11

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين

السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

1
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنه 1421

التاريخ 1421/09/16


التوضيح

لماذا باب الارتباط بالله مفتوحٌ دائمًا في الإسلام خلافًا للديانات الأخرى؟ وما هي حقيقة السلوك إلى الله، هل هو بالادّعاء أم بالعمل؟ وما هو الذنب الذي يفوق القتل في بشاعته؟ تُجيبك هذه المحاضرة لآية الله السيد محمد محسن الطهرانيّ ـ التي عقدها لشرح دعاء أبي حمزة الثماليّ ـ عن هذه الأسئلة، مبيّنةً أن العلاقة مع الله تكوينيّة لا تنقطع، وأنّ الإيثار وصلة الرحم هما أساس الطريق إلى الله تعالى.

/۱۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

1
  •  

  • هوالعلیم

  •  

  • عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين

  • السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۱ هـ - الجلسة الحادية عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بالله مِن الشّيطان الرّجيم

  • بسمِ الله الرّحمٰن الرّحيم

  • الحمدُ لِله ربّ العالمينَ

  • وصلّى الله علَى سيّدنا ونبيّنا أبي ‌القاسمِ محمّدٍ

  • وعلَى آله الطّيّبين الطّاهرينَ

  • ولَعنةُ الله علَى أعدائِهم ومخالِفيهم ومُعانديهم أجمعينَ

  •  

  •  

  • حمد الله في دين الإسلام لا يختصّ بزمانٍ معيّن

  • «اللَهُمَّ إِنِّي أَجِدُ سُبُلَ المَطَالِبِ إِلَيْكَ مُشْرَعَةً، وَمَنَاهِلَ الرَّجَاءِ إِلَيْكَ مُتْرَعَةً، وَالاسْتِعَانَةَ بِفَضْلِكَ لِمَنْ أَمَّلَكَ مُبَاحَةً، وَأَبْوَابَ الدُّعَاءِ إِلَيْكَ لِلصَّارِخِينَ مَفْتُوحَةً».

  • «يا إلهي، إنّي أرى سُبُل الطلب إليك مشرعةً [مفتوحة] للناس، وأرى ينابيع الرجاء لك فائضةً وغزيرةً وممتلئةً بالماء، وأرى طلب العون والمساعدة والاستفادة والاستعانة بفضلك مباحًا ومتاحًا وسهلاً ويسيرًا لمن يأملك، وأرى أبواب الدعاء والنجوى إليك مفتوحةً للذين ينادونك».

  • عندما يصف الإمام السجّاد عليه السلام الله تعالى ويحمده بتلك الأوصاف، فمن الطبيعيّ أن يكون الطريق إلى مثل هذا المحمود والمُثنى عليه مفتوحًا دائمًا، وألاّ يختصّ بوقتٍ دون آخر. الفرق بيننا وبين النصارى واليهود وسائر الملل هو أنّهم خصّصوا وقتًا معيّنًا لعبادة الله؛ فالنصارى لديهم يوم الأحد، واليهود يوم السبت، والبوذيّون أيضًا لديهم يوم خاصّ لصلاتهم، وبعض طوائفهم لديهم ساعة خاصّة.

  • يعني أنّه يجب عليهم أن يُناجوا الله في ذلك الوقت، فيذهبوا إلى الكنيسة يوم الأحد أو إلى الكنيس يوم السبت ويدعوا الله في ذلك اليوم؛ أمّا في الأيام الأخرى، فالطريق مُغلق، ولا علاقة بينهم وبين الله؛ وهذا يُعدّ نقصًا.

  • ارتباط الإنسان بالله قائمٌ على أساس الربط التكوينيّ

  • لماذا يجب على الإنسان أن يشعر بوجود حاجبٍ ويرى مانعًا بينه وبين ربّه؟! إنّ وجود الإنسان تكوينًا هو من الله، وأصل كيانه قائم به، فلماذا يجب أن يكون هناك اختلاف [بينهما] من الناحية التشريعيّة؟!

  • دعونا الآن من فقرات دعاء الإمام السجّاد عليه السلام. يريد الإنسان دائمًا أن يكون هناك رابط بينه وبين الشخص الذي كان يخضع لتربيته من الناحية الظاهريّة والاعتباريّة؛ على سبيل المثال، يريد الإنسان دائمًا أن يكون هناك رابط بينه وبين أمّه وبينه وبين أبيه؛ لأنّ وجوده منهما، وذلك التعلّق النسبيّ يقتضي أن يكون هناك ارتباط بينهما من الناحية الظاهريّة أيضًا.

  • إذا شعر في بعض الأوقات أنّ مسألةً أو كدورةً قد طرأت، وأنّ هذا الارتباط قد طرأ عليه التغيير وتأثّر، فإنّه يسعى لإصلاح هذا الأمر، ويحزن لمسألة أنّه: لماذا حصل قطعٌ في الارتباط بينه وبين أمّه، أو بينه وبين أبيه، أو بينه وبين أخيه وأمثال ذلك؟! ولماذا يجب أن يكون هناك انقطاع وفصل؟! [وسبب هذا الحُزن هو] لأنّ الإنسان يشعر في نفسه بوجود هذه العلاقة، ويعدّها حقًّا طبيعيًّا له.

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

3
  • أهميّة صلة الرحم في كلام الإمام الصادق عليه السلام

  • لذلك، فإنّ إحدى أهمّ المسائل هي مسألة صلة الرحم، وأسوأ المسائل هي مسألة قطيعة الرحم! قال الإمام الصادق عليه السلام:

  • في ليلة القدر، يأتي جبرائيل إلى الكعبة وبيت الله، وفي يده راية وعلم، فينصب ذلك العلم على سطح الكعبة، وتستولي جميعُ أجنحتِه ـ وهي كناية عن أبعاده وصفاته الوجوديّة وهيمنته وسيطرته على كلّ الأشياء ـ على شرق العالم وغربه، ولا يُبقي إلاّ على جناحين له ـ أي بُعدين وجوديّين ـ لليلة القدر، ويُخصّص هذين البُعدين الخاصّين من نعم الله وفيوضاته لجميع الأفراد المستيقظين في ليلة القدر ـ سواء كانوا يذكرون الله أو يقرؤون القرآن أو يصلّون ـ ويكون جميع أولئك الأفراد مشمولين بهذه الخصوصيّة المفاضة من جانب الله، إلاّ اثنين: قاطع الرحم، والذي يوقع الخلاف بين الإخوة الإيمانيّين؛ فهذان لا يكونان مشمولين بلطف الله وهذه النعمة الخاصّة.۱

  • لهذه الدرجة تعدّ مسألة صلة الرحم مهمّة! أنا لا أقول هذا من عندي، بل هي رواية!

  • المقصود هو أنّه: كما أوجد الله من الناحية التكوينيّة تعلّقات بين الحوادث والأشياء، فقد أعطى لها من الناحية التشريعيّة ومقام التربية قدرًا وقيمة وأهميّة. على سبيل المثال، أمّ الإنسان هي أمّه، مهما كانت، أو أب الإنسان هو أبوه، مهما كان.

  • لزوم المحافظة على صلة الرحم حتّى في حال وجود تضادّ عقائديّ

  • قال أحد الرفقاء للمرحوم العلاّمة: «إنّ أبي ليس مسلمًا في الأساس، وعقيدته غير صحيحة، وهو شيوعيّ، فكيف أتعامل معه؟!» فقال له: «عاملْهُ معاملة المسلم! إنّه أبوك، ولا ينبغي لك أن تنظر إليه من هذه الجهات».

  • قال النبيّ صلّى الله عليه وآله لذلك الشابّ الذي كان نصرانيًّا وأسلم وسأله: «عندما أعود، كيف أتعامل مع أبي وأمّي؟»: «كيف كنت تعاملهما حتى الآن؟ يجب أن تُؤدّي واجباتك تجاههما على نحوٍ أفضل من السابق!». ٢ حقًّا، إنّنا في غاية البؤس وبعيدون عن حقيقة المسائل والقضايا، حيث إنّنا بأيدينا نصنع القطيعة والفصل! وبأيدينا نُلقي الفرقة! فيبقى الإنسان حائرًا من شدة التعجّب! حتى الحيوان لا يفعل هذا! ومن الجيّد أنّ هذه المواضيع موجودة في الكتب والنصوص!

    1. لم أعثر على هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام، وعثرتُ على رواية تُشبهها منقولة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مستدرك الوسائل، ج ۷، ص ٤٥٩:
      عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَأْمُرُ اللَّهُ جَبْرَئِيلَ فَيَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ومَعَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ أَخْضَرَ فَيَرْكُزُ اللِّوَاءَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ولَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ مِنْهَا جَنَاحَانِ لَا يَنْشُرُهُمَا إِلاّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَيَنْشُرُهُمَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَيُجَاوِزَانِ الْمَشْرِقَ والْمَغْرِبَ ويَبُثُّ جَبْرَئِيلُ الْمَلَائِكَةَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَيُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ قَاعِدٍ وقَائِمٍ وذَاكِرٍ ومُصَلٍّ ويُصَافِحُونَهُمْ ويُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِمْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ».
      الشَّيْخُ أَبُو الْفُتُوحِ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْهُ: مِثْلَهُ وزَادَ فِي آخِرِهِ «فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى جَبْرَئِيلُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِحَوَائِجِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص فَيَقُولُونَ نَظَرَ إِلَيْهِمْ فَغَفَرَ لَهُمْ وعَفَا عَنْهُمْ إِلاّ عَنْ أَرْبَعَةٍ مُدْمِنِ الْخَمْرِ وعَاقِّ الْوَالِدَيْنِ وقَاطِعِ الرَّحِمِ والسَّاحِر». المعرّب
    2. الكافي، ج ٢، ص ۱٦۰.

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

4
  • صلة الرحم وإيجاد المحبّة بين مؤمنَين من أفضل الحسنات

  • كنّا مرّة في مكان ما، وكان الحديث يدور حول بعض المسائل والمشاكل، فقال أحدهم: «لا سامح الله أولئك الأفراد الذين يتواجدون حولنا ويخلقون المشاكل». فقلت: يا سيّد، ما شأن مَن حولنا؟! الأمر بأيدينا، فلماذا نلقي باللوم على مَن حولنا؟! فالأمر بيد هذا الشخص الفقير الحقير المُقصّر! وعندما نفرغ من محاسبة أنفسنا، حينها نلتفت إلى مَن حولنا. بعض هؤلاء الذين حولنا يمارسون الشيطنة؛ هذا في محلّه، ولكن لماذا نلقي بالذنب على هذا وذاك، ثمّ نرفع المصاحف على رؤوسنا وندعو: «بِكَ يَا اللهُ»؟! كلّ هذا لأنّنا لا نفهم ونخدع أنفسنا! من الذي نريد التلاعب به؟! هل نتلاعب بالملائكة؟! إنّهم لا يُخدعون! قل أنت باستمرار: «بِكَ يَا اللهُ، إِلَهِي بِمُحَمَّدٍ، إِلَهِي بِعَلِيٍّ»۱، وهم أيضًا سيقولون: «ردّدها ما شئت حتى يبحّ صوتُك، فلن ندع [دعاءك] يتجاوز سقف الغرفة! اذهب وأصلح تلك المسألة الباطنيّة والنفسيّة وعلاقتك!». قلّما نجد في النصوص حسنةً أهمّ من صلة الرحم وإيجاد الارتباط والمحبّة بين مؤمنَين!

  • سيرة أهل البيت عليهم السلام في السبق إلى إزالة الكدورة

  • حدثت مسألة مرّة بين الإمام الحسن المجتبى والإمام الحسين عليهما السلام، ويبدو أنّه لم تكن تتعلّق بهما أبدًا، بل كانت مرتبطة بالخارج. رأى شخصٌ سيّد الشهداء عليه السلام يذهب إلى منزل الإمام الحسن عليه السلام، فقال له: «يا حسين، إلى أين تذهب؟»، فقال عليه السلام: «أذهب إلى منزل أخي». قال الرجل: «ولماذا تذهب إلى هناك؟!»، فقال عليه السلام: «أريد أن أكون أنا المبادر في حلّ هذه المسألة، لأنّي أعلم أنّ أخي سيأتي، فأريد أن أذهب أنا قبل أن يأتي هو، لأنال الثواب».٢

  • حقًّا، أين نحن من كلّ هذا؟! أهل بيتنا كانوا هكذا وعلّمونا الطريق، ثم نأتي نحن ونُنزّل دينًا من عند أنفسنا ونشرّع شريعة ونجعل كتابًا ونُصدر أحكامًا ونقول: «هذا حرام وذاك حلال، ولسنا بحاجةٍ إلى شيء!». يا هذا، إنّك لا تحسن طبخ حساء اللحم! إنّك تضع الحمص أكثر من اللازم في حسائك، ثمّ تأتي وتُصدر حكمًا! ثمّ تحكم بأنّ هذه المسألة كذا وتلك كذا! كلّ هذا لعب! ثمّ نقول باستمرار: «إنّنا سالكون!»، مع أنّ قولنا: «إنّنا سالِكون» بهذا الحال لا يختلف سواء نطقت كلمة «سالِك» بالكسرة أم بالفتحة.٣ فمن هو السالك؟!

    1. زاد المعاد، ص ۱٢٦.
    2. المحجّة البيضاء، ج ٤، ص ٢٢۸، مع اختلاف يسير.
    3. "سالَك" بالفتحة في اللغة الفارسيّة هو مرض جلديّ يُطلق عليه في العربيّة اسم: داء الليشامانيات الجلديّ. المعرّب

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

5
  • فتح الباب للسالك لا يتيسّر إلاّ من خلال العمل بالتعاليم

  • يُنقل أنّ رفقاء بعض المدن دعوا المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه في إحدى سفراته من مشهد إلى طهران إلى منزلهم ـ طبعًا أنا لم أكن في ذلك المجلس ـ ودار الحديث حول أن ينصحهم ليفعلوا شيئًا.

  • «يا سيّد، لقد توقّفنا ولا حركة لدينا! لماذا الوضع هكذا؟! لماذا لا نشعر بشيء؟! لماذا لا نسير في طريق ولا حال لدينا؟! خلاصة القول، ليس لدينا أيّ تقدّم! يا سيّد، نحن لا نفهم شيئًا!». فتأمّل قليلاً، ثم أخذ استخارة هل يقول شيئًا أم لا! وهل في ذلك فائدة أم لا! ويبدو أنّ الاستخارة جاءت متوسّطة، ولم تأتِ جيّدة! من القبيح جدًا أن يأخذ المرحوم العلاّمة استخارةً بعد عمرٍ طويلٍ وبهذه اللحية البيضاء ـ طبعًا أنا أُحدّث نفسي ولا أريد أن أُخاطب غيري ـ هل يتكلّم أم لا! فكلّ هؤلاء الأفراد الذين كانوا يسألونه هذا السؤال كانت لحاهم بيضاء، ولم تكن في وجوههم شعرة سوداء واحدة! ثم بدأ بالكلام وقال: 

  • ماذا تريدون منّي؟! لماذا لم تسيروا في الطريق؟! لماذا ليس لديكم إحساس؟! ماذا فعلتم أنتم؟! أيّ عمل قمتم به؟! أيّة خطوة خطوتموها؟! هل عملتم بتكليفكم؟! هل عملتم بما سمعتموه من الأعاظم، حتّى تأتوا الآن وتعاتبونني، وفوق ذلك لديكم الجرأة لتقولوا وتشتكوا: «يا سيّد، إنّنا لا نشعر بشيء؟! يا سيّد، إنّنا لا نفهم شيئًا؟!». ماذا أفعل أنا حتّى تشعروا؟! هل عملتم حقًا بتكليفكم أم أنّكم لم تأخذوا المسألة على محمل الجدّ؟! بأيّهما عملتم؟! يا فلان، هل عملت بذلك الكلام الذي قلتُه لك في المرّة السابقة؟! يا فلان، عندما قلت لك أن أعطِ مالاً للسيّد الفلاني، قلت لي: «هل أعطيه من سهم الإمام؟!». فقلت لك: «لا، أعطِه من جيبك المبارك!».

  • هذه المواضيع التي أذكرها لكم هي خطاب لنفسي؛ ولكن، من باب أنّنا نجلس معًا في النهاية، فأتكلّم. عندما يأتي شخص لدفع الحقوق الشرعيّة ـ وطبعًا يوجد الكثير من هؤلاء ـ يقول لي: «كم تبلغ حقوقي؟». بمجرّد أن يتمّ تحديد المبلغ، يُخرج ورقة من جيبه فجأة ويقول: «إنّ قريبي الفلاني محتاج». أتحرّى قليلاً ثمّ أقول له: «كلاّ، لا يستحقّ». فيقول: «لماذا لا يستحقّ؟!». أقول: «إذا كان فقيرًا ويستحقّ، وكنت تشفق عليه كثيرًا، فأعطه من جيبك المبارك، لماذا تريد أن تنفق وتعطي من أموال وكيس إمام الزمان؟!».

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

6
  • جاءني أحدُهم ليدفع حقوقه الشرعيّة، وكانت تبلغ مليونًا تقريبًا. قال لي: «يوجد في عائلتي محتاج». سألته عن قريبه فوجدته محتاجًا حقًّا. ثمّ قلت له: «ستقول له: إنّ هذه حقوق شرعيّة استجزتُ في دفعها لك من شخص ما. يجب أن تقول هكذا بالضبط، فإن قلت ذلك برئت ذمّتك، وإن لم تقل لم تبرأ ذمّتك!». فتردّد قليلاً! قلت: «هل تريد أن تذهب وتقول: إنّك أعطيتها من جيبي؟!». يحسب معي المال، ثمّ يذهب ويقول لذلك الشخص: «إنّي أعطيه من عندي»! هذا يسمّى نوعًا من التحايل! قلت له: «عندما تعطيه المال، لا تذكر اسمي أيضًا، بل قل فقط إنّ شخصًا ما دفع حقوقه الشرعيّة وهذا ماله وليس مالي. إذا كنت ستفعل ذلك بهذا الشرط، فأنا أقبل، وإلاّ فلا أقبل، واذهب إلى أيّ مكتب وعند أيّ شخص آخر تريد!». يُمكن خداع أيّ أحد، لكن لا يُمكن خداع الله والاحتيال عليه!

  • قال المرحوم العلاّمة لشخص آخر من هؤلاء الذين جاؤوا إليه: 

  • يا فلان، كان لديك بستانًا مساحته أربعة آلاف متر، وثلاثة من رفقائك في هذه المدينة نفسها كانوا يعيشون مع نسائهم وأطفالهم في ثلاث غرف، وأنت قسّمت هذا البستان، ولم تعطهِم مائتي متر من أراضيه حتى بالتقسيط! كيف يكون هذا؟! كنت ستعطيهم بالتقسيط لا أن تعطيها مجانًا، أمّا مجانًا، فلا يمكن الحديث عن ذلك بتاتًا! ستُصيبك سكتة قلبيّة! أعطِ رفقاءك هؤلاء، إنّهم مساكين لا يملكون شيئًا، فهل الفقر ذنب؟! هل الفقر عيب؟! إذا كان لديك، فأعطهم بالتقسيط. في غرفة واحدة يعيش شخص مع زوجته وأطفاله، وفي غرفة أخرى شخص آخر مع زوجته وأطفاله، وفي الغرفة الثالثة كذلك، ثمّ تأتي أنت يا حضرة فلان، ولديك أربعة آلاف متر من الأرض وليس لديك أيّ طفل، بل أنت وزوجتك فقط! ثمّ تقول: «يا سيّد، لم نصل، ماذا نفعل؟!». إذا كان الأمر يقتصر على مجرد اسم السلوك، فلماذا نخدع أنفسنا بهذه الأسماء؟!

  • إذا كان الأمر يتعلّق بحقيقة السلوك والعمل به، فهل هؤلاء الشباب الأنقياء الأطهار الذين يبذلون أرواحهم الآن في الجبهات۱ هم السالكون، أم نحن السالكون؟! إنّه يذهب إلى الجبهة بدافع الصفاء والإخلاص، ودفاعًا عن الإسلام، وبنيّة خالصة لله، وبنيّة سليمة، ولأنّ مرجع تقليده قد حكم بالجهاد، فيقاتل عدو الله.

    1. كانت الحرب في ذلك الزمان مندلعة بين إيران والعراق.

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

7
  • هل أنتم أقرب إلى الله أم هؤلاء أقرب؟! هل أنتم عملتم بهذه المسائل أم هؤلاء يعملون؟! أنت لا تستطيع أن تتخلّى عن أرض مساحتها مائتا متر! حتى بالتقسيط لا تستطيع أن تُعطيها، بينما هو يُبذل روحه!

  • نادرًا ما كان يحدث أن يُشدّد المرحوم العلاّمة على بعض الأفراد؛ لكن، في حالة واحدة رأيته غضب جدًا على شخص وقال له: «أعطِ هذا الشخص مائتي متر من هذه الأراضي ولا تُحدّد أيّ أجل لأخذ ثمنها!». فقال هو: «سمعًا وطاعة»، ولم يُحدّد أجلاً.

  • يا سيّدي، كان هناك أفرادٌ بذلوا جميع أموالهم في سبيل الله، واكتفوا ببعض هذه المهن المتواضعة جدًّا، حتى يصلوا إلى مراتب تكون مراتبهم بالنسبة لما نسعى إليه نحن ذرّةً من كثير، وقطرةً من بحر، وحصاةً من صحراء! لقد بذلوا كلّ ما يملكون في سبيل الله، ثم نأتي نحن بهذا الادّعاء والأيدي الخالية!

  • السلوك بالعمل لا بالادّعاء

  • أحد هؤلاء الأفراد، وهو من أهل تبريز، كان ثريًّا جدًا ومرجعًا للناس ومن أثرياء منطقته. كان هذا الشخص يملك بُستانًا في تلك المنطقة ومحلاًّ تجاريًّا في سوق تبريز، ولكنّه أنفق كلّ ما يملك في سبيل الله وأعطاه للفقراء، ثم ذهب إلى النجف وانشغل بالرياضات الروحيّة لسنوات.

  • اتّخذ حجرةً في مسجد الكوفة، وكان على تواصل مع الأفراد الذين يأتون إلى هناك، وكان من أولئك الذين يبحثون عن الإمام والولاية. بالطبع، أعطاه الله أيضًا أشياء في مقابل هذا الإيثار والتضحية والإنفاق؛ ولكنّ ما وجده هو لا يُحسب شيئًا بتاتًا بالنسبة لما رأيناه من الأعاظم وما نسعى إليه!

  • هؤلاء قاموا بمثل هذه الأعمال! أمّا نحن، فإذا تقلّب الوضع قليلاً، نقول: «يا سيّد، لماذا اضطربت حياتنا؟!». انظروا ماذا فعل الآخرون ولم تكن لديهم هذه الادّعاءات! إذا كان الأمر هكذا، فهو السالك. ثمّ نُطلق على أنفسنا باستمرار اسم «سالك»! لا يصبح المرء سالكًا بالكلام! لذلك، المسألة حسّاسة ومهمّة جدًا! إنّ الانشغال والتلهّي بمواضيع لا يُطلب منها إلاّ التسلية، لا يوصل الإنسان إلى مكان، ولا يبلغ به مقصدًا.

  • الربط والتعلّق الدائم بين العبد وربّه دون حاجب أو مانع

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

8
  • هذه مسألة حقيقيّة؛ أي عندما يكون للإنسان ارتباط بشخص ما وهذا الارتباط تكوينيّ، فإنّ الله قد جعل هذا الارتباط التكوينيّ ـ بناءً على حقيقة التعلّق والربط القام بينه وبين خلقه ـ موضع تقدير وقيمة ومسؤوليّة. لذلك، فإنّ احترام الأب والأمّ من أوجب الواجبات، ويجب المحافظة على كلّ هذه الأمور.

  • حسنًا، إذا كان الأمر هكذا في المسائل العاديّة والنسبيّة، فكيف يمكن أن يكون هناك حاجب ومانع بين الإنسان ـ الذي وجوده عين التعلّق بالله ـ وبين ربّه؟! يقول الله تعالى للنصارى: «إنّ العلاقة بيني وبينكم مقطوعة لستّة أيام في الأسبوع، ولا تتّصل هذه العلاقة إلاّ يوم الأحد!»؛ هذا مانع. ويقول لليهود: «إنّ العلاقة مقطوعة لستّة أيام في الأسبوع، ولا تتّصل إلاّ يوم السبت!»؛ وهذا أيضًا مانع.

  • هذا الارتباط هو ارتباط حقيقيّ وتكوينيّ، فلماذا يجب أن ينقطع؟! كيف يُمكن أن يكون الأمر كذلك؟! هل سبب انقطاع الارتباط هو من ناحية الفاعل أم من ناحية القابل؟! من ناحية الفاعل، يعني أنّ الفاعل ـ أي الله ـ مشغول وليس لديه وقت، وينشغل بتدبير العوالم، وقد خصّص وقتًا معيّنًا فقط للارتباط! مثل مسؤول دائرة يُخصّص نصف ساعة في اليوم لمراجعات الناس؛ ولكن، كلمّا نراجعه يقولون: «لديه اجتماع في اللجنة!»، بينما هم في الحقيقة يشربون الشاي! وعندما يريدون المغادرة يقولون: «اطرح طلبك على هذا الموظّف وراجعه!». هل الله أيضًا مشغول إلى هذا الحدّ حتّى لا تكون لديه فرصة للردّ على أصحاب الحاجات؟! إذا كان الأمر كذلك، فهيهات!

  • استحالة وجود المانع والحاجب في الارتباط بين العبد وربّه

  • إنّ الضعف والنقص والفراغ في الذات الربوبيّة مستحيل. ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾۱؛ أي: لا يغيب عن علمه في جميع السماوات والأرض مقدار ذرّة. هل تعلمون ما هي الذرّة؟! عندما يدخل نور الشمس من النافذة إلى الغرفة وتنظرون، ترون ذرّات الغبار معلّقة في الهواء؛ في اللغة العربيّة يسمّون هذه ذرّة. يعني أنّ الله في عالم الوجود لا يغفل بمقدار ذرّة واحدة عمّا هو موجود في كلّ العالم! هذا هو الله الذي وصفوه لنا ونعرفه. إذًا، من ناحية الفاعل لا يوجد مانع.

    1. سورة سبأ، الآية ٣.

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

9
  • الاستعداد الدائم لفتح الباب من جهة القابل

  • هل يوجد نقص ومانع من ناحية القابل؟! لدينا نقص، ولكنّ هذا النقص لا يُوجب عدم الارتباط وانقطاع التعلّق والوصل بالله. نحن لا نرى أبدًا في وجودنا مانعًا لإيجاد علقة ورابطة مع الله.

  • ما الفرق بيننا وبين النصارى واليهود؟ هل إذا رجعنا الآن إلى وجداننا وسرّنا ونفسنا، نرى مانعًا بيننا وبين الله؟! إذا رجعتم الآن إلى أنفسكم، وإلى نسبتكم إلى شخص وصديق موجود في مكان ما، فسترون أنّ بينكم وبينه مانعًا؛ أنتم هنا وهو في بلد آخر، ولكي تصلوا إليه يجب أن تذهبوا إلى السفارة، وتأخذوا تأشيرة، وتُعدّوا مقدّمات السفر وتجمعوا الأمتعة، ثم تتحرّكوا. بالطبع، إذا كان هذا ممكنًا لكم، وإذا كانت هناك علاقات بين هذا البلد وذاك البلد. تذهبون إلى هناك وتصلون إليه. هنا، ترون مانعًا بينكم وبين الصديق الذي لديكم في مكان ما من ناحية الاتّصال، حيث يجب ـ على سبيل المثال ـ أن يكون هناك هاتف لتطلبوا الرقم، بالطبع إذا كان ذلك الشخص يملك هاتفًا أو كنتم أنتم تملكون هاتفًا هنا، وإذا كان هناك خطّ هاتف أصلاً، و ...؛ ولكن، في كلّ ليل ونهار، لا يشعر الإنسان بلحظة واحدة بوجود مانع أو حاجب بينه وبين الله! هذا غير ممكن أبدًا! إذًا، عندما لا يكون هناك مانع، ومن ناحية القابل يوجد دائمًا استعداد لفتح الباب، فما المانع الذي يمكن أن يكون بين الإنسان وربّه؟!

  • حكاية الرجل اليائس من رحمة الله وكلام الإمام الكاظم عليه السلام

  • دخل رجل على الإمام الكاظم عليه السلام وقال: 

  • يا ابن رسول الله، ذهبت اليوم إلى منزل فلان من أصدقائي، ولم أكن قد رأيته منذ وقت طويل. كان شهر رمضان، فرأيته يفطر في نهار رمضان! قلت: «ألست صائمًا؟!». قال: «لا». قلت: «لماذا؟!». قال: «لو صمتُ لما كان في ذلك فائدة! فلماذا أصوم؟!». قلت: «كيف ذلك؟!». قال: «لديّ قصة في حياتي، وبالنظر إلى تلك القصّة، أعلم أنّي من أهل النار، فلم تعُد هناك فائدة!». قلت: «ما هي القصّة؟». قال: «منذ سنوات، في منتصف إحدى الليالي، سمعت طرقًا على الباب. ذهبت إلى الباب فرأيت حاجب هارون قد جاءني وقال: "الخليفة يدعوك!". قلت في نفسي: "لا يطلبون أحدًا في منتصف الليل! لا بدّ أنّه يقصد عقابي أو الإساءة إليّ!". ارتديت ملابسي وذهبت إلى هارون فرأيته جالسًا. عندما رآني، قام على عكس توقّعي وتلاطف معي. شعرت ببعض الطمأنينة وقلت: "لأيّ شيء دعاني الخليفة؟". قال: "ماذا تخمّن أنت؟". قلت: "لا أخمّن شيئًا". قال: "هل إذا سمعت منّا أمرًا، تطيع؟". قلت: "كلّ ما أملك فداء للخليفة! روحي فداء للخليفة!". قال: "إلى أيّ حدّ يمكنك أن تُؤثر وتُضحّي في سبيلنا؟". قلت: "يُمكنني في سبيل الخليفة أن أتخلّى عن كلّ أموالي، بل يمكنني في سبيل الخليفة أن أتخلّى عن زوجتي وأبنائي!". ضحك الخليفة وصرفني. فعُدتُ إلى منزلي وخلعت ملابسي، وما أن أردت أن أنام، حتّى سمعت طرقًا على الباب مرّة أخرى. قلت في نفسي: "يا إلهي، ماذا قلت أنا حتى يطرقوا الباب مرة أخرى؟!". فتحت الباب فرأيت الحاجب. قال: "الخليفة يدعوك". قبل أن أذهب، أوصيت زوجتي وقلت لها: "أظنّ أنّ هناك أمرًا ما، لأنّهم لم يعاملوني هكذا من قبل".

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

10
  • أتيتُ إلى هارون، فقال لي: "تخلّيتَ عن مالك وزوجتك وأبنائك، فالآن إلى أيّ حدّ يُمكنك أن تُؤثر بنفسك في سبيلنا؟!". قلت: "ليسلم الخليفة، يُمكنني أن أتخلّى عن روحي أيضًا!". (يا له من رجل أحمق!) صرفني الخليفة وعدتُ إلى المنزل. خلعتُ ملابسي مرّة أخرى، وما أن أردت أن أنام، حتّى طرقوا الباب مرّة أخرى. قلت: "عجبًا! هذه المرّة موتي محتوم، لا بدّ أنّه يقصد شيئًا. وقد بذلت روحي أيضًا! الآن سيقول: أنت قلت إنّك تتخلّى عن روحك!". ذهبت إلى الخليفة مرّة أخرى، وعندما وقعت عين الخليفة عليّ، قال: "تخلّيت عن مالك وروحك، فهل بقي شيء لتعطيه في سبيلنا؟". قلت: "أيّها الخليفة، لقد تخلّيت عن ديني أيضًا في سبيلك!". قال: "أحسنت، هذا ما كنت أريده منك، الآن استمع إلى كلّ ما يقوله هذا الرجل!". فانطلقت معه.

  • دخلنا أحد سجون بغداد. كان مظلمًا جدًا، وكان [مرافقي] يحمل مصباحًا بيده ويمضي إلى الأمام حتّى وصلنا إلى سجن مخيف جدًّا، وكانت أصوات الأنين والصراخ تتعالى من هذا السجن. فتح باب السجن ونظرت بالمصباح، فرأيت مجموعة من الشيوخ والشباب البائسين ملقون على الأرض! قال لي ذلك الرجل: "هل تعرف من هؤلاء؟! كلّهم من بني هاشم". ثمّ دعا واحدًا منهم، وكان شيخًا في الستّين من عمره، سحب سيفه وقال: "اضرب عنقه!". قلت: "وماذا لو لم أفعل؟". قال ذلك الرجل: "أمر هارون أن أضرب عنقك إن لم تضرب عنقه!". مهما توسّل ذلك الشيخ وقال: "ما ذنبنا نحن؟!"، لكنّي ضربت عنقه! (يَغْلِبُنِي هَوَاهُ؛ لقد غلبني الهوى). لقد بذلت ديني، والآن وقد أعطيت ديني لحضرة الخليفة، يجب أن أفي بكلامي. الرجل وكلمته! وقد بذلتُ عِرضي وأبنائي أيضًا! خلاصة القول، قتلت الأوّل بألف عناء. أخرج الثاني وكان شيخًا أيضًا، فقتلته. كان بينهم شباب وأطفال أيضًا. في تلك الليلة قتلت ستّين منهم! في النهاية، أصبح الأمر سهلاً عليّ. كان قتل الأوّل والثاني والثالث صعبًا عليّ، ولكن بعد ذلك، اعتدتُ على الأمر، وكأنّي أذبح دجاجة! ثمّ عدتُ إلى هارون فقال: "اذهب ولا تخبر أحدًا بهذه القصّة!". والآن بالنظر إلى هذه القصّة، أعلم أنّي من أهل النار، فلماذا أصوم؟! سواء صمت أم لم أصم، لا فرق».

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

11
  • فقال الإمام الكاظم عليه السلام [ما معناه]: «إنّ ذنب اليأس من رحمة الله أعظم بالنسبة له من قتله أولئك الستّين شخصًا!».۱

  • لأنّه يائس وقانط من رحمة الله، فإنّه يرى الباب مغلقًا بينه وبينه تعالى! الآن وقد ارتكبت ذنبًا وقتلت ستّين شخصًا ـ وبالطبع هي مسألة صعبة جدًا وليست مسألة سهلة ـ ولكن في النهاية، لا يزال لديك وجود، وتعلّقك بالله لم ينقطع، وهذا الذنب [اليأس] أعظم!

  • إذًا، كيف وأين يُمكن للإنسان أن يرى وجوده في لحظة من اللحظات محجوبًا عن ذلك الوجود؟! وأنّى للإنسان أن يشعر بأنّ هذا الارتباط قد انقطع للحظة من اللحظات؟! لا يُمكن أن يكون الأمر هكذا أبدًا!

  • مدرسة التشيّع، المدرسة الحيّة الوحيدة في العالم

  • لهذا، وباعتراف أصحاب الرأي أنفسهم، فإنّ المدرسة الحيّة هي تلك التي تُبقي باب الربط والتعلّق بين الإنسان وربّه مفتوحًا دائمًا، كلّ يوم، كلّ ساعة، كلّ دقيقة، وكلّ لحظة، لا أن يكون هذا الارتباط قائمًا فقط في أيّام الأحد أو فقط في أيّام السبت.

  • «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَر»؛٢ أي أنّ الصلاة أفضل حكم شرّعه الله؛ فمن شاء قلّل منها ومن شاء أكثر. 

  • بالطبع، هناك مواطن للكراهة أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، تُكره الصلاة في الحمّام والشوارع، ولكنّ الربط والدعاء موجودان دائمًا، وذلك التعلّق قائم دائمًا.

  • رؤية هنري كوربان بشأن حقّانيّة الإسلام

  • هذه المسألة بالذات هي التي دفعت هنري كوربان، الذي كان على صلة بالمرحوم العلامة الطباطبائيّ، إلى أن يقول: 

  • إنّي من خلال مقارنة خصوصيّات ومزايا مدرسة النصرانيّة واليهوديّة وسائر المدارس مع الإسلام ـ الذي يُبقي باب التواصل والتعلّق هذا مفتوحًا دائمًا ـ قد وصلت إلى حقّانيّة الإسلام، وأنّ هذا الدين لا بدّ أن يكون حقًّا وصحيحًا. فهذا دين لم يضع بتاتًا أيَّ حدّ أو قيد لارتباط الإنسان بالله.٣

  • توزيع الصلوات من أجل استمرارية الارتباط بالله

  • [فمن أجل استمراريّة الارتباط] قسّم الشارعُ الليلَ والنهار إلى خمسة أوقات، حتى تُصلّي في كلّ وقت صلاة؛ صلاة في الصباح، وصلاة في الظهر، وصلاة في العصر، وصلاة في المغرب، وصلاة في الليل، فلا يجب أن تُصلّيها كلّها معًا. وفوق ذلك، وضع النوافل قبلها وبعدها، بحيث إذا حسبتها، ستجد نفسك تقريبًا في حالة صلاة وتوجّه طوال الأربع والعشرين ساعة.. هذا من أجل دوام الارتباط واستمراره.

    1. عيون أخبار الرضا، ج ٢، ص ۱۰۰.
    2. إرشاد القلوب، ج ۱، ص ۱٣٩؛ الإقبال، ج ۱، ص ۱۰، مع اختلاف يسير.
    3. راجع: معرفة الإمام، ج ۱۸، ص ٢٥۷.

عدم محدوديّة الارتباط بالله بزمان ومكان خاصّين - السلوك يكون بالعمل لا بالادّعاء

12
  • مواظبة النبيّ والأئمّة والأولياء على الارتباط الدائم بالله

  • يقول النبيّ صلّى الله عليه وآله: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً»۱؛ أي: إنّ ارتباطي بالمجتمع ليس خاليًا من الضرر؛ وهذا النوع من الارتباط، حتى وإن كان قائمًا على أساس الأحكام والارتباطات المعنويّة، لكنّه في النهاية لا يخلو من تأثير على تلك الجهة الدقيقة واللطيفة من ربطي بالله. «لَيُغَانُ» تعني الغطاء والستر بشيء رقيق. هذا الأمر ليس مزاحًا!

  • يقول النبيّ صلّى الله عليه وآله: إنّي أستغفر دائمًا كلّ يوم سبعين مرّة حتّى يزول ذلك الغين والستر باستمرار، وأستغفر دائمًا ولا أدع شيئًا يبقى حتى يتحوّل إلى وسخ ويشتدّ. فبمجرّد أن أشعر بأنّ [الأوضاع] قد اختلفت عن نصف الساعة الماضية، أستغفر فورًا ولا أنتظر حتّى وقت الصلاة، بل أُصلح الأمر في مكانه، ثم أمضي قُدمًا وأصل إلى الأوقات الأخرى.

  • هؤلاء كانوا أفرادًا يواظبون على أوقاتهم؛ لأنّهم كانوا يعلمون كم هي المسألة مهمّة! كان الأئمّة وسائر الأولياء يعلمون أنّهم إن لم يفعلوا ذلك، فقد خُدعوا! لأنّهم كانوا على اطّلاع على مقام عزّ الربوبيّة ونعم الله التي لا تُحدّ وعلى إطلاقه تعالى، وإلاّ فلماذا كان النبيّ يفعل ذلك؟! بل كان سيترك الأمر ويقول: سواء استغفرنا أم لم نستغفر، سنستغفر عندما نُصلّي وقت الظهر!

  • يعلم رسول الله أنّه لو لم يُصلح هذه القضيّة في الحال، فإنّ هذه النفس التي هي الآن ـ ولو في ارتباطها بالناس ـ عليها غين، ليست عديمة الأثر بهذا المقدار، بل تؤثّر؛ وإلاّ، لو كان غير مبالٍ، لما فعل ذلك، وتجاوز المسألة. هذا لأنّ أهميّة المسألة ظاهرةٌ للنبيّ.

  • لذلك، فإنّ باب الطلب والارتباط بالله قائم في الإسلام دائمًا. هذا من جهة الإسلام؛ أمّا الجهة السلوكيّة، فسنطرحها إن شاء الله في المجالس القادمة. لم يبقَ إلاّ ليالٍ قليلة، وقد انتهى شهر رمضان! حقًّا إنّ أيدينا خالية! إلاّ أن ينظر إلينا الله تعالى بلطفه وكرمه، وإلاّ فلا يوجد شيء من هذا الجانب.

  •  

  • اللَهُمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

    1. إرشاد القلوب، ج ۱، ص ٤٥، مع اختلاف يسير؛ مستدرك الوسائل، ج ٥، ص ٣٢۰؛ مع اختلاف يسير.