المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنه 1421
التاريخ 1421/09/26
التوضيح
كيف نفهم اعترافات الإمام السجاد (ع) بالذنوب في أدعيته وهو معصوم؟ وما الفرق بين رؤيته لأفعاله ورؤيتنا؟ ولماذا أسلم عالم يهوديّ على يد الإمام عليّ (ع)؟ تجيبك هذه المحاضرة التي ألقاها آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني عن هذه الأسئلة العميقة.
هوالعلیم
حقيقة اعترافات الأئمّة بالذنب
حوار العالم اليهوديّ مع أمير المؤمنين
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۱ هـ - الجلسة الخامسة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحیم
وصلَّی اللهُ عَلَی سیِّدِنا ونبِیِّنا أبیالقاسِمِ محمدٍ
وعلی آلِهِ الطَّیبینَ الطَّاهرینَ
واللعنةُ عَلَی أعدائِهم أجمَعینَ
«اللَهُمَّ إنِّي أَجِدُ سُبُلَ المَطالِبِ إلَيكَ مُشرَعَةً، ومَناهِلَ الرَّجاءِ إلَيكَ مُترَعَةٌ».
إنّي أرى يا إلهي سُبُلَ الطلب إليك مفتوحة دائمًا، وأرى ينابيع الرجاء فائضة ومثمرة.
وصل الحديث في المحاضرة السابقة إلى أنّ الطريق والمسير نحو الله واحد، وهو عبارة عن ذلك التعلّق النفسي والارتباط بالله، وهذا التعلّق والارتباط موجود للجميع. يقول يزيد للإمام السجاد عليه السلام: هل يمكنني أن أتوب؟ فأجابه الإمام عليه السلام: «إنّ باب التوبة مفتوح لك أيضًا، ولكنّك لن تُوفَّق».۱
يعني أنّ للإنسان جانبين: الجانب الأوّل هو جهة تعلّق الإنسان بالله والمبدأ، وفي هذه المسألة لا فرق بين المسلم وغير المسلم، والتقيّ وغير التقيّ. كلّ هؤلاء، شاءوا أم أبوا، لهم صلة بالله.
تجلّي أنواع الظهورات الإلهيّة بناءً على إرادة الإنسان
الجانب الثاني هو في أيّ مسار تقع هذه الصلة، وتحت أيّ ظهور من مظاهر الأسماء والصفات، وهذا أمر آخر. مثل صفٍّ دراسيّ يضمّ عشرين تلميذًا وطالبًا، والمعلّم في هذا الصفّ يعاقب أحيانًا، ويعطي جائزة، ويضحك، أو يغضب. المعلّم واحد والصفّ واحد، لكنّ حالات المعلّم تختلف في تعامله مع التلاميذ. كلهم على صلة بالمعلّم، ولو لم تكن هناك صلة، لما غضب المعلّم منهم، فلماذا لا يغضب من الأطفال الذين في الشارع؟ لأنّه يوجد تعلّق بينه وبين هذا الطالب والتلميذ، فإنّه يغضب منه أو يبتسم له. لماذا لا شأن له بالبقيّة؟ لأنّه لا صلة ولا ارتباط بينهم. إنّ وضع الطالب والتلميذ هو الذي يحدّد نوع ظهور هذا المعلّم معه. فأحيانًا يكون الظهور ظهور قهر وجلال، وفي بعض الحالات يكون الظهور ظهور جمال. ذلك المعلّم لا شأن له، فهو واحد، وهذا التلميذ هو الذي يقع محلاًّ لظهور القهر أو الجمال.
بناءً على ذلك، فإذا فعل الإنسان فعلًا يجعل به نفسه مستعدًّا لتجلّي صفات الله القهريّة، فإنّ الله يثبّته أيضًا في هذه الإرادة والرغبة ويقول: بما أنّك تريد ذلك بنفسك، فخُذ. وهذا الـ «فخُذ» هو نفسه ﴿خَتَمَ ٱللَهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِم﴾٢ الآن بما أنّك تريد أن تسلك هذا الطريق بنفسك، حسنًا فنحن نثبّت لك هذا الأمر. أو بما أنّك تريد بنفسك أن تسلك طريق السعادة، فنحن نثبّت لك هذا الأمر، وأنت أعلم بنفسك أيّ طريق تريد أن تسلك. أيّ طريق من الطريقين أردت أن تسلك، نحن نوفّقك فيه ونفتح لك السبيل.
مثلًا، يقول إنسان: «يا إلهي، أريد أن أذهب من هذا الطريق، لا أريد أن آتي إلى رسولك، أريد أن أذهب إلى أبي سفيان!».
فيقول الله: بما أنّك تريد ذلك بنفسك، فإنّنا ـ ولحسن الحظّ ـ سنجعل أبا سفيان عند باب بيتك حتّى قبل أن تخرج! أحيانًا يشتبه الأمر على الإنسان فيقول: لو لم تكن مشيئة الله، فلماذا وقع هذا الأمر؟! لماذا أصبحت تلك المسألة هنا بهذا الشكل ولم تصبح بشكل آخر؟! إذًا كانت مشيئة الله! يا عبد الله، لقد أردت أنت مشيئة الله وحدّدتها بنفسك، لقد احتال الله عليك وأنت لا تدرك! لأنّك أردت أن تكون مع أبي سفيان، فقد جعل مسار أبي سفيان يمرّ من أمام منزلك. تفتح الباب فيقول: السلام عليكم! تعالَ فقد جاء أبو سفيان رسول الوحي! وإذا أردت أن تجعل مسارك مسار رسول الله، فإنّه يجعله أمام باب منزلك، وإذا أردت أن تكون مع الإمام، يجعلك مع الإمام.
طلب عالم يهوديّ للحقّ وتعامل الخليفة معه
جاء عالم من علماء اليهود إلى مسجد المدينة وقال: «سمعت أنّ نبيّ هذه الأمّة قد توفّي، وقد جئت لأرى من هو وصيّه وخليفته».
فقالوا له: «جناب أبي بكر خليفة رسول الله!»
فنظر نظرة خاصّة إلى أبي بكر ـ فهم في النهاية يدركون ـ وقال: «يجب أن أمتحن، فأنا لا أقبل بالشعارات!». رحم الله والديّ ذلك اليهودي. قال: من يكون بهذا الشكل والهيئة خليفة لرسول الله، فأنا لا أقبله هكذا ببساطة! لدينا في التوراة وكتبنا علامات سأسأل عنها.
فقالوا له: «اسأل خليفة رسول الله!» حقًّا، يا لهم من وقحين!
فقال ذلك اليهودي: «أين الله؟».
فقال أبو بكر: «﴿ٱلرَّحمَٰنُ عَلَى ٱلعَرشِ ٱستَوَىٰ﴾۱، الله على العرش».
فقال اليهودي: «وهل الفرش ليس فيه إله؟! وهل الأرض ليس فيها إله؟!».
فكّر ولم يستطع الإجابة، ثمّ قال: «اضربوا هذا الملحد وأخرجوه!» نعم، لا ينبغي أن يسأل! لقد تعب السيّد! أصلًا لماذا تتكلّم؟ أصلًا لماذا تسأل؟ أنت ترتكب خطأً، عندما نقول لك شيئًا فيجب أن تسمع! ألا ترى أنّه متعب؟! فهذا الشيخ كبير في السنّ وعمله كثير، فهو يتولّى خلافة رسول الله وهو وصيّ رسول الله! ولا ينبغي أن يُسأل، بل يجب فقط أن يُقال: سمعًا وطاعةً! فقال [اليهودي]: على الإسلام السلام! نهض وخرج وهو يقول: لا تضربوا، أنا سأذهب بنفسي، لا حاجة للضرب، لقد فهمت، كفى! وفجأة وقع أمر ما!
قال له سلمان: إلى أين تذهب؟ انتظر واجلس هنا حتّى آتي. فذهب إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال: «يا عليّ، أدرك الإسلام فقد ذهب ماء وجهه!».
فقال الإمام عليه السلام: «ماذا حدث؟!»
قال سلمان: «سأل يهوديٌّ أبا بكر عن مسألة فلم يستطع الإجابة! وهو يقول اضربوه!»۱.
التاريخ يعيد نفسه
ألا ترون يا سادة! الآن أيضًا في بعض الحالات، الأمر هو نفسه تمامًا ولا يوجد أيّ اختلاف أو فرق. فإذا أراد إنسان أن يقول كلمة حقّ، يقولون: «اضربوه! أخرجوه! لا ينبغي لكم أن تسألوا! أطرقوا رؤوسكم!» هل أدركتم الآن أنّ الزمان لا دور له في تحقّق الأحداث، وإنّما هو مجرّد وعاء للتاريخ. لو أزلنا هذا الزمان الممتدّ لألف وأربعمائة عام، لكنّا نحن أنفسنا جالسين عند أبي بكر أو أمير المؤمنين عليه السلام، وما حدث هو مجرّد فاصل زمني. هم كانوا قبل ألف وأربعمائة عام، ونحن بعد ألف وأربعمائة عام، لم يتغيّر شيء. دماؤنا واحدة. فهل اختلفت كريات الدم أم لا؟! كريات الدم الحمراء والبيضاء، البلازما، القلب، الرئة، الأمعاء، العظام، الدماغ، والأعصاب، كلّها واحدة.
عدم اختلاف الهداية في زمن أمير المؤمنين عن زمن رسول الله
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «إنّ نفس العقل والفكر الذي أعطاكم الله، هو نفسه الذي أعطاهم إيّاه، ليس لديكم شيء أقلّ منهم، بل الزمان فقط هو الذي أحدث فاصلًا»٢. ويقول الإمام عليه السلام: «لم يقل لهم رسول الله شيئًا أخفيته أنا عنكم». ما هذه العبارة؟! يقول: إذا كنتم تريدون أن تنظروا إلى هيئة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأنا لا أملك هيئته، أنا عليّ بن أبي طالب ولي هذه الخصوصيّات.
الخصوصيّات الجسديّة لأمير المؤمنين عليه السلام كانت تختلف عن خصوصيّات رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ فرسول الله صلّى الله عليه وآله كان أطول قليلاً من أمير المؤمنين عليه السلام، وأمير المؤمنين عليه السلام كان أقصر قليلاً. طبعًا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله عريض المنكبين لكنّه نحيل البنية، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام نحيلاً. وكان رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله كثيف الشعر، أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فكان قليل الشعر في رأسه. هذه هي الخصوصيّات الظاهريّة التي يختلف بها كلّ إمام عن الآخر، فلا يوجد شخصان متشابهان. حتّى طبائعهم كانت مختلفة، فرسول الله صلّى الله عليه وآله كان قليل الغضب، أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فكان كثير الغضب. كان رسول الله صلّى الله عليه وآله قليل الضحك وكثير التبسّم، أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فكان يضحك بصوت عالٍ. كان يضحك بطريقة جعلت عمر يعترض ويقول: «إنّه لا يصلح للخلافة!». فهل يجب حتمًا أن يكون عابسًا حتّى يصلح للخلافة؟! إذا ضحك ضاحك أفلا يصلح للخلافة؟!
الفرق بين قَتْل أمير المؤمنين للأفراد وقَتْل غيره
لم يُرَ قطّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله حارب وقتل أحدًا، بل كان يدافع دائمًا، وفيما يبدو لم يقتل إلا رجلاً واحدًا في إحدى الحروب ولم يكن هناك بدٌّ من ذلك، لقد كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يدافع دائمًا ولم يقتل أحدًا. أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فكان يبدأ القتال من الصباح حتّى المساء ويقتل الأعداء. طبعًا كان يفعل ذلك بحساب دقيق! في حرب صفّين، كانت ليلة الهرير ليلة عجيبة، يُنقل: أنّ مالك الأشتر قال للإمام عليه السلام في إحدى الليالي: «يا عليّ، كم شخصًا قتلت في تلك الليلة؟». فقال الإمام عليه السلام: «لقد ضربت خمسمائة شخص». ثمّ قال مالك الأشتر: «وأنا أيضًا قتلت العدد نفسه تقريبًا يزيد واحدًا أو ينقص».
فقال الإمام عليه السلام: «أنت كنت تقتل كلّ من تجده في ساحة المعركة وتمرّره على سيفك، أمّا أنا فكنت أنظر إلى أربعين جيلًا من صلبه، فإن كان في نسله واحد من شيعتي، كنت أتركه جانبًا!»۱. هو ينظر حتّى أربعين جيلاً، أمّا مالك فكان يحصد كلّ من في ساحة المعركة من البداية ويتقدّم!
فالخصوصيّات كانت تختلف، فأمير المؤمنين عليه السلام كان يختلف عن النبيّ صلّى الله عليه وآله. وأمير المؤمنين عليه السلام كان يختلف عن الإمام الحسن وسيّد الشهداء عليهما السلام. الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام كانا يختلفان. كلّ واحد منهم كان على نحو، لكنّهم جميعًا كانوا نورًا واحدًا وحقيقتهم واحدة، وإنّما اختلفت الظهورات.
دعوة سلمان لأمير المؤمنين عليه السلام لإجابة اليهوديّ
عندما قال أبو بكر أن أخرجوا ذلك اليهودي، جاء سلمان إلى الإمام عليّ عليه السلام وقال: «يا عليّ، أدرك الإسلام فقد ذهب ماء وجهه!». فجاء الإمام عليه السلام لحلّ المشكلة. في الواقع، لم يكن سلمان يُرى أصلًا في مسجد المدينة، لكن لأنّه فطن وعاقل، يذهب إلى المسجد في ذلك الوقت ويقول لنفسه إنّ الآن هو الوقت المناسب لآتي وأنجد هذا اليهوديّ والإسلام.
لم يكن سلمان يفكّر في هذا اليهوديّ فقط! بل كان يفكّر في الإسلام، ورأى أنّ هذا سيذهب الآن إلى قبيلته ويقول إنّي ذهبت إلى المدينة ورأيت أنّه لا خبر فيها! فابقوا جميعكم على يهوديّتكم! كان سلمان وأبو ذر حريصين على الإسلام ولم يقولا: الآن بما أنّ هذا الرجل غصب الخلافة من مولانا، فليكن هنيئًا له، وليذهب ماء وجهه! لم يقولا: يا من هو فوق المنبر، ذُقْ! هذه عاقبة فعلك! لم يقولا هذا الكلام. سلمان يفكّر في ماء وجه الإسلام ويقول في نفسه: هذا العالم اليهوديّ الآن ببيانه ومنطقه، لا بجيش جرّار، قد وضع الإسلام على المحكّ وهدّده، فيجب أن أدرك الإسلام بسرعة.
لقد ربّى أمير المؤمنين عليه السلام تلاميذ كهؤلاء! تلاميذ لا يريدون شيئًا لأنفسهم. فكما أنّ المولى نفسه يفكّر في الكلّيّة وينظر إليها، فإنّ تلاميذه أيضًا يفكّرون في تلك الكلّيّة وينظرون نظرة كلّيّة؛ أي أنّ كلّ واحد منهم هو نموذج لأمير المؤمنين عليه السلام في صورة خاصّة. وهذا التلميذ هو الذي ينفع! كان بإمكان سلمان نفسه أن يجيب ذلك اليهودي، فهذه المسألة لم تكن شيئًا بالنسبة له ولا تتطلّب جهدًا. سلمان كان يشقّ القمر نصفين! هذه الأمور لم تكن شيئًا، لكنّه قال: لا، يجب أن أحضر الإمام عليًّا عليه السلام إلى هنا حتّى يخبر ذلك اليهوديّ قبيلته من هو الوصيّ؟! فذهب سلمان إلى الإمام عليه السلام وقال: «يا عليّ، تعالَ فورًا فقد ذهبت ماء وجه الإسلام! تعالَ وأعده».
وجوب اتّباع الحقّ بالدليل والمنطق
وضع أمير المؤمنين عليه السلام العمامة على رأسه وارتدى العباءة وقال: «فلأذهب». جاء الإمام عليه السلام إلى المسجد والتفت إلى ذلك اليهودي، فنظر هو الآخر إلى أمير المؤمنين عليه السلام وبدأ جسده يرتجف! وقال في نفسه إنّ هذا هو الخليفة. فقال للإمام عليه السلام: «يا عليّ، لديّ أسئلة، ولن أتركك حتّى تجيب عن أسئلتي».
فقال الإمام عليه السلام: «اسأل». مع أنّه عندما رأى أمير المؤمنين عليه السلام تغيّرت حاله، إلا أنّه عمل بحكم عقله!
هذه الأمور لنا أنا وأنت! أي أنّه يقول لنفسه: يجب أن أسأل سؤالي، أنا لا آتي بلا دليل! هذه الرجفة التي أصابتني لا فائدة منها. مع أنّه قد أُري لمحة وبرقة، إلا أنّه يجب أن يحصل اليقين! فقال الإمام عليه السلام: «لقد جئنا ليحصل لك اليقين». فبدأ ذلك الشخص يسأل وقال: «أين الله؟».
فأجابه الإمام عليه السلام: «﴿وَلِلَّهِ ٱلمَشرِقُ وَٱلمَغرِبُ فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجهُ ٱللَهِ﴾۱، حيثما تنظر، فالله هناك».
فقال ذلك اليهودي إنّ هذا صحيح. ثمّ سأل السؤال الثاني والثالث، فبدأ الإمام عليه السلام يقرأ التوراة وأجابه من أوّلها ووسطها.
فقال ذلك الرجل: «كفى، لقد فهمت!» ثمّ قال: «أشهَدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمّدًا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم، وأشهَدُ أنَّكَ خليفةُ رسولِ اللهِ ووصيُّهُ مِن بَعدِهِ». فأسلم الرجل وذهب إلى قبيلته فأسلم على يديه ثلاثمائة من هؤلاء اليهود وأصبحوا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام!٢
علماء السوء وغير السوء في لسان الإمام العسكري عليه السلام
قبل أيّام كنت أكتب عن رواية للإمام الحسن العسكري عليه السلام، عندما يقسّم الإمامُ العلماءَ إلى علماء سوء وعلماء غير سوء، ثمّ يقول: «لَا جَرَمَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا صِيَانَةَ دِينِهِ وَتَعْظِيمَ وَلِيِّهِ، لَمْ يَتْرُكْهُ فِي يَدِ هَذَا المُلَبِّسِ الكَافِرِ، وَلَكِنَّهُ يُقَيِّضُ لَهُ مُؤْمِنًا يَقِفُ بِهِ عَلَى الصَّوَابِ، ثُمَّ يُوَفِّقُهُ اللهُ تَعَالَى لِلْقَبُولِ مِنْهُ، فَيَجْمَعُ لَهُ بِذَلِكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»۱.
عندما يوضّح الإمام العسكري عليه السلام أنّ هؤلاء العلماء هم علماء يضلّون الناس ويحرّفون ويكذبون، فإنّه يقسّم الناس كذلك إلى ثلاث فئات ويقول: «هُمْ أَضَرُّ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام وَأَصْحَابِهِ»٢ فهؤلاء أخطر على ضعفاء شيعتنا من يزيد وجيشه على الحسين بن عليّ وأصحابه. ثمّ يقول الإمام عليه السلام إنّه في هذا الوضع وهذه المكانة، إذا علم الله أنّ فردًا ما قلبه طاهر ونقيّ بينه وبين الله، وليس في عمله مكر ولا خدعة ولا حيلة ولا غشّ، فإنّه لا يتركه يقع في أيدي هؤلاء العلماء! بل «يُقَيِّضُ لَهُ مُؤْمِنًا»؛ يبعث له مؤمنًا يأخذ بيده ويهديه إلى الصراط المستقيم، ويمنّ الله عليه بتوفيق طاعة هذا المؤمن والانقياد له، وبواسطة طاعته لهذا المؤمن، يجمع الله له خير الدنيا وصلاح الآخرة. فالقضيّة ليست اعتباطيّة بحيث يأتي أحدهم ويذهب آخر صدفة، فكلّ شيء له حساب وكتاب.
صفاء ذلك اليهوديّ وصدقه كان سبب هدايته
لم يأتِ هذا اليهوديّ للامتحان والحيلة، بل جاء ليرى حقيقة الأمر بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله. لم يتمكّن من المجيء حتّى الآن، ولكنّه جاء الآن. فهل كان من الممكن ألا يكون سلمان هناك ويعود هو؟ للمسألة صور مختلفة. فبمجرّد أن رأى الله أنّ هذا اليهودي قلبه نقيّ وطاهر، أحضر سلمان إلى هذا المسجد. وقد وقعت الكثير من هذه الحوادث، فتارة كان سلمان موجودًا، وتارة المقداد وأبو ذر وعمّار، وطبعًا [في عالم الأمر] أمير المؤمنين عليه السلام وهو جالس في بيته يرسله ليذهب ويأخذ بيده، فهو لا نوم له ولا يقظة!
يصبح سلمان هو ذلك المؤمن الذي «يُقَيّضُ لَهُ»، يبعث الله هذا المؤمن ويأخذ بيده ويحضره إلى باب بيت أمير المؤمنين عليه السلام ويقول له: اسأل عمّا تريد هنا. هذا الطريق هو الطريق بين الإنسان والله. هذا الطريق موجود في اليهوديّ أيضًا، ورأيتم أنّه كان موجودًا فيه. هذا الطريق موجود في النصرانيّ والملحد والشيعيّ والسنّيّ وفي جميع الأفراد.
إرادة الإنسان ونيّته تحدّدان طريقه
الآن، إذا أراد الإنسان أن يسلك الاتّجاه الآخر ويختار طريقه، فماذا يحدث؟ يقدّر الله له عكس هذه القضيّة. فعلى سبيل المثال، يستيقظ صباحًا ليذهب إلى المسجد، وفجأة يظهر في طريقه رفيق فيصرفه عن وجهته ويأخذه معه. لأنّه هو الذي أراد ذلك. عندما يريد الذهاب إلى المسجد أو المشاركة في مجلس عزاء للإمام الحسين عليه السلام، لا يسمح له بالذهاب. مثلًا، يأتي رفيق ويقول: انهض لنذهب في نزهة، أو انهض لنفعل العمل الفلاني. وعندما يريد الذهاب، يسقط فجأة وتنكسر يده، فيذهب إلى الطبيب والمجبّر ويُحرم! كلّ هذه طرق فتحها الله، طبعًا لأنّه هو أراد، فتح الله له الطريق [ويقول] اذهب الآن!
وقد يحدث في هذا المسار نفسه أن يتنبّه فجأة ويعود! وبالطبع قد يستمرّ في المضيّ، وحينها يُفتح له الطريق باستمرار فيمضي، ويستمرّ الأمر إلى أن يسقط في قعر ذلك الوادي. هنا المسألة تتشعّب كثيرًا، ولو أردت أن أشرح هذه المسائل والقضايا وكيفيّة التفرّع ونوع القضيّة لمدّة شهر لكان هناك مجال لذلك. أحيانًا يريد الإنسان أن يقوم بعمل أو فعل ما، وكأنّه يشعر أنّ يديه مكتوفتان، كلّ هذا معلول لمسائل في الماضي! هذه الأمور مفصّلة جدًّا ولن ندخل فيها.
يكفي أن نعلم أنّ كلّ ما هو كائن يعود إلى إرادتنا ورغبتنا ونيّتنا. فلنسأل الله أن تكون النيّة نيّة صلاح؛ لأنّ النيّة أيضًا تحتاج إلى توفيق من الله ويجب أن تأتي من لدنه. نقول: يا إلهي، بما أنّك أنت الذي توفّق، فأعطنا النيّة أيضًا، فالإكرام بالإتمام، أعطنا بنفسك نيّة الصلاح وتوفيق العمل، وليكن الوصول إلى المطلوب منك أنت أيضًا، أعطنا كلّ شيء بنفسك. إذا فوّض الإنسان أمره هكذا حقًّا، فإنّ الله يفتح له الطريق.
قبل عدّة جلسات نقلت مسألة حول كيفيّة أدعية الأئمّة وأولياء الله، ثمّ تمّ التنبيه إلى أنّ المسألة بقيت على ما يبدو غير مكتملة. ورأيت أنّ الأمر كذلك، وأنّ ذلك الموضوع لم يكتمل، وهو بالطبع لا يخلو من ارتباط بمسألة جلستنا هذه والفقرات التي نحن بصددها حاليًا.
إنّ أمير المؤمنين وسائر الأئمّة، وخصوصًا الإمام السجاد عليه السلام الذي له هذه الأدعية، مثلًا في دعاء أبي حمزة هذا يقول هذه المضامين: «يا إلهي، كلّ شيء منك، يا إلهي الخيرات منك، والسيّئات منّا، يا إلهي التوفيق منك، يا إلهي الذنب منّا، أنا الذي قضيتُ أمري في العبادات والطاعات بتسامح ومجاملة وتهاون، أنا الذي أدبرتُ عن إقبالك وأنت أقبلت، أنا الذي ارتكبت الذنوب!».
إنّ الفقرات التي يذكرها الإمام عليه السلام هنا هي حقًّا فقرات تهزّ الوجدان، وقد ذُكر في الجلسة الماضية أنّه يقول: «أَنَا الَّذِي أَعطَيْتُ عَلَى مَعَاصِي الجَلِيلَ الرُّشَا». وفي فقرات أخرى يقول هكذا: «أَنَا الجَاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتَهُ، وَأَنَا الضَّالُّ الَّذِي هَدَيْتَهُ، وَأَنَا الوَضِيعُ الَّذِي رفعته أَنَا الَّذِي عَصَيْتُ جَبَّارَ السَّمَاءِ، أَنَا الَّذِي أَعطَيْتُ عَلَى مَعَاصِي الجَلِيلِ الرُّشَا، أَنَا الوضيع الَّذِي حِينَ رَفَعْتَهُ، وَأَنَا الخَائِفُ الَّذِي آمَنْتَهُ... أَنَا صَاحِبُ الدَّوَاهِي العُظمَى، أَنَا الَّذِي عَلَى سَيِّدِهِ اجْتَرَى، أنا الذي حين بُشِّرْتُ بِهَا خَرَجْتُ إِلَيْهَا أَسْعَى. أَنَا الَّذِي أَمْهَلْتَنِي فَمَا ارْعَوَيْتُ، وَسَتَرْتَ عَلَيَّ فَمَا اسْتَحْيَيْتُ، وَعَمِلْتُ بِالمَعَاصِي فَتَعَدَّيْتُ، وَأَسْقَطْتَنِي مِنْ عَيْنِكَ فَمَا بَالَيْتُ».
فأنا ذلك الجاهل الذي علّمته أنت، وأنا ذلك الضالّ التائه الذي هديته أنت، وأنا ذلك الوضيع الذي رفعته أنت، أنا الذي تجرّأ على سيّده، أنا الذي عصيت جبّار السماء، أنا الذي أعطيت على المعاصي العظيمة الرشوة، أنا الذي حين بُشّرت بالمعصية أسرعت إليها وأقدمت، وأقبلت نحوها، وكلّ ما فعلته أنت جئت أنا وفعلت خلافه.
رؤى الأفراد تجاه الاعتراف بالذنوب في أدعية الإمام السجاد عليه السلام
هذه الفقرات التي يقولها الإمام عليه السلام في دعاء أبي حمزة، ما معناها؟! كلّما نظرنا إلى أنفسنا، لا نستطيع أن نفهم معنى لهذه الفقرات. كيف يمكن للإمام عليه السلام الذي بلغ مقام العصمة وأصبح سرّه سرّ الطهارة، وتطهّرت حقيقته وباطنه من كلّ دنس ومن كلّ نوع من أنواع التعلّق بالكثرة وغبارها، أن يقول مثل هذه المضامين؟!
إذا نظرنا من زاوية، فقد يقول البعض إنّنا نحن أيضًا لسنا كذلك. يعني لو كانت المسألة عاديّة، لربّما قال أحدهم إنّنا لم نقدّم رشوة حتّى الآن، أو إنّنا لم نكذب حتّى الآن. يُنقل: أنّ شخصًا أراد بناء مسجد، فجمع كلّ الأفراد والعلماء وحجج الإسلام وآيات الله العظام. وعندما أراد أن يضرب المعول الأوّل، قال: «معول هذا المسجد يجب أن يضربه من لم تفته صلاة الليل منذ بلوغه حتّى الآن». فلم يتقدّم أحد ليضرب المعول! ثمّ تقدّم هو بنفسه وضرب المعول! يعني أنّ آيات الله العظام وحجج الإسلام وثقات الإسلام والعلماء والتجّار والكسبة وغيرهم، كلّهم تراجعوا. طبعًا هذا العمل ليس صحيحًا، أتريد أن تتباهى بأنّني صلّيت صلاة الليل! على أيّ حال، لقد فضح هذا الجمع! والمسجد معروف في أطراف طهران، وقد كُتبت هذه الأمور في سيرة هذا المسجد.
قد يقول أحدهم للّه: إنّي صلّيت صلاة الليل منذ بلوغي وسنّ الخامسة عشرة حتّى الآن، وهذا ليس كذبًا، بل هو شيء قد فعله. أو قد يقول إنسان إنّي لم أكذب أصلًا حتّى الآن، ويكون صادقًا، فهل هذا أفضل من الإمام؟! الإمام عليه السلام يقول إنّي أعطيت الرشوة وأقدمت على المعاصي وأنا الذي أسعى وراء العصيان والذنب، فهل الإمام يمزح؟! أم أنّه مثلًا وقف أمام عظيم أو أمام الله فقال ذلك؟! لا معنى لأن يقول إنسان ما، ولو كان إمامًا، كلامًا غير لائق أو باطلًا عندما يقف أمام الله. فهل يمكن مثل هذا الأمر؟! هل لأنّكم وقفتم أمام الله، يجب أن تقولوا إنّكم فعلتم ما لم تفعلوه؟! مثلًا، لم تصلّوا، فتقولون صلّينا؟! فهل هذا صحيح والإمام السجاد عليه السلام لكونه واقفًا أمام الله يناجيه ويتضرّع إليه، يقول إنّه فعل ما لم يفعله؟! هذا ليس صحيحًا. فهل كذب الإمام السجّاد عليه السلام والعياذ بالله؟! لم يكذب. هل سرق الإمام السجاد عليه السلام والعياذ بالله يومًا ما؟! لم يفعل الإمام السجاد عليه السلام هذا، فلماذا يقول إنّه ارتكب ذنبًا؟ لماذا يقول إنّ حالي هكذا؟ لا بدّ أنّ هناك مسألة ما.
البعض يبرّرون ذلك قائلين: «لقد قال الإمام عليه السلام هذا لتعليمنا!».
وفي الجواب نقول: وهل تلك الدموع التي كانت تنهمر من عينيه، وتلك الحالة من الصعق والغشيان التي كانت تصيبه، هي أيضًا لتعليمنا؟! فهل يعني أنّ كلّ هذه الأدعية التي قالها المعصومون عليهم السلام، أرادوا ـ نعوذ بالله ـ أن يمثّلوا فيها فيلمًا؟! هل أرادوا أن يعلّمونا بهذه الطريقة؟! ثمّ حتّى لو أرادوا أن يعلّمونا، فهل نحن نعطي الرشوة أو نقدم على المعاصي؟! الكثيرون ربّما لم يقدموا على المعاصي. من غير الممكن أن يعلّم الإمام عليه السلام كيفيّة لا تصدق على كلّ إنسان. هذا الدعاء يناسب قاطع طريق ينهب قافلتين في اليوم. فمثلًا يقول: «أنا الذي فعلت كذا، أنا الذي فعلت كذا»، لنفرض أنّي سرقت مالًا أو شرّدت أناسًا! هذا الدعاء يناسب هكذا إنسان. لكنّه لا يناسب حتّى صالحي المؤمنين وهؤلاء الذين لديهم صلاح. فإذًا، لا يمكن أن يكون هذا هو التفسير. ومن ناحية أخرى، الكلام هو كلام الإمام السجاد عليه السلام، ولا يمكن للمرء أن يمرّ عليه مرور الكرام كلغو وباطل.
الكثير من الناس يقولون إنّنا لا نعلم أصلاً، وقد أراحوا أنفسهم. كنت في مجلس وكان هناك الكثير من العلماء، وصادف أن طُرحت هذه المسألة نفسها، فقال بعضهم: نحن لا نعلم لماذا قال الإمام ذلك، قالوا لنا اقرأوا، ونحن نقرأ! هذا أيضًا نوع من رفع المسؤوليّة، لكن في الواقع المشكلة تبقى على حالها.
إنّ ما يبدو في هذه المسائل، وقد عرضنا جزءًا منه في تلك الجلسة، هو أنّ حلّ الموضوع يكمن في تعلّق الإنسان بنفسه وبأعضائه وجوارحه وأفعاله وصفاته. فنحن لدينا تعلّق بأنفسنا وأعضائنا وجوارحنا، ونحن نرى حقًّا تلك الأعضاء والجوارح جزءًا منّا، وما نتعلّق به نراه في ملكنا. لنفرض أنّ يدي هنا، فلو أمسك أحد بإصبعي وضغطه قليلًا، أقول: لماذا تضغط إصبعي يا فلان؟! لقد آلمتني.
فيقول: إنّه إصبعك، وليس أنت! وأنا ألوي هذا الإصبع!
ـ ما دمت متعلّقًا بهذا الجسد، فهذه اليد والإصبع وسائر الأمور مرتبطة بي، وهذه القدم منّي فلا يمكنك قطعها، وهذه اليد منّي ولا يمكنك كسر عظمها، لأنّ النفس متعلّقة بهذا الجسد وتراه حقًّا جزءًا منها، وترى التعدّي على حريم الجسد تعدّيًا على ذاتها.
لنفرض أنّ أحدًا وخزنا بإبرة! فنقول له: ماذا تفعل؟! خز نفسك، لماذا تخزني؟!
فيقول: «لا شأن لي بك يا عزيزي، أنت زيد ولك نفس، ونفسك مجرّدة، مجرّدة عن الموادّ وهي من المبدعاة، ﴿ونفخت فيه من روحي﴾، وهذا تراب وماء وسيفنى»، فنحن أيضًا نأخذ تلك الإبرة منه ونخزه بها! ونقول إنّ هذا جسد وتراب، وأنت نفسك مجرّدة ملكوتيّة! ونخزه وخزة أخرى فلا ينزعج أبدًا! في الفلسفة الوجوديّة، ويسمّون أيضًا بالعدميّين. هؤلاء جماعة من العبثيّين يقولون إنّه لا وجود خارجيّ لأيّ شيء أصلاً، وهذا بحثه طويل. إحدى طرق الردّ عليهم هي أن يغرس المرء سيخًا في أجسادهم! وعندما يقولون: آخ، ما هذا؟! نقول: ما هو السيخ؟! ومن أنت؟! وما هو الألم؟! هذا المسمار والسيخ وأمثالهما فعّالة جدًّا، وتوقظ الإنسان جيّدًا!! فما لم يُغرس المسمار في جسده، يطلق الشعارات، وبمجرّد أن يُغرس المسمار، يرتفع صوته! فنقول: لماذا تصرخ وتضجّ؟! لقد كنت تقول كلامًا آخر حتّى الآن؟! خلاصة القول، هذا السيخ بصوره وخصوصيّاته المختلفة مفيد جدًّا! والله أيضًا لديه الكثير من هذه المسامير والأسياخ والإبر، ولديه مسامير كبيرة أيضًا، ويستخدم لكلّ إنسان وفي كلّ مكان نوعه الخاصّ! هذه هي مسامير الله! فليطمئنّ بالنا جميعًا، فقد أعدّها لنا جميعًا! «يَا مَنْ لَا مَفَرَّ إِلَّا إِلَيْهِ.»۱
هذا التعلّق بالجسد موجود لدينا جميعًا، وهذا التعلّق يقتضي ملكيّة الجسد. الآن، ابتعدوا قليلًا عن الجسد؛ مثلًا لباس الإنسان، وأمواله، ومُلكه، وبستانه، وسيارته، وزوجته، وأبنائه، وشريكه، وأبعد قليلًا رفيقه، هذه خصوصيّات لها تعلّق بالإنسان، وبمجرّد أن يجد الإنسان تعلّقًا بشيء ما، يراه جزءًا من نفسه. فعندما يرتدي لباسًا ويراه جزءًا منه، يشعر بأنّه مالك لهذا اللباس، وإذا خلعوا لباسه في الشارع، فإنّه يعارض ويقاوم ويقول: ما شأنك بلباسي؟ لنفرض أنّ أحدًا ما أراد أن يتعرّض لرفيق إنسان، فإنّه يدافع عنه لأنّه يرى رفيقه جزءًا من نفسه. وهذا التعلّق يقتضي الاختصاص، والاختصاص هو منظومة التعلّق، ولو لم يكن هذا التعلّق، لما كان هذا الاختصاص.
الفرق بين اللُّقَطة والمال المعرض عنه
يخلع الإنسان لباسه ويرميه جانب الطريق ويعرض عنه، والإعراض يعني أن يقطع الإنسان تعلّقه بذلك الشيء. وعندما يعرض عنه، حينها يبيح الشرع للآخرين أن يأخذوه. الفرق بين اللُّقَطة والمال المعرض عنه هو أنّه في اللُّقَطة، قد لا يعرض الإنسان والمالك عن ذلك الشيء، لذا يقولون يجب الاحتفاظ باللُّقَطة ولها خصوصيّات وشروط تختلف عن حالة الإعراض. ولكنّ مسألة الإعراض هي أن يكون الإنسان لا يريده أصلاً، مثلًا يخرج مائة تومان من جيبه ويرميها جانب الطريق ويذهب، والجميع يرون أنّه هو نفسه من ألقى هذه المائة تومان وذهب. فهذا يعني أنّه أعرض. أو على سبيل المثال، شخص لديه بستان رمّان وهذا البستان معرّض للأنظار، يقطف الرمّان ولكن يبقى شيء قليل منه على الشجر، فهذا يسمّى إعراضًا، فيمكنكم أكل هذا الرمّان، لأنّه أعرض عنه صاحبه ولم تعد عينه على هذا الرمّان المتبقّي على الشجر.
في السابق كان الأمر هكذا، والآن أيضًا هو كذلك. في هذه العشرات من الأراضي الزراعيّة التي كانوا يزرعون فيها القرع والباذنجان والطماطم وأمثالها، وعند وقت الحصاد، كانوا يأخذون محصولهم، ثمّ يبقى في كلّ نبتة شيء ما، مثلًا قرعة أو باذنجانة صغيرة أو كبيرة. وعندما يحلّ المساء، كانوا يعلنون أنّ من يريد فليأتِ. هذا يسمّى إعراضًا. فكان الأطفال يدخلون المزرعة ويأخذون هذا الباذنجان والقرع الصغير والكبير الذي ربّما غفل عنه الحاصد أحيانًا. وأكل هذه الأشياء حلال ولا إشكال فيه، لأنّ صاحب الأرض والملك قد أعرض عنها.
تعلّق الإنسان بأفعاله يوجب نسبة تلك الأفعال إلى نفسه
هذا التعلّق الذي للإنسان بخصوصيّاته ومن حوله وأعضائه وأفعاله، يقتضي أن ينسب الإنسان الأفعال وما يصدر عنه إلى نفسه. أنا الآن أتكلّم، وهذا الكلام عبارة عن حركات تحدث في لساني وفمي، وهذه الحركات معلولة لقرارات الدماغ الذي ينقل كيفيّة الحركة والتردّدات العصبيّة التي يرسلها الدماغ إلى سلسلة أعصاب اللسان. أترون كم هو سريع؟ فبمجرّد أن أقول "كم هو سريع"، لماذا لم أقل "ب" بدلًا من "ك"؟ لقد أرسل الدماغ تردّدًا لعصب اللسان، فوضع اللسان حرف "الكاف" في مكانه من الحلق. فلنعلم أيّة عجائب توجد، حيث تأتي الفكرة مسبقًا في دماغنا وذهننا، وبناءً عليها، يرسل الدماغ التردّد بسرعة إلى عصب الحلق والحنجرة والفم والأسنان والفكّ واللسان، وبهذه الطريقة يُظهر اللسان ذلك المفهوم الذي ارتسم مسبقًا في الذهن على شكل ظاهر! هذا يسمّى بالكلام اللفظي، وما لدينا في النفس يسمّى بالكلام النفسي. ذلك المفهوم هو كلام نفسي، وبناءً على ذلك الكلام النفسي، يتحرّك اللسان إلى الأعلى والأسفل والأمام والخلف، ويصطدم بسرعة بأطراف الأسنان أو سقف الحلق أو مخرج الحروف الحلقيّة "صاد" و"ضاد" بناءً على الحروف. فهل فكّرتم في هذه المسألة من قبل؟!
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «أنا أفصَحُ مَنْ نَطَقَ بالضَّادِ»۱. يقولون إنّ الذي ينطق صوت الضاد جيّدًا، هو الأفضل من حيث العربيّة والفصاحة وما إلى ذلك، لأنّ نطق الضاد صعب جدًّا، فلنطقه يجب أن يلامس جانب اللسان كرسي الفك العلوي، وطبعًا يجب أن يكون مماسًّا وألا يلتصق تمامًا، ويختلف عن "الظاء"، ففي نطق "الظاء"، يجب أن يكون اللسان في الوسط بين الفك العلوي والفك السفلي حتّى يتمكّن الإنسان من نطق هذا الحرف. كلّ هذا يعود إلى كيفيّة التوجيه الذي تقوم به سلسلة الأعصاب تجاه اللسان والحلق، وتُبرِز كلّ شيء من خلال هذا الطريق وتتقدّم.
هذا الكلام الذي [تحدّثت به] الآن يتعلّق بي. أقول: أنا قلت هذا الكلام، أنا فعلت هذا العمل، أنا صلّيت هذه الصلاة، وهذا الإنفاق أنا قمت به، وقد قمت به حقًّا. يضع الإنسان يده في جيبه ويعطي خمسة توامين لفقير، هذا الإنفاق الذي يقوم به الآن منسوب إليه، وهذا صحيح.
الآن أسألكم سؤالاً: فلنفرض أنّ إنسانًا لديه محلّ تجاريّ ويعطي خادم المنزل مائة تومان أو طعامًا ويقول له خذ هذا الطعام إلى باب منزل ذلك الرجل وأعطه إيّاه، فهل يستطيع الخادم أن يقول أنا أعطيت هذا الطعام؟ هل يستطيع حقًّا أن يقول هذا الكلام؟! لا، لا يستطيع. أو لنفرض أنّ صاحب هذا البيت أعطى ألف تومان للخادم وقال له خذ هذه الألف تومان إلى باب منزل فلان وأعطها له وعُد، فهل عندما يأخذ الخادم هذا المال ويمسكه بيده ويتحرّك ويصل إلى ذلك المنزل، هل يفكّر في نفسه طوال هذا الطريق أنّي أنا الذي أعطيه هذه الألف تومان؟! لا، لا يفكّر بذلك أصلًا. هو يرى هذا العمل من صاحب البيت، ويرى نفسه مجرّد وسيط لا أكثر. لذا، لو قالوا له: ما شاء الله، يا لك من رجل طيّب تعطي ألف تومان، سيقول: أنا لم أعطِ هذه الألف تومان، بل صاحب البيت أعطاها، ما شأني أنا؟! لماذا يقول هكذا؟! لأنّه لا يرى تعلّقًا بينه وبين هذه الألف تومان، ولو رأى تعلّقًا لقال أنا أعطيت، أنا المنفق وأنا الجواد وأنا المعطي. لكن لأنّه لا يرى تعلّقًا، يقول: «أنا الواسطة وأنا الوكيل وأنا الخادم». المعطي والجواد والكريم والمنفق هو صاحب البيت، وهذا هو الواقع حقًّا. أو إذا كان صاحب متجر ومحلّ تجاريّ وسلّم الدفاتر لغيره وسافر لمدّة شهر، فهل هذا البيع والشراء الذي يقوم به هذا الغير، هو الذي يقوم به أم أنّه يفعله وكالةً عنه؟
إذًا، ما يدفع الإنسان إلى نسبة الأفعال إلى نفسه هو تعلّقه بها.
تجاوز مقام النفس يسبّب انقطاع تعلّق الإنسان بالأفعال والصفات
لأنّ الإنسان متعلّق بأفعاله ونفسه وجسده وأعضائه وجوارحه، فإنّه ينسب الأفعال إلى نفسه أيضًا. فلو لم يكن للإنسان تعلّق، كما مثّلت، لنسب تلك الأفعال حقًّا إلى صاحب الفعل وإلى ذلك المعطي وإلى ذلك الأصل. نحن ننسب هذه العبادات التي نقوم بها إلى أنفسنا ونقول: «يا إلهي، لقد صلّينا لك، ولم نكذب. لقد صلّينا، يا إلهي، لقد صمنا وحججنا وجاهدنا وأنفقنا»، لأنّنا نرى أنّنا فعلنا ذلك حقًّا.
أمّا الإمام عليه السلام فيقول: يا إلهي، أنت أنفقت، أنت حججت، أنت عبدت، وأنت أنفقت! فما الفرق بين الإمام وبيننا؟! ما الفرق هنا؟! نحن نقول إنّنا فعلنا هذا، وهو يقول إنّك أنت فعلت هذا. المسألة هي أنّه عندما يتجاوز إنسان ما مقام النفس وتنقطع تلك التعلّقات النفسيّة بالجسد وبالصفات والأفعال، فإنّه لا يرى أيّ تعلّق بينه وبين وجوده وأفعاله وصفاته، ويرى فقط وفقط حقيقة واحدة في عالم الوجود. حينها لا يرى لنفسه وجودًا حتّى يعبد ذلك الوجود أو يصلّي أو ينفق أو يحجّ!
رؤية الأولياء لحقيقة الوجود والآثار المترتّبة عليها
هو يقول: وجودي منه، إذًا فأفعالي من باب أولى يجب أن تكون منه. العبادة التي أقوم بها يجب أن تكون منه من باب أولى. لأنّه عندما يكون أصل الوجود منه، فالصفات والأفكار والأفعال والإرادة والمشيئة والخصوصيّات كلّها يجب أن تكون من باب أولى تابعة لذلك الوجود ومنه. أليس كذلك؟! عندما يكون أصل حقيقة الإنسان ربطًا محضًا، فكيف تكون الآثار المترتّبة على هذا الربط المحض آثارًا استقلاليّة ولها غنى ذاتيّ؟ كيف تكون تلك الآثار مستغنية بالذات؟ أصل الوجود منه، فالآثار ليست بشيء إذن! أصل حقيقة الإنسان منه، فتلك الأفعال التي تصدر من الإنسان ليست بشيء إذن! كلّها لا شيء في لا شيء.
إذًا، فالإمام عليه السلام والوليّ الذي تجاوز النفس، لا يرى أيّ نوع من الأفعال صادرًا من نفسه حتّى ينسبه إليها. ليس الأمر أنّ الإمام السجّاد عليه السلام عندما يقف أمام الله يريد أن يمزح ويضع يده على صدره ويكرّم الله باستمرار، بل الإمام عليه السلام يقول هذا الكلام جادًّا. أنتم الآن ترون هذا النور حقًّا وتقولون لصاحب البيت: المصباح مضيء.
أرسل السلطان محمود في طلب ثلاثة: ابن سينا، وأبو ريحان البيروني، وشخص آخر توفّي. فأُلقي القبض على أبي ريحان وأُحضر إليه، فقال له: «أخبرني أحقّ ما سمعت من أنّك تضرب الزايرجة وتقرأ الطالع وتخبر عن المستقبل وتقرأ النفوس ولك اطّلاع على الغيب!». فبدأت يده ترتجف وقال: «لا يا صاحب الجلالة! أنا لا أقول مثل هذه الأشياء، ينسبونها إليّ!».
فقال السلطان محمود: «لكنّي سمعت أنّك تقوم بهذه الأعمال، هيّا أخبرني على الفور».
فقال: «حسنًا، بما أنّك تريد أن تمتحن، فتعالَ وامتحن».
فقال السلطان محمود: «أريد أن أخرج من أحد أبواب هذا القصر ـ كان لقصر السلطان محمود عدّة أبواب ـ فقل لي من أيّ باب سأخرج؟». فكّر قليلاً ورسم خطوطًا وكتب بضعة أحرف، ثمّ كتب شيئًا ووضعه تحت الفراش وقال: «كتبت».
فقال السلطان محمود: «سأريك أنّك لا تعرف شيئًا وأنّ كلّه كذب». فأمر بهدم جزء من الجدار وخرج من هناك! عندما أحضروا ما كتبه أبو الريحان، كان قد قال إنّ السلطان لن يخرج من أيّ من الأبواب، وسيهدم ضلع الجزء الغربي من القصر ويخرج من هناك. فقال السلطان: «أيفضحني؟! ألقوه في السجن». وكان الأمر كذلك في زمن الخليفة الأوّل والثاني!
بقي في السجن ثمانية أشهر، وكان يتجرّع كلّ يوم جرعة وافرة من الضرب! ثمّ ما زالوا يذهبون إلى السلطان ويأتون بالشفعاء ويقولون: يا صاحب الجلالة، اعفُ عنه، لقد أخطأ وتاب، وأكل خمسة وعشرين جلدة، حتّى أحضروا المسكين إلى السلطان، فقال السلطان: «ماذا حدث؟ قل لي، هل ما زلت تعرف شيئًا أم تعلّمت شيئًا في هذه المدّة؟»
فقال: «نعم يا مولاي! لقد أُصلحت وأُصلح أمري وحُلّت المسألة».
فقال السلطان: «ما هي المسألة؟».
قال: «أنا لا أفهم شيئًا، والإرادة إرادة السلطان».
فقال السلطان: «أحسنت، بارك الله بك! ولو كنت تفهم هذا من البداية، لما بقيت في السجن ثمانية أشهر!». والآن أيضًا القضيّة هي هذه، والإرادة إرادة السلطان.
فأحيانًا يحدث أن نخاف من إنسان ما، فنقول باستمرار على سبيل المثال: «لماذا المصباح ليس مضاءً؟!». فيقول هو: «أليس لك عينان ألا ترى؟! المصباح مضاء!».
فنقول بعد ذلك: نعم، صحيح، المصباح مضاء وينير بقوّة خمسمائة واط بدلاً من مائة واط!
فلماذا نقول هذا؟! لأنّنا محتاجون، فنجعل له المصباح ذا المائة واط خمسمائة واط، ونقول: إنّه يضيء بقوّة مصباح خمسة آلاف واط وقد أعمى أعيننا. فيقول: «أحسنت، هذا جيّد».
دعاء الإمام السجاد عليه السلام مبنيّ على الحقيقة والرؤية الواقعيّة
الإمام السجاد عليه السلام لا يمثّل أمام الله، ولا يتواضع لأنّه في حضرة الله، بل إنّه يقول هذا الكلام حقًّا. وجود الإمام السجاد عليه السلام حقيقة محضة، والتواضع لا مدخل له فيه. لكنّنا نحن، ومن أجل المصالح والمنافع، نظهر الأمور بشكل آخر. فنرى الخطأ ونشاهد أنّ كلّ الأمور مضطربة وفوضويّة، لكنّنا نقول: «ليسلم رأس السلطان، فالمملكة في أمن وأمان والجميع يدعون لحضرة ظلّ الله!». وفي زمان الشاه أيضًا كانوا يقولون هذا الكلام، وكان هو سعيدًا بأنّ الدولة في أمان، لكنّه فجأة رأى أنّ أصوات "الله أكبر" ترتفع من كلّ البيوت ليلا! فهل هذه هي الدولة التي كانوا يقولون إنّها في أمن وأمان؟! لقد أدرك المسكين متأخّرًا، فلربّما لو أدرك باكرًا لما وصلت الأمور إلى هذا الحدّ. وخلاصة القول، يجب أن نكون حذرين، فهؤلاء المقرّبون يسلبون من المرء دنياه وآخرته!
كلّ هذه المسائل التي قلناها هي في باب التواضع. لكنّ الإمام السجاد عليه السلام لا تواضع في عمله، فالإمام السجاد عليه السلام يرى الحقّ ووجوده حقّ. الحقّ هو ما يقوله، وليست المسألة مسألة تواضع. الحقّ هو ما يبيّنه الإمام عليه السلام، ولأنّه يبيّن الحقّ، فإنّ الدمع ينهمر من عينيه ويتعرّض هو نفسه لانقلاب في الأحوال وتغيّرات. ولو كان تواضعًا فهو لا يتضمّن هذه الأمور، فنحن نقول: «نحن مخلصون لجنابكم، ونحن في خدمتكم!». إذًا، لأنّ الإمام عليه السلام يرى الحقّ، فإنّه يُصعق ويسقط على الأرض مغشيًّا عليه، وترتفع منه هذه الصيحات والبكاء والنحيب. الآن، ما هو ذلك الحقّ الذي يراه؟! هنا تكمن مشكلتنا.
انحصار كلّ عالم الوجود بالله
ماذا يرى الإمام السجّاد عليه السلام حتّى يقول: «أنا ارتكبت هذه المعاصي وأقبلت على المعاصي»۱. إنّه يرى انحصار كلّ عالم الوجود وكلّ التعيّنات والتقيّدات بالله. يرى أنّ ما يتحقّق في عالم الوجود من الموجودات والوجودات والآثار والصفات والظهورات، كلّه مستند إلى الله وليس مستندًا إلى نفسه. يرى كلّ شيء منه، ويرى ذلك بشكل صحيح، فهذا هو الواقع. ينظر إلى وجوده فيراه منه.
قال لي أحد الرفقاء: «جاء أحدهم إلى مشهد وأردت أن آخذه إلى المرحوم العلامة لكي يراه وربّما يستفيد من محضره!». يحتار الإنسان ماذا يقول لهؤلاء! أصلًا، ما شأنك أنت لتقوم بهذا العمل؟! حقًّا إنّنا لا نفهم! كان هذا رجلًا مسنًّا من هؤلاء الذين يدّعون أنّهم من أهل الولاية ومجالس العزاء ليالي الجمعة وحساء اللحم، وطبعًا لا أعلم إن كان قد توفّي الآن أم لا. على كلّ حال، ما أقوله هو حقيقة! فقال: «أريد أن أحضره إلى المرحوم العلامة». فضحكت له قليلًا وقلت: لماذا تضيّع وقت السيّد بإحضاره بلا فائدة؟ خلاصة القول، لم يعجبه كلامي كثيرًا، لكنّه أخذ هذا الرجل إليه! ثمّ سمعت أنّ شجارًا قد حدث! فذهب هذا الرجل إلى المرحوم العلامة وقال في أثناء الحديث: «إنّ الأئمّة عليهم السلام وجودهم طهارة محضة ولا يحتاجون إلى الوضوء أبدًا!».
يا هذا! هل أنت مجتهد؟! أنت لا تميّز شيئًا وتصدر مثل هذه الفتوى! قال المرحوم العلامة: «لا، هم أيضًا يُحدِثون ويحتاجون إلى الوضوء». هذا أوّل ما قاله الرجل. ومرّ وقت قصير، ثمّ قال: «الحمد لله، بفضل الله، وصلت إلى مرتبة لم يعد يصدر منّي ذنب!». فقال المرحوم العلامة: «نفس إحساسك بأنّه لا يصدر منك ذنب هو أكبر المعاصي!». فرأى أنّ الأمور قد ساءت جدًّا، فنهض وذهب مع ذلك الذي جاء معه!
ما هذا الكلام الذي تقوله: الحمد للّه، وصلت إلى مرتبة أشعر فيها أنّه لم يعد يصدر منّي ذنب! من أعطاك مثل هذا الضمان؟ يا فرخ! أنت لا تملك القدرة على ارتكاب الذنب حتّى لا يصدر منك!
| در جوانی پاک بودن شیوه پیغمبری است | *** | ورنه هر گبری به پیری میشود پرهیزگار |
والمعنى:
أن تكون طاهرًا في الشباب فهو سنّة الأنبياء *** وإلّا فكلّ مجوسيّ يصبح في شيخوخته ورعًا.
تقول إنّه لا يصدر منّي ذنب، فلا أحد ينظر إليك حتّى ترتكب الذنب الفلاني! كلّ هذه حيل وألاعيب الشيطان. لو أردت أن تذنب، لما استطعت أن تقيم مجلس عزاء في الليل! أنت تحافظ على نفسك من أجل مجالس عزائك، فهل تظنّ أنّي لا أعرفك؟! أنت قد وضعت سياجًا حول نفسك لتجمع المريدين حولك، وتطأطئ رأسك وتبكي في مجلس عزاء إمام الزمان ويرتفع صراخك وعويلك! لو سُلب منك هؤلاء المريدون القلائل، حينها سنرى ماذا ستفعل! فما هذا الكلام الذي تقوله؟! طبعًا، قوله: «بفضل الله، وصلت إلى مرتبة أشعر فيها أنّه لم يعد يصدر منّي ذنب!» قوله «بفضل الله» هذا كذب أيضًا! قال المرحوم العلامة رضوان الله عليه: «نفس هذا الإحساس الموجود فيك، ورؤيتك لهذا الأمر من نفسك، هو أكبر المعاصي!».
الأئمّة كانوا يذكرون عصمتهم في مقام الاحتجاج فقط
الإمام السجّاد عليه السلام هو عكس هذا الشيخ تمامًا. فهذا يقول: «بفضل الله لا يصدر منّي ذنب». لكنّ الإمام عليه السلام يقول: «يصدر منّي ذنب!» فهل رأيتم أحدًا من الأئمّة يقول: أنا معصوم؟! طبعًا، في مقام الاحتجاج على الإمامة قالوا هذا الكلام ويجب أن يقولوه. يجب على الإمام أن يُظهر نفسه للناس، ولكن كيف يجب أن يكون بينه وبين الله؟ لو قال: يا إلهي، نحن أئمّة! لقال الله أيضًا: ماذا حدث؟! أنا جعلتك إمامًا، والآن تقول لي إنّك إمام؟! أتردّ عليّ كلامي؟!
هذا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عندما يقف أمام الناس يقول: «سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَإِنِّي بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِطُرُقِ الأَرْضِ»۱، ويقول اسألوني حتّى يوم القيامة، وأنا أجيبكم. ولكن لماذا عندما يذهب إلى بساتين النخيل ويدعو الله، يقول كلام الإمام السجاد عليه السلام؟! يجب أن يقول ذلك الكلام للناس؛ لأنّه يريد أن يثبت إمامته ولا ينحرف الناس، ولكن عندما يختلي بالله، يقول الحقيقة. طبعًا، ذلك أيضًا حقيقة ولكن له ظهوران مختلفان، هنا يقول هذا الكلام ويقول: يا إلهي، من أين أتيت بإمامتي؟! ألم تعطني إيّاها أنت؟! إذًا، من أنا بدون الإمامة؟!
يا إلهي، هذه العبادة التي أقوم بها الآن، من الذي وفّقني لها؟! أنت وفّقتني، ولو لم توفّقني، فماذا كنت وأين كنت؟! لكنت في ملهى ليلي ـ والعياذ بالله ـ! هذا نقوله نحن، لا بأس، وليست هناك مشكلة، فأمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام راضون. يقول الإمام عليه السلام: يا إلهي، هذا الحجّ الذي أؤدّيه الآن ماشيًا على قدميّ، مَن غيرك يوفّقني إليه؟! لقد حجّ الإمام المجتبى عليه السلام خمسًا وعشرين حجّة ماشيًا على قدميه من المدينة إلى مكّة٢. لو لم أكن أذهب للحجّ، إلى أين كنت سأذهب؟! لكنت أذهب في رحلة إلى سان فرانسيسكو. السفر هو السفر، وكلا السفرين يستغرق ثلاث ساعات، فالمرء بدلاً من أن يذهب في هذا الاتّجاه، يبدأ بالذهاب في ذلك الاتّجاه.
يا إلهي، هذا الإنفاق الذي أقوم به الآن، هل أنت وفّقتني له أم لا؟! أنت وفّقتني له، ولو لم توفّقني له، لكنت أنفقت هذا المال في أمور أخرى ومعاصٍ. فالإمام عليه السلام يصدق هناك ويصدق هنا، وكلا كلامه صدق. فقوله: أنا إمام وواجب الطاعة، وحبّنا جنّة وبغضنا نار٣! صحيح مائة بالمائة، وكذلك قوله: يا إلهي، كلّ شيء منك! صحيح مائة بالمائة.
لماذا يقول ذلك الكلام؟ لأنّه عندما ينظر إليه وينظر إلى خصوصيّاته، يرى أنّ كلّ ما لديه هو منه. فبما أنّ كلّ ما لديه هو منه، هل ينسب الأمور المتعلّقة بالله تعالى إلى نفسه في مقام مناجاته؟! هذا لا يجوز. مثلًا، أن يقول: يا إلهي، أنا أعبدك!
فيقول الله: أنا وفّقتك لذلك، والآن أنت تمنّ به عليّ؟!
ـ يا إلهي، لقد أنفقت على فقير اليوم عندما خرجت من المنزل!
فيقول الله: «ومن الذي وضع ذلك الفقير في طريقك؟! والآن تمنّ به عليّ؟!»
نحن نقول: يا إلهي، لقد فعلت هذا العمل الخيريّ الآن.
فيقول الله: «من الذي ألقى هذه الفكرة في ذهنك؟ أأنت ألقيتها أم أنا ألقيتها؟! من الذي هيّأ لك الطرق ليوصلك إلى هنا؟»
حينها يُنزع سلاح الإنسان.
إذًا يجب أن يقول إنّه لم يعبد ولم يحجّ ولم ينفق ولم يطع. فكلّ هذا هو نزع للسلاح. أنت حججت، أنت أنفقت، أنت عبدت، أنت وفّقت لذلك، أمّا أنا بدون توفيقك، فإنّي أشرب الخمر وأسرق وأذنب، وكلّ هذا يتعلّق بي.
هنا كان يقول السيّد الحدّاد: «عندما أنظر إليه تعالى، أرى أنّ أربعة آلاف معجزة لا تساوي كلمة واحدة من كلامنا، وعندما أنظر إلى نفسي، أرى أنّي أسوأ خلق الله على وجه الأرض!». فكلامه هذا يحمل نفس المفهوم. ويقول الخواجة عبد الله الأنصاري في مناجاته: «إلهي، حين أنظر إليك أكون من أصحاب التيجان والتاج على رأسي، وحين أنظر إلى نفسي أكون من أهل التراب والتراب على رأسي». يعني عندما ينظر الإنسان إلى الله تعالى، يرى الخيرات والتوفيق والعبادات والبهجة والبهاء والنورانيّة وكلّ شيء يأتي من هناك. ولكن عندما ينظر من الأسفل، يرى الظلمة والكدر والابتعاد والذنب.
فإذا أراد عبد أن يقف أمام الله ويناجيه ويقول: يا إلهي، من أنت ومن أنا، فهل يجب أن يمنّ على الله بعباداته؟! هل هذا صحيح؟! وليكن ذلك العبد إمامًا، فنحن لا شيء! لا ينبغي أن نتكلّم أصلاً! هل على الإمام عليه السلام عندما يكون في مقام المناجاة مع الله أن يقول: يا إلهي، لقد شققت القمر؟! لقد رددت الشمس؟! لقد اقتلعت وبيد واحدة باب خيبر الذي كان يغلقه ويفتحه أربعون رجلاً ؟! يقول أمير المؤمنين عليه السلام: مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَرَ بِالقُوَّةِ البَشَرِيَّةِ۱. لقد اقتلع أمير المؤمنين عليه السلام باب خيبر وحمله كريشة ووضعه على رأسه وعبر الناس من فوق الخندق. فهل يقول الإمام عليه السلام للّه: يا إلهي، أنا اقتلعت باب خيبر! ليهزأ الله به. أو يقول له أيضًا: يا إلهي، أنا الذي أناجيك في بساتين النخيل في الليالي حتّى الصباح! فهل يصحّ أن يتكلّم أمير المؤمنين عليه السلام مع الله هكذا؟! أم يجب أن يقول: «إِلَهِي أَنْتَ الغَنِيُّ وَأَنَا الفَقِيرُ، وهَلْ يَرْحَمُ الفَقِيرَ إِلاّ الغَنِيُّ»٢.
نحن نقول كم كان أمير المؤمنين عليه السلام متواضعًا، لا يا عزيزي، ليس هذا تواضعًا، بل هو واقع. أمير المؤمنين عليه السلام لم يعد يرى لنفسه وجودًا، ويرى كلّ الوجود وجود الله، ويرى نفسه مجرّد ظلّ وربط محض، ولا يشعر بوجود آخر لنفسه أصلاً، فماذا يجب أن يقول في مقام المناجاة إذن؟ يجب أن يقول: يا إلهي، الظلمة منّا والنور منك، وهذا هو الصدق.
وبما أنّ أمير المؤمنين والإمام زين العابدين عليهما السلام أصبحا هكذا، فإنّهما إمامان، ولا يمكن لمن لا يكون كذلك أن يكون إمامًا، ونحن لن نكون أئمّة ولو بعد مائة عام، لأنّنا ننسب الأمور إلى أنفسنا، والله أيضًا يقول: ما دمت تنسب إلى نفسك، فابقَ هكذا! هذا الإمام زين العابدين عليه السلام الذي ينظر بهذه الكيفيّة ويرى كلّ الوجود فيه ويشاهد كلّ الخيرات فيه، لا يريد أن يتلوّث كبرياؤه بمثقال ذرة من تلك الحقيقة. إنّه ينسب كلّ السيّئات والذنوب إلى نفسه ويقول للّه: أنا عبد، لولا توفيقك، لأعطيت الرشوة أيضًا! يعني أنا، الإمام السجاد، بتوفيقك أصبحت سجّادًا وإمامًا على الخلق ومفترض الطاعة، وأصبح حبّي جُنّة وبغضي نارًا، و"كوني الإمام السجاد" هذا أنت أعطيتنيه، لكنّي أنا بنفسي، وبمعزل عن هذا الجانب، إنسان كسائر الناس! لا شأن له بل وعليه ذنوب أيضًا، وهذا كلام صدق وصحيح.
لأنّ الإمام السجّاد عليه السلام يرى الوجود منحصرًا بالله. لذا، يضع كلّ مسألة في مكانها ويقول إنّ الخير له والشرّ لي. أمّا نحن، فلأنّنا نرى الوجود من أنفسنا، وليس لدينا قليل من الإنصاف لنقسم ما لدينا إلى نصفين، بل نقول: يا إلهي، ما لدينا فنحن فعلناه، ولا نتنازل أبدًا! نقول: نحن فعلنا! وأنت أيضًا وفّقتنا، ونحن لسنا مجحفين جدًّا، لكنّنا نقول: لا، ما هذا الكلام؟! نحن فعلنا الخيرات، وعندما نتعثّر في مكان ما، نأتي إلى السيّد ونقول: يا سيّد، لقد تعثّرنا هنا، يا سيّد، لقد حدث كذا، لم نوفّق في المكان الفلاني، في حين أنّ أصل القضيّة هو عدم التوفيق، وقولك "ماذا حدث؟" لا معنى له! بل إذا وُفِّقت، يجب أن تسأل ماذا حدث حتّى وُفِّقتُ وصلّيتُ أو أنفقتُ! على الإنسان أن يرى هذا الجانب دائمًا، وإلّا فالجانب الآخر طبيعيّ ولا معنى لسؤال "ماذا حدث؟!" حين التقصير، بل هو ما يجب أن يحدث، فأنا من رأسي إلى أخمص قدميّ ذنب وعصيان ومعصية، وإذا صلّيت يومًا ما، فيجب أن أفكّر مليًّا لماذا صلّيت! وإذا أنفقت فيجب أن أفكّر ماذا حدث حتّى أنفقت!
نحن ننسب الخيرات إلى أنفسنا، وبمجرّد أن تحدث زلّة، نقول: ماذا حدث؟! لا ينبغي لنا أن نرتكب هذه الزلّة. لماذا جعل الله مسبّب الأسبابِ الأسبابَ بحيث توقعنا في الزلّة؟! فلنذهب ولنأخذ بتلابيبه ونطالب بحقّنا! إن كنّا هكذا، فإنّ احتمال نجاحنا ضئيل! يجب أن نتّبع نهج الإمام السجّاد عليه السلام. نحن لا نملك ذلك الشهود الذي لدى الإمام عليه السلام، لذا يجب أن نجلس ونفكّر ونتأمّل باستمرار ونضرب على أنفسنا ونلتصق بذلك الطريق، لعلّ يد عناية الإمام السجّاد عليه السلام تأخذ بأيدينا أيضًا إن شاء الله، وتُشعل النار في الخرقة وكلّ ما هو رياء ونفاق ووجود، وتضرب كلّ شيء وتحرقه، ومن رماده تشرق حقيقة وجود الإنسان!
في النهاية، لقد انتهى شهر رمضان، ولا نعلم إن كان الغد من شهر رمضان أم لا، على كلّ حال، إن لم يكن غدًا ليلة العيد ولم يثبت الهلال، فلدينا محاضرة وسنواصل البحث، وإن كان كذلك، فإن شاء الله، إذا وُفِّقنا، سنواصل في العام القادم والأعوام القادمة. في هذا الشهر، بتعليمه هو وبكيفيّة بيانه هو، لم يصدر من أيدينا شيء سوى الذنب والعصيان والتمرّد. حقًّا، كنت جالسًا عصر اليوم أنظر إلى نفسي وأحدّثها. عندما كانت تقترب أواخر شهر رمضان، كان هذا الذكر دائمًا على لسان المرحوم العلامة: «انتهى شهر رمضان وأيدينا خالية»، وكنت أسمع هذا منه كلّ عام، واليوم رأيت أنّ هذه القضيّة، بدون مزاح أو تواضع، تصدق عليّ على الأقلّ.
خلاصة القول، لم نفعل شيئًا، ولكن من ناحية أخرى، فإنّ الله نفسه قد أعطى الأمل والبشرى بسعة رحمته وعنايته، وجعل الأئمّة عليهم السلام وإمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف وسائط لنا. إذًا، نحن نعيش على أمل الله، ويد توسّلنا ليست مقصّرة عن حبل أهل البيت عليهم السلام. إن شاء الله، يشملنا لطفهم وعنايتهم!
اللَهُمَّ صلِّ علی محمّد و آل محمّد