المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1430
التاريخ 1430/09/30
التوضيح
إلى ماذا ينظر الله وملائكته من أعمالنا وإلى ماذا ينظر الناس؟ وما هو المعيار في حكم الملائكة على العمل؟ وما هو معيار مقدار الثواب والعقاب في كلّ عمل؟
تجيب هذه المحاضرة على تلك الأسئلة في سياق شرح فقرة إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت، كما تتعرّض للإجابة على أسئلة أخرى أثناء ذلك منها:
كيف يحيط إبليس بالناس كلّهم في آن واحد؟ وما هو مستوى سلطته؟ وما هي أساليبه؟
ما الفرق بين الشطحيّات والحقائق؟ كيف نفهم قصّة أويس القرني وعدم لقائه بالنبيّ صلّى الله عليه وآله؟ وغير ذلك.
هو العليم
إلى ماذا ينظر الله وملائكته من أعمالنا وإلى ماذا ينظر الناس؟
ظاهر العمل وباطنه
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ. ق - الجلسة السادسة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم
بسم اللَه الرحمن الرحيم
«إذَا رَأيتُ مَولاي ذُنُوبِي فَزِعتُ، وَإذَا رَأيتُ كرَمَك طَمِعتُ فَإن عَفَوتَ فَخَیرُ راحِمٍ وَإن عَذَّبتَ فَغَیرُ ظالِمٍ».
عندما أنظر إلى ذنوبي أصاب بالدهشة لشدّة الاستيحاش. وبسبب ثقل هذه الذنوب، يتبدّل أملي إلى يأس، وينقطع أملي بنفسي، وأرى سعادتي فانية. وعندما أنظر إلى كرمك وعظمتك يزداد طمعي بالفلاح والنجاح وتزول تلك الوحشة، وتزول الذنوب أمام كرمك، ولا يمكن لذنوبي بعد ذلك أن تقف أمام كرمك.
هذا هو كلام الإمام السجّاد الذي يقوله لله في هذا الدعاء.
إشارة إلى ما سبق
وقد تقدّم للرفقاء أنّ ما يتّصف بالحسن والقبح وما يتّصف بالمدح والثناء وما يستحقّ المحاكمة في محكمة العقل والوجدان ليس عبارة عن ذلك العمل الخارجيّ، فذلك العمل الخارجيّ لا محلّ له في هذه المحكمة وهو مجرّد حقيقة خارجيّة لا تتّصف بالحسن ولا تتّصف بالقبح، هو فعل خارجيّ كسائر الأفعال، مثل سائر الحركات، فلو تحرّك حجر من مكانه بأن جاء الماء وحرّكه بضعة أمتار فماذا تقولون عن هذه الحركة؟ هل تقولون: لقد أحسن صنعًا أو أساء صنعًا؟ أم أنّه لا يُحكَم هنا بأيّ حكم، لأنّه لا الماء قام بهذا العمل بإرادته واختياره وتكليفه، ولا الحجر تحرّك من مكانه عن تكليف حين انتقل أربعة أمتار أو خمسة أمتار؟ لا شيء منهما. بل هو عمل خارجيّ قد تحقّق في الخارج ولا يستوجب مدحًا ولا ذمًّا. وجميع أفعال الإنسان في هذه الدنيا هي هكذا مثل حركة هذا الحجر، فلا توصف حركة الإنسان هذه بأيّ وصف، ولا تنعت بأيّ نعت، لا تنعت.
والآن إذا أتكلّم أنا لا يتّصف كلامي هذا الخارجيّ الذي تسمعونه ويتناهى إلى أسماعكم وهذا الكلام الخارجيّ الذي يسجّل الآن بالقبح ولا بالحسن، فآلات التسجيل هذه تسجّل الآن وهذه التغييرات التي تحدث على مسجّلكم هذا هي بسبب كلامي وتلك المعلومات التي ستضاف عليه، هي بنفسها لا تتّصف بالقبح ولا بالحسن، بل هي فعل خارجيّ، وعمل خارجيّ يسجّل الآن ثمّ إنّكم تضغطون مفتاحًا وتمحونه كلّه.
إلى ماذا ينظر الله وملائكته من أعمالنا وإلى ماذا ينظر الناس؟
فهذا الفعل الخارجيّ في نفسه نسبته إلى الاتّصاف بالحسن أو القبح متساوية، وما يقع مورد استحسان وما تتشكّل من أجله المحكمة الإلهيّة ويقع موردًا لمحاكمة الملائكة التي تحاكم هو عبارة عن ذلك القصد وتلك النيّة التي أحقّقها في داخلي أثناء أداء هذا الكلام، فتلك النيّة وذلك القصد وذلك الغرض وما يؤدّى هذا الكلام من أجله هو الذي يحاكم ويوزن في محكمة القضاء الإلهيّ، لا هذه الكلمات التي تقال في الخارج والتي تحقّق آثارًا في الخارج، فهذا الكلام في نفسه لا يعترض عليه، وإنّما يعترض على تلك النيّة التي قام على أساسها ذلك الكلام، فتلك المحكمة والملائكة المشرفة على النفوس والمسيطرة على ضمائرنا يمكنها أن تحاكم استنادًا إلى الإشراف والاطّلاع الذي لديها، فتقول: لقد كان كلامك الليلة موضع رضى لله، أو لم يكن كلامك الليلة موضع رضى لله، والحال أنّ الكلام واحد والحديث واحد. ولكن لو أنّ هذا الكلام الذي لم يكن الليلة موضع رضى الله قيل قبل ليلتين لكان موضع رضى الله، فقد تغيّرت النيّة بسبب ظهور بعض الأمور، وبسبب تغيير النيّة ستكون هذه الكلمات سببًا للمدح أو الذمّ.
فإذن من وجهة نظر الناس الذين لا اطّلاع لهم على ضمائر الآخرين وبواطنهم ولا إشراف لهم على النفوس سيكون هذا الكلام مستحسنًا جدًّا، وسيقولون: عجبًا! يا له من كلام جيّد تكلّم به السيّد! وكم شرحه جيّدًا! وكم جاء بحكايات جميلة! وكم ذكر مسائل قيّمة! وكم استفدنا نحن!
فهذا من وجهة نظر الذين ينظرون إلى جهة واحدة، ولا يرون إلاّ جانبًا من وجهًا من وجهي العملة النقديّة، ويكتفون بهذه الأمور وبهذا الجانب الظاهريّ. وأمّا الملائكة المرافقون لنا والمختفون عن أنظارنا فإنّهم يرون شيئًا آخر، ورؤيتهم تختلف.
اختفاء الملائكة عن أعين الأعداء يوم بدر
ففي معركة بدر عندما حدث ما حدث، جاء أمير المؤمنين في النهاية وأنهى الأمر، وانتهى عتبة وشيبة وأمثالهما إلى نتائج أعمالهم على يد أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ تحرّك الجيش الإسلاميّ وضرب وكاد ينتصر، ولدينا في القرآن الكريم: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يكفِيكمْ أَنْ يمِدَّكمْ رَبُّكمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكةِ مُنْزَلِينَ﴾۱ أمدّكم الله بثلاثة آلاف ملاك من عنده وأعادوا الكفّة لصالح جيش الإسلام، وقد كان الأمر في غاية الصعوبة، حيث كانت قوى المشركين كثيرة جدًّا، وكانت عِدّتهم وعُدّتهم كثيرة جدًّا، وقد كانت ليلة بدر تلك من الليالي التي تشبّث فيها النبيّ بقوّة بحبل الله على حدّ قول المرحوم العلاّمة، فليلة بدر كانت من الليالي التي رأى فيها أمير المؤمنين عليه السلام منامًا فأخبر به النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال له: «علّمت الاسم الأعظم». لقد جعل الله الاسم الأعظم الليلة في وجودك، هذه النقطة دقيقة لا أن الاسم الأعظم مثل حسن وحسين وتقي، كلاّ بل زرع الله حقيقة الاسم الأعظم في وجودك وجعلها فيك، وبواسطة حقيقة الاسم الأعظم ستتغلّب على المشركين وسترسلهم إلى ديار الفناء. فهؤلاء الثلاثة آلاف من الملائكة المنزلين لم يكن الناس والمسلمون يرونهم، فجأة كانوا يرون أنّ المشركين يسقطون، فهذه الحادثة هي من مصاديق ما نتحدّث عنه. وقد جاء كبير الفسقة ورئيس الفجرة إبليس الشيطان إلى معركة بدر، وكان يبثّ الحماس في المشركين على هيئة رجل عجوز، ولم يكن في ذلك الزمان تصوير وفيديو لكي يصوّروه فنرى صورته ونعرف كيف كانت صورة الشيطان، والله لم يصوّره، فمن أراد أن يعرف كيف هو الشيطان فليقف أمام المرآة بضع لحظات، وليحفظ تلك الصورة التي تقع على المرآة! (مزاح وضحك) والحاصل أنّ ذلك الرجل العجوز كان يبث الحماس في الناس على قتال النبيّ: قاتلوا وافعلوا كذا واضربوا فعددهم قليل، وهم لا يملكون شيئًا، وقد كان بعضهم يحمل معولاً ومجرفة ولم يكونوا يمتلكون سيوفًا، وكانوا قد أمسكوا بالأخشاب وجاؤوا بها، فلم يكن مع هؤلاء المساكين مال ولم يكونوا يمتلكون شيئًا، ولم تكن لهم عِدّة ولا عُدّة، فكان يقول: اضربوا واهجموا ويشجّعهم، وفجأة ما إن وقعت عين الشيطان على الملائكة جمع أغراضه وفرّ، وكان يركض بطريقة يبدو معها كأنّه يطير ويتقلّب في الهواء، فقال الناس: إلى أين أنت ذاهب؟! الآن أنت ذاهب؟ فقد كنت تشجّعنا وتقول تقدّموا تقدّموا فتقدّمنا فقطعت بنا وتركتنا وفررت. قال: ﴿وَ إِذْ زَينَ لَهُمُ الشَّيطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكمُ الْيوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكصَ عَلى عَقِبَيهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَه وَ اللَه شَدِيدُ الْعِقابِ﴾٢ إنّي أرى أيّها الأشقياء ما لا ترون، أرى ثلاثة آلاف ملاك نزلوا من السماء سيقضون عليكم، وسأفرّ قبل أن يقضوا عليّ وأترككم هنا. فهكذا هو الشيطان يأتي بالإنسان ويتقدّم به ويتقدّم وكما يقول المرحوم العلاّمة: يسير مع الإنسان ويسير إلى ما قبل الموت ويحتضنه ويقبّله كرفيق، وما إن يقترب من الموت حتّى يتخلّى عن مسؤوليّته إلى عزرائيل، تفضّل يا عزرائيل فقد جئت به وأحيله عليك، فأنت لا تدري ماذا صنعت به، وهناك يبدأ بإعلان الفرح والسرور والتصفيق لأنّه منع إنسانًا من الوصول إلى حرم الله والوصول إلى رضى الله، يصفّق لأنّه رأى نفسه قد نجح في هذه المهمّة، فيتوجّه نحو إنسان آخر.
كيف يحيط إبليس بالناس كلّهم في آن واحد؟ وما هو مستوى سلطته؟
وليس عمله أنّه فقط يتولّى واحدًا واحدًا، كلاّ يا عزيزي فقد أعطى الله الشيطان قدرة تجعله معي ومعك على السواء في آن واحد وفي وقت واحد، فعندما أتكلّم معكم فإنّها تصل إلى الجميع في آن واحد، لا أنّها تصل أوّلاً إليك أنت، ثمّ بعد ساعتين تصل إلى الذي خلفك، وعند أذان الصبح والسحر تصل إلى الذي خلفه، كلاّ بل ما إن أتكلّم فإنّ جميع الحاضرين هنا وجميع الذين هم في الدنيا لو أنّ الوسائل أوصلت إليهم الصوت يسمعون الكلام في آن واحد، وليس سماع أيّ واحد من الناس مانعًا من سماع الآخر الذي على يساره أو يمينه أو أمامه أو خلفه أو فوقه أو تحته، فكلّ إنسان يسمع نصيبه، والشيطان هو أيضًا مثل أمواج الصوت، مرافق للجميع، رفيق شفيق مع الجميع، وعمله في هداية إنسان هو هداية له في طريقه الخاصّ، وطبعًا استعمال الهداية هنا غلط، ولا بدّ أن يقال الغواية والضلالة، فتربيته هذه لا منافاة بينها وبين تربية أخرى، ولو كان هناك مائة ألف إنسان في الأمام فإنّه يقدّمهم هكذا لعزرائيل، ولو كانوا مليارين فإنّه يسير بهم هكذا أيضًا، فأيّة قدرة أعطاه الله؟! أيّة قدرة أعطاه الله؟! وهذا عجيب أن كيف يتمكّن من ذلك، فالقدرة التي وهبه الله له فتسلّط على سرائر وجودنا وضمائر وجودنا وعلى قلوبنا، وطبعًا ليس ذلك القسم من القلب الذي هو عرش الرحمن، كلاّ فهو لم يسلّطه على ذلك القسم من القلب، وإنّما سلّطه على قلب المظاهر والمراتب الظاهريّة، أمّا مرتبة قلب الباطن فلم يعطه نفوذًا فيه، فهو يقتصر على ضمائر وجودنا ويأتي مع أفكارنا، وهو يعطينا علامة أيضًا، ويجعل فكرنا مطابقًا لإرادته ويهدف إلى تخريب فكرنا، ويجعل لنفسه وقواعده مكانًا في فكرنا، ويجعلنا منسجمين مع هدفه، ويجعلنا في ذلك المسير الموجود، ونحن نرى أفكاره موافقة للقواعد ومنطقيّة ومطابقة للمسائل المتعارفة، ولكنّا لا ندري من أين نخدع، لا ندري!
الدعوة لادّعاء الولاية
يقدّم لنا طريق أولياء الله ومنهجهم، يقدّم لنا طريق الأنبياء والأئمّة ومنهجهم، طريق أمير المؤمنين ومنهجه، ثمّ يقول: أنت مثله، فعليك إذن أن تختار عين ذلك الطريق والمنهج، فمن الذي يفعل ذلك؟ إنّه جناب الشيطان إبليس، فإبليس هذا لديه القدرة على أن يفعل ذلك.
بعد وفاة المرحوم العلاّمة واجهت هذا الحدث، رأيت الشيطان قد جاء وجعل أولياء الله أمام الناس، وشبّه مكانات الناس بمكانة أولياء الله وقاسهم عليهم، وبواسطة هذا القياس صاروا يصدرون أحكامًا مشابهة لتلك الأحكام، عجبًا! هذا يعني أنّا وصلنا إلى مرتبة تجاوزنا فيها كلّ هذه الحجب، وصلنا إلى مرتبة تجاوزنا فيها جميع مراتب النفس ودرجاتها، لقد وصلنا إلى موضع لم يبق لنا معه نقطة مجهولة، إلى هذه النقطة وصلنا. لقد جاء إنسان وكان مدّعيًا مدعيًا مدّعيًا بأنّ بعض الناس لديهم علم باطنيّ، وعلمهم الباطنيّ هذا مثل العالم الباطنيّ للإمام، مثل العلم الباطنيّ للنبيّ، وكما أنّ القرآن لديه قرآن ظاهريّ وقرآن ناطق هو الإمام عليه السلام، فإنّ هؤلاء الناس هم مرآة صافية تمامًا، فملكاتهم وصفاتهم وفضائلهم هي قرآن ناطق.
فقلت له: أنت تعلم أنّ القرآن لدينا رواية حوله: أنّ للقرآن بطنًا ولبطنه بطنًا إلى ثلاثين بطنًا۱ وفي رواية أخرى إلى سبعين بطنًا٢، فالقرآن له بطن وباطن وعمق ولذلك العمق عمق آخر، ولذلك الستار ستار آخر وهكذا مثل الصناديق التي بعضها في بعض، أو مثل البصل الذي إذا قشّرت قشرته وجدت قشرة أخرى، فإذا نزعتها أيضًا وجدت واحدة أخرى، وهكذا له طبقات متعدّدة حتّى تصل إلى تلك الحقيقة وذلك اللبّ الصافي للبصل والذي هو ألطف من الجميع. قلت: أنت تعلم أنّ للقرآن سبعين بطنًا؟ قال: نعم.
قلت: أنا أشارطك في حقّ هؤلاء الذين تقولون إنّهم القرآن الناطق أنّهم إذا استطاعوا أن يترجموا آية ترجمة ظاهريّة فإنّي أقول إنّهم قرآن ناطق، الترجمة الظاهريّة لآية، لا التفسير ولا الباطن وأمثال ذلك، فانظروا ماذا فعل الشيطان، يأتي الشيطان بعد أن تقصر يد وليّ من أولياء الله عن هذه الدنيا ولا يمكنه أن يدافع عن نفسه ولا يمكنه أن يتكلّم، يا عزيزي لم يجفّ كفني بعد، ولم تمض على ارتحالي بضعة أيّام، أفبهذه السرعة ﴿انقلبتم على أعقابكم﴾٣ ورجعتم إلى عصر الجاهليّة، رجعتم إلى عصر الخلوّ من الراعي، رجعتم إلى عصر الخلوّ من صاحب الاختيار، والخلوّ من وجود سيّد فوق رؤوسكم ومربّ وأمثال ذلك، رجعتم إلى تلك الأزمان؟! نعم من أراد أن يفعل ما يشاء، من أراد أن يطبّق في المجتمع ما يبدو له، من أراد أن يعمل دون أن يكون له مرشد يرشده، فستغدو الحياة غابة بالنسبة إليه، غابات الأمازون، ستتحوّل إلى ذلك، أمّا إذا جعل الإنسان لنفسه مرشدًا ووليًّا وسيّدًا يفهم الدين لديه خبرة، لم يأت من خلف المعول ليأمر وينهى ويتكلّم بهذا الكلام، فإذا فعل ذلك فإنّ عمله حتمًا سيكون عملاً منضبطًا. فانظروا هم يجعلون وليًّا إلهيًّا أمام أعينهم، ثمّ يشبّهون ظروفهم ومكاناتهم بظروفه ومكانته فيفعلون ما كان يفعل، وهنا تحدث الفاجعة، فهم يريدون أن يأمروا كأمره ونهيه في زمان فقدانه، فماذا ستكون النتيجة؟ ستكون أن لا يبقى حجر على حجر، هذه نتيجة ذلك. فلأجل ماذا كلّ ذلك؟ لأنّ "جناب" الشيطان قد "شرّف" وسيطر على جميع زوايا القلب، فصار الإنسان يقول: إن لم أفعل أنا هذا سيحدث كذا، ستحدث هذه المشكلة، سينتهي هذا الطريق، سيبقى هذا الطريق بغير صاحب، من الذي يمكنه أن يحمل هذا المسؤوليّة، إن لم أحملها أنا فستبقى مرميّة على الأرض وأمثال هذا الكلام، يأتي ويزيّن للإنسان موقعه. كلاّ يا عزيزي دع أنت هذه المسؤوليّة لترى أنّ صاحبها سيأتي ويحملها.
محاجّة أويس القرني رضوان الله عليه للخليفة الثاني لادّعائه ضرورة تحمّل أمر الخلافة
جاء أويس إلى المدينة بعد ارتحال النبيّ صلّى الله عليه وآله، فاجتمع الناس أن سمعنا أنّ أويسًا قد جاء إلى المدينة، جاء أويس، ذلك الذي جاء في زمان النبيّ صلّى الله عليه وآله ولم يكن النبيّ في المدينة، ولأجل الحفاظ على رضى والدته رجع ولم يلتق بالنبيّ، هؤلاء هم السلاّك، هؤلاء هم السلاّك، هذا ما نواجهه كثيرًا! هؤلاء هم السلاّك، هؤلاء هم الأذكياء، وكما يقول أهل هذا الزمان: هؤلاء هم الذين وضع أيديهم على مفاتيح الطريق وأسرار عبوره لقد جاء هؤلاء وعرفوا أسرار طريق الله.
وفاء أويس بعهده لأمّه
لم ير أويس النبيّ في عمره، ويأتي إلى المدينة فيرى أنّه إن بقي أكثر فإنّ والدته لم تسمح له، وكأنّ الله أراد أن يمازحه، فالنبيّ لم يكن يخرج من المدينة أبدًا، ولكن قبل أن يصل أويس بيوم خرج منها، فلهذا حسابه الخاصّ، ينظر الإنسان فيقول ماذا حصل؟! فالله يريد شيئًا ما، فليس الأمر هكذا صدفة، فلكلّ ذلك حساب دقيق.
فيزن أويس الأمور بباطنه ووجدانه: رؤية النبيّ نهاية الآمال عنده ومنتهى الرجاء، إنّه يقدّم روحه لكي يرى النبيّ، وعندما جاء أويس أدرك ماذا يجري في قلبه تجاه النبيّ، ولا حاجة إلى التوضيح والتفسير، ولكنّه عندما يلاحظ أنّه ما هو أمر النبيّ لي الآن؟ هل أبقى وأخادع أمّي وأقول لها: طال سفري، سقط جملي على الأرض قليلاً فمرض ليومين؟ ففي النهاية الطريق طويل بين اليمن والمدينة، فإذا أراد أن يأتي من هناك إلى هنا فهناك آلاف الذرائع والحجج التي يمكن أن نخترعها. هاجمني حيوان، مرضت في الطريق، حدث لي كذا وكذا، وأمّي تصدّق وترضى ولا تحزن أبدًا، ولكن ولكن ولكن استطعت أن ترضي أمّك عنك فهل استطعت أن ترضي وجدانك أيضًا أم لا؟! هل استطعت أن تخادع وجدانك هل استطعت؟! لقد كان أويس عاشقًا للنبيّ، لأنّ نفس أويس كانت صافية، لأنّ قلب أويس كان متّصلاً، وذلك الحبل الذي كان بينه وبين النبيّ [كان متّصلاً] تلك العروة، وهذه هي تلك العروة الوثقى، ومصداق ﴿فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ هو أويس والنبيّ، لأنّ هذه العروة كانت عروة وثقى عروة موثّقة كانت عروة وموضع تمسّك مطمأنّ بها، فلمّا كان الأمر هكذا رأى أنّ الميزان يشير إلى أمر آخر ويقول: ما دمتُ وعدتُ أمّي أنّي سأبقى نصف نهار فعليّ أن أرجع، لن أرى النبيّ فلا مشكلة، كان بإمكاني أن لا آتي، كان بإمكاني أن لا أعد والدتي أنّي سأبقى نصف نهار، فما دامت الأمّ قد أخذت منّي عهدًا، فالأمّ هي التي أخذت منه عهدًا لا أنّه هو أراد ذلك، فقالت: لا تبق لأكثر من نصف نهار، إذا وصلت إلى هناك فلا تبق أكثر من نصف نهار. فلو أنّ أمّه كانت قد قالت له: اذهب وابق حتّى ترى النبيّ لكان الأمر مختلفًا، لكنّها قالت: لا تبق أكثر من نصف نهار، لا تبق أكثر من بضع ساعات. فجاء ونظر فرأى أنّ النبيّ يقول له من مكانه هناك خارج المدينة: لقد قالت أمّك ذلك، فعليك أن تعمل بما عاهدتها عليه وتفي بعهدك.
عظمة مدرسة الإسلام في تعاليم الصدق وإرضاء الوجدان وعدم معرفتنا بها
وحياتكم، هنا يرتجف بدن الإنسان من أنّ هذه المدرسة كم هي مدرسة رفيعة! وكم نحن رمينا بهذه المدرسة على الأرض ودسناها بأرجلنا وطحنّاها طحنًا ولم نترك لها شأنًا وكرامة، المدرسة التي تعلّم تلميذها أن كن صادقًا وإن أمكن يكون لك ألف مبرّر لارتكاب الباطل، المدرسة التي تقول للإنسان: رغم أنّ بإمكانك أن ترضي والدتك، رغم أنّ بإمكانك ذلك، ولكن افعل ما يمكّنك من إرضاء وجدانك، المدرسة التي تجعل وجدان الإنسان دائمًا يلاحقه، لا مجرّد الصورة الظاهريّة للأمر. فهل استطعت أن ترضي وجدانك؟! أم استطعت أن تخدع وجدانك واستطعت أن تضلّ وجدانك وتغويه؟ فبما أنّك عاهدت والدتك فاحترم دائمًا هذا العهد، سواء علمتْ والدتك أم لم تعلم.
فيا لها من مدرسة واللهِ يتحيّر الإنسان منها ويدهش، والله يدهش، أن ماذا قيل لنا؟ وفي المقابل ماذا صنعنا بهذه المدرسة؟! ماذا قالوا لنا وماذا يوجد في الخارج وماذا حصل؟! ماذا كنّا نفكّر وماذا حدث؟! ماذا كنّا نفكّر وماذا وجد؟ تقال أمور تجعلنا نفكّر بطريقة، ولكن ماذا يجري في الواقع؟! ماذا يجري؟! تُنقل بعض الأمور لا يخلو ذكرها لكم من مناسبة (ضحك) المدرسة التي تقول للإنسان… لا إله إلا الله دعك من هذا ولنكن هادئين (ضحك)ـ المدرسة التي تقول للإنسان: إذا وعدت فلا تفكّر أبدًا في الفرار من وعدك! فإذا ثبتّ على كلامك فلا يخطرنّ في بالك يومًا ما أن تخالفه وتدور من حوله، وتختلق عذرًا وأمثال ذلك، لقد علّمنا ذلك زعماء ديننا، لقد علّمونا ذلك، لقد علّمونا ذلك وعلّمونا هذا الطريق وهذا المنهج، أفتدرون لماذا؟! هذه المدرسة تريد أن تقول ـ ودقّقوا أيّها الرفقاء ـ : في المرتبة الأولى أنت المهمّ في القيام بهذه التكاليف لا أمّك ولا غير أمّك، فهؤلاء هم في المراتب اللاحقة، أنت المطروح في هذا المجال، وأنت بهذه المخالفة تقضي على نفسك. لنفترض أنّ أمّك لن تنزعج وستقبل بأنّك مرضتَ ليومين، وعلقتَ ليومين في الصحراء، أو ذهبتَ لتقوم بعمل معيّن، فتقول أمّك: حسنًا يا ولدي لا إشكال لو كنت تأخّرت أسبوعًا آخر أيضًا أو ثلاثة أسابيع، كلاّ يا عزيزي لما كنت انزعجتُ، كان يمكن ذلك، فلماذا أتيت بسرعة؟! لو بقيت أسبوعًا آخر على الأقل لكنت في حالة أفضل. فبالكذب والخداع يمكن إرضاء الأمّ، ولكن من الذي يقضى عليه هنا؟! أنت قضيت على نفسك.
تقول هذه المدرسة عليك أوّلاً أن تفكّر في نفسك وتقول لها: ما هو تكليفكَ أنتَ هنا؟! فلو أنّ والدتك ستنزعج فهذه مصيبة فوق أخرى، هذا إذا عرفت بالأمر، ولكنّ المهمّ أن لا تحزن أنت أيضًا، فتارة تكون في حالة حديث مع صديقك فتسمع أمّك من وراء الباب وتعرف حقيقة الأمر ففي النهاية لا بدّ أن تكشف الأسرار، فالأسرار تكشف، في النهاية تكشف، نحن نريد أن نخفيها دائمًا، نرتكب ما شئنا من الأخطاء والجنايات ونخال أنّ أحدًا لا يعرف، الملائكة لا ترى، وأيّ فاجعة نرتكبها نخال أنّ الملائكة قد أغمضت أعينها، لا تنظر أبدًا، ولكن فجأة وفي زاوية ما نقول: الويل لنا! من أين انكشف هذا الأمر؟! فمن أين انكشفت هذه في النهاية؟! واحدة، اثنتان، ثلاثة، أربعة، خمسون، مائة، فماذا حصل؟! لمَ هذا يا عزيزي؟! إنّه بيد الله، فلتأخذ الله أيضًا بعين الاعتبار! يا عزيزي فلتستحضر إلى هذا المكان أيضًا موجودًا يسمّى الله، ولا تنظر فقط إلى نفسك، فلتضع حقيقة تدعى الله في هذا المجال ولو بنسبة واحد بالمائة، فهذا الواحد بالمائة يا عزيزي يدقّق لك الأمور بشدّة، وهذا الواحد في المائة يجعل العالم كلّه كن فيكون، هذا الواحد في المائة الذي سمّيته الله مثلاً ونحّيته جانبًا، ولكنّ النبيّ يريد أن يقول: بما أنّك وعدتَ فأنت الآن المهمّ في الميدان، فلماذا تفسد نفسك؟! لماذا تضيّع نفسك؟! لماذا تقتل استعدادك؟! لماذا تسلب من نفسك القدرة على الحركة؟! لماذا تغلق أمام نفسك تلك الطرق بواسطة خداع نفسك ومن خلال الكذب؟! لماذا تفعل ذلك؟! أنت الآن مطروح! أنت عليك الآن أن تحاسَب! فيجلس ويحسب الأمور ويقيسها فيرى أنّ النبيّ يقول له الآن: كلاّ عليك أن ترجع! النبيّ يقول: عدْ، أمّا ماذا يجني من عودته هذه فهذا شيء آخر نتركه، نترك الأسرار الكامنة فيه، لو أنّ أويسًا بقي حتّى لنصف يوم واحد فقط ورأى النبيّ، لما صار أويسًا وإن وفى بعهده لأمّه، يجب أن لا يرى أويس النبيّ، وهذا أمر آخر الآن لا أجد القدرة على الدخول فيه، ولكنّي قلته هكذا مجملاً.
فالحقيقة محفوظة والواقع ثابت في موقعه الخاصّ…
جاء أويس بعد النبيّ إلى المدينة، فقد توفّي النبيّ وتوفّيت والدته أيضًا، فقد صار بإمكانك يا أويس أن تأتي، يقول: حسنًا لم أر النبيّ فلأذهب على الأقلّ وأرى وصيّه، لقد انتقلت والدتي إلى رحمة الله وليست لديّ زوجة. لا بدّ أنّه لم تكن له زوجة تأخذ منه تعهّدًا بأن يرجع قبل المغرب ولا تبق في المدينة، أو أنا أخاف هنا وحدي، أريد منك أن ترجع بسرعة! على ما يبدو لم يكن لأويس زوجة، هكذا قرأت في تاريخه إن لم أكن مشتبهًا، لم تكن له زوجة.
فجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فاجتمع الناس فجأة يقولون: جاء أويس! عجيب هيّا! وحدثت هناك ضجّة في الأزقّة والأحياء أن اجتمعوا كلّكم؛ فهذا الذي كان النبيّ يمدحه ويقول إنّه يوم القيامة يشفع في مثل غنم ربيعة ومضر أو رعاتهما۱ فما هي قدراته؟ فتعالوا لنرى هل لديه قرون؟ هل لديه ذيل؟ هل هو مثل المنارة أو مثل كذا وكذا؟ فجاؤوا فوجدوا أنّه ليس كما يتصوّرون بل هو إنسان غير مرتّب الثياب، إنسان كسائر الناس، فاجتمعوا حوله.
إن لم تكن الخلافة لك فكيف تبيعها بقرصين؟ اتركها ليأخذها صاحبها
ولمّا سمع الخليفة الثاني أيضًا أنّ أويسًا جاء اجتمع مع الناس أيضًا وقال: أنا أستفيد أيضًا، أنا أستفيد من أويس أيضًا، وأريد أن أرى من هو، فجاء ونظر إلى هيئته وقال: من يشتري منّي هذه الخلافة بقرصين من الخبز؟ فقال أويس: إن كانت الخلافة حقًّا لك فليس لك أن تدفعها إلى غيرك، وإن لم تكن حقًّا لك فاتركها كي يأتي صاحبها ويأخذها. أتقول من يأخذ منّي الخلافة بقرصين؟! فما هذا الكلام؟! قالها بشكل واضح وصريح، إن لم تكن حقًّا لك فدعها ليأتي صاحبها!٢ فماذا يقول هو الآن؟ يقول: إن لم أقبل أنا الخلافة لبقي الإسلام بلا وال، ولبقيت هذه المسؤوليّة بلا متحمّل. كلا يا عزيزي لا معنى لهذا الكلام، دعها في أرضها، اذهب ولا تدع الناس ولا تثر الناس على صاحبها الأصليّ، ولا تخادع الناس قائلاً: أنا خليفة رسول الله، أنا أب زوجة النبيّ، وأمثال هذه الألاعيب. لا تخادع هؤلاء العوامّ! اتركها واذهب ليأتي صاحبها الأصليّ فيحملها، هو يأتي ويحمل هذا الحقّ. فهذه أمور نحن نتخيّلها! وهذه التصوّرات هي تصوّراتنا نحن، فمن الذي يركّب ويؤلّف هذه الكلمات والمسائل؟ إنّه جناب الشيطان جناب الشيطان يأتي ويمزج ذلك ويركّبه ويعلّم المعادلات، ويعلّم المنطق، ويقول: قارن نفسك، قارن نفسك مع أولياء الله، انظر إلى الحكومات، انظر إلى أمير المؤمنين وقارن نفسك به حتّى تأمر بشكل جميل بتلك الأوامر بعينها، قم بما كان يقوم به بعينه و… هذه هي الأمور التي تجري في نفس الإنسان.
تتمّة الكلام حول النية وما تنظر إليه الملائكة وما ينظر إليه الناس
فإذن تلك النيّة التي هي في قلوبنا إمّا أن تنال إمضاء الرضى والقبول في المحكمة الإلهيّة، أو إمضاء عدم الرضى والقبول وإمضاء الرفض، تلك النيّة هي التي من أجلها يعمل الإنسان وهي الحاكمة في جميع الأفعال، وليس هناك فعل مستثنى من هذه القاعدة من حين قيامنا من النوم وحتّى وضعنا رؤوسنا على الوسادة، فجميع أعمالنا وأفعالنا وتصرّفاتنا خاضعة لذلك، وقد صار الأمر واضحًا للرفقاء بشكل كاف، فلدينا هنا جانبان من العملة:
أحدهما: ما يشاهده الناس وما هو في مرآهم ومسمعهم، فالإنسان يصلّي، يعطي المال، يكتب، يلقي محاضرة، يأمر وينهى، يقبل هذه المسؤوليّة، يقوم بذاك العمل، وهذه الأشياء التي نراها، ونحن نقضي على أساس ما نراه، فنقول: كم يقوم بعمل جيّد! كم يؤدّي خدمات للنّاس! كم يقوم بواجبه بشكل جيّد! كم يؤدّي التكليف بشكل جيّد! كم يبذل من نفسه! كم يتصدّى بشكل جيّد لمسائل الناس! جزاه الله خيرًا، أطال الله في عمره، بارك الله به وسلّمه. فهذه الصفات والمدح والثناء والأدعية التي نقوم بها نحن للنّاس هي على أساس الفعل الخارجيّ الذي تراه هاتان العينان منهم، لا عينا القلب، بل هاتان العينان، فعلى أساسهما يجري هذا المدح والثناء.
وأمّا في الجانب الآخر من العملة فملائكة الله تلعنه، جعل الله عاليه سافله! قضى عليه الله! طرده الله ولعنه! لماذا؟ لأنّ الملاك يرى ما لا نرى نحن! تلك النيّة التي ينويها نحن لا نراها، ذلك الهدف الذي يسعى إليه هو خفيّ عنّا، نحن لا نرى سوى الأفعال الظاهريّة، أمّا الملائكة فتحكم بطريقة أخرى لأنّها مطّلعة على نواياه، لأنّها مطّلعة على ضميره، لديها إشراف، هي تقرأ الباطن، تنظر إلى الباطن.
قصّة النبيّ موسى عليه السلام والراعي الذي يخاطب الله بما لا يليق به عن صفاء نيّة
فهذا الذي يقول: جعلت فداك يا ربّ… ذلك الراعي الذي في قصّة النبيّ موسى والتي ينقلها مولانا جلال الدين محمّد البلخيّ رضوان الله عليه في كتابه الشريف القويم المثنوي، فقد نقل هذه القصّة وأفاض بها علينا وذكر أنّ النبيّ موسى عليه السلام كان مارًّا فرأى راعيًا يمشي وهو يمجّد الله ويثني عليه ويقول: يا إلهي ...
تو کجایی تا شوم من چاکرت | *** | چارقدت دوزم کنم شانه سرت |
يقول: أين أنت حتّى أكون لك خادمًا *** لأخيط لك حجابًا لرأسك وأمشّط شعرك
أخيط لك عباءة، ألبسك حذاء، أكنس دارك، أفرش لك فراشًا، ويقول كلّ ذلك.
فيقول النبيّ موسى: ماذا يقول هذا؟! فالله مجرّد، الله ليس ماديًّا، الله وجود بسيط، وجود بالصرافة، وعلى حدّ تعبير الفلاسفة: بسيط الحقيقة كلّ الأشياء. فيذهب إلى ذلك الراعي ويقول له: ماذا تقول أنت يا فلان؟! لقد جعلت بسيط الحقيقة [هكذا كالإنسان]؟!
فينظر إلى النبيّ موسى ويقول له: هل أنت بحال جيّدة؟! ماذا أفطرت اليوم حتّى تتكلّم معي هكذا؟!
النبيّ موسى لم يقل له شيئًا من هذه الاصطلاحات التي نقولها نحن، بل قال له: ماذا تقول أنت يا عزيزي، فليس هذا هو الله، الله ليس إنسانًا، الله لا ينطبق عليه هذا الكلام، وبدأ بذمّ هذا المسكين وأخذ بلومه؛ فانزعج الرجل وقال في نفسه: هذا ما يعنيه الله بالنسبة إليّ وأنّي عثرت على محبوب أبادله الحبّ، وجاء هذا وتكلّم بهذا الكلام، وهو نبيّ أيضًا، وكلامه ليس عبثيًّا، فمع من كنت أتبادل الحبّ إذن؟! ومع من كنت أتماهى؟! لا أدري بناء على هذا الكلام مع من كنت أتكلّم، لقد ساءت أحوالي إذن. واختلّت أفكار الرجل.
والحاصل أنّ الله قال لموسى: ماذا تريد من كلامه؟! هل عندما قال سأخيط لك حجابًا لرأسك، فهل أنا أضع على رأسي حجابًا؟! دعه يقول. ولو قال: ألبسك حذاء فهل أنا ألبس حذاء، دعه يقول ماذا تريد منه؟! دعه يقول دعه يقول: أخصف حذاءه. دعه يقول: أصنع لجواربه كذا. دعه يقول ما يحلو له، فنحن ننظر إلى الباطن.
لو أنّ هذا الراعي جاء إلى هذا المجلس في ليلة الأحد وقال هذا الكلام لضحك منه جميع الرفقاء. لماذا؟ لأنّا نحن لا نرى إلا الكلام، لا نرى إلا هذه المعاني التي تخرج من فمه، ونحن نضحك بسبب هذا الكلام، ونعترض عليه أن التفت إلى ما تقول، فهذا لا يقال لله. فيتأذّى هذا الرجل في المقابل.
ما الفارق بين الشطحيّات والحقائق؟
ولكن لو كان هناك إنسان كالنبيّ موسى ولو كان هناك إنسان مثل الوالد المعظّم رضوان الله عليه ولو كان هناك إنسان من أصحاب القلوب والأحوال والبصيرة ينظر إليه نظرة لقال لنا: اسكتوا لا يتكلّمن أحد بكلمة، دعوه يقول فهو الآن في حالة جذبة، هو الآن في حال اتّصال، غاية الأمر أنّه بما أنّ هذه الجذبة ناقصة فقد ظهر الأمر بهذه الطريقة، لأنّه لم يخضع لتربية فإنّ تلك الجذبات عندما تأتي تخرج من فهمه بهذه الطريقة، ولكن لو أنّ هذا الراعي خضع لتربية موسى فإنّ تلك الجذبة تحصل وتخرج بصورة كتاب مثنوي، وتخرج بصورة ديوان حافظ، وبصورة شعر العرفاء، وبصورة الفتوحات المكيّة لمحي الدين بن عربي وبصورة شعر ابن الفارض، تلك الجذبة بعينها تأتي تحت التربية وتحت التزكية وتحت البرامج التي تنصبّ عليه وتعرّفه على هذه المفاهيم فتحصل لديه استقامة في النفس، تصبح نفسه مطمئنّة فإذا ما استقامت نفسه فإنّه يخرج الحقائق والمعاني إلى منصّة الظهور والإبراز مطابقة للمراتب الوجوديّة وللتعيّن الخارجيّ لكلّ مرتبة، فهذا المسكين لم ير أحدًا كموسى ولا عيسى، ولا تعامل مع أحد، فما يتعامل معه هو هذا الحجاب الذي على الرأس، وهذا حاله الآن، أمّا إذا ما مرّ وقت فإنّه يتغيّر، هذا الراعي نفسه يتغيّر، فهذه بداياته، لقد أشرق عليه نور فلم يعد له دوام ولم تعد هذه الروح تستقرّ في بدنه، يريد أن يبيّن حالته بنحو من الأنحاء، فيستخدم هذه الأشياء التي يستعملها وهذه الأمور التي هي حوله وتلك الثقافة التي تربّى فيها، وهذه الأمور تحصل في البداية فقط، وهي ترتبط بالناس البسطاء الذين لم يخضعوا بعد لتربية، وهذه الشطحيّات التي تشاهد أحيانًا عند بعض الناس والتي يعترض عليها الأعاظم هي من هذا القبيل، في حقائق تقال من قبل بعض الأعاظم، ولكن حيث إنّ هذا الأمر لم ينضج بعد ولم يذكّ على يد نفس متربّية، فإنّه يخرج في غير موطنه وموقعه. ولذلك يعترض عليهم الناس، ويُبدون تجاههم حساسيّة خاصّة أن ما هذا الكلام الذي يقولونه؟!
حادثة مع بايزيد
يقال إنّ بايزيد ذات مرّة قال أثناء كلامه شيئًا من هذه الأمور، وتكلّم عن حقيقة لا هو إلا هو في بعض هذه الجذبات التي حصلت له، وتحدّث عن حقيقة لا هو إلا هو ثمّ أشار إلى نفسه، فلا هو إلا هو تعني أنّ هذه النفس قد اتّصلت الآن بذاك المقام. فسألوه: أنت أحيانًا تقول كلامًا كهذا، ونسمعه منك، فهل أنت تنسب هذه الأمور التوحيديّة إلى نفسك؟!
فأشار إليهم وقال: أنا؟!
قالوا: نعم.
قال: متى؟
قالوا: عجيب، لقد سمعنا نحن ذلك بأنفسنا.
قال: متى؟
قالوا: بالأمس قلت ذلك.
فقال: إذا حصل ذلك مرّة أخرى فاشهروا السيف وقطّعوني إربًا إربًا، فهذا خلاف الشرع وخلاف الظاهر، ومن يقول ذلك فلا بدّ من إعدامه، لا بدّ من إعدامه، يجب إعدامه فورًا. فأخذ تلامذته ينتظرونه وحمل كلّ واحد منهم سيفًا في ثوبه، حتّى يقوموا بما يجب في المرّة القادمة! قل هذه المرّة حتّى نرى ماذا سيحلّ بك! ولا بدّ أنّ لبعضهم حسابًا معه، وصارت لهم مكانة بين مريديه، فسنّوا الخنجر والسيف استعدادًا، وفجأة بدأ بايزيد بأمثال هذا الكلام، فلمّا جاءت هذه الجذبات بغير اختيار، ظهرت تلك الكلمات التوحيديّة التي لا تنسجم مع أجوائهم وأحوالهم وفهمهم واختيارهم، فقالوا: هو نفسه قال لنا اقتلوني. فأخذوا السيف يضربونه به ولكن لم يكن يصيبه شيء! لا شيء! ومهما ضربوه كانوا يرون أنّه لا يصاب بشيء، إنّه حجر! فلمّا عاد إلى حالته السابقه قالوا له: مهما ضربناك لم يكن لضرباتنا تأثير.
فقال: لم أكن أنا، فبما أنّكم ضربتموني بالسيف ولم أتأثّر فإذن من كان يقول هذا الكلام ليس أنا، اضربوني الآن لتروا أنّكم إن ضربتم من هنا خرج السيف من الجانب الآخر، أمّا في تلك الحالة التي كنت أتكلّم فيها بذلك الكلام فمن المعلوم أنّه كانت هناك حقيقة أخرى حاكمة على هذا الناطق الذي ينطق بهذه الطريقة، وعلى هذا المتكلّم الذي يتكلّم هكذا.
ولن أبسط الكلام أكثر من هذا. والحاصل أنّ هذا هو معنى الشطحيّات التي نراها على الألسنة وفي الكتب، فهي من هذا الباب، وهي كلمات تصدر عن الأعاظم لا في حال استقامة النفس أو بعبارة أخرى حال البقاء بعد الفناء والبقاء الذاتي بعد الفناء الذاتي، بل في مقام الحركة والسير نحو العبور عن الحجب، فتنكشف لهم أحيانًا حقائق تكون مجرّدة عن الحجاب، وأحيانًا تطرح هذه الحقائق في حالات بحيث لا تكون باختيارهم، ولو كانت باختيارهم لما قالوها! لم تكن باختيارهم فليست ذنبًا، بل هي حقيقة عرفانيّة وتوحيديّة قد قيلت.
لقد قيل الكثير من هذه الأمور، وأنا بنفسي سمعت بعضها من الأعاظم في بعض الحالات غير الاختياريّة، فقد كانت لهم كلمات كهذه، غاية الأمر أنّها ربّما كانت في أوقات يكون الحاضرون في المجلس معها قادرين على تحمّلها! وعادة في هذه الحالات لا يتكلّم أصحاب السعة والقدرة بهذه الأمور أمام الذين لا يملكون القدرة والاستعداد لتحمّلها. فهذه ترجع إلى تلك الموارد التي لا يكون قد وصل فيها الإنسان إلى استقامة النفس ومرتبة الجمع بين الوحدة والكثرة، وفيها بعض الإشكالات، وهي تنشأ من هذا الأمر.
كيف تحكم الملائكة على أعمالنا؟
وعلى كلّ حال فالملائكة تحكم على نوايانا! وأنّ العمل الذي قمتم به كان خاطئًا، وخدمته للنّاس ليست لأجل الله، بل هي لأجل حفظ مكانته! هذا المال الذي يبذله ليس لأجل الله، بل سرقه من فلان وقام بصرفه هنا، فأنت لا تعلم بالباطن، أنت لا تعلم من أين هذا المال، وأنت لا تعلم النيّة والغرض وراء هذا الأمر كيف خطّطا وصمّما، لا علم لك بهذه الأمور، ولا تفعل ذلك إلا لأجل المدح والثناء، ولكنّ الملكين اللذين على يمينه وشماله يلعنانه، ويطلبان له من الله جهنّم والنار وعذاب الجحيم. فهذان نحوان من الحكم، نحوان من المحاكمة، يرجعان إلى النظرتين الظاهريّة والباطنيّة، فالنظرة الأولى هي لمحكمة الظاهر، وفي محكمة الظاهر يجري التحسين والمدح والثناء وأمثال ذلك، وفي المحكمة الثانية التي هي محكمة الباطن ينثر على ذلك الإنسان اللعن والطرد من رحمة الله والإبعاد من حريم الله، وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا والحكايات عديدة، والأمور واضحة في هذه الأشياء.
فهذان النحوان يرجعان إلى هذه الأعمال التي نقوم بها في الخارج، وهذا العمل لا يستحقّ مدحًا عند الله ولا ثناء، أمّا عند الناس فهو يستحقّ لأنّهم ينظرون إلى الظاهر، فإمّا أن يمدحوا وإمّا أن يذمّوا، أمّا عند الله فالنظر ليس إلى الظاهر بل إلى النيّة، ينظر إلى تلك النيّة وعلى أساسها يُحكم.
مكاشفة في الحرم المكّي: سعة الرحمة الإلهيّة وشمولها لكلّ الطائفين حسب نواياهم
كان أحد الأصدقاء يقول: عندما تشرّفت بزيارة مكّة كنت جالسًا ذات ليلة هناك فيها وأنظر إلى ذلك العدد الغفير الذي يطوف حول البيت، وكان هذا الرجل من أهل المكاشفة ولديه مكاشفات جيّدة ومشاهدات جيّدة، قال: بينما أنا أنظر إلى هذا العدد الغفير من الناس وأنا جالس في جانب من المسجد الحرام كان هؤلاء الحجّاج الذين يطوفون يكادون يصلون إليّ، فكانت الدائرة واسعة جدًّا في طوافها حول بيت الله، فكنت أقول لله هكذا: لقد جاء هؤلاء من أماكن بعيدة وتحمّلوا الشدائد والمتاعب وابتعدوا عن عيالهم وأزواجهم وجاؤوا إلى هنا، فكنت أفكّر بلطف الله وكرمه وكيفيّة إفاضتهما على الناس، وأنّه كيف حال هؤلاء الناس وكيف هم مشمولون لرحمة الله، وفجأة رأيت فوق الكعبة إناء كبيرًا، إناء كبيرًا جدًّا جدًّا فوق الكعبة بفاصل عشرة أو خمسة عشر مترًا، وهذا الإناء مقلوب فوق الكعبة، وكلّه من نور، أي يشعّ من هذا الإناء نور كالشمس، فالنور يصعد من الكعبة إلى الأعلى فيصطدم بهذا الإناء، ثمّ ينعكس على كلّ واحد من هؤلاء الناس الطائفين حول الكعبة، فالنور يصطدم بهذا الإناء وحيث إنّه من داخله مقعّر فإنّه ينعكس على كلّ واحد من الحجّاج، كلّ واحد منهم. كان يقول: رأيت في لحظة واحدة أنّ هناك نورًا خاصًّا ومخصّصًا لكلّ واحد منهم يأتي من داخل ذلك الإناء ويسطع عليه، بعضهم يسطع عليه نور أخضر، وبعضهم يسطع عليه نور أصفر وبعضهم يسطع عليه نور أحمر، وبعضهم نور أبيض مثلاً، وبعضهم نوره بحجم الإبرة، وبعضهم أغلظ وبعضهم كالحبل، الحبل نورانيّ، وبعضهم بمقدار وجود الإنسان، وبعضهم رأيت أنّ الإناء كلّه متوجّه إليه وينعكس عليه، أمّا من كان ذلك؟ فهو لم يسمّه، فعلى كلّ حال انظروا جميع هؤلاء الناس الذين يطوفون حول هذا البيت جميعهم يقومون بعمل واحد! لا أنّ أحدهم يطوف أقلّ من الآخرين وأحدهم أكثر، بل الجميع يعملون عملاً واحدًا، وإذا أردنا أن ننظر إلى هذا العمل فإنّ مقدار الطاقة التي تصرف هو واحد لدى الجميع، فهناك سبعة أشواط في النهاية، سبعة أشواط سبعة أشواط فكلّ شوط كم يحتاج من الطاقة؟ عشرين وحدة كالري أو أكثر، فالأمر يختلف، تارة كلّ شوط يحتاج إلى مائة وحدة كالري من الإنسان، وخصوصًا عندما يحصل ازدحام فإنّ نفس الإنسان يكاد ينقطع أحيانًا، وأحيانًا يكون المكان خاليًا فيحتاج إلى عشرة وحدات مثلاً، فيحتاج الطواف الكامل المؤلّف من سبعة أشواط سبعين وحدة كالري، ونحتاج إلى عشرة وحدات كالري لصلاة ركعتين مثلاً، فهذه ثمانون كالري حتّى ينتهي الأمر كلّه من وجهة نظرنا، الأمر كلّه من أوّله إلى آخره يحتاج ما بين سبعين إلى ثمانين وحدة كالري. فهذه نظرتنا نحن، فالأفراد الذين يطوفون ويقولون الأذكار هم من وجهة نظرنا في مستوى واحد. أمّا من وجهة نظر الملائكة فإنّهم يحسبون الكالري بطريقة أخرى، فلهم حساب آخر، ولا ينظرون إلى الكالري الظاهريّة والسكّر والجهد وأمثال ذلك، بل ينظرون إلى أنّه كم لديه من المعرفة، كم لديه من البصيرة، كم عينه مفتوحة، كم لديه صفاء باطن، كم سلّم نفسه هنا! كم احتفظ لنفسه؟ كم من وجوده احتفظ به لنفسه؟ وكم سلّم؟ كم اهتمّ وكم تخلّى عن نفسه هنا؟! كم يفكّر في ذلك هنا؟! كم حقًّا؟!
حادثة في داخل الكعبة
سمعت من بعض الناس ولا أدري إن كنت أخبرتكم بذلك أم لا، سمعت أنّه في إحدى الرحلات كان هناك رجل يقول: هناك جماعة دخلوا في يوم الثامن، لا أدري في أيّ يوم يفتحون باب الكعبة ويغسلونها ويكنسونها ويغسلونها بماء الورد وأمثال ذلك لا أدري في أيّ يوم، في أيّ يوم؟ هل الثامن أم التاسع؟ يبدو أنّه الثامن، ففي هذا اليوم يفتحون باب الكعبة ويدخلها عدد من الناس الخواصّ، فهم يفسحون لهم المجال فيدخلون إلى الكعبة، فقد حدّثني رجل وقال: في إحدى الرحلات التي تشرّفنا خلالها بمكّة كان معنا شخصيّة معيّنة ففتحوا باب الكعبة ودعونا لندخل وكنّا من الخواصّ فدخلنا، فهنا بيت الله وهذا هو المكان الذي جاء إليه جميع الأنبياء وجميع الأئمّة وجميع الأولياء والأعاظم، وكان الإمام السجّاد يضع رأسه هنا ويتعلّق بأستار الكعبة ويبكي كالثكلى وينوح في أنصاف الليالي حتّى يغشى عليه وقصّة الأصمعي وأمثالها معروفة، وقد فتحوا الآن باب الكعبة ودخل العالم فلان إلى داخلها، وما إن أراد أن يبدأ بالصلاة قال لي: تعال أريدك لعمل مهمّ، إذا رجعنا إلى إيران لا تنس أن تأتي إلى مكتبي لكي نكمل تلك المعاملة التي لا يزال كلامنا فيها غير مكتمل، لا تنس، تعال إلى المكتب لنكملها!
ما شاء الله ما شاء الله فهذا نوع آخر هذا نوع آخر! أنا أخال أنّه قد أفيض عليه إفاضات أخرى من ذلك الإناء بدلاً من ذلك النور، فهذا أيضًا يطوف ويبذل الطاقة والكالري ولكن على ماذا يحصل؟ على ماذا؟ من وجهة نظرنا نحن نقول: ما شاء الله يا له من إنسان يذكر الله ويعمل الأعمال. والملائكة يهزؤون بنا ويقولون: يا عزيزي أنت لا ترى باطنه، فطوافه فارغ، انتظر إذا فتحوا باب الكعبة لترى أنّه يقول لفلان تعال إلى مكتبي لننهي تلك المعاملة. هذه هي المسألة. لا قدّر الله أن يشيح الله بوجهه عنّا لا قدّر الله أن لا ينظر الله إلينا فحينها لا يدري الإنسان إلى أين سينتهي.
تفسير المكاشفة
ثمّ يتابع صاحب تلك المكاشفة: نظرت فرأيت أنّ نور كلّ واحد من هؤلاء الذين يطوفون حول الكعبة يمثّل جانب اتّصاله، فمستوى اتّصال العبد بالمبدأ وبإلهه هو ذلك، أي مستوى ارتباط الإنسان مستوى تعلّقه وكسبه للفيض وكسبه للنور وكسبه للبهاء وكسبه للبهجة من ذلك المبدأ الربوبيّ الذي نوره نور على الإطلاق، لا حدّ له. والألوان التي كان يتحدّث عنها كان يقول: رأيت أنّها ترجع إلى النوايا، فقد أفهموني في لحظة واحدة أنّ كلّ واحد من هؤلاء له نيّة خاصّة به، وله ارتباطه الخاصّ به، وله نوع خاصّ من الاتّصال، وعلى أساس ذلك يتمّ تنظيم ذلك النور فيصبح أحمر أو أصفر أو أبيض، يصبح شديدًا أو ضعيفًا، دقيقًا أو واسعًا، وكلّ هذا يرجع إلى ماذا؟! كلّ هذا يرجع إلى كيفيّة الارتباط.
نتيجة الكلام
فإذن وبناء على ما تقدّم، ليس في الأعمال الخارجيّة ذنوب ولا ثواب وطاعة، فالطاعة والذنب يطلق على ماذا أيّها الرفقاء؟ لا يطلق إلاّ على ذلك البعد الباطنيّ للإنسان والبعد النفسيّ للإنسان وبعد النيّة والذي على أساسه يقاس الثواب وعلى أساسه تحدّد الدرجات، فبعضهم مثلي يذهب لزيارة الإمام الرضا عليه السلام مثلاً فيبقى كما هو ولا يتغيّر إلا ثوبه، وبعضهم كالأعاظم والعرفاء والمرحوم العلاّمة والسيّد الحدّاد يذهبون لزيارة الإمام الرضا عليه السلام فيكون الإمام الرضا عليه السلام بنفسه قرينًا لهم وصاحبًا وجليسًا ويهيّئ لهم رزقهم وزادهم، فلماذا كلّ ذلك؟ هذا كلّه يرجع إلى مستوى المعرفة والفكر والهدف الذي لديهم، وينظّم على أساسه، وهم في ذلك دقيقون يخرجون الشعرة من العجين لدقّتهم في الحساب بحيث يعجب الإنسان ويتحيّر ويقول عجبًا لهذا النظام الذي يخرج الشعرة من العجين.
حسنًا نسأل الله أن يهبنا هو من عنده نعمة الفهم والدراية، ويزيد من توفيقنا في صراط أولياء الدين، ويزيد من فهمنا، وأن يرزقنا على أساس ذلك الفهم توفيق الاهتداء إلى تلك الهداية، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن لا يبعدنا عن التوسّل بأهل البيت عليهم السلام ولا يحرمنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم. صلوات.