذه الليالي] لنسير على خطّ مستقيم غير مرن، كلاّ بل نفتح كتاب مفاتيح الجنان ونقرأ دعاء أبي حمزة الصادر عن الإمام السجّاد عليه السلام والذي قد جاء بمعجزة في هذا الدعا، ونجلس… فهذه ليالي شهر رمضان في النهاية، ونحن هكذا وبهذا الكلام أدخلنا السرور على قلوبنا، وكلّ ما أتى فإنّا نقدّره ونحترمه ونشكره.
خصوصيّات شهر رمضان
لم تبق إلا بضع ليال، وشهر رمضان لهذه السنة قد انقضى أيضًا وتصرّم، وقد كنت أقول الليلة للوالدة: عجيب كم كان جيّدًا لو أنّ هذا الشهر طال لعدّة أشهر! فشهر واحد لا يكفي، ولا أدري لماذا جعله الله شهرًا واحدًا، ليته جعله ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر أو كرّره مرّة أخرى مثلاً، ولكن في النهاية هو لا يتكرّر في أجوائه كما يشعر الإنسان، فلو صام في ذي القعدة أو في محرّم فإنّ الصوم فيهما يختلف عن شهر رمضان، فأجواء شهر رمضان تختلف بشكل كامل، وكأنّ عالم التكوين يدور على محور آخر، وكأنّ ﴿المدبّرات أمرًا﴾۱ تدبّر تدبيرًا آخر، والإنسان يدرك ذلك، وعلى كلّ حال فكلّ ما يأتي به الحبيب فهو جميل وليس لدينا كلام.
عبارة إذا رأيت مولاي ذنوبي هي لنا نحن
ولكن لو لم تكن هناك فائدة في هذا الشهر فقد أدركت على الأقلّ من جميع دعاء أبي حمزة الثمالي أنّ هذه العبارة هي لي أنا، عبارة «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت»، فقد أدركت أنّها لي أنا، قلت لله: لا أدري في أيّة حال كان الإمام السجّاد عليه السلام عندما قال هذه العبارة، وهذا أمر يرتبط به هو فما يدرينا نحن؟! فنحن لا ندرك الإمام، نحن نتكلّم ونقول ولكن بين ما نقول وبين ما يجري في قلب الإمام [ما بين الأرض والسماء] فأين الذرة وأين القشّة من العرش الأعلى؟! نحن مسرورون ببعض العبارات والاصطلاحات وأمثال ذلك ولكنّي قلت لله: إلهي لقد أدركت على الأقلّ أنّ الإمام السجّاد عليه السلام قال ذلك من أجلنا، فهذا ما يمكنني أن أقوله بصراحة بلا مجاملة وبلا شبهة، فهذه العبارة هي لي أنا، حتّى لا شأن لي بسائر الرفقاء، فحال الرفقاء جيّد وأحوالهم جيّدة، أنتم أفضل منّي، ولست من أهل المجاملة، فقد أدركت هذا الأمر، نسأل الله أن يفتح أفهامنا لنعي هذه الحقائق، وهذا أمر مهمّ جدًّا أن يوصل الإمام السجّاد عليه السلام الإنسان إلى درجة إدراك ما هو واقعه، هذا أمر مهمّ جدًّا، فنحن لم ندرك حتّى الآن واقعنا، لذلك فنحن نعاند، وكلّ ما نقوله هو مزاح، إن كنّا عرفنا شيئًا فبنسبة ثلاثين أو عشرين في المئة، ومع ذلك فأصوات آهاتنا إلى السماء، كلّها مع أنّنا عرفنا بهذه النسبة، فماذا لو كانت بنسبة مائة في المائة؟! ماذا كنّا سنفعل؟! لألقينا بأنفسنا من أعلى الجبل، فإن كانوا قد أعطونا عشرين وخمسة عشر بالمائة ونحن نضرب على رؤوسنا آه آه ماذا حلّ بنا؟! وإلى أين سننتهي؟! وكيف ستكو آخرتنا؟! زاد الله فهمنا إن شاء الله.
لدينا في الليالي الآتية قليل من البحث حول هذا الأمر وهو أنّه كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى تلك المرتبة التي يتحدّث عنها الإمام، فأيّ أسى لا بدّ أن يعيش؟! واقعًا لا أن يبكي آه آه آه تمثيلاً، فهذا كلّه لعب وكما يفعل بعض أصحاب المواكب، فهذا كلّه غير مطلوب، بل المطلوب أن يكون الإنسان كمن فقد ابنه، كالثكلى وكالأب الذي فارق ابنُه الحياة في حضنه، مثل تلك الأمّ التي تكون عند رأس ولدها وهو يحتضر، أن يكون الإنسان مثل هؤلاء، أن يقع مثلهم في اضطراب وتلاطم، يقع الإنسان في تلاطم.
كنت في مكان فنقلت قصّة حول هذه القضايا والفجائع والمجازر، لا إله إلا الله أيّ أمور وقعت! فقال ذلك السامع المسكين أمرًا، قال: لا يشعر أحد بألم هذا إلا أن يكون قد مات ابنه وهو على يديه. فقلت له: نعم هو هكذا، لا يدرك أحدٌ آخر ذلك أبدًا، لا يدركه الآخرون، فتلك المرأة الثكلى المرأة التي مات ابنها أمام عينيها لا أنّهم أخبروها فقط بأنّ ابنها مات بل التي يحتضر ابنها أمامها كيف تكون حالها؟! لا يدرك أحد حالها إلا أن يصيبه ما أصابها سواء كان أبًا أو أمًّا.
نجّانا الله وأخذ بأيدينا أخذ بأيدينا، اللهمّ إنّا لا نلجأ في فتن آخر الزمان هذا إلا إليك! اللهمّ لا تفرّق بيننا وبين أهل البيت واجعلنا تابعين لهم وحدهم في جميع الأحوال في الدنيا والآخرة.