المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
۱۰
الدَّرْسُ السَّادِسُ بَعْدَ المِائَةِ إلَى الدَّرْسِ التَّاسِعِ بَعْدَ المِائَةِ في تفسير الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلي قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.۱
قال ابن شهرآشوب: روى أبو حاتم الرازيّ أنّ [الإمام] جعفر بن محمّد [عليهما السلام] قرأ: {فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}، قال: فَإذَا فَرَغْتَ مِنْ إكْمَالِ الشَّرِيعَةِ فَانْصِبْ لَهُمْ عَلِيَّاً إمَامَاً.
الحَمْدُ لِلَّهِ الذي كَوَّنَ الأشْيَاءَ فَخَصَّ مِنْ بَينِهَا تَكْوِينَكُمْ. الرَّحْمَنِ الذي أنْزَلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ فَضَمَّنَ فِيهَا تَسْكِينَكُمْ. لَيَّنَ قُلُوبَكُمْ بِقَبُولِ مَعْرِفَتِهِ فَألْطَفَ تَلْيِينَكُمْ. وَ لَقَّنَكُمْ كَلِمَةَ تَوْحِيدِهِ فَأحْسَنَ تَلْقِينَكُمْ. وَ عَلَّمَ أذَانَ الشَّهَادَةِ فَأذَّنَ بِلُطْفِهِ تَأذِينَكُمْ. وَ مَلَّكَكُمْ في دَارِ الدِّينِ عَلَى سِرِّ (سَرِير- ظ) الإسْلَامِ فَأتَمَّ دِينَكُمْ!
أبو سعيد الخدريّ و جابر الأنصاريّ قالا: لمّا نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: اللهُ أكْبَرُ على إكْمَالِ الدِّينِ
و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي و و لا ية علي بن أبي طالب بعدي.
و روى النطنزيّ هذا الحديث في «الخصائص».
[و روى] العيّاشيّ: عن [الإمام] الصادق عليه السلام [في تفسير هذه الآية أنه قال]: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بإقامة حافظه، {وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بِوِلَايَتِنَا، {وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}، أي تَسْلِيمَ النَّفْسِ لأمْرِنَا.
[و نقل عن الإمامين]: الباقر، و الصادق عليهما السلام: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ يَومَ الغَدِيرِ. وَ قَالَ يَهُودِيّ لِعُمَرَ: لَوْ كَانَ هَذَا اليَومُ فِينَا لَاتَّخَذْنَاهُ عِيدَاً. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَ أيّ يَومٍ أكْمَلُ مِنْ هَذَا العِيدِ؟
[فقال] ابن عبّاس: إنّ النبيّ صلّى عليه و آله توفّي بعد هذه الآية بإحدى و ثمانين يوماً.۱
[و قال] السُّدّيّ: لم ينزل الله بعد هذه الآية حلالًا و لا حراماً؛ و حجّ رسول الله صلّى الله عليه و آله في ذي الحجّة و محرّم و قبض.
و روى أنه لمّا نزل: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ}، أمر الله [نبيّه] أن ينادي بولاية عليّ [بن أبي طالب]. فضاق النبيّ بذلك ذرعاً لمعرفته بفساد قلوبهم. فأنزل [الله هذه الآية]: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. ثمّ أنزل [هذه الآية]: {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. ثمّ نزل [هذه الآية]: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. و في هذه الآية خمس بشارات: إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضى الرحمن، و إهانة الشيطان، و يأس
الجاحدين. قوله تعالى: {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}.
وعيد المؤمنين [كما] في الخبر: الغدير عيد الله الأكبر.
[قال] العَوديّ:
أ مَا قَالَ إنَّ الْيَومَ أكْمَلْتُ دِينَكُمْ | *** | وَ أتْمَمْتُ بِالنَّعْمَاءِ مِنِّي عَلَيْكُمُ؟ |
وَ قَالَ: أطِيعُوا اللهَ ثُمَّ رَسُولَهُ | *** | تَفُوزُوا وَ لَا تَعْصَوا اولِي الأمْرِ مِنكُمُ؟ |
أشعار الطاهر و الحِميريّ في الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
[و قال] الطاهر:
عَيَّدَ في عِيدِ الغَدِيرِ المُسْلِمُ | *** | وَ أنْكَرَ العِيدَ عَلَيهِ المُجْرِمُ |
يَا جَإحدى المَوضِعِ وَ اليَومِ وَ مَا | *** | فَاهَ بِهِ المُخْتَارُ تَبَّاً لَكُمُ |
فَأنْزَلَ اللهُ تعالى جَدَّهُ | *** | ألْيَومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمُ |
ألْيَومَ أتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي | *** | وَ إنَّ مِنْ نَصْبِ الإمَامِ المُنْعَمُ |
[و قال] الحِميريّ:
بَعْدَ مَا قَامَ خَطِيبَاً مُعْلِنَاً | *** | يَومَ خُمٍّ بِاجْتِمَاعِ المَحْفِلِ |
قَالَ: إنَّ اللهَ قَدْ أخْبَرَنِي | *** | في مَعَارِيضِ الكِتَابِ المُنْزَلِ |
إنَّهُ أكْمَلَ دِينَاً قَيِّماً | *** | بِعَلِيّ بَعْدَ أنْ لَمْ يُكْمَلِ |
وَ هوَ مَولَاكُمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِي | *** | يَتَوَلَّى غَيْرَ مَولَاهُ الوَلِي |
وَ هوَ سَيْفِي وَ لِسَانِي وَ يَدِي | *** | وَ نَصِيرِي أبَدَاً لَمْ يَزَلِ |
وَ وَصِيِّي وَ صَفِيِّي وَ الذي | *** | حُبُّهُ في الحَشْرِ خيْرُ العَمَلِ |
نُورُهُ نُورِي، وَ نُورِي نُورُهُ | *** | وَ هوَ بِي مُتَّصِلٌ لَمْ يَفْصِلِ |
وَ هوَ فِيكُمْ في مَقَامِي بَدَلٌ | *** | وَيْلٌ لِمَنْ بَدَّلَ عَهْدَ البَدَلِ |
[و قال] قائل:
أيّ عُذْرٍ لُانَاسٍ سَمِعُوا | *** | مِنْ رَسُولِ اللهِ مَا قَالَ بِخُم |
قَالَ: قَالَ اللهُ في تَنْزِيلِهِ: | *** | إنَّ دِينَ اللهِ في ذِي اليَومِ تَم۱ |
و روى الحاكم الحسكانيّ بسنده عن أبي هارون العَبْديّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: لمّا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [على رسول الله]، قال: اللهُ أكْبَرُ [عَلَى] إكْمَالِ الدِّينِ وَ إتْمَامِ النِّعْمَةِ وَ رِضَى الرَّبِّ بِرِسَالَتِي وَ وَلَايَةِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ مَنْ بَعْدِي. ثُمَّ قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ. اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ.٢
و روى بسند آخر عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال:
إنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ دَعَا النَّاسَ إلَى عَلِيّ فَأخَذَ بِضَبْعَيْهِ فَرَفَعَهُمَا، ثُمَّ لَمْ يَتَفَرَّقَا حتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: اللهُ أكْبَرُ عَلَى إكْمَالِ الدِّينِ وَ [] إتْمَامِ النِّعْمَةِ وَ رِضَى الرَّبِّ بِرِسَالَتِي وَ الوَلَايَةِ لِعَلِيّ. ثُمَّ قَالَ لِلْقَومِ: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ. [وَ] الحَدِيثُ اخْتَصَرْتُهُ.٣
و روى الحَمُّوئيّ هذا المضمون نفسه بسنده عن أبي هارون العَبْديّ، عن أبي سعيد الخُدريّ.٤ و رواه بسند آخر عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخُدريّ بنحو مفصّل مع خمسة أبيات من قصيدة حسّان بن ثابت.٥
و رواه ابن عساكر بسنده بهذا المضمون.۱
روايات الخطيب البغداديّ و ابن عساكر و ابن مردويه في آية إكمال الدين
و روى السيوطيّ في «الدرّ المنثور» عن ابن عساكر، و ابن مردويه، و كلاهما عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: لَمَّا نَصَبَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ عَلِيَّاً يَومَ غَدِيرِ خُمٍّ فَنَادَى لَهُ بِالوَلَايَةِ، هَبَطَ جَبْرَئيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الآيَةِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.٢
و روى الحاكم الحسكانيّ أيضاً بسند آخر عن أبي هريرة، قال: مَنْ صَامَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ٣ مِنْ ذِي الحِجَّةِ كُتِبَ لَهُ صِيَامُ سِتِّينَ شَهْراً، وَ هُوَ يَومُ غَدِيرِ خُمٍّ لَمَّا أخَذَ النَّبِي صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ بِيَدِ عَلِيّ فَقَالَ: أ لَسْتُ وَلِيّ المُؤْمِنِينَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ أصْبَحْتَ مَوْلَاي وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ. وَ أنْزَلَ اللهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.٤
و روى الخطيب البغداديّ هذه الرواية بعينها مع زيادة حول اليوم السابع و العشرين من رجب، ضمن ترجمة أبي نَصر حَبْشُون بن موسى بن أيّوب الخلّال، و ذلك بسنده المتّصل عن حَبْشُون، عن ابن سعيد الرَّمْليّ، عن ضَّمْرَة بن ربيعة القُرَشيّ، عن ابن شَوْذَب، عن مَطَر الورّاق، عن شهر بن حَوْشَب، عن أبي هريرة. و قال في ذيلها: اشتهر هذا الحديث من
رواية حبشون.۱
و نقل ابن كثير الدمشقيّ في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام هذه الرواية عن الخطيب البغداديّ بنفس السند و الألفاظ.٢
و أخرج السيوطيّ ضمن تفسير هذه الآية الكريمة عن ابن مردويه، و الخطيب، و ابن عساكر، عن أبي هريرة أنه قال: لَمَّا كَانَ يَومُ غَدِيرِ خُمٍّ- وَ هُوَ يَومُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ- قَالَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلهِ] وَ سَلَّمَ: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ. فَأنْزَلَ اللهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}٣
و روى الحسكانيّ أيضاً بسند آخر، عن فُرات بن إبراهيم مسنداً عن ابن عبّاس، قال: بَيْنَمَا النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ بِمَكَّةَ أيَّامَ المَوْسِمِ إذِ الْتَفَتَ إلَى عَلِيّ فَقَالَ: هَنِيئاً لَكَ يَا [أَ] بَا الحَسَنِ، إنَّ اللهَ قَدْ أنْزَلَ عَلَيّ آيَةً مُحْكَمَةً غَيْرَ مُتَشَابِهَةِ ذِكْرِي وَ إيَّاكَ فِيهَا سَوَاءٌ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}- (الآية).٤
و روى الخطيب الخوارزميّ عن سيّد الحفّاظ: أبي منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلميّ فيما كتب إليه من همدان، قال: أخبرني أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمدانيّ كتابةً، حدّثني عبد الله بن إسحاق البغويّ، عن الحسن بن عليل الغنويّ، عن محمّد بن عبد الرحمن الزرّاع، عن قيس بن حفص، عن عليّ بن الحسين، عن أبي الحسن العبديّ، عن أبي هريرة، عن السعيديّ، عن أبي سعيد الخُدريّ أنه قال:
إنَّ النبيّ [الأكرم] يوم دعا الناس إلي غدير خمّ أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فَقُمَّ، و ذلك يوم الخميس۱ ثمّ دعا الناس إلي عليّ فأخذ بضبعه فرفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيه، حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}. فقال رسول الله: اللهُ أكْبَرُ على إكُمَالِ الدِّينِ وَ إتْمَامِ النِّعْمَةِ وَ رِضَى الرَّبِّ بِرَسَالَتِي وَ الوَلَايَةِ لِعَلِيّ. ثمّ قال: اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ.
فقال حسّان بن ثابت: يا رسول الله! أ تأذن لي أن أقول أبياتاً؟
فقال: قل على بركة الله تعالى! فقال حسّان بن ثابت: يا معشر مشيخة قريش! اسمعوا شهادة رسول الله صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ، ثمّ قال:
يُنَادِيهِمُ يَومَ الغَدِيرِ نَبِيُّهُمْ | *** | بِخُمٍّ وَ أسْمِعْ بِالرَّسُولِ٢ مُنَادِيَا |
بَأني مَوْلَاكُمْ نَعَمْ وَ وَلِيُّكُمْ | *** | فَقَالُوا وَ لَمْ يُبْدُوا هُنَاكَ التَّعَامِا |
إلهُكَ مَوْلَانَا وَ أنْتَ وَلِيُّنَا٣ | *** | وَ لَا تَجِدَنْ في الخَلْقِ لِلأمْرِ عَاصِيَا |
فَقَالَ لَهُ قُمْ يَا عَلِيّ فَإنَّنِي | *** | رَضِيتُكَ مِنْ بَعْدِي إمَامَاً وَ هَادِيَا |
فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ | *** | فَكُونُوا لَهُ أنْصَار صِدْقٍ مَوَالِيَا |
هُنَاكَ دَعَا اللَهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ | *** | وَ كُنْ لِلَّذِي عَادَى عَلِيَّاً مُعَادِيَا٤ |
و روى الخوارزميّ أيضاً بإسناده عن الحافظ أحمد بن الحسين البيهقيّ، عن الحافظ أبي عبد الله الحاكم، عن أبي يَعْلى الزبير بن عبد الله الثوريّ، عن أبي جعفر البزّاز، عن عليّ بن سعيد الرَّمْليّ، عن ضَمْرَة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق، روى نفس الرواية التي نقلناها عن الحاكم الحسكانيّ في «شواهد التنزيل» و عن الخطيب البغداديّ في «تاريخ بغداد» و التي جاء فيها نزول هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} يوم غدير خمّ.۱
روايات ابن المغازليّ و الحمّوئيّ في آية إكمال الدين
و رواها ابن المغازليّ بالأسناد المذكورة عن أبي بكر أحمد بن محمّد بن طاوان، عن أبي الحسين أحمد بن الحسين: ابن السمّاك، عن أبي محمّد جعفر بن محمّد بن نصير الخُلْديّ، عن عليّ بن سعيد بن قُتيبة الرمليّ، عن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: من صام يوم ثماني عشرة خلت من ذي الحجّة كتب [الله] له صيام ستّين شهراً، و هو يوم غدير خمّ، لمّا أخذ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بيد عليّ بن أبي طالب، و قال: أ لَسْتُ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ؟! قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: مَنْ كُنْتُ
مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ. فَأنْزَلَ اللهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.۱
و روى العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه مثل هذه الرواية المتقدّمة عن الخطيب البغداديّ، الشاملة لإذن نزول الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، و ذلك عن كتاب «المناقب» لابن مردويه، و كتاب «شرقات الشعر» للمرزبانيّ، عن أبي سعيد الخدريّ.٢
و روى شيخ الإسلام الحمُّوئيّ هذه الرواية التي نقلناها عن الخوارزميّ بسندين: أحدهما: عن الشيخ تاج الدين أبي طالب: عليّ بن أنجَب بن عثمان بن عبيد الله الخازن، عن الإمام برهان الدين: ناصر بن أبي المكارم المُطَرَّزيّ، عن الخوارزميّ بسنده عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخدريّ، إلي أن قال: ثمّ لم يتفرّقا حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}. و بعد أن يذكر استئذان حسّان رسول الله لإنشاد شعره، ينقل أربعة أبيات من أبياته.٣
و الثاني بهذا السند نفسه، عن الخوارزميّ بسنده الآخر نقلناه عن سيّد الحفّاظ: أبي منصور شهردار بن شيرويه، عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخدريّ. نقل قصّة الغدير و قال: ثمّ لم يتفرّقا حتّى نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً}. ثمّ ذكر استئذان حسّان و أبياته التي نقل منها خمسة أبيات، ثمّ قال: قال المؤلّف: هذا هو حديث الغدير، و له طرق كثيرة إلى أبي سعيد الخدريّ: سعد بن مالك الخدريّ الأنصاريّ.۱
و روى أبو نعيم الإصفهانيّ في كتابه الموسوم بـ «نزل القرآن في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام» يرفعه إلى عليّ بن عامر، عن أبي الحَجَّاف، عن الأعمش، عن عطيّة، أنه قال: «نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في عليّ بن أبي طالب عليه السلام: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}؛ و قد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.٢
و روى أبو نعيم أيضاً في كتابه «نزول القرآن» يرفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخدريّ قال: «إنّ رسول الله دعا الناس إلى عليّ [بن أبي طالب عليه السلام] في غدير خمّ، و أمر بما تحت الشجرة من شوك فَقُمَّ، و ذلك في يوم الخميس. فدعا عليّاً عليه السلام فأخذ بضبعيه فرفعهما حتّى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله،٣ ثمّ
لم يفترقوا حتّى نزلت هذه الآية:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}. فقال رسول الله: اللهُ أكْبَرُ على إكُمَالِ الدِّينِ، وَ إتْمَامِ النِّعْمَةِ، وَ رِضَى الرَّبِّ بِرَسَالَتِي وَ الوَلَايَةِ لِعَلِيّ عَلَيه السَّلَامُ مِنْ بَعْدِي. ثمّ قال: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ، اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ! وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ! وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ! وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ!
ثمّ قام حسّان و أنشد أبياته، و ذكر الأبيات التالية بعد الأبيات التي نقلناها سابقاً:
فَقَالَ لَهُ قُمْ يَا عَلِيّ فَإنَّنِي | *** | رَضِيتُكَ مِنْ بَعْدِي إمَامَاً وَ هَادِيَا |
فَمَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذَا وَلِيُّهُ | *** | فَكُونُوا لَهُ أنصَارَ صِدْقٍ مُوَالِيَا |
هُنَاكَ دَعَا اللَهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ | *** | وَ كُنْ لِلَّذِي عَادَي عَلِيَّاً مَعَادِيَا۱ |
روايات سبط بن الجوزيّ و السيّد الرضيّ في آية إكمال الدين و ...
قال أبو المظفّر سبط بن الجوزيّ: روى أحمد بن ثابت الخطيب، عن عبد الله بن عليّ بن محمّد بن بشر، عن عليّ بن عمر الدارقطنيّ، عن أبي النضر: حَبْشون بن موسى بن أيّوب الخلّال، مرفوعاً عن أبي هريرة، و قال في آخره: عند ما قال النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ، نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}- (الآية).٢
و روى السيّد الرضيّ في كتاب «المناقب الفاخرة» عن محمّد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن جدّه قال: لمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه و آله من حجّة الوداع، نزل أرضاً يقال لها: صَوْجان. فنزلت هذه الآية: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
فلمّا نزلت عصمته من الناس، نادي: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فاجتمع الناس إليه، و قال: مَن أولَى بِكُمْ مِنْ أنْفِسِكُمْ؟! فضجّوا بأجمعهم، و قالوا: اللهُ وَ رَسُولُهُ! فأخذ بيد عليّ و قال: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ. اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ! وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ! وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ! وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ! لأنهُ مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ، وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَا أنهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و كان نصب أمير المؤمنين آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمّة محمّد. ثمّ أنزل الله على نبيّه هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.
قال أبو جعفر [الباقر عليه السلام] فقبلوا من رسول الله صلّى الله عليه و آله كلّ ما أمرهم الله من الفرائض في الصلاة، و الصوم، و الزكاة، و الحجّ، و صدّقوه على ذلك- (الحديث).۱
و ذكر ابن كثير الدمشقيّ في تفسيره قائلًا: قال ابن جرير: و قد قيل إنَّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم في مسيره إلى حجّة الوداع. ثمّ رواه من طريق أبي جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس.
ثمّ قال: و قد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبديّ، عن
أبي سعيد الخدريّ: هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يوم غدير خمّ حين قال لعليّ: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ. ثمّ رواه عن أبي هريرة. و فيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، يعني مرجعه من حجّة الوداع.۱
و ذكر ابن كثير في تأريخه أنَّ ضمرة روى عن ابن شَوْذَب، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: لمّا أخذ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم بيد عليّ قال: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ، فأنزل الله عزّ و جلّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}. و قال أبو هريرة: و هو يوم غدير خمّ، و صومه يعدل صوم ستّين شهراً.٢
إنَّ الروايات التي اثرت عن طريق الشيعة و ثبّتها أعلامهم في كتب التفسير و الحديث كعليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره، و الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّيّ في «الأمالي»، و الشيخ أبي عليّ الطبرسيّ في تفسير «مجمع البيان»، و الشيخ الطوسيّ في كتاب «الأمالي»، و محمّد بن مسعود العيّاشيّ في تفسيره، و الشيخ أبي منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسيّ في «الاحتجاج» و أبي عليّ الفتّال النيسابوريّ في «روضة الواعظين» و غيرهم، كثيرة جدّاً، و كلّهم اتّفقوا على نزول هذه الآية في غدير خمّ، بدون أن يذكروا أحداً من الشيعة خالف ذلك. و نقل السيّد الأجلّ المحدّث البحرانيّ، و هو من العلماء الكبار، خمس عشرة رواية في هذا الصدد.٣
و روى عليّ بن عيسى الإربليّ عن صديقه المعاصر له: البدخشانيّ الحنبليّ الموصليّ في كتاب «مفتاح النَّجَا في مناقب آل العبا» الذي ينقل عنه كثيراً من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام و شأن نزول الآيات فيه، روي عن أبي سعيد نزول الآية الشريفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} في غدير خمّ. ثمّ قال: رفع النبيّ يد عليّ عليه السلام فنزلت [هذه الآية] فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: اللهُ أكْبَرُ على إكْمَالِ الدِّينِ، وَ إتْمَامِ النِّعْمَةِ، وَ رِضَى الرَّبِّ بِرَسَالَتِي وَ الوَلَايَةِ لِعَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.۱
و بعد ذكر آيات نزلت في الإمام عليه السلام، قال: هذا ما نقلته ممّا نزل فيه عليه السلام من طريق الجمهور، فإنَّ الغرّ المحدّث كان صديقنا و كنّا نعرفه و كان حنبليّ المذهب، و ابن مردويه و إن كان قد جمع كتاباً في مناقب أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام اجتهد فيه و بالغ فيما أورده و لم يألُ جهداً، فقد أورد فيه مواضع لا يقو لها الشيعة و لم يوردوها [في كتبهم]، [و لكنّي] لم أذكر نزول القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام من طرق أصحابنا، دفعاً للمكابرة، و استغناءً بما نقلوه [العامّة] من مناقب عليّ بن أبي طالب [في كتبهم].٢
عمل الناس بأربع، و تركوا الولاية
و بعد أن روى شعر حسّان بن ثابت ضمن حديث في الغدير، قال: رُوي عن ابن هارون العبديّ (الذي روي شأن نزول آية إكمال الدين عن أبي سعيد الخدريّ) أنه قال: «كنت أرى رأي الخوارج لا رأي لي غيره
حتّي جلست إلى أبي سعيد الخدريّ، فسمعته يقول: امر الناس بخمس، فعملوا بأربع و تركوا واحدة. فقال له رجل: يا أبا سعيد، ما هذه الأربع التي عملوا بها؟!
قال [أبو سعيد]: الصلاة، و الزكاة، و الحجّ، و الصوم صوم شهر رمضان. قال: فما الواحدة التي تركوها؟! قال [أبو سعيد]: وَلَايَةِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ! قال [الرجل]: و إنّها مفترضة معهنّ؟! قال [أبو سعيد]: نعم. قال [الرجل]: فقد كفر الناس [الذين لا ولاية لهم]! قال [أبو سعيد]: فما ذنبي؟!۱
أجل، كما قلنا فإنّ أيّاً من علماء الشيعة الأعلام لم يذكر نزول آية إكمال الدين في غير يوم الغدير، و هم مجمعون على شأن نزولها في الولاية و عند خطبة الرسول الأعظم.
العامّة يقولون غالباً: نزلت آية إكمال الدين في يوم عرفة
أمّا علماء العامّة، فإنَّهم رووا ذلك عن أبي سعيد الخدريّ، و أبي هريرة، و جابر بن عبد الله، و مجاهد المكّيّ، و الإمام محمّد الباقر، و الإمام جعفر الصادق عليهما السلام. و ذكرها كبارهم الذين نقلنا عن كتبهم بلا إشكال يذكر، بيد أنَّ أغلبهم يعتقد أنَّ الآية نزلت في عصر يوم عرفة في حجّة الوداع.
قال السيوطيّ: و من الآيات التي نزلت على رسول الله و هو في السفر قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. و في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشيّة عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع. و له طرق كثيرة، لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ أنها نزلت يوم غدير خمّ.
و أخرج مثله من حديث أبي هريرة. و فيه أنه اليوم الثامن عشر من
ذي الحجّة، مرجعه من حجّة الوداع. و كلاهما لا يصحّ.۱
و قال ابن كثير الدمشقيّ: لا يصحّ الحديثان كلاهما، بل الصواب الذي لا شكّ فيه و لا مرية أنها نزلت يوم عرفة، و كان يوم جمعة، كما روي ذلك عن عمر بن الخطّاب، و عليّ بن أبي طالب، و أوّل ملوك الإسلام: معاوية بن أبي سفيان، و ترجمان القرآن: عبد الله بن عبّاس، و سَمُرة بن جُنْدب. و أرسله الشعبيّ و قتادة بن دعامة، و شهر بن حوشب، و غير واحد من الأئمّة و العلماء؛ و اختاره ابن جرير الطبريّ أيضاً.٢
و قال في تأريخه بعد عرض حديث ضمرة عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة لمّا أخذ رسول الله يد عليّ و قال: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَولَاهُ، و أنزل الله عزّ و جلّ الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، و قال أبو هريرة: و هو يوم غدير خمّ، من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستّين شهراً: فإنّه حديث منكر جدّاً، بل كذب لمخالفته ما ثبت في الصحيحين (صحيح البخاريّ، و صحيح مسلم) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب أنَّ هذه الآية نزلت في يوم الجمعة يوم عرفة، و رسول الله واقف في عرفات.٣
و قال في تفسيره أيضاً: ذكر الإمام أحمد بسنده عن طارق بن شهاب أنه قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنّكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً! قال عمر: و أيّ آية؟ قال اليهوديّ: قوله: ألْيَومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَ أتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. فقال عمر: و الله إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله، و الساعة التي نزلت فيها على رسول الله: عشيّة عرفة في يوم الجمعة.
و رواه البخاريّ عن الحسن بن الصبّاح، عن جعفر بن عون، عن عمر. و رواه أيضاً مسلم، و الترمذيّ، و النسائيّ من طرق عن قيس بن مسلم، عن عمر.۱
عدم نزول آية الإكمال في يوم عرفة
و نحن نتمسّك فيما يلي بوجهين لإثبات بطلان هذه الأحاديث، و تقرير نزول الآية في الغدير.
الأوّل: ما اتّفق عليه أهل السير و الآثار من أهل السنّة أنَّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله بقي بعد نزول آية إكمال الدين أحداً و ثمانين يوماً أو اثنين و ثمانين ثمّ رحل إلى دار البقاء؛ و كذلك يقول مؤرّخوهم: إنَّ رحلته كانت في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل.
يقول الفخر الرازيّ في تفسيره: قال أصحاب الآثار: لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ [الأكرم] صلّى الله عليه [و آله] و سلّم لم يعمر بعد نزولها إلّا أحداً و ثمانين يوماً أو اثنين و ثمانين يوماً. و لم يحصل في الشريعة بعدها زيادة و لا نسخ و لا تبديل البتة. و كانت هذه الآية جارية مجرى إخبار رسول الله عن قرب وفاته. و هذا إخبار عن الغيب، فيكون معجزاً.٢
و من الذين ذهبوا إلى أنَّ المدّة كانت أحداً و ثمانين يوماً: أبو السُّعُود في تفسيره.٣
و قال ابن كثير الدمشقيّ في ذكر وفيّات السنة الحادية عشرة من الهجرة: توفّي في هذه السنة رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ. و ذلك في ربيعها الأوّل يوم الاثنين ثاني عشره على المشهور.۱
و هذا ينسجم تماماً مع الرأي القائل: إنَّ آية إكمال الدين نزلت في يوم الغدير، لأننا إذا لم نحسب يوم الغدير و حسبنا يوم الوفاة- كما يفعلون عادة في حساب الأيّام إذ يُسقطون اليوم الأوّل أو الأخير منها- و كان كلّ واحد من الشهور الثلاثة المتوالية: ذي الحجّة، و المحرّم، و صفر تسعة و عشرين يوماً،٢، فإنَّ بين عيد الغدير و يوم الوفاة أحداً و ثمانين يوماً، و إذا كان شهران منهما كلّ واحد تسعة و عشرين يوماً، و شهر ثلاثين يوماً، فستكون المدّة اثنين و ثمانين يوماً.
و من الواضح أنَّ هذا الحساب يستبين عند ما يكون نزول الآية في
يوم الغدير، أي: اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، بيد أننا إذا افترضنا أنها نزلت في يوم عرفة، أي: اليوم التاسع، فإنَّ المدّة بين نزول الآية و وفاة رسول الله ستكون تسعين يوماً أو واحد و تسعين يوماً. و هذا خلاف ما نصّ عليه العامّة أنفسهم، إذ لم يذكر أحد منهم هذه المدّة.
الثاني: أنَّ الآية الكريمة: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} تدلّ على أنَّ الدين كامل، و أنَّ جميع الأحكام و التعاليم قد نزلت و لم يبق شيء منها، لا حلال و لا حرام حتّى انتقل النبيّ إلى ربّه. و وردت أحاديث تنسجم مع هذا المعنى، و نحن نعلم أنَّ بعض الأحكام نزلت بعد عرفة كوجوب الموالاة في يوم الغدير، و إن لم يحملها العامّة على الإمامة و الخلافة، و كآية الربا، و الدَّيْن، و إرث الكلالة،۱ و بعامّة الآيات الواردة في سورة المائدة التي نزلت بين يوم عرفة و يوم الغدير. لأنَّ العامّة يتّفقون معنا على أنَّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع.٢
و قد التفت السيوطيّ في كتاب «الإتقان» إلى هذا الإشكال المثار ضدّ اولئك الأشخاص، و قال هذا: «من المشكل على ما تقدّم قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنّها نزلت بعرفة عام حجّة الوداع، و ظاهرها إكمال جميع الفرائض و الأحكام قبلها. و قد صرّح بذلك جماعة منهم السدّيّ فقال: لم ينزل بعدها حلال و لا حرام، مع أنه وارد في آية الربا و الدَّين و الكلالة أنها نزلت بعد ذلك. و قد استشكل ذلك ابن جرير، و قال: الأولى
أن يتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام و إجلاء المشركين عنه حتّى حجّه المسلمون لا يخالطهم المشركون.
ثمّ أيّد [ابن جرير هذا التأويل] بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس، قال: كان المشركون و المسلمون يحجّون جميعاً فلمّا نزلت سورة براءة، نُفي المشركون عن البيت و حجّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين. فكان ذلك من تمام النعمة التي أنعمها الله: {وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}»۱
و من الواضح أنَّ تأويل ابن جرير لا يدفع الإشكال، لأنَّ الآية ظهوراً في كمال الدين و تمام النعمة بشكل مطلق، و لا يتسنّى تسمية الدين كاملًا و هو يحمل نقصاً في الأحكام التي تكتمل فيما بعد. و على الرغم من أنَّ نفي المشركين كان نعمة إجمالًا، إلّا أنه ليس تمام النعمة بنحو مطلق، و كمال الدين بشكل عام. فلهذا اكتفى السيوطيّ بذكر تأويل ابن جرير و تبريره فحسب، و لم يقف عند الموضوع، و لم يذكر شيئاً من عنده لدفع الإشكال الوارد. يضاف إلى ذلك، أننا نعلم أنَّ سورة براءة و نفي المشركين من المسجد الحرام يختصّ بالسنة التاسعة من الهجرة، فينبغي أن تكون الآية قد نزلت في ذلك اليوم، و كلمة {الْيَوْمَ} ظرف زمان لذلك اليوم. و حينئذٍ فما معنى نزول آية إكمال الدين بلفظ اليوم بعد مضيّ سنة على نزول آية البراءة؟
عرض تفصيليّ حول نزول آية الإكمال
كان هذا جواباً موجزاً ذكرناه لإبطال الأحاديث الواردة عن العامّة. و أمّا الجواب الشافي و الوافي فهو يتمثّل في معارضة هذه الأحاديث للقرآن الكريم. و بناءً على عدم حجّيّة الأخبار المعارضة للكتاب، فإنَّ هذا كلّه
باطل و مُلغى و مضروب به عرض الجدار.
و بعبارة أبسط، يعارض مفاد الآية نفسها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، و على هذا فإنَّ معنى هذه الآية و مفادها يحكمان ببطلان تلك الأحاديث. و لا بدّ أن نتعرّف على تفسير الآية المباركة توضيحاً لهذا المعنى:
لا ريب أنَّ جملة: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، و جملة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} مترابطتان في المفهوم و متقاربان في المضمون. لظهور ما بين يأس الكفّار من دين المسلمين و بين إكمال دين المسلمين من الارتباط، و قبول المضمونين لأن يمتزجا فيتركّب منهما جملة واحدة مرتبطة الأجزاء، و المعنى بصورة تامّة و كاملة. مضافاً إلى ما نراه من الاتّحاد في السياق بين الجملتين.
و يؤيّد ذلك أنَّ السلف و الخلف من مفسّري الصحابة و التابعين و المتأخّرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متّصلتين و مرتبطتين يتمّ بعضهما بعضاً، و ليس ذلك إلّا لأنهم فهموا من هاتين الجملتين معنى واحداً، و بنوا على نزولهما معاً، و اجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.
و ينتج ذلك أنَّ قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى قوله: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} كلام واحد متّصل الأجزاء مسوق لغرض واحد، قائم بمجموع الجملتين من غير تشتّت في المفاد و المعنى سواء قلنا بارتباطه بآية محرّمات الطعام أو لم نقل، فإنَّ ذلك لا يؤثّر البتّة في كون هذا المجموع كلاماً واحداً له معنى و مضمون واحد و قد جاء بصورة جملة معترضة لا كلامين ذوي غرضين. و أنَّ إليوم المتكرّر في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، و قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} اريد به يوم واحد يئس فيه الكفّار من التسلّط على دين المسلمين و إزالة صورته و أحكامه، و اكمل فيه
الدين.
ما هو المراد باليوم في آية الإكمال؟
و الآن لِنَرَ، ما المراد بهذا اليوم المتكرّر .. و أيّ يوم هو ..؟ هل المراد به الزمن الوسيع و المتّسع، كما يقال: كنتُ طفلًا أمس، و اليوم صرت شابّاً. أو كنت جاهلًا أمس، و اليوم أصبحت عالماً؟ أو المراد به زمان ظهور الإسلام ببعثة النبيّ صلّى الله عليه و آله و دعوته، فيكون المراد: أنَّ الله أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين، و أتمّ عليكم النعمة، و أيأس منكم الكفّار؟
لا يصحّ هذا الاحتمال لأنَّ ظاهر سياق الآية أنه كان للمسلمين دين و كان الكفّار يطمعون في إبطاله و تغييره، و كان المسلمون يخشون من طمع الكفّار لتخريب و إزالة دينهم فأيأس الله الكافرين من الاعتداء و التسلّط على دين المؤمنين و آمن المسلمين. إنَّ الدين كان ناقصاً فأكمله الله و أتمّ نعمته عليهم. و قبل الإسلام لم يكن للمسلمين ديناً حتّى يطمع فيه الكفّار أو يكمله الله و يتمّ نعمته عليهم.
يضاف إلى ذلك و وفقاً لهذا الاحتمال أنَّ قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ينبغي أن يتقدّم على قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} حتّى يستقيم الكلام في نظمه.
أو أنَّ المراد باليوم في الآية الكريمة هو ما بعد فتح مكّة حيث أبطل الله فيه كيد و مكر مشركي قريش، و أذهب شوكتهم و عظمتهم، و هدم فيه بنيان دينهم، و حطّم أصنامهم، فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، و يضادّوا الإسلام و يمانعوا نفوذ أمره و انتشار صيته.
و لا يصحّ هذا الاحتمال أيضاً لأنَّ الآية تدلّ على إكمال الدين و إتمام النعمة. و لمّا يكمل الدين بفتح مكّة في السنة الثامنة من الهجرة. فكم من الفرائض و الواجبات قد نزلت بعد ذلك، و كم كثير من الحلال و الحرام
شرّع فيما بينه و بين رحلة رسول الله.
يضاف إلى ذلك، أنَّ المراد من قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} يعمّ جميع مشركي العرب. و لم يكونوا آيسين من الاعتداء و تحطيم دين الإسلام بعد فتح مكّة، و الدليل على ذلك أنَّ كثيراً من المواثيق على عدم التعرّض كانت باقية بعد على اعتبارها و احترامها. و كان مشركو العرب يحجّون على سنّة الجاهليّة. {وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً}.۱ و كانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة.٢
و كان هذا المنهج مستمرّاً حتّى بعث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السلام بآيات البراءة من المدينة إلى مكّة في السنة التاسعة من الهجرة فأبطل بقايا آداب و رسوم الجاهليّة و تقاليدها.
أو أنَّ المراد باليوم، ما بعد نزول سورة براءة، حيث بسط الإسلام آنذاك سيطرته على جزيرة العرب تقريباً، و انمحت آداب و آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهليّة. فما كان المسلمون يرون في المحافل الدينيّة و مناسك الحجّ أحداً من المشركين، و صفا لهم الأمر، و أبدلهم الله بعد خوفهم أمناً يعبدونه و لا يشركون به شيئاً.
و لا يصحّ هذا الاحتمال أيضاً، فإنَّ مشركي العرب و إن يئسوا من دين المسلمين بعد نزول سورة براءة، و طيّ بساط الشرك من الجزيرة العربيّة، و إعفاء تقاليد الجاهليّة، إلّا أنَّ الدين لم يكمل بعد، و قد نزلت فرائض و أحكام بعد سورة براءة، و منها ما في هذه السورة (سورة المائدة).
و اتّفقوا على نزولها في آخر عهد النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و فيها شيء كثير من أحكام الحلال و الحرام و الحدود و القصاص. فتحصَّل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية الكريمة معناه الوسيع ممّا يناسب مفاد الآية في أوّل نظرة كزمان ظهور الدعوة الإسلاميّة، أو ما بعد فتح مكّة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة. فلا سبيل إلّا أن يقال: إنَّ المراد باليوم يوم نزول الآية نفسها.
و ذلك اليوم هو يوم نزول السورة إن كان قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} في وسط آية حرمة الطعام مرتبطاً بها بحسب المعنى، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد رسول الله، ثمّ جعلوها هنا بقرينة قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
فهل المراد باليوم يوم فتح مكّة بعينه؟ أو يوم نزول سورة براءة؟! و تثار هنا نفس الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني و الثالث المتقدّمين.
أو أنَّ المراد باليوم هو يوم عرفة من حجّة الوداع كما ذكر كثير من مفسّري العامّة، و به وردت بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذٍ من دين المسلمين؟ فإن كان المراد بالياس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين، فقد كان ذلك يوم فتح مكّة عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة. و إن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك، فقد كان ذلك عند نزول سورة براءة، و هو في السنة التاسعة من الهجرة. و إن كان المراد به يأس جميع الكفّار الشامل لليهود، و النصارى، و المجوس، و غيرهم- و ذلك الذي يقتضيه إطلاق قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا}- فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين بعد، و لمّا تظهر للإسلام قوّة و شوكة و غلبة في خارج الجزيرة العربيّة يومئذٍ.
و من جهة اخرى، يجب أن نتأمّل و نرى: ما ذا حدث يوم عرفة من حجّة الوداع، و هو التاسع من ذي الحجّة السنة العاشرة من الهجرة؟ و ما هو شأن ذلك اليوم حتّى يناسب قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}؟
فربّما أمكن أن يقال: إنَّ المراد به إكمال الحجّ بحضور رسول الله صلّى الله عليه و آله بنفسه فيه، و تعليمه الناس تعليماً عمليّاً مشفوعاً بالقول.۱
و هذا لا يصحّ، لأنه يسمّى مجرّد تعليمه الناس مناسك حجّهم إكمالًا للدين؟ و نحن نعلم أنَّ النبيّ الأكرم كان قد شرّع أركان الدين من صلاة و صوم و حجّ و زكاة و جهاد قبل الحجّ، و في حجّة الوداع أيضاً حيث علّمهم حجّ التمتّع، ثمّ ما لبثت أن صارت هذه السُّنَّة السَّنِيَّة مهجورة و هذه الفريضة الإلهيّة متروكة.
و كيف يصحّ أن يسمّي تعليم شيء من واجبات الدين إكمالًا لذلك الواجب فضلًا عن أن يسمّى تعليمهم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين؟
يضاف إلى ذلك، أنَّ هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الاولى، أعني قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} بهذه الفقرة، أعني قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. و أيّ ربط ليأس الكفّار عن الدين بتعليم رسول الله حجّ التمتّع للناس؟
و ربّما أمكن أن يقال: إنَّ المراد بإكمال الدين من جهة بيان و نزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده و لا حرام، و بإكمال الدين استولى الياس على قلوب الكفّار، و لاحت آثاره على وجوههم.۱
لكن يجب أن نتبصّر في تمييز هؤلاء الكفّار الذين عبّر عنهم في الآية بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} على هذا التقدير و أنهم من هم؟ فإن اريد بهم كفّار العرب، فقد كان الإسلام عمّهم يومئذٍ و لم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام، فمن هم الكفّار الآيسون؟
و إن أريد بهم الكفّار من غير العرب من الامم و الطوائف، فقد عرفنا آنفاً أنهم لم يكونوا آيسين يومئذٍ من الظهور على المسلمين.
يضاف إلى ذلك، ينبغي أن نرى ما المراد بانسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة و انقضاء يوم عرفة؟ فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بعددها في نزول أحكام و فرائض بعد يوم عرفة، كما في آية الكلالة في آخر سورة النساء، و آيات الربا. حتّى أنه روي عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولًا آية الربا، و أنه مات رسول الله و لم يبيّنه لنا، فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إلَى مَا لَا يُرِيبُكُمْ.
و روى البخاريّ في الصحيح عن ابن عبّاس، قال: آخر آية نزلت على رسول الله آية الربا. و ليس للعالم بطرق الاستفادة من الروايات و من كتاب الله أن يضعّف هذه المجموعة من الروايات، و يقدّم آية الإكمال في
يوم عرفة عليها، لأنَّ الآية الكريمة ليست بصريحة و لا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها يوم عرفة بعينه. و إنّما هو وجه محتمل يتوقّف في تعيّنه على انتفاء كلّ احتمال ينافيه، و هذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرّد عن السند.
و ربّما أمكن أن يقال: إنَّ المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام للمسلمين، و إجلاء المشركين عنه حتّى حجّه المسلمون و هم لا يخالطهم المشركون.۱
و هذا الكلام لا يصحّ أيضاً، و ذلك أنه كان قد صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. على أنه لو سُلّم كون صفاء الجوّ هذا و خلوص بيت الله إتماماً للنعمة، لم يسلّم كونه إكمالًا للدين.
و الدين عبارة عن مجموعة من عقائد و أحكام، و ليس إكماله إلّا أن يضاف إلى عدد أجزائها و أبعاضها عدد. و أمّا خلوص بيت الله الحرام فلا يسمّى إكمالًا للدين، لأنَّ ارتفاع الموانع و العقبات عن أبعاض و أجزاء الدين لا يدعى إكمالًا. على أنَّ إشكال يأس الكفّار من الدين على حاله.
و يمكن أن يقال: إنَّ المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرّمات بياناً تفصيليّاً ليأخذ به المسلمون و يطبّقوه. أي: يجتنبوا المحرّمات و لا يخشوا الكفّار في ذلك، لأنَّ الكفّار قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين و إظهار دينهم و تغليبهم على الكفّار.
توضيح ذلك: أنَّ حكمة الاكتفاء في أوّل الإسلام بذكر محرّمات
الطعام الأربعة [أي: الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما اهِلَّ لغير الله به] الواردة في بعض السور المكيّة، و ترك تفصيل ما يندرج فيها ممّا كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكّة إنّما هي التدرّج في تحريم هذه الخبائث و التشديد فيها، كما كان التدرّج في تحريم الخمر لئلّا ينفر العرب من الإسلام و لا يرون فيه حرجاً عليهم، خصوصاً أن الكفار كانوا يأملون أن يرتدَّ إليهم من آمن من الفقراء و هم أكثر السابقين الأوّلين.
جاء هذا التفصيل للمحرّمات بعد قوّة الإسلام، و توسعة الله على أهله و إعزازهم، و بعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه و فرارهم من تكاليفه، و زال طمعهم في الظهور عليهم، و إزالة دينهم بالقوّة القاهرة. فكان المؤمنون أجدر بأن لا يبالوهم بمداراتهم، و أن لا يخافوهم على أنفسهم و على دينهم.
فالله سبحانه يخبر المؤمنين في هذه الآية أنَّ الكفّار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم و أنه ينبغي لهم- و قد بدّلهم بضعفهم قوّة، و بخوفهم أمناً، و بفقرهم غني- أن لا يخشوا غيره تعالى، [و ينتهوا عن تفاصيل المحرّمات التي نهى الله عنها في الآية، ففيها كمال دينهم].۱
إنَّ هذا القائل أراد الجمع بين عدّة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكلّ احتمال ما يتوجّه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال. فتورّط بين المحاذير برمّتها و أفسد لفظ الآية و معناها جميعاً.
أوّلًا: غفل عن أنَّ المراد بالياس إن كان هو الياس المستند إلى ظهور الإسلام و قوّته، و هو ما كان بفتح مكّة أو بنزول آيات سورة براءة و قراءتها
على المشركين في عقبة منى من قبل أمير المؤمنين عليه السلام، لم يصحّ أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم. و قد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين. و إنّما ينبغي أن يقال: قَدْ يَئِسُوا، أو إنَّهُمْ آيسُونَ.
ثانياً: و غفل عن أنَّ هذا التدرّج الذي ذكره في محرّمات الطعام، و قاس تحريمها بتحريم الخمر، إن اريد به التدرّج من حيث تحريم بعض الأفراد بعد بعض، فلا يصحّ. لأنَّ هذه الآية الواردة في سورة المائدة لا تشتمل على أزيد ممّا تشتمل عليه آيات البقرة، و الأنعام، و النحل، من محرّمات الطعام. و أنَّ الْمَوْقُوذَة، و الْمُنْخَنِقَة، و الْمُتَرَدِّيَة، و النَّطِيحَة، و مَا أكَلَ السَّبُع هي من أفراد الميتة التي جاءت حرمتها في آيات تلك السور. {وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} من مصاديق و أفراد مَا
{أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في سورة النحل. و هذه الآية في سورة المائدة لا تبيّن شيئاً أكثر ممّا تبيّنه آيات السور الثلاث من حيث تعداد المحرّمات.
و إن اريد التدرّج من حيث البيان الإجماليّ و التفصيليّ، إذ ذكره الله إجمالًا أوّلًا، ثمّ فصّله ثانياً خوفاً من امتناع الناس من القبول، فلا يصحّ أيضاً. لأنَّ مصاديق و أفراد المحرّمات التي تدخل تحت عنوان الميتة، و لحم الخنزير، و الدم، و ما اهلّ به لغير الله، و التي جاءت في السور الثلاث النازلة قبل سورة المائدة، هي أكثر من المحرّمات الواردة في سورة المائدة، و ابتلاء الناس بها أكثر من أمثال الْمُنْخَنِقَة، الْمَوْقُوذَة، و الْمُتَرَدِّيَة، و النَّطِيحَة، و مَا أكَلَ السَّبُع، لأنها امور نادرة التحقّق، و الناس- عادة- لا يقتلون ذبائحهم بالخنق، أو الإرداء، أو الوقذ، أو النطح. نعم، لو قدّر وقوع هذه الأشياء، لما رأى الناس بأساً في أكلها.
و حينئذٍ كيف يصرّح الله بحرمة هذه الأشياء الأربعة: الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما اهلّ لغير الله به، و هي تقع أكثر و لها أهميّة كبرى، يصرّح بحرمتها من غير خوف يظهر بين الناس، و يذكر أشياء غير مهمّة قلّما تطرأ على سبيل التقيّة، و يحرّمها تدريجيّاً لئلّا يعرض الناس عن الدين؟
و ثالثاً: على فرض التسليم، فإنَّ تشريع الأحكام و بالأخصّ تشريع بعضها ليس إكمالًا للدين. و في هذا الفرض يجب أن يقال: اليوم أكملت لكم بعض دينكم و أتممت عليكم بعض نعمتي.
و رابعاً: كيف خصّ الله يوم عرفة بتشريع عدد من أحكام المنخنقة و الموقوذة فيه و سمّى بيان حرمتها إكمالًا للدين و إتماماً للنعمة، مع تشريعه أحكاماً و قوانين كثيرة في أيّام اخرى؟ هنا موضع تأمّل.
و يمكن أن يقال: إنَّ المراد بإكمال الدين إكماله بسدّ باب التشريع بعد هذه الآية المبيّنة لتفصيل محرّمات الطعام، فلم ينزل حكماً آخر، و لذلك كمل الدين.
و هنا يجب أن نقول: ما شأن الأحكام النازلة ما بين نزول سورة المائدة و وفاة رسول الله؟ بل ما شأن سائر الأحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟
و بعد ذلك كلّه: ما معنى قوله تعالى: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}؟ لأنَّ تقديره: ألْيَومَ رَضِيتُ. و لو كان المراد بهذه الآية الامتنان على الناس بما ذكر من محرّمات الطعام يوم عرفة، فما وجه اختصاص هذا اليوم بأنَّ الله سبحانه و تعالى رضي فيه الإسلام ديناً؟ لأنه لا أمر يختصّ به اليوم ممّا يناسب هذا الرضا.
و يرد على هذا الاحتمال أكثر الإشكالات الواردة على الوجوه السابقة.
استنباط معنى اليوم من الآية نفسها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
و الآن بعد أن علمنا أنَّ هذه الاحتمالات المطروحة حول معنى اليوم في الآية الكريمة لا تصحّ، نقترب إلى القول بأننا نستطيع أن نحصل على معنى اليوم في الآية من الآية نفسها. و لتحقّق هذا المعنى نقول مستهلّين:
إنَّ ما يستفاد من الآيات القرآنيّة هو أنَّ الكافرين كانوا يكيدون للإسلام منذ بزوغ شمسه، و كانوا يعتزمون اجتثاث جذوره، و يتمنّون زواله منذ أيّامه الاولى. و أمرهم هذا هو الذي كان يسبّب القلق و المشاكل للمسلمين بأشكال متنوّعة، و يظهر في كلّ يوم بشكل أو بآخر. و كان من حقّ المؤمنين أن يحذروا منه و يخشوه.
قال تعالى: {وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}.۱
و قال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.٢
و الكفّار لم يكونوا يتربّصون الدوائر بالمسلمين إلّا لدينهم، و لم تكن تضيق صدورهم و تنصدع قلوبهم إلّا من جهة أنَّ الدين كان يذهب بسؤددهم و شرفهم، و استر سالهم في اقتراف كلّ ما تهواه طباعهم، و تألفه و تعتاد به نفوسهم، و يختم على تمتّعهم بكلّ ما يشتهون بلا قيد و لا شرط.
لم يكن عداء الكفار للمسلمين إلّا لأجل دينهم، فإن عداؤهم كان للدين الإسلامي الحق. و لم يكن في قصدهم إبادة المسلمين و إفناء جمعهم بل إطفاء نور الله و إعادة تحكيم أركان الشرك و الكفر، بعد ما زلزلها الإسلام بآياته الإلهية، ورد المؤمنين كفاراً كما قال تعالى:
{وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا}.۱
و قال تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ}.٢
و قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.٣
و قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.٤
و لذلك لم يكن للكفّار هَمٌّ إلّا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيّبة من أصلها، و يهدموا هذا البيان الرفيع من اسّه بفتن المؤمنين و بثّ النفاق في جماعتهم، و نشر الشبهات و الخرافات بينهم لإفساد دينهم.
و قد كانوا يأخذون باديء الأمر يُثبّطون عزيمة النبيّ صلّى الله عليه و آله و يضعّفون همّته في الدعوة الدينيّة بالمال و الجاه، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ}.٥ أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.٦
و قوله تعالى: {وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا}.۷
و كان آخر ما يرجونه في زوال الدين، و موت الدعوة المحقّة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره و لا عقب له. فإنَّ المشركين كانوا يرون النبوّة حكومة و رئاسة في صورة النبوّة، و سلطنة في لباس الدعوة و الرسالة. و كانوا يقولون: لو مات لانقطع أثره، و مات ذكره، و ذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين و الجبابرة الذين مهما بلغ أمرهم من التعالي و التجبّر و ركوب رقاب الناس، فإنَّ ذكرهم يموت بموتهم، و سننهم و قوانينهم الحاكمة بين الناس تدفن معهم في قبورهم إلّا أن يكون لهم ولد يحفظ من بعدهم الحكم و السلطنة و السنن. و محمّد الذي لا عقب له على هذه السيرة، سيموت دينه بموته أو قتله. و يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى: {إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.۱
فقد كانت هذه الأشياء و أمثالها أماني تمكّن الرجاء من نفوسهم، و تطمعهم في إطفاء نور الدين، و تزيّن لأوهامهم أنَّ هذه الدعوة ليست إلّا احدوثة ستقضى عليها المقادير و يعفو أثرها مرور الليالي و الأيّام.
لكنَّ ظهور الإسلام تدريجيّاً، و انتشار صيته، و اعتلاء كلمته بالشوكة و القوّة قضي على هذه الأماني. ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يزعزعوا عزيمة النبيّ، و يوقفوا همّته بالمال و الجاه اللذين كانا يعرضانهما عليه.
قوّة الإسلام و شوكته أيأستهم من جميع تلك الأسباب، إلّا واحداً، و هو أنَّ محمّداً صلّى الله عليه و آله مقطوع العقب، لا ولد له يخلفه في أمره، و يقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينيّة، فستموت دعوته بموته.
لأنه من البديهيّ أنَّ كمال الدين من جهة أحكامه و معارفه، و إن بلغ ما بلغ، لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، و أنَّ أيّة سنّة من السنن الإلهيّة
و الأديان المتّبعة لا تبقى على نضارتها و صفائها، لا بنفسها و لا بانتشار صيتها، و لا بكثرة المنتحلين و الأتباع، كما أنها لا تنمحي و لا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب إلّا بموت حملتها و حفظتها و القائمين بتدبير أمرها.
و من جميع ما تقدّم، يظهر أنَّ تمام يأس الكفّار إنّما يتحقّق عند ما ينصّب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبيّ في حفظه و تدبير أمره، و إرشاد الامّة القائمة به.
و في هذه الحالة التي شاهد فيها الكفّار انتقال الدين من مرحلة القيام بالحامل الشخصيّ إلى مرحلة القيام بالحامل النوعيّ، و تحوّله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء في مراحل كماله، سيطر الياس على وجودهم كلّه. و هذا هو إكمال الدين و إتمام النعمة.
و ليس ببعيد أن يكون قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، باشتماله على قوله حتّى {يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} إشارة إلى هذا المعنى. أي: أنَّ أمر الله الذي ينبغي أن يأتي، و يُخرج المؤمنون من طمع الكفّار، هو ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب التي سيثبت الدين بواسطتها.
و هذا يؤيّد ما ورد من الروايات أنَّ الآية نزلت يوم غدير خمّ، و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة عشر من الهجرة في ولاية عليّ بن أبي طالب. و لذلك ترتبط الفقرتان {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ و الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أوضح الارتباط، و لا يرد على هذا الوجه شيء من الإشكالات المتقدّمة.
و لمّا عُلِمَ معنى اليأس في الآية، يتسنّي لنا أن نعرف أنَ {الْيَوْمَ} ظرف
متعلّق بقوله: {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. و أنَّ التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم و تعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيّم الشخصيّ إلى مرحلة القيام بالقيّم النوعيّ؛ و من صفة الظهور و الحدوث إلى صفة البقاء و الدوام.
الآية الكريمة {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} تبيّن حكماً خارجيّاً و تكوينيّاً يشتمل على البشرى من وجه، و التحذير من وجه آخر، و يدلّ على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى، و هو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين. و المراد بالذين كفروا مطلق الكفّار من يهود و نصارى و وثنيّين و مجوس، لإطلاق اللفظ.
المراد من خشية الله، الخوف في مقام الولاية
و أمّا النهي في قوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ} فهو نهي إرشاديّ لا مولويّ. و معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الكفّار الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم؛ لأنه من المعلوم أنَّ الإنسان لا يهمّ بأمر بعد تمام الياس من الحصول عليه و لا يسعى إلى ما يعلم أنه خطأ. فأنتم أيّها المسلمون في أمن من ناحية الكفّار، و لا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم! فلا تخشوهم على دينكم و اخشوني!
بمقتضى سياق الآية: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ} يظهر أنَّ المراد بقوله: {وَ اخْشَونِ}، أن اخشوني فيما كان عليكم أن تخشوهم فيه لو لا يأسهم. و هو الدين و نزعه من أيديكم؛ و هذا نوع من الخشية الخاصّة.
أي: عليكم أن تخشوني في الدين و نزعه من أيديكم. و هذا نوع تهديد للمخاطبين، و لهذا لم نحمل الآية على الامتنان.
و يؤيّد ما ذكرنا أنَّ الخشية من الله واجبة على أيّ تقدير من غير أن تتعلّق بوضع دون وضع، و ظرف دون ظرف. و لو لم تكن خشية خاصّة في وضع خاصّ، فلا وجه للإعراض من قوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} إلى قوله:
{وَ اخْشَوْنِ}. فهذه الآية تأمر بخشية خاصّة غير الخشية العامّة التي تجب على المؤمن على كلّ تقدير، و في جميع الأحوال لا تخلو من نوع من التحذير و التهديد. فلننظر ما هي خصوصيّة هذه الخشية؟ و ما هو السبب الموجب لوجوبها و الأمر بها في هذه الآية الكريمة؟
لا شكّ أنَّ هاتين الفقرتين من الآية، أعني قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} ، و قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} مرتبطتان مسوقتان لغرض واحد، كما أشرنا من قبل. فالدين الذي أكمله الله ذلك اليوم، و النعمة التي أتمّها- و هما أمر واحد بحسب الحقيقة- هو الذي كان يطمع فيه الكفّار و يخشاهم فيه المؤمنون، فأيأسهم الله منه، و أكمله و أتمّه للمؤمنين، و نهاهم عن أن يخشوهم فيه.
فالشيء الذي أمر الله المؤمنين بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه الذي أكمله الله و أتمّه. و الخشية من الله فيه تتمثّل في أن ينزع الله الدين من أيديهم، و يسلبهم هذه النعمة الموهوبة.
و نعلم أنَّ الله بيّن في القرآن الكريم أن لا سبب لسلب النعمة إلّا الكفر بها، و هدّد الكفور أشدّ التهديد، فقال جلّ من قائل: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.۱
و قال تعالى: {وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.٢
و ضرب الله تعالى في القرآن الكريم مثلًا عامّاً لنعمه التي ينعم بها
على عباده، و ما يؤول إليه أمر الكفر بها، فقال: {وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ}.۱
و في ضوء ما قيل فإنَّ قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى قوله: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} يؤذِن بأنَّ المسلمين في أمن من جهة الكفّار و هم مصونون من الخطر المتوجّه من قبلهم، و أنهم لا يتسرّب إليهم شيء من الفساد و الهلاك إلّا من قبل المسلمين أنفسهم. و أنَّ ذلك إنَّما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامّة و رفضهم هذا الدين الكامل. و حينئذٍ يسلبهم الله نعمته و يغيّرها إلى النقمة؛ و يذيقهم لباس الجوع و الخوف.
أجل قد فعل المسلمون ذلك ففعل الله بهم أيضاً. تغيّروا فغيّر الله نعمته. و من أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية و إخبارها بالغيب المستفاد من قوله {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ}، فعليه أن يتأمّل في انحطاط العالَم الإسلاميّ هذا اليوم، ثمّ يرجع القهقرى، فيتصفّح التأريخ، و يحلّل أحداثه واحداً بعد الآخر حتّى يحصل على اصول القضايا و جذورها بعد وفاة الرسول الأعظم.
الفرق بين الكمال و التمام في كمال الدين و تمام النعمة
و بعد أن عرفنا معنى اليوم، علينا أن نعرف معنى الكمال و التمام. قال الراغب الإصفهانيّ في «مفردات القرآن»: كَمَالُ الشَّيءِ حُصُولُ مَا هُوَ الغَرَضُ مِنهُ- انتهي. و قال: وَ تَمَامُ الشَّيءِ انْتِهَاؤُهُ إلَى حَدٍّ لَا يَحْتَاجُ إلى شَيءٍ خَارِجٍ عَنهُ. وَ النَّاقِصُ مَا يَحتَاجُ إلَى شَيءٍ خَارِجٍ عَنهُ- انتهى.
و نقول لتوضيح هذا المعنى: آثار الأشياء على ضربين: ضرب منها ما يترتّب على الشيء عند وجود جميع أجزائه بحيث لو فقد شيء من
أجزائه أو شرائطه لم يترتّب عليه ذلك الأمر، كالصوم فإنَّه يفسد إذا اخِلَّ بالإمساك في بعض النهار، و يسمّى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام. كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ}.۱
و قوله: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا}.٢
و ضرب آخر: الأثر الذي يترتّب على الشيء من غير توقّف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء. فكلّما وجد جزء ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه. و لو وجد الجميع ترتّب عليه كلّ الأثر المطلوب منه، كقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ}.٣
ذلك أننا نعلم أنَّ أثر الترتّب على بعض هذه الأيّام لا يتوقّف على الأثر المترتّب على المجموع من حيث المجموع، و كلّ يوم وحده موضع ترتّب الأثر و صحّة الصوم.
و من هنا ينتج أنَّ قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يفيد أنَّ المراد بالدين هو مجموع المعارف و الأحكام المشرّعة، و قد اضيف إلى عددها اليوم شيء؛ و أنَّ النعمة أمر معنويّ واحد كأنه كان ناقصاً غير ذي أثر، فتمّ و ترتّب عليه الأثر المتوقّع منه.
المراد من النعمة الولاية
و النعمة هي ما يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه. و الأشياء و إن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متّصلة مرتبطة متلائمة، و أكثرها أو جميعها نِعم إذا اضيفت إلى بعض آخر مفروض، كما قال تعالى: {وَ إِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها}.۱
و قال: {وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً}.٢
إلّا أنه تعالى وصف بعضها بالشرّ و الخسّة و اللعب و اللهو و أوصاف اخرى غير ممدوحة. كقوله: {وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.٣
و قوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ}.٤
و هذه الآيات تدلّ على أنَّ هذه الأشياء المعدودة نعماً إنَّما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإلهيّ من خلقتها لأجل الإنسان. فإنَّها إنَّما خلقت لتكون إمداداً إلهيّاً للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة و هي القرب منه سبحانه و تعالى بالعبوديّة و الخضوع لربوبيّته العزيزة.
قال تعالى: {وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.٥
فكلّ ما تصرّف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله و ابتغاء مرضاته فهو نعمة. و إن انعكس الأمر عاد نقمة في حقّه.
و على هذا فالأشياء في نفسها بدون ملاحظة هاتين الجهتين، لا نعمة، و لا نقمة. و إنَّما هي نعمة لاشتمالها على روح العبوديّة، و دخولها من حيث التصرّف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبيّة لشؤون العبد. و لازمه أنَّ النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهيّة. و أنَّ الشيء إنَّما يصير
نعمة إذا كان مشتملًا على شيء منها، و هي العبوديّة.
قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.۱
و قال: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ}.٢
و قال في حقّ ولاية رسوله:
{فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.٣
لذلك، فالإسلام، و هو مجموع ما نزل من عند الله ليعبده به عباده، دين. و هو من جهة اشتماله- من حيث العمل به- على ولاية الله و ولاية رسوله و أولياء الأمر بعده، نعمة.
و لا تتمّ ولاية الله سبحانه و تعالى، أي: تدبيره بالدين لُامور عباده، إلّا بولاية رسوله، و لا تتمّ ولاية رسوله إلّا بولاية اولي الأمر من بعده.
و تدبير أولي الامر للشؤون الدينيّة بإذن من الله، كما قال عزّ من قائل:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.٤
و قال أيضاً: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ}.٥
و نحن تحدّثنا بالتفصيل عن تفسير هذه الآية الكريمة في الدرس الثاني و السبعين إلى الدرس الخامس و السبعين من دروس الجزء الخامس من كتابنا هذا.
و حاصل القول في تفسير الآية التي هي موضع بحثنا: {الْيَوْمَ} و هو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم، {أَكْمَلْتُ لَكُمْ} مجموعة المعارف الدينيّة التي أنزلها إليكم بفرض الولاية، {وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، و هي الولاية التي تمثّل إدارة شئون الدين و تدبيرها تدبيراً إلهيّاً. فإنَّها كانت إلى اليوم ولاية الله و رسوله، و هي إنّما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي. فلا رسول بين الناس يحمي دين الله و يذبّ عنه. و الواجب في هذه الحالة أن ينصّب من يقوم بذلك، و هو وليّ الأمر بعد رسول الله القيّم على امور الدين و الامّة.
فالولاية في زمن رسول الله صلّى الله عليه و آله كانت مشروعاً واحداً بقي ناقصاً و غير كاملِ حتّى تمَّ و كمل بنصب وليّ الأمر بعد النبي، و على يده.
و على هذا، يكون المعنى كالآتي: إذا كمل الدين في تشريعه، و تمّت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من ثمّ الدين الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلّا الله، و لا يطاع فيه إلّا الله، و مَن أمر بطاعته، من رسول أو وليّ.
فهذه الآية تنبئ عن أنَّ المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، و أنَّ الله رضي لهم أن يتديّنوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد. فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئاً.
آية إكمال الدين من مصادق الآية: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ
و إذا تدبّرنا فقرات هذه الآية من {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ}، و من {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}، و تمعّنا في فقرات الآية ٥٥ من سورة
النور، وجدنا أنَّ آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي وعده الله المؤمنين في تلك السورة، إذ يقول عزّ اسمه هناك:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ}.
نلحظ في هذه الآية أنَّ الله قد قدّم للمؤمنين العاملين الصالحات و عوداً و جعل الهدف من هذه الوعود المتمثّلة بالتمكّن في الأرض، و استبدال الأمن بالخوف، و الخلافة، و إمكان العمل بالدين المرضيّ، و التوحيد في العبادة، و عدم الشرك {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} كما أنَّ قوله: {وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} إشارة إلى هذا الهدف أيضاً. فعلى هذا، يلاحظ جيّداً أنَّ الفقرات التالية هي من مصاديق إنجاز تلك الوعود: {الْيَوْمَ يَئِسَ ، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ، وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ ، وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}. و سيكون ظهور قائم آل محمّد الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه من المصاديق الاخرى، بل من أوضحها و أكثرها إشراقاً.
و لمّا كانت سورة النور قبل سورة المائدة نزولًا، كما يدلّ عليه اشتماله على قضيّة الإفك، و آية الجَلْد، و آية الحجاب، فإنَّ تلك الوعود السالفة قد تحقّقت في الزمن اللاحق المتمثّل بيوم غدير خمّ.
المراد من اليوم في آية الإكمال يوم الغدير
علمنا ممّا تقدّم من البحث أنَّ اليوم الذي هو ظرف ليأس الكافرين، و إكمال الدين، و إتمام النعمة على المؤمنين لا يمكن أن يكون غير يوم الغدير. و هذا هو البحث المستفاد من الآية نفسها دون أن نضمّ إليها الروايات. فعلى هذا قلنا: إنَّ الروايات المأثورة عن العامّة التي يصل سندها إلى عمر غالباً، و تذكر أنَّ المراد من «الْيَوْمَ» هو يوم عرفة ليس لها أيّ
اعتبار لأنَّ مضمونها يخالف الكتاب. و ذِكر البخاريّ و مسلم تلك الروايات في صحيحيهما ليس دليلًا على صحّتها، كما قلنا إنَّ البخاريّ و مسلم قد تفرّدا في عدم نقل قصّة الغدير. و من هنا يمكن أن نقف على قيمة هذين الكتابين و وزنهما. فما شأن صاحبيهما لم يذكرا الغدير، و هو من المسلّمات، بل من ضرورات الإسلام، بل ضرورات التأريخ، فتأمّل جيّداً. ثمّ تأمّل في السبب الذي دعا إلى الشأن الذي يتمتّع به الكتابان عند علماء العامّة الذين تربّعوا على أريكة الإفتاء و التفسير و الحديث أيّام العبّاسيّين و بعدهم.
يضاف إلى ذلك كلّه، أنَّ الأحاديث الواردة في نزول الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} في ولاية أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين التي تربو على العشرين عن طريق الفريقين مرتبطة بما ورد في شأن نزول آية التبليغ: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ}. و تربو تلك الأحاديث أيضاً عن الفريقين على خمسة و عشرين حديثاً. و هاتان الطائفتان من الأحاديث كلّها مرتبطة بحديث الغدير: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. و كما عرفنا، فإنَّ حديث الغدير حديث متواتر، بل هو فوق التواتر إذ رواه جمّ غفير من الصحابة يزيد عددهم على مائة و عشرة، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و مضافاً إلى جميع علماء الشيعة فقد اعترف بتواتره جمع كثير من علماء العامّة.
و من المتّفق عليه أنَّ ذلك كان في منصرف رسول الله صلّى الله عليه و آله من مكّة إلى المدينة، بعد يوم عرفة بتسعة أيّام. و هذه الولاية فريضة من الفرائض كالتولّي و التبرّي الذين نصّ عليهما القرآن الكريم في آيات كثيرة. فلم يجز أن يكون وجوبها و تشريعها بعد قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينِكُمْ}. فعلى هذا نزلت آية الإكمال بعد تشريع الولاية، و لا يمكن أن يكون اليوم يوم عرفة. و هكذا فالروايات المنافية لنزول الآية في يوم الغدير ساقطة من درجة الاعتبار ذاتيّاً لمخالفة مضمونها الكتاب.
يمكن أن يكون نزول آية الولاية في يوم عرفة، و تبليغها يوم الغدير
و لكن هنا نكتة يجب التنبيه عليها و هي: أنَّ التدبّر في الآيتين الكريمتين: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ و الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}، و التدبّر في الأحاديث الواردة من طرق الفريقين في تفسير هاتين الآيتين، و كذلك في روايات الغدير المتواترة، و دراسة أوضاع المجتمع الإسلاميّ الداخليّة في أواخر حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله و البحث العميق في خصوصيّاتها، كلّ ذلك يفيد القطع و اليقين للباحث و المتتبّع في التأريخ و الحديث و التفسير بأنَّ أمر الولاية و وجوبها و تشريعها كلّ اولئك كان نازلًا قبل يوم الغدير بأيّام، و كان النبيّ يتّقي الناس في إظهاره، و يخاف أن لا يتلقّوه بالقبول، أو يسيئوا القصد إليه، فيختلّ أمر الدعوة؛ فكان لا يزال يؤخّر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتّى نزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في يوم الغدير، فلم يمهل في ذلك.
و على هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه و تعالى معظم السورة، و فيه قوله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، و ينزل معه أمر الولاية، كلّ ذلك يوم عرفة، فأخّر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله تبليغ ذلك للناس حتّى يوم الغدير، و قد كان تلا آية الإكمال يوم عرفة.
و أمّا اشتمال بعض الروايات على نزولها يوم الغدير، فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوة رسول الله الآية مقارنة لتبليغ أمر الولاية، لكونها في شأنها.
و لذلك يجمع بين هاتين المجموعتين من الروايات- الروايات الواردة في نزول آية الإكمال يوم عرفة، و الواردة في نزولها يوم الغدير- و لا تنافي بينها، فإنَّ التنافي إنَّما كان يتحقّق لو كان النزول في يوم عرفة، و يوم الغدير. و أمّا لو كان النزول في يوم عرفة، و الإبلاغ في يوم الغدير فلا تنافي في الموضوع. و أمّا ما جاء في الروايات أنه يوم عرفة حيث إنَّ الآية تدلّ على كمال الدين بالحجّ و ما أشبهه، فهو من فهم الراوي و لا ينطق به الكتاب، و لا بيان من النبيّ يُعتمد عليه.
و الشاهد على هذا الجمع بين هاتين المجموعتين من الروايات رواية نقلها العيّاشيّ في تفسيره عن جعفر بن محمّد بن محمّد الخزاعيّ، عن أبيه، قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول:
لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ عَرَفَاتَ يَومَ الجُمُعَةِ أتَاهُ جَبْرَئيلُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ اللهَ يُقْرِئكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ: قُلْ لُامَّتِكَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بِولَايَةِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، {وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}، وَ لَسْتُ انْزِلُ عَلَيْكُمْ بَعْدَ هَذَا، قَدْ أنْزَلْتُ عَلَيْكُمْ الصَّلَاةَ وَ الزَّكَاةَ وَ الصَّوْمَ وَ الْحَجَّ، وَ هي الْخَامِسَةُ، وَ لَسْتُ أقْبَلُ هَذِهِ الأرْبَعَةَ إلَّا بِهَا.۱
قول اليهود: لو كانت آية الإكمال نازلة علينا لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً
على أنَّ فيما نقل عن عمر من نزول الآية يوم عرفة إشكالًا آخر، لأنه جاء في جميع هذه الروايات أنَّ بعض أهل الكتاب- و في بعضها أنه كعب-٢ قال لعمر: إنَّ في القُرْآنِ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ مِثْلُهَا عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ
لَاتَّخَذْنَا ألْيَومَ الذي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدَاً- وَ هي قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}- (الآية).
فَقَالَ عُمَرُ: وَ اللهِ إنِّي لأعْلَمُ اليَوْمَ، وَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَة مِنْ حِجَّةِ الوَدَاعِ.۱
و روى ابن راهويه، و عبد بن حميد، عن أبي العالية، قال: كانوا عند عمر، فذكروا هذه الآية، فقال رجل من أهل الكتاب: لو علمنا أيّ يوم نزلت هذه الآية، لاتّخذناه عيداً، فقال عمر: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَهُ لَنَا عِيدَاً وَ الْيَومَ الثَّانِي، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَ يَوْمُ الثَّانِي النَّحْرُ فَأكْمَلَ لَنَا الأمْرَ فَعَلِمْنَا أنَّ الأمْرَ بَعْدَ ذَلِكَ في انْتِقَاصٍ.٢
و نقل السيوطيّ ذيل هذه الرواية في «الدرّ المنثور» بشكل آخر عن ابن أبي شيبة، و ابن جرير، عن عنترة، قال: لمّا نزلت [الآية]: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، و [كان] ذلك يوم الحجّ الأكبر (يوم عيد الأضحى) بكى عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: ما يبكيك؟! قال: أبْكَانِي أنا كُنَّا في زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا فَأمَّا إذْ كَمُلَ فَإنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيءٌ قَطٌّ إلَّا نَقَصَ. قَالَ: صَدَقْتَ!٣
و جاء مثل هذه الرواية أيضاً في «الدرّ المنثور» عن أحمد بن حنبل، عن عَلْقَمة بن عبد الله المُزنيّ [أنهُ] قال: حدّثني رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطّاب، فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله ينعت الإسلام؟!
قال [ذلك الرجل]: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ يَقُولُ: إنَّ الإسْلَامَ بَدَأ۱ جَذَعَاً ثُمَّ رَبَاعِيّاً ثُمَّ سَدَسِيّاً ثُمَّ بَازِلًا. قَالَ عُمَرُ: فَمَا بَعْدَ البُزُولِ إلَّا النُّقْصَانُ.٢
كمال الدين و تمام النعمة سنّة قائمة لا تزول
مجموع هذه الروايات تدلّ، عند عمر و أبي بكر، على أنَّ معنى نزول الآية في يوم عرفة، يتمثّل في إلفات نظر الناس إلى ما شاهدوه من عظمة الإسلام في موسم الحجّ بمكّة، و أنَّ تفسير إكمال الدين و إتمام النعمة يتجسّد في صفاء الجوّ و خلوصه للمسلمين حينئذٍ فيها، فلا دين يتعبّد به إلّا الإسلام، بحيث أدّى المسلمون فريضة الحجّ باطمئنان تامّ غير مبالين بالكفّار. و بعبارة اخرى، المراد بكمال الدين و تمام النعمة: هو كمال هذا الأسلوب و الأعمال التي كان المسلمون يمارسونها دون أن يختلط بهم الأعداء من الكفار، أو يكونوا مرغمين على الحذر منهم، و ليس المراد به الشريعة
المجعولة من عند الله المشتملة على الأحكام و المعارف. و كذلك المراد بالإسلام هو ظاهر الإسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل.
و ملخّص الكلام: أنَّ المراد بالدين هو الدين الملحوظ عبر الأعمال و الممارسات التي كان يزاولها المسلمون، و المراد بالإسلام هو الشكل الظاهر منه، من حيث الشوكة و القوّة. فهذا المعنى هو الذي يقبل الزيادة و النقصان. و أمّا المبادئ العامّة للأحكام و المعارف المشرّعة و النازلة من عند الله، فلا تقبل الزيادة و النقصان، لأنَّ تلك الزيادة و النقصان اللذين جاءا على لسانه إنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيءٌ قَطٌّ إلَّا نَقَصَ، فهما سنّة طبيعيّة و كونيّة تجري في التأريخ و المجتمع تبعاً للكون و الطبيعة نفسيهما. و أمّا الدين فإنَّه لا يخضع لمثل هذه السنن و النواميس أبداً، و تلك الحقيقة المُشَرَّعة لا تتغيّر و لا تتبدّل إلّا عند من يقول أنّ الدين سنّة اجتماعيّة متغيّرة و متطوّرة كسائر السنن الاجتماعيّة. و إذا عرفنا ذلك، علمنا أنه ترد إشكالات على هذا اللون من التفكير:
أوّلًا: أنَّ المعنى الذي زعموه أنه معنى الدين لا يمثّل الدين، و أنَّ قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} لا يصدق عليه.
و ثانياً: كيف يمكن أن يطلق الله صفة الكمال على الدين بصورته التي كان يتراءى عليها، و ينسبه إليه، و يمنّ به على الامّة؟ بمجرّد خلوّ الأرض من ظاهر المشركين، و أنَّ المسلمين يستطيعون ممارسة أعمالهم مطمئنّين من غير أن ينالهم مكر المشركين و كيدهم، و فيهم من هو أشدّ من المشركين إضراراً و إفساداً، و هم المنافقون الذين كانوا يكيدون للمسلمين باستمرار من خلال تكتّلاتهم الدقيقة و اجتماعاتهم السرّيّة و تغلغلهم في صفوف المسلمين، و إفساد الحال، و تقليب الامور، و الإرجاف و الدسّ في الدين، و إلقاء الشبهات بين المسلمين.
و للمنافقين أنبأ عجيبة و عظيمة تعرّضت لها آيات جمّة من القرآن الكريم كسورة «المنافقون»، و ما في سور البقرة، و النساء، و المائدة، و الأنفال، و براءة، و الأحزاب، و غيرها.
و لا ندري كيف بادت زمرتهم بمجرّد نزول آية الإكمال؟ و كيف خمدت أنفاسهم في صدورهم؟ و على أيّ طريق بطل كيدهم و مكرهم؟ و كيف زهق باطلهم؟ و أنى يكون المنّ على المسلمين بإكمال ظاهر الدين، و إتمام ظاهر النعمة و هم متغلغلون في صفوفهم؟ و كيف يرضي الله الإسلام ديناً بمجرّد طرد أعداء المسلمين من مكّة؟ و نحن نعلم بشهادة القرآن و التأريخ أنَّ المنافقين كانوا أعدي منهم، و أعظم خطراً، و أمرّ أثراً. و تصديق ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيّه فيهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}۱
و كيف نتصوّر أنَّ الله سبحانه يمنّ على المسلمين، و يصف بالكمال ظاهرَ دينٍ هذا باطنه؟ و كيف يصف نعمته بالتمام و هي مشوبة بالنقمة؟ أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه؟ و هو القائل جلّ من قائل: {وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}.٢ و القائل في المنافقين و دينهم و نهجهم: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}.٣ و القائل أيضاً: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ}.٤ و القائل كذلك: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.٥
يضاف إلى ذلك أنَّ في الآية إطلاقاً، و أنها لا تقيّد إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضا الله عن الإسلام بجهة دون اخرى، مثلًا بالظاهر دون الباطن، أو بالشكل دون المعنى.
و كما قلنا، فإنَّ آية الإكمال هي من مصاديق قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ} (آية الاستخلاف)، و الوعد في تلك الآية ليس لجميع المسلمين بما فيهم المسلمون ظاهريّاً، بل المراد طائفة خاصّة من المسلمين الذين ينسجم ظاهرهم مع باطنهم، و تنطبق ممارساتهم العمليّة على الدين المشرّع من الله. و على هذا فإنَّ المراد من إكمال دينهم المرضيّ للّه سبحانه هو تكميل الحقائق الدينيّة المشرّعة عند الله سبحانه و تعالى و قد أفرغها في قالب التشريع و أنزلها حتّى تتمكّن في قلوبهم ليعبدوه بعد يأس الذين كفروا من دينهم.
و هذا المعنى هو الذي ذكرناه: إنَّ معنى إكمال الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض- فلا فريضة مشرّعة بعد نزول الآية- لا تخليص أعمالهم و خاصّة حجّهم من أعمال المشركين بحيث لا تختلط أعمال حجّهم معاً. و بعبارة بسيطة: يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقّي من جهة تشريع الأحكام و كشف المعارف الحقّة الحقيقيّة، و في هذه الحالة فلا معنى للنقص بعد الزيادة.۱
وقوع آية الإكمال بين آيات محرّمات الطعام شيء عجيب
إنَّ البحث الذي أتينا به هنا في تفسير الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} خلاصة و جوهرة للكلمات النفيسة و القيّمة لُاستاذنا الجليل سماحة آية الله العلّامة
الطباطبائيّ قدّس الله تربته الزكيّة التي طرحها في دروسه التفسيريّة و في «الميزان في تفسير القرآن».۱
إنَّ الموضوع الباعث على العجب في الآية الكريمة: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، و الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إلى قوله: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} هو محلّها و موضعها، إذ بالنظر إلى ما بيّناه مفصّلًا في تفسير هذه الآية الكريمة، و دلالتها التامّة الواضحة على الولاية، كيف جاءت في وسط الآية التي تتحدّث عن محرّمات الطعام، و بين جملة المستثنى منه و جملة الاستثناء. ذلك أنَّ صدر الآية هكذا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ}.
ثمّ ذكرت الآية التي هي موضع بحثنا كاملة على المنوال التالي: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.
و بعد هذه الآية، جاء الاستثناء الواقع في محرّمات الطعام كالآتي:
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
و لو أمعنّا النظر في صدر الآية و ذيلها، أعني قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، و قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}، نجد كلاماً تامّاً غير متوقّف في تمام معناه و إفادة المراد منه على قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى قوله: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}. و الآية في إفادة المعنى بعينها كالآيات في سور البقرة، و الأنعام، و النحل. و قد بيّنت محرّمات الطعام من
حيث جملة المستثنى منه، و من حيث الجملة الاستثنائيّة.
و الآية في سورة البقرة هي: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، و الاستثناء فيها هكذا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.۱
و الآية في سورة الأنعام هكذا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.٢
و الآية في سورة النحل: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، و الاستثناء فيها: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.٣
نرى في هذه الآيات الأربع الواردة في سور (المائدة، و البقرة، و الأنعام، و النحل) أنَّ الله عرض محرّمات الطعام بنمط واحد و سياق واحد، و كذلك بيّن جواز أكلها اضطراراً بنسق واحد و سياق واحد. و أنَّ ما أخلّ بسبكها و فصل بين محرّمات الطعام و بين موارد جوازها، هو قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى قوله: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} الواردة في سورة المائدة، و فصل بين محرّمات الطعام التي تؤلّف جملة المستثنى منه، و بين مواضع الاضطرار التي تشكّل جملة المستثنى، مع أنَّ هاتين الجملتين: جملة المحرّمات، و جملة مواضع الاضطرار، و هما
المستثنى و المستثنى منه، لا حاجة لهما بهذه الجملة المعترضة أبداً من حيث تمام المفاد.
لقد فُصل بين هذه الجمل ليختلط البحث، و يُظَنّ أنَّ المراد من اليوم الذي يئس فيه الكفّار من دين الإسلام، و أنَّ المسلمين يجب أن لا يخشوهم بل يخشوا الله في ذلك اليوم، و أنَّ اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، و أتمّ فيه النعمة على المسلمين، هو يوم ينزل فيه- مثلًا- حكم المتردِّية، و المنخنقة، و الموقوذة، و النطيحة، و تُبيّن حرمتها، حتّى تفقد تلك الجمل، ذات المفاد العالي و المحتوي الراقي، النازلة في الولاية بحيث لا يمكن أن تكون في غيرها، أهمّيتها و تسقط في أعين الناس فلا يفكّروا بها، و لا يبحثوا عن محتواها و مفادها، و يخالوا أنَّ آية إكمال الدين و إتمام النعمة التي تعنى عدم النقص في الإسلام، و يليق بها أن يرضي الله ذلك الدين، تحوم حول امور عاديّة لا شأن لها كالتعامل مع الكفّار و حلّيّة طعامهم للمسلمين، و حلّيّة طعام المسلمين لهم و أمثال ذلك.
و محصّل كلامنا هو أنَّ قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} كلام معترض و جملة معترضة جاءت في وسط الآية، و لأجل إكمال معنى الآية لا يوجد أيّ توقّف على دلالة هذا الكلام، سواء قلنا: إنَّ الآية نازلة في وسط الآية فتخلّلت بين جملة المحرّمات و جملة الجواز عند الضرورة من أوّل ما نزلت، أو قلنا: إنَّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله هو الذي أمر كتّاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع فرض انفصال الآيتين و اختلافهما نزولًا، و بُعد هذا الاحتمال في غاية البعد، أو قلنا: إنَّها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند تأليف القرآن من غير أن تصاحبها نزولًا.
على أيّ حال، أنَّ قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ} كلام مستقلّ، و قد حافظ على استقلاله أيضاً حتّى مع ملاحظة صدر الآية و ذيلها، و وروده في هذا
الموضع، و وقوعه في هذا الموقع لن يستدعي تغيير معناه.
و أخرج عبد بن حميد عن الشعبيّ، قال: نزل على النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم هذه الآية و هو بعرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. و كان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: و كان جبرئيل يعلّمه كيف ينسك.۱
و على هذا يمكن أن تكون هذه الآية قد وضعها جامعو القرآن في موضعها بعد النبيّ، بالأخصّ أنَّ الروايات الواردة عن طريق العامّة في نزول الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يوم عرفة- كما قلنا- تنتهي إلى عمر، و معاوية، و سمرة بن جندب، و عليّ بن أبي طالب. و وضع معاوية و سمرة بن جندب لا يخفى على أحد و لا يستهدف الرواة من إلصاق هذه الرواية بالإمام عليّ عليه السلام إلّا تشويه معالم القضيّة. صلّى الله عليك يا أبا الحسن و رحمة الله و بركاته.
قصيدة الملّا على الخوئيّ في وصف أمير المؤمنين عليه السلام
و كم هو مناسب أن نأتي في ختام هذا البحث بمنتخب من القصيدة العصماء للحكيم العظيم: الملّا على الخوئيّ الآذربايجانيّ التي أنشدها في وصف مولانا أمير المؤمنين عليه السلام على طريقة و مشرب أهل الفلسفة و الحكمة:
هَا عَلِيّ بَشَرٌ كَيْفَ بَشَرْ | *** | رَبُّهُ فِيهِ تَجَلَّى وَ ظَهَرْ |
مَا هُوَ اللهُ وَ لَكِن مَثَلا | *** | مَعَهُ اللهُ كَنَارٍ وَ حَجَرْ |
عِلَّةُ الكَوْنِ وَ لَوْلَاهُ لَمَا | *** | كَانَ لِلْعَالَمِ عَيْنٌ وَ أثَرْ |
وَ لَهُ ابْدِعَ مَا تَعْقِلُهُ | *** | مِنْ عُقُولٍ وَ نُفُوسٍ وَ صُوَرْ |
فَلَكٌ في فَلَكٍ فِيهِ نُجُومْ | *** | صَدَفٌ في صَدَفٍ فِيهِ دُرَرْ |
جِنْسُ الأجْنَاسِ عَلِيّ وَ بَنُوه | *** | نَوْعُ الأنْوَاعِ إلَى الحَادِي عَشَرْ |
كُلُّ مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَعْرِفُهُمْ | *** | مَوْتُهُ مَوْتُ حِمَارٍ وَ بَقَرْ |
لَيْسَ مَنْ أذْنَبَ يَوْمَاً بِإمَامْ | *** | كَيْفَ مَنْ أشْرَكَ دَهْرَاً وَ كَفَرْ |
قَوْسُهُ قَوْسُ نُزُولٍ وَ عُرُوجْ | *** | سَهْمُهُ سَهْمُ قَضَاءٍ وَ قَدَرْ |
أيُّهَا الخَصْمُ تَذَكَّرْ سَنَدَاً | *** | مَتْنُهُ صَحَّ بِنَصٍّ وَ خَبَرْ |
إذْ أتَى أحْمَدُ في خُمِّ غَدِيرْ | *** | بِعَلِيّ وَ على الرَّحْلِ نَبَرْ |
قَالَ: مَنْ كُنْتُ أنَا مَوْلَاهْ | *** | فَعَلِيّ لَهُ مَوْلَى وَ مَفَرْ |
أسَدُ اللهِ إذَا صَالَ وَ صَاحْ | *** | أبُو الأيْتَامِ إذَا جَادَ وَبَرْ |
حُبُّهُ مَبْدَا خُلْدٍ وَ نَعِيمْ | *** | بُغْضُهُ مَنْشَا نَارٍ وَ سَقَرْ |
مَنْ لَهُ صَاحِبَةٌ كَالزَّهْرَاءْ | *** | وَ سَلِيلٌ كَشُبَيْرٍ وَ شَبَرْ |
عَنْهُ دِيوَانُ عُلُومٍ وَ حِكَمْ | *** | فِيهِ طُومَارُ عِظَاةٍ وَ عِبَرْ |
بُو تُرَابٍ وَ كُنُوزُ العَالَمِ | *** | عِنْدَهُ نَحْو تُرَابٍ وَ مَدَرْ |
ظَلَّ مَا عَاشَ بِجُوعٍ وَ صِيَامْ | *** | بَاتَ مَا حَيّ بِدَمْعٍ وَ سَهَرْ |
كُلَّمَا أحْزَنَهُ الدَّهْرُ سَلَا | *** | أيْنَمَا اسْتَضْعَفَهُ اليَوْمُ صَبَرْ |
نَاقَةُ اللهِ فَيَا شَقْوَةَ مَنْ | *** | مَا رَعَاهَا فَتَعاطى فَعَقَرَ۱ |
أبيات لأبي بكر القريعيّ
و كم هو رائع و غزير المحتوي ما نظمه أبو بكر القُرَيْعيّ في كشف حقيقة خيانة الخلفاء، و ما أعقبته من آثار مشؤومة. و ذكر أنَّ الخلافة لو لم تغصب من الإمام المظلوم عليّ بن أبي طالب عليه السلام لما أصاب سهم حرملة عنق عليّ الأصغر يوم عاشوراء، و ذكر عليّ بن عيسى الإربليّ أبيات هذا الشاعر في كتابه النفيس٢، و منها:
يَا مَنْ يُسَائلُ دَائبَاً عَنْ كُلِّ مُعْضَلَةٍ سَخيفَة | *** | لَا تَكْشِفَنَّ مُغَطَّئاً فَلَرُبَّمَا كَشَّفْتَ جِيفَةْ |
وَ لَرُبَّ مَسْتُورٍ بَدَا كَالطَّبْلِ مِنْ تَحْتِ القَطِيفَةْ | *** | إنَّ الجَوَابَ لَحَاضِرٌ لَكِنَّنِي اخْفِيهِ خِيفَةْ |
لَوْ لا اعتِدَاءُ رَعِيَّةٍ ألْقَى سِيَاسَتَهَا الخَلِيفَةْ | *** | وَ سِيُوفُ أعْدَاءٍ بِهَا هَامَاتِنَا أبْداً نَقِيَّةْ |
لَنَشَرْتُ مِنْ أسْرَارِ آلِ مُحَمَّدٍ جُمَلًا طَرِيفَةْ | *** | تُغْنِيكُمُ عَمَّا رَوَاهُ مَالِكٌ وَ أبُو حَنِيفَةْ |
وَ أرَيْتُكُمْ أنَّ الحُسَينَ اصِيبَ في يَوْمِ السَّقِيفَةْ | *** | وَ لأيّ حَالٍ لُحِّدَتْ بِاللَّيْلِ فَاطِمَةُ الشَّرِيفَةْ |
وَ لِمَا حَمَتْ شَيْخَيْكُمُ عَنْ وَطْي حُجْرَتِهَا المُنِيفَهْ | *** | اوَّهْ لِبِنْتِ مُحَمَّدٍ مَاتَتْ بِغُصَّتِهَا أسِيفَة۱ |
يَا مَنْ يُسَائلُ دَائبَاً | *** | عَنْ كُلِّ مُعْضَلَةٍ سَخيفَة |
و جاء في «صحيح البخاريّ» أنَّ عليّاً دفن فاطمة ليلًا، و صلّى عليها، و لم يخبر أبا بكر.۱
و قال عليّ بن برهان الدين حسين الشافعيّ: و قال الواقديّ: و ثبت عندنا أنَّ عليّاً كرّم الله وجهه دفنها رضي الله عنها ليلًا و صلّى عليها و معه العبّاس و الفضل رضي الله عنهم و لم يعلموا بها أحداً.٢
و جاء في رجال الشيخ الحرّ العامليّ عن الكشيّ بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: قَدْ ضَاقَتِ الأرْضُ بِسَبْعَةٍ بِهِمْ تُرْزَقُونَ وَ بِهِمْ تُنْصَرُونَ وَ بِهِمْ تُمْطَرُونَ؛ مِنْهُمْ سَلْمَانُ وَ المِقْدَادُ و أبُو ذَرٍّ وَ عَمَّارٌ وَ حُذَيْفَةُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَ أنَا إمَامُهُمْ. وَ هُمُ الَّذِينَ صَلُّوا على فَاطِمَةَ.٣
الدَّرْسُ العَاشِرُ بَعْدَ المِائَةِ إلَى الدَّرْسِ الخَامِس عَشَر بَعْدَ المِائَةِ. التَّقْدِيمُ بَيْنَ يَدَي الله هُوَ التَّخَلُّفُ نَفْسُه.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.۱
إنَّ الفطرة و العقل و الشرع كلّ اولئك يحكم بأنَّ تدخّل الإنسان في عمل ليس من شأنه، بعيد عن الصواب. أي: أنَّ القوى الثلاث: القلب، و العقل، و الدين، كلّها تُجمع على أنَّ تدخّل الإنسان في الشؤون الدينيّة و الشرعيّة الخارجة عن نطاق إدراكه و قابليّته خطأ يجرّ للويلات و الفساد.
إنَّ تعيين الإمام، أي: تخويل الاختيار المعنويّ: القلبيّ و الروحيّ و العقليّ و الطبيعيّ للمجتمع إلى إنسان أسير الآراء النفسانيّة و الأفكار الشيطانيّة كما هي طبيعة الناس الملوّثين بالهوي و الشهوات، خروج عن منطق العقل. ذلك أنَّ الحقّ في ضوء المنطق القرآنيّ ينبغي أن يكون هو
المرجع و المدار في العمل، و لا يحدّده إلّا الحقّ نفسه. و لا يمكن أن يكون انتجاب الإمام على أساس آراء و أهواء الناس المرتكزة على الميول النفسانيّة التي لا تتمسّك بالحقّ ميزاناً لتشخيص الوصول إلى الواقع و اجتذاب الحقيقة. و لو قُدّر أن يكون تعيين الإمام بيد الناس و عزله و تنصيبه- عند عدم استقامته و خطأه أو عند استقامته و عدم خطأه- بيد الناس، فحينئذٍ يصبح الناس أئمّة أنفسهم حقّاً. و النتيجة التي هي تابعة لأخسّ المقدّمتين تهبط بقيمة تلك الحقيقة عند الناس. أي: أنَّ تلك الحقيقة و المعنى و الارتباط بعالم الأمر، كلّ ذلك يزول و يفني، و لا يبقى إلّا آراء الناس العاديّة دليلًا و موجّهاً للجماهير، بينما نحن نعلم أنَّ الإمامة غير منفصلة عن الولاية، و السياسة مقترنة مع المعنويّة و حقيقة الربط بعالم الملكوت.
و قد أشار شاعر أهل البيت ابن حمّاد العَبْديّ إلى هذه الحقيقة في شعره، و أتى بها عبر عرض الصغرى و الكبرى و النتيجة المطلوبة، فقال:
وَ قَالُوا رَسُولُ اللهِ مَا اخْتَارَ بَعْدَهُ | *** | إمَامَاً وَ لَكِنَّا لأنْفُسِنَا اخْتَرْنَا |
أقَمْنَا إمَامَاً إنْ أقَامَ عَلَى الهُدَى | *** | أطَعْنَا وَ إنْ ضَلَّ الهِدَايَةَ قَوَّمْنَا |
فَقُلْنَا إذَنْ أنْتُمْ إمَامُ إمَامِكُمْ | *** | بِحَمْدٍ مِنَ الرَّحْمَنِ تِهْتُمْ وَ لَا تِهْنَا |
وَ لَكِنَّنَا اخْتَرْنَا الذي اخْتَارَ رَبُّنَا | *** | لَنَا يَوْمَ خُمٍّ مَا اعْتَدَيْنَا وَ لَا حِلْنَا |
سَيَجْمَعُنَا يَوْمَ القِيَامَةِ رَبُّنَا | *** | فَتُجْزَوْنَ مَا قُلْتُمْ وَ نُجْزَى الذي قُلْنَا |
هَدَمْتُمْ بِأيْدِيكُمْ قَوَاعِدَ دِينِكُمْ | *** | وَ دِينٌ عَلَى غَيْرِ القَوَاعِدِ لَا يُبْنَى |
وَ نَحْنُ على نُورٍ مِنَ اللهِ وَاضِحٍ | *** | فَيَا رَبِّ زِدْنَا مِنْكَ نُورَاً وَ ثَبِّتْنَا۱ |
حوار بين شيعيّ و سنّيّ حول لزوم الخلافة
و نقل ابن شهرآشوب قبل هذه الأبيات حواراً جرى بين أبي الحسن الرفاء و ابن رامين الفقيه، قال أبو الحسن لابن رامين: لمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله من المدينة، ما استخلف عليها أحداً.
قال [ابن رامين]: بلى؛ استخلف عليّاً.
قال [أبو الحسن]: و كيف لم يقل لأهل المدينة: اخْتَارُوا فَإنَّكُمْ لَا تَجْتَمِعْونَ عَلَى الضَّلَالِ!
قال: خاف النبيّ عليهم الخلف و الفتنة.
قال [أبو الحسن]: فلو وقع بينهم فساد، لأصلحه عند عودته.
قال [ابن رامين]: هذا أوثق.
قال [أبو الحسن]: أ فاستخلف أحداً بعد موته؟!
قال [ابن رامين]: لا.
قال [أبو الحسن]: فموته أعظم من سفره. فكيف أمن على الامّة بعد موته ما خافه في سفره و هو حيّ عليهم؟ فقطعه [الشاعر المعروف] العبديّ قائلًا:
وَ قَالُوا رَسُولُ اللهِ مَا اخْتَارَ بَعْدَهُ | *** | إمَامَاً وَ لَكِنَّا لأنْفُسِنَا اخْتَرْنَا۱ |
و نقل في «ريحانة الأدب» ستّة أبيات منها، عدا البيت السادس، عن العبديّ: سفيان بن مصعب، عن «مناقب ابن شهرآشوب».٢
بيد أنَّ صاحب «الغدير» نسب هذه الأبيات إلى عليّ بن حَمَّاد بن عبد الله العبديّ البصريّ، و قال: وقفنا لابن حمّاد على قصيدة في مجموعة عتيقة مخطوطة في العصور المتقادمة. و قد ذكر ابن شهرآشوب بعض
أبياتها و نسبه إلى العبديّ: سفيان بن مصعب. و تبعه البياضيّ في «الصراط المستقيم». و لكنَّ هذه القصيدة لابن حمّاد. ثمّ ذكر القصيدة برمّتها، و هي تبلغ مائة و ستّة أبيات. و هذه القصيدة في غاية الروعة، و هي في مدح أمير المؤمنين عليه السلام و مطلعها:
أ سَائلَتِي عَمَّا الَاقِي مِنَ الأسَا | *** | سَلِي اللَّيْلَ عَنِّي هَلْ اجَنُّ إذَا |
جَنَّا و من هذه القصيدة: (البيت الخامس و الخمسون حتّى البيت التاسع و الخمسين):
وَ لَوْ فَضَّ بَيْنَ النَّاسِ مِعْشَارُ جُودِهِ | *** | لَمَا عَرَفُوا في النَّاسِ بُخْلًا وَ لَا ضَنَّا |
وَ كُلُّ جَوَادٍ جَادَ بِالمَالِ إنَّمَا | *** | قُصَارَاهُ أنْ يَسْتَنَّ في الجُودِ مَا سَنَّا |
وَ كُلُّ مَدِيحٍ قُلْتُ أوْ قَالَ قَائلٌ | *** | فَإنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِهِ يُعْنَى |
سَيَخْسَرُ مَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِوَلَائِهِ | *** | وَ يَقْرَعُ يَوْمَ البَعْثِ مِنْ نَدَمٍ سِنَّا |
لِذَلِكَ قَدْ وَالَيْتُهُ مُخْلِصَ الوَلَا | *** | وَ كُنْتُ على الأحْوَالِ عَبْدَاً لَهُ قِنَّا |
ثمّ يواصل القصيدة حتّى آخرها. و ينقل الأبيات التي أتينا بها في البداية كشاهد و دليل على بحثنا (البيت السادس و الثمانين حتّى البيت الحادي و التسعين) و يختم هذه القصيدة ذات الاسلوب البديع بأبيات رائعة مؤثّرة.۱
فَصَاحَةُ شِعْرِي مُذْ بَدَتْ لِذَوي الحِجَى | *** | تَمَثَّلَتِ الأشْعَارُ عِنْدَهُمْ لُكْنَا |
وَ خَيْرُ فُنُونِ الشِّعْرِ مَا رَقَّ لَفْظُهُ | *** | وَ جَلَّتْ مَعَانِيهِ فَزَادَتْ بِهَا حُسْنَا |
وَ لِلْشِعْرِ عِلْمٌ إنْ خَلَا مِنْهُ حَرْفُهُ | *** | فَذَاكَ هَذَاءٌ في الرُّءوسِ بِلَا معنى |
إذَا مَا أدِيْبٌ أنْشَدَ الغَثَّ خِلْتَهُ | *** | مِنَ الكَرْبِ و التَّنْغِيصِ قَدْ ادْخِلَ السِّجْنَا |
إذَا مَا رَأوْهَا أحْسَنُ النَّاسِ مَنْطِقَاً | *** | وَ أثْبَتُهُمْ حَدثاً و أطْيَبُهُمْ لَحْنَا |
تَلَذُّ بِهَا الأسْمَاعُ حتّى كَأنهَا | *** | ألَذُّ مِنْ أيَّامِ الشَّبِيبَةِ أوْ أهْنَي |
وَ في كُلِّ بَيْتٍ لَذَّةٌ مُسْتَجَدَّةٌ | *** | إذَا مَا انْتَشَاهُ قِيلَ: يَا لَيْتَهُ ثَنَّي |
تَقَبَّلَهَا رَبِّي وَ وَفَّى ثَوَابَهَا | *** | وَ ثَقَّلَ مِيزَانِي بِخَيْرَاتِهَا وَزْنَا |
وَ صلّى على الأطهَارِ مِنْ آلِ أحْمَدٍ | *** | إلَهُ السَّمَاءِ مَا عَسْعَسَ اللَّيْلُ أوْ جَنَّا |
استعراض تهنئة الشيخين في كتاب «المناقب» لابن شهرآشوب
و نقل ابن شهرآشوب في كتاب «المناقب» شرحاً مشبعاً من الأخبار و الروايات و الأشعار التي تتحدّث عن إقرار الشيخين و اعترافهما بولاية أمير المؤمنين عليه السلام و أدّت في النهاية إلى معارضتهما و مخالفتهما.
قال: جاء في «فضائل أحمد بن حنبل» و أحاديث أبي بكر بن مالك، و «إبانة» ابن بطّة، و «كشف» الثعلبيّ، عن البراء بن عازب، قال: لمّا أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه و آله من حجّة الوداع، كنّا بغدير خمّ، فنادى: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ.۱ و كسح رسول الله تحت شجرتين، فأخذ بيد عليّ و قال:
أ لَسْتُ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ؟! قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: أ وَ لَسْتُ أوْلَى مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟! قَالُوا: بَلَى! قَالَ: هَذَا مَوْلَى مَنْ أنَا مَوْلَاهُ! اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ! فَقَالَ: فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَقَالَ: هَنِيئاً لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ!
قال البراء: فلقي عمر بن الخطّاب عليا فقال له: هَنِيئاً لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ!
و قال أبو سعيد الخدريّ في خبر: ثمّ قال النبيّ صلّى الله عليه و آله: يَا قَوْمِ هَنِّئُونِي! هَنِّئُونِي! إنَّ اللهَ تعالى خَصَّنِي بِالنُّبُوَّةِ، وَ خَصَّ أهْلَ بَيْتِي بِالإمَامَةِ، فَلَقِيَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ فَقَالَ: طُوبَى لَكَ يَا أبَا الحَسَنِ! أصْبَحْتَ مَوْلَاي وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ!
و قال الخركويّش في كتاب «شرف المصطفى»: عن البراء بن عازب في خبر، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه و آله: اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: هَنِيئاً لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ وَ أمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.
و ذكر أبو بكر الباقلّانيّ في كتابه «التمهيد» هذا الحديث متأوّلًا له.
و قال السمعانيّ في «فضائل الصحابة» بإسناده عن سالم بن أبي الجعد: قيل لعمر بن الخطّاب: إنَّكَ تَصْنَعُ بِعَلِيّ شَيْئاً لَا تَصْنَعُهُ بِأحَدٍ مِنْ أصْحَابِ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ!
قالَ: إنَّهُ مَوْلَايَ.
أبيات السيّد الحِميريّ في تهنئة الشيخين
و قال السيّد الحِميريّ:
وَ قَالَ مُحَمَّدٌ بِغَدِيرِ خُمٍ | *** | عَنِ الرَّحْمَنِ يَنْطِقُ بِاعْتِزَامِ |
يَصِيحُ وَ قَدْ أشَارَ إلَيْهِ فِيكُمْ | *** | إشَارَةً غَيْرَ مُصْغٍ لِلْكَلَامِ |
ألَا مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا | *** | أخِي مَوْلَاهُ فَاسْتَمِعُوا كَلَامِي |
فَقَامَ الشَّيْخُ يَقْدُمُهُمْ إلَيْهِ | *** | وَ قَدْ حَصَدَتْ يَدَاهُ مِنَ الزِّحَامِ |
يُنَادِي: أنْتَ مَوْلَايَ وَ مَوْلَى | *** | الأنَامِ فَلِم عَصَي مَوْلَى الأنَامِ۱ |
و أنشد الحِميَريّ أيضاً:
فَقُلْتِ: أخَذْتُ عَهْدَكُمْ عَلَى ذَا | *** | فَكُونُوا لِلْوَصِيّ مُسَاعِدِينَا |
لَقَدْ أصْبَحْتَ مَوْلَانَا جَمِيعَاً | *** | وَ لَسْنَا عَنْ وَلَائِكَ رَاغِبِينَا٢ |
و قال السيّد الحِميَريّ أيضاً:
قَامَ النَّبِيّ يَوْمَ خُمٍّ خَاطِبَاً | *** | بِجَانِبِ الدَّوْحَاتِ أوْ حِيَالِهَا |
فَقَالَ: مَن كُنْتُ لَهُ مَوْلَى فَذَا | *** | مَوْلَاهُ رَبِّ اشْهَدْ مِرَارَاً قَالَهَا |
إنَّ رِجَالًا بَايَعَتْهُ إنَّمَا | *** | بَايَعَتِ اللهَ فَمَا بَدَا لَهَا |
قَالُوا سَمِعْنَا وَ أطِعْنَا أجْمَعاً | *** | وَ أسْرَعُوا بِالألْسُنِ اشْتِغَالَهَا٣ |
وَ جَاءَهُمْ مَشِيخَةٌ يَقْدُمُهُمْ | *** | شَيْخٌ يُهَنِّي حَبَّذَا مَنَالُهَا |
قَالَ لَهُ: بَخٍ بَخٍ مَنْ مِثْلُكَ | *** | أصْبَحْتَ مَوْلَى المُؤْمِنِينَ يَا لَهَا٤ |
و قال العونيّ۱:
حَتَّى لَقَدْ قَالَ ابْنُ خَطَّابٍ لَهُ | *** | لَمَّا تَقَوَّضَ مِنْ هُنَاكَ وَ قَامَا |
أصَبَحْتَ مَوْلَاي وَ مَوْلَى كُلِّ مَنْ | *** | صلّى لِرَبِّ العَالَمِينَ وَ صَامَا٢ |
و قال العونيّ أيضاً:
نَادَي وَ لَمْ يَكُ كَاذِباً بَخْ بَخْ أبَا | *** | حَسَنٍ تُرِيعُ الشِّيبَ وَ الشُّبَّانِ |
أصْبَحْتَ مَوْلَى المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةً | *** | مَوْلَى إنَاثِهِمُ مَعَ الذُّكْرَانِ٣ |
و أنشد الخطيب المنيح:
وَ قَالَ لَهُمْ: رَضِيتُمْ بِي وَلِيَّاً | *** | فَقَالُوا: يَا محَمَّدُ قَدْ رَضِينَا |
فَقَالَ: وَلِيُّكُمْ بَعْدِي عَلِيّ | *** | وَ مَوْلَاكُمْ فَكُونُوا عَارِفِينَا |
فَقَالَ لِقَوْلِهِ عُمَرٌ سَريعاً | *** | وَ قَالَ لَهُ مَقَالَ الوَاصِفِينَا |
هَنِيئاً يَا عَلِيّ أنْتَ مَوْلَى | *** | عَلَيْنَا مَا بَقِيتَ وَ مَا بَقِينَا٤ |
و روى معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، في خبر: لَمَّا قَالَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ، قَالَ
العَدَوِيّ: لَا وَ اللهِ مَا أمَرَهُ بِهَذَا، وَ مَا هُوَ إلَّا شَيءٌ يَتَقَوَّلُهُ، فَأنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ، وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ}۱ (يَعْنِي مُحَمَّداً) {وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}٢ (يَعْنِي عَلِيَّاً).
و روى حسّان الجمّال في خبر عن الإمام الصادق عليه السلام: فَلَمَّا رَأوْهُ رَافِعاً يَدَيْهِ- يَعْنِي رَسُول اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ- قَالَ بَعْضُهُمْ: انْظُرُوا إلى عَيْنَيْهِ تَدُورَانِ كَأنهُمَا عَيْنَا مَجْنُونٍ. فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلامْ بِهَذهِ الآيَةِ: {وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ، وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ}.٣
و أنشد السيّد الحِميَريّ أيضاً:
فَقَالَ: ألَا مَن كُنْتُ مَوْلَاهُ مِنْكُمْ | *** | فَمَوْلَاهُ مِنْ بَعْدِي عَلِيّ فَأذْعِنُوا |
فَقَالَ شَقِيّ مَنْهُمْ لِقَرِينِهِ | *** | وَ كَمْ مِنْ شَقِيّ يَسْتَزِلُّ وَ يُفْتِنُ |
يَمُدُّ بِضَبْعَيْهِ عَلِيَّاً وَ إنَّهُ | *** | لِمَا بِالَّذِي لَمْ يُؤْتَهُ لَمُزَيِّنُ |
كَأنْ لَمْ يَكُنْ في قَلْبِهِ ثِقَةٌ بِهِ | *** | فَيَا عَجَبَاً أني وَ مِنْ أيْنَ يُوقِنُ |
الروايات الواردة حول عدم رسوخ الولاية في نفوس شيوخ قريش
و قال الشريف المرتضى في «التنزيه»: إنَّ النَّبِيّ لَمّا نَصَّ عَلَى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالإمَامَةِ في ابْتِدَاءِ الأمْرِ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ النَّاسَ قَرِيبُوا عَهْدٍ بِالإسْلَامِ وَ لَا يَرْضُوا أنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ فِيكَ وَ الإمَامَةُ في ابْنِ عَمِّكَ؛ فَلَوْ عَدَلْتَ بِهَا إلَى حِينٍ لَكَانَ أوْلَى
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِرَأيِي فَأتَخَيَّرُ فِيهِ، وَ لَكِنَّ اللهَ أمَرَنِي بِهِ وَ فَرَضَهُ عَلَيّ! فَقَالُوا لَهُ: فَإذَا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ مَخَافَة الخِلافِ عَلَى رَبِّكَ فَأشْرِكْ مَعَهُ في الخِلافَةِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ يَسْكُنُ إلَيْهِ النَّاسُ، لِيَتِمَّ الأمْرُ وَ لَا يُخَالَفَ عَلَيْكَ! فَنَزَلَ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ}.۱
و روى عبد العظيم الحسنيّ، عن الإمام الصادق عليه السلام في خبر، قال: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ: اجْتَمَعَتْ إلَيّ قُرَيْشٌ فَأتَيْنَا النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّا كُنَّا تَرَكْنَا عِبَادَةَ الأوْثَانِ وَ اتَّبَعْنَاكَ فَأشْرِكْنَا في وَلَايَةِ عَلِيّ فَنَكُونَ شُرَكَاءَ. فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَى النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
قال ذلك الرجل من بني عديّ: فضاق صدري من كلام النبيّ فخرجت هارباً لما أصابني من الجهد؛ فإذا أنا بفارس قد تلقّاني على فرس أشقر، عليه عمامة صفراء تفوح منه رائحة المسك، فقال: يا رجل لَقَدْ عَقَدَ مُحَمَّدٌ عُقْدَةً لَا يَحُلُّهَا إلَّا كَافِرٌ أوْ مُنَافِقٌ.
قال: فأتيت النبيّ، فأخبرته، فقال: هل عرفت الفارس؟! ذلك جبرئيل عليه السلام عرض عليكم عقد ولاية: إن حللتم العقد أو شكّكتم، كنتُ خصمكم يوم القيامة.
و أنشد السيّد الحِميَريّ:
وَ قَامَ مُحَمَّدٌ بِغَدِيرِ خُمٍ | *** | فَنَادَى مُعْلِنَاً صَوْتاً بَدِيَّا |
ألَا مَن كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا | *** | لَهُ مَوْلَى وَ كَانَ بِهِ حَفِيَا |
إلَهِي عَادِ مَنْ عَادَى عَلِيَّاً | *** | وَ كُنْ لِوَلِيِّهِ مَوْلَى وَلِيَّا |
فَقَالَ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ عُتُلٌ | *** | لُاوْلَاهُمْ بِهِ قَوْلًا خَفِيَّا |
لَعَمْرُ أبِيكَ لَوْ يَسْطِعْ هَذَا | *** | لَصَيَّرَ بَعْدَهُ هَذَا نَبِيَّا |
فَنَحْنُ بِسُوءِ رَأيِهِمَا نُعَادِي | *** | بَنِي تَيْمٍ وَ لَا نَهْوَى عَدِيَّا۱ |
كلام معارضي الولاية في عصر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
و في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال: قام ابن هند و تمطّى و خرج مغضباً واضعاً يمينه على عبد الله بن قيس الأشعريّ، و يساره على المغيرة بن شعبة، و هو يقول:
وَ اللهِ لَا نُصَدِّقُ محَمَّدَاً عَلَى مَقَالَتِهِ وَ لَا نُقِرُّ عَلِيَّاً بِولَايَتِهِ. فَنَزَلَ: {فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى ، وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى* ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ، أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى}.٢
فهمّ به رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يردّه فيقتله؛ فهبط جبرئيل بهذه الآية: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}. فلهذا سكت عنه رسول الله.
و عن الإمام عليه السلام في قوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ}٣: ذلك قول أعداء الله لرسوله من خلفه و هم يرون أنه لا يسمع قولهم: لو أنه جعلنا أئمّة دون عليّ أو بدّلنا آية مكان آية.
قال الله عزّ و جلّ ردّاً عليهم: {ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
و روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم دعا الناس إلى ولاية عليّ بن أبي طالب ليس إلّا فاتّهموه و خرجوا من عنده، فأنزل الله:
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ} (إن عصيته) {أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ} (في علي) {وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ} (في و لا ية علي) {فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً}.۱
و عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أيضاً أنه فسّر الآية في سورة المزّمّل هكذا: {وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} (فِيكَ) {وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا ، وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ} (بِوَصِّيِكَ) {أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}.٢
و عن بعض المعصومين عليهم السلام أنهم فسّروا الآية في سورة المرسلات كما يلي: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (يَا مُحَمَّدُ بِمَا أُوحِي إلَيْكَ مِنْ وَلَايَةِ عَلِيّ) {أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} (الذين كذبوا الرسل، في طاعة الأولياء* {كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} (مَنْ أجْرَمَ إلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَ رَكِبَ مِنْ وَصِيِّه مَا رَكِبَ).٣
و عن الإمام الصادق عليه السلام أنه فسّر الآية في سورة يونس على
النحو التالي: {وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ} (مَا تَقُولُ في عَلِيّ) {قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.۱
و أنشد العونيّ قائلًا:
أ لَيْسَ قَامَ رَسُولُ اللهِ يَخْطُبُهُمْ | *** | يَوْمَ الغَدِيرِ وَ جَمْعُ النَّاسِ مُحْتَفِلُ |
وَ قَالَ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَذَاكَ لَهُ | *** | مِنْ بَعْدُ مَوْلَى فَوَاخَاهُ وَ مَا فَعَلُوا |
لَوْ سَلَّمُوهَا إلَى الهَادِي أبِي حَسَنٍ | *** | كَفَي البَرِيَّةَ لَنْ تَسْتَوحِشَ السُّبُلُ |
هَذَا يُطَالِبُهُ بالضَّعْفِ مُحْتَقِبَاً | *** | وَ تِلْكَ يَجدُونَهَا في مَحْفِلٍ جُمُلُ٢ |
و قال ابن حَمَّاد:
ألَا إنَّ هَذَا وَلِيّ لَكُمْ | *** | أطِيعُوا فَوَيلٌ لِمَنْ لَمْ يُطِعْ٣ |
و نقل ابن شهرآشوب عن العونيّ أيضاً:
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ هَذَا لُامَّتِي | *** | هُوَ ألْيَومَ مَوْلَى رَبَّ مَا قُلْتُ فَاسْمَعِ |
فَقَامَ جَحُودٌ ذُو شِقَاقٍ مُنَافِقٌ | *** | يُنَادِي رَسُولَ اللهِ مِنْ قَلْبِ مُوجِعِ |
أ عَنْ رَبِّنَا هَذَا أمْ أنْتَ اخْتَرَعْتَهُ | *** | فَقَالَ: مَعَاذَ اللهِ لَسْتُ بِمُبْدِعِ |
فَقَالَ عَدُوُّ اللهِ: لَا هُمَّ إن يَكُنْ | *** | كَمَا قَالَ حَقَّاً بِي عَذَابَاً فَأوْقِعِ |
فَعُوجِلَ مِنْ أفْقِ السَّمَاءِ بِكُفْرِهِ | *** | بِجَنْدَلَةٍ فَانْكَبَّ ثَاوٍ بِمَصْرَعِ۱ |
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: «في الخَبَرِ أنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ وَفَاتِهِ بِمُدَّةٍ وَ يَقُولُ: قَدْ حَانَ مِنِّي خُفُوقٌ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِكُمْ! وَ كَانَ المُنَافِقُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ مَاتَ محَمَّدٌ لَيَخْرَبُ دِينُهُ. فَلَمَّا كَانَ مَوْقِفُ الغَدِيرِ قَالُوا: بَطَلَ كَيْدُنَا. فَنَزَلَتْ:
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}- (الآية).٢
أبيات البشنويّ في كلام المعارضين الذين قالوا لا نسلّم الإمامة لعليّ
و نقل عن البشنويّ أيضاً، أنه أنشد قائلًا:
فَقَالَ كَبِيرُهُمْ مَا الرَّأيُ فِيمَا | *** | تَرَوْنَ يَرُدُّ ذَا الأمْرِ الجَلِيّ |
سَمِعْتُمْ قَوْلَهُ قَوْلًا بَلِيغَاً | *** | وَ أوْصَى بِالخِلَافَةِ في عَلِيّ |
فَقَالُوا حِيلَةٌ نُصِبَتْ عَلَيْنَا | *** | وَ رَأيٌ لَيْسَ بالعَقْدِ الوَفِيّ |
نُدَبِّرُ غَيْرَ هَذَا في امُورٍ | *** | نَنَالُ بِهَا مِنَ العَيْشِ السَّنِيّ |
سَنَجْعَلُهَا إذَا مَا مَاتَ شُورَى | *** | لِتَيْمِيّ هُنَالِكَ أوْ عَدِيّ٣ |
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: و روي أنَّ رسول الله صلّى الله عليه
و آله و سلّم لمّا فرغ من غدير خمّ و تفرّق الناس، اجتمع نفر من قريش يتأسّفون على ما جرى. فمرّ بهم ضبّ، فقال بعضهم: ليت محمّداً أمر علينا هذا الضبّ دون عليّ.
فسمع ذلك أبو ذرّ الغفاريّ، فحكي ذلك لرسول الله. فبعث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إليهم و أحضرهم و عرض عليهم مقالتهم. فأنكروا و حلفوا أنهم لم يقولوا ذلك، فأنزل الله هذه الآية:
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ}.۱
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَا أظَلَّتِ الخَضْرَاءُ وَ مَا أقَلَّتِ الغَبْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أصْدَقُ مِنْ أبِي ذَرٍّ.٢
و في رواية أبي بصير عن [الإمام] الصادق عليه السلام في خبر أنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ قَالَ: أمَّا جَبْرَئِيلُ نَزَلَ عَلَيّ وَ أخْبَرَنِي أنهُ يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِقَومٍ إمَامَهُمْ ضَبُّ؛ فَانْظُرُوا أنْ لَا تَكُونُوا اولَئكَ، فَإنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ}.٣
و نقل ابن شهرآشوب أيضاً هذه الأبيات عن ابن الطوطيّ:
وَ يَوْمَ غَدِيرٍ قَدْ أقَرُّوا بِفَضْلِهِ | *** | وَ في كُلِّ وَقْتٍ مِنْهُمُ الغَدْرَ أضْمَرُوا |
أرَى دَوْحَ خُمٍّ وَ النَّبِيّ محَمَّدَاً | *** | يُنَادِي بِأعْلَى الصَّوْتِ مِنْهُمْ وَ يَجْهَرُ |
أ لَسْتُ إذَنْ أوْلَى بِكُمْ مِنْ نُفُوسِكُمْ | *** | فَقَالُوا: بَلَى وَ القَوْمُ في الجَمْعِ حُضَّرُ |
فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ مِنْكُمْ | *** | فَمَوْلَاهُ بَعْدِي حَيْدَرُ المُتَخَيَّرُ |
فَوَالِ مَوَالِيهِ وَ عَادِ عَدُوَّهُ | *** | أيَا رَبِّ وَ انْصُرْهُ لِمَنْ ظَلَّ يَنْصُرُ |
فَلَمَّا مَضَى الهَادِي لِحَالِ سَبِيلِهِ | *** | أبَانُوا لَهُ الغَدْرَ القَبِيحَ وَ أظْهَرُوا۱ |
و روي في كتاب «ذخائر العقبى» بتخريج أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كنّا عند النبيّ صلّى الله عليه سلّم في سفر فنزلنا بغدير خمّ. ثمّ نقل خطبة رسول الله، و قال في ذيلها: فَلَقِيَهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: هَنِيئاً لَكَ يَا ابْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ وَ أمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.٢
و أخرج أحمد بن حنبل هذا الحديث في مناقبه عن عمر.٣
و قال محبّ الدين الطبريّ أيضاً في كتاب «ذخائر العقبى»: عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَ قَدْ جَاءَهُ أعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فَقَالَ لِعَلِيّ: اقْضِ بَيْنَهُمَا يَا أبَا الحَسَنِ. فَقَضَى عَلِيّ بَيْنَهُمَا. فَقَالَ أحَدُهُمَا: هَذَا يَقْضِي بَيْنَنَا؟! فَوَثَبَ
إلَيهِ عُمَرُ وَ أخَذَ بِتَلْبِيبِهِ وَ قَالَ: وَيْحَكَ! مَا تَدْرِي مَنْ هَذَا؟! هَذَا مَوْلَايَ وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ! وَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.۱
و أخرج ابن السمّان هذا الحديث أيضاً في كتاب «الموافقة».
و ذكره ابن الأثير الجَزَريّ هكذا: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ الْيَومَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ.٢
و ذكرها بهذه العبارة خواندمير: غياث الدين بن همام الدين الحسينيّ، و هو من أهل السنّة في تأريخه بعد عرض واقعة الغدير و نزول آية التبليغ و تبيان حديث الولاية: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَهَذا عَلِيّ مَولَاهُ. اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَ أدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ. ثمّ جلس أمير المؤمنين كرّم الله وجهه بأمر من النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم في خيمة ليزوره الناس و يهنّئوه، و فيهم أمير المؤمنين عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: بَخٍّ بَخٍّ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ مَوْلَائي وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.٣
ثمّ أمر النبيّ امّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين و تهنئته.٤
و نقل مير محمّد بن خاوند شاه المعروف بمير خواند في تأريخه هذه العبارات نفسها باللغة الفارسيّة.٥
أعيان من علماء العامّة ذكروا تهنئة الشيخين
و خصوص حديث تهنئة الشيخين (أبي بكر و عمر) رواه، مضافاً إلى علماء الشيعة رضوان الله عليهم من أئمّة التأريخ و التفسير و الحديث من رجال السنّة كثير لا يستهان بعدّتهم بين راوٍ له بأسانيد صحيحة لرجال ثقات تنتهي إلى ابن عبّاس، و أبي هريرة، و زيد بن أرقم، و البراء بن عازب، و بين راوٍ مرسلًا له إرسال المسلّمات.
و ذكره بعض العامّة بلفظ: بَخٍّ بَخٍّ يَا عَلِيّ، و بعضهم بلفظ هَنِيئاً لَكَ، و بعضهم بلفظ طُوبَى لَكَ؛ و من جهة اخرى، نقله بعضهم بلفظ أصْبَحْتَ، و بعضهم بلفظ وَ أمْسَيْتَ، و بعضهم بلفظ أصْبَحْتَ وَ أمْسَيْتَ. و رواه جماعة عن عمر، و جماعة عن أبي بكر و عمر كليهما. و مفاد متن الحديث متباين أيضاً، فبعضهم رواه بلفظ مَوْلَايَ وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ، و بعضهم بلفظ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، و بعضهم بلفظ مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، و بعضهم بلفظ مَوْلَايَ وَ مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. أذكر فيما يلي زبدة ما ذكره العلّامة الأمينيّ رحمة الله عليه و لكن بترتيب و اسلوب خاصّ بنا.
الأوّل: الحافظ أحمد بن عقدة في كتاب «الولاية»، و الحافظ أبو عبد الله المرزبانيّ في كتاب «سرقات الشعر»، و الحافظ عليّ بن عمر الدارقطنيّ بناءً على نقل ابن حَجَر في «الصواعق»، و أبي محمّد العاصميّ في كتاب «زَيْن الفتى»، و الحافظ أبو عبد الله الكنجيّ في كتاب «كفاية الطالب»، و ابن حجر العسقلانيّ الهيتميّ في كتاب «الصواعق المحرقة»، و شمس الدين المناويّ الشافعيّ في كتاب «فيض القدير» و أبو عبد الله الزرقانيّ في كتاب «شرح المواهب»، و سيّد أحمد زَيني دَحْلان في كتاب «الفتوحات الإسلاميّة». أخرجه هؤلاء بالعبارة التالية: «قَالَ أبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ: أمْسَيْتَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ».
الثاني: الحافظ أبو عبد الله ابن بطّة في كتاب «الإبانة»، و القاضي
أبو بكر الباقلّانيّ في كتاب «تمهيد الاصول»، ذكراه هكذا: إنَّ أبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَا قَالا: يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أنْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ!
الثالث: الحافظ أبو بكر ابن شيبة في كتاب «المُصَنَّف»، و أحمد بن حنبل في مسنده، و الحافظ أبو عبّاس الشيبانيّ، و الحافظ أبو يعلى الموصليّ في مسنده، و الحافظ أبو سعد السمعانيّ في «فضائل الصحابة»، و أبو الفرج ابن الجوزيّ الحنبليّ في مناقبه، و أبو المظفّر سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ في «تذكرة خواصّ الامّة»، و عمر بن محمّد الملّا في «وسيلة المتعبّدين». و الحافظ محبّ الدين الطبريّ في «الرياض النضرة»، و شيخ الإسلام «الحمّوئيّ» في «فرائد السمطين»، و وليّ الدين الخطيب في «مشكاة المصابيح»، و جمال الدين الزرنديّ في «نظم درر السمطين» و أبو الفداء ابن كثير الشاميّ الشافعيّ في «البداية و النهاية»، و تقي الدين المقريزيّ المصريّ في «الخطط»، و نور الدين بن صبّاغ المالكيّ في «الفصول المهمّة» و كمال الدين الميبديّ في «شرح الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين»، و جلال الدين السيوطيّ في «جمع الجوامع» بناءً على نقل «كنز العمّال»، و نور الدين السمهوديّ الشافعيّ في «وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى»، و سيّد عليّ بن شهاب الدين الهمدانيّ في «مودّة القربى»، و سيّد محمود الشيخانيّ القادريّ في «الصراط السويّ في مناقب آل النبيّ»، و الشيخ أحمد با كثير المكّيّ في «وسيلة المآل في عَدّ مناقب الآل»، و الميرزا محمّد البدخشانيّ في «مفتاح النجا في مناقب آل العبا»، و الشيخ محمّد صدر العالم في «معارج العلى في مناقب المرتضى»، و أبو وليّ الله العُمَريّ الدهلويّ، و سيّد محمّد الصنعانيّ في «الروضة النديّة شرح التحفة العلويّة»، و المولويّ محمّد مبين اللكهنويّ في «وسيلة النجاة»، و الشيخ محمّد حبيب الله الشنقيطيّ المالكيّ في «كفاية الطالب في حياة
عليّ بن أبي طالب». نقله هؤلاء كلّهم بالعبارة التالية: «قَالَ عُمَرُ: هَنِيئاً لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ وَ أمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ!
الرابع: الحافظ أبو جرير الطبريّ في تفسيره، و الحافظ أبو سعيد الخركويّش في «شرف المصطفى»، و أبو حامد الغزاليّ في «سرّ العالمين»، و أخطب خطباء خوارزم موفّق بن أحمد الحنفيّ في مناقبه، و فخر الدين الرازيّ الشافعيّ في تفسيره، و نظام الدين القمّيّ النيسابوريّ، و سيّد عبد الوهّاب الحسينيّ البخاريّ، و محمّد محبوب العالم في «تفسير شاهي». نقله هؤلاء بالعبارة التالية: فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَقَالَ: هَنِيئاً لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ وَ أمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.
الخامس: الحافظ ابن سمّان الرازيّ بناءً على نقل محبّ الدين الطبريّ في «الرياض النضرة»، و الشنقيطيّ في «حياة عليّ بن أبي طالب»، و حُسام الدين بايزيد السَّهَانبوريّ في «مرافض الروافض». ذكره هؤلاء العبارة التالية: فَلَقِيَ عَلِيَّاً عَلِيهِ السَّلَامُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: هَنِيئاً يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ وَ أمْسَيْتَ مَوْلَاي وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.
السادس: أبو إسحاق الثعلبيّ في تفسيره «الكشف و البيان»، و الحافظ أبو بكر البيهقيّ بناءً على نقل «الفصول المهمّة»، و الحافظ أبو بكر الخطيب البغداديّ، و الفقيه أبو الحسن ابن المغازليّ في «المناقب»، و أبو الفتح الأشعريّ الشهرستانيّ في «الملل و النحل»، و القاضي نجم الدين الأذرعيّ الشافعيّ في «بديع المعاني». نقله هؤلاء بالعبارة التالية: فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَقَالَ: هَنِيئاً لَكَ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.
السابع: الفقيه ابن المغازليّ في «المناقب» بسند آخر، و الخطيب الخوارزميّ في «المناقب»، بسند آخر، نقلاه هكذا: بَخٍّ بَخٍّ يَا أبَا الحَسَنِ!
أصْبَحْتَ مَوْلَاي وَ مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ!
الثامن: أبو الفتح محمّد بن عليّ النطنزيّ في «الخصائص العلويّة»، و الشيخ الحمّوئيّ بسند آخر، روياه كالآتي: قَالَ عُمَرُ: بَخٍّ بَخٍّ يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ مَوْلَاي وَ مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ!
التاسع: أبو محمّد العاصميّ في «زين الفتى» بسند آخر، قال فيه: قَالَ عُمَرُ: هَنِيئاً لَكَ يَا أبَا الحَسَنِ! أصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ!
العاشر: أبو السعادات ابن الأثير الشيبانيّ في «النهاية»، و شهاب الدين القسطلانيّ في «المواهب اللَّدُنِّيَّة»، أورداه بهذه العبارة: قَوْلُ عُمَرُ لِعَلِيّ: أصْبَحْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ.
الحادي عشر: عزّ الدين بن الأثير الشيبانيّ، ذكره بهذه العبارة: قَالَ عُمَرُ: يَا بْنَ أبِي طَالِبٍ! أصْبَحْتَ الْيَومَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ.۱
فهذه بعض الأحاديث و الروايات الدالّة على أنَّ الشيخين قد أقرّا و اعترفا بولاية أمير المؤمنين عليه السلام إلّا أنهما حملا الولاية على معنى آخر غير الإمامة و الإمارة و الخلافة لئلّا تصطدم بإمارتهما و حكومتهما. و هذا الحمل غير صحيح لأنَّ ما نصّ عليه أهل اللغة و الشعراء، و ما عُرفَ من المعنى الأصليّ للولاية- كما ذكرنا في المباحث المتقدّمة- هو أنَّ الولاية بمعنى الأولويّة من جميع الوجوه، و القُرب بكلّ ما للكلمة من معنى، و هو ما يستلزم الرئاسة و الحكومة و الخلافة و حقّ التصرّف في الدين و الدنيا.
إنَّ اولئك ينكرون هذه الحقيقة مع أنها أظهر من الشمس، و يتشبّثون بأدلّة واهية كقولهم: إنَّ الحكومة منفصلة عن الولاية، و إنَّ على
الناس أن ينهضوا لتعيين الإمام؛ كما نلاحظ أنَّ كثيراً من العامّة يقولون في كيفيّة الاستدلال: إنَّ الحديث المعروف: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ حديث صحيح و أنه ثابت الصدور عن رسول الله، و متواتر، بيد أنَّ الولاية لا تعني الحكومة و الخلافة. إنَّهم يقولون: إنَّ أفضل دليل على هذا الموضوع هو أنَّ الشيخين هنّئا أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما سمعا هذا الحديث من رسول الله و اعترفا به، بيد أنهما اجتمعا في سقيفة بني ساعدة و معهما جماعة و أبو بكر.
كلام صاحب تفسير «المنار» في أنَّ العامّة يعتقدون بالولاية
يقول السيّد محمّد رشيد رضا: «يقول أهل السنّة: إنَّ الحديث لا يدلّ على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة. و لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى. بل المراد بالولاية فيه، ولاية النصرة و المودّة التي قال الله فيها في كلّ من المؤمنين و الكافرين: {بعضهم أولياء بعض}. و معنى الحديث: «من كنت ناصراً و مواليا له فعليّ ناصره و مواليه»؛ أو «من والاني و نصرني فليوال عليّاً و ينصره». و حاصل معناه أنه يقفو أمر النبيّ فينصر من ينصر النبيّ. و على من ينصر النبيّ أن ينصره [عليّ عليه السلام].
و هذه مزية عظيمة. و قد نصر كرّم الله وجهه أبا بكر، و عمر، و عثمان و والاهم. فالحديث ليس حجّة على من والاهم مثله، بل حجّة له على من يبغضهم و يتبرّأ منهم. و إنَّما يصحّ أن يكون حجّة على من والى معاوية و نصره عليه.
فهو لا يدلّ على الإمامة بل يدلّ على نصره إماماً و مأموماً، و لو دلّ على الإمامة عند الخطاب، لكان إماماً مع وجود النبيّ؛ و الشيعة لا تقول بذلك.
و للفريقين أقوال في ذلك لا نحبّ استقصاءها و الترجيح بينها، لأنها من الجدل الذي فرّق بين المسلمين، و أوقع بينهم العداوة و البغضاء.
و ما دامت عصبيّة المذاهب غالبة على الجماهير، فلا رجاء في تحرّيهم الحقّ في مسائل الخلاف، و لا في تجنّبهم ما يترتّب على الخلاف من التفرّق و العداء.
و لو زالت تلك العصبيّة و نبذها الجمهور، لما ضرّ المسلمين حينئذٍ ثبوت هذا القول أو ذاك، لأنهم لا ينظرون فيه حينئذٍ إلّا بمرآة الإنصاف و الاعتبار، فيحمدون المحقّين، و يستغفرون للمخطئين.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}.۱
أمّا نحن فقد أبنّا بحول الله و قوّته إبانة الشمس الساطعة أنَّ معنى الولاية هو مقام العبوديّة المحضة و رفع الحجاب بين المعبود و عبده، و شرط ذلك القُرب الملازم للسيطرة التكوينيّة على عالم الملك و الملكوت، الذي لا تبارحه الرئاسة و الإمارة و الإمامة، إذ هي من شئونه و لوازمه التي لا تنفصل عنه؛ و الفصل بينهما، بخاصّة في خطبة رسول الله و مع هذه القرائن و الشواهد الجمّة، أمر لا يقرّه العقل.
فالحديث يدلّ على الولاية المتمثّلة بإمارة أمير المؤمنين، كما يدلّ على وجوب موالاة مواليه كسلمان، و أبي ذرّ، و المقداد، و عمّار وَ مَنْ يَحْذُو حَذْوَهُمْ؛ و على وجوب معاداة أعدائه أيّاً كانوا. ذلك أنَّ التَّوَلِّي و التَّبَرِّي ركنان من الأركان الثابتة للمذهب من وحي هذا المنطلق. أمّا النقاشات المتحيّزة فهي خاطئة و عقيمة دائماً، بيد أنَّ النقاش الذي يتوخّى تقصّي الحقائق و استنتاج الرأي الصحيح، و معرفة المحقّ من المفسد و المنصف
من المُدغِل المكابر لتشييد الآراء على أساس مذهب صحيح، و اتّباع الحقّ دون الباطل فهو ممدوح و لازم بل و ضروريّ. و أني لنا معرفة المذهب الصحيح من غير الصحيح ما لم نتوفّر على بحث دقيق و صحيح في التأريخ التحليليّ للصحابة في صدر الإسلام؟
و حينئذٍ على أيّ منهج من المناهج نرسّخ آراءنا و عقائدنا و أخلاقنا و أعمالنا؟ فمعرفة الصحابة و اسلوب تفكيرهم ضروريّ لنا. و كلّ من كان من أهل التمحيص و التنقيب و البحث عن المذهب الصحيح، لا يمكنه أن يتملّص من هذه المسألة، فيتّبعهم اتّباعاً أعمى بلا معرفة تَقْلِيدَاً لِبَعْضِ السَّلَفِ؛ و هذه خلاف الدعوة الإسلاميّة. و سنتحدّث عن هذا الموضوع إن شاء الله.
و أمّا ما قاله إنّنا لا نحبّ استقصاء آراء الفريقين: الشيعة و السنّة و الترجيح بينهما؛ فالواضح أنَّ هذا الاستقصاء سيؤدّي إلى بروز أعراض الخجل على وجوه أنصار الصحابة؛ و يبلغ بنا في البحث الكلاميّ نقطة تستبين فيها الحقيقة كالشمس في رائعة الضحى، أنَّ تلك الشرذمة قد غصبت حقّ عليّ بن أبي طالب غصباً لا مراء فيه، و سجّرت النار في باب بضعة الرسول. و حينئذٍ فمن الطبيعيّ أنَّ مصلحة المتمسّكين بهذا الرأي تتطلّب أن لا يستقصوا و لا يرجّحوا!
أمّا مهمّة الباحث النزيه فتتمثّل في أن يتابع الموضوع متابعة دقيقة و أن يوفيه حقّه في أيّ بحث، و يعرض الحقّ بلا تحيّز لفرقة من الفرق، و يضعه في متناول أيدي الباحثين و القرّاء؛ و حينئذٍ سيتعرّف الناس على الحقيقة و يختارون طريقهم، فلا يتحمّل الباحث مسؤوليّة ذلك. و الإنسان الكاتب بخاصّة في المسائل الكلاميّة التي تمسّ عقائد الناس في الصميم ينبغي أن يكون أميناً، ذلك أنه يكون مرجعاً لأجيال تتّخذ رأيه حجّة
بوصفه مستشاراً وَ المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ.
إنَّ عليّ بن أبي طالب الذي يقرّ المخالفون بأنه الوحيد رجل الحقّ و الاستقامة الحقيقيّ، و الأعلم و الأفضل و الأورع و الأشجع و الأعرف بكتاب الله و سنّة رسوله، و مع سابقته في التوحيد و الإخلاص و الإيمان و الإيقان و الإيثار و العبوديّة المحضة للّه، و تضحيته الخالصة لرسوله الأكرم في السرّاء و الضرّاء و اليسر و العسر، قد اقصي من القيادة بلا دليل مقنع، فَلِمَ حدث ذلك؟ و بأيّ دليل ...؟
التصويت السرّيّ المموّه بالخداع في السقيفة!
و إذا كانت الإمامة و الحكومة بتعيين و انتخاب الناس و بوجوب الرجوع إلى أهل الخبرة و أصحاب الحلّ و العقد، فلما ذا بادر القوم سرّاً و على عجل و بسرعة تفوق الحدّ باتّجاه السقيفة دون أن يعلموا عليا و شيعته من كبار أصحاب رسول الله من المهاجرين و الأنصار و دون أن يخبروا العبّاس عمّ النبيّ و أولاده، و دون أن يشترك أحد من بني هاشم، و تخلّف جمع كثير من المهاجرين و الأنصار بينما لا يزال جثمان رسول الله مُسجي على الأرض و عليّ مشغول بغسله و تكفينه؟ و نقل المؤرّخون من العامّة أنَّ الشيخين (أبو بكر و عمر) أسرعا إلى سقيفة بني ساعدة و هما يتسابقان. و بعد محادثات دارت في السقيفة خفية، و هي تحوم حول أفضليّة قريش على الأنصار، صوّتوا و بايعوا أبا بكر.
و إذا كان الانتماء إلى قريش معياراً للإمامة، فعليّ أفضل قريش و أعلمهم و أقربهم من رسول الله، فكيف استدلّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة؟
يقول ابن قتيبة الدينوريّ: لمّا اخذ عليّ إلى المسجد للبيعة، و امر بها قال: اللهَ اللهَ يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ! لَا تُخْرِجُوا سُلْطَانَ مُحَمَّدٍ في العَرَبِ عَنْ دَارِهِ وَ قَعْرِ بَيْتِهِ إلَى دُورِكُمْ وَ قُعُورِ بُيُوتِكُمْ! وَ لَا تَدْفَعُوا أهْلَهُ عَنْ مَقَامِهِ
فِي النَّاسِ وَ حَقِّهِ! فَوَ اللهِ يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ! لَنَحْنُ أحَقُّ النَّاسِ بِهِ، لأنا أهْلُ البَيْتِ، وَ نَحْنُ أحَقُّ بِهَذَا الأمْرِ مَنْكُمْ!
مَا كَانَ فِينَا القَارِئ لِكِتَابِ اللهِ، الفَقِيهُ في دِينِ اللهِ، العَالِمُ بِسُنَنِ رَسُولِ اللهِ، المُضْطَلِعُ بِأمْرِ الرَّعِيَّةِ، المُدَافِعُ عَنْهُمُ الامُورَ السَّيِّئةَ، القَاسِمُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَ اللهِ إنَّهُ لَفِينَا؛ فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى فَتَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ! فَتَزْدَادُوا مِنَ الحَقِّ بُعْدَاً.
فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ الأنْصَارِيّ: لَوْ كَانَ هَذَا الكَلَامُ سَمِعَتْهُ الأنْصَارُ مِنْكَ يَا عَلِيّ قَبْلَ بَيْعَتِهَا لأبِي بَكْرٍ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْكَ اثْنَانِ!۱
ينبغي أن نعلم أنَّ بشير بن سعد المذكور هو بَشِيرُ بْنُ سَعْد بْن ثَعْلَبَةَ بْن جُلَاس ألأنْصَارِيّ الخَزْرَجِيّ من سادات الخزرج و كبارها.٢ و هو الذي تنافس في السقيفة مع سعد بن عبادة رئيس الأوس حسداً، و قد سبق إلى بيعة أبي بكر حتّى بادر إليها قبل عمر و أبي عبيدة بن الجرّاح، فاقتفى الأنصار أثره في البيعة.
و في هذه الحالة فإنّه نفسه يعترف أنَّ الأنصار لو كانت سمعت كلام عليّ قبل بيعة أبي بكر، لما تخلّف أحد عن بيعته. و يستبين هنا أنَّ سقيفة بني ساعدة كان يسودها ذلك الوضع إذ لم تشهد حضور أهمّ مرشّح للخلافة له كلّ هذه الامتيازات، و لو كان حاضراً، فلا جرم يتّخذ المجلس طابعاً آخر. فلا شأن إذَن لذلك الاختيار، و لا قيمة لذلك الاجتماع السرّيّ الذي
عقد خفية بغياب عليّ و بني هاشم و كبار المهاجرين و الأنصار.
إقصاء أمير المؤمنين عليه السلام عن الخلافة بسبب حداثة السنّ
و من المؤاخذات التي اثيرت حول خلافة أمير المؤمنين عليه السلام هي حداثة سنّه. فقد كانوا يقولون: عليّ حَدَث. و أسمعه أبو عبيدة الجرّاح ذلك عند ما اخذ للبيعة فقال له:
يَا بْنَ عَمِّ! إنَّكَ حَدِيثُ السِّنِّ وَ هَؤُلَاءِ مَشِيخَةُ قَوْمِكَ، لَيْسَ لَكَ مِثْلُ تَجْرِبَتِهِمْ وَ مَعْرِفَتِهِمْ بِالامُورِ؛ وَ لَا أرَى أبَا بَكْرٍ إلَّا أقْوَى عَلَى هَذَا الأمْرِ مِنْكَ وَ أشَدَّ احْتِمَالًا وَ اضْطِلَاعَاً بِهِ، فَسَلِّمْ لأبِي بَكْرٍ هَذَا الأمْرَ! فَإنَّكَ إنْ تَعِشْ وَ يَطُلْ بِكَ بَقَاءٌ فَأنْتَ لِهَذَا الأمْرِ خَلِيقٌ وَ بِهِ حَقِيقٌ في فَضْلِكَ وَ دِينِكَ وَ عِلْمِكَ وَ فَهْمِكَ وَ سَابِقَتِكَ وَ نَسَبِكَ وَ صِهْرِكَ!۱
نلاحظ في هذه العبارات المدروسة الصادرة عن أبي عبيدة الجرّاح، ثالث من بايع أبا بكر، و أحد المخطّطين للسقيفة، و الباذلين قصارى جهودهم في دعم الشيخين، كيف يحذّر عليّ من الخلافة و ولاية أُمور المسلمين مع اعترافه بأفضليّته على الشيخين ديناً و علماً و فهماً و سابقة و نسباً و مصاهرة، و لا مبرّر لتحذيره إلّا حداثة السنّ يقول له: لا يهمّك فإنَّ الخلافة ستصير إليك عند شيخوختك إن بقيت حيّاً!
تفنيد الإشكال المثار حول حداثة سنّ الإمام عليه السلام
أوّلًا: لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام حدثاً عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله بل كان له من العمر ثلاث و ثلاثون سنة؛ و كان في تلك المدّة يحظى برعاية خاصّة يوليها له رسول الله منذ ولادته، و كان ملازماً له في السرّ و العلن، و واقفاً على أسرار الدين، و كان الحامي الوحيد للرسول الأعظم باعتراف الصديق و العدوّ. و هو عيبة علمه، العارف بكتاب الله و سنّة رسول الله، و النازل الفريد في ساحات الوغي، و الحاصد لجذور
الكفر و الشرك و العناد و التكبّر، و الملقّن كفّار قريش دروساً مرّة في شتّى المعارك و الغزوات.
و كان أمير المؤمنين ابن الدين المدرّب على مفاهيمه، و العالم برموزه، و الواقف على أسراره. و كان يعيش في روح الدين و قلب الأحداث وزيراً و وليّاً و مولىً و وصيّاً و أخاً و خليفة و قائماً بالأمر بعد رسول الله بنصّ رسول الله.
و ما جدوى الشيخوخة إن لم تكن قرينة للعلم و الإيمان و الإيثار و التضحية و التحمّس و الاستقامة و التقوى؟ أ ليست قيمة الحبّة الواحدة من الدرّ و الجوهر المتألّق تفوق قيمة الجبل العظيم من الحجر؟ أ لم يكن الطفل اليافع أغلى قيمة من الفيل المسنّ؟ أ لم يتفوّق الشابّ القويّ العليم المدبّر على الشيخ الضعيف ذي الفهم القليل؟
و حينئذٍ، من أين لكم هذه الفضوليّة في الدين؟ فعند ما يعيّنه رسول الله و يسمّيه خليفة و وليّاً و موليً، و يدعوه وزيراً و وصيّاً، و خاتم الأوصياء،۱ و خاتم الوصيّين،٢ فمن تكونون أنتم حتّى تتدخّلوا في هذه الامور؟ أ لم يكن هذا تدخّلًا منكم في المعنويّات و حقيقة الأسرار الإلهيّة و الرموز النبويّة إذ أبديتم آراءكم مع عدم خبرتكم، و قصر باعكم في هذه المسائل الإلهيّة، و هذه المراحل من التجرّد و عالم الأنوار، فقدّمتم أبا بكر للحيته البيضاء و ابوّته لزوجة رسول الله؟!
نصّ رسول الله على إمارة عليّ بن أبي طالب للمؤمنين
أ لم يكن رسول الله أعرف منكم في تعيين عليّ وصيّاً له و تفويض امور المسلمين بالولاية الكلّيّة الإلهيّة إليه؟ أ لم يلقّبه أميرَ المؤمنين، و يأمر
امّته و شيوخ قريش و حتّى زوجاته بعد فراغه من خطبة الغدير أن يسلّموا عليه و يهنّئوه بإمرة المؤمنين قائلين: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ و هل علمتم أنتم عدم كفاءته للحكومة و لم يعلم الله و رسوله ذلك؟
أ لم ترووا في كتبكم أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَا أنْزَلَ اللهُ آيَةً فِيهَا {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلَّا وَ عَلِيّ رَأسُهَا وَ أمِيرُهَا.۱
و سمّي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عليّاً: أمِيرَ البَرَرَةِ وَ إمَامَ البَرَرَةِ.
و روى الحمّوئيّ بسنده عن عبد الرحمن بن بَهْمان قال: سمعت جابر بن عبد الله [الأنصاريّ] قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه و آله و هو آخذ بضبع عليّ يوم الحديبيّة و هو يقول: هَذَا أمِيرُ البَرَرَةِ، قَاتِلُ الفَجَرَةِ،
مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهْ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ [قَالَ جَابِرٌ] مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ.۱
و روى موفّق بن أحمد الخوارزميّ، عن ابن منصور شهردار بن شيرويه الديلميّ بسنده عن الأصبغ بن نباتة قال: لَمَّا اصِيبَ زَيْدُ بْنُ صُوحَان يَوْمَ الجَمَلِ أتَاهُ عَلِيّ عَلِيهِ السَّلَامُ وَ بِهِ رَمَقٌ؛ فَوَقَفَ عَلَيهِ وَ هُوَ لِمَا بِهِ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ يَا زَيْدُ، فَوَ اللهِ مَا عَرَفْنَاكَ إلَّا خَفِيفَ المَؤُونَةِ كَثِيرَ المَعُونَةِ! قَالَ: فَرَفَعَ إلَيهِ رَأسَهُ وَ قَالَ:
أنْتَ مَوْلَايَ يَرْحَمُكَ اللهُ، فَوَ اللهِ مَا عَرَفْتُكَ إلَّا بِاللهِ عَالِمَاً، وَ بِآيَاتِهِ عَارِفَاً! وَ اللهِ مَا قَاتَلْتُ مَعَكَ مِنْ جَهْلٍ وَ لَكِنِّي سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ يقولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: عَلِيّ أمِيرُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهْ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ ألَا وَ إنَّ الحَقَّ مَعَهُ وَ يَتْبَعُهُ. ألَا فَمِيلُوا مَعَهُ.٢
و في رواية ابن عساكر أن رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: عَلِيّ إمَامُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهْ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ.٣
و روى أبو نعيم الإصفهانيّ عن معاذ بن جبل أنه قال: قَالَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: يَا عَلِيّ! أخْصِمُكَ بِالنُّبُوَّةِ وَ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي!
وَ تَخْصِمُ النَّاسَ بِسَبْعٍ! وَ لَا يُحَاجُّكَ فِيهَا أحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ! أنْتَ أوَّلُهُمْ إيمَانَاً، وَ أوْفَاهُمْ بِعَهْدِ اللهِ، وَ أقْوَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ، وَ أقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَ أعْدَلُهُمْ في الرَّعِيَّةِ، وَ أبْصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ، وَ أعْظَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ مَزِيَّةً.۱
فكيف يكون موقفنا من هذه النصوص التي اثرت عن رسول الله و منحت عليّ بن أبي طالب عنوان الإمارة، و جعلته أميراً و رئيساً و قائداً للمسلمين، و عدّته أبصر الناس في كلّ أمر و أقومهم به؟ أ ليس من المخجل أن يُقصى بذريعة حداثة السنّ، و ينصَّب بدله شيوخ لا يقاسون به أبداً؟
و لو كانت حداثة السنّ حائلًا دون الإمارة و الحكومة، فلما ذا أمّر رسول الله اسامة بن زيد على الجيش؟ و كان شابّاً قد بلغ العشرين من عمره أو أقلّ، و في الجيش مشيخة قريش و كبارها كأبي بكر، و عمر، جعلهم رسول الله تحت إمرته،٢ و أمر أن يتحرّك الجيش و يعجّلوا في إنفاذه.
فكيف يجوز أن يُعَيِّن حدث في العشرين من عمره رئيساً و أميراً على أبي بكر و عمر؟
و من هذا المنطلق، عند ما غصب أبو بكر خلافة رسول الله بعد وفاته لم يعزل اسامة عن إمارة الجيش، و مع أنَّ اسامة كان حدثاً، إلّا أنَّ أبا بكر قال: لا أعزله عن الإمارة لأنَّ رسول الله نصبه، و لا اخالف أمر
رسول الله. و حتّى أنه أخذ بلحية عمر و جرّها غاضباً عند ما أصرّ على عزله، و هدّده قائلًا: كيف اخالف رسول الله؟! استعمله رسول الله و أنا أعزله۱؟!
بيد أنه خالف رسول الله في أصل الخلافة، و تربّع على أريكة الخلافة بلا مجوّز شرعيّ، مخالفاً النصوص الصريحة الدالّة على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام.
كان يقول: اقاتل أهل الردّة؛ و لو منعوني عقالًا كانوا يعطونه رسول الله لقاتلتهم. غير أنه أخذ فدكاً من الزهراء عليها السلام علناً، و لم يجد في ذلك مخالفة لحكم رسول الله.
و الأحاديث المتواترة التي رواها الفريقان كثيرة، منها قوله: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، وَ مَنْ أرَادَ مَدِينَةَ العِلْمِ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا.٢
و قوله: أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.٣
و قوله: أنَا مَدِينَةُ الجَنَّةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنهُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ بَابَهَا.٤
ينبغي الدخول- إذَنْ- من باب الجنّة و العلم و الحكمة، و ذلك الباب هو باب بيت عليّ. فلو دخلتَ أيّها الداخل من باب أبي بكر فسوف لا تجني إلّا الخيبة و الخسران. ما أجمل هذا البيت الذي نقله القاضي نور الله الشوشتريّ:
هست بى شبهه خَطَا چون بر بُتان نام خدا | *** | بر كسى غير از تو اطلاقِ أمير المؤمنين۱ |
أمير المؤمنين لقب خاصّ للإمام عليّ بن أبي طالب
و روى ابن عساكر عن أبي المحاسن عبد الرزّاق بن محمّد في كتابه بسنده المتّصل عن العلاء بن المُسَيِّب، عن أبي داود، عن بُرَيدة الأسلميّ قال: أمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ أنْ نُسَلِّمَ عَلَى عَلِيّ بِإمْرَةِ المُؤْمِنِينَ؛ وَ نَحْنُ سَبْعَةٌ وَ أنَا أصْغَرُ القَوْمِ يَوْمَئِذٍ.٢
و روى محمّد بن عليّ بن شهرآشوب في كتاب «المناقب» عن طريق العامّة بقوله: في تفسير مجاهد قال: ما كان في القرآن {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنَّ لعليّ [بن أبي طالب] سابقة في تلك الآية، لأنه سبقهم إلى الإسلام. [و على هذا] سمّاه الله في تسعة و ثمانين موضعاً: أمير المؤمنين، و سيّد المخاطبين إلى يوم الدين. ثمّ قال: الخبر الذي يتضمّن بالتسليم على أمير المؤمنين متواتر عند الشيعة، و رواه أكثر العامّة من طرق مختلفة، فلم نجد أحداً من رواتهم طعن فيها أو من علمائهم دفعها، قوله عليه السلام: سَلِّمُوا على عَلِيّ بِإمْرَةِ المُؤْمِنِينَ، روى ذلك علماؤهم كالمنقريّ بإسناده إلى عمران عن بريدة الأسلميّ.
و روى يوسف بن كُلَيب المسعوديّ بإسناده عن أبي داود السبيعيّ، [قال] إنَّه دخل أبو بكر على رسول الله صلّى الله عليه و آله فقال [له رسول الله]: اذْهَب فَسَلِّمْ على أمِيرِ المُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ أنْتَ
حَيّ؟! قَالَ: وَ أنَا حَيّ! ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
و في رواية السبيعيّ أنه قال عمر: و مَن أمير المؤمنين؟! قال [رسول الله]: عليّ بن أبي طالب. قال [عمر]: عن الله و أمر رسوله؟! قال [النبيّ]: نعم!
[و روى] إبراهيم الثقفيّ عن عبد الله بن جَبَلة الكنانيّ، عن ذُرَيح المحاربيّ، عن الثُّماليّ، عن [الإمام] الصادق عليه السلام [قال]: إنَّ بريدة كان غائباً بالشام [عند بيعة أبي بكر] فقدم و قد بايع الناس أبا بكر، فأتاه في مجلسه، فقال: يَا أبَا بَكْرٍ! هَلْ نَسِيتَ تَسْلِيمَنَا على عَلِيّ بِإمْرَةِ المُؤْمِنِينَ؟!
قَالَ: يَا بُرَيْدَةُ! إنَّكَ غِبْتَ وَ شَهِدْنَا، وَ إنَّ اللهَ يُحْدِثُ الأمْرَ بَعْدَ الأمْرِ، وَ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَجْمَعَ لأهْلِ هَذَا البَيْتِ النُّبُوَّةَ وَ المُلْكَ.
[و ذكر إبراهيم] الثقفيّ، و السرّيّ بن عبد الله بإسنادهما عن عِمْران بن حَصين، و أبي بريدة أنهما قالا لأبي بكر: قَدْ كُنْتَ أنْتَ يَوْمَئِذٍ فِيمَنْ سَلَّمَ على عَلِيّ بِإمْرَةِ المُؤْمِنِينَ، فَهَلْ تَذْكُرُ ذَلِكَ ألْيَومَ أمْ نَسِيتَهُ؟! قَالَ: بَلْ أذْكُرُهُ! فَقَالَ بُرَيْدَةُ: فَهَلْ يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أنْ يَتَأمَّرَ على أمِيرِ المُؤْمِنِينَ؟
فَقالَ عُمَرُ: إنَّ النُّبُوَّةَ وَ الإمَامَةَ لَا تُجْمَعُ في بَيْتٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهُ بُرَيْدَةُ: قَالَ اللهُ تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}۱ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَ المُلْكِ. قَالَ: فَغَضِبَ عُمَرُ، وَ مَا زِلْنَا نَعْرِفُ في وَجْهِهِ الغَضَبَ حتّى مَاتَ.٢
كلّ امّة تفوّض غير الأعلم أمرها، تسير نحو التداعي و التهاوي
و نقل سُلَيم بن قيس الهلاليّ اموراً عن أمير المؤمنين عليه السلام قبل واقعة صفّين، منها: إنَّ العَجَبَ كُلَّ العَجَبِ مِنْ جُهَّالِ هَذِهِ الأمَّةِ وَ ضُلَّالِهَا وَ قَادَتِهَا وَ سَاقَتِهَا إلَى النَّارِ إنَّهُمْ قَدْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ يَقُولُ عَوْدَاً وَ بَدْءَاً: مَا وَلَّتْ امَّةٌ رَجُلًا قَطُّ أمْرَهَا وَ فِيهِمْ أعْلَمُ مِنْهُ إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حتّى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا.
فَوَلَّوا أمْرَهُمْ قَبْلِي ثَلَاثَةَ رَهْطٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَ لَا يَدَّعِي أنَّ لَهُ عِلْمَاً بِكِتَابِ اللهِ وَ لَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ قَدْ عَلِمُوا أني أعْلَمُهُمْ بِكَتَابِ اللهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ أفْقَهُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ وَ أقْضَاهُمْ بِحُكْمِ اللهِ- إلى آخره.۱
أجل، إنّنا لم نجد في آية أو خبر عن رسول الله أو في سيرة عقلائيّة أنَّ حداثة سنّ إنسان في الثالثة و الثلاثين من عمره تحول دون الحكومة، و هي التي حملت القوم على إبعاده عن بيت النبوّة و هجره. و أنَّ معيار الإمامة هو العلم و التقوى و البصيرة و الدراية و المعرفة بكتاب الله و سنّة نبيّه و النصوص التي منحت أمير المؤمنين عليه السلام الصدارة و الوزارة و الإمامة و الخلافة. وَ إنَّهُ بِذَلِكَ لَخَلِيقٌ وَ بِهِ حَقِيقٌ. صلّى الله عليك يا أبا الحسن و رحمة الله و بركاته.
أمير المؤمنين عليه السلام متحمّس لهداية الناس كرسول الله
و أمّا المؤاخذة الاخري التي سجّلوها على الإمام فهي أنه يريد الإمامة و الحكومة. و تلاحظ هذه المؤاخذة في كلام عمر أيضاً. فعند ما طعنه أبو لؤلؤة بخنجره، و دنا أجله، طلبوا منه أن يستخلف، فعيّن شورى تتألّف من ستّة أشخاص و طلب منهم أن يختاروا من بينهم أحداً للخلافة. و هؤلاء الستّة هم: عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ، طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْد اللهِ، الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ، سَعْدُ بْنُ أبِي وَقَّاصٍ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
ثمّ طلبوا منه أن يبدي رأيه فيهم حتّى يعرفوا منزلتهم و يفيدوا من رأيه في هذا المجال فيتّبعوه.
و كان هؤلاء الستّة حاضرين في المجلس إلّا طلحة. فذكر عمر سبب عدم تعيين أحد منهم بالتخصيص، و قال: و اللهِ مَا يَمْنَعَنِي مِنْكَ أنْ أسْتَخْلِفَكَ يَا سَعْدُ إلَّا شِدَّتُكَ وَ غِلْظَتُكَ مَعَ أنكَ رَجُلٌ حَرْبٌ. وَ مَا يَمْنَعَنِي
مِنْكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إلَّا أنكَ فِرْعَوْنُ هَذِهِ الامَّةِ. وَ مَا يَمْنَعَنِي مِنْكَ يَا زُبَيْرُ إلَّا أنكَ مُؤْمِنُ الرِّضَا كَافِرُ الغَضَبِ. وَ مَا يَمْنَعَنِي مِنْ طَلْحَةَ إلَّا نَخْوَتُهُ وَ كِبْرُهُ، وَ لَوْ وَلِيَهَا وَضَعَ خَاتَمَهُ في إصْبَعِ امْرَأتِهِ، وَ مَا يَمْنَعَنِي مِنْكَ يَا عُثْمَانُ إلَّا عَصَبِيَّتُكَ وَ حُبُّكَ قَوْمَكَ وَ أهْلَكَ، وَ مَا يَمْنَعَنِي مِنْكَ يَا عَلِيّ إلَّا حِرْصُكَ عَلَيْهَا، وَ أنكَ أحْرَى القَوْمِ إنْ وَلِيْتَهَا أنْ تُقِيمَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ وَ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ.۱
نلحظ في كلام عمر أنه ذكر لكلّ واحد من هؤلاء صفة مذمومة إلّا عليّ بن أبي طالب. و الحقّ هو أنَّ الرئيس ينبغي أن يكون منزّهاً من هذه الصفات. أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فإنَّه يقرّ بأحقّيّته و أولويّته و جدارته في هداية الناس إلى الصراط المستقيم و الحقّ المبين، غير أنه يراه- بزعمه- حريصاً على الإمارة، بيد أننا نسأل: هل هذا الحرص مذموم كما خيّل إلى عمر، أو ممدوح كما سنبيّنه؟ فالموضوع جدير بالبحث و الدراسة. و توضيحاً لهذه الحقيقة نقول: إنَّ الحرص على الرئاسة، و بعامّة حبّ الرئاسة على ضربين:
الأوّل: اتّخاذ الرئاسة هدفاً، و السعي إلى بلوغها حبّاً للتحكّم في الناس و التسلّط على الضعفاء لا غير، بحيث إنَّ الإنسان يحلو له أن تكون أوامره و نواهيه نافذة، و كلامه مطاعاً، و يكون بعض الناس عبيداً له، فيشعر بالسرور من أجل ذلك. و يغترّ و يتباهى عند ما يشاهد أنصاراً يلتفّون حوله. و يرى أنَّ فقد هذه الرئاسة يمثّل ضعفاً و نقصاً.
هذا الضرب من الرئاسة ناتج عن الحسّ الاستكباريّ و حبّ الجاه ممّا
يسفر عن الحجاب بين العبد و ربّه، و يبعث على بروز القوّة الفرعونيّة، و التغافل عن مبدأ واجب الوجود، و ظهور الظلم و العدوان؛ سواء ظلم الناس، أو ظلم النفس التي يحملها صاحب هذه القوّة. و بعبارة واضحة: خروج من القيم الإنسانيّة، و تعدّي حدود الله التي عيّنها لكلّ شخص.
الثاني: اتّخاذها وسيلة للنظر في امور العباد، و إقامة الحقّ و دفع الباطل، و ترسيخ أحكام الله بين الناس، و بسط العدل في ربوع الأرض، و إغاثة المظلومين، و قمع الظالمين و المعتدين، و تطهير الأرض من الفحشاء و المنكر، و فسح المجال للناس كي ينعموا بالحرّيّات التي يرضاها الله، و عبادة الله عبادة خالصة لذاته المقدّسة تعالى شأنه، و تمتّع عامّة الناس بالمواهب الإلهيّة: المادّيّة و الروحيّة، الدنيويّة و الاخرويّة، الظاهريّة و الباطنيّة، بحيث إنَّهم يعيشون منعّمين تحت راية العدل و التوحيد، و في ظلّ الهدوء و السكينة و الطمأنينة، و هم يقضون أعمارهم التي تمثّل أفضل تحفة إلهيّة، ثمّ ينتقلون من هذه الدار الفانية إلى تلك الدار الباقية و هم مسرورون بتحقّق طموحاتهم.
و هذا الضرب من حبّ الرئاسة- عند ما يتوفّر الإنسان الأفضل الذي ينظر في امور الناس، و يقوم بهذه الامور على أحسن وجه- حسن و محمود، بل هو من الصفات الحميدة و الطباع الفطريّة التي وهبها الله، و يبعث على الكمال، و يرفع الإنسان من حضيض المادّة إلى عالم التجرّد و الملكوت. ذلك أنَّ شرط هذه الرئاسة، التحرّر من هوى النفس، و الاتّصاف بالصفات و الأسماء الإلهيّة.
و هذا الضرب يماثل صفة الرحمة التي أودعها الله في الأب تماماً، فيسعى في تربية ابنه، و يبذل قصارى جهده في سبيل حفظه من الآفات و العاهات، و لا يضنّ عليه بمساعيه الجميلة بغية تنميته و ترقيته. و إذا
لم يمارس مثل هذه الرئاسة بحقّه، و بالتالي يهمل ولده و لا يعتني به، فإنَّه يجني عليه بتعريضه للأمراض، و الهلاك، و النقص العلميّ و الروحيّ، و نضوب القيم الإنسانيّة الرفيعة. و يكون مسؤولًا و مؤاخذاً على ذلك في حساب العقل و الضمير من جهة، و حساب العقلاء من جهة اخرى، و حساب الشرع من جهة ثالثة.
فالإمامة و الرئاسة على الناس إذا مارسها إنسان كفوء قد عبر من هوى النفس. و الجزئيّة و التحق بالكلّيّة، فهي على هذه الشاكلة. إذ إنَّ الرئيس بهذه المواصفات، أب للُامّة. و هو مديرها و مربّيها و المشرف على شئونها، و المتحمّس من أجل مصلحة أفرادها جميعهم، لا يخلد إلى الراحة لحظة واحدة، و لا يغفل عن تدبير شئون الناس آناً واحداً.
و هو يرى أنَّ الإمامة و الرئاسة مهمّة وجدانيّة و عقليّة و شرعيّة، فيسعى إلى بلوغها، و لا يقرّ له قرار، و لا يمكن أن يقرّ له قرار إلّا بتحقيق ذلك.
و كان نبيّنا الأكرم، و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام أبَوَي هذه الامّة. أنَا وَ عَلِيّ أبَوَا هَذِهِ الامَّةِ. و كما أنَّ الرسول الأعظم كان بنصّ القرآن الكريم حريصاً على هداية الناس و إرشادهم إلى التوحيد حريصاً على إقرار العدل بين الناس، فكذلك صنوه و نظيره و وزيره و أخوه عليّ بن أبي طالب. فليس له أن يخلد إلى الدعة و السكون، تاركاً حبلها على غاربها.
النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم كان حريصاً على هداية الناس
قال تبارك و تعالى في نبيّه الأكرم، مخاطباً الناس:
{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}.۱
و هل يمكن الحرص على هداية الناس بدون اتّباعهم أحداً؟ و هل الإطاعة و الاقتداء متيسّران بدون رئاسة و لزوم المتابعة؟ و من هذا المنطلق، كان المشركون و الكافرون يؤذون النبيّ و يتهكّمون به و يتّهمونه. ذلك أنَّ النبوّة تستلزم الرئاسة. فكانوا يرون أنَّ رئاسة النبيّ تهدّد مناصبهم و تنغّص عليهم حياتهم. فلهذا كانوا ينكرون نبوّته حفظاً لرئاستهم التي تتعارض مع رئاسة النبيّ، و إطاحةً برئاسة النبيّ نفسه.
أمّا النبيّ الرحيم فقد كان دائم الحرص على إخراج هؤلاء المساكين من ربقة أفكارهم الجاهليّة، و آدابهم و عاداتهم البهيميّة. لم يكن له ليل و نهار؛ و لم يسترح لحظة واحدة، كان يتضوّر جوعاً و عطشاً، و يشدّ حجر المجاعة على بطنه. و كان دائماً موجوداً في ميادين القتال و أقرب المسلمين إلى العدوّ. و هاجر إلى الطائف لشدّة العنف و الأذى و العذاب الذي لاقاه بمكّة. و لم يستقبلوه هناك، فقفل راجعاً إلى مكّة خائباً حيث لم يؤويه أحد فيها، إذ كانوا كلّهم أعداءه، و مصمّمون بأجمعهم على قتله و سفك دمه؛ فاضطرّ إلى الاحتماء بأحد المشركين. و قضي في شعب أبي طالب ثلاث سنين سجيناً معذّباً و معه بنو هاشم و بعض المسلمين، حيث حرّموا عليهم الطعام، و حظروا الزواج و التعامل معهم. و كان صراخ جوع الأطفال يصل إلى مكّة ليلًا و المشركون يسمعون إلى أن اضطرّ للهجرة هارباً من مكّة. و مكث في غار ثور ثلاثة أيّام كي لا يتمكّن المشركون أن يتقصّوا طريقه. و وحده أمير المؤمنين رجل الساحة الذي سار على هديه في الحرص على إيمان الناس، و قدّم نفسه بكلّ إخلاص قرباناً للّه، و رقد في فراش النبيّ مطمئنّاً.
و من الواضح أنَّ هذه المشاكل كلّها، و هذه المعاناة و المقاسات كانت دعوة إلى الرئاسة، أي: وجوب طاعة الناس طاعة مطلقة لُاولئك
الأشخاص. أمّا الرئاسة الإلهيّة و المعنويّة فحليفتها الهموم، و قرينها التشرّد، و لا تعني الجلوس على العرش و رفع تاج الاستكبار، و استعباد الناس الأبرياء، و جرّهم ليكونوا تحت مطرقة الطغاة.
... | *** | ز عشق تا به صبورى هزار فرسنگ است۱ |
إنَّ مؤاخذة عمر أميرَ المؤمنين عليه السلام بحرصه على الرئاسة تتمثّل في الرئاسة بمنظاره الضيّق و المظلم. لقد قاس ذلك على نفسه و ممارساته، ناسياً الوصايا و التأكيدات و الآيات القرآنيّة، و باع ذلك كلّه بثمن بخس من أجل الرئاسة، بيد أنَّ منظار أمير المؤمنين عليه السلام للرئاسة شيء آخر، و يشغل افقها مساحة شاسعة لا تجد الأهواء إليها سبيلًا.
كار پاكان را قياس از خود مگير | *** | گر چه باشد در نوشتن شير شير٢ |
لو كان أمير المؤمنين عليه السلام طالباً لرئاسة غير إلهيّة، لامتشق حسامه منذ اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلّى الله عليه و آله و أخذ حقّه بقمع المتآمرين و تأديبهم. و كان قادراً على ذلك، بيد أنه لمّا رأى الخطر محدقاً بالإسلام، تنازل عن تلك الرئاسة، عاضّاً على الألم، متدرّعاً بالصبر، و في عينه قذى، و في حلقه شجى. و نقل ابن أبي الحديد: لمّا اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان [إلى المدينة] و هو يقول: أمَا وَ اللهِ إنِّي لأرَى عَجَاجَةً
لَا يُطْفِئُهَا إلَّا الدَّمُ؛ يَا لِعَبْدِ مَنَافٍ! فِيمَ أبُو بَكْرٍ مِنْ أمْرِكُمْ؟! أيْنَ المُسْتَضْعَفَانِ؟ أيْنَ الأذَلَّانِ؟- يعني عليّاً و العبّاس- مَا بَالُ هَذَا في أقَلِّ حَيّ مِنْ قُرَيْشٍ؟
ثمّ قال لعليّ [عليه السلام]: ابْسُطْ يَدَكَ ابَايِعْكَ، فَوَ اللهِ إنْ شِئْتَ لأمْلأنهَا على أبِي فُضَيْلٍ- يعني أبا بكر- خَيْلًا وَ رَجِلًا! فَامْتَنَعَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُ قَامَ عَنْهُ وَ هُوَ يُنْشِدُ شِعْرَ المُتَلَمِّسِ:
وَ لَا يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ | *** | إلَّا الأذَلَّانِ غَيْرُ الحَيّ وَ الوَتَدُ |
هَذَا عَلَى الخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ | *** | وَ ذَا يُشَجُّ فَلَا يَرْثَى لَهُ أحَدُ۱ |
و نقل الطبريّ، و ابن الأثير أنّ أمير المؤمنين عليه السلام زجر أبا سفيان، و قال له: إنَّكَ وَ اللهِ مَا أرَدْتَ بِهَذَا إلَّا الفِتْنَةَ! وَ إنَّكَ وَ اللهِ طَالَمَا بَغِيتَ لِلإسْلَامِ شَرّاً! لَا حَاجَةَ لَنَا في نَصِيحَتِكَ!٢
مضافاً إلى أبي سفيان، جاء العبّاس عمّ رسول الله إلى أمير المؤمنين عليه السلام و قال له: جئت ابايعك؛ فيقال: عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله، فلا يختلف عليك اثنان.
و قال ابن قتيبة الدينوريّ: قَالَ العَبَّاسُ لِعَليّ بْنِ أبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: ابْسُطْ يَدَكَ ابَايِعْكَ، فَيُقَالُ: عَمُّ رَسُولِ اللهِ بَايَع ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ، وَ يُبَايِعُكَ أهْلُ بَيْتِكَ فَإنَّ هَذَا الأمْرَ إذَا كَانَ لَمْ يُفَلْ.
فَقَالَ عَلِيّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: وَ مَنْ يَطْلُبُ هَذَا الأمْرَ غَيْرُنَا؟!۱
و على الرغم من أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم أنَّ الخلافة و الإمارة له لا لغيره، بيد أنه تنازل عن حقّه المسلّم به إرضاءً للّه و عملًا بوصيّة رسول الله، و تفادياً لوقوع الفتنة و الفساد، و حفظاً للإسلام الفتى من السقوط و التداعي.
و هذه هي حقيقة التنازل و نكران الذات، و التضحية و العبوديّة؛ و هذا هو مفاد الشهامة و الشجاعة و المروءة و العظمة و الكرامة؛ و هذا هو معنى الولاية و الإشراف و الرعاية. و هذه هي حقيقة السعة و الإطلاق و التجرّد.
يقول ابن قتيبة: لمّا اخذ عليّ كرّم الله وجهه إلى المسجد للبيعة، كان يقول:
أنَا عَبْدُ اللهِ وَ أخُو رَسُولِهِ. فَقِيلَ لَهُ: بَايِعْ أبَا بَكْرٍ! فَقَالَ: أنَا أحَقُّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْكُمْ! لَا ابَايِعُكُمْ وَ أنْتُمْ أوْلَى لي! أخَذْتُمْ هَذَا الأمْرَ مِنَ الأنْصَارِ؛ وَ احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِالقَرَابَةِ مِنَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ تَأخُذُونَهُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ غَصْبَاً.
أ لَسْتُمْ زَعَمْتُمْ لِلأنْصَارِ أنكُمْ أوْلَى بِهَذَا الأمْرِ مَنْهُمْ، لِمَا كَانَ مُحَمَّدٌ مِنْكُمْ؛ فَأعْطُوكُمُ المَقَادَةَ، وَ سَلَّمُوا إلَيْكُمُ الإمَارَةَ؟ وَ أنَا أحْتَجُّ عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ مَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ عَلَى الأنْصَارِ. نَحْنُ أوْلَى بِرَسُولِ اللهِ حَيَّاً وَ مَيِّتَاً؛ فَأنْصِفُونَا إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ؛ وَ إلَّا فَبُوءُوا بِالظُّلْمِ وَ أنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
فَقَالَ عُمَرُ: إنَّكَ لَسْتَ مَتْرُوكَاً حتّى تُبَايِعَ! فَقَالَ لَهُ عَلِيّ: احْلُبْ حَلْبَاً لَكَ شَطْرُهُ! وَ اشْدُدْ لَهُ ألْيَومَ أمْرَهُ يَرْدُدْهُ عَلَيْكَ غَدَاً. ثُمَّ قَالَ: وَ اللهِ يَا عُمَرُ!
لَا أقْبَلُ قَوْلَكَ وَ لَا ابَايِعُهُ. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: فَإنْ لَمْ تُبَايِعْ فَلَا اكْرِهَكَ!۱
أجل، لا يغيب على المؤرّخين و الباحثين في السير أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام لو كان قبل بيعة العبّاس و أبي سفيان، و رفع لواء المعارضة للسقيفة مع الثلّة التي كانت معه من المهاجرين و الأنصار و بني هاشم، فلا جرم كان يتسلّم مقاليد الامور، بيد أنَّ هذا العمل ما كان يتحقّق سلميّاً و نقيّاً من شوائب الفتنة و إراقة الدماء. ذلك لأنَّ الطرف المقابل الذي يمثّل الحزب المعارض كان يعتزم التآمر، و لو نشبت نار المواجهة، لُاريقت الدماء، و قُتِلَ حفظة القرآن الذين كانوا يحفظونه في صدورهم؛ فلهذا تنازل أمير المؤمنين عليه السلام عن حقّه الثابت و الأكيد للّه و في الله، و تجرّع الغصص و الهموم لوجه الله، و تحمّل ما تحمّل من فقدان العزّ الظاهريّ، و كسر ضلع السيّدة الزهراء، و وفاتها مهضومة، و يُتم الأطفال، و غير ذلك، لئلّا تذهب جهود النبيّ على امتداد ثلاث و عشرين سنة أدراج الرياح، و لا تستبدل الرئاسة الظاهريّة بالحقائق.
كلام أمير المؤمنين للعبّاس و أبي سفيان بعد وفاة رسول الله
و يستبين هدفه صلوات الله عليه مشرقاً من الخطبة التي ألقاها إبّان وفاة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و ذلك في جواب أبي سفيان و العبّاس اللذين دَعَواه إلى قبول بيعتهما له. قال عليه السلام فيها:
أيُّهَا النَّاسُ! شُقُّوا أمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ! وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ المُنَافَرَةِ! وَضَعُوا عَنْ تِيجَانِ المُفَاخَرَةِ! أفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ، أوِ اسْتَسْلَمَ فَأرَاحَ! هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا! وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أرْضِهِ.
فَإنْ أقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى المُلْكِ؛ وَ إنْ أسْكُتْ يَقُولُوا جَزَعَ مِنَ
المَوْتِ؛ هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ التي؛ وَ اللهِ لَا بْنُ أبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي امِّهِ؛ بَلِ انْدَمَجْتُ على مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الأرْشِيَةِ في الطَّوِيّ البَعِيدَةِ.۱
نرى هنا أنَّ الإمام عليه السلام مع اندماجه على حكم مكنون و بحر عميق من العلم الإلهيّ، يشير إلى الحرص على الخلافة، الذي يتّهمه به ذوو الافق الضيّق، دون الالتفات إلى حقيقة ذلك.
الخطبة الشقشقيّة التي ألقاها أمير المؤمنين في أيّام خلافته
و نلحظه في الخطبة الشقشقيّة عند ما ينقل الأحداث بشكل واضح، يقسم بالله الذي فلق الحبّة، و برأ النسمة، إنَّ هدفه الوحيد من قبول الخلافة هو دفع الظلم، و قمع الظالمين، و النظر في شئون المظلومين و الفقراء و الضعفاء و الجياع، و إحقاق الحقوق المشروعة للناس، و يلوح من مضامين هذه الخطبة أنه خطبها في أيّام خلافته بعد الأحداث التي جرت في عصر من سبقوه من الخلفاء الثلاثة:
أمَا وَ اللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أبِي قُحَافَةَ وَ إنَّهُ لَيَعْلَمُ أنَّ مَحَلِّى مِنْهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَى؛ يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إلَيّ الطَّيْرُ. فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْبَاً، وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَ طَفِقْتُ أرْتَئِي بَيْنَ أنْ أصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أوْ أصْبِرَ على طِخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيْرُ، وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حتّى يَلْقَى رَبَّهُ؛ فَرَأيْتُ أنَّ الصَّبْرَ على هَاتَا أحْجَى؛ فَصَبَرْتُ وَ في العَيْنِ قَذَىً وَ في الحَلْقِ شَجًى. أرَى تُرَاثِي نَهْبَاً. حتّى مَضَى الأوَّلُ لِسَبِيْلِهِ، فَأدْلَى بِهَا إلَى ابْنِ الخَطَّابِ بَعْدَهُ (ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأعْشَى):
شَتَّانَ مَا يَوْمي على كُورِهَا | *** | وَ يَوْمُ حَيَّانَ أخِي جَابِرِ |
فَيَا عَجَبَاً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقَيلُهَا في حَيَاتِهِ إذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ- لَشَدَّ
مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا- فَصَيَّرَهَا في حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُطُ كلَامُهَا، وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا، وَ يَكْثُرُ العِثَارُ فِيهَا وَ الاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إنْ أشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَ إنْ أسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ.
فَصَبَرْتُ على طُوْلِ المُدَّةِ وَ شِدَّةُ المِحْنَةِ حتّى إذَا مَضَي لِسَبِيْلِهِ، جَعَلَهَا في جَمَاعَةٍ وَ زَعَمَ أني أحَدُهُمْ. فَيَا لِلَّهِ وَ لِلشُّورَي! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ في مَعَ الأوَّلِ مِنْهُمْ حتّى صِرْتُ أقْرَنُ إلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أسْفَفْتُ إذَا أسَفُّوا وَ طِرْتُ إذَا طَارُوا.
فَصَغَى رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَ مَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ. إلَى أنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نَافِجَاً حَضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ؛ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أبِيهِ يَخْضِمُونَ مَال اللهِ خَضْمَةَ الإبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ. إلى أنْ انْتَكَثَ فَتْلُهُ، وَ أجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ فَمَا رَاعَنِي إلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبْعِ إلَيّ، يَنْثَالُونَ عَلَيّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حتّى لَقَدْ وُطِئَ الحَسَنَانِ، وَ شُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الغَنِمِ. فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ اخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ؛ كَأنهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللهِ حَيْثُ يَقُولُ:
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.۱
بَلَى وَ اللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعُوهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتْ الدُّنْيَا في أعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا. أمَا وَ الذي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ لَوْ لا حُضُورُ الحَاضِرِ، وَ قِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَ مَا أخَذَ اللهُ على العُلَمَاءِ أنْ لَا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لألْقَيْتُ حَبْلَهَا على غَارِبِهَا، وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا
بِكَأسِ أوَّلِهَا، وَ لألْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أزْهَدُ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!
(قَالُوا) وَ قَامَ إليه رَجُلٌ مِنْ أهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إلَى هَذَا المَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً فَأقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يَا أمِير المُؤْمِنِينَ لَوِ اطَّرَدْتَ خُطْبَتَكَ مِنْ حَيْثُ أفْضَيْتَ! فَقَالَ: هَيْهَاتَ يَا بْن عَبَّاسٍ! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ!
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَ اللهِ مَا أسِفْتُ على كَلَامٍ قَطُّ كَأسَفِي عَلَى هَذَا الكَلَامِ أنْ لَا يَكُونَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أرَادَ.۱
كلام عمر حول لزوم الجمع بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد
إن من الإشكالات التي اثيرت حول خلافة أمير المؤمنين عليه السلام هو أنها مدعاة لاجتماع النبوّة و الخلافة في بيت واحد. فلهذا لا يتسنّى- بزعمهم- لرسول الله و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام و هما من بيت واحد أن يجمعا بين النبوّة و الخلافة. و لمّا كانت نبوّة النبيّ ثابتة، فليس لعليّ بن أبي طالب أن يتسلّم مقاليد الخلافة.
يقول ابن أبي الحديد: «و تعلّلت طائفة اخرى منهم بكراهيّة الجمع بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد يجحفون على الناس».٢
و نحن قمنا بالتنقيب في كتب التأريخ و الحديث فوجدنا أنَّ جذور هذا الرأي نابتة في كلام أبي بكر و عمر. فهما أوّل من نطق بهذه الاحدوثة. بينما هما أنفسهما احتجّا على الحباب بن المنذر في السقيفة بقربهما من
رسول الله بعد أن تكلّم الحباب في فضل الأنصار و شرفهم و أولويّتهم، و مع ذلك قالا: لا يعقل أن تكون النبوّة و الخلافة في بيتين؛ فحيثما كانت النبوّة، كانت الخلافة. و خطب الحباب بن المنذر في السقيفة فتحدّث عن أولويّة الأنصار و أفضليّتهم بحضور بعض المهاجرين و أبي بكر، و أبي عبيدة الجرّاح، و معاذ بن جبل، و جميع الأنصار، و منهم سعد بن عبادة رئيس الأوس، و بشير بن سعد رئيس الخزرج. و قال في آخر كلامه: فَأنْتُمْ أعْظَمُ النَّاسِ نَصِيبَاً في هَذَا الأمْرِ، وَ إنْ أبى القَوْمُ فَمِنَّا أمِيرٌ وَ مِنْهُمْ أمِيرٌ.
فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: هَيْهَاتَ لَا يَجْتَمِعُ سَيْفَانِ في غِمْدٍ وَاحِدٍ، وَ إنَّهُ وَ اللهِ لَا يَرْضَى العَرَبُ أنْ نُؤَمِّرَكُمُ وَ نَبِيُّهَا مِنْ غَيْرِكُمْ؛ وَ لَكِنَّ العَرَبَ لَا يَنْبَغِي أنْ تُوَلِّيَ هَذَا الأمْرَ إلَّا مَنْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ وَ أُولُوالأمر مِنْهُمْ.
لَنَا بِذَلِكَ على مَنْ خَالَفَنَا مِنَ العَرَبِ الحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ وَ السُّلْطَانُ المُبِينُ. مَنْ يُنَازِعُنَا سُلْطَانَ مُحَمَّدٍ وَ مِيرَاثَهُ- وَ نَحْنُ أوْلِيَاؤُهُ وَ عَشِيرَتُهُ- إلَّا مُدْلٍ بِبَاطِلٍ، أوْ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ، أوْ مُتَوَرِّطٍ في هَلَكَةٍ!۱
استدلّ عمر بهذا النحو على مرأي و مسمع من أبي بكر، و على هذا النهج لفت نظر الأنصار إلى بيعة قريش التي ينتسب إليها هو و أبو بكر معتبراً نفسه و رفيقه من أقرباء النبيّ و عشيرته. بينما نجد أنَّ عمر و أبا بكر أنفسهما عند ما يتواجهان مع أمير المؤمنين عليه السلام و يقول لهما: لقد خنتما، و استدللتما بالشجرة، و أضعتما الثمرة، و دعوتما الناس إلى البيعة بالمكر و الخديعة محتجّين بأنكما شجرة رسول الله، و نحن ثمرة هذه الشجرة، و نحن أهل بيت رسول الله الذين أنزل الله فينا آية التطهير، و نزل علينا القرآن، يجيبان قائلين: لا تجتمع النبوّة و الخلافة في مكان
واحد، و العرب تكره اجتماعهما في بيت واحد.
و يضع أبو بكر أيضاً حديثاً في هذا المجال ينسبه إلى النبيّ، و يُشهد عليه عمر و أعوانه: أبا عبيدة، و سالماً مولي أبي حذيفة، و معاذاً. افٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَ افٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ مُتَعَمِّدَاً؛ وَ قَدْ قَالَ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيّ مُتَعَمِّدَاً فَلْيَتَبَوَّءْ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ.۱
و يذكر السيّد هاشم البحرانيّ نقلًا عن كتاب «سليم بن قيس الهلاليّ» الذي يعتبر من الكتب المشهورة و الموثّقة، و من المصادر التأريخيّة التي ينقل عنها الكبار و الموثّقون من أصحاب السير، يذكر في حديث كثير التفاصيل قصّة أخذ أمير المؤمنين عليه السلام إلى أبي بكر في المسجد لبيعته و محاججة الإمام ضدّه، و يقول: و كان عليّ عليه السلام مشغولًا في الكلام فقال: يا معاشر المسلمين و المهاجرين و الأنصار! أنشدكم الله: أسمعتم رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول يوم غدير خمّ كذا و كذا؟! و في غزوة تبوك كذا و كذا؟!
فلم يدع [عليّ عليه السلام] شيئاً قاله رسول الله صلّى الله عليه و آله علانية للعامّة إلّا ذكّرهم إيّاها. قالوا: اللهمّ نعم. فلمّا أن تخوّف أبو بكر أن تنصره الناس و أن يمنعوه منه، بادرهم فقال له:
كلّ ما قلتَ حقّ قد سمعناه بآذاننا و عرفناه و وعته قلوبنا؛ و لكن سمعت رسول الله يقول بعد هذا:
إنَّا أهْلُ بَيْتٍ اصْطَفَانَا اللهُ تعالى وَ اخْتَارَ لَنَا الآخِرَةَ على الدُّنْيَا؛ فَإنَ
اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ لَنَا أهْلَ البَيْتِ النُّبُوَّةَ وَ الخِلافَةَ.
فقال [أمير المؤمنين] عليّ عليه السلام [لأبي بكر]: هل أحد من أصحاب رسول الله شهد هذه معك؟! فقال عمر: صدق خليفة رسول الله؛ قد سمعته منه. و قال أبو عبيدة، و سالم مولى أبي حذيفة، و معاذ بن جبل: قد سمعنا ذلك من رسول الله، فقال: لهم عليّ: لقد وفيتم بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها في الكعبة: إن مات محمّد أو قتل لتزونّ هذا الأمر عنّا أهل البيت.۱
و لا يمكن أن نجد راوياً لهذه الأحاديث الموضوعة التي يختلقونها و يرجعون إليها عند ما يدانون، غير أبي بكر الذي غصب فدكاً من السيّدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها و اختلق هذا الحديث القائل: نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ لَا نُوَرِّثُ دِرْهَمَاً وَ لَا دِيْنَارَاً؛ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ.
و الحديث المفترى: أصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ، الذي يكذّب مضمونه سَنَدَهُ و نسبته إلى رسول الله.
و من المصاديق الواضحة لذلك، هذا الحديث الموضوع القائل بعدم اجتماع النبوّة و الخلافة في بيت واحد، إذ اختلقوه و نسبوه إلى رسول الله على خلاف كتاب الله و الأحاديث المتواترة و الإجماع و حكم العقل.
جواب ابن عبّاس الصارم لعمر حول عدم الجمع بين النبوّة و الخلافة
يقول الطبريّ في سيرة عمر ضمن نقل وقائع السنة الثالثة و العشرين من الهجرة: (في سفر عمر إلى الشام، و اصطحابه كبار الصحابة و بينهم عبد الله بن عبّاس. علماً أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام استنكف عن الذهاب معه و ردّ دعوته) عن رجل من ولد طلحة: عن ابن عبّاس، قال:
خرجت مع عمر في بعض أسفاره؛ فإنَّا لنسير ليلة، و قد دنوت منه، إذ ضرب مقدّم رحله بسوطه، و قال:
كَذَبْتُمْ و بَيْتِ اللهِ يُقْتَلُ أحْمَدُ | *** | وَ لَمَّا نُطَاعِنْ دُوْنَهُ وَ نُنَاضِلُ |
وَ نُسْلِمُهُ حتّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ | *** | وَ نَذْهَلَ عَنْ أبْنَائِنَا وَ الحَلائِلُ |
(هذان البيتان لأبي طالب عليه السلام الوالد الماجد للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام خاطب بهما كفّار قريش الذين كانوا ينوون قتل النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فأنشدهما لرسول الله صلّى الله عليه و آله).
ثمّ قال أسْتَغْفِرُ اللهَ؛ ثمّ سار فلم يتكلّم قليلًا، ثمّ قال:
وَ مَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا | *** | أبَرَّ وَ أوْفَى ذِمَّةً مِنْ محَمَّدِ |
وَ أكْسَى لِبُرْدِ الخَالِ۱ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ | *** | وَ أعْطَى لِرَأسِ السَّابِقِ المُتَجَرِّدِ |
ثمّ قال: أسْتَغْفِرُ اللهَ، يا بن عبّاس! ما منع عليّاً من الخروج معنا؟ قلت: لا أدري. قال: يا بن عبّاس! أبوك عمّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و أنت ابن عمّه، فما منع قومكم منكم؟! قلتُ: لا أدري. قال: لكنّي أدري؛ يكرهون ولايتكم لهم. قلتُ: لِمَ، و نحن لهم كالخير؟ قال: اللَهُمَّ غَفْراً، يَكْرَهُونَ أنْ تَجْتَمِعَ فِيكُمُ النُّبُوَّةُ وَ الخِلافَةُ فَيَكُونَ بَجَحَاً بَجَحَاً.٢
لعلّكم تقولون: إنَّ أبا بكر فعل ذلك، لا و الله و لكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره. و لو جعلها بكم ما نفعكم مع قربكم، أنشدني لشاعر الشعراء زهير قوله:
إذَا ابْتَدَرَتْ قَيْسُ بْنُ عَيلَانَ غَايَةً | *** | مِنَ المَجْدِ مَنْ يَسْبِقْ إلَيْهَا يُسَوَّدُ |
[يقول ابن عبّاس]: فأنشدته [هذه القصيدة]، و طلع الفجر. فقال: اقرأ سورة الواقعة؛ فقرأتها، ثمّ نزل فصلّى، و قرأ بالواقعة.۱
و روى الطبريّ أيضاً عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: بينما عمر بن الخطّاب و بعض أصحابه يتذاكرون الشعر، قال بعضهم: فلان أشعر؛ و قال بعضهم: بل فلان أشعر؛ قال: فأقبلت. فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها.
فقال عمر: مَن شاعر الشعراء يا بن عبّاس؟ قال: فقلتُ: زُهَيْرُ بْنُ أبِي سُلْمَى فقال عمر: هلمّ من شعره ما نستدلّ به على ما ذكرت! فقلتُ: امتدح قوماً من بني عبد الله بن غطفان، فقال:
لَوْ كَانَ يَقْعُدُ فَوْقَ الشَّمْسِ مِنْ كَرَمٍ | *** | قَوْمٌ بِأوَّلِهِمْ أوْ مَجْدِهِمْ قَعَدُوا |
قَوْمٌ أبُوهُمْ سَنَانٌ حِينَ تَنْسُبُهُمْ | *** | طَابُوا وَ طَابَ مِنَ الأوْلَادِ مَا وَلَدُوا |
إنْسٌ إذَا أمِنُوا جِنٌّ إذَا فَزَعُوا | *** | مُرَزَّءونَ بَهَالِيلٌ إذَا حَشَدُوا |
مُحَسَّدُونَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ نِعَمٍ | *** | لَا يَنْزِعُ اللهُ مِنْهُمْ مَا لَهُ حُسِدُوا |
و لمّا سمع عمر هذه الأبيات، قال: أحسن؛ و ما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحيّ من بني هاشم، لفضل رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و قرابتهم منه.
[يقول ابن عبّاس]: فقلتُ: وُفِّقت يا أمير المؤمنين، و لم تزل موفّقاً! فقال [عمر]: يا بن عبّاس! أ تدري ما منع قومكم منهم بعد محمّد؟! فكرهت أن اجيبه؛ فلهذا قلتُ: إن لم أكن أدري، فأمير المؤمنين يدريني!
فَقَالَ عُمَرُ: كَرِهُوا أنْ تَجْمَعُوا لَكُمُ النُّبُوَّةَ وَ الخِلافَةَ فَتَبَجَّحُوا على قَوْمِكُمْ بَجَحَاً بَجَحَاً؛ فَاخْتَارَتْ قُرَيْشٌ لأنْفُسِهَا؛ فَأصَابَتْ وَ وُفِّقَتْ.
[قال ابن عبّاس]: فقلتُ: يا أمير المؤمنين! إن تأذن لي في الكلام، و تُمِط عنّي الغضب، تكلّمتُ. فقال عمر: تكلّم يا بن عبّاس! فقلتُ: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفّقت: فلو أنَّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزّ و جلّ لها، لكان الصواب بيدها غير مردود و لا محمود. و أمّا قولك: إنَّ قريشاً كرهت أن تكون لنا النبوّة و الخلافة، فإنَّ الله عزّ و جلّ وصف قوماً بالكراهيّة، فقال: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ}.۱
فقال عمر: هيهات! و الله يا بن عبّاس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرّك٢ عنها، فتزيل منزلتك منّي! فقلتُ: و ما هي يا أمير
المؤمنين؟! فإن كانت حقّاً، فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك! و إن كانت باطلًا، فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنَّما صرفوها عنّا حسداً و ظلماً! فقلتُ: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: ظلماً، فقد تبيّن للجاهل و الحليم! و أمّا قولك: حسداً، فإنَّ إبليس حسد آدم؛ فنحن ولده المحسودون!
فقال عمر: هيهات، أبت و الله قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسداً ما يحول، و ضغناً و غشّاً ما يزول! فقلتُ: مهلًا يا أمير المؤمنين! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً بالحسد و الغشّ! فإنَّ قلب رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم من قلوب بني هاشم!
فقال عمر: إليك عنّي يا بن عبّاس! فقلتُ: أفعل. فلمّا ذهبت لأقوم، استحيا منّي، فقال: يا بن عبّاس، مكانك! فو الله إنّي لراعٍ لحقّك، محبّ لما سرّك!
فقلتُ: يا أمير المؤمنين إنَّ لي عليك حقّاً و على كلّ مسلم! فمن حفظه فحظّه أصاب، و من أضاعه فحظّه أخطأ. ثمّ قام عمر فمضى.۱
و الشاهد الآخر على ما نقول كلام ابن عبد ربّه القرطبيّ الأندلسيّ المتوفّى سنة ٣٢۸ هـ، قال فيه:
وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاشَيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَوْمَاً فَقَالَ لي: يَا بْنَ عَبَّاسٍ! مَا يَمْنَعُ قَوْمَكُمْ مِنْكُمْ وَ أنْتُمْ أهْلُ البَيْتِ خَاصَّةً؟ قُلْتُ: لَا أدْرِي! قَالَ: لَكِنَّنِي أدْرِي؛ إنَّكُمْ فَضَلْتُمُوهُمْ بِالنُّبُوَّةِ؛ فَقَالُوا إنْ فَضَلُوا بِالخِلَافَةِ مَعَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُبْقُوا لَنَا شَيْئاً؛ وَ إنَّ أفْضَلَ النَّصِيبَيْنِ بِأيْدِيكُمْ، بَلْ مَا أخَالُهَا إلَّا مُجْتَمِعَةً لَكُمْ وَ إنْ نَزَلَتْ عَلَى رَغْمِ أنْفِ قُرَيْشٍ.۱
و قال ابن خلدون عند بحثه في بداية دولة الشيعة: و فيما نقله أهل الآثار أنَّ عمر قال يوماً لابن عبّاس: إنَّ قومكم- يعني قريشاً- ما أرادوا أن يجمعوا لكم- يعني بني هاشم- بين النبوّة و الخلافة فتحموا عليهم! و أنَّ ابن عبّاس نكر ذلك و طلب من عمر إذنه في الكلام، فتكلّم بما غضب له. و ظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أنَّ في نفوس أهل البيت شيئاً من أمر الخلافة و العدول عنهم بها.٢
و قال جرجي زيدان: و الظاهر من أقوال عمر و غيره في مواقف مختلفة أنهم رأوا بني هاشم قد اعتزّوا بالنبوّة لأنَّ النبيّ منهم، فلم يستحسنوا أن يضيفوا إليها الخلافة.۱
فهذه مستمسكات حول عدم الجمع بين النبوّة و الخلافة في بني هاشم نقلناها عن لسان عمر و أبي بكر. و ممّا نقلناه في هذا الكتاب حتّى الآن من كلامهم فإنَّ فساده واضح جدّاً، و نحن في غنى عن ردّه مستقلًّا، بيد أنا نتمسّك بالأدلّة الأربعة: الكتاب، و السنّة، و العقل، و الإجماع، من وحي أن يكون جوابه واضحاً بعينه.
أمَّا الكَتَابُ: فقد رأينا أخيراً أنَّ بريدة الأسلميّ كان في الشام عند ما غصب أبو بكر الخلافة. و لمّا رجع إلى المدينة، و رأى أبا بكر على رأس الامور، اعترض و قال له: أ لم تكن قد سلّمت على عليّ بن أبي طالب بوصفه أمير المؤمنين بأمر النبيّ؟ ... و لمّا قيل له: لا تجتمع النبوّة و الخلافة في بيت واحد، قرأ هذه الآية في المسجد:
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}.۱
يلاحظ في هذه الآية بوضوح أنَّ الله أتى إبراهيم الكتاب و الحكمة، و هما يمثّلان النبوّة، و كذلك آتاهم الملك العظيم الذي يمثّل الخلافة و الحكومة.
وَ أمَّا السُّنَّةُ: فقد روى أبو نعيم الإصفهانيّ بسنده عن حذيفة إليمانيّ أنه قال: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أ لَا تَسْتَخْلِفُ عَلِيَّاً؟ قَالَ: إنْ تُوَلُّوا عَلِيَّاً تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيَّاً يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ المُسْتَقِيمَ.٢
و كذلك روى أبو نعيم بسند آخر عن حذيفة أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: إنْ تَسْتَخْلِفُوا عَلِيَّاً- وَ مَا أرَاكُمْ فَاعِلين- تَجِدُوهُ هَادِياً مَهْدِيَّاً يَحْمِلُكُمْ عَلَى المَحَجَّةِ البَيَضَاءِ.٣
و جاء في الصحيحين («صحيح البخاريّ» و «صحيح مسلم») عن ابن عبّاس، قال: لَمَّا احْتَضَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ في البَيْتِ رِجَالٌ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ؛ قَالَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ: هَلُمَّ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ؛ وَ عِنْدَكُمُ القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ!
فَاخْتَلَفَ القَوْمُ وَ اخْتَصَمُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا إلَيْهِ يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ؛ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: القَوْلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ.
فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ و الاخْتِلَافَ عِنْدَهُ عَلِيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: قُومُوا،
فَقَامُوا. فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ بَيْنَ أنْ يَكْتُبَ لَكُمْ ذَلِكَ الكِتَابَ.۱
و جاء في بعض الروايات أنَّ عمر قال: لَا تَأتُوهُ بِشَيءٍ أو إنَّ الرَّجُلَ لَيَهْجُرُ!٢
و في رواية عن ابن عبّاس جاء فيها: فَقَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ: إنَّ نَبِيّ اللهِ لَيَهْجُرُ.۱
و نحن نريد أن نثبت هنا أنَّ طلب الرسول الأعظم صلّى الله عليه و آله الكتف و الدواة في ساعة الاحتضار هو من أجل أن يكتب و يختم للمسلمين عهداً بخلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام لا غير، لأنه مضافاً إلى النصوص الثابتة، مثل: آية الولاية، و حديث الغدير، و حديث الثقلين، و حديث الحقّ، و حديث المنزلة، و حديث السفينة، و حديث دعوة العشيرة الأقربين، و كثير من الأحاديث الاخرى التي بيّنت إمامة الإمام و خلافته على نحو اليقين، فإنَّ تلوّث الجوّ في المدينة نتيجة لوجود معارضي الولاية فيها كعمر، و أبي بكر، و أبي عبيدة الجرّاح، و المغيرة بن شعبة و أمثالهم، ممّا دعا إلى الترغيب في تجهيز جيش اسامة، و جعل هؤلاء المذكورين في الجيش ليخلو الجوّ في المدينة منهم لأمير المؤمنين عند موت النبيّ، و بسبب ما كان يتوسمه نور النبوّة
و علمها بالأضغان و الأحقاد التي كانت تعتمل في صدور البعض، و أرهقت أمير المؤمنين عليه السلام و أضنته؛ و كذلك بسبب الأخبار التي كانت تتسرّب من بيت النبيّ إلى الخارج بواسطة حفصة و عائشة و حزبهما، ممّا أدّى إلى إباحة أسرار البيت النبويّ، و كانت قضيّة الولاية من أهمّ تلك الأسرار، إذ كان النبيّ يعلم بعزم المعارضين على المواجهة بكلّ قواهم، و كان النبيّ يريد أن يضبط الامور و يركّز الموضوع أكثر و يرفع الحواجز و العقبات، و لكن و بسبب إفشاء هذه الأسرار، حالوا دون تحرّك جيش اسامة، و كانوا يؤجّلون كلّ يوم بمعاذير واهية، و تخلّف عمر و أبو بكر عن الجيش. و لمّا آخذهما النبيّ على ذلك، جاءا بأعذار تافهة.
فمن وحي هذه الأغراض كلّها، طلب النبيّ الأكرم في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة دواة و ورقة بحضور جمع من الصحابة ليكتب لهم شيئاً إذا رعوه حقّ رعايته، فلن يضلّوا بعده أبداً. فقال عمر: غلبه الوجع، و إنَّه ليهجر، و حسبنا كتاب الله. و لمّا علا الضجيج و اللغط، و ارتفعت الأصوات في ذلك المجلس، قال صلّى الله عليه و آله: قوموا، لا ينبغي عند نبيّ نزاع.۱
و بالنظر إلى الموضوعات المتقدّمة، و الالتفات إلى أنَّ الذين حالوا بين الرسول الأعظم و بين طلبه المتمثّل بعزمه على كتابة شيء يشهده الجميع و لن يضلّوا بعده، هم الذين أصابوا حظّاً من الحكومة في غد ذلك اليوم، بخاصّة و أنهم اختاروا خليفتهم من غير أن يُطلِعوا أمير المؤمنين
و أصحابه و خاصّته و أقاربه من بني هاشم على ذلك، فهل يرتاب أحد في أنَّ قصد النبيّ الأكرم من الكتابة كان شيئاً آخر غير خلافة أمير المؤمنين؟
قصد عمر من نسبة الهجر إلى رسول الله إثارة اللغط و الضجيج
و ما هو القصد من قولهم: الرجل يهجر، و قولهم: غلبه الوجع؟ أ ليس قصدهم من ذلك إثارة الجلبة و الضجيج، و صرف النبيّ عن عزمه؟ و هل يتصوّر أحد أنهم أرادوا المعنى الحقيقيّ للهجر الناتج عن غلبة الوجع؟
ذلك أنه أوّلًا: مضافاً إلى أنَّ التأريخ لم ينقل أنَّ أحداً سمع من النبيّ الأكرم كلاماً اعتباطيّاً عابثاً طيلة فترة النبوّة و قبلها، فإنَّ أيّ مسلم لا يستطيع- في ضوء الموازين الدينيّة- أن ينسب إلى النبيّ الأعظم الذي ضمن الله تعالى في القرآن الكريم عصمته و حفظه، هجراً و عبثاً.
و ثانياً: لو كان القصد من هذا الكلام معناه الحقيقيّ و الجادّ، فلا معنى لقول عمر: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ؛ عِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ. و ينبغي الاستدلال على هجر النبيّ بسبب الوجع، لا أنَّ وجود القرآن الكريم يغني عن كلام النبيّ.
و ثالثاً: أنَّ كتاب الله هو الذي فرض طاعة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله على المسلمين، و اعتبر كلامه كلام الله، و صرّح بعدم خِيَرَة الناس حيال حكم الله و رسوله. فحجّيّة كتاب الله نفسها هي حجّيّة كلام رسول الله. و لا مجال لاحتمال الهجر فيه، و أنَّ نسبة الهجر إلى رسول الله لا تستهدف شيئاً في قاموس ذلك الصحابيّ غير إثارة الضجيج و الضوضاء.
و رابعاً: لقد حدث مثل هذا الأمر في المرض الذي مات فيه الخليفة الأوّل أبو بكر، و أوصى بخلافة عمر. و كان عثمان حاضراً عند أبي بكر، و كلّف من قبلة بكتابة الوصيّة. و كان قد اغمي على أبي بكر أثناء الكتابة، ثمّ استفاق؛ و مع ذلك فلم ينسب الخليفة الثاني إليه الهجر الذي نسبه إلى رسول الله، بل اعتبر وصيّته نافذة، إذ جلس على كرسي الخلافة بعد موت
أبي بكر، و تسلّم زمام الامور. فيستبين- إذَن أنَّ ذلك الهجر المزعوم لم يكن هجراً جدّيّاً يحول دون الإقرار و الاعتراف و الوصيّة، بل هو الهجر الذي تقوّله أصحابه لإثارة التشويش و الاضطراب في مجلس الرسول الأعظم، و بالتالي عزوف الرسول القائد صلّى الله عليه و آله عن الكتاب.
و نقرأ في حديث ابن عبّاس مع عمر الذي يدور حول الخلافة أنَّ عمر قال بصراحة: إنَّ قومكم (قريشاً) كرهوا أن تكون لكم الخلافة، فأقصوا عليّاً عنها.
و نقل ابن أبي الحديد و قائع هذا الحوار، و ذكر أنَّ عمر قال لابن عبّاس: يَا بْنَ عَبَّاسٍ! إنَّ أوَّلَ مَنْ رَيَّثَكُمْ عَنْ هَذَا الأمْرِ أبُو بَكْرٍ! إنَّ قَوْمَكُمْ كَرِهُوا أنْ يَجْمَعُوا لَكُمُ الخِلافَةَ وَ النُّبُوَّةَ.۱
اعتراف عمر بأحقّيّة أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة
و روى ابن أبي الحديد أيضاً بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: مَرَّ عُمَرُ بِعَلِيّ وَ عِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَسَلَّمَ، فَسَألَاهُ: أيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بِيَنْبُعٍ،٢ قَالَ عَلِيّ: أ فَلَا نَصِلُ جَنَاحَكَ وَ نَقُومُ مَعَكَ؟! فَقَالَ: بَلَى! فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: قُمْ مَعَهُ. قَالَ: فَشَبَّكَ أصَابِعَهُ في أصَابِعِي وَ مَضَى، حتّى إذَا خَلَّفْنَا البَقِيعَ، قَالَ: يَا بْنَ عَبَّاسٍ، أمَا وَ اللهِ أنْ كَانَ صَاحِبُكَ هَذَا أوْلَى النَّاسِ بِالأمْرِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ، إلَّا أنا خِفْنَاهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَاءَ بِمَنْطِقٍ لَمْ أجِدْ بُدَّاً مَعَهُ مِنْ مَسْألَتِهِ عَنْهُ، فَقُلْتُ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! مَا هُمَا؟! قَالَ: خَشِينَاهُ على حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَ حُبِّهِ بَنِي
عَبْدِ المُطَّلِبِ.۱
و بعد أن استبان أنَّ عمر و أعوانه كانوا يقرّون بأنَّ عليّ بن أبي طالب كان أولى و أحقّ بالخلافة؛ ففي ضوء الموازين الدينيّة، ينبغي الوقوف بوجه المتخلّف و إبعاده عن الساحة. و ينبغي إرغامه على الحقّ، لا أن يُترَك الحقّ تطييباً لخاطره. و لو لم يكن اولئك المنتخبون للخلافة هم أنفسهم من أقطاب المعارضة ضدّ عليّ بن أبي طالب، لكان واجبهم الشرعيّ و العقليّ بعد وفاة الرسول الأعظم التشمير عن ساعد الجدّ و التأهّب عن الحقّ و إرجاعه إلى أهله، و الانضواء تحت راية عليّ عليه السلام طوعاً. فهذا هو الصراط السوى. لا أنهم، مضافاً إلى عدم إرجاعهم الحقّ إلى أهله، يتواطؤون مع قريش، و يتكتّلون ضدّ الإمام، و يشغلون منصبه عنوة، و يقسرونه على بيعة رجل لم يؤمنوا بكفاءته و كانت بيعته فلتة،٢ و يكسرون ضلع الزهراء إمضاءً لقريش و جذباً لقلوبهم، و يضرب قنفذ غلام أبي بكر عضدها بأمر عمر ضرباً ترك أثره كالدمّل حتّى وفاتها!
و أشخص أبو بكر عمر و خالد بن الوليد إلى دار الإمام لجلبه، و أمرهما أن لو تعلّقت فاطمة بعليّ و حالت دون مجيئه، فافصلوها عنه؛ فلهذا فصلوا فاطمة بهذا الاسلوب، و أخذ عمر سيف عليّ و رماه، و أوكل أمره إلى خالد بن الوليد ليقتاده إلى المسجد بمؤازرة أعوانه. و امتنع أمير المؤمنين من الذهاب إلى المسجد؛ فدفعوه بقبضاتهم حتّى أوصلوه.٣
الخلفاء المنتخبون بعد رسول الله مدانون في محكمة التأريخ
فهذه أحداث نقلتها لنا كتب التأريخ، و يا ليتها كانت مثبّتة في تأريخ الشيعة وحدها حتّى يتسنّى إزالة و صمة العار من جبين جناتها إلى حدّ ما، فتواريخ العامّة مشحونة بها، و كلّ من نظر في «تاريخ الطبريّ» و ابن الأثير، و «الإمامة و السياسة» لابن قتيبة، و «شرح النهج» لابن أبي الحديد، و غيرها، يجدها حافلة بهذه المصائب التي حلّت بالإسلام.
و لمّا كان واضحاً كالشمس في كبد النهار أنَّ العامّة ألّفوا كلّ هذه الكتب و تمسّكوا بالآراء الفاسدة و الأهواء الكاسدة في الاصول و الفروع، حفظاً للحكومات الاستبداديّة التي انتهت بالحكومة الأمويّة و العبّاسيّة، و استعبدت الناس و أخضعتهم لقبضتها الحديديّة، و بسطت نفوذها الفرعونيّ بأعنف الأساليب السلطويّة طيلة ستّة قرون باسم الإسلام و القرآن و تحت غطاء الخلافة الإسلاميّة. و اليوم حيث اطيح بالحكومات الاستبداديّة القائمة على مثل تلك الدعامة الفرعونيّة التي أرساها الأوّلون، فمن المناسب أن يغيّروا خطّهم بالرجوع إلى التأريخ الصحيح، و لا يغالطوا أكثر من ذلك، و يتركوا التعسّف في تبرير و تأويل الأحاديث الصحيحة التي زخرت بها كتبهم كحديث الثقلين، و الغدير، و العشيرة، و الولاية، و المنزلة، و كثير من الأحاديث الاخرى، و يرفعوا الستار عن الحقائق، و يجمعوا على عدم فصل سبيل الشريعة عن سبيل الولاية في ضوء القرآن الكريم و السنّة النبويّة، و يختاروا المذهب الجعفريّ المقدّس.
و إنّي اشهد الله أنَّ نصيحتي هذه هي نصيحة الشفيق المخلص الذي سبر غور الكتب سنيناً من عمره، و بحث و نقّب و حقّق و دقّق حتّى ظفر باللباب، و ها هو يسعى بإخلاص لتقديم ما ظفر به إلى الإخوة الأعزّاء من شباب العامّة الذين ليس لهم علم بهذه الامور، حتّى يتألّق نور الحقيقة في قلوبهم بحول الله و قوّته، و أن يتّبعوا مذهب أهل البيت، ذلك المذهب
الحنيف الحقّ و السبيل القويم للولاية العلويّة بمجرّد قراءة هذه السطور. وَفَّقَهُمُ اللهُ جَمِيعَاً وَ هَدَاهُمْ إلى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ وَ مَنْهَجِهِ القَوِيمِ، آمِينَ يا رَبَّ العَالَمِينَ.
قال سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الثانية من خطب «نهج البلاغة»: زَرَعُوا الفُجُورَ، وَ سَقَوْهُ الغُرُورَ، وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ. لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الامَّةِ أحَدٌ، و لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نَعْمَتُهمْ عَلَيْهِ أبَدَاً. هُمْ أسَاسُ الدِّينِ، وَ عِمَادُ اليَقِينِ؛ إلَيْهِمْ يَفِيءُ الغالِي، وَ بِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلَايَةِ، وَ فِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَ الوِرَاثَةُ. الآنَ إذْ رَجَعَ الحَقُّ إلَى أهْلِهِ، وَ نُقِلَ إلَى مُنْتَقَلِهِ.۱
نرى في هذه الخطبة التي خطبها أمير المؤمنين عليه السلام في أوّل خلافته، أنه يؤكّد على أنَّ أيّ فرد من أفراد الامّة المسلمة لا يمكن أن يوازَن بأهل البيت النبويّ الكريم. و بعد أن يسرد صفاتهم و آثارهم، يركّز على أنَّ الحقّ قد آبَ إلى أهله، و عاد إلى نصابه.
أ لم تصرّح هذه الفقرات بلزوم اجتماع النبوّة و الخلافة في بيت بني هاشم؟ ثمَّ أ لم تنصّ على فساد الأوضاع في عصر من سبقه من الحكّام، و قد تحسّنت في عهده و وقرت على أساس صحيح؟
أ وَ لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام جامعاً لبيت النبوّة و الخلافة؟
و قال عليه السلام في الخطبة السادسة من خطب «نهج البلاغة»: وَ اللهِ لَا أكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ، حتّى يَصِلَ إلَيْهَا طَالِبُهَا، وَ يَخْتِلُهَا رَاصِدُهَا، وَ لَكِنِّي أضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَ بِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُرِيبَ أبَدَاً حتّى يَأتِيَ عَلَيّ يَوْمِي. فَوَ اللهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعَاً عَنْ
حَقِّي مُسْتَأثَراً عَلَيّ مُنْذُ قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ حتّى يَؤُمَّ النَّاسَ هَذَا.۱
ينصّ الإمام صلوات الله عليه في هذه الخطبة على أنَّ الخلافة كانت حقّه منذ وفاة الرسول الأعظم صلّى الله عليه و آله.
و قال رونالدسن في كتاب له نُقل إلى العربيّة: وَ يَرْوِي أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أنهُ بَعْدَ مَقْتَلِ عَلِيّ، خَطَبَ الحَسَنُ بِالنَّاسِ، فَقَالَ: لَقَدْ قُبِضَ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ رَجُلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ الأوَّلُونَ بِعَمَلٍ، وَ لَا يُدْرِكُهُ الآخِرُونَ بِعَمَلٍ، وَ قَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللهِ.٢
ثمّ قال: وَ قَدْ نَاقَشْنَا صِحَّةَ هَذِهِ القَضِيَّةِ آنِفاً. بَيْدَ أنَّ هذه المناقشة لا تضرّ بقصدنا المتمثّل بنقل رواية أحمد بن حنبل و كلام الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، لأنها تعكس رأيه الخاصّ و لا تمت بصلة إلى الرواية.
فهذا عدد من الأحاديث التي تدلّ على اجتماع النبوّة و الخلافة في بيت بني هاشم. و كلّ من نظر في كتب التأريخ و الحديث الموثوقة، فسيجدها زاخرة بمسائل تعضد هذا الموضوع.
بطلان لزوم عدم الجمع بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد عقلًا
و أمَّا العقل: أي حكم العقل ببطلان لزوم عدم الجمع بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد. فنقول: يحكم العقل بأنَّ كلّ من يستطيع أن يدير شئون الامّة أفضل من غيره، و كان أخلص و أشجع و أكثر تحمّساً و إيثاراً،
و أعلم، و أعرف بمبادئ الأحكام و الشرائع و السنن و الآداب، و توحيد ذات الحقّ المتعال، و كان متحرّراً من هوى النفس، و ملتحقاً بكلّيّة مقام الإطلاق و التجرّد، و كان أعرف من غيره بعالم الأنوار، هذا من جهة، و من جهة اخرى، كان أكثر بصيرة و خبرة بالمصالح الاجتماعيّة من غيره، فهذا الشخص ينبغي أن يكون الأمير المطاع و رئيس الامّة و قائدها بلا تردد، و تجري شئون الامّة بمشورة الكبار، و أهل الحلّ و العقد، و يُستهدَى عند اتّخاذ القرار برأيه الحصيف، و ذهنه الرائق، و روحه النقيّة، و علمه العظيم، و يُؤْثَر رأيه على آراء الآخرين، و يُجْعَل مصدراً للأمر و النهي، و السلم و الحرب، و السكون و الحركة، و غير هذه الأشياء. و لا فرق في هذا الحكم العقليّ أن يكون ذلك الشخص من بيت شعّ فيه نور النبوّة، أم من غيره، فالميزان هو الأعلم، و الأكثر معرفة، و الأشجع الأورع، و الأفقه، و الأكثر بصيرة بالامور، و الأحرص على شئون الامّة و المحافظة عليها من صروف الدهر، و اقتيادها نحو الكمال المعنويّ و الروحيّ، و طيّ المعارج و المراقي الإنسانيّة، و رعاية الشؤون الاجتماعيّة، و جعل الناس يتمتّعون بالنعم الإلهيّة الموهوبة. و في هذه الحالة لو توفّرت هذه كلّها في شخص عاش في بيت أشرق فيه نور النبوّة، كأمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين فإنَّ العقل يقضي بلزوم إمارته و حكومته و خلافته؛ أمّا إذا لم تتوفّر في شخص عاش في بيت النبوّة كابن نوح نبيّ الله على نبيّنا و آله و عليه صلوات الله فالعقل يقضي باتّباع من حاز تلك الشروط و الكمالات.
و عند ما نرى أنَّ عليّ بن أبي طالب يُقصى من القيادة بسبب المناقب و الفضائل التي كانت عنده، لا المثالب و المساوئ التي يتنزّه عنها، و يقول أقطاب المعارضة أيضاً إنَّه أحقّ من غيره بالخلافة بعد رسول الله، إلّا أنّ قريشاً كرهت اجتماع النبوّة و الخلافة في بيت واحد، و إنَّ عليّاً كان معروفاً
بحبّه بني عبد المطّلب، أو إنَّه كان حَدَثَاً، فإنَّ اولئك المتقوّلين قد تصرّفوا خلاف حكم العقل و مصالح الامّة. و مع وجود الأعلم و الأورع و الأتقى و الأشجع و الأعرف بكتاب الله و سنّة نبيّه، لكنّهم سلّموا زمام الامور إلى من هو دون عليّ باعتراف الصديق و العدوّ، و بمراجعة التأريخ الصحيح.
و من الواضح في هذه الحالة أنَّ الامّة الإسلاميّة لم تواصل تصاعد مستواها، بل انحدرت و هوت لأنه «ما ولّت امّة أمرها رجلًا و فيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سَفالًا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا».۱ و نحن نلاحظ أنَّ تقدّم الإسلام بعد النبيّ لم يلمس إلّا في امور ظاهريّة كفتح البلدان؛ بينما لو فُوّضت شئون الامّة إلى أمير المؤمنين عليه السلام لسارت الفتوحات بنحو أفضل، و كانت مقترنة بالمعنويّات و الدعوة إلى الله، مستضيئة بسيرة النبيّ الأكرم، و لو تحقّق ذلك لما استبدلت السلطة بالخلافة، و لاستمتع الناس بالإسلام الحقيقيّ حتّى يوم القيامة. بَيْدَ أنه لمّا تغيّر مجرى الدعوة، و انحرف مسير التبليغ، و لم يذق الناس طعم الإسلام الحقيقيّ و معنويّته و مساواته و مواساته و إيثاره و عدم تفريقه بين الأجناس و القبائل، لذلك ظلّ الناس على سيرتهم الاولى من البهيميّة و الشرك، و تأخّر موكب الإسلام عن التطوّر و التوحيد و العدل، و اجّل ذلك إلى عصر الإمام المهديّ قائم آل محمّد الحجّة بن الحسن العسكريّ أرواحنا له الفداء
و عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
و ما هم إلّا أتباع أهل البيت الشيعة الذين يتواجدون هذا اليوم في أنحاء العالم، و عددهم ملحوظ بين المسلمين، استطاعوا أن يقيموا حكومة مستقلّة ببركة دماء سيّد الشهداء عليه السلام و جهود صادق آل محمّد عليه السلام، و سائر الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، إذ إنَّ كلّ إمام- بدوره- يبذل قصارى جهوده في سبيل إيصال حقيقة الولاية، و ذلك بغية إحياء الأرواح و إبقاء مدرسة التشيّع منفتحة نابضة بالحياة، فلهذا نلحظ منذ ذلك الزمان حتّى يومنا هذا أنَّ عدد أتباع أهل البيت الشيعة في تصاعد و تزايد، و عدد غيرهم من أتباع المذاهب الاخرى في تنازل و تناقص، و ما هذا إلّا بسبب سريان الولاية في قلوب الناس، و إدراك معناها الحقيقيّ على حسب الظروف، و بالتناسب مع استعدادات الناس في كلّ زمان.
و على كلٍّ، فإنَّ نتيجة هذا البحث العقليّ هي أنَّ كلام عمر الذي جاء في مواطن مختلفة، و اعترف هو بنفسه بصراحة إذ قال بأنَّ سبب إقصاء أمير المؤمنين عليه السلام عن الخلافة هو كراهة اجتماع النبوّة و الخلافة في بيت واحد هو كلام مبتذل و لا يرتكز على حجّة شرعيّة، و لا يقوم على حكم عقليّ، و إنَّما هو كلام موضوع مختلق أملته الأهواء، و غذّاه الهَوَس. و هو مُدان شرعاً و عقلًا.
قيام الإجماع على عدم التنافي بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد
و أمّا الإجماع: أي: اتّفاق الامّة الإسلاميّة برمّتها على بطلان قاعدة لزوم عدم الجمع بين النبوّة و الخلافة في بيت واحد، فهو من البديهيّات؛ ذلك أننا لم نر في كتب السيرة و التأريخ منذ عصر صدر الإسلام إلى يومنا هذا أنَّ أحداً قد أثار إشكالًا في هذه المسألة، أعني: عدم التنافي و التضادّ بين النبوّة و الخلافة، فيبطل أحقّيّة أئمّة الدين و قادة المسلمين عليهم السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله تعويلًا على التنافي بين هاتين
المسألتين، بل إنّنا نستطيع أن نثبت- عند قراءتنا تأريخ ما قبل الإسلام أحقّيّة الأنبياء و رئاستهم الدنيويّة بالإجماع على عدم التنافي. و بعامّة، يمكننا أن نقول كما قلنا في الموضوع الآنف (العقل) إنَّ هذا الإجماع ثابت على أساس دليل العقل، و إنَّ الأنبياء الذين بعثوا لإرشاد الناس و هدايتهم كانت لهم زعامة الشؤون المادّيّة و الخلافة الدنيويّة الإلهيّة؛ و إلّا فلا أثر للنبوّة في تطوير الفرد أو المجتمع ما لم تكن لها ولاية و إمارة. و لقد أرسل الله أنبياءه ليقوم الناس بالقسط، و يحافظوا على ميزان الحقوق البشريّة مقاماً على التقوى و العدل؛ و هذا لا يعقل بغير إمارة و رئاسة. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.۱ أي: هم اولو قدرة و يعتمدون على أنفسهم.
نلاحظ هنا أنَّ الله جعل من منافع الحديد صنع الأسلحة التي يقوى بها المؤمنون لينهضوا بها مع أنبيائهم في مواجهة المعارضين، و معاقبة المعتدين.
و هل يتيسّر للنبيّ أن يقاتل و هو لا حقّ له في التدخّل في الشؤون الدنيويّة، و الأمر و النهي في تنظيم المجتمع؟!
{وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.٢
و قال تعالى: {فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ
مُلْكاً عَظِيماً}.۱
و قال جلّ من قائل: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ}.٢
و قال جلّ شأنه: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.٣
نلاحظ في هذه الآيات أنَّ الله جعل للأنبياء ولاية على الناس و فوّض إليهم امورهم. و نحن لا نريد أن نستدلّ بالآيات على هذا الرأي، بل إنَّ ما نريده هو أن نتّخذ من هذه الآيات دليلًا على الإجماع، و التسليم بعدم تنافر هذين المنصبين في كلّ زمان بما فيه زمان الأنبياء.
و محصّلة الكلام أنه يتعذّر إرسال الرسل و دعوة المجتمع بلا ضمانة تتكفّل تطبيق الخلافة و الرئاسة الإلهيّة؛ و أنَّ جميع الأنبياء المرسلين لإقرار النظام الاجتماعيّ و الحئول دون اعتداء المعتدين كانت لهم ولاية و خلافة.
فصل النبوّة عن الخلافة و الإمارة هو فصلها عن السياسة
و هل يتسنّى لأحد أن يتصوّر انفصال النبوّة عن الإمارة و الحكومة في ضوء منطق الشريعة الإسلاميّة المقدّسة؟ و الدين الإسلاميّ هو الدين الجامع لكافّة الجهات و الأبعاد، و قوانينه و أحكامه كلّها تلبّي حاجات الإنسان جميعها، المادّيّة و الروحيّة، الدنيويّة و الاخرويّة، الظاهريّة و الباطنيّة، مضافاً إلى أنها منسجمة متوائمة لا تعارض و لا تناقض بينها، بل هي في ذروة الانسجام و التلاؤم. و الدين يدعو إلى المحافظة على الدنيا، و تعرض الدنيا نفسها بوصفها مقدّمة توصل للباطن؛ فالباطن يحفظ الظاهر.
و الظاهر آية الباطن و مرآته. و الأمر واحد في الحقيقة، بَيْدَ أنَّ له ظهورات مختلفة بهذه الدرجات و المراتب؛ فلهذا، أنَّ الدعوة إلى عزل العلماء عن السياسة التي تعتبر أخطر حربة يستخدمها الاستعمار الناهب لإقصاء الأديان السماويّة عن الحياة، و إبعاد الحقّ و العدل و القسط عن مسرح الوجود دعوة ذميمة تستمدّ وجودها من كلام عمر و تنتهل منه.
و هل يمكن أن يكون لفصل الخلافة عن النبوّة و عدم اجتماعهما في بيت واحد معنى آخر غير هذا؟
قال عمر: النبوّة لكم يا بني هاشم، و عميدكم بعد النبيّ: عليّ بن أبي طالب، و لا يهمّنا هذا أبداً. و الإلهامات و الحالات و المعنويّات و العلاقات المُلكيّة و الملكوتيّة كلّها لكم، و لا تخصّنا هذه الامور أبداً، بل هي لكم فبوركتم بها؛ بَيْدَ أنَّ الإمارة و الحكومة ليستا من شأنكم. بل من شأن غير بيت النبوّة لمن هو أعرف و أعلم بكتاب الله و سنّة نبيّه.
و مع أنَّ أهل البيت هم أعرف بالكتاب و السنّة، إلّا أنهم لا يَجْدوننا نفعاً. عندنا كتاب الله و هو حسبنا. و به ندير شئوننا الظاهريّة و الاجتماعيّة. و إذا بدر خطأ من الأخطاء، فليس مهمّاً، و أهل بيت النبوّة المتحقّقون بحقيقة القرآن الذي {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}،۱ و الذي جعلهم في الافق الأعلى من التوحيد و هم نمير الشريعة، و معدن الأحكام، فهم لأنفسهم و لأتباعهم. و لا شغل لنا بذلك. بَيْدَ أنَّ الرئاسة و التصرّف و حركة المجتمع و سيره نحو السلم و الحرب و العلم و الجهل و غيرها، كلّ ذلك بأيدينا. و هذا
أجلى مظهر لفصل الشؤون المعنويّة عن الشؤون السياسيّة.
لقد طرح عمر قضيّة فصل الخلافة عن بيت النبوّة المتمثّل ببني هاشم، و هي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بلا مراء، و ذلك بذريعة أنَّ قريش لا تخضع لبني هاشم، و أنَّ بني هاشم لا حقّ لهم بالرئاسة على قريش. و نحن لم نجد أحداً يضرب على هذا الوتر غير أبي بكر و عمر. و قصده من قريش شخصه بالذات، لأنه من قريش و ليس من بني هاشم. و دأب الرجال الذين يخالون أنفسهم كباراً أن يعبّروا عن مطالبهم الشخصيّة باسم الشعب أو الدولة التي يحكمونها، و إن عارض جميع أفراد الشعب تلك المطالب. و نحن نقرأ أنَّ رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة يقول مثلًا: لا تتنازل واشنطن عن موقفها بسبب التصريح الفلاني. أو تقول إليزابيث ملكة انجلترا: هذا هو ما تريده لندن، أو يقول رئيس الاتّحاد السوفيتي [سابقاً]: موسكو لها نفس الرأي. ذلك أنَّ هؤلاء المستكبرين يرون أنَّ الدولة كلّها خاضعة لسيطرتهم و ذائبة فيهم. و كان أحد حكّام فرنسا يقول: فرنسا يعني أنا.
فصل الدين عن السياسة يتعارض مع ضرورة الإسلام
إنَّ خطّة عزل علماء الدين عن السياسة التي طرحت في البلدان الإسلاميّة، و كان أشدّ المتحمّسين لتنفيذها مصطفى كمال أتاتورك، و يتلوه رضا خان بهلوي، اللذين نفّذاها بأعنف الأساليب؛ فمسخا صورة بلديهما بإلغاء الإسلام، و فوّضا شئونهما المختلفة من لباس و قبّعة، و اقتصاد، و سياسة، و جيش، و ثقافة و آداب، إلى الأجانب، هي خطّة عمر نفسها التي مهّدت له السبيل إلى حكومة المسلمين، و إقصاء أمير المؤمنين عليه السلام الذي يمثّل أوّل قائد علميّ و ميدانيّ عظيم في الإسلام، و كذلك إقصاء أبنائه، و أتباعه الأوفياء المخلصين الذين كانوا من أشرف الصحابة و أعزّهم، أمثال: عمّار بن ياسر، و المقداد، و سلمان، و أبي ذرّ، و أمثالهم.
و القي علماء الإسلام الكبار في البحر، و نزعوا العمائم من رؤوسهم و وضعوا بدلها القبّعات الأجنبيّة التي أنزلوها في رؤوسهم بالمسامير، و منهم من فارق الحياة إثر التعذيب الوحشيّ في السجون. و كان ذلك كلّه امتداداً للأحداث الدامية المؤسفة التي شهدها عصر صدر الإسلام.
إذ عاش أمير المؤمنين وقتذاك عناءً لم يشهده أحد، و هو رجل العلم و الفضيلة، و المستوعب للقرآن، و الحافظ لسنّة رسول الله و سيرته، و العارف بمناهج الحرب و السلم، و تقسيم بيت المال، و إقرار العدالة. حمل مسحاته خمس و عشرين سنة، و انشغل بالزراعة و إجراء القنوات. و قام جلاوزة عثمان بجرّ ابن مسعود على الأرض و إخراجه من المسجد بأمر عثمان، و كسروا عظامه حتّى فارق الحياة. و رُفس عمّار بن ياسر حتّى ابتلي بالفتق، و مات أبو ذرّ الغفاريّ غريباً في منفاه القاحل الجديب، و ليس معه أنيس. و قتلوا بنت رسول الله و حبيبته و بضعته و روحه التي بين جنبيه و سرّه و هي بنته الوحيدة التي كان يحبّها. و بذلك غيّروا مجرى التأريخ الإسلاميّ، و ساقوا الامّة الإسلاميّة في طريق غير طريق رسول الله و أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام. و لم يبق من العمل بالقرآن إلّا لفظه و اسمه، و أحكموا قبضتهم الاستكباريّة على الامّة، و تركوا الجميع يئنّون تحت سياطهم القاسية.
و حُكِمَ على الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين بالسجن و التعذيب و النفي و القتل عبر تلك الخطّة الجهنّميّة بعزل العلماء عن السياسة التي تبنّاها حكّام الجور، لأنَّ اولئك كانوا يقولون: تستلزم روح الإمامة و الولاية الإلهيّة الحقيقيّة الحكومة على الناس و مسك امورهم في أفضل طريق الرقيّ و الكمال. و كان حكّام الجور يقولون: الولاية المعنويّة لكم، و الحكومة الظاهريّة لنا.
جاء في كتاب «ربيع الأبرار» للزمخشريّ أنَّ هارون الرشيد كان يقول للإمام موسى [بن جعفر عليه السلام]: خذ فدكاً! و هو يمتنع. فلمّا ألحّ عليه. قال: ما آخذها إلّا بحدودها. قال: و ما حدودها؟! قال: الحدّ الأوّل عَدَن. فتغيّر وجه الرشيد. و قال: و الحدّ الثاني؟! قال: سمرقند، فأربد وجهه. قال: و الحدّ الثالث؟ قال: إفريقية، فاسودّ وجهه. قال: و الحدّ الرابع؟ قال: سيف البحر ممّا يلي الخزر و أرمينية. فقال هارون: فلم يبق لنا شيء! فتحوّل في مجلسي! فقال الإمام: قد أعلمتك أني إن حدّدتها لم تردّها! فعند ذلك عزم هارون على قتله، و استكفي أمره.۱
لقد مرّ على خطّة فصل الدين عن السياسة زهاء قرن من الزمان. و أوّل من دعا إليها هم العرب النصاري الذين رفعوا عقيرتهم عاليا لميلهم إلى الميوعة و الانفلات في النظام الاجتماعيّ، و هما محظوران في الإسلام.
و اقتدي بهم أكثر المثقّفين المتديّنين الملتزمين من العرب، لا رغبة في فصل الدين عن السياسة، بل ردّ فعل لسلوك السلاطين العثمانيّين و حكّام مصر الذين كانوا يتظاهرون بالدين، و قد استغلّوه وسيلة لخدمة سياساتهم و مآربهم الخاصّة، و ضيّقوا الخناق على الشعب و رجاله المتلزمين فلا أحد له حقّ الاعتراض أو التعبير عن الرأي. فلهذا نادي اولئك المثقّفون بهذه الخطّة لإخراج الدين من قبضة هؤلاء المستغلّين، و جعل السياسة تحت لوائه.
و بصورة عامّة، لمّا كان المسلمون من غير أتباع أهل البيت جميعهم يرون السلاطين و الامراء خلفاء الله و اولي الأمر، و يرون وجوب طاعتهم، لذلك يُلحظ في هذه المدرسة أنَّ الناس كلّهم ضعفاء، و أنَّ الدين ليس إلّا
كياناً مفروضاً من قبل الجهاز الحاكم.
و هذا من أهمّ أسباب تخلّف أهل السنّة و بلدانهم و شعوبهم إذ يرون وجوب طاعة الظالمين و الجائرين على أساس تعاليم مدرستهم. و على هذا فسبيل النجاة موصد بوجوههم، إلّا أن ينضووا تحت لواء التشيّع، و يتّبعوا الصالحين من أولياء الله، و يعتقدوا أنَّ اولي الأمر الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم هم الأئمّة الاثنا عشر.
بَيدَ أنَّ الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة في بلاد الشيعة اتّخذت طابعاً آخر. فإنَّ المنادين بها يريدون القضاء على نفوذ العلماء و الفقهاء الذين يحظون بمنزلة معنويّة و روحيّة بين الناس. و يبغون إقصاءهم و عزلهم عن الشؤون السياسيّة و الاجتماعيّة. أو بعبارة اخرى: يخضعون الدين للسياسة، و يسيّرونه حسب أهوائهم و مشتهياتهم. و هذا خطر عظيم، لأنه يستهدف نسخ الدين، و طمس الحقيقة و المعنويّة و الضمير و العاطفة، و طمس معانيها في بوتقة الدمار و الفناء، و إحلال الاستكبار و التغطرس و الاستعظام و ظواهر المدنيّة الغربيّة الضالّة و ثقافتهم و عاداتهم محلّها، و إغراق الشعب في مستنقع الذنوب و الآثام و الهوس و الغفلة، و بالتالي استغلاله و إنهاكه بأقصى ما يمكن.
اصطلاح الروحانيّ و الروحانيّة اصطلاح كَنَسيّ و ليس إسلاميّاً
و أساساً أنَّ تعبير (الروحانيّة) يمثّل ظاهرة من ظواهر الكفر الضالّة، إذ يطلقون على علماء الإسلام: الروحيّين بينما هم ليسوا روحيّين فحسب، بل هم مسلمون روحيّون و مادّيّون، دنيويّون و اخرويّون، من أهل العبادة و الشؤون الروحيّة، كما أنهم من أهل الشؤون الاجتماعيّة و السياسيّة، و أهل التعامل مع المسائل المادّيّة و الطبيعيّة و الدنيويّة.
و لم يرد لفظ الروحيّ و الروحانيّ و الروحيّة في مفردات القرآن الكريم و السنّة النبويّة، و الدين الإسلاميّ ليس دين الروح فحسب، بل هو
دين الجسم، و الروح، و العقيدة، و الفكر، و العمل، و العبادة، و الجهاد، و لا يختصّ ببعد واحد. و هذه الحقيقة هي اندكاك مفهوم السياسة و الروحيّة بعضها في البعض الآخر.
علماً أنَّ لفظ الروحيّ و الروحانيّ جاءنا من النصارى الذين يعتبرون عيسى أباهم الروحيّ. و يطلقون على الرهبان: الآباء الروحانيّين. فسرى هذا اللفظ من النصارى إلى المسلمين، فجاء في كلماتهم و كتبهم و محاوراتهم. و يا للأسف فقد ترسّخ هذا المفهوم من خلال غفلة كثير من العلماء بحيث إنّنا نرى أنَّ علماء الإسلام و فقهاءه يطلقون على أنفسهم: روحانيّين. أي: أنهم بقبولهم هذا اللقب تبرّعوا لعدوّهم طوعاً بنصف سعادتهم المتمثّلة بحرّيّتهم في الحقوق السياسيّة. و لعلّهم يقولون: نحن روحانيّون، فما لنا نتدخّل في الشؤون الاجتماعيّة؟
و هذا المعنى في الحقيقة مَسْخ و نسخ للإسلام. أعَاذَنَا اللهُ مِنَ الغَفْلَةِ.
و يتحتّم علينا أن نستخدم لفظ العالِم و الفقيه دائماً بدل لفظ (الروحانيّ)؛ و نطلق لفظ العلماء و الفقهاء بدل الروحانيّين؛ و نستخدم كلمتي الفقاهة و العلم محلّ كلمة الروحانيّة؛ لأنَّ هذه المفردات من المصطلحات التي وضعها الشارع المقدّس، و لها معنى صحيح و شامل.
و تماثل هذه المفردات مفردات اخرى أدخلها الاستعمار المتيقّظ في مصطلحات المسلمين، فنتج عن ذلك أنه عرض شرفهم و حياتهم و ولاءهم و براءتهم و اتّحادهم بأشكال ممسوخة منكرة. مثلًا، نُسخ لفظ الكفر و الإيمان، و الكافر و المسلم و حلّ محلّه لفظ الخارج و الداخل، و الخارجيّ و الداخليّ۱، فكلّ من كان داخل البلد يسمّى داخليّاً و إن كان مشركاً
و كافراً. و كلّ من كان خارجه، يسمّى خارجيّاً و إن كان مسلماً و ملتزماً. و هذا التعبير خاطئ تماماً مائة بالمائة.
و نتيجة الكلام: لا إجماع عندنا على لزوم الفصل بين الخلافة و النبوّة، بل الإجماع قائم على عدم لزوم ذلك، بل لو لم تكن بيعة أبي بكر في السقيفة خفيةً، لما ارتاب أحد في بيعة عليّ بن أبي طالب. و بدا بعد حادثة السقيفة أنَّ بيعة أبي بكر كانت منكرة و غير معروفة، و لم يتوقّع العامّة ذلك، و كانوا يرون الأجواء مهيّأة لأمير المؤمنين عليه السلام.
قصّة أبي بكر و كيفيّة أخذ البيعة، و إقصاء أمير المؤمنين عليه السلام
و عند ما تحدّث أبو عبيدة الجرّاح، و عبد الرحمن بن عوف في السقيفة عن فضل قريش و المهاجرين أمام الأنصار، قام المنذر بن الأرقم فقال: مَا نَدْفَعُ فَضْلَ مَنْ ذَكَرْتَ وَ إنَّ فِيهُمْ لَرَجُلًا لَوْ طَلَبَ هَذَا الأمْرَ لَمْ يُنَازِعْهُ أحَدٌ، يَعْنِي عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ.۱
قال ابن أبي الحديد: قال البراء بن عازب: لم أزل لبني هاشم محبّاً. فلمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه و آله [و سلّم]، خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العَجُول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله.
فكنت أتردّد إلى بني هاشم و هم عند النبيّ في الحجرة، و أتفقّد وجوهَ قريش، فإنّي كذلك إذ فقدت أبا بكر عمر. و إذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة. و إذا قائل آخر يقول: قد بويع أبا بكر.
فلم ألبث، و إذا أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر، و أبو عبيدة،
و جماعة من أصحاب السقيفة. و هم محتجزون بالازُر الصنعانيّة لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه، و قدّموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه؛ شاء أم أبي.
فأنكرتُ عقلي، و خرجت أشتدّ حتّى انتهيت إلى بني هاشم و كانوا مشغولين بتجهيز النبيّ و الباب مغلق. فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً، و قلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قُحافة.
فقال العبّاس [بن عبد المطّلب]: تَرِبَتْ أيديكم إلى آخر الدهر يا بني هاشم! أما إنّي قد أمرتكم، فعصيتموني!
فمكثتُ اكابد ما في نفسي، و رأيت في الليل المقداد، و سلمان، و أبا ذر، و عُبَادَة بن الصامت، و أبا الهيثم بن التَّيِّهان، و حذيفة، و عماراً، و هم يريدون أن يردّوا بيعة أبي بكر، و يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين.۱ و بلغ ذلك أبا بكر، و عمر، فأرسلا إلى أبي عبيدة، و إلى المغيرة بن شعبة، فسألاهما عن الرأي. فقال المغيرة: الرأي أن تلقوا العبّاس فتجعلوا له و لولده في هذه الإمرة نصيباً، ليقطعوا بذلك ناحية عليّ بن أبي طالب!
لقاء أبي بكر و عمر مع العبّاس و وعدهما إيّاه بحصّة من الخلافة
فانطلق أبو بكر، و عمر، و أبو عبيدة، و المغيرة حتّى دخلوا على العبّاس. و ذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله. فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه، و قال:
إنَّ الله ابتعث لكم محمّداً نبيّاً، و للمؤمنين وليّاً. فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم. حتّى اختار له ما عنده. فخلّى على الناس امورهم
ليختاروا لأنفسهم متّفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم وليّاً، و لُامورهم راعياً؛ فتولّيت ذلك. و ما أخاف بعون الله و تسديده وهناً و لا حيرة و لا جبناً. و ما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت و إليه انيب.
و ما أنفكُّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامّة المسلمين، يتّخذكم ملجأ فتكونون حصنه المنيع و خطبه البديع! فأمّا دخلتم فيما دخل الناس، أو صرفتموهم عمّا مالوا إليه!
فقد جئناك، و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، و لمن بعدك من عقبك؛ إذ كنتَ عمّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم! و إن كان المسلمون قد رأوا مكانك من النبيّ، و مكان أهلك، ثمّ عدلوا بهذا الأمر عنكم!
و على رِسلِكم بني هاشم! فإنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم منّا و منكم!
فاعترض كلامه عمر، و خرج إلى مذهبه في الخشونة و الوعيد و إتيان الأمر من أصعب جهاته، فقال: إي و الله. و اخرى: إنَّا لم نأتكم حاجةً إليكم، و لكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم و بهم. فانظروا لأنفسكم و لعامّتهم. ثمّ سكت.
فتكلّم العبّاس، فحمد الله و أثنى عليه، ثم قال:
إنَّ الله ابتعث محمّداً نبيّاً كما وصفت، و وليّاً للمؤمنين، فمنّ الله به على امّته حتّى اختار له ما عنده. فخلّى الناس على أمره ليختاروا لأنفسهم، مصيبين للحقّ، مائلين عن زيغ الهوي.
فإن كنتَ برسول الله طلبتَ، فحقّنا أخذت! و إن كنت بالمؤمنين، فنحن منهم! ما تقدّمنا في أمركم فرطا، و لا حللنا وسطا، و لا نزحنا شحطا. فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنّا كارهين! و ما أبعد
قولك: إنَّهم طعنوا من قولك إنَّهم مالوا إليك!
و أمّا ما بذلت لنا، فإن يكن حقّك أعطيتناه، فأمسكه عليك! و إن يكن حقّ المؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه! و إن يكن حقّنا، لم نرض لك ببعضه دون بعض!
و ما أقول هذا أروم صرفك عمّا دخلت فيه، و لكنّ للحجّة نصيبها من البيان.
و أمّا قولك: إنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله منّا و منكم، فإنَّ رسول الله من شجرة نحن أغصانها، و أنتم جيرانها.
و أمّا قولك يا عمر: إنَّك تخاف الناس علينا؛ فهذا الذي قدّمتموه أوّل ذلك؛ و بالله المستعان.۱
و نقل الكاتب العبّاسيّ أحمد بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبيّ هذا المضمون في تأريخه. إلّا أنَّ البراء بن عازب لمّا جاء إلى البيت الذي كان فيه بنو هاشم، و ضرب الباب، و قال: بويع أبو بكر؛ قال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه، نحن أولى بمحمّد. فقال العبّاس: فَعَلُوهَا وَ رَبِّ الكَعْبَةِ.
و كان المهاجرون و الأنصار لا يشكّون في خلافة عليّ. فلمّا خرجوا من الدار، قال الفضل بن العبّاس، و كان لسان قريش: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إنَّهُ مَا حَقَّتْ لَكُمُ الخِلافَةُ بِالتَّمْوِيهِ، وَ نَحْنُ أهْلُهَا دُونَكُمْ، وَ صَاحِبُنَا أولَى بِهَا مِنْكُمْ! و قام عُتْبَة بْنُ أبِي لَهَبٍ، و قال:
مَا كُنْتُ أحْسِبُ أنَّ الأمْرَ مُنْصَرِفٌ | *** | عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أبِي الحَسَنِ |
عَنْ أوَّلِ النَّاسِ إيمَانَاً وَ سَابِقةً | *** | وَ أعْلَمِ النَّاسِ بِالقُرْآنِ وَ السُّنَنِ |
وَ آخِرِ النَّاسِ عَهْداً بِالنَّبِيّ وَ مَنْ | *** | جِبْرِيلُ عَوْنٌ لَهُ في الغَسْلِ وَ الكَفَنِ |
مَنْ فِيهِ مَا فِيهِمْ لَا يَمْتَرُونَ بِهِ | *** | وَ لَيْسَ في القَوْمِ مَا فِيهِ مِنَ الحَسَن ۱ |
مَنْ ذَا الذي رَدَّكُمْ عَنْهُ فَنَعْلَمَهُ | *** | هَا إنَّ بَيْعَتَكُمْ مِنْ أغْبَنِ الغَبَنِ |
...۱
أ لَيْسَ أوَّلَ مَنْ صلّى لِقِبْلَتِكُمْ | *** | وَ أعْرَفَ النَّاسِ بِالقُرْآنِ وَ السُّنَنِ |
... | *** | مَا كُنْتُ أحْسِبُ هَذَا الأمْرَ مُنْصَرِفَاً |
فبعث إليه أمير المؤمنين عليه السلام فنهاه عن هذا الكلام.
و من الموضوعات المذكورة في «تاريخ اليعقوبيّ» تخلّف أبي سفيان بن حرب عن بيعة أبي بكر و قوله: أ رَضِيتُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أنْ يَلِي هَذَا الأمْرَ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ؟! وَ قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أبِي طالِبٍ: امْدُدْ يَدَكَ ابَايِعْكَ- وَ عَلِيّ مَعَهُ قَصَيّ- وَ قَالَ:
بَنِي هَاشِمٍ لَا تُطْمِعُوا النَّاسَ فِيكُمُ | *** | وَ لَا سِيَّمَا تَيْمَ بْنَ مُرَّةَ أوْ عَدِي |
فَمَا الأمْرُ إلَّا فِيكُمُ وَ إلَيْكُمُ | *** | وَ لَيْسَ لَهَا إلَّا أبُو حَسَنٍ عَلِى |
أبَا حَسَنٍ فَاشْدُدْ بِهَا كَفَّ حَازِمٍ | *** | فَإنَّكَ بِالأمْرِ الذي يُرْتَجَي مَلِي |
وَ إنَّ امْرَءاً يَرْمِي قُصَيّ۱ وَرَاءَهُ | *** | عَزِيزُ الحِمَى وَ النَّاسُ مِنْ غَالبٍ٢ قَصِي٣ |
و ذكر الشيخ المفيد الذي روى هذه الأبيات عن أبي سفيان في آخر هذه القضيّة قائلًا:
ثُمَّ نَادَى بِأعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي هَاشِمٍ! يَا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ! أ رَضِيتُمْ أنْ يَلِي عَلَيْكُمْ أبُو فَصِيلٍ: الرَّذْلُ بْنُ الرَّذْلِ؟! أمَا وَ اللهِ لَوْ شِئْتُمْ لأمْلأنهَا عَلَيْهِمْ خَيْلًا وَ رَجِلًا!
فَنَادَاهُ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ارْجِعْ يَا أبَا سُفْيَانَ! فَوَ اللهِ مَا تُرِيدُ اللهَ بِمَا تَقُولُ! وَ مَا زِلْتَ تَكِيدُ لِلإسْلَامِ وَ أهْلَهُ! وَ نَحْنُ مَشَاغِيلُ بِرَسُولِ اللهِ
صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؛ وَ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ؛ وَ هُوَ وَلِيّ مَا احْتَقَبَ!
فانصرف أبو سفيان إلى مسجد رسول الله، فوجد بني اميّة مجتمعين؛ فحرّضهم على الأمر، فلم ينهضوا له.
و كانت فتنة عمّت، و بليّة شملت، و أسباب سوء اتّفقت، تمكّن بها الشيطان، و تعاون فيها أهل الإفك و العدوان، فتخاذل في إنكارها أهل الإيمان، و كان ذلك تأويل قول الله عزّ و جلّ: {وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}.۱ و٢
و كان خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ غائباً عند اجتماع السقيفة و وفاة رسول الله، فقدم فأتى عليّاً، فقال: هلمّ ابايعك فَوَ اللهِ مَا في النَّاسِ أحَدٌ أوْلَى بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ مِنْكَ.
و اجتمع جماعة إلى عليّ بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له. فقال لهم: اغْدُوا على هَذَا مُحَلِّقِينَ الرُّءُوسَ. فَلَمْ يَغْدُ عَلَيْهِ إلَّا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
و بلغ أبا بكر و عمر أنَّ جماعة من المهاجرين و الأنصار قد اجتمعوا مع عليّ بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتّى هجموا على الدار. و خرج عليّ و معه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، و كسر سيفه، و دخلوا الدار.
فخرجت فاطمة، فقالت: و الله لتخرجنّ أو لأكشفنّ شعري و لأعجّنّ إلى الله! فخرجوا و خرج من كان في الدار، و أقام القوم أيّاماً. ثمّ جعل الواحد بعد الواحد يبايع. و لم يبايع عليّ إلّا بعد ستّة أشهر؛ و قيل: أربعين
يوماً.۱
و قال ابن أبي الحديد بسنده: لمّا كثر الناس في تخلّف عليّ عليه السلام عن بيعة أبي بكر، و اشتدّ أبو بكر و عمر عليه في ذلك، خرجت امّ مِسْطَح بن اثَاثة٢ فوقفت عند قبر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قالت:
كَانَتْ امُورٌ وَ أنْبَاءٌ وَ هَنْبَثَةٌ | *** | لَوْ كُنْتَ شَاهِدَهَا لَمْ تَكْثُرِ الخَطْبُ |
إنَّا فَقَدْنَاكَ فَقْدَ الأرْضِ وَ إبْلَهَا | *** | وَ اخْتَلَّ قَوْمُكَ فَاشْهَدْهُمْ وَ لَا تَغِبِ٣ |
و بعد هذه القضيّة، يروي ابن أبي الحديد بسنده عن أبي الأسود أنه قال: غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة، و غضب عليّ و الزبير، فدخلا بيت فاطمة عليها السلام معهما السلاح. فجاء عمر في عصابة، منهم: اسَيْد بن خُضَيْر، و سَلَمَة بن سَلَامَة بن وَقْش، و هما من بني عبد الأشهل.
فصاحت فاطمة عليها السلام، و ناشدتهم الله، فأخذوا سيفي عليّ
و الزبير، فضربوا بهما الجدار حتّى كسروهما، ثمّ أخرجهما عمر يسوقهما حتّى بايعا. ثمّ قام أبو بكر فخطب الناس، و اعتذر إليهم، و قال: إنَّ بَيْعَتِي كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى اللهُ شَرَّهَا.۱
و العجب أنَّ اولئك الخلفاء المنتخبين قاموا بتلك الأعمال و الممارسات باسم الدين و مناصرة الدين، و طبعوها بطابع الإسلام، و أضفوا عليها عنوانه. و العجب كلّ العجب من سير الإنسان في طريق معكوس تماماً و هو يعلم بذلك حقيقة العلم، بَيدَ أنَّ هوى النفس قد أعماه و أصمّه و زيّن له أنه على صراط مستقيم، و هو منحرف كلّ الانحراف عن هذا الصراط و هذا هو ما سوّلت له نفسه، كما قال تعالى في كتابه الحكيم:
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ}.٢
و ما أدري هؤلاء أنَّ حقيقة التخلّف تتمثّل في التقديم بين يدي الله، و استباق أوامره، و التقدّم على منهاج رسول الله. و أنَّ كلّ من رفع صوته فوق صوت رسول الله، و تعامل معه و مع دينه و نواميسه كما يتعامل مع سائر الامور الاخرى، فقد حبطت أعماله و كان من الهالكين. و لا يسجّل في كتاب أعماله إلّا الخيبة و الخسران. و كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
و صلّى الله على رسوله، و على عليّ أمير المؤمنين، و على الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء بنت الرسول، المكسورة الضلع، المجهولة القدر، المخفيّة القبر، المظلومة المضطهدة بالجور، و الشهيدة في إعلاء كلمة الإسلام، و نفي الزيغ و الهوى؛ و على الأئمّة المعصومين. و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين. و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
الدَّرْسَانِ السَّادِسُ عَشَر بَعْدَ المِائَةِ وَ السَّابِعُ عَشَر بَعْدَ المِائَة أمِيرُ المُؤْمنِينَ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِيزَانُ الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَ السَّيِّئَةِ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
في تفسير: {الم أ حَسِبَ النَّاسُ أن ...} باختبار الناس في أمير المؤمنين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}.۱
و جاء في «نهج البلاغة» ضمن خطبة خاطب بها أهل البصرة، أنَّ رجلًا قام أمامه، و قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الفتنة! و هل سألتَ رسول الله صلّى الله عليه و آله عنها؟ فقال عليه السلام: لَمَّا أنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ: {الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ} عَلِمْتُ أنَّ الفِتْنَةُ لَا تَنْزِلُ بِنَا وَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ بَيْنَ أظْهُرِنَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا هَذِهِ الفِتْنَةُ التي أخْبَرَكَ اللهُ تعالى بِهَا؟ فَقَالَ: يَا عَلِيّ! إنَّ امَّتِي سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أ وَ لَيْسَ
قَدْ قُلْتَ لي يَوْمَ احُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ وَ حِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيّ فَقُلْتَ لي: أبْشِرْ فَإنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ؟ فَقَالَ لي: إنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إذَاً؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ البُشْرَى وَ الشُّكْرِ فَقالَ: يَا عَلِيّ! إنَّ القَوْمَ لَيُفْتَنُونَ بِأمْوَالِهِمْ وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَ يَتَمَنَّونَ رَحْمَتَهُ وَ يَأمَنُونَ سَطْوَتَهُ وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الكَاذِبَةِ وَ الأهْواءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الخَمْرَ بِالنَّبِيذِ وَ السُّحْتَ بِالهَدِيَّةِ وَ الرِّبَا بِالبَيْعِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! بِأيّ المَنَازِلِ انْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ أ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ! فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ.۱
و روى الشيخ الطبرسيّ عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّ معنى يُفْتَنُونَ [هو أنَّ الناس] يبتلون في أموالهم و أنفسهم.
و روي أيضاً عن العيّاشيّ بسنده عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام قال: جاء العبّاس إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: امش حتّى يبايع لك الناس. فقال [له أمير المؤمنين عليه السلام]: أ وَ تراهم فاعلين؟ قال: نعم. قال: فأين قوله عزّ و جلّ: {الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا...} (الآية).٢
و روى الملّا محسن الفيض الكاشانيّ، مضافاً إلى هذه الرواية، و رواية «نهج البلاغة» عن رسول الله، قال: لمّا نزلت هذه الآية قال: لا بدّ من فتنة تبتلي بها الامَّة بعد نبيّها ليتعيّن الصادق من الكاذب، لأنَّ الوحي قد انقطع، و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.٣
و نقل السيّد هاشم البحرانيّ رضوان الله عليه في «غاية المرام» أربع روايات عن طريق العامّة، و خمس روايات عن طريق الخاصّة: جاء عن رسول الله و الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين في تفسير هذه الآية المباركة المذكورة أنَّ الله يفتن الناس في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام و اتّباعه. و من هذه الروايات: عن ابن شهرآشوب، عن أبي طالب الهرويّ بإسناده عن علقمة و أبي أيّوب أنه لمّا نزل قوله: {الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ} [إلى آخر الآيات] قَالَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِعَمَّارٍ: إنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي هَنَاةٌ، حتّى يَخْتَلِفَ السَّيْفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَ حتّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، وَ حتّى يَتَبَرَّأ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَإذَا رَأيْتَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الأصْلَعِ عَنْ يَمِينِي عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، فَإنْ سَلَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِيَاً فَاسْلُكْ وَادِي عَلِيّ، وَ حُلْ عَنِ النَّاسِ.
يَا عَمَّارُ! إنَّ عَلِيِّاً لَا يَرُدُّكَ عَنْ هُدَى، وَ لَا يَرُدُّكَ إلَى رَدَى. يَا عَمَّارُ! طَاعَةُ عَلِيّ طَاعَتِي، وَ طَاعَتِي طَاعَةُ اللهِ.۱
و منها عن طريق العامّة أيضاً في قوله تعالى: {الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ}، قَالَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! مَا هَذِهِ الفِتْنَةُ؟ قَالَ يَا عَلِيّ! بِكَ، و إنَّكَ المُخَاصَمُ، فَأعِدَّ لِلْخصُومَةِ! وَ قَالَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} نَحْنُ اولَئكَ.٢
و منها عن طريق الخاصّة، عن عليّ بن إبراهيم في تفسيره قال:
حدّثني أبي عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن [موسى بن جعفر] عليهما السلام قال: جاء العبّاس إلى أمير المؤمنين عليه السلام و قال: انطلق يبايع لك الناس. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أ تراهم فاعلين؟ قال: نعم.
فقال [الإمام]: فأين قول الله: {الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (أي: اخْتَبَرْنَاهُمْ) {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} ؟!
قال الله: من أحبّ لقاء الله، جاءه الأجل؛ و من جاهد نفسه عن اللذات و الشهوات و المعاصي، فإنّما يجاهد لنفسه؛ إنَّ الله لغنيّ عن العالمين.۱
و منها عن محمّد بن العبّاس، عن أحمد بن هُوذة، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد الله بن حمّاد، عن سماعة بن مهران، قال: قَالَ٢ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ في المَسْجِدِ، فَلَمَّا كَانَ
قُرْبُ الصُّبْحِ، دَخَلَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَاهُ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ فَقَالَ: يَا عَلِيّ! قَالَ: لَبَّيْكَ. قَالَ: هَلُمَّ إلَيّ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ: يَا عَلٍيّ! بِتُّ اللَّيْلَةَ حَيْثُ تَرَانِي، فَقَدْ سَألْتُ رَبِّي ألْفَ حَاجَةٍ فَقَضَاهَا لي؛ وَ سَألْتُ لَكَ رَبِّي أنْ يَجْمَعَ لَكَ امَّتِي مِنْ بَعْدِي؛ فَأبَى عَلَيّ رَبِّي، فَقَالَ: {الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ}.۱
و منها عن الحسين بن عليّ، عن أبيه عليهما السلام، قال: لَمَّا نَزَلتْ: {الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ} فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! مَا هَذِهِ الفِتْنَةُ؟ قَالَ: يَا عَلِيّ! إنَّكَ مُبْتَلَي وَ مُبْتَلَى بِكَ؛ وَ إنَّكَ مُخَاصَمٌ، فَأعِدَّ لِلْخُصُومَةِ.٢
قيام الصحابة الكرام في مسجد رسول الله و احتجاجهم على أبي بكر
و لمّا غصبت الخلافة من أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم تعرّض الناس لفتنة عظيمة، و كانت حقّاً فتنة عظيمة و مليئة بالأخطار.
و نهضت ثلّة من الصحابة المناصرة لأمير المؤمنين عليه السلام و عددهم ليس قليلًا. كما نهضت ثلّة لمناصرة مناوئيه، و دار نقاش كثير؛ و بلغ الأمر أنَّ عدداً من الصحابة الكبار ذهبوا إلى المسجد، و ناقشوا أبا بكر بحضور الناس؛ فلم يحر جواباً، و نزل من المنبر، و ذهب إلى داره. و كانت الفوضي تعمّ المدينة ثلاثة أيّام. إلى أن جلب عمر أبا بكر إلى المسجد. و انتدب عثمان، و المغيرة بن شعبة، و مُعاذاً و مع كلّ واحد منهم مسلّح، لحماية أبي بكر، فشهر هؤلاء سيوفهم متأهّبين للذبّ عن أبي بكر.
فلو نهض أمير المؤمنين عليه السلام و معه المخلصون من الصحابة
للمطالبة بحقّه، و شهر سيفه لاسترجاع حقّه المغتصب، فلا ريب أنَّ الدماء ستراق من الطرفين، و ستثار الاضطرابات و أعمال الشغب في المدينة بمجرّد وفاة النبيّ، و تبقى الاشتباكات حامية مدة طويلة، و يستغلّ الكفّار و المشركون الفرصة و هم الذين كانوا يتربّصون الدوائر بالإسلام و أهله لإضعاف شوكة الدين، و تتّسع شقّة الارتداد عن الدين إلى الجاهليّة الاولى، و بالتالي، ينعي الإسلام ناعوه، و تذهب جهود الرسول الأعظم أدراج الرياح.
فلهذا عمل أمير المؤمنين عليه السلام بوصيّة رسول الله، إذ أوصاه أن لا يشهر سيفه إن لم يجد العدد الكافي من الناصرين له، و لم يقدر على حسم الامور حالًا، و رأي المدينة غارقة في الاضطراب و الفوضى. فصبر صلوات الله عليه على تلك المصائب الفادحة صبراً عبّر عنه أنه أمَرُّ مِنَ العَلْقَمِ،۱ و ذلك من أجل حفظ الإسلام، و إلّا لو اريقت الدماء، و قُتِل القرّاء و الصحابة الكبار في تلك الاشتباكات و الصراعات، لما كان هناك شيء يذكر، و لما ظلّ للإسلام أثر في العالم إلّا ما يقال إنَّه كان حدثاً تاريخيّاً جزئيّاً ظهر و زال و امّحى أثره.
و يمكننا حقّاً أن نتلمّس شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام و شهامته و سخاءه و عقله و حزمه و إيثاره و عبوديّته الخالصة للّه في هذا اللون من الصبر و التحمّل، و نفهم جيّداً أنَّ هذا العمل أعظم و أضخم من ألف سيف
كان يضرب به يوم بدر، و احد، و الأحزاب، و حُنين. و هذا هو مقام وليّ الله إذ آثر رضا محبوبه على هوى نفسه.
جاء في كتاب «بعض فضائح الروافض» ضمن بيان الفضيحة الخمسين ما نصّه: لو كان رسول الله نصّ على عليّ بالخلافة كما تزعم الشيعة، لما غاب ذلك عن نساء النبيّ، و ابن عبّاس، و أبي ذرّ، و سلمان، و عمّار- الذين يحتجّ بهم الرافضة- و لقالوا ذلك اليوم: ما خطبكم؟! لقد نصّ رسول الله على عليّ بالخلافة، و هذا كلامه. فلم تتنازعون في الخلافة؟
كيف أخفوا ذلك النصّ مع ما عليه من الوضوح و الإشراق؟! و كيف خافوا كلّهم من أبي بكر و عمر؟ و كيف نسوا قول الله و رسوله، و حجبوا عين الشمس؟ و كيف خافوا من ابن أبي قحافة التيميّ، و ابن الخطّاب؟ و هل ما رآه أبو جعفر بن بابويه، و أبو جعفر الطوسيّ الحيران، و شيطان الطاق، و يونس بن عبد الرحمن الرافضيّ بعد مضيّ خمسمائة سنة لم يره الصحابة الأطهار؟ أو أنهم رأوه، و أخفوه؟ و هل عجز عليّ، و العبّاس و جميع بني هاشم من ذلك؟ و شهدت امّ سلمة و آخرون عليه؟!۱
و نجد الجواب عن هذه الشبهة مفصّلًا في كتاب «نقض مثالب النواصب» لابن أبي الحسين بن أبي الفضل القزوينيّ الرازيّ الذي ردّ فيه على كتاب «فضائح الروافض» في نفس الفترة التي صدر فيها الكتاب المذكور، و صاحبه كان لا يزال حيّاً.٢ و يضمّ الكتاب المشار إليه جميع هذه
الامور و الإشكالات التي حوتها كتب أهل السنّة، و بخاصّة الحنابلة، هي مثبّتة في المكتبات.
و ننقل فيما يلي عبارات الكتاب نصّاً، مع أني ترجمت بعض العبارات العربيّة الواردة في الكتاب إلى الفارسيّة لقرّاء الفارسيّة. أمّا سائر العبارات فأنقلها كما هي بدون أدنى تغيير.
ذكر صاحب الكتاب في البداية بعض الموضوعات، إلى أن قال: ... و الأخبار في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و ولايته و فرض طاعته و قربته و قرابته و سخائه و فضله و جهاده و اخوّته و مناقبه هي أكثر من أن يرويها سنّيّ أو حنفيّ أو شيعيّ. و هي لا تخفى و لا تبطل بقول خارجيّ أو ناصبيّ مبتدع حتّى لو كان عددهم مائة ألف. و على الطالب المتتبّع أن يبذل قصارى جهده و يصطبر فيذهب إلى مكتبات ساوة، و همدان، و قزوين، و إصفهان حيث لا يجد فيها رافضيّاً، و يسمع من رواة السنّة الثقات، ليعلم أنَّ هذه الأخبار ليست من مبتدعات أبي جعفر بن بابويه، و لا من ذخائر أبي جعفر الطوسيّ. لعن الله أعداءهما، و أعداء الشريف المرتضى و المفيدين مائة ألف مرّة.
و الأخبار بالأسناد المذكورة مسطورة في كتب الأئمّة، لا هي خرافات، و لا تُرّهات؛ رضي بها الأئمّة كلّهم، و زكّاها أصحاب الحديث جميعهم، ثكلت النواصب امّهاتهم. لا يختدمون عقولهم، و يجهلون أنَّ الإمامة تتعيّن بالنصّ. أ فلا يقرأون القرآن إذ يحصر الإمامة بالمعصوم؟ أ فلا يلاحظون الأخبار التي تؤكّد على أنَّ الإمام ينبغي أن يكون أعلم الامّة بأحكام الشريعة.
و نجيب على ما أثاره من شبهة تتمثّل بقوله: لمّا توفّي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم تحدّث الصحابة في الخلافة؛ و ذلك أظهر من
الشمس، و لو كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم نصّ على عليّ بالخلافة، فَلِمَ لَمْ ينكر الصحابة بيعة أبي بكر، و لم يقولوا: الحقّ مع عليّ، و قد نصّ رسول الله، و هم كانوا حاضرين في المسجد يوم البيعة؟ أيّ عمل هذا؟! و نقول:
أوّلًا: يبيّن لنا هذا القائل مرّة اخرى أنه أعمى من غيره بالحساب، و أجهل منه بأحوال يوم السقيفة. و لو علم بذلك لقال. و نحن نجيب عن هذه الشبهة بمقدار الضرورة. و الحقيقة التي ننقلها من الكتب و الآثار هي أوضح من الشمس. و الروايات في ذلك متنوّعة. منها ما رواه بعض الثقات المعروفين عن عليّ بن جعفر الاهرمروانيّ، قال: لمّا بويع أبو بكر في سقيفة بني ساعدة وفد عدد من المهاجرين و الأنصار و كبراء أهل البيت على أمير المؤمنين عليه السلام، و قالوا جميعهم: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! تَرَكْتَ حَقَّاً أنْتَ أوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَ قَدْ أرَدْنَا أنْ نُنْزِلَهُ عَنْ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.
و استأذنوه. ثمّ ذهبوا إلى المسجد، و كان أبو بكر على المنبر. فقام المهاجرون في البداية على هذا النسق، و تحدّثوا بحضور بضعة آلاف، و أنكروا على أبي بكر بيعته.
احتجاج خالد بن سعيد بن العاص على أبي بكر بسوابق أمير المؤمنين
و أوّل من قام و تكلّم هو خالد بن سَعيد بن العاص قال بصوت عال بعد حمد الله و الثناء عليه و الصلاة على نبيّة المصطفى: يَا أبَا بَكْرٍ! اتَّقِ اللهَ وَ انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ لِعَلِيّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: أ مَا عَلِمْتَ أنَّ النَّبِيّ قَالَ لَنَا في يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ- وَ قَدْ قَتَلَ عَلِيّ عِدَّةً مِنْ رِجَالِهِمْ وَ اولِي النَّجْدَةِ مِنْهُمْ:
مَعَاشِرَ النَّاسِ! اوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظُوهَا، وَ مُودِعٌ إلَيْكُمْ سِرّاً فَلَا تُضَيِّعُوهُ: ألَا وَ إنَّ عَلِيَّاً إمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ، بِذَلِكَ
أوْصَانِي جَبْرَئِيلُ عَنْ رَبِّي.
ألَا وَ إنْ لَمْ تَحْفَظُونِي فِيهِ، وَ تُوَازِرُوهُ وَ تَنْصُرُوهُ اخْتَلَفْتُمْ في أحْكَامِكُمْ، وَ اضْطَرَبَ عَلَيْكُمْ أمْرُ دِينِكُمْ، وَ وَلِيَ عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ! أخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ عَنْ رَبِّي.
ألَا وَ إنَّ أهْلَ بَيْتِي هُمُ الوَارِثُونَ لأمْرِي، وَ القَائِمُونَ بِأمْرِ امَّتِي. اللَهُمَّ فَمَنْ أطَاعَهُمْ مِنْ امَّتِي وَ حَفِظَ فِيهِمْ وَصِيَّتِي [فَاحْشُرْهُمْ في زُمْرَتِي، وَ اجْعَلْ لَهُمْ نَصِيبَاً مِنْ مُرَافَقَتِي يُدْرِكُونَ بِهِ نُورَ الآخِرَةِ. اللَهُمَّ وَ مَنْ أسَاءَ خِلَافَتِي في أهْلِ بَيْتِي فَاحْرِمْهُ] الجَنَّةَ التي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَ الأرْضُ اعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.
فالكلام الذي يتّسم بهذه النبرة و القوّة و البلاغة، و يفهم تفسيره النابهون العارفون، و هو منقول في ذلك التجمّع عن كلام مشفوع بالحجّة من كلام المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم ردّ على بيعة أبي بكر. فما ظنّك؟ إنَّ الخواجة الناصبيّ قلّما يقبل ما لا يتلاءم و ذوقه. حتّى قام عمر بن الخطّاب، و قال: اسْكُتْ يَا خَالِدُ! فَلَسْتَ مِنْ أهْلِ المَشُورَةِ. فأجابه خالد قائلًا: بَلِ اسْكُتْ أنْتَ يَا بْنَ الخَطَّابِ، فَوَ اللهِ مَا لَكَ في قُرَيْشٍ مُفْتَخَرٌ. فجلس عمر.
احتجاج أبي ذرّ الغفاريّ في مسجد النبيّ على أبي بكر و أعوانه
و قام بعده أبو ذرّ الغفاريّ
فحمد الله تعالى، و أثنى على نبيّه المصطفى صلّى الله عليه و آله، و قال: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ! قَدْ عَلِمْتُمْ وَ عَلِمَ أخْيَارُكُمْ أنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ الأمْرُ مِنْ بَعْدِي لِعَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، ثُمَّ لِلْحَسَنِ، ثُمَّ لِلْحُسَيْنِ، ثُمَّ لِلأئِمَّةِ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ فَتَرَكْتُمْ قَوْلَهُ، وَ نَبَذْتُمْ أمْرَهُ وَ وَصِيَّتَهُ؛ وَ كَذَلِكَ تَرَكَتِ الامَمُ التي كَفَرَتْ بَعْدَ أنْبِيَائِهَا فَغَّرَتْ وَ بَدَّلَتْ، فَحَاذَيْتُمُوهَا حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَذُوقُونَ وَبَالَ أمْرِكُمْ وَ جَزَاءَ
مَا قَدْ قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ، وَ أنَّ اللهَ لَيْسَ ظَلَّامَاً لِلعَبِيدِ.
ثمّ جلس. فما ظنّك؟ هل هو كلام أبي جعفر، أو كلام الشيخ المفيد؟ لا هذا و لا ذاك! بل هو كلام أبي ذرّ الصحابيّ المعروف. حتّى لا يقول الخواجة الناصبيّ: لِمَ لَمْ ينكروا، و لم يقيموا الحجّة؟ إنَّ الخواجة أعمى و أصمّ.
و قام بعده سلمان الفارسيّ
و قال بعد أن حمد الله تعالى و أثنى على حبيبه المصطفى صلّى الله عليه و آله:
يَا أبَا بَكْرٍ إلَى مَنْ تُسْنِدُ أمْرَكَ إذَا نَزَلَ بِكَ القَضَاءُ! وَ إلَى مَنْ تَنْزَعُ إذَا سُئِلْتَ عَمَّا لَا تَعْلَمُ [مَا عُذْرُكَ في التَّقَدُّمِ] وَ في القَوْمِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ! وَ أقْرَبُ بِرَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَرَابَةً مِنْكَ. قَدَّمَهُ النَّبِيّ في حَيَاتِهِ، وَ أوْعَزَ إلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِهِ، فَنَبَذْتُمْ قَوْلَهُ، وَ تَنَاسَيْتُمْ وَصِيَّتَهُ! فَعَمَّا قَلِيلٍ يَصْفُرُ لَكَ الأمْرُ وَ قَدْ أثْقَلْتَ ظَهْرَكَ بِالأوْزَارِ، وَ حَمَلْتَ إلَى قَبْرِكَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، فَإنَّكَ سَمِعْتَ مَا سَمِعْنَا، وَ رَأيْتَ مَا رَأيْنَا- إلى آخره.۱
بعد ذلك قام المقداد بن الأسود الكنديّ، و قال:
يَا أبَا بَكْرٍ! إرْبَعْ عَلَى ظَلْعِكَ [وَ قِسْ شِبْرَكَ٢ بِفِتْرِكَ] وَ الْزَمْ بَيْتَكَ!
وَ ابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ! وَ ارْدُدْ هَذَا الأمْرَ [إلَى] مَنْ هُوَ أحَقُّ بِهِ مِنْكَ! فَلَا تَغْتَرِرْ بِدُنْيَاكَ! وَ لَا تُغْرِرْكَ قُرَيْشٌ [وَ غَيْرُهَا] فَعَمَّا قَلَيلٍ تَضْمَحِلُّ عَنْكَ دُنْيَاكَ! وَ تَصِيرُ إلَى آخِرَتِكَ! وَ قَدْ عَلِمْتَ أنَّ عَلَيَّاً صَاحِبُ هَذَا الأمْرِ، فَأعْطِهِ مَا جَعَلَهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ لَهُ فَإنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ [لَكَ] في دُنْيَاكَ، وَ أسْلَمُ لَكَ في آخِرَتِكَ!
و سكت. ثكلت النواصب امّهاتهم. فهذا كلام في غاية البلاغة، زاخر بالنصيحة و الموعظة، و ليس هو كلام رافضة و رامين [مدينة من مدن إيران]. فليعلم أنَّ الحقّ بحمد الله ظاهر، و كان بيّناً و ظاهر، و الحجّة ثابتة، و عليا عليه السلام هو الإمام.
و قام بعده بُرَيدَةُ الأسْلَمِيّ رحمة الله عليه
و قال بعد حمد الله، و الثناء على نبيّه المصطفي صلّى الله عليه و آله و سلّم:
يَا أبَا بَكْرٍ أ نَسِيتَ أمْ تَنَاسَيْتَ؟! أ مَا عَلِمْتَ أنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أمَرَنَا أنْ نُسَلِّمَ على عَلِيّ بِإمْرَةِ المُؤْمِنِينَ في حَيَاتِهِ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَ أنْتَ مَعَنَا وَ النَّبِيّ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ فَرَحَاً لِمَا يَدْرِي مِنْ طَاعَةِ امَّتِهِ لِابْنِ عَمِّهِ؟ فَلَوْ عَمِلْتُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَكَانَ خَيْرَاً لَكُمْ في دُنْيَاكُمْ وَ آخِرَتِكُمْ، وَ قَدْ سَمِعْتَ مَا سَمِعْنَا، وَ رَأيْتَ مَا رَأيْنَا، وَ السَّلَامُ.
فليعلم النَّاصِبيّ المُبْطِل أنَّ هذا الكلام المشفوع بالحجّة، المنطوق به أمام أبي بكر يوم البيعة ليس كلام رافضة ساري و إرَمْ، لئلّا ينكره، و يصحر بعداء عليّ المرتضى عليه السلام.
احتجاج عمّار بن ياسر و قيس بن سعد في المسجد على أبي بكر
تلاه عمّار بن ياسر، إذ قام
و قال بعد حمد الله و ثنائه، و تمجيد نبيّه المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! قَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ أهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أقْرَبُ بِرَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَرَابَةً مِنْكُمْ! فَرُدُّوا هَذَا الأمْرَ إلَى مَنْ هُوَ أحَقُّ بِهِ مِنْكُمْ! وَ لَا تَرْتَدُّوا عَلَى أدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
أظنّ أنَّ كلاماً كهذا ليس كلام الحسكانيّ، و أبي طالب بن بابويه، قالاه بعد مضى خمسمائة سنة. بل هو كلام إنسان قاله في اليوم الأوّل الذي رقى فيه أبو بكر المنبر؛ فالحقّ مع حيدر الكرّار.
و أعقبه قَيس بن سَعْد بن عُبَادة فقام
و قال، بعد أن حمد الله، و صلّى على الحبيب المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم:
يَا أبَا بَكْرٍ! اتَّقِ اللهَ، وَ انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ لِعَلِيّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ! وَ ارْدُدْ هَذَا الأمْرَ إلَى مَنْ هُوَ أحَقُّ بِهِ مِنْكَ! وَ لَا تَكُنْ أوَّلَ مَنْ عَصَى مُحَمَّدَاً صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في أهْلِ بَيْتِهِ! وَ ارْدُدْ هَذَا الأمْرَ إلَيْهِمْ، تَخِفَّ ذُنُوبُكَ، وَ تَقِلَّ أوْ زَارُكَ؛ وَ تَلْقَى مُحَمَّدَاً صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ هُوَ رَاضٍ عَنْكَ أحَبُّ إلَيّ مِنْ أنْ تَلْقَاهُ وَ هُوَ عَلَيْكَ سَاخِطٌ!
قال كلاماً مطوّلًا لم يحتمله المقام قطّ. و تفصيل ذلك كلّه حجّة و دلالة على إمامة المرتضى عليه السلام، و إنكار بيعة غيره. أحسب أنه ليس من [بنات أفكار] الغالين، و شيطان الطاق، و يونس بن عبد الرحمن. إنَّه كلام المهاجرين و الأنصار.
و قام بعده خُزَيْمَة بنَ ثَابِت ذو الشَّهَادَتَين، و قال:
مَعَاشِرَ النَّاسِ! أ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَتَي وَحْدِي وَ لَمْ تَزِدْ مَعِي غَيْرِي؟ قَالُوا: بَلَى، فَاشْهَدْ بِمَا تَشْهَدُ! قَالَ: أشْهَدُ على رَسُولِ اللهِ أنهُ قَالَ: أهْلُ بَيْتِي كَالنُّجُومِ، فَقَدِّمُوهُمْ، فَإنَّكُمْ إنْ قَدَّمْتُمُوهُمْ [سَلَكُوا بِكُمْ طَرِيقَ الهُدَى، وَ إنْ تَقَدَّمْتُمُوهُمْ] سَلَكْتُمْ طَرِيقَ الضَّلَالَةِ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: عَلِيّ فِيكُمْ كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكَبَهَا نَجَا، وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ. وَ عَلِيّ فِيكُمْ كَهَارُونَ في بَنِي إسْرَائِيلَ [خَلَّفْتُهُ عَلَيْكُمْ] كَمَا خَلَّفَهُ موسى على قَوْمِهِ وَ مَضَى إلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ.
أظنّ أنَّ الخواجة يقبل شهادة خُزَيْمة و إن كانت زوراً. بينما نقرأ أنَّ القاضي حسن الأسترآباديّ ما كان يقبل شهادة الشيعة. و الحبيب المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم قاضي الدنيا و الآخرة، كان وحده يقبل شهادة خزيمة الشيعيّ- على رغم أنف الخواجة الناصبيّ- و عند ذاك تزول هذه الشبهة.
و قام بعده ابَي بنُ كَعْب، و قال:
مَعَاشِرَ النَّاسِ! إنِّي لأعِظُكُمْ* بِمَا كَثِيراً مَا وَعَظَكُمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ لَا تَسْمَعُونَ مِنِّي إلَّا أكْبَرَ مَا سَمِعْتُمْ مِنْ نَبِيِّكُمْ۱* اشْهَدُوا على أني أشْهَدُ على رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أني رَأيْتُهُ وَ هُوَ وَ اقِفٌ في هَذَا المَكَانِ وَ كَفُّ عَلِيّ في كَفِّهِ وَ هُوَ يَقُولُ: هَذَا إمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ، فَقَدِّمُوهُ وَ لَا تُقَدَّمُوهُ!
وَ اسْمَعُوا لَهُ وَ أطِيعُوا. فَإنَّكُمْ إنْ أطَعْتُمُوهُ دَخَلْتُمُ الجَنَّةِ، وَ إنْ عَصَيْتُمُوهُ دَخَلْتُمُ النَّارَ!
فعلى الخواجة أن يعلم أنَّ الصحابة لم يغفلوا عن كلام بليغ مبالغ فيه كهذا الكلام الدالّ على تعيين عليّ عليه السلام و الإنكار على القوم.
احتجاج سهل بن حُنيف و ابن التيّهان في المسجد على أبي بكر
و قام بعده سَهْل بن حُنَيْف الأنصاريّ، و قال:
يَا مَعَاشِرَ النَّاسِ! سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: عَلِيّ إمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ، [بِذَلِكَ] أوْصَانِي جَبْرَئِيلُ عَنْ رَبِّي. ألَا إنَّ عَلِيَّاً هُوَ الذَّائِدُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيَامَةِ، وَ هُوَ قَسِيمُ النَّارِ وَ الجَنَّةِ؛ يُدْخِلُ الجَنَّةَ مَنْ أحَبَّهُ وَ تَوَلَّاهُ، وَ يُدْخِلُ النَّارَ مَنْ أبْغَضَهُ وَ قَلَاهُ.
تكلّم المهاجرون و الأنصار بهذا الكلام الصائب البليغ على رؤوس الأشهاد [لإثبات إمامة] أمير المؤمنين عليه السلام و إنكار إمامة غيره؛ حتّى يعلم الخواجة أنَّ مذهب أهل البيت عليهم السلام عريق صائب في أعماق التأريخ، و ليس من مبتدعات الجَهْم بن صَفْوان، و لا من وضع هذا و ذاك، و لا هو كمذهب الخوارج و النواصب.
و قام بعده أبو الهَيْثَم بنُ التَّيِّهان رحمة الله عليه و قال:
يَا مَعَاشِرَ النَّاسِ! اشْهَدُوا على أني أشْهَدُ عَلَى رَسُولِ الله صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أني سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ.
و لمّا سمع الأنصار هذا الكلام من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قالوا: يريد بذلك الخلافة؛ و قالت قريش: يريد الموالاة.
و حينما علم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بذلك الخلاف؛ خرج من الحجرة عند الصبح، و أخذ بيد عليّ، و قال: مَعَاشِرَ النَّاسِ! إنَّ عَلَيَّاً فِيكُمْ كَالسَّمَاءِ السَّابِعَةِ في السَّمَاوَاتِ. وَ عَلِيّ فِيكُمْ كَالشَّمْسِ في
الفَلَكِ، بِهَا تَهْتَدِي النُّجُومُ. وَ عَلِيّ إمَامُكُمْ وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ؛ بِذَلِكَ أوْصَانِي جَبْرَئِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَبِّي؛ وَ أخَذَ اللهُ مِيثَاقَهُ عَلَى أهْلِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرَضِينَ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ وَ المَلَائِكَةِ؛ فَمَنْ أقَرَّ بِهِ وَ آمَنَ بِهِ كَانَ مُؤْمِنَاً [وَ هُوَ] في الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ وَ مَنْ أنْكَرَهُ وَ جَحَدَهُ كَانَ كَافِراً [وَ هُوَ] في النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ ... إلى آخره. هذا كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و ناقله أبو الهَيْثَم، إذ قاله بحضور أبي بكر، و عمر، و كافّة المهاجرين و الأنصار. و فيه دلالة على تعيين عليّ عليه السلام بالنصّ و على إمامته. و لم يكن من مبتدعات رافضة قم و كاشان؛ حتّى يعلم الخواجة أنه كان نصّاً بيّناً جليّاً، و ليس عملًا مكتوماً مخفيّاً.
احتجاج أبي أيّوب الأنصاريّ في المسجد على أبي بكر
و قام بعده أبو أيُّوب الأنصاريّ
و قال بعد أن حمد الله و أثنى على الحبيب المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم: يَا مَعَاشِرَ النَّاسِ! أقُولُ: اتَّقُوا اللهَ في أهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَلَا تَظْلِمُوهُمْ فَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا أعَدَّ اللهُ لِلظَّالِمِينَ فَإنَّهُ كَمَا قَالَ {إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها}؛ ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ} [يأكلون أموال إليتامي ظلما إنما] {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}.
و لمّا بلغ الكلام هذا الموضع، ضجّ أهل المسجد بالبكاء و العويل، و خرجوا من المسجد جميعهم على غرّة. و تسمّر أبو بكر على المنبر حائراً. و جاء أبو عُبَيدة بن الجرّاح و معه جماعة فأخذ أبا بكر إلى البيت، و ماجت المدينة بالفتن و القلاقل ثلاثة أيّام. و في اليوم الثالث جاء عثمان بن عفّان، و المغيرة بن شعبة، و معاذ بن جبل، و مع كلّ واحد منهم مائة رجل، و شهروا سيوفهم متأهّبين للقتال.۱
و لمّا كان مصنّف الكتاب يزعم أنه عالم بالتأريخ، فلا ينبغي له أن يغفل عن هذه الواقعة. و في ذلك الحشد الغفير أخذ عمر بن الخطّاب بيد أبي بكر، و أتى به إلى المسجد، و هدّد تلك الثلّة التي تحدّثت أمس الأوّل و عرضت حججها الدامغة التي لا مراء فيها، حتّى قام خَالِد بن سَعيد بن العاص مرّة اخرى، و قال: يَا عُمَرُ! أ فَبِأسْيَافِكُمْ تُهَدِّدُونَا؟ أمْ بِجَمْعِكُمْ تُفَزِّعُونَا؟ وَ اللهِ لَوْ لا أني أعْلَمُ أنَّ طَاعَةَ إمَامِي أوْجَبُ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّي إذَاً لَضَرَبْتُكُمْ بِسَيْفِي هَذَا!
ثُمَّ قال: إئْذَنْ لي يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ في جِهَادِ أعْدَائِكَ!
عدم الإذن بالقيام بالسيف بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله
بَيْدَ أنَ أمير المؤمنين عليه السلام لم يأذن له و أجلسه و هدّأه مراعاة للمصلحة، و إبلاغاً للحجّة، و خشية من أعداء الدين، و خوفاً من خطر المشركين و اليهود و المجوس و النصارى، و لأنهم كانوا قريبي عهد بوفاة الحبيب المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم. و اقتدى في عمله هذا بالأنبياء إذ صبروا منذ اليوم الأوّل الذي بدءوا فيه عملهم. ثمّ قام كلّ واحد من اولئك العظام المشار إليهم، و تحدّثوا بلهجة حادّة، يطول بنا المقام في ذكر التفاصيل، و إن كان كلّ ما قالوه حقّاً لا غبار عليه.
طلب أمير المؤمنين عليه السلام من الجميع أن يسكتوا. و طاعته واجبة عليهم، فأطاعوه و جلسوا ساكتين. غير أنهم كانوا قد قاموا بواجبهم في بيان حقّه في الخلافة بالدليل و الحجّة. و هل يظنّ الخواجة أنَّ هذا العمل قليل، و أنه مذهب مبتدَع، و أنَّ الحقّ يبطل بكلام شِرذمة من الخوارج و الناصبين و المبتدعين و الضالّين؟
نحمد الله أنَّ عليّ المرتضى عليه السلام لم يتّق و لم يداهن، و كذلك العبّاس، و صحابة أمير المؤمنين.
أوّلًا: انَّ أوّل دليل على تعيين عليّ عليه السلام بالنصّ هو العقل. فالعقل يحكم بعدم خلوّ الزمان من إمام هادٍ مرشد بعد ثبوت التكليف، و احتمال صدور الخطأ من المكلّفين.
ثانياً: القرآن هو الحجّة، إذ نطقت الآيات القرآنيّة بتعيين عليّ.
ثالثاً: الأخبار المأثورة عن الحبيب المصطفى.
رابعاً: إجماع الشيعة المُحِقَّة.
و لا يتسنّى لنا في هذا الكتاب أن نشرح جميع الأدلّة. و إنكار الإمام نفسه إمامة تلك الجماعة بيّن ظاهر، على عكس ما يقوله الناصبيّ الأحمق.
أوّلًا: قوله في أوّل تلك الخطبة المعروفة: أمَا وَ اللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أبِي قُحَافَةَ وَ إنَّهُ لَيَعْلَمُ أنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَى. و قوله عند ما جاء دور عمر: فَيَا عَجَبَاً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا في حَيَاتِهِ إذْ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ. و إنكاره ما قام به عمر من تعيين الشورى بقوله: جَعَلَهَا في جَمَاعَةٍ زَعَمَ أني أحَدُهُمْ، فَيَا للَّهِ وَ لِلشُّورَى. و قوله في عثمان: إلَى أنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نَافِجَاً حِضْنَيْهِ ... إلى آخر الخطبة.
فهذا كلّه دليل على تعيينه هو بالذات، و على إنكار ما اختاره القوم لأنفسهم.
فما ظنّك هل الحلّاج و المشّاط كانا يران و يعلمان- بعد تصرّم خمسمائة سنة-؟ أمّا عليّ عليه السلام، و العبّاس، و سلمان، و أبو ذرّ، و المهاجرون، و الأنصار، فلم يستطيعوا الرؤية و العلم؟ [بل العقلاء يحكمون عكس ذلك] أو لم يروا أنَّ كلّ إجماع يخالف عليّ المرتضى عليه السلام خطأ و تجاوز؟ و كلّ اتّفاق يخالف الحسن و الحسين باطل، و كلّ
حجّة تقام ضدّ سلمان، و أبي ذرّ، و المقداد، و خزيمة، و أبي أيّوب شبهات داحضة. ألَا إنَّ الحَقَّ مَعَ عَلِيّ، وَ علِيّ مَعَ الحَقِّ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ.
هذا هو مذهب أهل الحقّ، و هذا هو جواب المُشَبِّه الخارجيّ. و الإمام بعد المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم هو عليّ أمير المؤمنين عليه السلام بلا فصل و نزاع، و هذا هو نصّ ربّ العالمين، و نَفَس خير المرسلين [و] الحمد للّه ربّ العالمين.۱
و لا بدّ أن نعلم أنَّ اعتراض المهاجرين و الأنصار على أبي بكر في مسجد النبيّ، و كلام كلّ واحد منهما على النسق الذي ذكرناه مع اختلاف في العبارات، قد نقله- مضافاً إلى عبد الجليل القزوينيّ الذي تقدّم ذكر كلامه عدد من أعاظم المذهب الجعفريّ الإماميّ و علمائه في كتبهم مرويّاً عن طريق الشيعة و العامّة.
و أوّل هؤلاء هو الشيخ الجليل أبو جعفر: أحمد بن محمّد بن خالد بن عبد الله البرقيّ، من (بَرق رود) التابعة لمدينة قم، و كان من ثقاة المذهب و رؤسائه، و هو كوفيّ الأصل. توفّى سنة ٢۸۰ هـ أو قبلها بستّ سنين.٢
ذكر هذا الشيخ الجليل في كتابه الرجاليّ المعروف بـ «رجال البرقيّ» أسماء الاثنى عشر الذين أنكروا بيعة أبي بكر تحت عنوان: أسماء المنكرين على بيعة أبي بكر. و هم ستّة من المهاجرين، و ستّة من الأنصار.
أمّا المهاجرون، فهم: خَالِد بن سَعِيد بن العاص من بني اميّة، و أبو ذَرّ الغِفَاريّ، و سَلْمَان الفارسيّ، و المِقْداد بن الأسْود، و بُرَيْدَة الأسْلَمِيّ، و عَمَّار بن يَاسِر. و أمّا الأنصار، فهم: خُزَيْمَة بن ثَابِت، و سَهْل بن حُنَيْف، و أبو الهَيْثَم بن التَّيِّهان، و قَيْس بن سَعْد بن عُبَادَة الخَزْرَجِيّ، و ابَي بن كَعْب، و أبو أيُّوب الأنصاريّ. ثمّ يقول: ذهب هؤلاء إلى المسجد يوم الجمعة و تكلّموا واحداً واحداً، و أبو بكر على المنبر واقف لخطبة الجمعة، و أنكروا عليه خلافته، و أيّدوا خلافة أمير المؤمنين عليه السلام، و تحدّثوا عنها مفصّلين و مستدلّين على النحو الذي ذكرناه، إلى أن انتهى كلام آخرهم، و هو أبو أيّوب الأنصاريّ الذي قال: اتَّقِ اللهَ۱ وَ رُدُّوا الأمْرَ إلَى أهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ؛ فَقَدْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْنَا؛ إنَّ القَّائِمَ مَقَامَ نَبِيِّنَا بعْدَهُ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عليه السَّلَامُ، وَ إنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنْهُ إلَّا هُوَ، وَ لَا يَنْصَحُ لُامَّتِهِ غَيْرُهُ.
فنزل أبو بكر من المنبر. فلمّا كان يوم الجمعة المقبلة سلّ عمر سيفه و قال: لا أسمع رجلًا يقول مثل مقالته تلك إلّا ضربت عنقه، ثمّ مضى هو و سالم مولى أبي حذيفة، و معاذ بن جبل، و أبو عُبيدة شاهرين سيوفهم حتّى أخرجوا أبا بكر من الدار و أصعدوه المنبر.٢
الثاني: الشيخ الجليل أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ: هو الشيخ الصدوق المتوفّى سنة ٣۸۱ هـ. ذكر هذا الرجل العظيم في
كتاب «الخصال» تلك الرواية عن ابن حفيد البرقيّ. قال: حدّثني عليّ بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله البرقيّ، قال حدّثني أبي، عن جدّي، أحمد بن أبي عبد الله البرقيّ، قال حدّثني النهيكيّ، عن أبي محمّد خَلَف بن سالم، عن محمّد بن جعفر، عن شُعْبة، عن عثمان بن المُغيرة، عن زَيْد بن وَهَب، قال: الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة و تَقَدُّمه على عليّ بن أبي طالب عليه السلام اثنا عشر من المهاجرين و الأنصار. و ساق الرواية على هذا النمط. إلّا أنه ذكر اسم عَبْد اللهِ بن مَسْعُود بدل قَيْس بن سَعْد بن عُبَادَة.۱
الثالث: الشيخ الجليل: أبو منصور، أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ، و هو من أعاظم علماء المذهب الإماميّ. كان يعيش في أواسط القرن السادس الهجريّ، لأنه كان معاصراً لأبي الفتوح الرازيّ، و الفضل بن الحسن الطَّبَرْسِيّ صاحب كتاب «مجمع البيان» المتوفّى سنة ٥٤۸ هـ. و كان محمّد بن عليّ بن شهرآشوب المتوفّى سنة ٥۸۸ هـ تلميذه.
ذكر هذه الرواية مفصّلًا في كتاب «الاحتجاج» في باب «ذكر طُرف مِمَّا جَرَى بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم من اللجاج و الحجاج في أمر الخلافة». و رواها عن أبان بن تغلب، عن الإمام الصادق عليه السلام. و عند ما عدّ أسماء الاثنى عشر، ذكر عثمان بن حُنَيف أخا سهل، مع سهل بدل قَيْس بن سَعْد بن عُبَادة.٢
الرابع: السيّد الجليل الشريف النقيب: رضيّ الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن طاووس الحسينيّ الحلّيّ المتوفّى سنة ٦٦٤ هـ، المشهور بين العلماء: ابن طاووس.
يقول في كتاب «كَشْفُ إليقِينِ في اخْتِصَاصِ مَوْلَانَا عَلِيّ بِإمْرَةِ المُؤْمِنِينَ» المسمّى «كتاب اليقين»۱ أيضاً: هذا الفصل في بيان ما نذكره عن أحمد بن محمّد الطبريّ المعروف بالخليليّ من رواة العامّة و رجالهم فيما رواه من إنكار اثنى عشر نفساً على أبي بكر بصريح مقالهم عقيب ولايته على المسلمين؛ فيما ذكره بعض الصحابة بما عُرف من رسول الله صلّى الله عليه و آله أنَّ عليّ [بن أبي طالب] أمير المؤمنين. و رواه أيضاً محمّد بن جرير الطبريّ صاحب كتاب «التاريخ» في كتاب «مناقب الأئمّة عليهم السلام» و يزيد بعضهم أشياء على ما ذكره الطبريّ.
[ثمّ قال]: إعلم أنَّ هذا الحديث روته الشيعة بنحو التواتر؛ و لو أنّه كان منحصراً برواة الشيعة، ما نقلناه؛ لأنهم عند مخالفيهم [من العامّة] متّهمون، و لكن نذكره حيث هو من طريقهم الذي يعتمدون عليه و درك و [تبعة] ذلك على من رواه و صنّفه في كتابه. ثمّ قال: قال أحمد بن محمّد الطبريّ ما هذا لفظه: خبر الاثنى عشر الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في مجلس رسول الله صلّى الله عليه و آله [و سلّم]: حدّثنا أبو الحسن بن عليّ بن النحّاس الكوفيّ العدل الأسديّ؛ قال: حدّثنا أحمد بن أبي حسين
العامِريّ؛ قال: حدّثني عمّي أبو معمّر شُعبة بن خيثم الأسديّ: قال: حدّثني عثمان الأعْشَى، عن زيد بن وَهَب. ثمّ نقل هذه القصّة إلى آخرها۱
و نقل العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه إنكار الاثنى عشر بالتفصيل على النحو المشار إليه، و ذلك عن ثلاثة كتب هي: «الخصال»، و «الاحتجاج»، و «كشف اليقين». ثمّ انبرى إلى شرحه و تفسيره.٢
و ذكر المرحوم آية الله الشيخ عبد الله المامقانيّ في «تنقيح المقال» فصلًا تحت عنوان «إنكار الاثنى عشر نفراً من المهاجرين و الأنصار على أبي بكر». و نقل فيه رواية «الخصال» عن «بحار الأنوار» للمجلسيّ. و أشار بعد ذلك إلى رواية «الاحتجاج» أيضاً.٣
إطلاق حزب عليّ عنوان الغاصب على أبي بكر منذ إليوم الأوّل لخلافته
أجل، فإنَّ معارضة الخاصّة من صحابة النبيّ صلّى الله عليه و آله، و شيعة أمير المؤمنين عليه السلام لخلافة أبي بكر، و عمر، و عثمان أظهر من الشمس. و ليس فيها موضع للشكّ كما جاء في التأريخ و كُتب السِّيَر. و كان أتباع أهل البيت منذ البداية ينظرون إلى خلافة الخلفاء الثلاثة على أنها غَصْبٌ، و يعتبرون الخلفاء غاصبين.
يقول عبد الله عنان المُحاميّ: وَ كَانَ لِعَلَيّ حِزْبٌ يُنَادِي بِخِلَافَتِهِ عَقْبَ النَّبِيّ مُبَاشَرَةً، وَ يَرَى أنهُ هُوَ وَ بَنُوهُ أحَقُّ النَّاسِ بِهَا. و يواصل حديثه عن هذا النوع، إلى أن يقول:
وَ مِنَ الخَطَإ أنْ يُقَالَ: إنَّ الشِّيعَةَ إنَّمَا ظَهَرُوا لأوَّلِ مَرَّةٍ عِنْدَ انْشِقَاقِ
الخَوَارِجِ، وَ إنَّهُمْ سُمُّوا كَذَلِكَ لِبَقَائِهِمْ إلَى جَانِبِ عَلِيّ. فَشِيعَةُ عَلِيّ ظَهَرُوا مُنْذُ وَفَاةِ النَّبِيّ كَمَا قَدَّمْنَا.۱
و قال ابن خلدون: مَبْدَا دَوْلَةِ الشِّيعَةِ: اعْلَمْ أنَّ مَبْدَأ هَذِهِ الدَّوْلَةِ أنَّ أهْلَ البَيْتِ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِه] وَ سَلَّمَ كَانُوا يَرَونَ أنهُمْ أحَقُّ بِالأمْرِ، وَ أنَّ الخِلافَةَ لِرِجَالِهِمْ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ.
إلى أن قال: وَ في الصَّحِيحِ أيْضَاً أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ قَالَ في مَرَضِهِ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ: هَلُمُّوا أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَدَاً. فَاخْتَلَفُوا عِنْدَهُ في ذَلِكَ وَ تَنَازَعُوا وَ لَمْ يَتِمَّ الكِتَابُ. وَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الرَّزِيةُ كُلُّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ الكِتَابِ لاخْتِلَافِهِمْ وَ لَغَطِهِمْ. حتّى لَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ إلَى أنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ أوْصَى في مَرَضِهِ ذَلِكَ لِعَلِي وَ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَ قَدْ أنْكَرَتْ هَذِهِ الوَصِيَّةَ عَائِشَةُ وَ كَفَى بِإنْكَارِهَا.٢
إلى أن قال: وَ في قِصَّةِ الشُّورَى أنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَتَشَيَّعُونَ لِعَلِي، وَ يَرَوْنَ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَ لَمَّا عُدِلَ بِهِ إلَى سِوَاهُ تَأفَّفُوا مِنْ ذَلِكَ وَ أسِفُوا لَهُ، مِثْلُ الزُّبَيْرِ وَ مَعَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَ المِقْدَادُ بْنُ
الأسْوَدِ وَ غَيْرُهُم، إلَّا أنَّ القَوْمَ لِرُسُوخِ قَدَمِهِمْ في الدِّينِ وَ حِرْصِهِمْ على الالْفَةِ لَمْ يَزِيدُوا في ذَلِكَ على النَّجْوَى بِالتَّأفُّفِ وَ الأسَفِ.۱
كلام المسعوديّ في مناصرة أعيان الشيعة أمير المؤمنين عليه السلام
و قال المؤرّخ الجليل و الرحّالة الكبير: أبو الحسن عليّ بن حسين المسعوديّ المتوفّى سنة ٣٤٦ من الهجرة:
وَ قَدْ كَانَ عَمَّارٌ حِينَ بُويِعَ عُثْمَانُ، بَلَغَهُ قَوْلُ أبِي سُفْيَانَ: صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ في دَارِ عُثْمَانَ، عُقَيبَ الوَقْتِ الذي بُويِعَ فِيهِ عُثْمَانُ وَ دَخَلَ دَارَهُ وَ مَعَهُ بَنُو امَيَّةَ، فَقَالَ أبُو سُفْيَانَ: أ فِيكُمْ أحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟- وَ قَدْ كَانَ أعْمَى٢ قَالُوا: لَا! قَالَ: يَا بَنِي امَيَّةَ! تَلَقَّفُوهَا تَلَقُّفَ الكُرَةِ! فَوَ الذي يَحْلِفُ بِهِ أبُو سُفْيَانَ مَا زِلْتُ أرْجُوهَا لَكُمْ، وَ لَتَصِيرَنَّ إلَى صِبْيَانِكُمْ
وِرَاثَةً! فَانْتَهَرَهُ عُثْمَانُ وَ سَاءَهُ مَا قَالَ.
وَ نَمَى هَذَا القَوْلُ إلَى المُهَاجِرِينَ وَ الأنْصَارِ وَ غَيْرُ ذَلِكَ الكَلَامِ.
فَقَامَ عَمَّارٌ في المَسْجِدِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أمَا إذَا صَرَفْتُمْ هَذَا الأمْرَ عَنْ أهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ هاهُنَا مَرَّةً وَ هاهُنَا مَرَّةً، فَمَا أنَا بِآمِنٍ مِنْ أنْ يَنْزَعَهُ اللهُ مِنْكُمْ، فَيَضَعَهُ في غَيْرِكُمْ كَمَا نَزَعْتُمُوهُ مِنْ أهْلِهِ وَ وَضَعْتُمُوهُ في غَيْرِ أهْلِهِ!
وَ قَامَ المِقْدَادُ فَقَالَ: مَا رَأيْتُ مِثْلَ مَا اوذِيَ بِهِ أهْلُ هَذَا البَيْتِ بَعْدَ نَبِيِّهِم. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَ مَا أنْتَ وَ ذَاكَ يَا مِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو؟!
فَقَالَ: إنَّي وَ اللهِ لُاحِبُّهُمْ لِحُبِّ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ إيَّاهُمْ؛ وَ إنَّ الحَقَّ مَعَهُمْ وَ فِيهِم. يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! أعْجَبُ مِنْ قُرَيْشٍ- وَ إنَّمَا تُطَوِّلُهُمْ عَلَى النَّاسِ بَفَضْلِ أهْلِ هَذَا البَيْتِ- قَدِ اجْتَمَعُوا على نَزْعِ سُلْطَانِ رَسُول اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ بَعْدَهُ مِنْ أيْدِيهِمْ! أمَا وَ أيْمُ اللهِ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَوْ أجِدُ على قُرَيْشٍ أنْصَاراً لَقَاتَلْتَهُمْ كَقِتَالِي إيَّاهُمْ مَعَ النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَ جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الكَلَامِ خَطْبٌ طَوِيلٌ قَدْ أتَيْنَا على ذِكْرِهِ في كِتَابِنَا «أخْبَار الزَّمَانِ»۱ في أخبَارِ الشُّورَى
وَ الدَّارِ.۱
و روى ابن عساكر بسنده المتّصل عن عمر بن عليّ بن الحسين، عن عليّ بن الحسين، قال: قَالَ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَمِ: مَا كَانَ في القَوْمِ أحَدٌ أدْفَعَ عَنْ صَاحِبِنَا مِنْ صَاحِبِكُمْ- يَعْنِي عَلِيَّاً عَنْ عُثْمَانَ- قَالَ: قُلْتُ لَهُ: فَمَا لَكُمْ تَسُبُّونَهُ على المَنَابِرِ؟! قَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ الأمْرُ إلَّا بِذَلِكَ.٢
قال أحمد أمين المصريّ: وَ قَدْ بَدَأ التَّشَيُّعُ مَنْ فِرْقَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا مُخْلِصِينَ في حُبِّهِمْ لِعلِيّ يَرَوْنَهُ أحَقُّ بِالخِلَافَةِ لِصِفَاتٍ رَأوْهَا فِيهِ؛ مِنْ أشْهَرِهِمْ سَلْمَانُ الفَارِسيّ وَ أبُو ذَرٍّ الغِفَارِيّ وَ المِقْدَادُ بْنُ الأسْوَدِ. وَ تَكَاثَرَتْ شِيعَتُهُ لَمَّا نَقَمَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ في السَّنَوَاتِ الأخِيرَةِ مِنْ خِلَافَتِهِ ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ الخِلافَةَ.٣
و اعترض اسامة بن زيد على خلافة أبي بكر، و قال له في كتاب بعثه إليه: أني لك هذا المقام؟
تأمير أُسامة بن زيد على أبي بكر و عمر
قال ابن أبي الحديد: لمّا مرض رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مرض الموت، دعا اسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَة، فقال: سر إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل! فقد ولّيتك على هذا الجيش؛ و إن أظفرك الله بالعدوّ، فأقلل اللبث! و بثّ العيون! و قدّم الطلائع! فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار إلّا كان في ذلك الجيش؛ منهم أبو بكر و عمر.
فتكلّم القوم و قالوا: يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين
و الأنصار! فغضب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لمّا سمع ذلك، و خرج عاصباً رأسه، فصعد المنبر و عليه قطيفة.
فقال: أيُّهَا النَّاسُ! مَا مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْ بَعْضِكُمْ في تَأمِيرِي اسَامَةَ، لَئِنْ طَعَنْتُمْ في تَأمِيرِي اسَامَةَ فَقَدْ طَعَنْتُمْ في تَأمِيرِي أبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ. وَ أيْمُ اللهِ أنْ كَانَ لَخَلِيقاً بِالإمَارَةِ، وَ ابْنُهُ مِنْ بَعْدِهِ لَخَلِيقٌ بِهَا، وَ إنَّهُمَا لَمِنْ أحَبِّ النَّاسِ إلَيّ! فَاسْتَوصُوا بِهِ خَيْرَاً فَإنَّهُ مِنْ خِيَارِكُمْ.
ثمّ نزل و دخل بيته، و جاء المسلمون يودّعون رسول الله، و يمضون إلى عسكر اسامة بالجُرْف.
و ثقل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و اشتدّ ما يجده، و هو لم يزل يؤكّد على التحاق أكابر قريش بجيش اسامة، و قال: اغْدُ على بَرَكَةِ اللهِ! وَ جَعَلَ يَقُولُ: انْفُذُوا بَعْثَ اسَامَةَ! وَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ، فَوَدَّعَ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ خَرَجَ وَ مَعَهُ أبُو بَكْرٍ وَ عُمَرُ.۱
فقال اسامة لرسول الله: بأبي أنت و امّي يا رسول الله! أ تأذن لي في المقام أيّاماً حتّى يشفيك الله؟! فإنّي متى خرجت و أنت على هذه الحالة، خرجت و في قلبي منك قرحة!
فقال [رسول الله]: انفذ يا اسامة لما أمرتك؛ فإنَّ القعود عن الجهاد لا يجب في حال من الأحوال.٢
نجد هنا أنَّ رسول الله أمر وجوه قريش و سراتهم و مستكبريهم كأبي بكر، و عمر، و أبي عبيدة الجرّاح، و المغيرة بن شعبة، و عثمان بن عفّان، و معاذ بن جبل، و سائر الشخصيّات المعروفة من المهاجرين
و الأنصار أن يلتحقوا بجيش اسامة بعد ما ذكرهم بأسمائهم. و أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فلم يشمله هذا الأمر و لم يكن في عداد الجيش بإجماع الفريقين و تواتر الأحاديث في التواريخ و كتب السير و التراجم، و لم يأمره رسول الله بالخروج مع اسامة.
اعتراض أُسامة بن زيد و أبي قُحافة على أبي بكر في الخلافة
و كان اسامة من الذين اعترضوا على خلافة أبي بكر بقوله: أمّرني رسول الله عليك!
و قال الشيخ الجليل عبد الجليل القزوينيّ: و لمّا كتب أبو بكر بن أبي قحافة في أوّل خلافته كتاباً إلى اسامة بن زيد، و قال فيه: مِنْ أبِي بَكْرٍ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ إلَى اسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَتِيقٍ، أنكر عليه ذلك، و كتب إليه الجواب التالي:
مِنَ الأمِيرِ اسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَتِيقٍ إلَى ابْنِ أبِي قُحَافَةَ: أمَّا بَعْدُ، فَإذَا أتَاكَ كِتَابِي فَالْحَقْ بِمَكَانِكَ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بَعَثَنِي أمِيراً وَ بَعَثَكَ أنْتَ وَ صَاحِبَكَ في الخَيْلِ؛ وَ أنَا أمِيرٌ عَلَيْكُمَا أمَّرَنِي رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.۱
و جاء في «الاحتجاج» للطبرسيّ أنَّ أبا بكر لمّا بويع بالخلافة كان أبوه أبو قحافة بالطائف. فكتب أبو بكر إلى أبيه كتاباً عنوانه: مِنْ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ إلَى أبِي قُحَافَةَ: أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ النَّاسَ قَدْ تَرَاضَوْا بِي؛ فَإنِّي اليَوْمَ خَلِيفَةُ اللهِ! فَلَو قَدِمْتَ عَلَيْنَا كَانَ أقَرَّ لِعَيْنِكَ!
فلمّا قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول: ما منعكم من عليّ؟! فقال الرسول: هو حدث السنّ، و قد أكثر القتل في قريش و غيرها، و أبو بكر
أسنّ منه. فقال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسنّ، فأنا أحقّ من أبي بكر. لقد ظلموا عليّاً حقّه؛ و قد بايع له النبيّ و أمرنا ببيعته.
ثمّ كتب إليه: من أبي قُحافة إلى ابنه أبي بكر: أمَّا بعد، فقد أتاني كتابك! فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضاً. مرّة تقول: خليفة رسول الله، و مرّة تقول: خليفة الله، و مرّة تقول: تراضي بي الناس!
و هو أمر ملتبس! فلا تدخلنّ في أمر يصعب عليك الخروج منه غداً، و يكون عقباك منه إلى النار و الندامة و ملامة النفس اللوّامة لدى الحساب يوم القيامة. فإنَّ للُامور مداخل و مخارج؛ و أنت تعرف من هو أولي بها منك! فراقب الله كأنك تراه! و لا تدعنّ صاحبها! فإنَّ تركها اليوم أخفّ عليك و أسلم لك.۱
و من المناسب هنا أن نختم بحثنا برواية حول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام. فقد روى الطبريّ حديثاً عن زياد بن مطرف، قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أحَبَّ أنْ يَحْيَى حَيَاتِي، وَ يَمُوتَ ميتَتِي، وَ يَدْخُلَ الجَنَّةَ التي وَعَدَنِي رَبِّي قَضْباً مِنْ قُضْبَانِهَا غَرَسَهَا في جَنَّةِ الخُلْدِ، فَلْيَتَوَلَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ وَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَإنَّهُمْ لَنْ يُخْرِجُوهُمْ مِنْ بَابِ هُدَى، وَ لَنْ يُدْخِلُوهُمْ في بَابِ ضَلَالَةٍ.٢
و ذكره الحاكم في «المستدرك» بهذه العبارة: روى مطرف بن زياد، عن زيد بن أرقم أنه قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ يُرِيدُ أنْ يَحْيَى
حَيَاتِي وَ يَمُوتَ مَوْتِي، وَ يَسْكُنَ جَنَّةَ الخُلْدِ التي وَعَدَنِي رَبِّي، فَلْيَتَوَلَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ فَإنَّهُ لَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ هُدَى، و لَنْ يُدْخِلَكُمْ في ضَلَالَةٍ.۱
الدَّرْسُ الثَّامِنُ عَشَر بَعْدَ المائَةِ إلى الدَّرْسِ العِشْرِين بَعْدَ المِائَةِ. في المَدِينَةِ الفَاضِلَةِ، يَنْبَغِي أنْ يسعى ألْجَمِيعَ مِنْ أجْلِ رِئَاسَةِ أمِيرِ المُؤمِنيِنَ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً}.۱
ينبغي للإنسان أن يكون متيقّظاً واعياً متوكّلًا على الله في المواطن التي ينفذ فيها الشيطان و النفس الأمّارة إليه عبر الدين و الشريعة، فيضلّانه و يجعلانه في قبضتهما، و يقحمانه في الحَلَبة من خلال ما يلقيان في قلبه من الوساوس المتمثّلة بمؤازرة الدين و مساعدة الناس، و الشعور بالمسؤوليّة أمام المجتمع، و عدم وجود من به الكفاية، و وجوب الإفتاء و التعليم، و إعداد الضعفاء و تربيتهم، و النظر في شئون المعوزين و الأيتام، و وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ و غير ذلك من الامور التي لا تحصي كثرة، و يخدعانه بإيصاله إلى منصب الرئاسة من خلال هذه الخزعبلات؛
و هذه الرئاسة هي الرئاسة الشكليّة المجازيّة لا المعنويّة الإلهيّة، و هي الرئاسة التي يستغلّها صاحبها، إذ يسجر له زبانيته التنّور، و يصنعون له الخبز الحارّ و الطازج دائماً، بينما هناك من هو أفضل منه و أعلم، و أعرف و أعقل، و أبصر، و أكثر تحرّراً من الهوى و الهوس، و أشجع، و أفهم في الإدارة و تدبير الامور، غاية الأمر أنَّ صفاته الذاتيّة الفطريّة المودعة فيه كالحياء، و الإعراض عن الدنيا و عن ما سوى الله، و علوّ الهمّة في السير نحو مقام العرفان و لقاء الله، لا تسمح له أن يزجّ نفسه في هذه المسائل، و يكون سبّاقاً في أمر يراه كجيفة الدنيا التي تهافتت عليها كثير من الكلاب العاوية، و هي تريد أن تنفرد في التصرّف بها كيفما كان الأمر.
و نلاحظ هنا أنَّ واجبه الفطريّ و العقليّ و الشرعيّ هو أن لا يقبل الدعوة إلى الرئاسة، و أن يردّ هذه الحدائق الخضراء التي أظهروها له في صورة الامور الدينيّة و الشرعيّة، و لا يسمح للقوى الوهميّة و التخيليّة أن تتفوّق على قواه العقليّة، فيقوم و يذهب عند ذلك الإنسان المهجور المعزول في بيته لعدم رغبة الملأ فيه، و إدبار ذوي الافق الضيّق عنه، و هو غارق في التفكير قد انطوى على نفسه في ظلمات وحدته- و يعلم هذا المخدوع بحكم الضمير و فيما بينه و بين الله أنَّ المعزول في بيته أعلم منه و أعقل و أبصر و أشجع و أورع- فيخرجه من زاوية الخمول، و ينضوي تحت لواء رئاسته و حكومته، و يجدّ في سبيل حكومته، و بغية تطهير نفسه من هذا التوجّه و اقتيادها نحو السعادة الأبديّة و الفوز الدائم. و خلاصة القول: يتنازل عن الرئاسة الظاهريّة و الاعتباريّة، و يضحّي بها فداءً للعقل و الفطرة و الشرع، و يكون كأحد الناس مرؤوساً في هذه الرئاسة.
و الله يعلم لو قام بذلك، فأيّ بركات و رحمات متواترة متواصلة تفتح من السماء! و كم يعيش الناس في الخصب و النعمة و غضارة العيش! و كم
يصبحون مجدّين في قطع الطريق إلى الله، فيطوون المسافات الطويلة في مدّة قصيرة! و على العكس لو تسلّم زمام الامور مع وجود من هو أعقل و أبصر منه، فإنَّه لا يرجع القهقري في سيره الكماليّ فحسب، بل و يكون عرضة للأفكار الشيطانيّة و التمويهات النفسانيّة و هكذا يجرّ المجتمع وراءه إلى هاوية النقمة و البلاء و الذلّ و أسر القيود و الحدود الاعتباريّة.
إنَّ خسران هؤلاء أكثر من خسران جميع الناس، ذلك أنهم {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}. فقد كرّس هؤلاء المساكين جهودهم كلّها في خدمة الحياة الحيوانيّة و القوى البهيميّة و الأفكار الشيطانيّة و هم يخالون أنهم يحسنون صنعاً، و أنهم يخدمون المجتمع، و يقومون بأعمال البرّ و الإحسان، و يشيّدون المدارس، و تصدر عنهم كافّة الأعمال الصالحة، إلّا أنَّ ذلك كلّه ظنّ و وهم لا غير.
إضفاء عمر الصبغة الدينيّة على بِدَعِه
لقد كان الخلفاء الاوَل المنتخبون على هذه الشاكلة. فقد قام الشيخان بهذه الأعمال في لباس الدين و تحت غطاء مناصرة الدين و حفظ بيضة الإسلام. و انبريا- في جلباب التقدّس و التظاهر بالحقّ- إلى غلق باب وليّ الله أمير المؤمنين، و من ثمّ كسره و حرقه. و غصبا فدكاً من بضعة رسول الله تحت غطاء المحافظة على بيت المال و حقوق الفقراء؛ و أقاما الجمعة و الجماعة، و رقيا منبر رسول الله و خطبا عليه، و كانا يقولان، نحن لا نريد إلّا هداية الناس و إرشادهم، و تجهيز الجيش للقتال. و كانا يرسلان المسلمين للجهاد. و يحاربان المناوئين لحكومتهما و القُرّاء في المدن و القرى من الذين كانوا يمتنعون عن دفع الزكاة إليهما لاعتقادهم بعدم وصولها إلى خليفة رسول الله الحقيقيّ، كانا يحاربانهم تحت غطاء جهاد المرتدّين عن الدين، مع أنهم كانوا مسلمين يقيمون الصلاة، و كانوا من المتمسّكين بأحكام الإسلام. بَيدَ أنهم لمّا لم يعترفوا بخلافتهما، و كانوا
يقولون: لا تبرأ ذمّتنا ما لم ندفع الزكاة إلى صاحبها الحقيقيّ، فقد حارباهم تحت غطاء مناصرة الدين و أخذ الزكاة من الممتنعين، و اعتبرا هذا الامتناع كفراً، و أداناهم بوصمة الارتداد عن الدين ممّا سوّغ لهما مقاتلتهم.
و وضعا مبدأ التمييز الطبقيّ لكسب العرب إلى جانبهم، و جعلا حصّة العرب و امتيازاتهم في بيت المال، و النكاح، و الإمارة، و الحكومة، و القضاء و الشهادة، و إمامة الجمعة و الجماعة، و الاسترقاق أكثر من سائر المسلمين، و من سائر الطوائف و القبائل التي أطلقوا عليها اسم «الموالي». فلهذا اتّخذت أعمالهم طابعاً دينيّاً من خلال صبغة الدين التي أضفوها عليها، و اعتبرت من السنن الدينيّة. و حظر عمر متعة النساء التي تمثّل عقداً مؤقّتاً، و كذلك حظر متعة الحجّ التي كانت تمارس في الحجّ بين العمرة و الحجّ؛ و صار حظره سنّة. و جعل صلاة النوافل في ليالي شهر رمضان جماعة في حين أنَّ إقامتها جماعة حرام و بدعة. و ظلّت هذه السنّة قائمة حتّى عصرنا الحاضر، إذ يقيم العامّة ألف ركعة من الصلاة المستحبّة المعروفة بصلاة التراويح جماعة في شهر رمضان.
و لو أردنا أن نحصي التغييرات التي أجراها الشيخان، و بخاصّة الشيخ الثاني، على الأحكام، و رمنا تفصيلها و توضيحها، لاستوعب ذلك كتاباً مستقلًّا؛ و جملة القول: «إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام عرض هذه الامور و تحدّث عنها في خطبة الفِتَن و البِدَع».۱
كانت هذه التغييرات و البِدَع تجري باسم الإسلام، حتّى أنَّ مناوءتها كانت تعتبر مناوءة للدين، و ذلك أنَّ عمر و عثمان أنفسهما كانا يصدران حكماً جنائيّاً على معارضتها و مخالفتها. قال عمر في خطبة خطبها: وَ إنَّهُمَا
كَانَتَا مُتْعَتَيْنِ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، وَ أنَا أنْهَى عَنْهُمَا وَ اعَاقِبُ عَلَيْهُمَا إحْدَيْهُمَا مُتْعَةُ النِّسَاء، وَ لَا أقْدِرُ عَلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً إلَى أجَلٍ إلَّا غَيَّبْتُهُ بِالحِجَارَةِ؛ وَ الاخْرَى مُتْعَةُ الحَجِّ.۱
و صدرت من محكمته مثل هذه الحدود و الأحكام الجنائيّة. و كان الناس مقسورين في حكومته على الانصياع لتلك الأحكام، و رسخت هذه التغييرات شيئاً فشيئاً فشكّلت حجاباً على الأحكام المحمّديّة تحت غطاء سنّة الشيخين، و وارت ذلك النظام الإلهيّ الخالص تحت جلبابها. و ظلّت هذه السنن قائمة بعد عمر أيضاً في طابع الأحكام الدينيّة الأوّليّة، و طبّقت في عصر عثمان.
تخطيط عمر في الشورى لخلافة عثمان
و قبل أن يموت عمر اختار ستّة من المسلمين كشورى لتعيين الخليفة، و جعل الأمر على نحو لا يصل فيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى الخلافة بكلّ حال من الأحوال، إذ حدّد ثلاثة أيّام للتشاور، و أوصى بالعمل بما يقوله عبد الرحمن بن عوف. و لمّا كان عبد الرحمن بن عوف- الذي تربطه بعثمان علاقة المصاهرة يعلم أنَّ عليّاً عليه السلام لا يعتني ببدع الشيخين، عرض عليه شرط العمل بسنّة الشيخين بعد مضى ثلاثة أيّام و انتهاء المدّة المحدّدة، و ما أراد بشرطه إلّا أن يلقمه حجراً فقال له: تعمل بكتاب الله و سنّة نبيّه و سيرة الشيخين؟ فقال عليه السلام: أعمل بكتاب الله و سنّة نبيّه و مبلغ علمي.
فالتفت عبد الرحمن إلى عثمان، و كان يعرفه جيّداً، و عرض عليه الشرط المشار إليه، فقبل به فبايعه.
عندئذٍ قال الإمام عليه السلام لعبد الرحمن: حبوتَهُ! ليس هذا أوّل يوم تظاهرتهم فيه علينا، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}.۱ و الله ما ولّيت عثمان إلّا ليردّ الأمر إليك، و الله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.٢
فقال عبد الرحمن [للإمام]: يا عليّ [بايع و] لا تجعل على نفسك سبيلًا! فإنِّي قد نظرت و شاورت الناس،٣ فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج عليّ و هو يقول: سَيَبْلُغُ الكِتَابُ أجَلَهُ.٤
فقال المقداد: يا عبد الرحمن! أمَا وَ اللهِ لَقَدْ تَرَكْتَهُ مِنَ الَّذِينَ يَقْضُونَ بِالحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ. مَا رَأيْتُ مِثْلَ مَا اوتِيَ إلَى أهْلِ هَذَا البَيْتِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ؛ إنِّي لأعْجَبُ مِنْ قُرَيْشٍ إنَّهُمْ تَرَكُوا رَجُلًا مَا أقُولُ: إنَّ أحداً أعْلَمُ وَ لَا أقْضَى منْهُ بِالعَدْلِ. أمَا وَ اللهِ لَوْ أجِدُ عَلَيْهِ أعْوَانَاً. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا مِقْدَادُ اتَّقِ اللهَ فَإنِّي خَائِفٌ عَلَيْكَ الفِتْنَةَ.٥
امتنع أمير المؤمنين عليه السلام من بيعة عثمان. فقال عبد الرحمن: فَلَا تَجْعَلْ يَا عَلِيّ سَبِيلًا إلَى نَفْسِكَ فَإنَّهُ السَّيْفُ لَا غَيْرُ.۱ ذلك أنَّ عمر أوصى بضرب عنق من خالف عثمان. قال الطبريّ: وَ تَلَكَأ عَلِيّ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَمَن نكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ.٢ و٣
لا جرم أنَّ عمر كان يستهدف من وراء تشكيل الشورى الستّة: عليّ، عثمان، سعد بن أبي وقّاص، عبد الرحمن بن عوف، طلحة، الزبير، استخلاف عثمان.
شروط عمر التعجيزيّة تحول دون خلافة أمير المؤمنين
ذكر الطبريّ قائلًا: أوصى عمر قائلًا: إذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام، و ليصلّ بالناس صُهَيْب، و لا يأتينّ اليوم الرابع إلّا و عليكم أمير منكم، و يحضر عبد الله بن عمر مشيراً و لا شيء له من الأمر، و طلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيّام الثلاثة فأحضروه أمركم. و إن مضت الأيّام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم! ثمّ قال: و من لي بطلحة؟ فقال سعد بن أبي وقّاص: أنا لك به و لا يخالف إن شاء الله. فقال عمر: أرجو أن لا يخالف إن شاء الله، و ما أظنّ أن يلي إلّا أحد هذين الرجلين: عليّ، أو عثمان؛ فإن ولى عثمان، فرجل فيه لين، و إن ولى عليّ، ففيه دعابة و أحرى به أن يحملكم على طريق الحقّ؛ و إن تولّوا سعداً فأهلها هو، و إلّا فليستعن به الوالي، فإنّي لم أعزله عن خيانة و لا ضعف؛ و نعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مدبّر، رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه.
و قال [عمر] لأبي طلحة الأنصاريّ: يا أبا طلحة، إنَّ عزّ و جلّ طالما أعزّ الإسلام بكم. فاختر خمسين رجلًا من الأنصار [يضربوا عنق المخالف للشورى!] فاستحث هؤلاء الرهط حتّى يختاروا رجلًا منهم! و قال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرهط حتّى يختاروا رجلًا منهم.
و قال [عمر] لصُهَيْب: صلّ بالناس ثلاثة أيّام؛ و أدخل عليّاً، و عثمان، و الزبير، و سعداً، و عبد الرحمن بن عوف، و طلحة [إن قدم من سفره] و أحضر عبد الله بن عمر و لا شيء له من الأمر، و قم على رؤوسهم! فإن اجتمع خمسة و رضوا رجلًا و أبي واحد، فاشدَخْ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف! و إن اتّفق أربعة فرضوا رجلًا منهم و خالف اثنان فاضرب رأسيهما! فإن رضي ثلاثة رجلًا منهم، و خالف ثلاثة، فحكّموا عبد الله بن عمر؛ فأيّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلًا منهم. فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عم، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، و اقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.
فخرجوا [من عند عمر]. فقال عليّ لقوم كانوا معه من بني هاشم: إن اطيع فيكم قومكم لم تؤمّروا أبداً! و تلقّاه العبّاس بن عبد المطّلب. فقال عليّ: عُدلت عنّا. فقال العبّاس: و ما علمك؟!
قال [عليّ]: قرن [عمر] بي عثمان و قال: كونوا مع الأكثر؛ فإن رضي رجلان رجلًا، و رجلان رجلًا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
فسعد [بن أبي وقّاص] لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، و عبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون. فيولّيها عبد الرحمن عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمن. فلو كان الزبير و طلحة معي، لم ينفعاني.
بلى، إنّي لأرجو إلّا أحدهما.۱
كان واضحاً منذ أيّام عمر أنَّ عثمان هو الخليفة بعده
إن أدنى تأمّل في مضمون ما قاله الطبريّ يوضّح أنَّ هدف عمر الوحيد من تشكيل الشورى: استخلاف عثمان. ذلك أنَّ عبد الرحمن بن عوف لا يسعه أن يكون منافساً لعثمان في المسرح السياسيّ لما يتمتّع به الأخير من مكانة عند بني اميّة، بخاصّة، انّه صاهر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مرّتين حتّى قيل له: ذو النورين.٢
و لنا أدلّتنا على ما نقول:
الأوّل: نقل لنا التأريخ أنَّ عمر كان يتعامل مع عثمان بإحسان على امتداد السنوات العشر التي حكم فيها، إذ كان يقرّبه و يستشيره في مهامّه حتّى ظنّ النّاس أنّه هو الخليفة الثالث لا محالة؛ و على حدّ تعبير الفرس في
محاوراتهم هذا اليوم، كانوا يعتبرونه الشخص الثاني في الدولة، إذ كان عمر هو الشخص الأوّل.
قال الطبريّ في تأريخه: وَ كَانَ عُثْمَانْ يُدْعَى في إمَارَةِ عُمَرَ رَدِيفَاً. قَالُوا: وَ الرَّدِيفُ بِلِسَانِ العَرَبِ الذي بَعْدَ الرَّجُلِ. وَ العَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ لِلرَّجُلِ الذي يَرْجُونَهُ بَعْدَ رَئِيسِهِمْ.۱
الثاني: كان عثمان ضالعاً في أمر الخلافة منذ تسلّم أبي بكر مقاليد الامور، و اعترف ببيعته بل و بايعه منذ اليوم الأوّل. و كان أحد المقرّبين. حتّى أنَّ أبا بكر عند ما سأله عن عمر، قال له: أنا أعرف بباطنه من ظاهره، و ليس بيننا مثيل له. و هو الذي كتب عهد أبي بكر في استخلاف عمر. فقد ذكر الطبريّ و سائر المؤرّخين أنَّ أبا بكر لمّا مرض المرض الذي مات فيه، دعا عثمان و قال له: اكتب:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا مَا عَهِدَ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي قُحَافَةَ إلى المُسْلِمِينَ: أمَّا بَعْدُ؛ قَالَ ... ثُمَّ اغْمِيَ عَلَيْهِ فَذَهَبَ عَنْهُ فَكَتَبَ عُثْمَانُ: أمَّا بَعْدُ؛ فَإنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَ لَمْ آلُكُمْ خَيْرَاً مِنْهُ.
ثُمَّ أفَاقَ أبُو بَكْرٍ فَقَالَ: اقْرَأ عَلَيّ! فَقَرَأ عَلَيْهِ. فَكَبَّرَ أبُو بَكْرٍ وَ قَالَ: أرَاكَ خِفْتَ أنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ إنِ افْتَلَتَتْ نَفْسِي في غَشْيَتِي؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرَاً عَنِ الإسلَامِ وَ أهْلِهِ. وَ أقَرَّهَا أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ مِنْ هَذَا المَوْضِعِ.٢
لقد منّ عثمان على عمر في ما قام به من عمل. و بهذا أرسى دعائم
خلافته. و من هذا المنطلق، نرى عمر يرفع عثمان إلى الخلافة تقديراً لخدماته التي أسداها له، و تحقيقاً لهدف رئيس كان في نفسه. فسلّط- بعمله هذا- بني أميّة، الذين كانوا عقبة كبيرة في طريق بني هاشم، على رقاب المسلمين أكثر من قرن.
روى أبو العبّاس۱ أحمد المشهور بالمحبّ الطبريّ عن عبد الله بن عمر أنه قال:
لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ قُلْتُ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَوْ اجْتَهَدْتَ بِنَفْسِكَ وَ أمَّرْتَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا؟! قَالَ: أقْعِدُونِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَتَمَنَّيْتُ لَوْ أنَّ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ عَرْضَ المَدِينَةِ فَرَقَاً مِنْهُ حِينَ قَالَ أقْعِدْنِي. ثُمَّ قَالَ: وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لأرُدَّنَّهَا إلَى الذي دَفَعَهَا إلَيّ أوَّلَ مَرَّةٍ. خَرَّجَهُ أبُو زَرْعَةَ في كِتَابِ «العِلَلَ».٢
و نعلم من هذه الرواية أنَّ عثمان كان وراء انتقال الخلافة إلى عمر في مرض أبي بكر.
و روى محبّ الدين الطبريّ أيضاً حسب تخريج رواية خَيْثَمَة بن سُلَيْمَان في كتاب «فضائل الصحابة» عن حُذَيفَة، قال: قِيلَ لِعُمَرَ وَ هُوَ بِالمَوْقِفِ: مَنِ الخَلِيفَةُ بَعْدَكَ؟! قَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ.٣
و ذكر الطبريّ أيضاً عن حارثة بن مضرب، قال: حَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ فَكَانَ الحَادِي يَحْدُو: إنَّ الأمِيرَ بَعْدَهُ عُثْمَانُ.۱
و قال الملّا المتّقي في «كنز العمّال»: لمّا سئل أبو حفص عمر بن الخطّاب في المدينة: مَنِ الخليفة بعدك؟! قال: عثمان.٢
تعزيز عمر موقع بني اميّة أمام بني هاشم
الثالث: كان عمر شديد الكُرْهِ لخلافة بني هاشم. و يستبين كرهه من خلال مطالعة الموضوعات التي عرضناها في هذا الجزء من كتابنا «معرفة الإمام». و هو بيّن لا غبار عليه، و ذلك من حواره مع ابن عبّاس، و قوله: إنَّ قريشاً لا ترضخ لبني هاشم. بَيدَ أنه طالما ينقل رأيه في هذه المجالات عن لسان الآخرين و يلقي التبعة على قريش، كما نقرأ ذلك في قوله للأنصار يوم السقيفة: وَ اللهِ لَا تَرْضَى العَرَبُ أنْ يُؤَمِّرُوكُمْ وَ نَبِيُّهَا مِنْ غَيْرِكُمْ.٣
إنَّ قصده من العرب هو ذاته لا غير، لأنَّ قريشاً لو مالأت الأنصار فلا ضير على العرب حينئذٍ. و لمّا كان عمر قد أدرك جيّداً أنَّ أحداً لا يستطيع الوقوف بوجههم مثله، لذلك حبّب إلى نفسه أن تكون الإمارة في أكبر فئة منافسة لبني هاشم، ألا و هم بنو اميّة الذين انقرضت رئاستهم بظهور الإسلام، و الذين كانت قلوبهم مليئة بالإحن و الشنآن ضدّ عليّ بن أبي طالب و أهل بيته. و تعاهد عمر تلك الشجرة الملعونة بالسقى و الرعاية ما وسعه الجهد. و كان يدّخرهم ليوم لو قدّر لبني هاشم فيه أن يدافعوا عن حقّهم، و يستعيدوا موقعهم و مكانتهم، فإنَّ بني اميّة: منافسيهم المقتدرين
الوحيدين سيقفون حجر عثرة و سداً منيعاً دون نيل مناهم.
لقد ولّى عمرُ معاويةَ بن أبي سفيان [على] الشام بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان،۱ و سافر إلى الشام بنفسه لتوطيد أركان حكومته، و حثّ الناس على اتّباع معاوية، حتّى يتحقّق هدفه عمليّاً في يوم الفتنة و الخلاف- الفتنة و الخلاف اللذان يتوقّعهما من معاوية- و لا يتسنّى لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و أهل بيته و أنصاره أن يرفعوا لواء المعارضة و يصمدوا أمامه.
يقول ابن حجر الهيتميّ في حديثه عن فضائل معاوية: وَ مِنْهَا: أنَّ عُمَرَ حَضَّ النَّاسَ على اتِّبَاعِ مُعَاوِيَةَ وَ الهِجْرَةِ إلَيْهِ إلَى الشَّامِ إذَا وَقَعَتْ فُرْقَةٌ. أخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ: أنَّ عُمَرَ قَالَ: إيَّاكُمْ وَ الفُرْقَةَ بَعْدِي فَإنْ فَعَلْتُمْ فَاعْلَمُوا أنَّ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ. فَإذَا وُكِلْتُمْ إلَى رَأيِكُمْ كَيْفَ يَسْتَبِزُّهَا مِنْكُمْ.٢
و نحن نرى أنَّ معاوية المدعوم هذا لم يحترم المهاجرين و السابقين إلى الإسلام. فلمّا سخط الناس على عثمان و عابوه، و أحصوا سلبيّاته، و بيّنوا التغييرات التي أحدثها، و كثرت المؤاخذات عليه، و تهيّأت أرضيّة الاضطرابات لإسقاطه أو استتابته بترك الإسراف في بيت المال، و الكفّ
عن محاباة أرحامه و أقاربه به، توجّه معاوية إلى المدينة لتعزيز موقع عثمان و تشجيعه على الانحراف و الإعلان عن دعمه و تحذير المهاجرين و توعّدهم.
يقول ابن قتيبة الدينوريّ: صعد عثمان المنبر و قال: أمَا وَ اللهِ يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ وَ الأنْصَارِ! لَقَدْ عِبْتُمْ عَلَيّ أشْيَاء، وَ نَقَمْتُمْ امُورَاً قَدْ أقْرَرْتُمْ لابْنِ الخَطَّابِ مِثْلَهَا! وَ لَكِنَّهُ وَ قَمَكُمْ وَ قَمَعَكُمْ، وَ لَمْ يَجْتَرِئ مِنْكُمْ أحَدٌ يَمْلُا بَصَرَهُ مِنْهُ وَ لَا يُشِيرُ بِطَرْفِهِ إلَيْهِ! أمَا وَ اللهِ لأنَا أكْثَرُ مِنِ ابْنِ الخَطَّابِ عَدَدَاً، وَ أقْرَبُ نَاصِرَاً وَ أجْدَرُ- إلَى أنْ قَالَ لَهُمْ- أ تَفْقِدُونَ مِنْ حُقُوقِكُمْ شَيْئاً؟ فَمَا لي لَا أفْعَلُ في الفَضْلِ مَا ارِيدُ؟ فَلِمَ كُنْتُ إمَامَاً إذَاً؟ أمَا وَ اللهِ مَا غَابَ عَلَيّ مَنْ عَابَ مِنْكُمْ أمْراً أجْهَلُهُ! وَ لَا أتَيْتُ الذي أتَيْتُ إلَّا وَ أنَا أعْرِفُهُ!۱
إنذار معاوية المهاجرين توطيداً لعثمان
يقول ابن قتيبة، و قدم معاوية ابن أبي سفيان على أثر ذلك من الشام فأتى مجلساً فيه عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ وَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ وَ الزُّبَيْرُ بْنُ العَوَّامِ وَ سَعْدُ بْنُ أبِي وَقَّاصٍ وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الصَّحابَةِ اوصِيكُمْ بِشَيْخِي هَذَا خَيْرَاً! فَوَ اللهِ لَئِنْ قُتِلَ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ لأمْلأنَّهَا عَلَيْكُمْ خَيْلًا وَ رِجَالًا.
ثُمَّ أقْبَلَ على عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَقَالَ: يَا عَمَّارُ! إنَّ بِالشَّامِ مِائَةَ ألْفِ فَارِسٍ كُلٌّ يَأخُذُ العَطَاء مَعَ مِثْلِهِمْ مِنْ أبْنَائِهِمْ وَ عُبْدَانِهِمْ. لَا يَعْرِفُونَ عَلِيَّاً
وَ لَا قَرَابَتَهُ، وَ لَا عَمَّارَاً وَ لَا سَابِقَتَهُ، وَ لَا الزُّبَيْرُ وَ لَا صَحَابَتَهُ، وَ لَا طَلْحَةَ وَ لَا هِجْرَتَهُ، وَ لَا يَهَابُونَ ابْنَ عَوْفٍ وَ لَا مَالَهُ، وَ لَا يَتَّقُونَ سَعْداً وَ لَا دَعْوَتَهُ.۱
تفريط عمر بالإسلام من أجل عزّة العرب
نرى هنا أنَّ خطّة عمر قد نفّذت تماماً، إذ يبرز معاوية عضلاته و يتنمّر و يكشّر عن أنيابه مهدّداً بمائة ألف مقاتل، و يقف أمام المهاجرين و أتباع الحقّ و إمامهم أمير المؤمنين، و يهزأ بالمقدّسات الإسلاميّة من قُربى، و سابقة، و صحبة، و هجرة، و دعوة علناً. و يقول: إنَّ حكومة بني اميّة التي يرأسها في الشام، و التي نشأت برعاية عمر تدعم عثمان على الرغم من كلّ ما أحدثه، و هي مستعدّة للمواجهة مهما كلّف الأمر. أجل، فإنَّ عمر لم يتحمّس من أجل الإسلام و الهجرة، بل كان قلقاً على عِزّة العرب. كان يريد إعزاز العرب و تسويدهم و جعلهم حكّاماً على غيرهم. و كان إبداء رغبته في الإسلام تمهيداً لهذا الهدف. ذلك أنَّ الإسلام هو الذي أعزّ العرب. و كان عمر يعلم أنَّ معاوية هو وحده القادر على توطيد الحكومة العربيّة. و كان مطّلعاً على تفرعنه و نخوته و استكباره و جدّيته في إقرار الحكومة الكسرويّة العربيّة و ترسيخ الإمبراطوريّة العربيّة.
نقل ابن حجر العسقلانيّ عن البَغَوِيّ، عن عمّه، عن الزبير أنه قال:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ قَالَ: كَانَ عُمَرُ إذَا نَظَرَ إلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: هَذَا كِسْرَي العَرَبِ.٢ و٣
و ذكر ابن سعد عن المدائنيّ أنه قال: نَظَرَ أبُو سُفْيَانَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَ هُوَ غُلَامٌ فَقَالَ: إنَّ ابْنِي هَذَا لَعَظِيمُ الرَّأسِ، وَ إنَّهُ لَخَلِيقٌ أنْ يَسُودَ قَوْمَهُ. فَقَالَتْ هِنْدٌ: قَوْمَهُ فَقَط؟ ثَكِلْتُهُ إنْ لَمْ يَسُدِ العَرَبَ قَاطِبَةً.۱
إن الإسلام الذي هو دين المحبّة و التواضع و الإيثار و المساواة بين الناس. و لا فرق بين ضعيفهم و فقيرهم و مسكينهم و يتيمهم و عاجزهم و عجمهم و مواليهم و غير هؤلاء، كلّهم في كفّة واحدة، و هذا الضرب من الكسرويّة و الإمبراطوريّة المتستّر بلباس الإسلام، و الغلظة و الفظاظة العُمَرِيَّة، و دهاء معاوية و خيله في وادٍ، و الخُلُق المحمّديّ، و العطف العلويّ في وادٍ آخر،
و تحايله طريق آخر.
فلهذا يمكن أن نقول: إنَّ ما حكم من الإسلام على العالم حتّى الآن سواء في عهد عمر أو عثمان أو بني اميّة أو بني العبّاس هو حكم ذو طابع عُمَريّ، و كان الإسلام تحت غطاء هذه الغلظة و السيادة و هذا اللون من الإمارة. و ما حكم منه في طابعه الصحيح المستقيم من العدل بين الطبقات و سائر الميزات و الآثار الواقعيّة فقد كان في عهد رسول الله و أمير المؤمنين لا غير. و ها هو العالم اليوم ينتظر أن تسود الوحدة و الاخوّة و تواضع الامراء، و تتحقّق العدالة و المساواة بين جميع الضعفاء و المحرومين من كلّ الطبقات بقيام قائم آل محمّد: الحجّة بن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه.
ثقل إمارة أمير المؤمنين عليه السلام على عمر
إنَّ هذا النهج العُمرَيّ معاكس للنهج العَلَويّ تماماً. فلهذا نلحظ عمر سواء كان حيّاً أم ميّتاً لا يطيق أن يرى عليّاً في مقام الرئاسة و الإمارة و الخلافة.
روى ابن عبد ربّه بسنده عن هشام بن عُروة، عن أبيه عروة قال: لمّا طعن عمر، قيل له: لو عهدتَ؟ ثمّ نقل كلاماً عن عمر، حتّى بلغ إلى ما قيل له ثانية: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! لَو عَهَدتَ. فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أجْمَعْتُ بَعْدَ مَقَالَتِي لَكُمْ أنْ اوَلِّيَ رَجُلًا أمْرَكُمْ أرْجُو أنْ يَحْمِلَكُمْ على الحَقِّ- وَ أشَارَ إلَى عَلِيّ- ثُمَّ رَأيْتُ أنْ لَا أ تَحَمَّلَهَا حَيَّاً وَ مَيِّتَاً.۱
و روى البلاذُريّ عن عمرو بن ميمون أنه قال: كنت شاهداً لعمر يوم طعن. فأرسل على عليّ، و عثمان، و طلحة، و الزبير، و عبد الرحمن بن عوف، و سعد بن أبي وقّاص. و بعد أن تكلّم معهم، قال: ادعوا لي صهيباً، فدعى فقال له: صلّ بالناس ثلاثاً، و ليخل هؤلاء النفر في بيت حتّى
يجتمعوا على رجل. فمن خالف بعد الاجتماع، فاضربوا رأسه!
و لمّا خرجوا من عنده، قَالَ: لَوْ وَلَّوْهَا الأجْلَحَ سَلَكَ بِهِمُ الطَّرِيقَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا يَمْنَعَكَ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟! قَالَ: لَا أ تَحَمَّلُهَا حَيَّاً و مَيِّتَاً.۱
و روى ابن عبد البرّ هذا المضمون عن عمر.٢
و بعد أن ذكر محبّ الدين الطبريّ ما رواه عن عمرو بن ميمون في ما يخصّ عليّ بن أبي طالب، قال: هذا الحديث أخرجه النسائيّ. و نقل هناك أيضاً أنَّ عمر قال: للَّهِ دَرُّهُمْ إنْ وَلَّوْهَا الاصَيْلِعَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ على الحَقِّ وَ إنْ كَانَ السَّيْفُ على عُنُقِهِ! قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: فَقُلْتُ: أ تَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَ لَا تُوَلِّيهِ؟! فَقَالَ: إنْ تَرَكْتُهُمْ فَقَدْ تَرَكَهُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي.٣
لمّا استبان من تضاعيف البحث أنَّ عمر لم يقصد خلافة عليّ قطّ و إنَّما قصد خلافة عثمان. فعلينا أن نرى: لما ذا لم يوص بالخلافة لعثمان مباشرة، و ترك الأمر شورى ليُخْتَار عثمان في آخر المطاف؟ و جوابنا أنَّ لهذا العمل أسباباً هي:
الأوّل: ساوت الشورى بين عليّ و بين أشخاص آخرين لم يكونوا
بمستواه، فجعلت له نظائر لا تقاس به. و هذا التدبير السيّئ لم يحرم عليّاً من حقّه الثابت فحسب، بل و جرّأ الزبير و طلحة على التفكير بالخلافة بعد قتل عثمان، و على الوقوف بوجه عليّ و مناوءته، و إقلاق حكومته الفتيّة بإشعال حرب الجمل. و من وراء الجمل صفّين التي أنتجت النهروان، و من ثمّ اغتياله في محراب العبادة من قبل أحد المعارضين النهروانيّين.
الثاني: كان عمر قد رأى تخلّف عليّ و الزبير عن بيعة أبي بكر و نتائج ذلك التخلّف، و كذلك كان مطّلعاً على مؤاخذة طلحة أبا بكر عند ما جعل عمر خليفة،۱ فلهذا جمع المعارضين في مجلس واحد باسم الشورى للحؤول دون بروز الخلاف، و سلّط عليهم خمسين مسلّحاً للوقاية من خطر الانشقاق، و أجبرهم على البيعة أو القتل، و حينئذٍ تزول العقبات في طريق خلافة عثمان.
الثالث: كان عمر يعرف عثمان جيّداً، و كان يرى تعامله مع المسلمين؛ فلهذا كان يقول مراراً: أخاف أن يسلّط قومه و آل مُعيط على الامّة. فتفادى من تعيينه تعييناً مباشراً، و أوكل ذلك إلى الشورى ليقع القدح و اللوم عليها و على ما يراه عبد الرحمن، و يحافظ بذلك على قدسيّته و شعبيّته.
الرابع: أراد عمر أن يمنّ على أعلام المهاجرين منّة صوريّة ظاهريّة، فجمعهم في الشورى ليغلق منافذ العتاب و التقريع ضدّه.
الخامس: تخلّص عمر من الاستبداد في التعيين كما يبدو، و جعل شورى الحلّ و العقد مركزاً لاتّخاذ القرار و اختيار الخليفة. و هذا أمر كان عمر يعوّل عليه من قبل. و كان يقول: الخلافة بالشورى، و ذلك ليحول دون بيعة الناس عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد موته.
نقل ابن هشام في سيرته عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: عند ما كان عمر بمنى، قال له رجل: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! هَلْ لَكَ في فُلَانٍ يَقُولُ: وَ اللهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاناً. وَ اللهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أبِي بَكْرٍ إلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ؟
قال: فغضب عمر [لذلك] فقال: إنيّ إن شاء الله لقائم العشيّة في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم.
قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإنَّ الموسم يجمع رعاع الناس و غوغاءهم؛ ... فأمهِلْ حتّى تقدم المدينة فإنَّها دار السنّة و تخلَّص بأهل الفقه و أشراف الناس فتقول ما قلت متمكّناً! فيعي أهل الفقه مقالتك و يضعوها على مواضعها.
فقال عمر: و الله إن شاء الله لأقومنّ بها أوّل مقام أقومه بالمدينة. ثمّ نقل ابن هشام أشياء عن ابن عبّاس، و قال بعدها:
فلمّا قدم عمر المدينة، خطب في أوّل جمعة صعد فيها المنبر، و قال في خطبته: إنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أنَّ فُلانَاً قَالَ: وَ اللهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاناً. فَلَا يَغُرَّنَّ امْرءَاً أنْ يَقُولَ: إنَّ بَيْعَةَ أبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً فَتَمَّتْ. وَ إنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إلَّا أنَّ اللهَ قَدْ وَقَى شَرَّهَا. وَ لَيْسَ فِيكُمْ مَنْ تَنْقَطِعُ الأعْنَاقُ إلَيْهِ مِثْلَ أبِي بَكْرٍ. فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ
بِغَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَإنَّهُ لَا بَيْعَةَ لَهُ هُوَ وَ لَا الذي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أنْ يُقْتَلَا.۱
و روى ابن أبي الحديد، عن الجاحظ أنهُ قَالَ: إنَّ الرَّجُلَ الذي قَالَ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَبَايَعْتُ فُلاناً، عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. قَالَ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَبَايَعْتُ عَلِيَّاً. فَهَذَا القَوْلُ هُوَ الذي هَاجَ عُمَرَ أنْ خَطَبَ مَا خَطَبَ بِهِ.٢
التخطيط المسبق للشورى و الحئول دون خلافة أمير المؤمنين
و على هذا فإنَّ خطّة الشورى بالشكل الخاصّ الذي يحول دون وصول عليّ إلى الخلافة قد دبّرت من قبل لا محالة، و قد نسجت خيوطها و حُبكت خصوصيّاتها قبل ذلك الوقت، و حينئذٍ نجد أنَّ خبر هذه المسائل، و دليل عمر في خطبته التي ألقاها في المدينة بعد ما حاوره عبد الرحمن بن عوف في منى، و تخويله عبد الرحمن بن عوف صهر عثمان حقّ التعيين المصطلح عليه اليوم: حقّ الفيتو (الاعتراض) في شورى الستّة لإبطال رأي الفريق المخالف، و كلّ اولئك كان قد وضعت لبناته من قبل. و لا نرتاب أنَّ الحئول دون تصميم عمّار بن ياسر، و الزبير بن العوّام على بيعة عليّ قد اتُّخِذَ قراره منذ الوهلة الاولى للأحداث.
روى البلاذريّ، عن الواقديّ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر
أنه قَالَ: إنَّ رِجَالًا يَقُولُونَ: إنَّ بَيْعَةَ أبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى اللهُ شَرَّهَا، وَ إنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ. وَ الأمْرُ بَعْدِي شُورَى؛ فَإذَا اجْتَمَعَ رَأيُ أرْبَعَةٍ فَلْيَتَّبِعِ الاثْنَانِ الأرْبَعَةَ. وَ إذَا اجْتَمَعَ رَأيُ ثَلَاثَةٍ وَ ثَلَاثَةٍ فَاتَّبِعُوا رَأيَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ فَاسْمَعُوا وَ أطِيعُوا! وَ إنْ صَفَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِإحدى يَدَيْهِ على الاخْرَى فَاتَّبِعُوهُ.۱
و كذلك روى البلاذريّ عن أبي مخنف حول كيفيّة التصويت و الشورى التي عيّنها عمر، بعد عرضه اموراً تتعلّق بالموضوع، أنَّ عمر قال: وَ إنْ كَانُوا ثَلَاثَةً (وَ ثَلَاثَةً) كَانُوا مَعَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ فِيهِمْ ابْنُ عَوْفٍ إذْ كَانَ الثِّقَةَ في دِينِهِ وَ رَأيِهِ المَأمُونَ لِلِاخْتِيَارِ على المُسْلِمِينَ.٢
و روى البلاذريّ أيضاً عن هشام بن سَعْد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنَّ عمر قال: إنِ اجْتَمَعَ رَأي ثَلَاثَةٍ وَ ثَلَاثَةٍ فَاتَّبِعُوا صِنْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَ اسْمَعُوا وَ أطِيعُوا!٣
الشورى الخاضعة لإشراف عمر ليست شورى بل هي الاستبداد عينه
و نقل الملّا عليّ المتّقي عن محمّد بن جُبَير، عن أبيه أنَّ عُمَرَ قَالَ: «إنْ ضَرَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إحدى يَدَيْهِ على الاخْرَى فَبَايِعُوهُ». وَ عَنْ أسْلَمٍ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ قَالَ: «بَايِعُوا لِمَنْ بَايَعَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ؛ فَمَنْ أبَى فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ».٤
لنا أن نسأل هنا: هل كان عبد الرحمن بن عوف ثقة في دينه و رأيه، و مأموناً للاختيار على المسلمين، و لم يكن عليّ بن أبي طالب كذلك؟
لما ذا لم يُخَوَّل هذا الحقّ؟ أو أنَّ المراد بالأمانة للاختيار على المسلمين، و الثقة في الدين و الرأي ما يرضاه عمر و يستصوبه، لا ما يقتضيه العموم و الإطلاق؟ فيصبح مفاده و مؤدّاه: أنى اؤيّد رأي ابن عوف، و فكره و دينه.
ثانياً: لما ذا لم يُدْخِل عمر في الشورى وجوه المهاجرين من خاصّة الصحابة مثل عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَ سَلْمَان الفَارِسِيّ، وَ المِقْدَادِ بْنِ الكِنْدِيّ، وَ حُذَيْفَة ذِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَ ابْنِ الخَيْثَمِ التَّيِّهَانِ، و أمثالهم؟ هؤلاء كانوا أنصار أمير المؤمنين عليه السلام و المضحّين من أجله و المخلصين له، و نقل عنهم التأريخ و كتب السير حكايات تثنى على عقلهم و تدبيرهم و درايتهم و دينهم و أمانتهم.
ثالثاً: لما ذا عيّن عمر هذه الشورى؟ هو فرد كسائر المسلمين، و تشكيل الشورى ينبغي أن يكون حرّاً و تحت إشراف جميع المسلمين بواسطة أهل الحلّ و العقد منهم، لا أن يكون تشكيلها من قبل شخص معيّن. و هل لهذا النمط من تشكيل الشورى الذي رتّبه عمر بنفسه أثر أكبر من تعيين شخص خاصّ للإمارة؟ ما هو الفرق إذَن بين أن يعيّن عثمان مباشرة منذ البداية، و بين أن يعيّنه بواسطة الشورى؟ و لو تغاضينا عن ذلك و افترضنا عدم وصول عثمان إلى الخلافة في هذه الشورى، بل وصول شخص آخر غيره كأمير المؤمنين عليه السلام مثلًا، فهل تكون الشورى صحيحة و حرّة؟ تلك الشورى المقيّدة و المحدودة برأيه و تعيينه. و ما هو حقّ عمر في تشكيل مثل هذه الشورى؟ و هل هناك فرق بين هذه الشورى و بين مجلس الشيوخ الذي كان يعيّن الشاه [محمّد رضا بهلوي] نصف أعضائه؟
رابعاً: أني لعمر مثل هذه الشورى؟ و لو كان قد أخذها من السنّة
النبويّة، فإنَّه يصرّ أنَّ رسول الله لم يعيّن أحداً، و لم ينصّب عليّ بن أبي طالب، بل ترك للُامّة اختيارها في نصب الخليفة. فكان لعمر أن يتأسّي بهذه السنّة المزعومة و يترك الامّة حرّة في تعيين خليفتها حتّى تختار أمير المؤمنين عليه السلام! فلما ذا سلب من الامّة اختيارها، و عزل أمير المؤمنين عليه السلام من خلال وصيّته بتشكيل مثل هذه الشورى؟
و من الواضح- إذَن- أنَّ إقحام أمير المؤمنين عليه السلام في الشورى لم يكن حبّاً له باحتمال تعيينه، بل كان ذلك لإلزامه و إجباره على الرضوخ لخلافة الشخص المنتخب. و ما قصد عمر من قتل المعارض إلّا شخص الإمام نفسه، لأنَّ المعارضين- في ضوء خطّة عمر- و هم أشخاص آخرون لا يمكن أن يكونوا في الشورى فيقتلوا؛ و بناءً على هذا، جعل أمير المؤمنين عليه السلام بين أمرين لا غير: إمَّا التسليم لحكم عبد الرحمن بن عوف، و إمَّا القتل فيتحقّق الخروج من حلبة الصراع بموته. و كانت هذه الخطّة قد دبّرت و رسمت بشكل عجيب.
حوار معاوية مع زياد بن حصين حول اختلاف المسلمين
أجل، فإنَّ جميع المفاسد و الخلافات قد انبثقت عن هذه الشورى، و كلّ ما حلّ بالمسلمين من مصائب كان بسببها. و من الضروريّ أن نشير هنا إلى قصّة دقيقة نقلها ابن عبد ربّه الأندلسيّ في «العقد الفريد» قال: «ذكروا أنَّ زياداً أوفد ابن حصين على معاوية فأقام عنده ما أقام. ثمّ إنَّ معاوية بعث إليه فخلا به فقال له: يا بن حصين قد بلغني أنَّ عندك ذهناً و عقلًا! فأخبرني عن شيء أسألك عنه! قال: سلني عمّا بدا لك. قال [معاوية]: أخبرني ما الذي شتّت أمر المسلمين و أبلاهم و خالف بينهم؟ قال: قتل الناس عثمان! قال: ما صنعتَ شيئاً. قال [ابن حصين]: فمسير طلحة و الزبير و عائشة و قتال عليّ إيّاهم. قال: ما صنعتَ شيئاً. قال: ما عندي غير هذا. قال [معاوية]: فأنا أخبرك به، إنَّه لم يشتّت بين المسلمين،
و لا فرّق أهواءهم إلّا الشورى التي جعلها عمر إلى ستّة نفر. و ذلك أنَّ الله بعث محمّداً بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثمّ قبضه الله إليه، و قدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله لأمر دينهم.
فعمل أبو بكر بسنّة رسول الله، و سار بسيره حتّى قبضه الله، و استخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثمّ جعلها [عمر] شورى بين ستّة نفر فلم يكن رجل منهم إلّا رجاها لنفسه و رجاها له قومه. و تطلّعت إلى ذلك نفسه. و لو أنَّ عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف».۱
علمنا ممّا تقدّم أنَّ تصرّف عمر في الدين ليس تصرّفاً في مسائل جزئيّة، بل هو تصرّف في مسائل جوهريّة و جذريّة، و لا زال ذلك التصرّف قائماً بين أتباعه حيث لا يزال يأفل نجم الحقّ و الولاية، و تتوارى الحقيقة خلف حجاب الغيب على كرور الأيّام.
و لمّا كانت التغييرات التي أحدثها عمر في الدين يُنْظَر إليها بوصفها تعاليم دينيّة، فإنَّ أتباعه ينظرون إليه بوصفه قدّيساً، و يحترمون سنّته كاحترام سنّة النبيّ صلّى الله عليه و آله، مع أنَّ العقل و الشرع و الضمير، كلّ اولئك يحكم بأن لا شيء جدير بالاتّباع غير الوحي الإلهيّ. و ما لزوم اتّباع الأنبياء إلّا لأنهم يمثّلون وسائط الاتّصال بعالم الغيب. و ما عدا ذلك، فإنَّ التقليد الأعمى مدان في جميع المراحل. و لقد تلاعب عمر بمنهج رسول الله، و أتى بأشياء من عنده، عرفت بسنّة عمر، و إذا ألحقنا بها
الأشياء التي أحدثها الخليفة الأوّل، فإنَّها تعرف بسنّة الشيخين.
و يستبين من هنا أنَّ ضرر عمر على الإسلام الحقيقيّ و السنّة المحمّديّة كان أشدّ من ضرر أبي سفيان، و أبي لهب، و أبي جهل، و نظائرهم. لأنَّ هؤلاء- مع جميع العراقيل التي وضعوها في طريق الرسالة، و كافّة الحروب و المصائب التي أنزلوها بالإسلام و المسلمين، لا سيّما برسول الله- كانوا يقصدون صدّ رسول الله عن هدفه ظاهراً، و عدم تقدّم الإسلام في حقل الحكومة و الرئاسة. و كانوا يطمحون أن يكونوا هم الرؤساء لا رسول الله. أمّا عمر فقد حال دون المعنويّة و الولاية و العاطفة الإسلاميّة. و خلط سنّته بالدين، فقدّم إلى الامّة مزيجاً مغشوشاً. و أحدث عمر ثغرة في معنويّة الإسلام، و فرض نهجه على الناس تحت غطاء الدين. فلهذا نرى أنَّ نهج أبي سفيان و أمثاله قد امّحى و لا نصير له في العالم، بَيدَ أنَّ نهج عمر لا زال قائماً، حتّى تعذّر إقناع المسلم السنّيّ بأنَّ نهجه لا يقوم على دليل، و ليس له حجّيّة شرعيّة. فالحجّة كتاب الله و سنّة رسول الله لا غير.
من هذا المنطلق، شُبِّه عمر في الروايات الشيعيّة بالسامريّ في قوم موسى، لأنَّ السامريّ أحدث في دين موسى على الصعيد المعنويّ، ما أدّى ببني إسرائيل إلى عبادة العِجْل. فإنه لم يكن حاكماً متعطّشاً للحكومة الظاهريّة الشكليّة فحسب، ذلك لأنَّ تأثير حبّ الرئاسة على الناس، لا سيّما الرئاسة المعنويّة، أكبر و أشدّ من تأثير سائر المعاصي، و هو يقود صاحبه إلى هاوية السقوط و البوار و الهلاك بأسرع ما يكون، و يضيّع جميع المتاعب و الجهود و العبادات و الجهاد فيما مضى، و يترك ذلك كلّه طعمة لحريق الهوى.
كلام الغزّاليّ في الغدير و انحراف الخلفاء المنتخَبِين
نقرأ للإمام محمّد الغَزَّالِيّ بحثاً يحوم حول الترتيب في خلافة
الخلفاء، هل هي بالنصّ أو بالإرث، و ذلك في المقالة الرابعة من كتابه: «سِرّ العالمين» إلى أن يبلغ قوله:
لَكِنْ أسْفَرَتِ الحُجَّةُ وَجْهَهَا وَ أجْمَعَ الجَمَاهِيرُ عَلَى مَتْنِ الحَدِيثِ في يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ بِاتِّفَاقِ الجَمِيعِ، وَ هُوَ يَقُولُ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ»؛ فَقَالَ عُمَرُ: بَخٍّ بَخٍّ لَكَ يَا أبَا الحَسَنِ لَقَدْ أصْبَحْتَ مَوْلَاي وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.
فَهَذَا تَسْلِيمٌ وَ رِضَى وَ تَحْكِيمٌ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا غَلْبُ الهَوَى لِحُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَ حَمْلِ عَمُودِ الخِلافَةِ، وَ عُقُودِ البُنُودِ، وَ خَفَقَانِ الهَوَى في قَعْقَعَةِ الرَّايَاتِ، وَ اشْتِبَاكِ ازْدِحَامِ الخُيُولِ، وَ فَتْحِ الأمْصَارِ سَقَاهُمْ كَأسَ الهَوَى، فَعَادُوا إلَى الخِلافِ الأوَّلِ، فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ.۱
وَ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ قَبْلَ وَفَاتِهِ: إيْتُونِي بِدَوَاةٍ وَ بَيَاضٍ لُازِيلَ عَنْكُمْ إشْكَالَ الأمْرِ، وَ أذْكُرَ لَكُمْ مَنِ المُسْتَحِقُّ لَهَا بَعْدِي.
قَالَ عُمَرُ: دَعُوا الرَّجُلَ فَإنَّهُ لَيَهْجُرُ- وَ قِيلَ: يَهْذُو.٢
لقد أعطى الإمام الغزّاليّ هذا الموضوع حقّه عبر كلامه المقتضب المارّ ذكره، و كشف الحقيقة. و كان هذا الدرك و الفهم- طبعاً- من بركات ترك هوى النفس، و حبّ الرئاسة، و التنازل عن مقامه المتمثّل بحجّة الإسلام، و ترك رئاسة المدرسة النظاميّة ببغداد، و جميع المناصب الدنيويّة من تدريس، و إفتاء، و قضاء، و إصلاح ذات البين، و غيرها من الشؤون
الدينيّة على أساس الفقه الشافعيّ، إذ اختار العزلة في الشام عشر سنين، و انشغل بالرياضات الشرعيّة لتصفية باطنه، وجلا جوهر نفسه بمخالفة النفس الشيطانيّة و الاستمداد من النفحات الرحمانيّة، و اجتاز الموهومات و التحق بالحقّ، و نزع عن المجاز إلى الحقيقة. كما يستبين ذلك من مطاوي كتابه الذي حرّره بعد رجوعه من الشام على شكل رسالة أسماها: «المُنْقِذُ مِنَ الضَّلَالِ».
و من الطبيعيّ أنَّ الله لا يضيع جهود الرجال الذين يسعون في سبيله، و قد دلّهم على طريق السعادة، و اقتادهم إلى الحياة الطيّبة، و امتنّ عليهم بالجزاء على أحسن وجه، و ذلك وفقاً لمفاد قوله تعالى: {وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}،۱ و مفاد قوله: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.٢
لا جرم أنَّ الغزّاليّ كان سنّيّاً، و من أنصار مدرسة عمر، بل و من المتعصّبين لها، بَيدَ أنّ الاندفاع إلى تلمّس الحقّ أضاء مصباح الولاية في مشكاة قلبه، و أنار زجاجة نفسه بهذا النبراس. و لا ريب أنه انتهج طريق التشيّع، و خطا خطوته في صراط الولاية.٣
دوست بر ما عرض ايمان كرد و رفت | *** | پير گبرى را مسلمان كرد و رفت |
من كبار الشيعة و العامّة الذين يرون أنَّ كتاب «سرّ العالمين» للغزّالىّ
و قال فيه المرحوم الفقيه المحدّث الحكيم المفسّر العارف العظيم المولى محسن الفيض الكاشانيّ: كان عامّيّ المذهب حين تصنيف «إحياء العلوم» ثمّ تشيّع في آخر عمره، و صنّف كتاب «سرّ العالمين».۱
و نفيد ممّا تقدّم أننا ينبغي أن لا نبالي بما يقوله بعض العلماء المعاصرين حول كتاب «سرّ العالمين»٢ إذ ينفون نسبته للغزّاليّ. لأنه مضافاً إلى كثير من الأدلّة التي يذكرونها و هي قابلة للتبرير، فإنَّ بعضها
لا يمكن أن يعتبر إشكالًا و مؤاخذة. و لا يمكن بمجرّد الاستبعاد إنكار كتاب أو رسالة لشخص هو مؤلّفها، علماً أنَّ أهل الخبرة في علم الرجال و التراجم و علم المصادر قد أيّدوا نسبة ذلك الكتاب أو تلك الرسالة إليه، و نقلوا الموضوعات الواردة فيهما منذ عصر المؤلّف إلى يومنا هذا في كتبهم.
و من هؤلاء الذين نسبوا كتاب «سرّ العالمين» إلى الغزّاليّ: الذَّهَبِيّ في «ميزان الاعتدال»،۱ و ابن حجر العسقلانيّ في «لسان العرب»،٢ و سبط بن الجوزيّ في «تذكرة خواصّ الامّة»،٣ و جرجي زيدان في «آداب اللغة العربيّة»،٤ و الملّا محسن الفيض الكاشانيّ في «المحجّة البيضاء»،٥ و العلّامة محمّد باقر المجلسيّ في «بحار الأنوار»،٦ و العلّامة عبد الحسين الأمينيّ في «الغدير».۷
و قال الطباطبائيّ الحسنيّ في مقدّمة كتاب «سرّ العالمين» طبعة النجف: و من الذين نسبوا كتاب «سرّ العالمين» إلى الغزّاليّ: القاضي نور الله التُّستريّ في «مجالس المؤمنين»، و الشيخ على بن عبد العالى الكَرَكيّ، و هو المحقّق الثاني فيما نقل عنه، و المولى محسن الفيض صاحب «الوافي»، و الطريحيّ في «مجمع البحرين».
و قال العلّامة الطهرانيّ: و نسب إلى الغزّاليّ أيضاً في «تاج العروس»، و «الإتحاف في شرح الإحياء».۱
أجل، عند ما أزلّ حبّ الرئاسة طلحة و الزبير مع سابقتهما اللامعة، حتّى جمعا حولهما اثنى عشر ألف مقاتل، و نكثا البيعة، و شهرا سيفهما بوجه أمير المؤمنين الوليّ الأعلى في عالم الإمكان، مع معرفتهما به و مناصرته و دعمه في عصر رسول الله و بعده، و حرّضا عليه الناس المساكين و المستضعفين بتهمة مظلوميّة عثمان و قتل عليّ إيّاه- مع أنهما كانا من أقطاب المؤلّبين على قتله- و أراقا الدماء البريئة، عند ما يكون ذلك كلّه، فلا نعجب من عمل الشيخين معه، و هما المعروفان بسوابق مخالفتهما لنهج عليّ بن أبي طالب عليه السلام منذ اليوم الأوّل، و كان ذلك ملحوظاً منهما في عصر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
من هذا المنطلق، تحرّم مدرسة التشيّع رئاسة مثل هؤلاء الأشخاص، و تحصر الإمامة بالوليّ المعصوم من هوى النفس و حبّ الرئاسة لكي تسير
الامور على أساس الحقّ و الواقع.
و كلّما ازداد علم الإنسان، تضاءل هواه. و كلّما كانت سوابقه أكثر، كانت مكائد نفسه أدقّ. و هنا تخطو النفس خطوتها عبر طريق مؤازرة الدين، و وجوب حماية الشريعة، و رعاية حقّ الفقراء و المحتاجين، و حفظ بيضة الإسلام، فتغصب حقّ عليّ باسم الدين، و تسلب فدكاً من بضعة رسول الله تحت غطاء حماية الفقراء و المساكين، و تكسر الباب، و تضغط الزهراء بين الباب و الجدار، فتسقط إلى الأرض و تجهض جنينها من أجل المحافظة على كيان المسلمين. و تمّ ذلك كلّه باسم الدين و تحت غطاء المحافظة على القانون و الشرع و كتاب الله. فنتج عنه تضييع الحقوق، و بروز ألوان الظلم و الاعتداء، و عدم بلوغ عامّة الناس منهل الولاية للارتواء من شريعة الحياة و نمير المعنويّة سواء في ذلك العصر أم في أيّام حكومة بني اميّة و بني العبّاس، أو في العصور المتأخّرة. و ما كان ذلك إلّا نتيجة لذلك الانحراف الأوّل الذي أدّى إلى تسلّط حكّام الجور على رقاب الناس، و قطع شريانهم الحياتيّ، و امتصاص دمائهم، و استغلال أموالهم و أرواحهم و نواميسهم، و ذلك للمحافظة على عروشهم و تشييد بلا طاتهم و بيوتهم و الالتذاذ بألوان الأطعمة و الأشربة.
خشت اوّل چون نهد معمار، كج | *** | تا ثريّا مىرود ديوار، كج۱ |
ردّ أمير المؤمنين عليه السلام سنّة الشيخين
لقد خلط الشيخان الدين بنهجهما، و كدّرا الماء الزلال النابع من العين الصافية، و سقياه الناس كما يشتهيان، و لوّثا الهواء الصافي بغبار أهوائهما حتّى يشمّه الناس كما يريدان.
أمّا أمير المؤمنين عليه السلام، و هو القسطاس المستقيم، فإنَّه لا يتجاوز كتاب الله و سنّة نبيّه، و حتّى في كلامه الظاهر لا يقول على سبيل التورية: أحترم سنّة الشيخين، طمعاً في الإعداد للحكومة و استنقاذها من أيدي الجبابرة. و عند ما أراد عبد الرحمن بن عوف أن يأخذ له البيعة بشرط العمل بكتاب الله و سنّة نبيّة و سيرة الشيخين، قال: أعمل بكتاب الله و سنّة نبيّه و اجتهاد رأيي. فقد تنازل عن الرئاسة عند ما تقوم على سنّة الشيخين، علماً أنَّ قيامها على سنّة الشيخين باطل، و كذلك عند ما أراد عبد الرحمن أن يشرط عليه عدم تولية بني هاشم على الناس، لم يقبل و قال: من كان كفوءاً عندي أُوّليه، سواء كان من بني هاشم أو من غيرهم.
و ذكر ابن قتيبة الدينوريّ: ثُمَّ أخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِ عَلِيّ فَقَالَ لَهُ: ابَايِعُكَ على شَرْطِ عُمَرَ أنْ لَا تَجْعَلْ أحَداً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ على رِقَابِ النَّاسِ!
فَقَالَ عَلِيّ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا لَكَ وَ لِهَذَا إذَا قَطَعْتَهَا في عُنُقِي؟! فَإنَّ عَلَيّ الاجْتِهَادَ لُامَّةِ مُحَمَّدٍ. حَيْثُ عَلِمْتُ القُوَّةَ وَ الأمَانَةَ اسْتَعَنْتُ بِهَا، كَانَ في بَنِي هَاشِمٍ أوْ غَيْرِهِمْ! قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا وَ اللهِ حتّى تُعْطِينِي هَذَا الشَّرْطَ. قَالَ عَلِيّ: وَ اللهِ لَا أعْطِيكَهُ أبَدَاً. فَتَرَكَهُ فَقَامُوا مِنْ عِنْدِهِ.۱
و ينقل ابن قتيبة أيضاً أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب في أهل الكوفة بعد التحكيم، و حرّضهم على الجهاد ضدّ معاوية، و قال في بعضها: و إنّي آمركم أن يكتب إليّ رئيس كلّ قوم منكم ما في عشيرته من المقاتلة، و أبنائهم الذين أدركوا القتال، و العبدان و الموالي! و ارفَعوا ذلك إليّ ننظر فيه إن شاء الله. فكان أوّل رئيس قبيلة قام و أجاب هو سَعْد بنُ قَيْس
الهَمْدانيّ. ثمّ قام بعده عَدِيّ بن حَاتَم، و حُجْر بن عَدِيّ و أشراف القبائل، و أعلنوا كلّهم عن التسليم و الطاعة، و تهيّأ الجيش.
و يواصل ابن قُتَيْبَة كلامه إلى أن يقول: فَبَايَعُوهُ على التَّسْلِيمِ وَ الرِّضَا، وَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ كتَابَ اللهِ وَ سُنَّةَ رَسُولِهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ. فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ خُثْعَمٍ۱ فَقَالَ لَهُ عَلِيّ: بَايِعْ على كِتَابِ اللهِ وَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ! قَالَ: لَا! وَ لَكِنْ ابَايِعُكَ على كِتَابِ اللهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ وَ سُنَّةِ أبِي بَكْرٍ وَ عُمَرَ. فَقَالَ عَلِيّ: وَ مَا يَدْخُلُ سُنَّةُ أبِي بَكْرٍ وَ عُمَرَ مَعَ كِتَابِ اللهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ؟ إنَّمَا كَانَا عَامِلَيْنِ بِالحَقِّ حَيْثُ عَمِلَا. فَأبَى الخثْعَمِيّ إلَّا سُنَّةَ أبِي بَكْرٍ و عُمَرَ، وَ أبى عَلِيّ أنْ يُبَايِعَهُ إلَّا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ.
فَقَالَ لَهُ حَيْثُ ألَحَّ عَلَيْهِ: تُبَايِعُ؟! قَالَ: لَا، إلَّا عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ! فَقَالَ لَهُ عَلِيّ: أمَا وَ اللهِ لَكَأني بِكَ قَدْ نَفَرْتَ في هَذِهِ الفِتْنَةِ وَ كَأني بِحَوَافِرِ خَيْلِي قَدْ شَدَخَتْ وَجْهَكَ! فَلَحِقَ بِالخَوَارِجِ فَقُتِلَ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ.
قَالَ قُبَيْضَةُ: فَرَأيْتُهُ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ قَتِيلًا، قَدْ وَطَأتِ الخَيْلُ وَجْهَهُ، وَ شَدَخَتْ رَأسَهُ، وَ مَثَّلَتْ بِهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ عَلِيّ وَ قُلْتُ: للَّهِ دَرُّ أبِي الحَسَنِ! مَا حَرَّكَ شَفَتَيْهِ قَطُّ بِشَيءٍ إلَّا كَانَ كَذَلِكَ.٢
كان الهمّ الوحيد لأمير المؤمنين عليه السلام و صحابته الأوفياء منذ البداية إقرار أحكام القرآن و السنّة النبويّة، و الوقوف بوجه كلّ تغيير و تبديل، و مواجهة كلّ ظلم و انتهاك. و لو أمعنّا النظر في سيرة أمير المؤمنين
عليه السلام و نهجه، ثمّ رأينا سيرة صحابته و نهجهم، لعلمنا أنَّ كلّ من لم يتّخذ نهج عليّ دليلًا له، فلا يمكنه أن يكون من صحابته، و سيُنْبَذ شاء أم أبي، و مثله لا يلقي ترحيباً في جوّ عليّ الزاخر بالمعنويّة و الأصالة، و في وسط صحابته المخلصين. و كان الإمام يكرّر دائماً أنه لا يريد إلّا وجه الله و إقرار العدل، و يجهد في سبيل ذلك حتّى يأتيه أجله. و لا هدف له غيره، و هو لا يتوقّع رئاسة و تزعّماً.
و من خاصّته المخلصين: الصحابيّ الجليل أبو ذرّ الغفاريّ، ذلك الصاحب البرّ و المجاهد الصلب الذي لم يعرف الكلل و الفتور، وقف وحده في الشام أمام مظالم معاوية، و بعد أن لاقى من صنوف المحن و العذاب ما لاقى، ارجع إلى المدينة، و لم يسكت بل وقف أمام عثمان و هو يحصي مظالمه.
و ذكر المؤرّخ الجليل و المحدّث الكبير و المنجّم العظيم: المسعوديّ في «مروج الذهب» نفى أبي ذرّ إلى الرَّبَذَة، و قال: إنَّ عثمان منع مشايعته. و قال أيضاً: شايعه عليّ و الحسنان عليهم السلام، و عقيل، و عبد الله بن جعفر، و عمّار بن ياسر. و ثقل ذلك على عثمان. إلى أنَّ قال: فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيّ، اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ فَقَالُوا: إنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْكَ غَضْبَانُ لِتَشْييعِكَ أبَا ذَرٍّ، فَقَالَ عَلِيّ: غَضَبَ الخَيْلِ عَلَى اللُّجُمِ.۱ و٢ أي: لا فائدة فيغضبه.
فلمّا كان العشيّ رأي عثمان، و اعترض عليه عثمان كثيراً؛ و قال في
بعض ما قال: لم رددت أمري؟! فقال الإمام: لم أردّ أمرك! قال عثمان: أ لم يبلغك أني قد نهيت الناس عن أبي ذرّ و عن تشييعه؟ فقال الإمام: أ وَ كُلُّ مَا أمَرْتَنَا بِهِ مِنْ شَيءٍ نَرَى طَاعَةً لِلَّهِ وَ الحَقَّ في خِلَافِهِ اتَّبَعْنَا فِيهِ أمْرَكَ؟! بَاللهِ لَا نَفْعَلُ!۱
رسالة عشرة من الصحابة إلى عثمان حول انتهاكاته
يقول ابن قتيبة الدينوريّ: و ذكر المؤرّخون و أهل التحقيق: أنه اجتمع ناس من أصحاب النبيّ عليه الصلاة و السلام فكتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنّة رسول الله و سنّة صاحبيه؛ و ما كان من هبته خُمس إفريقيا لمروان [بن الحكم]٢ و فيه حقّ الله و رسوله، و منهم ذوو القربي و اليتامى و المساكين، و ما كان من تطاوله في البنيان، حتّى عدّوا سبع دور بناها بالمدينة: داراً [لزوجته] نائلة، و داراً [لابنته] عائشة، و غيرهما من أهله و بناته. و بنيان مروان القصور بذي خَشَب، و عمارة الأموال بها من الخُمس الواجب للّه و لرسوله؛ و ما كان من إفشائه العمل و الولايات في أهله و بني عمّه من بني اميّة أحداث و غَلَمة لا صحبة لهم من الرسول و لا تجربة لهم بالامور؛ و ما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلّى بهم الصبح و هو أمير عليها سكران أربع ركعات، ثمّ قال لهم: إن شئتم،
أزيدكم ركعة زدتكم؛ و تعطيله إقامة الحدّ عليه، و تأخيره ذلك عنه، و تركه المهاجرين و الأنصار لا يستعملهم على شيء و لا يستشيرهم، و استغني برأيه عن رأيهم؛ و ما كان من الحِمى الذي حمي حول المدينة [و منع الناس من رعي مواشيهم فيه]؛ و ما كان من إدراره القطائع و الأرزاق و الأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبيّ عليه الصلاة و السلام ثمّ لا يغزون و لا يذبّون؛ و ما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، و أنه أوّل من ضرب بالسياط ظهر الناس، و إنَّما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرّة و الخيزران.
ثمّ تعاهد القوم ليدفعنّ الكتاب في يد عثمان، و كان ممّن حضر الكتاب: عمّار بن ياسر و المقداد بن الأسود، و كانوا عشرة. فلمّا خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان، و الكتاب في يد عمّار، جعلوا يتسلّلون عن عمّار حتّى بقي وحده، فمضي حتّى جاء دار عثمان.
فاستأذن عليه، فأذن له في يوم شاتٍ. فدخل عليه و عنده مروان بن الحكم و أهله من بني اميّة، فدفع إليه الكتاب.
فقرأ عثمان الكتاب، فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟! قال [عمّار]: نعم! قال [عثمان]: و من كان معك؟! قال [عمّار]: كان معي نفر تفرّقوا منك! قال [عثمان]: من هم؟! قال [عمّار]: لا اخبرك بهم. قال [عثمان]: فَلِمَ اجترأت عَلَيّ من بينهم؟! فقال مروان: يا أمير المؤمنين! إنَّ هذا العبد الأسود (يعني عمّاراً) قد جرّأ عليك الناس؛ و إنَّك إن قتلته نكلت به مَن وراءه.
قال عثمان: اضربوه. فضربوه و ضربه عثمان معهم حتّى فتقوا بطنه، فغُشي عليه. فجرّوه حتّى طرحوه على باب الدار.
فأمرت به امّ سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، فادخل
منزلها. و غضب فيه بنو المغيرة و كان حليفهم، فلمّا خرج عثمان لصلاة الظهر، عرض له هِشام بن الوليد بن المغيرة، فقال: أما و الله لئن مات عمّار من ضربه هذا لأقتلنّ به رجلًا عظيماً من بني اميّة. فقال عثمان: لست هناك!
ثمَّ خرج عثمان إلى المسجد. فإذا هو بعليّ و هو شاك معصوب الرأس. فقال له عثمان: و الله يا أبا الحسن ما أدري أشتهي موتك أم أشتهي حياتك؟! فو الله لئن مِتّ، ما احبّ أن أبقى بعدك لغيرك! لأني لا أجد منك خلفاً. و لئن بقيت لا أعدم طاغياً يتّخذك سلّماً و عضداً، و يعدّك كهفاً و ملجأ؛ لا يمنعني منه إلّا مكانه منك و مكانك منه! فأنا منك كالابن العاقّ من أبيه، إن مات فَجَعَهُ، و إن عاش عقّه. فإمّا سلم فنسالم! و إمّا حرب فنحارب! فلا تجعلني بين السماء و الأرض! فإنّك و الله إن قتلتني، لا تجد منّي خلفاً! و لئن قتلتك، لا أجد منك خلفاً! و لن يلي أمر هذه الامّة بادئ فتنة!
فقال عليّ: إنَّ في ما تكلّمتَ به لجواباً، و لكنّي عن جوابك مشغول بوجعي! فأنا أقول كما قال العبد الصالح: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}.۱ و٢
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام حول نسف السنن المخالفة
و لمّا أقبلت الخلافة على أمير المؤمنين عليه السلام شمّر عن ساعد الجدّ ما كان ذلك ميسّراً، ليزيل البدع، و يُعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه في عصر رسول الله و على نهجه. و من أعماله التي قام بها إرجاع الأراضي التي
كان عثمان قد أقطعها، إلى بيت المال. و خطب في اليوم الثاني من الخلافة عند ما بايعه أهل المدينة، و قال: ألَا كُلُّ قِطْعَةٍ أقْطَعَهَا عُثْمَانُ وَ كُلُّ مَالٍ أعْطَاهُ مِنْ مَالِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ في بَيْتِ المَالِ؛ فَإنَّ الحَقَّ القَدِيمَ لَا يُبْطِلُهُ شَيءٌ. وَ اللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تَزَوَّجَ بِهِ النِّسَاء وَ مُلِكَ بِهِ الإمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ؛ فَإنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أضْيَقُ.۱ أي: من كان عاجزاً عن تدبير اموره بالعدل، فهو عن تدبيرها بالجور و العدوان أعجز، لأنَّ في الجور مظنّة المقاومة و الممانعة، أمّا في العدل، فلا.
و على الرغم من كافّة الإمكانات التي كانت تحت تصرّف أمير المؤمنين عليه السلام خلال المدّة القصيرة من خلافته الظاهريّة التي دامت زهاء خمس سنين، بَيدَ أنه لم يستطع إماتة البدع كلّها، و تقويض سنّة الشيخين، و إقناع الناس ببطلان سنّة اخرى في مقابل كتاب الله و سنّة نبيّه، لأنَّ الناس قد ألفوا تلك السنن القائمة إلى درجة أنهم كانوا يعتقدون أن تغييرها يعني الإتيان بدين جديد؛ و الإعراض عنها بحكم الإعراض عن مقدّساتهم الدينيّة.
فلهذا كانوا يسعون في المحافظة على تلك السنن و الآداب. و كان العامّة يؤلّفون أكثر جند أمير المؤمنين، و بين الجند أفراد قلائل ممّن تربّي في مدرسة الإمام. و كان اولئك العامّة يدافعون عن أحقّيّة الشيخين و سننهما بكلّ تحمّس. و يقال لهؤلاء: شيعة لوقوفهم إلى جانب الإمام في مقابل من وقف إلى جانب عثمان كمعاوية و بطانته، و المروانيّين و المناوئين
الآخرين. و كانوا يرون خلافة الإمام في الدرجة الرابعة بعد خلافة الثلاثة الذين سبقوه. و لذلك كانوا يتّبعونه في الأمر و النهي و الجهاد، مع أنهم كانوا يسيرون على آداب الشيخين و سننهما جميعاً، و لم يروا أنَّ الإمام هو الخليفة الأوّل، و هو الخليفة الحقيقيّ بعد رسول الله، و أنَّ اتّباعه يعني اتّباع مقام الإمامة و الولاية المنصوبة من قبل رسول الله. فلهذا قال الإمام في خطبة له بكلّ صراحة إنَّه لو حمل الناس على ترك سنّة الشيخين، بخاصّة سنّة عمر، لتفرّق عنه جنده و خذلوه.
روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «روضة الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عثمان، عن سُلَيم بن قيس الهلاليّ أنه قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام و حمد الله و أثنى عليه و صلّى على النبيّ، ثمّ قال:
ألَا إنَّ أخْوَفَ مَا أخَافُ عَلَيْكُمْ خُلَّتَانِ: اتِّبَاعُ الهَوَى وَ طُولُ الأمَلِ. أمَّا اتِّبَاعُ الهَوَى فَيَصِدُّ عَنِ الحَقِّ، وَ أمَّا طُولُ الأمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةِ. إلى أن قال:
إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: كَيْفَ أنْتُمْ إذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَ يَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ يَجْرِى النَّاسُ عَلَيْهَا وَ يَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيءٌ قِيلَ: قَدْ غُيِّرَتِ السُّنَّةُ، وَ قَدْ أتَى النَّاسُ مَنْكَرَاً. ثُمَّ تَشْتَدُّ البَلِيَّةُ وَ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَ تَدُقُّهُمُ الفِتْنَةُ كَمَا تَدُقُّ النَّارُ الحَطَبَ وَ كَمَا تَدُقُّ الرَّحَى بِثُفَالِهَا، وَ يَتَفَقَّهُونَ لِغَيْرِ اللهِ، وَ يَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ العَمَلِ، وَ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِأعْمَالِ الآخِرَةِ.
ثُمَّ أقْبَلَ بِوَجْهِهِ وَ حَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ وَ خَاصَّتِهِ وَ شِيعَتِهِ فَقَالَ: قَدْ عَمِلَتِ الوُلَاةُ قَبْلِي أعْمَالًا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مُتَعَمِّدِينَ لِخِلَافِهِ، نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ، مُغَيِّرِينَ لِسُنَّتِهِ؛ وَ لَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ على تَرْكِهَا وَ حَوَّلْتُهَا إلَى مَوَاضِعِهَا وَ إلَى مَا كَانَتْ في عَهْدِ
رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حتّى أبْقَى وَحْدِي أوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِي الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَ فَرْضَ إمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.
ثمّ ذكر أسماء كثير من البدع و عدّها واحدة بعد الاخرى، ثمّ قال: لو غيّرتها و حوّلتها إلى كتاب الله و سنّة نبيّه صلّى الله عليه و آله و سلّم إذَاً لَتَفَرَّقُوا عَنِّي. ثمّ قال: وَ اللهِ لَقَدْ أمَرْتُ النَّاسَ أنْ لَا يَجْتَمِعُوا في شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا في فَرِيضَةٍ، وَ أعْلَمْتُهُمْ أنَّ اجْتِمَاعَهُمْ في النَّوَافِلِ بِدْعَةٌ فَتَنَادَى بَعْضُ أهْلِ عَسْكَرِي مِمَّنْ يُقَاتِلُ مَعِي: يَا أهْلَ الإسلام غُيِّرَتْ سُنَّةُ عُمَرَ، يَنْهَانَا عَنِ الصَّلَاةِ في شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعَاً؛۱ وَ لَقَدْ خِفْتُ أنْ يَثُورُوا في نَاحِيَةِ جَانِبِ عَسْكَرِي. مَا لَقِيتُ مِنْ هَذِهِ الامَّةِ مِنَ الفُرْقَةِ وَ طَاعَةِ أئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَ الدُّعَاةِ إلَى النَّارِ- (الخطبة).٢