المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1430
التاريخ 1430/11/05
التوضيح
ما هو سبب الفزع الأكبر؟ ولماذا يسيطر على الإمام عليه السلام رغم عصمته؟ وما معنى الحالة الفعليّة الذاتيّة والحالة الفعليّة الغيريّة؟ وكيف نطبّقهما على أنفسنا على شخصيّة الإمام لفهم أنواع سلوكه وكلامه؟
تجيب هذه المحاضرة على هذه الأسئلة بشكل أساسيّ في سياق شرح فقرة إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت من دعاء أبي حمزة الثماليّ. كما تتعرّض لأبحاث أخرى كمعنى الشعر والشعراء، وتقلّب الأحوال، وكيفيّة تحويل الحكومات التي تحت نظر أمير المؤمنين إلى عين حكومته.
هو العليم
لماذا يسيطر الفزع على الإمام عليه السلام
الحالة الفعليّة الذاتيّة والغيريّة لدى الإمام عليه السلام
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ - الجلسة الثامنة عشرة (وشرح حديث عنوان البصري الجلسة ۱۷٢)
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سرّه
أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم
بسم اللَه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
و الصلاة و السلام على سيّدنا وحبيبنا
أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين.
تتمّة لموضوع الجلسة السابقة وإكمالاً لشرح فقرة دعاء أبي حمزة الثمالي حيث يقول الإمام لله:
«إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت وإذا رأيت كرمك طمعت»
عندما أنظر يا إلهي إلى ذنوبي أقع في الوحشة، ويسيطر عليّ القلق العميق واليأس من المآل، وعندما أنظر إلى كرمك ولطفك ينبعث شوقي وطمعي ويتجدّدان ويسوقاني إليك.
ذكرنا في ليالي شهر رمضان المبارك بعض الأبحاث التي ترتبط بهذه الفقرة، ولا شكّ أنّ الرفقاء لهم اطّلاع ما قلّ أو كثر على حاصل ونتيجة تلك الأبحاث. وأساس الكلام الذي استندنا إليه في تلك الليالي، وكذلك في الجلسة السابقة أيضًا هو أنّ الإمام عليه السلام في خطابه لله وفي مناجاته بين يديه لا يمازح الله، لا يمازحه بل يقول الحقّ، وليس لدينا أصدق من الإمام وليس لدينا من يكون كلامه أقرب إلى الواقع من الإمام، فالإمام المعصوم عليه السلام كلامه معصوم.
نحن نقول باطلاً ونشتبه ونزيد وننقص في كلامنا إمّا عن كذب أو غير كذب من السهو والخطأ وبواسطة الجهل، ولدينا إفراط وتفريط في الأمور.
معنى والشعراء يتّبعهم الغاوون
خصوصًا الشعراء الذين تقول عنهم الآية القرآنيّة: {والشعراء يتّبعهم الغاوون}۱ فالذين هم في الغواية فالغاوي هو الذي في الغواية وفي الجهالة وفي الضلالة وفي الضياع، هؤلاء يتّبعون الشعراء، ففي الحقيقة هم يتّبعون الشعراء، والشعراء أيضًا يبحثون عنهم، فبعضهم يقرض بعضًا، فالشعراء يقولون ما يحلو لهم من المزخرفات ولا يبالون بما إن كان حقًّا أم باطلاً، وكما يقال: يصنعون من الحبّة قبّة، أو يصنعون من القبّة حبّة.
والشعر هنا بمعنى التخيّل، أي القوّة الواهمة والمتخيّلة التي تغيّر المعنى المراد إلى معنى غير حقيقيّ، فهذا ما يفعله الشاعر، فالقوّة المتخيّلة للشاعر تقوم بذلك، وطبعًا هذا الأمر لا يختصّ بالشاعر بل هو لجميع الناس، فكلّما ابتعدوا عن الحقيقة فهم أكثر تأذّيًا، وعلى الإنسان أن يلتفت جيّدًا ويحذر أن يخدع بهؤلاء الناس.
فالإمام عليه السلام في كلامه هو الصدق المطهّر، والصفاء المطهّر، والحقيقة المعصومة، كلامه عين الحقّ، ومضامين كلامه عين الواقع، الإمام عليه السلام ليس من أهل اللغو وليس من أهل الزيادة والنقيصة، فإذا ما مدح إنسانًا فهو كما يقول، وإذا ما انتقده فهو كما يقول في تلك اللحظة، وطبعًا يمكن أن يتغيّر لاحقًا، فلا إشكال في ذلك.
المعيار في مدح الإمام لإنسان ما هو حالته الفعليّة
فقد كان هناك أناس في أزمان الأئمّة عليهم السلام كانوا يعدّون في حقبة معيّنة من الأصحاب الصالحين والموثوق بهم لدى الإمام، وهذا الأمر مهمّ جدًّا، وهذا الأمر يستحقّ الاهتمام من قبلنا، لا تتصوّروا أنّ الأمر قد انتهى، فالأمر لا يختلف سواء في زمان النبيّ أو في زمان الإمام المعصوم أو في زمان الغيبة أو في كافّة الأزمان، المعيار هو الوضع الفعليّ للإنسان، لا ما كان عليه فيما مضى، ولا ما سيكون عليه. فهناك الكثير من أصحاب الأئمّة عليهم السلام لعنهم الإمام بعد مدّة كأمثال الهلالي وعليّ بن أبي حمزة البطائني وأمثال هؤلاء الذين كانوا من الأصحاب، أو أمثال الشلمغاني الذين تغيّرت أحوالهم في النهاية وكانوا موضع ثقة الإمام، وكان يرجع إليهم الشيعة، اذهبوا وخذوا عن هؤلاء دينكم، واسمعوا كلامنا من أفواههم، وكانوا وكلاء الإمام عليه السلام في المدن وفي الأطراف المختلفة، فالأموال التي كان الشيعة يرسلونها كان هؤلاء يسلمونها ثمّ يرسلونها إليه، أو كانوا يصرفونها في تلك المدينة وفق ما يأمر به الإمام، فقد كانوا وكلاء الإمام، وكلاء موسى بن جعفر.
لقد كان عليّ بن أبي حمزة البطائني وكيلاً لموسى بن جعفر، ولكنّ الشيطان شيطان، وهذه هي المشكلة، فوكالة موسى بن جعفر لا تتنافى مع نفوذ الشيطان، وعلى الإنسان أن يحذر جيّدًا ولا يغترّ بنفسه، فمن يغترّ بنفسه يرى نفسه فجأة قد هلك، متى؟ عندما يستشهد موسى بن جعفر بسمّ هارون، وينصب ابنه عليّ بن موسى الرضا من قبل الله وعلى جميع الوكلاء أن يرجعوا إليه ويكونوا تحت طاعة الوليّ الجديد، فهنا يأتي الشيطان ويبدأ بالوسوسة فمن لديه علم؟! فقد لا يكون معلومًا، وخاصّة بعد زمان موسى بن جعفر عليه السلام كانت مسألة الولاية وإمامة عليّ بن موسى عليهما السلام لا تزال غير واضحة، وكان هناك عدد قليل من الشيعة على علم بها، فبسبب التقيّة وسيطرة حكومة هارون الذي كان يتربّص ليرى كيف ستكون الأوضاع بن الإمام الكاظم لكي ينفّذ الخطوات اللازمة ضدّ الإمامة، لذلك كانت إمامة عليّ بن موسى الرضا مخفيّة، ولم يكن على اطّلاع بها إلا قليل من الخواصّ، وهنا يأتي الشيطان إلى الإنسان، فحتّى هذه اللحظة كان موسى بن جعفر وكان معروفًا، وكان الناس يعرفونه، فلو خالفت في زمانه لما سمع لك أحد، ولكنّهم الآن يسمعون، فليس معلومًا الآن من هو الإمام بعد الإمام موسى بن جعفر، فيمكنك أن تصرف كافّة الأموال التي لديك، ويمكنك أن تستفيد من موقعيّتك، يمكنك أن تقلب الأمور وتقول للناس شيئًا آخر، فالظروف مهيّأة لإفساد دين الناس، والظروف مهيّأة لقلب الكلام، والظروف مهيّأة للوصول إلى تلك الميول النفسيّة التي كنت تحتفظ بها في نفسك حتّى هذه اللحظة، وربّما تكون حتّى أنت غير ملتفت إليها. فليس من الضروريّ أن يكون لدى الإنسان دائمًا علم فعليّ بحقائق النفس، كلاّ يمكن أن لا يكون لديه علم، لديه استعداد ولكنّ الظروف غير مهيّأة لأن يخرج ما في قلبه إلى مرتبة الفعليّة النفسيّة الظاهريّة، وأن يجعل لنفسه مكانة في خيال الناس وأوهامهم، فجميعنا مبتلون بذلك.
ما يجري حولنا من أحداث لا يسمح لنا بإبراز ما في القلب وإبراز ما في الضمير إلى منصّة الفعليّة الخارجيّة، فيبقى في مقام استعداده مختفيًا كالنار التي يغطّيها الرماد حتّى يجد فرصة مناسبة للبروز والظهور، فإذا ما نفخ على الرماد فإنّه يتطاير شيئًا فشيئًا ويظهر ما في الباطن، فهناك فرق كبير بين من ليس في باطنه شيء، وبين من في باطنه شيء ولكنّه مغطّى بالرماد، فرق كبير بين الحالين ما بين السماء والأرض، ما بين الأرض وعرش الله.
ففي هذه الظروف جاء هذا وأظهر نفسه وأبرزها وأنكر إمامة الإمام الرضا عليه السلام وقصّته معروفة ولها تفاصيلها، فقد أخذ المال لنفسه ولا أدري ماذا صنع به، وصار مورد لعن الشيعة وطردوه. ولذا لدينا أن اقبلوا تلك الروايات والأخبار التي كانت في زمان استقامتهم وانتسابهم إلى الإمام واستنادهم إليه، ولا ترتّبوا أثرًا على الروايات التي صدرت عنهم بعد إعراضهم عن ولاية الإمام المعصوم عليه السلام. فقد كان هؤلاء وكانوا كثيرين ولا استبعاد لذلك، لماذا؟ لا داعي لسؤال لماذا، فالدنيا هي عالم امتحان وهي هكذا بالنسبة إلى كلّ إنسان.
قصّة حسّان بن ثابت وإنشاده الشعر في يوم الغدير وتوقّفه عن الولاية بعد النبيّ
وكان من هؤلاء حسّان بن ثابت الأنصاري، وكان شاعرًا وكان أيضًا جبانًا، كان في يوم غدير خمّ من أصحاب النبيّ، أدّى الحجّ ثمّ رجع، وكان حاضرًا يوم الغدير بين أصحاب النبيّ وحضر تلك الأحداث وشاهد كلّ أحداث تنصيب أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة والولاية الإلهيّة والإمامة، وعاش تلك الأحوال والأجواء، وكان المكان عجيبًا جدًّا، فتذكّروا ذلك فإنّه يفيدنا في بحثنا اليوم، وانظروا إلى العبارات التي أستعملها هنا واحفظوها. ففي ذلك المكان وفي ذلك الجوّ تغيّرت أحواله وأوضاعه، ولمّا تغيّرت بدأ بإنشاد الشعر في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام، وشعر حسّان في يوم الغدير من أبلغ شعر العرب، فقد جاء إلى النبيّ وقال له: أريد أن أنشد شعرًا في ما جرى اليوم. فقال له النبيّ تفضّل. فيقف في مكان النبيّ، المكان الذي نصّب فيه النبيُّ أميرَ المؤمنين للخلافة، في أعلى كومة من الأحمال والأقتاب، فصعد إليها وخاطب الناس بالبداهة بشعر يمدح فيه أمير المؤمنين وأحوال ذلك اليوم وأجواءه وأحداث تنصيبه للولاية والإمامة، بحيث إنّه يكون مورد تعجّب وإعجاب من الجميع، وكان كلام رسول الله لحسّان أنّ الروح الأمين نفخ في قلبك حتّى تمكّنت من إنشاد هذا الشعر وأنت معنا أهل البيت وأنت مؤيّد بالروح الأمين ما دمت ـ وهنا علينا أن نلتفت ـ معنا أهل البيت، وكلام رسول الله هذا يهتزّ له الإنسان ويرتجف، ما دمت معنا أهل البيت فروح الأمين جبرائيل يؤيّدك ويسدّدك ويلقي المعاني في نفسك، فلا تظنّ أيّها المسكين أنّك قلت هذا من نفسك، لقد نفخ روح الأمين في روعك، فنفس الروح الأمين هي التي ظهرت بهذه الصورة وبهذا الشعر، أتحسب أنّك أنت قلت هذا الشعر، فأنت كنت تقول قبل ذلك الكثير من الشعر، قصائد تتغزّل فيها بالخال والعين والحاجب، ولكن لماذا لم يأتك حينها الروح الأمين، لقد كان غيره ينفخ فيك لتكون تلك القصائد، وأمّا هذه القصائد فهي من أجل الكون معنا أهل البيت، فهذا هو أثرها، أثرها أن تنشد هذا الشعر الذي أعجب الجميع. والدليل على ذلك أنّ من الذين اتّبعوا هؤلاء الخلفاء بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله حسّان هذا، فماذا جرى يا حسّان؟ هل كان الاتّفاق على أن تتكلّم في كلّ مقام بكلام يجلب لك النفع الخاص، ففي أجواء الغدير وفي عيد الغدير وفي تلك الأحوال والأجواء تنشد قصيدة في الإمامة وفي أمير المؤمنين، أفهل نسيت؟ أنت بنفسك قلت ذلك، والآن جئت تقف خلف هذا وتصلّي؟ فماذا حصل؟ أنت من قال الشعر لا أنا، أنت قلته أنت قلته، فلماذا؟ فانظروا هنا على الإنسان أن يلتفت جيّدًا، وهنا عليه أن يعمل الدقّة، هنا عليه أن يعلم أنّ وضعه الفعليّ وحاله حال جهل، حال كدورة، حال انحراف، ما يسبّب له النجاة هو اعتقاده بالإمام المعصوم والصدّيقة الكبرى، هذا الاعتقاد بالإمام المعصوم ورسول الله هو الذي يسبّب النور والبهاء والبهجة وإعجاب الناس وتلك البركات والفضائل التي تترشّح من هذا الوجود، فإذن عليه أن لا ينسبه إلى نفسه ويقول: أنا من قلت هذا يوم الغدير، أنا من أنشد هذا الشعر، أنا أنا، إذا ما انفصلت فلن تتمكّن من إنشاد هذا الشعر، ولو قتلت نفسك فلن تتمكّن ما دمت واقفًا خلف ذاك الرجل تصلّي مأتمًّا به، فلو قالوا لك يا حسّان ارتق منبر رسول الله، المنبر الذي كان رسول الله يرتقيه ويتحدّث من عليه، أمّا ذاك الذي صنع يوم الغدير فقد ارتقاه مرّة واحدة لا أكثر، فقد صنعوه حينها، أمّا هذا المنبر فكان يرتقيه كلّ يوم، فتفضّل، ارتقاء منبر رسول الله مع الكون خلف ذلك الرجل هو ارتقاء على الخشب، ارتقاء على الحطب، ارتقاء على الحديد، لا على المنبر، لذلك إذا ما ارتقاه فإنّه لا يتمكّن أن يقول كلمة واحدة ممّا قاله يوم عيد الغدير، لو أراد أن ينطق بكلمة واحدة فإنّ لسانه يرتبط، لقد انتهى الأمر بعد هذا، أفهل أدركت الآن أنّ ما كان ذلك اليوم من أين كان؟!
بلبل از فیض گل آموخت سخن ورنه نبود | *** | این همه قول و غزل تعبیه در منقارش |
يقول: لم يكن البلبل قد تعلّم التغريد إلا من فيض الوردة المعلّمة فكلّ هذا التغريد والغزل قد عبّئ في منقاره.
عندما تسقط عينه على الوردة يشرع بالنطق وبالتغريد والغزل الذي يسمعه الإنسان عندما يدخل إلى البستان، وقد زرت يومًا البساتين، حقًّا ما تصنعه البلابل بين الطلوعين مثير للدهشة! فلماذا كلّ ذلك؟ هو لأجل ذلك الجوّ والنسيم الذي يأتي من ناحية الأزهار فيجعله يعيش حالة الوجد، فلو أنّ تلك الأزهار كانت خامدة يابسة ميّتة لصمتت أصوات البلابل أيضًا، تجلس هكذا وتنظر، ومهما وضعت أمامها من الحبوب فلا فائدة، ومهما لاطفتها فلا فائدة، لقد انتهى الأمر. تقول: لا توجد أزهار، اذهب يا عزيزي وائتني بذلك الأصل، فإن شئت أن ينطلق لساني اذهب وائتني بما يطلق اللسان، لا أن تضع أمامي الحبوب والأطعمة وما شابه، فهذه لا تنطلق بلساني، أقصى ما تصنعه هذه أنّها تمنع موتنا، تعطينا الحياة لليوم وغدًا، أمّا ما يبعث التعالي في روحي فهو شيء آخر، إنّه شيء آخر، إنّه عبارة عن وجه الوردة التي تثير فيّ الوجد وتبدّل أحوالي. حقًّا هكذا هو الواقع.
ضرورة الحذر من تقلّب الأحوال
فإذن على الإنسان أن لا يفكّر أنّه إن كان في زمان ما على حالة معيّنة فسيكون عليها في جميع الأوقات، فهو في زمان ما على حالة وفي زمان آخر على حالة أخرى، ففي زمان على ضلال، وفي زمان آخر على هدى، في زمان على هدى وفي آخر على ضلال، فهذه أمور مختلفة.
وقد رأينا هذا الأمر كثيرًا في زمان المرحوم العلاّمة، لقد رأيناه كثيرًا كثيرًا، فالذين كانوا على صلة به ويتردّدون عليه ويشاركون في مجالسه من الناس المعروفين الذين يعرفهم الجميع، وكانوا يقرأون هناك الدعاء، يقرأون دعاء السمات، وهم أنفسهم يبكون حين قراءتهم، ولكن لم يكن لذلك كلّه جانب فعليّة بمعنى الملكلة، بل كان حالاً، كان في ظروف خاصّة، فإذا تغيّرت تهيّأ الجوّ للامتحان، لم تكن الظروف مناسبة للتغيّر، ولم تكن مناسبة لظهور ما اختفى في النفس، فإذا صارت مناسبة تسمع فجأة الهمهمة والتذمّر والانتقاد والاعتراض وشيئًا فشيئًا يبدأ الطعن والسخرية ثمّ ينتهي الأمر إلى مواضع أخرى، هذا كلّه من أجل أنّ الإنسان قد نسي نفسه وواقعه في تلك الحالة، يظنّ أنّ الأمر هكذا، وأنّه قد انتهى الأمر.
ماذا يحدث عند الفزع الأكبر يوم القيامة؟
فعندما يقول الإمام عليه السلام: «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت» وسيطرت عليّ الوحشة والاندهاش، لا أنّي فقط أصاب بالأذى، «ففزعت» تعني أنّي أتغيّر تغيّرًا لا يمكن أن نفترض له حدًّا أدنى منه، فهذا المعنى هو معنى الفزع، {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}۱ لدينا حول يوم القيامة ذلك، وأيّ يوم هو يوم القيامة؟
{يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَه شَدِيدٌ}٢ فمن شدّة العذاب تترك كلّ مرضعة طفلها وتمضي ولا تتذكّره بعد ذلك، فالأمّهات اللواتي يلقين بأنفسهن بالموت في هذه الدنيا فداء لأطفالهنّ… وقد وقع ذلك كثيرًا، قد يصيب الطفل حادث فتنسى الأمّ نفسها، وقد اتّفق أن سقطت الأمّ خلف ابنها عن أعلى السطح، أو أن ألقت بنفسها في الهلاك عندما رأت ابنها تحت عجلات السيّارة فتلقي بنفسها تحتها وتزيح طفلها كيلا يصاب، فهذه الأمّ التي تفدي في هذه الدنيا ولدها تنساه يوم القيامة، فماذا هناك؟ تنسى الطفل.
ولدينا في آية أخرى حول الأب: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ ، وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ٣سيأتي يوم لا يذكر فيه الإنسان أباه ولا أمّه ولا أخاه ولا تلك الزوجة التي كان معها سنوات طويلة، وكلّ من يناديه يقول له: أنا الآن أتّبع شؤوني الخاصّة، فماذا هناك؟ هل وقع زلزال؟ هل جاءت صاعقة من السماء؟ أم هل يلحق به خزَنة جهنّم بالحراب؟ كلاّ فذلك اليوم هو اليوم الذي تظهر فيه تلك الحقيقة التي كانت حتّى الآن مخفيّة عنه ولم يكن له اطّلاع عليها والتي هي عبارة عن الجهل والابتعاد عن الله والانحراف عن القرب الإلهيّ وقضاء الدنيا باللهو واللعب، فهناك في يوم القيامة حساب دقيق للغاية، فلو أراد الإنسان في هذه الدنيا أن يخفي ذلك بألف حجاب وحاول الإخفاء والاستتار، أراد أن يخفيها بنسبة الأمر إلى هذا وذاك، وأراد أن يتخلّص من ثقل المسؤوليّة بكلمة «المأمور معذور»، وأراد أن يتخلّى عن تلك المسؤوليّة الإلهيّة بالقول إنّ فلانًا أمرني ولم يكن لي بدّ من ذلك، فكان عليّ أن أفعل، فماذا عن الغد؟ هل يمكنك أن تفعل ذلك غدًا أيضًا؟ تفضّل افعل ذلك! إن كنت تستطيع أن تقول غدًا لهؤلاء الملائكة «المأمور معذور» فإنّهم سيضربونك بمقامعهم حتّى تنام، ماذا تقول؟ المأمور معذور! أيّها الملعون أتريد أن تكذب هنا أيضًا؟ هناك احتلت على ذلك الإنسان، أتريد هنا أن تخدعنا؟ أتظنّ أنّ هنا دار الدنيا؟ سنأخذ بتلابيبك ونريك بأيّة حالة قلت هناك «المأمور معذور» التي قلتها، نريك ماذا كنت تفكّر وفي أيّ خيالات كنت عندما ارتكبت تلك الجناية وذلك الباطل؟ أتخدعنا نحن الملائكة؟ تفضّل هويّتك، فهذه نفسك وهذه ظروفك، فماذا تقول؟ ماذا تقول الآن؟ أتخدعنا؟ أتخدعنا نحن الملائكة الرقيب منّا والعتيد؟ أتريد أن تخدعنا نحن؟ هذا سجلّك فتفضّل، السجلّ الذي لا يمكن تعديله، السجلّ الذي لا يمكن استخراجه ومحوه وتغيير المستندات التي فيه، هذا سجلّك، تفضّل. لا حاجة هناك أن تكون محكمة وقاض {كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}٤ اجلس ولاحظ بنفسك، ونحن نتنحّى جانبًا، نحن الملائكة نمضي لا عمل لدينا، تفضّل، فهذا أنت وهذا سجلّك، هل يمكنك أن تغيّره؟! هل يمكنك أن تبدّل الأعداد؟ أن تغيّر المواضع، أن تجعل عددًا ما صفرًا؟ وعددًا آخر مليونًا؟ فإن كنت تستطيع فافعل! هل يمكن أن تقول إنّ الكلام الذي لم يقل قد قيل؟ تعال وافعل ما شئت كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً فلا محكمة لدينا هنا ولا قاض ولا شيء، أنت وأنت وأنت.
فما هذا؟ إنّه حقيقة، ففي يوم القيامة عندما يصل الإنسان إلى تلك الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها… في هذه الدنيا يخفي، لقد كنت هكذا ولم أكن أستطيع، كان لديّ هذا الإشكال، لو فعلت كذا لكان كذا، فهناك دائمًا أمثال هذه الأمور وستبقى موجودة، وأمثال هذه الأعذار دائمًا موجودة، وهذا النوع من الفرار من الحقائق موجود على الدوام.
الاستقامة تزيل الفزع الأكبر
ولكن أقول للرفقاء لن نحصل على شيء، من الأفضل أن نكون دائمًا واضحين أمام الجار، فهذا هو الرابح، وهذا الإنسان هو الذي يكون هنا مرتاحًا، يسير نحو ذاك العالم بهدوء وثقة مستقيم القامة صريحًا مرفوع الرأس، وهناك أيضًا يمشي مطمئنًّا لا اضطراب لديه لا مشكلة ليس لديه "آه آه آه"، لا ترتجف يده عند مفارقة هذه الدنيا، عندما يخبرونه بموته لا يموت قبل الوقت الذي عيّنه الأطبّاء، فإذا قالوا بعد أربعة أشهر لا تصيبه السكتة بعد أسبوع، لماذا؟ يرى أنّ الأمور صارت حقيقية، لقد كان حتّى الآن يعتمد على الدواء والأقراص والإبر والطبيب فلان والطبيب فلان والجهاز كذا، كان مأنوسًا بأنّهم صنعوا مؤخّرًا دواء وإبرة تجعله يتحسّن وتغيّر خلاياه، وتقضي على الخلايا المريضة وتوجد خلايا جديدة، عندها يبتسم ويضحك: لديّ أمل بالشفاء. أيّها التعيس الحظّ لماذا تكون هكذا؟! لماذا ليس لديك ميل إلاّ إلى هذا الجانب؟ لماذا إذا قيل لك: لقد صنع شيء كهذا لا تقول: لقد تأخّر رحيلي يومين. لماذا لا يكون الأمر هكذا فتقول: لا قدّر الله أن يتأخّر رحيلي.
انزعاج المرحوم العلاّمة من البقاء في الدنيا بعد مرضه
هكذا كان الأعاظم، وقد ذكرت للرفقاء أنّ المرحوم العلاّمة عندما عوفي من وعكته الأولى قال: ماذا يريد هؤلاء الرفقاء منّي؟ لماذا يَنذرون إلى هذا الحدّ ويذبحون الأضاحي؟ ماذا يريدون؟! يكفي في النهاية! ما يجب أن نقوله قلناه، فماذا يريدون منّي؟! لماذا يفعلون ذلك؟! لقد كان غاضبًا، كان لديه اعتراض! كان يعترض على أحد الجالسين قربه، ولم يكن الأمر تمثيلاً، بل كان حقيقيًّا. فهؤلاء عملهم صحيح، عملهم صحيح، هؤلاء ليس في وجودهم في الدنيا سوى الضجر والمصيبة، اليوم يأتي هذا شاكيًا وغدًا يأتي ذاك، وذاك يقول شيئًا، فماذا سوى هذه الأمور والأزمات؟ يقولون نذهب إلى هناك لنكون مرتاحين وتنتهي كلّ هذه الأمور! لماذا؟ لأنّهم كانوا في هذه الدنيا دائمًا مع الحقيقة، لم يقفوا في وجه الحقائق، ولم يخادعوا أنفسهم، لم يطرحوا أنفسهم دائمًا بوجاهة أمام الناس، نتحدّث عن أنفسنا كما نحن في الواقع: فأنا هكذا. لم يلبسوا تلك العباءة والجبّة التي لا تتناسب وأبدانهم ويظهروا أنفسهم بمظهر آخر، أنا هكذا كما أنا، هذه هي حقيقتي، فأنا في هذه الحالة وبهذا المستوى من العلم والتقوى والفطنة والدراسة، بهذا المستوى الذي ترونه لا أكثر. وعندما يمضون إلى الله يقول: إلهي هذا أنا هكذا، أنا هكذا لم أخدع أحدًا ولم أغشّ أحدًا، هذا أنا، فهذا ليس صعبًا، والسبب في أنّه يوم القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ ، وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. لكلّ إنسان سجلّه الخاص، ولا عمل له بسجلّ غيره، الشأن الذي ينبغي أن يشغله {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} كلّ إنسان هناك له شأن يكفيه، فلا يتمكّن من متابعة شؤون الآخرين فيقول لهم: كيف حالك؟ ماذا جرى؟ إلى أين انتهى سجلّك أنت؟ هل برّأك القضاة والمحكمة والديوان الأعلى يوم القيامة أم لا بل حكموا عليك؟! كلاّ يا عزيزي فهذا لا يفكّر في غيره، لا يفكّر في غيره! وهناك يفهم أنّه عندما كان في الدنيا كان قد شغل قلبه بهذا وبذاك عبثًا وزاد من الأثقال على نفسه عبثًا. وفي الموضع الذي لم يكن عليه أن يتعلّق تعلّق، وتعلّقه هذا جعل أمر الآخرة مشكلاً، وكان عطوفًا على البعض بغير داع، وهذا العطف جعل أمره هناك في مشكلة. لقد أفرط عبثًا في بعض الأمور، والحال أنّ إفراطه هذا منعه من الوصول إلى النعم ولم يكن هو مكلّفًا بهذا الإفراط، لم يكن مكلّفًا ببذل نفسه إلى هذا الحدّ ولم يكن مكلّفًا بهذه المبالغة، كان مكلّفًا أن يعمل في حدود متعارفة بتحصيل رزق عياله، فلماذا يقوم بسبب كلام هذا وذاك بإتلاف نفسه وعمره ويلقي نفسه في أمور خارجة عن تكليفه، لماذا فعل ذلك؟ لماذا؟ ماذا نصنع غدًا؟ ولو جاء يوم وحصل كذا. عزيزي لو جاء يوم فسيكون كهذا اليوم، أنت الآن حيّ والله يرزقك، وغدًا سيكون هكذا، بماذا يختلف؟ لماذا نصرف رأس المال ذاك في أمر ليس تحت اختيارنا؟ ما فائدة ذلك؟! نخسر الحقائق الواحدة تلو الأخرى… الويل لي انقضى عمري! الويل لي خسرت رأسمالي، الويل لي انتهى الوقت الذي كان عليّ أن أخصّصه لنفسي.
بماذا أوصى أمير المؤمنين عليه السلام مالكًا الأشتر؟
ماذا قال أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر؟ قال له إنّ هذه الحكومة التي تمضي إليها عليك أن لا تراها من نفسك، انظر إليها على أنّها لي، فأنا عليٌّ أرسلتك إلى مصر، وعليٌّ هذا الذي أرسك إلى مصر وأعطاك هذا البرنامج الموجود الآن في نهج البلاغة وعلى الجميع أن يقرأوه من أوّله إلى آخره ويلتفتوا إليه على الدوام، عليٌّ هذا هو نفسه يقول لك اجعل أفضل أوقاتك لعلاقتك مع الله. فليس المطلوب أن تشتغل دائمًا في أمور الناس! فللناس نصيب محدّد، فماذا جرى؟! فللإنسان الواحد إمكانيّة معيّنة واستعداد معيّن وأعصاب محدودة، وقلب له قدرته الخاصّة به، ورئتان ودماغ وهذه محدودة، فماذا تريد أن تفعل؟! فأين علاقتك بالله إذن؟! هل قلت لك اذهب واعمل لأجل الناس حتّى تموت من التعب!! كلاّ، لم أقل شيئًا كهذا، اذهب واجعل وقتًا للنّاس، وليكن هذا الوقت محدّدًا، عليك أن لا تغلق باب دارك فلا تفتحه إلاّ للأغنياء، عليك أن لا تجعل مكتبًا ومدير مكتب وتعطي مواعيد بعد ثلاثة أشهر وأربعة أشهر، وتشكيلات إداريّة، كلاّ بل ينبغي أن لا يكون لديك فرق بين الفقير والغنيّ بين الحاكم والمحكوم، فليكن باب الدار مفتوحًا وليأت كلّ واحد في وقت معيّن، فإن كان الوقت كافيًا لهم فبها، وإلا فعند الظهر وقت الصلاة تغلق الباب وتتوجّه نحو الصلاة.
يقولون لك: يا مالك لقد انتظرنا هنا ثلاث ساعات في الصفّ.
ـ ما شأني أنا بذلك؟ ماذا أفعل؟! اذهبوا وقولوا لله: بدلاً من أن تخلق مالكًا واحدًا اخلق أربعة منه! واحد اثنان ثلاثة أربعة، وفي كلّ موضع من المدينة نجعل واحدًا، ثمّ نقسّم الناس عليهم، فأنا رجل واحد، ووقتي محدود، والأربعة والعشرون ساعة التي لديّ هي أربعة وعشرون ساعة، لا يمكن إضافة ثانية هنا أو هناك، وكما أنّ لديكم مشاكل فأنا لديّ أيضًا الكثير منها، وعليّ أن أحلّها في الخلوة، لا في هذا الازدحام، فانظروا «وَ اجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِیمَا بَینَكَ وَ بَینَ اللَه أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِیت»۱ فهذا الكلام كلام معجزة، كلام أمير المؤمنين. أفضل تلك الأوقات، الوقت الذي تكون فيه مرتاحًا يكون الارتباط بينك وبين الله قويًّا، فاحسب أنت وانظر قبل الغروب بساعة، أو بين المغرب والعشاء، أو بين صلاة الظهر والعصر، أو بين الطلوعين، فوقت ما بين الطلوعين أمره يحتاج إلى بحث وحده، وهذا وقت آخر، عليك أن تفتح بينك وبين الله حسابًا إلى جانب هذا الوقت، عندما تكون قد استعدت نشاطك واستجممت، فعليك تمضي، ولو كان خلف بابك ألف إنسان قد اجتمعوا فليجتمعوا، وإن لم يكن قد جاء أحد فينبغي أن لا يختلف الأمر لديك! فهذا يصبح أمير المؤمنين وذاك يصبح حاكمه، وعندها تكون الحكومة حكومة إسلاميّة.
كيف يجعل مالك الأشتر حكومته عين حكومة أمير المؤمنين عليه السلام؟
فمن يقيم أوّلاً ارتباطًا بينه وبين الله يأخذ من هناك ويمتلئ ثمّ يبذل ذلك بين الناس، يعطي ما أخذه، فماذا يعطي؟ يعطي بركات الولاية، أنوار الولاية، تلك التنزّلات وتلك النفحات التي جاءت، لأنّه يعمل وفق البرنامج المأمور به، وفق البرنامج المأمور به، كثرة الناس، آه قلبي يحترق، فماذا يقول هؤلاء الناس الآن، يقولون إنّ مالكًا جاء من جانب عليّ ولم يعتن بنا، فتحصل هذه الأمور وتحصل ولكي يحسّن سمعة عليّ لا يعمل بالأمر الذي أمر به عليّ، عندها يخسر، أمير المؤمنين يقول: لا تحسّن سمعتي، لقد قلت لك هذا، فما شأنك أنت؟! وليقل الناس ما يشاؤون، فليقولوا: جاء مالك من قبل عليّ ولم يعطنا موعدًا للّقاء به، دعهم يقولون ذلك، فأنت عليك أن تقوم بوظيفتك.
فانظروا كم تصبح الأمور دقيقة شيئًا فشيئًا، فحتّى أمير المؤمنين يقول إنّ علينا أن لا نبذل من أنفسنا لنحسّن صورته على حساب ما أمر به نفسه، ولا بدّ من العمل وفق ما أمر به أمير المؤمنين وما أوصى به، فصاحب أمر الناس وأمرك أنت هو إنسان آخر، فلو كنت أنت هكذا فإنّ من يدير الأمور بالخفاء من عنده يعلم ماذا يصنع، فالأمر ينتهي إلى هنا في النهاية، فأنت لا تحرق قلبك، فصاحب القلب العطوف المحترق جالس في المدينة أو جالس في الكوفة ولا داعي لأن تحرق قلبك أنت، لا تحرق قلبك يا مالك! افعل ما أمرتك به، ألست أنا عليّ موجودًا؟! ألست أنا صاحب الولاية الكليّة الكبرى؟! أليس لديّ إشراف على النفوس؟! أيّها المسكين الذي هو في مصر أنا أقرب إليك منك، أفيعقل أن لا أكون مطّلعًا على هؤلاء الذين وقفوا خلف بابك؟! أنا مطّلع على جميع وجناتهم ونيّاتهم وخيالهم وعلى كلّ شيء لديهم من البداية حتّى النهاية… أفأرسل إليك رسالة أحدّد لك فيها من سيأتي غدًا ويقف خلف بابك ويخبرك عن أحواله وهل تريد أن أخبرك عن ابنه وأمّه وعمّته وخاله حتّى النبيّ آدم؟! من يأتي غدًا؟ ومن يأتي بعد غد؟ هل أخبرك عن جميع هؤلاء؟ فإذن لا تحمّلني وزر عملك هذا ولا تجعله من حسابي أنا.
افعل ما آمرك به، اذهب إلى غرفتك وأقفل الباب كي لا يأتي أحد، اجعل أفضل أوقاتك لنفسك، فاليوم مثلاً في أيّة ساعة؟ في الساعة العاشرة إلى الحادية عشرة فهو وقت مناسب، أو من الصبح حتّى الظهر، أو مثلاً في الليل في وقت آخر يقلّ فيه المراجعون، فلا بدّ من مراعاتهم أيضًا، اذهب وافعل ذلك، فإن فعلت ذلك فإنّك سترى أنّ كلّ ذلك هو من قبلي، لن تراه من نفسك، وبيت القصيد هنا والعلّة هنا، وهي أن يرى مالك أنّ ما يقوم به هو من عليّ، فعليّ يدير ذلك من هناك، عليٌّ جالس في الكوفة ويفعل ذلك، فهذا رجل آليّ في الجانب الآخر، وقد صنعت الآن أجهزة تشغلها عن بعد فتبدأ بالعمل، ويختلف الأمر بحسب المسافة والقدرة.
إذا ما فعلت ذلك حينها تصبح حكومة مصر هي حكومة الكوفة! لأنّها نافذة لها، فهناك نهر واحد ومجرى ماء واحد، أحد أطرافه في الكوفة وطرفه الآخر في مصر وطرفه الثالث عثمان بن حنيف في البصرة، وطرفه الرابع في مكان رابع، فهؤلاء يجرون معًا في مجرى واحد وهذا المجرى هو عبارة عن ولاية أمير المؤمنين! هذه هي حقيقة الأمر.
فإذا وصل الناس إلى هذه الحقيقة يوم القيامة وإلى هذا الفعليّة وإلى هذا الإحساس فجأة يكون هناك أمر إلهيّ على طريقة {كن فيكون}۱ أن: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}٢ فهذا هو الفزع الأكبر.
ما هو سبب الفزع الأكبر؟
أي تلك الحالة من الوحشة التي يعيشها عندما يواجه الحقيقة التي لا شكّ فيها، في تلك الحقيقة التي لا يرى فيها أيّ خفوت في نفسه، هناك حقيقة وينتهي الأمر، لاحظوا أنفسكم أحيانًا… وقد حدث لنا ذلك، لم يحدث لي شخصيًّا، لا أدري ربّما حدث لمرّة، نعم حدث مرّة أو مرّتين وقد تذكّرت الآن، فقد رأيت مرّة الموت أمام عيني، لم أشكّ أنّ الأمر قد انتهى، لم أشكّ أنّ الأمر قد انتهى، كان شعوري يختلف عن سائر الموارد التي كنت أتصوّر فيها ذلك، وقد كان ذلك قبل مدّة بعيدة قبل عشرين سنة، فقد وقع لي ذلك، مرّة أو مرّتين. فلتفترض أنّك تسير في صحراء وفجأة يأتيك حيوان مفترس ويقف أمامك، فماذا يصيبك حينها؟! انتهى الأمر. خذ صورة لحالتك تلك في ذلك الوقت، وإن أمكن أن تحفظها في حاسوب ثمّ تلاحظها لاحقًا، صورة لدماغك ولنفسك وقلبك واحفظها هناك، إنّها تختلف عن تلك التصوّرات الأخرى للموت اختلافًا كبيرًا، فبماذا تختلف؟! اختلاف الحقيقة والمجاز. هذا الحال حال حقيقيّ وغيره مجاز.
جميعنا لدينا تصوّر عن الموت، أليس كذلك؟ ففي يوم من الأيّام سنموت، نعم هذا الموت مكتوب على الجميع وستمرّ قافلته على دار كلّ إنسان، ونحن نعرف ذلك، ولكنّنا جميعًا نقول هذا مجازًا.
متى تكون الحقيقة؟ متى يكون الواقع؟! عندما ننظر ونرى أنّ الجهاز يرتعش ويهمد نرى ذلك بأعيننا، فهذه الحالة حالة جيّدة جدًّا، تعطي الإنسان سعادة، وكما يقال يأنس الإنسان بها، يأتي فينظر: ما شاء الله! {وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً}۱ فعندما ينظر الإنسان وذلك الفاسق الذي قضى عمره في معصية الله… يمسك بيده آلة تصوير، آلة تصوير يمكنها أن تصوّر ما في الضمير فهل يتمنّى حينها أن يرى أحدًا؟! هل يحبّ أن يسلّم على أحد؟ تأتي إليه زوجته فيعرض عنها، لقد انتهى الأمر، أنت زوجتي ما دمت حيًّا فماذا أصنع لك بعد أن متّ؟ ماذا أصنع لك؟! والناس هكذا فأنت أخي ما دمتُ حيًّا، آتي إلى منزلك وتأتي إلى منزلي، أمّا الآن فلم تعد أخي. أنت أبي. أنت أمّي. أنت رفيقي. أنت شريكي، ما حال كلّ ذلك؟! انتهى! الآن حياتي هي المهمّة، أنت تسلّم عليّ، أنت تبشّرني بأنّك ستتحسّن وأمثال ذلك، يا عزيزي قلبي يتوقّف، فماذا تقول؟! انتهى الأمر فهذه الثواني الأخيرة وجاء الأمر أن توقّف، الفاتحة، احضروا قطعة قماش وغطّوه بها وخذوه وادفنوه حتّى لا يتأذّى الآخرون منه، في تلك الحالة وفي تلك الثواني الأخيرة يكون ذلك الفزع الأكبر، هذا وهو لم يلتفت بعد إلى ما في الضمير، فقط التفت إلى شيء يسير، إلى اثنين في المائة من الأمر، إلى خمسة بالمائة منه وهو الذهاب، وصل إلى هذه الحقيقة، فلا يمكن الكلام معه بعد ذلك، يقال إنّ أحد هؤلاء العلماء ـ وكانت له مكانة ـ أصيب بسرطان، وكان من أهل المنبر والمحراب، ولديه مريدون كثيرون، ويقال إنّه كان من الذين يتحدّثون عن الموت كثيرًا في محاضراته، وكان معروفًا في أحد الأماكن، ولن أوضّح الأمر أكثر، وكنت أراه في مشهد، كنت أراه في كثير من الأوقات، إلى أن قيل له: ستموت بعد ستّة أشهر، وكأنّ السماء قد وقعت على رأسه، أغلق باب داره ولم يعد يسمح لأحد بزيارته، وكلّ من كان يذهب لعيادته كان يخرج نادمًا ويقول: ليتني لم أزره، لقد غرق في عالمه الخاصّ وعندما كانوا يسألونه عن حاله كان يقول بحالة خاصّة: الحمد لله كما ترى، الحمد لله كما ترى! ورغم أنّ الأطبّاء قالوا له ستموت بعد ستّة أشهر مات بعد شهرين، وذلك الأثر الذي كان ينبغي أن يتركه السرطان شيئًا فشيئًا عجّل به، هو بنفسه عجّل به ومات بعد شهرين، مات وانتهى الأمر. لقد كان كلّ الكلام الذي يقوله مجازًا، لم يكن قد واجه هو بنفسه ذلك. {لا يحزنهم الفزع الأكبر} الناس يوم القيامة يدركون هذه الحقيقة بكامل وجودهم ويعرفون ماذا هم وماذا فعلوا وماذا كانوا وماذا خسروا وأيّ نعم أفسدوا وضيّعوا! والآن ينطبق حديث «اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل».٢ فالآن هو وقت الحساب وقد انتهى العمل وأغلق سجلّه، وقد توقّف سيرك هنا وانتهى، توقّف سيرك، توقف سيرك هنا وانتهى في المرتبة التي أنت فيها الآن، وقد سلبت منك القدرة على التجرّد والفعليّة، لقد ختم عليك وأنت على تلك الحالة من الفعليّة التي فارقت عليها الدنيا، ختم عليك فبقيت فيها، وتوقّفت فيها. فينظر متعجّبًا أن ماذا كان بإمكانه أن يكون وكيف بإمكانه أن يكون وأيّ أمور كان بإمكانه أن يحوز… وقد انتهى كلّ ذلك وذهب، حينها يسيطر عليه الفزع والدهشة واليأس الكامل، اليأس الكامل والقنوط الكامل من أن يكون له طريق أو منفذ، فهذا الفزع الأكبر لأيّ شيء هو؟! لأنّه وصل إلى تلك الحقيقة والواقع.
متى يسيطر الفزع الأكبر على الإمام عليه السلام؟
والإمام عليه السلام يبيّن ذلك الفزع الأكبر فيقول: عندما أنظر إلى حقيقتي وحقيقة وجودي ووضعي ومكانتي يسيطر عليّ الآن فزع يوم القيامة الأكبر، لأنّي أرى نفسي مذنبًا محضًا، مذنبًا محضًا، عاصيًا محضًا وخطّاء محضًا ومعاندًا محضًا ومكابرًا محضًا، فعندما أعيش هذه الحقيقة يسيطر عليّ الفزع الأكبر، «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت»، عندما أنظر إلى ذنوبي يسيطر عليّ الفزع، أي عندما أنظر إلى وجودي وحقيقتي.
فما هو مراد الإمام السجّاد؟ فأنت لم ترتكب ذنبًا ولم تقم بمعصية، فما هي حقيقة الأمر إذن؟! وأنت لا تقول كذبًا وباطلاً بين يدي الله، ومقام الدعاء ليس مقام هذا الكلام، الإمام يتكلّم مع الله فهل يخادع الله ويمازحه ويقول: إلهي أنا إنسان سيّئ جدًّا ولكن لا لا تسمع هذا، لست سيّئًا إلى هذه الدرجة، فأنا جيّد قليلاً! لا تتصوّر أنّي أقول حقًّا؟! نحن هكذا ولكن هل الإمام السجّاد هكذا أيضًا؟! نحن هكذا، نحن نقول: الله وفّقنا، ونطأطئ رأسنا ونتظاهر بحالة من التواضع قليلاً ونقول: الله هو الذي وفّق، لقد كان لطفًا إلهيًّا شمل هذا العبد، أنا لم أفعل شيئًا، وأنت تكذب إذ تقول إنّه حصل كذا وكذا، أين حصل؟!
فيقول الله: حسنًا، نعم، الأمر كما تقول، ولكن تعال واكتب هذا العمل باسم فلان، فهل تكتبه؟!
ـ كلاّ، لا بدّ أن يكون اسمي هنا في الأعلى، مثل تلك المباني التي تبنى ويكتب فوقها اسم، وإن لم تكتبوا اسمي فستقوم الدنيا ولن تقعد.
ـ ماذا يجري في قلبك؟ ماذا يجري؟ ألست تقول إنّه لطف من الله، إن كان لطفًا من الله فما شأنك أنت؟! ما صلتك أنت بالأمر؟!
كيف يكون الإخلاص في نشر كتاب مثلاً؟
لقد انتشر أخيرًا عن المرحوم العلاّمة جزءان لكتاب أنوار الملكوت، وهو عبارة عن مخطوطاته بيده، وقد بذل الرفقاء جهدًا فيه جزاهم الله خيرًا، حقًّا جزاهم الله خيرًا، وأعطاهم أجرهم، ويمكن القول: إنّهم بذلوا في هذا العمل صفاء قلوبهم، وساروا به بصفاء قلوبهم وبإخلاصهم، وهو تحت عنوان أنوار الملكوت ويتحدّث عن المسجد والدعاء وأمثال ذلك، وقد دعوت ذات ليلة المسؤولين عن هذا العمل إلى المنزل، فجاؤوا وقلت لهم: أريد أن أصنع شيئًا، فقلت: لقد بذلتم الجهود وتعبتم ـ وكنت أريد أن أرى وأوضّح هذا الأمر لهم هم، فقد كان الأمر واضحًا لديّ ومعلومًا، فمن يعمل بصفاء وبحالة خاصّة فإنّ عمله ووضعه وخلوصه يكون واضحًا ـ فقلت لهم: أرى أن أرسل هذين الجزأين إلى مكان آخر ويطبعهما إنسان آخر ويكونان باسم إنسان آخر فهذا أفضل، هكذا يبدو الأمر لديّ، فهذا الكتاب الذي أصبح جاهزًا الآن يطبع باسم آخر وفي جوّ آخر وبطريقة أخرى، فأريد أن أعرف ما رأيكم في ذلك؟
فقال هؤلاء: نحن نريد أن يطبع كتاب المرحوم العلاّمة! ولا يهمّنا من يطبعه وباسم من يكون وبأيّة كيفيّة، فافعل ما تشاء.
فقلت: لا إشكال لديكم أن أبدّل الاسم، رغم أنّه لم يكن قد ذكر اسم أحد، وهم أنفسهم طلبوا منّي أن لا أذكر أسماءهم، وقد كتبت في تلك المقدّمة في أوّله إنّ عددًا من الأصدقاء وأمثال ذلك ولم أصرّح بالأسماء، ولكن في النهاية هذا الكتاب منتسب إلى شخص…
قالوا: لا، نحن نريد أن يطبع الكتاب، ولا نريد أن يكون ذا صلة بهذه الجهة أو الجماعة أو الاتّجاه.
فقلت: حسنًا فهذا ما يسمّى عملاً خالصًا، هذا هو العمل الخالص، وعملكم هذا هو الذي يبقى، هذا هو الذي يبقى، فلو كان في قلبكم ذرّة من التفكير بأنّ هذا العمل الذي قمنا به وهذه الجهود التي بذلناها، وهذه الطباعة التي طبعناها، وهذه النسخة الخطيّة التي راجعناها، وهذا التحقيق الذي قمنا به، وقمنا خلاله بما قمنا وأتعبنا أنفسنا كثيرًا وأوصلنا الكتاب إلى هذه الحالة لماذا يكون باسم غيرنا؟! لو كان لديكم ذرّة من هذا التفكير لما كان هناك فائدة ولما كانت له نتيجة، وستكون نتيجته هي فقط أنّه ينتسب إلى هذه الجماعة ولو كان اسمكم غير مكتوب عليه، فالأمر دقيق جدًّا، فأن تكونوا مسرورين فهذا يكفي في أن تخسروا، ولو لم تكتبوا أسماءكم وقلتم لا نريد أن تكتب أسماؤنا ونريد أن يكون لدينا إخلاص، حسنًا فهذا جيّد وهذا مرتبة، ولكن في قلبكم ألستم مسرورين [لانتسابه إلى جهة معيّنة] ولو لم يكن اسمكم مذكورًا؟! فبمجرّد أنّ في قلوبكم أنّا نحن أنجزنا هذا العمل، نحن قمنا بهذا الجهد، ونحن استخرجنا هذه المضامين من المخطوطات وأعددناها للطبع والنشر، فماذا تصنعون بذلك؟ فهذا أمر مهمّ، وفي النهاية الأمر عالق هنا، لذلك علينا أن نرفعه أيضًا.
فرأيت أنّهم والحمد لله في منتهى الصفاء والطهارة والخلوص، وقالوا صادقين: كلاّ يا سيّدنا اجعل عليه أيّ اسم تريد. يكفينا أنّه صدر عن العلاّمة ولا نريد شيئًا آخر، فنحن نريد هذا.
فقلت: أحسنتم! هذا ما كنت أريده وهو أن يكون الخلوص هو الموجود فيه، والإيمان هو الموجود فيه، والاعتقاد هو الموجود فيه، وأمّا من يصدره فليس هو المعيار. وعلينا أن نصلح ما يرتبط بهذا الأمر فقط. هذا هو المهمّ.
سرّ فزع الإمام السجّاد وسائر الأئمّة عليهم السلام: نظرهم إلى حالتهم الفعليّة الذاتيّة
والإمام السجّاد عليه السلام يقول: هذه هي حالتي، فأنا في حالة فزع، والحال أنّ الإمام عليه السلام لم يرتكب ذنبًا، الإمام عليه السلام لم يعص.
لقد ذكرت في الأسبوع الماضي أنّ المعيار فيما يفعله الإنسان ليس هو العمل الخارجيّ بل نيّة الإنسان هي التي يهتمّ بها الله ويلاحظها. دقّقوا جيّدًا، فمن الآن سأجيب عن تلك المسألة وإن شاء الله سأنهي البحث اليوم، وهذا الموضع يستحقّ الدقّة، فهذا هو ما بقي خافيًا على الأذهان وموضع إشكال في هذه الفقرة من دعاء أبي حمزة وأمثالها من الفقرات الواردة عن سائر المعصومين عليهم السلام، مثل مناجاة أمير المؤمنين في مسجد الكوفة: «مَولايَ يا مَولايَ أنتَ الغَنِيُّ وأنَا الفَقيرُ وهَل يَرحَمُ الفَقيرَ إلّا الغَنِيُّ، مَولايَ يا مَولايَ أنتَ الغَفُورُ وأنَا المُذنِبُ وهَل يَرحَمُ المُذنِبَ إلّا الغَفُورُ»۱ وأمثال ذلك مما في أدعية سائر الأئمّة حتّى في الصحيفة السجّاديّة وأدعية الإمام الصادق عليه السلام، وهكذا في دعاء سيّد الشهداء يوم عرفة حيث نشاهد فقرات من هذا القبيل، وبصورة عامّة في مناجاة الإمام المعصوم عليه السلام مع الله وبيانه لحاله، حيث يكون الإمام عليه السلام في مقام بيان واقعه الفعليّ لله، لا الواقع الشأني، فالواقع الفعليّ يختلف عن الواقع الشأني، فالإنسان يمكنه أن يصل إلى مرتبة الصلاح، ويمكنه أن يصل إلى مرتبة الفلاح، ولكنّ هذا الصلاح والفلاح من أين جاءا حتّى جعلا الإنسان صالحًا ومفلحًا؟!
مثال لتوضيح الحالة الفعليّة والحالة الشأنيّة وانقسام الحالة الفعليّة إلى ذاتية وغيريّة
سأضرب لكم مثالاً خطر في بالي الآن، هذه المصابيح التي ترونها الآن مضاءة، هل هي مضاءة الآن أم لا؟! دقّقوا جيّدًا، أريد أن أبيّن نوعين من الحالة الفعليّة هنا:
إحداهما: الحالة الفعليّة المستندة إلى الغير.
والأخرى: الحالة الفعليّة المستندة إلى الذات.
فهذه المصابيح التي ترونها أنتم الآن هل هي مضاءة أم لا؟ كلّها مضاءة، وليس هناك أيّ منها مطفأ. ليس هناك أيّ منها مطفأ، فهذا المصباح مضاء وهذا مضاء، إنّها مضاءة كلّها، فما هي الحالة الفعليّة لما نرى الآن؟! أي تلك الحالة الوجوديّة والحالة الخارجيّة وحالة النوريّة، فأنتم ترونها! ولو حدّقتم فيها قليلاً لما استطاعت أعينكم استمرار النظر إليها، ولو حدّقتم بالشمس فإنّ أعينكم تغمض، فكونكم الآن تنظرون إلى هذه فهذا يعني أنّها حالة فعليّة لهذه المصابيح الكهربائيّة وهذه الإضاءة. ولو ضغطتم على مفتاح الكهرباء لانطفأت فماذا سيكون هنا؟ ظلمة. أين؟ أين ذهب النور؟ هل كان منها أم من مكان آخر؟ كونكم الآن ضغطتم على المفتاح فانطفأ المصباح وصارت عينكم فجأة هكذا وشعرتم بالظلمة، هذا المصباح الآن لا يزال في مكانه لم يتحرّك أبدًا، لم ينقص منه شيء حتّى ميليمتر واحد، فما هو التغيير الذي وقع هنا والذي أدّى أن تلمسوا بوجدانكم ورأي أعينكم حقيقتين مختلفتين؟ فتلك الحالة الفعليّة تحوّلت إلى حالة فعليّة أخرى لا استعداديّة كلاّ، الاستعداديّة بمعنى كونها منتظرة، كلاّ، فتلك الحقيقة الخارجيّة التي تشاهدونها وذلك النور الذي شاهدتموه تبدّل إلى ظلمة، فما الذي سبّب ذلك؟! إنّ ضغطكم على مفتاح الكهرباء قطع التيّار الكهربائي، وانقطاعه أدّى إلى حالة جديدة لهذه المصابيح، فهل هذه الحالة الجديدة هي لهذه المصابيح أم لغيرها؟ هي لها، هي بنفسها مظلمة، هي بنفسها لا نور لها، هي نفسها لا حرارة لها، نفسها لا فائدة منها، فائدتها الوحيدة هي أنّك تضرب بها رأسًا ما فتشجّه، ولا فائدة أخرى لها، تجرح رجلك فيسيل الدم ولا فائدة أخرى لها، فلا نور لها ولا حرارة ولا طاقة ولا فائدة، لا يمكنك أن تستفيد منها، أن تقرأ كتابًا، أن تكتب، أن تتحدّث مع غيرك، أن تراه، لا شيء لا شيء لا شيء، ظلمة، نقص، خلأ، فقدان للنور، تحمل جميع هذه النقاط السالبة ونقاط النقص على هذا المصباح المسكين، لقد باعني متجر الإلكترونيّات مصباحًا مغشوشًا، لقد غشّني، لقد وضع بدلاً من «صُنع في ألمانيا» وبدلاً من شركة «فيليبس» الألمانيّة، وضع «صنع في الصين»، وأعطاني من مصنوعات هذه الصناعة الصينيّة التي هي تقلّد سائر الصناعات، يا إلهي افعل به كذا وكذا، وتبدأ بالدعاء عليه، حتّى إذا وصلت إليه إن لم تضربه على وجهه، فستسبّ له سبّتين على الأقلّ ثمّ ترجع! فهذا ليس جيّدًا لا بدّ أن تبدّله! هذا إذا بدّله ولم يقل: هكذا أعطوني إيّاه، وأنا أعطيك إيّاه هكذا أيضًا!
لماذا كلّ ذلك؟! لماذا غضبت؟ فلا داعي للغضب! ولكن لأنّه لا نور فيه فلا فائدة منه. لماذا غضبت إلى هذا الحدّ؟! لأنّ كلّ ذلك هو خلاف توقّعك، كلّ ذلك بسبب الحالة الفعليّة، فلاحظوا الحالة الفعليّة أيّها الرفقاء، الحالة الفعليّة الذاتيّة، وهناك ثلاثة تعابير مترادفة: الوضع أو الواقع أو الحالة، فتلك الحالة، حالة ذلك الشيء، الحالة الفعليّة لا المنتظرة، لا التي هي في حال انتظار من قبلنا، الحالة التي هي له الآن والتي لا يخرج منها، لا يخرج منها بنفسه ولو بقي مائة سنة! فالشيء الذي تراه مظلمًا في نظرك لو بقي ألف سنة فإنّه يقول: أنا هكذا شئت أم أبيت! ومهما قلت له: لقد بذلتُ هذا المبلغ من المال ثمنًا لك!
يقول: حسنًا بذلت هذا المبلغ فليكن ولكن لا بدّ أن توصل التيّار الكهربائيّ إليّ، وما دمت لا توصل إليّ التيّار فأنا هكذا، هذه الحالة هي الحالة الفعليّة، الحالة الذاتيّة، الحقيقة الذاتيّة التي هي في هذا الآن. وهذه الحقيقة الذاتيّة هي الجهل والظلمة والنقصان والبرودة وانعدام الخواصّ والفوائد.
فجأة يقول المصباح: يا عزيزي بدلاً من أن تؤذي نفسك إلى هذا الحدّ، وتنازع نفسك إلى هذا الحدّ، قم وارفع يدك واضغط على هذا المفتاح، وسترى إلى أيّة حالة سأرجع، لا أنا بنفسي، بل يرجعونني.
فأقول: حسنًا، فأضغط على المفتاح وفجأة يصبح هذا مصباحًا يضيء كلّ هذا المكان.
فمن أين جاء هذا النور؟ إنّه من الكهرباء، من ذلك المحوّل، من ذلك المولّد، المولّد المائيّ، المولدّ البخاريّ، من ذلك المولّد، يدور ويوجد حالة الكتريكيّة، يخرج قويًّا حتّى يصل إلى هنا بقوّة مائتين وعشرين فولتًا، أمّا في البداية فقد كان ستّة آلاف فولت، وهو يضعف شيئًا فشيئًا، حتّى يصل إلى هنا ويصبح مائتين وعشرين فولتًا، تضغط على المفتاح فيضيء هذا المصباح، ثمّ تقطع التيّار فينطفئ، وتضغط من جديد فيضيء.
وهنا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ لدينا حالتين فعليّتين لهذا المصباح الكهربائيّ:
الحالة الأولى: والتي هي الحالة الذاتيّة، وهي عبارة عن الظلمة والجهل وانعدام الفائدة والآثار والحرارة وكلّ شي يبدأ بكلمة انعدام.
الحالة الثانية: النور، البهاء والصفاء والضياء والأثر والحرارة وكلّ ما يوجب البركة والتكامل والنموّ والخيرات والفيوضات.
كيف نطبّق قاعدة الحالة الفعليّة الذاتية والحالة الفعليّة الغيريّة على أنفسنا نحن؟
تعالوا لنطبّق هذه القاعدة على وجودنا نحن. فلا شأن لنا بالإمام السجّاد، أصلاً لا يهمّنا أمر الإمام السجّاد، يهمّنا أمر أنفسنا، فكيف هو وضعنا وحالتنا بدون عناية الله وبدون ذلك اللطف والفيض من ناحية الله؟ فلو انقطع لطفه وعنايته عنّا ساعة واحدة، فانظروا هل نصبح الشمر بن ذي الجوشن أم لا؟! ساعة واحدة، ألم تكن إنسانًا؟! بلى! أليس لديك عقل؟! أليس لديك دماغ؟! أليس لديك شرف؟! أليس لديك حياء؟! أليس لديك إنسانيّة؟! فماذا جرى حتّى صرت هكذا؟! ماذا جرى حتّى صرت تمضي لقتال ابن رسول الله؟! أنت يا من تسمّي نفسك إنسانًا لماذا تصنع ذلك؟!
ـ لقد أمرني ابن زياد، لقد أمرني الحاكم وأنا ماضٍ.
ـ إذا أمر الحاكم فأين ذهب عقلك؟ أين ذهب دينك؟! أين ذهب إحساسك؟! أين ذهبت إنسانيّتك؟ ألأنّ ابن زياد قد أمر فعليك أن تطيع؟! ربّما أمرك ابن زياد أن ترمي بنفسك من أعلى السطح فهل تفعل؟! إن كنت تفعل فأنت مجنون. ولكنّك لا تفعل وتقول له: كلا يا أمير فماذا فعلت أنا؟! وأيّة مخالفة خالفت؟!
فماذا حصل حتّى إذا وصل الأمر إلى قتلك لنفسك تفرّ وتواجه ولو كانت لك قوّة لشهرت السيف في وجهه وهاجمته، ولكن عندما يأمرك بقتل ابن النبيّ تقول: المأمور معذور؟! فهذه لتلك الحالة التي تحدّثنا عنها، هنا تقول المأمور معذور، فأيّ ذنب ارتكب ابن النبيّ حتّى مضيت إلى كربلاء؟ أيّ ذنب ارتكب؟! أيّ ذنب؟! أيّ ذنب ارتكب حتّى استحقّ القتل وقبْضَ روحِه، أيّ ذنب ارتكب طفله؟ وأيّ ذنب ارتكب أخوه؟ حسنًا أخبرونا، أخبرونا بذلك الذنب الذي ارتكبوه، أيّ ذنب ارتكب؟ وأيّ ذنب ارتكب أصحابه؟ وأيّ ذنب ارتكب نساؤه وأطفاله حتّى جعلتموهم في تلك الحالة؟! ائتوا بالزناجير وقيّدوهم وقيّدوا يدي الإمام السجّاد ورجليه! ماذا كانوا قد ارتكبوا؟!
ألم يكن لك عقل؟! بلى كان لك عقل حينها، ولو وضعوا أمامك العلف لما أكلت منه كالحمار، ولذهبت وأكلت الكباب والأرزّ، فإذن من المعلوم أنّ لديك عقلاً، فأنت لا تأكل العلف! تميّز، كنت تدرك حينها، كنت تدرك الحقّ والباطل، فلم تكن حالتك أنّك تدرك ثمّ بعد ذلك يغطّي ستار على فهمك، كلاّ ولم تكن حينها خشبًا ولم تكن حديدًا، بل كنت إنسانًا، ولكن أيّ إنسان كنت حتّى قطع عنك فيض الله للحظة واحدة؟! بسببك أنت كان ذلك لا أنّه هو يريد ذلك، بسبب عملك أنت، لقد أوضح لك مرارًا وبيّن العلامة لكي تعلم أين الطريق وأين الهاوية، لقد أغمضت عينك مرارًا وأوّلت وبرّرت وهيّأت الظروف للوصول إلى مرتبة أعلى جناية، فسارق البيضة إلى أين يصل؟ شيئًا فشيئًا يسرق جملاً، شيئًا فشيئًا، فسارق الجمل لم يولد هكذا، كلاّ بل كان سارق بيض في البداية بهدوء، وكان منزعجًا من ذلك، ثمّ أخذ بتبرير عمله: لا إشكال فيه! وكذا وكذا. ثمّ صار يسرق دجاجة، وشيئًا فشيئًا يصل إلى هناك. ونحن هكذا أيضًا، يخاطبنا الله مرارًا بالآيات ويقول لنا: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ}۱ أريهم ذاتي وخصائصي. وما يجري في هذه الدنيا أريكم أنّه في يدي وأنّي أنا مسبّب الأسباب، وأصلُ جميع الأسباب يرجع إليّ، وتنتهي جميع الطرق إليّ. {وَ فِي أَنْفُسِهِمْ} تدخل في أجواء خاصّة فتحصل لديك حالة روحيّة، وتدخل في أجواء أخرى فتحصل لديك حالة انقباض، تعمل خيرًا فترتفع، وتعمل سوءًا فتهبط! لماذا كلّ ذلك؟! لنبيّن لك أنّ كلّ ما يصلك من خير فهو منّا، لا تخدع نفسك، لا تغشّ نفسك، ولا تغترّ بحالتك، فأنت ذلك الذي لو لم تصلك عنايتي لابتليت بالخطأ وبكلّ هذه الذنوب، وبكلّ هذه الجنايات، لقد كنتَ في السابق لا تحبّ أن تدوس على نملة، والآن تدوس وتكثر من القتل، وتلقي بالناس على الأرض وتصنع منهم تلاًّ ولا تشعر بأيّ أذى، وتبرّر كلّ ذلك أيضًا! لماذا؟ لماذا أضعت نفسك؟ لأنّك نسيتنا، نسيت أمرنا، فوصلت إلى حالتك الذاتيّة، فعليّتك الذاتيّة، فما هي تلك الفعليّة الذاتيّة؟
الجاني، الغاصب، القاتل، السارق، عديم الحياء، عديم الأدب، ومهما قلت لتلك الحالة الذاتيّة للإنسان دون الالتفات إلى ذلك الجانب، ودون الالتفات إلى الولاية، ودون الالتفات إلى ذلك فإنّه صادق.
أقربيّة الملتزم بمدركاته الفطريّة ـ ولو كان يهوديًّا أو ملحدًا ـ إلى عليّ من الشيعيّ غير الملتزم بها
لا تظنّ أنّ هذه المسألة هي فقط للمسلمين وأمثالهم، كلاّ فالمسيحيّ الذي يسير على أساس الحالة الفعليّة الصالحة هو متّصل، وقد أوضحت لكم كيف أنّ المسيحيّين قريبون من أمير المؤمنين ونحن بعيدون، وكيف أنّ اليهوديّ قريب من الولاية ونحن بعيدون، وكيف أنّ من لا خبر له عن الله ولكنّه يعمل على أساس فطرته لا يمكنه أن يقبل بالباطل، فمن كان يدرك الحقّ حسب حالته الفعليّة ويتقدّم فهو أقرب إلى الولاية من ذلك المتشيّع لأمير المؤمنين والعالم الذي يعدّ نفسه متّبعًا له ولكنّه يدوس على الحقّ، فهذا يؤخذ برأسه إلى وسط جهنّم، ويجعل في قعر جهنّم إلى جوار ذينك الاثنين، لأنّه قام بذلك عنادًا، وذلك المسيحيّ واليهوديّ، وذلك الذي لا خبر له عن الله وسار على أساس فطرته يأتي مع المستضعفين فيقول له أمير المؤمنين يوم القيامة: تعال إلى جواري، فنحن ننظر إلى الباطن ولا ننظر إلى الظاهر.
هذه هي الولاية، ولو كانت غير ذلك فنحن لا نقبل بها، ولن تكون حينها ولاية، ستكون عين هذه الأعمال التي تتحقّق في هذه الدنيا، وإنّما كان أمير المؤمنين عدلاً محضًا لأنّه لا يميّز بين المسلم والشيعيّ والسنيّ واليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ، عليّ لا يعي إلاّ الباطن الصافي والعمل الصالح! يدرك معنى عدم الكذب، يدرك معنى الصداقة، يدرك معنى عدم الخداع، يدرك معنى الصراحة والاستقامة، وهذه هي المعايير التي كانت لدى أمير المؤمنين، وعلى أساسها كان يميّز بين الرفيق وغير الرفيق، فمن هو رفيقي؟ رفيقي هو من كان يمتلك هذه، وغير الرفيق عندي هو من لا يمتلكها، فتفضّل الآن.
ـ يا عليّ لقد كنّا في الدنيا ندعو إليك!
ـ اغرب عن وجهي! ابتعد! أنا على علم بما كان هناك، اذهب إلى ذلك المكان وكن مع هؤلاء الذين وقفوا في وجهي بعد ارتحال النبيّ، اذهب فستكون محشورًا معهم. لماذا؟ لأنّك أنت وهم لديكم الطريق نفسه، فتفضّل، وسر في هذا الطريق.
ماذا يصنع مزارعو القمح وأهل الزراعة عندما يريدون أن يفصلوا القمح عن التبن؟ ماذا كانوا يفعلون سابقًا والآن ماذا يفعلون أيضًا؟ عندما يجعلون كومة من القمح يأتون بآلة تحتوي بعض الأسنان وعندما يكون هناك قليل من الهواء يذرّون القمح والتبن في الهواء فيطير التبن مع الهواء وتسقط حبّات القمح لأنّها ثقيلة، كما أنّ الهواء يأخذ بعض حبّات القمح الخفيفة فيعيدونها إلى مكانها، ويكرّرون ذلك حتّى يصبح القمح كلّه في مكان واحد.
وفي يوم القيامة هكذا هو الحال، يقول أمير المؤمنين: تعالوا! من كان في هذه الدنيا على أساس معاييري فليأت وليقف إلى جانبي! سواء كنتَ مسلمًا فتعالَ وقفْ، أو كنت مسيحيًّا فتعال وقف، أو كنت يهوديًّا فتعال وقف، وإن كنت لا تعتقد بالله فتعال وقف، تعال وقف، هذا هو عدل عليّ، وهذا هو أمير المؤمنين، أمّا أنتم الذين كنتم معي في هذه الدنيا ولكنّكم خادعتم الناس وغششتموهم ولكن لا يمكنكم أن تخادعوا أمير المؤمنين! فقوموا إلى تلك الناحية، اذهبوا وقفوا في صفّ الذين وقفوا في وجهي بعد النبيّ، اذهبوا إلى هناك مهما صرختم اذهبوا وشأنكم.
ويوم القيامة {نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}۱ نقول: {هل امتلأت}؟ فتقول: أنا أمتلئ؟! أرسلت إليّ إنسانين ونصف وتقول {هل امتلأتِ} يا إلهي، اسكب المزيد، الآن بدأت آنس للتوّ، لم أشتعل بعد، لا زلت دافئة فقط. {هل امتلأت وتقول هل من مزيد}، لا قدّر الله أن يفعل ذلك بنا، ولكن نذهب ونشاهد هؤلاء الذين كنّا نظنّهم في هذه الدنيا على شيء هم الذي يذهبون إليها ويمدّونها بقليل من الحرارة، يمدّون جهنّم بالحرارة والاشتعال والأنس، فإذا ألقي فيها هؤلاء وسترون من سيسقط فيها! سترون من هم الذين سيسقطون فيها! نعم هنا الكثير من المسائل، حقًّا هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يوضّحها أكثر من ذلك، حتّى تتّضح الأمور هناك.
تطبيق قاعدة الفعليّة الذاتية والغيريّة على الإمام السجّاد عليه السلام
يقول الإمام السجّاد عليه السلام… ـ وهذا المثال الذي ضربته سيتّضح الآن ـ هذه الإمامة التي لدى الإمام السجّاد وهذه الولاية التي لديه هل جاء بها من نفسه أم من الله؟! بماذا يختلف الإمام السجّاد عن سائر الناس لو غضضنا النظر عن لطف اله وعناية الله ونظر الله وكرامة الله واهتمام الله؟! هل تختلف خلايا بدنه؟! وهل كريات دمه الحمراء هي أكثر؟! هل هي أكثر من خمسة ملايين؟! افترض أنّها ستّة ملايين، سبعة ملايين، فهل تختلف البلاسما لديه؟ هل الكريات البيضاء تختلف؟! فما هي حقيقة الأمر إذن؟! هل يختلف وزن دماغه عن الآخرين؟! كلاّ وربّما كان من النحيفين أيضًا، هل كان الأئمّة مختلفين؟! هل كانوا مختلفين من حيث الوزن ومن حيث الشكل؟! فبماذا يختلف الإمام السجّاد؟ ماذا كانت حقيقة الأمر؟! إنّها عناية الله ولطف الله.
إنّه انتساب الولاية إلى ذاك الجانب هو الذي يجعل الإمام السجّاد الإمام السجّاد، فالعناية هي منه لتجعل الولاية تتجلّى في هذا المظهر، لكي يتمكّن من القيام بكافّة الاعمال، فعندما اقتلع أمير المؤمنين عليه السلام باب خيبر، ذلك الباب الذي عجزت عن هزّه أكفّ أربع وأربع قالوا له: ماذا صنعت يا عليّ؟ فقال: «مَا قَلَعْتُ بَابَ خَیبَرَ بِقُوَّةٍ جَسَدَانِیةٍ»۱ وحقًّا قال، وعندما یشير الإمام إلى الشمس فيردّها لكي لا تكون صلاته قضاء فبأيّة قدرة يقوم أمير المؤمنين بذلك؟! بقوّة البشر؟ فلماذا مهما أشرنا إليها نحن لا تتوقّف، بل تسخر منّا وتنظر إلينا هكذا وتقول: أجعلت نفسك في مكان عليّ، ما شاء الله ما شاء الله، أنت لا يمكنك أن تحرّك إصبعك أتريد أن تردّ الشمس؟! أنت نفسك عاجز ومع ذلك تجعل نفسك مكان عليّ؟! تفضّل ردّ الشمس، شقّ القمر! لقد جاء النبيّ وبإشارة من إصبعه شقّه، فهل فعل النبيّ ذلك بواسطة هذا البدن وبهذا المقام الماديّ للبدن وبالفكر والفهم البشريين المتعارفين؟! فلماذا نحن لا نفعل ذلك؟! لماذا نحن لا نفعل ذلك؟! فلنجمع الناس ونتشبّه بالنبيّ ونشير إلى القمر، أيّها القمر انشقّ نصفين، وليذهب أحدهما يطوف حول الكعبة أو حول طهران، بينما يقف النصف الآخر في مكانه، ثمّ تحدث تلك الأمور التي حدثت! إنّه يقف وينظر إلينا مستغربًا ساخرًا… لقد جاء الكثيرون وجعلوا أنفسهم مكان أمير المؤمنين. لقد جاء سبط ابن الجوزي وقال: سلوني قبل أن تفقدوني وجعل نفسه مكان أمير المؤمنين فقالت له امرأة هل كانت تلك النملة التي قالت لسليمان: {يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ}٢ هل كانت أنثى؟ فبقي واقفًا هكذا متحيّرًا أن عن ماذا تتكلّمين أنت؟!
ـ أسألك عن ذكورة وأنوثة نملة فلا يمكن أن تجيب، أمّا عليّ الذي كان يقول: سلوني قبل أن تفقدوني فقد كان يجيب إلى يوم القيامة، ثمّ بعد ذلك تجعل نفسك يا سبط بن الجوزيّ مكان عليّ؟! أتقيس علمك إلى علم عليّ؟! أنت لا علم لك بذكورة أو أنوثة النملة التي تحدّثت مع سليمان فماذا تقول؟! أين ذهبت بنفسك؟ لماذا نسيت واقعك؟! لماذا نسيت نفسك؟! لماذا علينا أن ننسى حالتنا الحقيقيّة؟! لماذا؟ وبأيّ خسارة نصاب؟!
فمن الذي جعل الإمام السجّاد إمامًا؟ من الذي أوصل الإمام السجّاد إلى هذه الولاية؟ من الذي أوصل الإمام السجّاد إلى هذه المرتبة من الإمامة؟ إنّه الله.
حسنًا فالإمام السجّاد يقول الآن: لديّ حالتان فعليّتان ـ وتذكّروا مثال المصباح ـ لديّ حالتان فعليّتان:
إحدهما الحالة الفعليّة التي ترونها، حيث أنا إمام، وليّ، لديّ ولاية، ومهما سألتهم فإنّي أجيبكم عنه إلى يوم القيامة، وأيّ عمل طلبتم أصنعه لكم، أشقّ القمر نصفين، أردّ الشمس، تلك الأعمال التي كان أبي يصنعها وأجدادي يصنعونها وهي بالنسبة إليّ كشربة الماء، فلا فرق فيها في النهاية، فالإمام إمام في النهاية، وليّ الله يفعل ذلك فكيف بالإمام! كلّ ذلك أنا أقوم به، فهذه حالة فعليّة! وعلى أساس هذه الحالة الفعليّة علينا نحن أن نتّبع الإمام السجّاد، ونصغي إلى ما يقوله، وعلى أساس هذه الحالة وهذا الواقع علينا أن نجعل الإمام السجّاد والأئمّة قدوة لا على أساس الحالات الأخرى التي نحن نشبههم فيها، فهذه لا تستحقّ أن تجعل قدوة، وعلى أساس هذه الحالة يصبح كلام الإمام عليه السلام عصمة مطلقة، وحجيّة مطلقة، ويصبح حجّة وينال العصمة، هو حجّة إلى يوم القيامة، وعلى أساس هذه الحالة هو حجّة إلى يوم القيامة، ولو تبدّلت هذه الحالة فإنّ الإمام نفسه يصبح كغيره، فماذا سوى هذه الحالة؟ لا كلامه حجّة ولا يمكن الاعتماد عليه بعد ذلك، ولا يمكن جعله أسوة ولا يمكن قبول قوله، لماذا؟ لأنّه مثل سائر الناس، بماذا يختلف عنهم؟!
والآن في مقام المناجاة مع الله وعندما يكون الإمام السجّاد في حالة مناجاة مع الله فأيّة حالة وواقع عليه أن يطرح مع الله، هل يطرح واقع ولايته؟ سيقول له الله: حسنًا فهذا ما أخذته منّي أنا، وأنا من أعطاك إيّاه، فواقع الإمامة هذا أنا من جعلك فيه إمامًا، هل كان بإمكانك أن تكون أنت بنفسك؟! واقع شقّ القمر وجعله نصفين هل يطرحها النبيّ بين يدي الله؟ سقول الله له: لقد كان هذا عملي أنا، إنّه قدرتي أنا، فماذا تملك أنت لتأتي به إلى الميدان؟! ماذا تملك لتعرض في سوق العرض والطلب وتقول: إلهي أنا أملك هذا؟ فماذا تملك أنت؟ صفر، الذنب، عندما يكون الإنسان بعيدًا عن الله ويكون هو وحده فما هو واقعه الفعليّ؟ إنّه يزيد وإنّه الشمر، إنّه ذاك القسيّ، إنّه ذاك الجاني، إنّه الذي يرى البريء فيقتله ويلقيه على الأرض، لأنّ انقطع، لأنّ الارتباط قد انقطع.
والآن الإمام السجّاد يقول: إذا نظرت يا مولاي إلى نفسي فأنا كجميع الناس، أنا فاسق، أنا فاجر، إنّه ينظر إلى نفسه، وحقًّا عندما ينظر الإمام السجّاد إلى نفسه يرى أنّه فاعل لجميع الذنوب وفاعل لجميع المعاصي وفاعل لجميع أنواع التمرّد، فالإمام ينظر إلى نفسه، ولديه هذا الواقع، وليس هناك أحد في هذه الدنيا قد أدرك هذا الواقع بمستوى الإمام السجّاد. ولذلك يقول: فزعت، فالإمام هو الذي يفهم هذا. لماذا نحن لا نقول: فزعت؟ لماذا نحن نمزح؟ لأنّنا لم نصل إلى مثل هذا الوضع، لأنّنا لم نصل إلى مثل هذه الحالة الفعليّة، لأنّنا لم نصل إلى مثل هذا الواقع، ولكنّ الإمام السجّاد الذي كانت كلتا الحالتين الفعليّتين ملموستين عنده وحقيقيّتين عنده فإنّه هو يتحدّث عن الفزع، وهو يشعر بالفزع والجزع، ونحن ليس لدينا هكذا إحساس.
أصحاب التيجان وأصحاب التراب
ينقل المرحوم العلاّمة عن قول جناب الخواجة عبد الله الأنصاري في مناجاته: إلهي إذا نظرت إليك… ـ يعني نظرت إلى ذلك التيّار الكهربائي ـ إلهي إذا نظرت إليك فأنا من أصحاب التيجان والتاج على رأسي، فالتاج لمن؟ التاج لله، النور لمن؟ للكهرباء، النور لمولّد الطاقة، النور لذلك المولّد، النور هو لذلك النظام والتجهيزات التي هناك فالنور هو من هناك، حسنًا فهذا جانب، وإذا نظرت إلى نفسي فأنا من أهل التراب والتراب على رأسي، عندما أنظر إلى نفسي إلى ظلمتي جهلي عنادي استكباري نفسي أنانيّتي فرعونيّتي نمروديّتي وما شئت فعبّر عن ذلك، فهذه هي الأمور التي تختصّ بي.
الحالتان الفعليّتان عند السيّد الحدّاد
والله يقيّض للإنسان أن يدرك هذه الحالة بشكل كامل، وهذه النقطة هي نقطة الإمام السجّاد عليه السلام، وهي ما کان المرحوم العلاّمة ينقله عن السيّد الحدّاد رحمه الله أنّه كان يقول: عندما أنظر إلى نفسي أرى أنّي أدنى من جميع الخلائق الذين خلقهم الله، أدنى منهم، والسيّد الحدّاد رحمه الله لم يكن يكذب ولم يكن يمازح الناس، بل على العكس كان صريحًا جدًّا، كان إنسانًا صريحًا، رغم مراعاته لكثير من الملاحظات في بيان المسائل كان صريحًا ولم يكن يمازح، فلماذا يمازح؟! هل يريد أن يكسر نفسه، هل هذا المقام مقام تواضع، إنّه يبيّن حقيقة التوحيد، وأنّ علينا أن نصل إلى هذا المقام. عندما أنظر إلى نفسي أرى أنّ الله لم يخلق على وجه الأرض من هو أشدّ ظلمة منّي أنا السيّد هاشم، فهذا كلام، ولكن إذا ما تغيّرت الحالة وصار في حالة أخرى فإنّه يقول: أربعة آلاف من معاجز الأنبياء لا تبلغ كلامّا واحدًا من الكلام الذي نقوله! عجبًا فماذا حصل؟! أربعة آلاف من معاجز الأنبياء لا تبلغ كلامًا واحدًا؟! فما حقيقة الأمر؟!
فمتى تصلّي إذن؟!
وسأنقل لكم واحدًا من ذلك، وقد ذكرت ذلك للرفقاء، فنحن نصلّي بأشكال مختلفة من الصلاة، ولو بذلنا قصارى جهدنا ولو ذهبتم الآن إلى من ترونه الأعلم والأعرف والأكثر وعيًا وبصيرة في هذا البلد بمسائل الدين وقلتم له نحن نريد أن نرفع التخيّلات من الصلاة، نريد أن يكون لدينا حضور قلب أكثر في الصلاة، فانظروا ما هي الطريقة التي يقدّمها لكم، فاذهبوا إليهم، هناك الكثيرون من الناس الأعاظم وأهل الصلاح والتديّن والإيمان وجميعهم لهم مراتبهم المحترمة، وأقدام جميع هؤلاء هي على رؤوسنا، وجميع هؤلاء هم في مقاماتهم الخاصّة التي لا يمكن لأحد أن ينتقص منها، ففي النهاية لكلّ إنسان مرتبته الخاصّة، ولا بدّ أن تكون مكانة الأفراد محدّدة، وكلّ إنسان يجعل في مكانته الخاصّة، ولكنّي أريد أن أحدّد المقدار والمرتبة، فلنقم ولنذهب إليهم ونسألهم وننظر ماذا يقولون؟ فأقصى ما يقوله هؤلاء هل هو غير ما قاله الشيخ مطهّري للسيّد الحدّاد؟ فقد كان يبيّن لنا بنفسه، فعندما رجع من كربلاء ذهبت برفقة المرحوم الوالد إلى منزله وزرناه، فكان مبتهجًا جدًّا، وكان من الواضح أنّ رحلته كانت جيّدة جدًّا ولا تنسى ولا يزال طعمها تحت لسانه، وكان واضحًا من وجناته وملامحه أنّ رحلته كانت لا تنسى وكانت موفّقة جدًّا، رحلة جيّدة ومميّزة، وعندما سأله المرحوم العلاّمة: ما هي الذكرى التي لا تزال تحملها عن هذه الرحلة؟ كان تعبيره في الجواب هكذا: الذكرى الوحيدة التي بقيت لي من رحلتي هذه هي لقائي بحضرة السيّد الحدّاد. والشيخ مطهّري لم يكن إنسانًا كسائر الناس، لم يكن إنسانًا جاهلاً، كان إنسانًا عالمًا فاضلاً تقيًّا حرًّا صادقًا، فقد كان رجلاً صادقًا، كان إنسانًا صاحب ألم، وكان يبحث عن الدواء، فقد كان إنسانًا من هذا النوع، والحال أنّه التقى بالجميع هناك، كان قد التقى بالجميع وأنتم تعلمون، وقد أخبرتكم، فما هي حقيقة الأمر إذن؟! إنّه يدرك، فقد كان من أهل السرّ ويميّز. ثمّ قال: لقد سألني السيّد الحدّاد ماذا تصنع في الصلاة؟
فقلت: أدفع الخواطر.
حسنًا فهذا أفضل عمل وأفضل جواب يمكن أن يجيب به إنسان عالم تقيّ ومن أهل الله على هكذا سؤال، وأنّي أدفع الخواطر حتّى تخرج من ذهني الخواطر الشيطانيّة والخواطر اليوميّة وخواطر العبث، فتستقرّ تلك المعاني كمعنى {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} ومعنى {اهدنا الصراط المستقيم} ببساطتها وخلوصها في النفس. لقد أجاب بجواب جيّد جدًّا، جواب جيّد جدًّا، واضح جدًّا، ولكن انظروا ماذا يقول له؟ وعندها انظروا هل تصل معاجز الأنبياء إلى هذا؟ فمتى تصلّي إذن؟! فمتى تصلّي إذن؟! وأنا لا يمكنني أن أشرح هذا المغزى وأبيّن عمق هذا الكلام، لأنّي عندما أفكّر في هذا الأمر أتوقّف قليلاً. فما معنى ذلك؟ معناه أنّه يريد أن يقول: أنت إذ تكون في حال صراع وجدال مع الخواطر فأين الله في وسط ذلك؟! فمع من أنت تتكلّم إذن؟! أين هو الله في ظلّ هذا إذن؟ أين هو الله؟! أي هو يريد بهذه العبارة أن يمسك به ويجرّه ويلقي به في عالم وفي واد يجعله يقول فيه أن ما هو الخطور أصلاً؟! يجب أن لا يخطر في ذهنك خطور، يجب أن لا ترى نفسك حتّى تدفع الخواطر عنها، فانظروا أين يضع يده من الأمر، يجب أن لا تفترض نفسك موجودة أصلاً أثناء الصلاة وأن تقول: هناك الله وهنا العبد، وأريد أن أتحدّث مع الله، تمامًا كما لو التقى الإنسان بواحد من العظماء، فعندما يخلّي الإنسان ذهنه تأتي أمور أخرى، وهو يدفعها من جديد حتّى يسمع بشكل جيّد كلّ ما يقوله هذا الرجل العظيم، وهذا يتحقّق بالنسبة إلى الصلاة بشكل أقوى وأشدّ وأحدّ وأظرف وأعمق وأدقّ وأرقّ.
يريد السيّد هاشم أن يقول: إذا أردت أن تصنع ذلك فستبقى هكذا إلى آخر عمرك، فارتفع وارتفع واذهب إلى حيث إذا قلت الله أكبر لا يبقى إلا الله، عليك أن لا ترى نفسك أصلاً. فهل شقّ النبيّ للقمر يمكن أن يؤثّر في الإنسان هذا الأثر الذي أثّره كلام السيّد الحدّاد هذا؟! ماذا ندرك نحن من شقّ القمر؟ حسنًا فقد جاء النبيّ وشقّ القمر، من الواضح أنّ هذا الأمر لا يرتبط بنا نحن، فهناك نبيّ ولديه قدرة معيّنة وقوّة معيّنة بحيث إنّه قسم القمر إلى نصفين، فما هي النتيجة التي ترجع إلينا من مشاهدة شقّ النبيّ للقمر؟! ألم يرها المشركون؟! فماذا استفادوا؟! وهؤلاء الذين رأوا أنّ أمير المؤمنين أشار إلى الشمس… فهذه هي المعجزة في النهاية، وماذا هناك أرفع منها؟! هؤلاء الذين رأوا أنّ أمير المؤمنين أوقف الشمس وأرجعها وأوقفها هناك ماذا استفادوا؟! هل غير أنّهم رأوا أنّ عليًّا هو إنسان لديه قوّة إلهيّة يمكنها أن توقف الشمس؟! فماذا أضيف إليك أنت؟! وكم تقدّمت بسبب ذلك؟! وكم تغيّرت؟ وماذا حصل لديك من تغيير؟!
وهكذا الآن آتي وأبدّل هذا الإناء الموجود هنا إلى ذهب، فانظروا هذا الإناء ما هو؟ إنّه من الحديد والاستانلس وأمثال ذلك ويتحوّل إلى ذهب، وليس هناك خدع بصريّة وأمثال ذلك، تأخذونه وتختبرونه فإذا قالوا إنّه ذهب فماذا يحصل؟! لقد حوّل السيّد وهو على المنبر هذا الإبريق إلى ذهب، فكم أضيف إلى معرفتكم؟! هذا ما حصل فحسب، كلّ ما حصل أنّي قمت بهذا وأنّ لديّ قدرة كهذه مثلاً، أو يأتي إنسان ويصنع ذلك، يأتي إنسان ويحيي ميتًا، لقد أشار السيّد القاضي أمام الشيخ محمد تقي الآملي أثناء ذهابهما إلى مسجد الكوفة إلى الحيّة التي تمشي فقال لها فجأة: مت بإذن الله. فماتت وانتهى الأمر. ثمّ عندما أراد أن يذهب إلى مسجد الكوفة قال: فلأذهب وأنظر ألم يكن الأمر خدعة بصريّة؟! فرأى أنّها كالخشبة يابسة، فلمّا رجع قال له: حسنًا هل رأيت أنّها ماتت؟! هل اختبرتها؟ فهذان أمران. حسنًا فكم أضيف إليه حينها؟لم يضف إليه شيء، فقط رأى شيئًا، نعم يشعر أنّ هذا الرجل رجل عظيم، لديه خوارق العادات، وإن كان لا بدّ أن يسمع الإنسان من أحد شيئًا فعليه أن يسمع من هذا وبشرطها وشروطها، ولكن هو ماذا ازداد؟!.
ولكنّ كلام السيّد الحدّاد هذا، كلام هذا العظيم أيّ تغيير يمكن أن يحقّق في النفس؟ هذا هو العمل المهمّ، لذلك يقول إنّ أربعة آلاف من المعاجز لا ترقى إلى كلام واحد لا منّي أنا، بل من أيّ وليّ لله، فهو لا يتكلّم عن نفسه. فهذا الكلام صحيح، وكذلك ذاك الكلام الذي يقول فيه: عندما أنظر إلى نفسي أرى أنّ الله لم يخلق أكثر ظلمة منّي على وجه الأرض. فهذا الكلام أيضًا صحيح، كلاهما صحيح، فعليّتان معًا ممتزجتان ومتقابلتان.
نتيجة الكلام
حسنًا، أعتقد أنّا أنهينا البحث حول كلام الإمام السجّاد إن شاء الله. نعم بقي هناك أمر آخر يرتبط به، وهذا يتقبّله الرفقاء بأنفسهم ويتحدّثون عنه، وإنّما أعطيتهم أنا طرف الخيط لكي يلتفتوا إلى هذه النقطة المبهمة، وكلام الإمام السجّاد عندما قال: عندما أنظر إلى نفسي فإنّه يرجع إلى الفعليّة الذاتيّة، أي إنّ ذاتي هي هذه، مذنب يرشو يرتكب كلّ معصية، فهذا على أساس واقعي الذاتي، والإمام السجّاد كان يدرك هذا الواقع الذاتيّ، أمير المؤمنين كان يدركه، سيّد الشهداء كان يدركه، النبيّ كان يدركه، فالنبيّ رغم كلّ عظمته وأبّهته كان يقول: «إِلَهِی وَإِلَهَ آبَائِی لَا تَكِلْنِی إِلَی نَفْسِی طَرْفَةَ عَینٍ أَبَداً»۱ إنّها عين عبارة الإمام السجّاد، ألست أنا رسول الله إنسانًا، أليس لديّ عقل؟ أليس لديّ وجدان؟! كلاّ، لا أملك منّي أنا رسول الله، ولو قطعت عنّي يد عنايتك أغدو يزيد بن معاوية، أغدو عين يزيد بن معاوية.
لذلك فإنّ النبيّ وصل إلى هذه الحقيقة أكثر من الجميع وبدنه يرتجف، ولذلك أمير المؤمنين في مسجد الكوفة ينوح ويقول: «مَولايَ يا مَولايَ أنتَ الغَنِيُّ وأنَا الفَقيرُ» ولم يكن يمثّل، ولم يكن يمارس الفنّ، فهو ليس ممثّلاً، فأمير المؤمنين لا يلهو في مسجد الكوفة، إنّه يقول الحقّ، فمن لا يقول الحقّ لا يمكن أن يجري الدمع من عينه، هذا عمل الممثّلين، يبكون بطريقة يجعلونك تبكي لأجلهم. إنّه كذب يا عزيزي، لقد وضع البصل على عينيه. أنا لست خبيرًا بهذه الأمور، أو أنّه يظهر نفسه بهذه الحالة، يغيّر مكانته، فهذه أفعالهم، ولكنّ أمير المؤمنين ليس فنّانًا، أمير المؤمنين ليس مجازًا، عندما يضجّ في المحراب فهو يضجّ حقًّا، مثل الثكلى، تلك الأمّ الثكلى أو الأب الذي مات ابنه على يده يدرك جيّدًا ألم فقدان الابن لا أنا وأنت، فنحن لا ندرك ذلك، نحن لدينا تصوّرات، تلك الأمّ التي يجود ابنها بروحه على يدها حالتها حالة واقعيّة وحقيقيّة، ولا تقتصر على ذلك التصوّر الذي لديّ الآن عنها، فهذا التصوّر لا حقيقة له، بل لديّ تخيّل ما، أمير المؤمنين لديه تلك الحالة حتّى صار يبكي هكذا، الإمام السجّاد لديه ذلك، سيّد الشهداء لديه ذلك.
نسأل الله تعالى أن ينوّرنا، ينوّر فهمنا وحالنا لكي نتمكّن من الوصول أكثر فأكثر إلى هذه الحقيقة، واعلموا أيّها الرفقاء أنّا ما لم نقرّب أنفسنا من هذه الحقيقة فلن نتمكّن من تحقيق تغيير في أنفسنا، لا بدّ أن نحقّق هذا الأمر شيئًا فشيئًا، ولا أقول إنّ علينا أن نكون كالإمام السجّاد فنحن لن نصل إلى تلك المرتبة وإلى ما بيّنوه هم، كلاّ، بل بما يناسبنا نحن، بالمستوى الذي نقدر عليه ويمكننا الوصول إليه، وبذلك المقدار الذي أعطانا الله القدرة عليه، فعلى الأقل علينا أن لا نضيّع هذا، علينا أن لا نضيّعه.