المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنه 1421
التاريخ 1421/09/25
التوضيح
لماذا يضلّ بعض العلماء ويحتكرون الدين؟ ما هو المعيار الحقيقيّ للسالك إلى الله؟ ما اهي النصائح المتبادلة بين العلامة الطهراني وآية الله الخمينيّ في بدايات الثورة؟ تجيبك هذه المحاضرة التي ألقاها آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني عن هذه الأسئلة وغيرها.
هوالعلیم
سبيل الله للناس كافّة
جوانب من سياسة العلامة الطهراني
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۱ هـ - الجلسة الرابعة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحیم
وصلَّی اللهُ عَلَی سیدِنا ونبِیِّنا أبیالقاسِمِ محمدٍ
وعلی آلِهِ الطَّیبینَ الطَّاهرینَ
واللعنةُ عَلَی أعدائِهم أجمَعینَ
«اللَهُمَّ إنِّي أَجِدُ سُبُلَ المَطالِبِ إلَيكَ مُشرَعَةً، ومَناهِلَ الرَّجاءِ إلَيكَ مُترَعَةً».
يا إلهي، إنّي أرى سُبُلَ الطلب إليك مفتوحة أمام الناس، وأرى ينابيع الرجاء لديك فائضة وغزيرة وممتلئة بالماء.
خلاصة الجلسة السابقة
تقدّم في الجلسة الماضية أنّ ما يطلبه الناس متفاوت، وأنّ الطلب والإرادة يختلفان عند الناس . فأوّلًا، لو كان الطلب واحدًا، فإنّ الطريق للوصول إلى ذلك الطلب قد يكون مختلفًا. ونحن نرى هذا الاختلاف في الأمور الماديّة والدنيويّة، حيث توجد في هذا العالَم طُرق مختلفة للوصول إلى مقصدٍ ما، ويسعى الإنسان إلى أن يطوي أقصر وأقلّ مسافة للوصول إلى ذلك المطلوب.
فمن يريد مجرّد الوصول إلى المال والثروة، قد يبدأ من عملٍ صغير ثمّ يرتقي شيئًا فشيئًا، ولكن في بعض الأحيان قد يقدم على أعمال مخالفة للشرع والعرف ـ والتي يكون ثمنها باهظًا، لكن بيعها وشراءها محرّم شرعًا ـ ويوصل نفسه دفعةً واحدة إلى مرتبة عالية. وهذا الاحتمال موجود أيضًا، أن يبدأ من القليل ويتقدّم تدريجيًّا ليصل إلى مطلوبه، وربّما لا يصل.
غاية أهل الدنيا هي الوصول إلى أهدافهم وأطماعهم الدنيويّة
وربمّا يكون في الطرق الموجودة للوصول إلى المطلوب والمقصود في هذه الدنيا أمرٌ باطل، ومن وجهة نظر عبّاد الدنيا وأصحابها لا إشكال في ذلك أيضًا؛ لأنّ المقصد والغاية والمطلوب هو الدنيا، فلتتحصّل هذه الدنيا بأيّ نحوٍ كان.
هم يقولون إنّ الغاية تبرّر الوسيلة، وعندما يكون هدفٌ ما نصب عين الإنسان، فإنّه لا يبالي حينئذٍ بما إذا كان الطريق والمقدّمة الموصلة إلى ذلك الهدف والمقصد، مقدّمة شرعيّة أم مخالفة للشرع؟ أهي عقليّة أم مخالفة للعقل؟ أهي إنصاف أم جور؟ هو يريد الوصول إلى ذي المقدّمة والنتيجة المطلوبة، ونحن نرى هذا الأمر في جميع الأصناف والفئات. فالذي مقصده الدنيا، موجود في كلّ صنف.
فلأجل أن يصلوا إلى المال وهدفهم عن طريق الحرام، كم من الحيل التي يمارسونها! وكم من الخدع التي يفعلونها! وجميع الأصناف شركاء في هذه القضيّة ولا يختلفون، فالقصد هو الوصول إلى الدنيا والأطماع الدنيويّة.
ذات يوم، كنت ذاهبًا مع أحد الأقارب والرفقاء في خدمة المرحوم العلامة لزيارة الطبيب، عندما كانت قد أصيبت عينه بعارض انفصال الشبكيّة (décollement). وذلك الذي كان من الأرحام هو شخصيّة معروفة. وفي السياّرة، جرى الحديث بمناسبة ما ووصل إلى هنا، حيث قال المرحوم العلامة: أنا لم أقل هذا الموضوع لأحد حتى الآن؛ في سنة ٤٢ [شمسي] عندما كنت أتعاون مع السيّد الخمينيّ في قضايا الثورة، وكان تعاونًا وثيقًا ومؤكّدًا للغاية، كتب لي السيّد الخميني في رسالة: يا سيّد محمد حسين! لا يمكنك أن تُلزم وتقنع هؤلاء العلماء والأفراد الذين سعوا عمرًا كاملًا للوصول إلى هذه المناصب الوظيفيّة التي يشغلونها، إلى إمامة جماعة المسجد وكسب المريدين والأتباع وأمثال هذه الأمور، بأن يتخلّوا عن كلّ هذه المسائل وينصروا جانب الحقّ وإن كان هذا الحقّ يضرّ بمصالحهم الدنيويّة.
فإذن، لكي تتمكّن من الوصول إلى مقصودك، عليك أن تجد الطرق التي يتعلّقون بها، ومن هناك تضغط على هذه الطبقة الدينيّة. فمثلًا، لو ذهبت إلى التجّار وجعلت التجّار الذين هم على صلة بهؤلاء على وفاق معك، فإنّ ذلك العالِم سيستسلم طبعًا! هذه هي المرّة الأولى التي أفشي فيها هذا الأمر.
في سنة ٤٢ [شمسي] عندما وقعت هذه الحادثة، كنتُ في الصفّ الثاني، وأذكر أنّ بعض الأفراد كانوا يأتون إلى المنزل في منتصف الليل ويحضرون رسائل من المرحوم السيّد الخميني، وكان المرحوم العلامة يطالعها ثمّ يجري عليها تعديلات، فيأخذونها ويوصلونها إليه. وأظنّ أنّ بعض أولئك الأفراد لا يزالون على قيد الحياة.
العلامة الطهراني مخاطبًا آية الله الخميني: «اجعلوا نداءكم نداء الإسلام الشامل لجميع الناس!»
طبعًا، كان كلام السيّد الخميني كلامًا صحيحًا. ونظير هذا الموضوع هو الذي قاله المرحوم العلامة نفسه للسيّد الخميني مع اختلاف بسيط. لقد قال: يا سيّد روح الله، لا تعلّق قلبك بهؤلاء السادة الذين وصلوا إلى مراتب ومسائل من الشهرة والصيت والاعتباريّة والاجتهاد، ويشغلون مناصب التدريس والإفتاء والمرجعيّة!
لا يمكنك أن تجعل الذين يشغلون هذه المناصب، والذين أمضوا سنوات طويلة في فصل الصيف، ينزلون تلك السراديب ذات الأربعين درجة في النجف، ودرسوا لكي يصلوا يومًا ما إلى المرجعيّة والإفتاء والتدريس والمريدين، والآن بعد أن وصلوا إلى مثل هذا الوضع، أن تجعلهم متوافقين ومنسجمين مع مسلكك، وأن تجذبهم إليك!
كيف يمكن لأولئك أن يتجاهلوا جهود سنوات طويلة ويتخلّوا عن هذه الأمور، وينسوا تلك الرئاسة والمكانة والشهرة، وذلك المجيء والذهاب، والهيمنة والأُبّهة والعظمة، ويجلسوا على مائدة واحدة وطعام واحد وإناء واحد، حتّى لو كان كلّ هذا سيؤول إلى ضررهم؟!
أن يصبح المرء على نفس مسلك مثل السيّد الخميني يعني قبول هذا المسلك ووضع جميع المريدين والمسجد والمجيء والذهاب والمرجعيّة والمقلّدين في هذا الطريق. إنّ معنى أن يريد شخص أن يكون على نفس المسلك والأفق والمستوى مع آخر، هو أنّه يقول لمقلّديه أن يتبعوا ذلك الآخر، أو يقول: إذا أفتيت بالجهاد، فأنا أيضًا أفتي بالجهاد، وإذا أفتيت بالصلح، فأنا أيضًا أفتي بالصلح، وإذا أفتيت بالقيام، فأنا أيضًا أفتي بالقيام، ونتيجةً لذلك، تتبلور المحوريّة والمركزيّة في مثل السيّد الخمينيّ وتتركّز فيه.
كيف لإنسان أن يكون مستعدًّا لصرف أذهان مريديه عن التوجّه إليه، ويدعوهم إلى التوجّه إلى آخر! من المحال أن يفعل هذا. لو كان وجود شريك الباري ممكنًا، لكان هذا الأمر محالًا! شريك الباري يعني أن يكون للّه ندٌّ. ما أقوله لكم مبنيّ على البحث والتدقيق في أحوال الأفراد، لأنّي رأيت كلّ صنف وكلّ نوع من الناس.
فلهذا، قال المرحوم العلامة للمرحوم السيّد الخميني: لا تعتمد في دعوتك على العلماء، واجعل نداءك نداء الإسلام ونداءً عامًّا، حتّى يأتي تحت هذه الراية كلّ من هو مسلم، سواء كان رجلاً أو امرأة، عالمًا أو جاهلاً، طبيبًا أو بقّالًا أو قصّابًا أو بنّاءً أو معماريًّا أو مهندسًا أو حدّادًا أو نجّارًا، جميع الأفراد، كلّ من هو مسلم. لأنّ الإسلام مشترك ولا يقتصر على عمامة ولحية وعصا لتكون في مقابله مسائل أخرى. الإسلام عبارة عن الاعتقاد بمبادئ خاصّة والالتزام بمجموعة من العقائد. بسم الله، فليأتِ أيّ إنسان، فهو على العين والرأس.
المتبرّجات واللاتي كنّ في بيوت هي مراكز عامة للراقصات، يأتين تحت هذه الراية. أصلًا هذه العبارة كانت عبارته! هل تظنّون أنّ هؤلاء الذين يأتون ويذكرون الله كانوا من المتهجّدين في بطون أمّهاتهم ثمّ ولدوا؟! لا يا عزيزي، ليس الأمر كذلك.
لقد كانوا في السابق على كيفيّات خاصّة، وأحيانًا نلتقي بهم، وعندما ينظر الإنسان الآن يرى العجب! كم تقدّموا على الإنسان، تقدّموا لدرجة أنّ الإنسان لا يلحق بهم! حالاتهم وكيفيّاتهم وسلوكهم ووضعهم في المنزل أصبح بنحوٍ لا يلحق الإنسان به أصلاً.
أقول هذا بجدّ، نحن ندّعي أنّنا أبناء فلان وأنّ أبانا هو فلان، الادّعاءات لنا والأعمال لهم. هؤلاء هم الذين يذهبون لنصرة سيّد الشهداء وإمام الزمان، وإلّا فإنّ أولئك المتظاهرين بالقداسة هم أمثال عمر بن سعد الذي ذهب لقتال الإمام الحسين عليه السلام. إنّه لأمر عجيب جدًّا، هؤلاء هم أولئك، والأمر كذلك في كلّ زمان ولا يختلف!
في حين أنّ المرء، واللهِ، يعلم أنّ الجانب الآخر هو الحقّ، ويعلم أنّ ذلك الإنسان سليم، لكنّه يأبى أن يميل ذهنه وتوجّهه نحو جهة أخرى، ويعمل ضدّها، ويعتبر ميل الذهن إلى هذا كفرًا عظيمًا وشركًا لا يُغفر!
الدنيا كلّها تدور حول هذه القضيّة: أن أكون أنا ولا يكون غيري، أو إن كان غيري، أن أتفوّق عليه. فلو زالت هذه المسألة، لعمّ الصلح والصفاء في كلّ مكان، ولكنّها لن تزول أبدًا.
منطق الماديّين هو الوصول إلى الدنيا فقط
هذه الطرق هي طرق الدنيا. وطريق الدنيا وسيرها هو هذا: الغاية تبرّر الوسيلة. هذا هو هدف ومنطق الماديّين والشيوعيّين! هذا هو منطق الذين يقولون: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾۱، كلّ ما هنالك هو الدنيا. إن أخذت وضربت وقيّدت ونهبت وأكلت أموال الناس، فقد فزت، وإلاّ فليس بعد هذه الدنيا من خبر!
هذا المنطق هو منطق الماديّين. هم لا يؤمنون بمعادٍ ولا آخرة، وإن استمرّوا في القول للناس والتحدّث عن الآخرة، فهم يكذبون، ولسانهم فقط هو الذي يقول وقلوبهم ليست كذلك، لأنّه لو كانت قلوبهم تقول، فلماذا يتّبعون هذه الأمور؟! ـ إذا كان إنسان يعتقد بمسألة ما، فإنّه لا يعمل بخلافها. مثلًا، الآن أنا أعتقد أنّ هذا السائلَ هو سُمّ، فهل أشربه؟! ليس الأمر كذلك، ومن المعلوم أنّي لا أعتقد ـ فهذا المنطق هو منطق الماديّين.
فهذا بالنسبة للدنيا، حيث توجد طرق مختلفة للوصول إلى ذلك المطلوب، والإنسان يسلك طرقًا مختلفة، ولكن هل يمكن أن يكون طريق الله مختلفًا من إنسان إلى آخر؟!
ما هو طريق الله؟ وهل يمكن أن يكون مختلفًا من إنسان إلى آخر؟
طريق الله يعني ما يوصل الإنسان إلى الله ويقرّبه إلى المبدأ وتلك الحقيقة التي هي واحدة! لقد قلنا في المجلس الماضي: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾۱. سبيل الله هو الصلة بين الإنسان وربّه، وهذه الصلة موجودة في الجميع، سواء كانوا عالمين أو جاهلين، مصلِّين، أم تاركين للصلاة، وسواء كانت النساء محجّبات أو متبرّجات.
فكم من المتبرّجات عدن وتبن وتحجّبن وأصبحن من المؤمنات والعابدات والصالحات، فلو لم تكن لهنّ صلة، فكيف عدن؟! لو لم يكنّ على صلة مع ربّهن، فهل كان من الممكن أن يعدن؟! من لا صلة له لا يعود، فالحديد حديد!
هنا كان المرحوم العلامة يقول للسيّد الخميني: «اجعلوا النداء نداءً عامًّا». يعني: أطلقوا النداء بناءً على تلك الصلة، لأنّ تلك الصلة موجودة في الجميع، حتّى في الشاه تلك الصلة موجودة! في النهاية، الشاه أيضًا بشر وإنسان، ووُلد من أب وأم، فهل كان عمله باطلاً وكان يذنب ويظلم؟ نعم، هو كذلك؛ ولكنّ الصلة لم تنقطع بعد. يجب على الإنسان أن يدخل من نافذة الصلة تلك، والآن أيضًا الأمر كذلك.
منطق العرفان والسلوك: انفتاح طريق الهداية لجميع البشر
جميع الأفراد والحكّام والسلاطين لهم صلة، ولا تنقطع صلة أحد. كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يرسل الرسائل للسلاطين والملوك، فلو لم تكن لديهم صلة، فلماذا كان يرسل إليهم الرسائل؟! فليذهب أحد إلى النبيّ وليقل: يا رسول الله، هل تريد أن تقول للناس إنّنا أرسلنا الرسائل، أم أنّ هناك احتمال هداية فعليّ؟! إن لم يكن هناك احتمال هداية، فلماذا أرسلت الرسائل إذن؟! ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾٢. نحن نبيّن الطريق، وبعد ذلك منهم من يأتي ومنهم من لا يأتي؛ مثل سائر الأفراد الآخرين، هذا هو منطق العرفان والسلوك.
سلوك العلامة الطهراني ومدرسته مبنيّان على الصلة التكوينيّة بالله
سلوك وعرفان المرحوم العلامة كان على هذا النحو، وكان مبنيًّا ومستقرًّا على الصلة التكوينيّة والواقعيّة بين الإنسان والله، ونحن والجماعة الموجودة الآن، إذا حافظنا على هذا الجانب وهذه المسألة، فنحن في طريقه، وإن لم نحافظ على هذه المسألة، فلسنا في طريقه.
[فعلى سبيل المثال، إن قلنا في التعامل مع الناس] لأنّه ليس في طريقنا، فعندما يدخل المجلس، ندير رؤوسنا ولا نسلّم عليه! فهذا الفعل هو الجنون! الإنسان المجنون يفعل هذا، وهذا الذي يفعل ذلك مجنون. والجُنونُ فُنونٌ، وللجنون أقسام، وأحد أقسامه هو هذا. يأتي أحدهم ليسلّم عليك وأنت تدير رأسك! هذا قسم من الجنون. [مثلًا، قد يكون منطق هؤلاء الأفراد هكذا] لأنّ ذلك الرجل لا يحبّ من أحبُّه أنا، فلا أسلّم عليه وأقطع علاقتي به. فليكن لا يحبّه! فهل يجب على الآخرين أن يحبّوا كلّ من تحبّه أنت؟! إنسان ما لا يريد ولا يعجبه. فهل يجب على الجميع أن يكون لهم ذوق جنابكم؟! لعلّ جنابكم لا ذوق له بالمرّة، والطرف المقابل لكم ذوّاق!
لا يوجد أيّ ضمان بأنّ فهم جنابكم أسمى من كلّ الأفهام، وأنّ نهجكم ومسلككم أصحّ من الجميع، وتجربتكم أفضل من الجميع، ومنطقكم أقوى وأمتن من الجميع! لا يا عزيزي، لا وجود لمثل هذه الأقوال. في مدرسة المرحوم العلامة، النظر إلى الباطن والوجدان والتعلّق، ولا معنى لأن يدير الإنسان برأسه إلى الجهة الأخرى حتّى لا يرى الذي يريد أن يظهر له المحبّة.
انظروا لتروا ماذا كان يفعل المرحوم العلامة نفسه. لا يكن حالنا بحيث نفعل فعلًا يجعل طريق السير والسلوك الذي من أجله نضحّي، هو نفسه الذي يأخذ بتلابيبنا يوم القيامة ويُلقي بنا في النار!
الإمام المهدي عليه السلام هو لكلّ فردٍ في العالَم
نحن ندّعي أنّ الله لنا ويخصّنا وليس لغيرنا! الإمام المهدي لنا ويخصّنا وهو في جيبنا، وأصلًا لا يحقّ لأحد أن يذكر اسم الإمام المهدي! لقد التقيت بأفراد كانوا إذا ذكر أحد اسم الإمام المهدي، ينزعجون ويقولون: أصلًا بأيّ حقّ تذكرون اسم الإمام المهدي، فهو يخصّنا نحن ونحن نعمل من أجله ونُثبّت اسم حضرته في المجتمع! خلاصة الأمر، نحن قيّمون على الإمام المهدي! ونضعه في جيوبنا ـ والعياذ بالله ـ ونُغلق سحّاب الجيب حتّى لا يتحرّك!
فما هذا الكلام؟! الإمام المهدي للجميع: لك، ولنا، ولليهود، والنصارى، والزرادشتيّين، والشيوعيّين، والبوذيّين. وكلّ فرد من أفراد عالم الوجود يتعلّق ويرتبط بالإمام المهدي. فما هذا الكلام الذي تقوله؟! هل لأنّك تذكر اسم الإمام المهدي مرّتين، يصبح الإمام المهدي لك ولا يحقّ لأحد أن يتفوّه بكلمة؟!
تقول كلمتين عن الله والنبيّ فيصبح العرفان لك، وتقول: العرفان لنا ولا يحقّ لأحد أن يتحدّث عن العرفان؟! كلّ هذا شيطان! يقولون إنّ هؤلاء يقرأون الكتب ويذكرون هذه الأقوال للناس فوق المنابر!
[فيجب أن يقال لهم] إذن لمن كُتبت هذه الكتب؟ لقد كُتبت لي ولكم.
يقولون: «لا، لا ينبغي قراءة هذه الكتب وذكرها للناس!»
ـ فماذا يجب أن نفعل إذن؟! هل نُلقي بالكتب في النار؟!
يقولون: لا ينبغي قراءة كتب محيي الدين! وهؤلاء يقرأون هذه الأسرار التي قالها محيي الدين، وينقولونها للناس!
ـ حسنًا، محيي الدين كتب هذه الكتب لتقال للناس، لا ليَعلوها الغبار في المكتبة! فإن كان لديك إشكال واعتراض، فتعالَ واعترض وقلْ: هذا خطأ. فما هذه الطريقة في الكلام؟!
يقولون: «هؤلاء يخونون العرفان، يقرأون هذه الكتب ويقولونها للناس!»
تعال وقلْ: هذا الجزء من كلامك خطأ، حينها نحن أيضًا نأتي بالدليل. فلنجلس ونتحدّث، وإن كنّا قد أخطأنا، نقبل. أمّا أن يأتي ويقول: لنكن نحن فقط في الميدان ولْيبتعد الباقون. فيا عزيزي، هذا هو الشيطان؛ ولكنّه شيطان ماكر!
هو ليس ذلك الشيطان الذي يأتي لذلك السكّير المسكين ولذلك الشقيّ حامل الخنجر! إنّه شيطان محترف وعتلّ! شيطان يأتي ويدخل من بين عروق الجسد وينفذ في المخّ والأعصاب والدماغ والنفس والسرّ، ويبرّر بناءً على مسلكه ومنهجه الباطل، في حين أنّه هو نفسه مبتلى بنفس الشيء الذي يعترض عليه! يا عزيزي، هذا شيطان عتلّ! ذلك الذي يذهب إلى هؤلاء السكارى المساكين هو شيطان ضعيف، وبـ«استغفار» واحد وقول «يا إلهي» مرّة واحدة، تُحلّ المسألة.
ذات يوم، خرج المرحوم السيّد جمال الكلبايكاني ـ رضوان الله عليه ـ من حرم أمير المؤمنين عليه السلام، وفجأة شعر بأنّه، يا للعجب، يرى العالَم بشكل آخر ويتصوّر نظام العالَم على نحو مختلف. فقال في نفسه: من أنا وماذا كنت؟ وماذا أرى الآن! أنا الذي أرزق كلّ عالم الوجود! أنا الذي خلقُ العالَم بيدي! أنا الذي حياة كلّ العالَم بيدي! وهذا الذي يمشي الآن في الشارع، هو بإرادتي! فلو أردتُ سقط ومات! طبعًا كانت حالته هكذا! لكنّه كان رجلاً! كان ذكيًّا وفطنًا ولم يُخدع، وحدّث نفسه قائلًا: «أيّها الخبيث، لقد دخلت دخولاً جيّدًا! هل أنا أرزق عالم الوجود؟! انتظر حتّى أؤدّبك!» طبعًا أنا أقولها بهذه الصيغة. لعلّه قال شيئًا آخر، ونحن نخجل منه لأنّنا لا ننقل الموضوع كما قاله تمامًا.
فركب سيّارة من النجف وجاء إلى الكاظميّة وذهب إلى قبر موسى بن جعفر عليه السلام، وما زال يضرب رأسه بذلك الضريح ويبكي حتّى انكشف له فجأة حقيقة الأمر ولماذا كانت تلك الحال. هؤلاء الأعاظم كانوا هكذا، وكانوا منتبهين. طبعًا، في بعض الأحيان قد تحدث هذه الحالات بصورة صحيحة، ولكن الآن هنا لم يكن وقتها، ومن هنا دخل الشيطان. لأنّه منتبه، يتوسّل بموسى بن جعفر عليه السلام، والإمام يحلّ له المشكلة.
نحن لسنا كذلك، فما أن نرى نورًا في العالَم، حتّى نضرب الباب بالخشبة، ونضع المُلك والملكوت، وجبرائيل وعزرائيل، والفرش والكرسي والعرش في كيس ونضعه على أكتافنا، ونمسك قدم عزرائيل بيد وجناح جبرائيل باليد الأخرى وننطلق! [يسألون] ماذا حدث؟! [نقول] رأيت نورًا في السماء وهذه علامة الفناء!
كان أحدهم يقول: «فلان وصل إلى الفناء!»
فقلت له: الحمد للّه، جيّد جدًّا، قل لنا ما هي آثار الفناء؟
فقال: عندما خرج من الحرم، سقط على الأرض ولم ينتبه أنّه سقط! وفي الليل شعر بألم ولم يفهم من أين هذا الألم، فقال أحد مرافقيه: «يا سيّدنا، لقد سقطت اليوم عند خروجك من الحرم، لعلّه بسبب ذلك». وهو أيضًا يقول: عجيب! عجيب!
وانتشر هذا الخبر في كلّ مكان، في الجرائد والصحف! فقلت له: يا عزيزي! تعالَ لأريك شخصًا يقع ستّ مرّات في اليوم على الأرض في صلاته! فما معنى أنّه سقط على الأرض ولم يشعر؟! ما أقوله لكم هو حقيقة ولا أريد أن أبالغ!
أنا لا أقول هذا لنضحك. أقوله لنكون حذرين فلا يُحتال علينا. القبعة التي يضعها الشيطان تصل إلى الركبة أو فوقها! هي قبعة تنزل إلى الأسفل! يجب أن يكون الإنسان منتبهًا، فهل الأمر بهذه السهولة والبساطة؟! على حدّ قول أحدهم الذي كان يقول: يمكن سلوك هذا الطريق بأيّ نحو كان! ليس الأمر كذلك! هذا الطريق هو طريق النفس، وفي طريق الله، لا مدخل للنفس، بل هي في تعارض وتضادّ معه.
معيار الطريق الصحيح: ازدياد التواضع والخضوع الحقيقيّ
عندما عدنا من سفرنا إلى الحجّ، أعطانا المرحوم السيّد الحدّاد ـ رضوان الله عليه ـ في ليلة كنّا فيها أنا واثنان أو ثلاثة آخرون في خدمته وكان يتحدّث مع المرحوم العلامة، معيارًا وقال: إذا رأيتم إنسانًا كلّما زاد في سلوكه، زاد تواضعه وخضوعه حقًّا، فاعلموا أنّ طريقه صحيح.
هذه هي العلامة والمعيار. طبعًا نحن لسنا كذلك، فأوّل ما نأتي إلى خدمة المرحوم العلامة، نُطأطئ رؤوسنا ونجلس متربّعين ونضع أيدينا بأدب على أرجلنا، وكلّما قال شيئًا قلنا: «نعم نعم، كلّ ما تقولونه صحيح». يمضي الأسبوع الأوّل فنقول: «نعم الحمد للّه، لقد قبلنا». وعلى حدّ قول البعض: لقد وُضع علينا ختم السلطان وقُبلنا وجئنا!
يمرّ الأسبوع الثاني والثالث على هذا النحو. وعندما تمضي سنة، نرى فجأة أنّه قد أصبح جريئًا ووقحًا! ما الذي أُضيف إليك حتّى تقول: يجب أن يحدث هذا الأمر. وذاك الأمر يجب أن لا يحدث؟! اذهب وأنهِ هذا الكلام، فما معنى "يجب" و"لا يجب"؟ ما هذا الكلام؟
هذا لأنّ الشيطان لم يجد حتّى الآن ذريعة لإغواء هذا المسكين، والآن وجد الذريعة. يقول: «أتتّجه نحو الله؟ سأؤدّبك!» لو لم يكن طريق هذا نحو الله، لما كان للشيطان به شأن أصلًا!
الشيطان مانع من الدخول إلى حريم الله
الشيطان لا شأن له بنا أصلاً، لأنّنا نسير أمامه، وهو يقول لنا: «قفوا حتّى ألحق بكم!» نحن نقول: تعالَ أنت، نحن ذاهبون بأنفسنا! ولكن عندما يدخل الإنسان في طريق السير والسلوك، يرتفع صراخ الشيطان فجأة ويقول: عجيب! يريد الدخول إلى حريمٍ طُردتُ أنا منه! الآن بما أنّه يريد الدخول، فسأمنعه ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾۱، ولن أسمح له!
لماذا طردوني؟! الآن بما أنّهم طردوني، فأنا أيضًا لن أسمح لعباده بالدخول إلى حريمه! كلّما تقدّم هو، رأى الشيطان أنّ عمله أصبح أصعب. هو يتعلّم باستمرار طرق سدّ نفوذ الشيطان، كيف يجب أن يغلق طريق دخول الشيطان، طبعًا إن كان منتبهًا؟ يجلس عند وليّ الله فيحدّثه الوليّ ويبيّن له الطرق. وإن لم يكن منتبهًا، يأتي جاهلاً ويرجع جاهلاً!
أمّا إن كان منتبهًا، ففي مجلس أو مجلسين يبيّنون له الطرق ويعلّمونه سبيل المعارضة والمجاهدة، ويعطونه الكتب فيقرأها، فتزيد مراقبته ومجاهدته وجهاده لنفسه؛ فيقول الشيطان: «يا ويلتاه، تقدّم خطوة! تقدّم خطوة أخرى! يا ويلتاه، هكذا لا ينفع». طبعًا، لقد احتفظ بتلك الأسرار والخدع الأخيرة للنهاية!
وصيّة العلامة الطهراني بزيارة مرقد آية الله البهاري
إن شاء الله، يرزقنا الله جميعًا الذهاب إلى همدان، ففي "بهار" بهمدان يوجد مرقد المرحوم الشيخ محمد البهاري ـ رحمة الله عليه ـ كان من الأعاظم والأولياء. كلّما ذهبتم إلى همدان، فلا تنسوا زيارة ذلك المكان، واذهبوا حتمًا. كان المرحوم العلامة كلّما ذهب إلى همدان، يذهب لزيارة مرقده.
وعندما نتقدّم قليلًا من "بهار"، يوجد مكان اسمه "لاله جين" والذي تأتي منه هذه الأباريق والأوعية والصحون، فهناك يقومون برسمها وتلوينها. إذا تشرّفتم بزيارة لاله جين! فهناك الحمد لله الكثير من آثار الصنعة والإبداع وحسن الذوق، وللخزّافين حيل وفنون خاصّة.
قصّة في سرقة كلام الأستاذ لأجل الظهور
كان هناك أستاذ خزّاف كانت أباريقه مشهورة جدًّا بجمالها ومتانتها وحسن صنعها. وكان له تلميذ أصبحت أباريقه مشهورة جدًّا أيضًا. فعندما أتقن التلميذ هذا الفن، رفع راية الاستقلال وأطلق نداء الانفصال قائلًا: أريد أن أنفصل عنك.
فقال له الأستاذ: «تفضّل اذهب، الآن بعد أن علّمتك، تريد أن تتخلّى عنّي؟!»
| أعلِّمُهُ الرِمايةَ كُلَّ يَومٍ | *** | فَلَمّا اشتَدَّ ساعِدُهُ رَماني |
تعلّم القليل وذهب. ثمّ صنع إبريقًا فانكسر بسرعة كبيرة. واشترى أحدهم منه إبريقًا وبعد أسبوع جاء وقال: «ما هذا الإبريق الذي بعتني إيّاه؟! ما كدتُ آخذه إلى البيت حتّى ارتطم بالجدار فانكسر فورًا!». وجاء آخر بنفس الشكوى، وخلاصة القول أنّ سمعة هذا المسكين تلطّخت، وأُغلق محلّه، واشتهرت هذه القضيّة في كلّ مكان!
فجاء إلى أستاذه وقال: «واللهِ، إنّ العمل الذي تقوم به أنت، أقوم به أنا، فلماذا تخرج أعمالك بهذه الجودة؟!»
فقال الأستاذ: هناك جزء من هذه المهنة لم تتعلّمه، وللخزافة سرّ مهنة لم أعلّمك إيّاه، واحتفظت به لنفسي حتّى إذا تمرّدت عليّ وأردت أن تتركني، لا تستطيع أن تفعل شيئًا بدونه!
فتاب التلميذ وعلّمه الأستاذ، واتفقا على أن يبقيا معًا، وعاد التلميذ بصفاء وصدق وإخلاص. حقًّا، كم هو جيّد الإخلاص. فماذا رأى ذلك الأستاذ فيك حتّى لم يعلّمك هذه المسألة؟! لقد رأى أنّك تريد أن تخون، ولهذا السبب فعل ذلك. فقال: «بما أنّك تريد أن تخونني، حسنًا فاذهب وخن!» ولكن إذا تقدّم الإنسان بصفاء ونقاء، فإنّه يعلّمه كلّ ما لديه.
كان المرحوم العلامة يقول: «فلان يأخذ الكلام من لساني ويسرقه خلسة ويقوله للآخرين باسمه وعلى حسابه!» ـ طبعًا ذكر اسمه، وهو من الذين شكّلوا لأنفسهم الآن جماعة وأتباعًا! ـ وعندما يقول هذا الكلام، يقول الآخرون: «ما شاء الله، ما هذا الكلام الذي يقوله!». هذا لا يميّز الغثّ من السمين! فعلى سبيل المثال، هو لا يعلم أصلًا كيف تحصل الطهارة للإنسان، والآن يقول هذا الكلام؟! فهذه دناءة وجهل بالمعروف.
يا عزيزي، أسوأ شيء في السلوك هو نكران الجميل، وليس لدينا ذنب أسوأ من الدناءة ونكران الجميل في السلوك، والله لا يحبّ ذلك. على الإنسان أن يكون صادقًا مع الله، وما هو للّه، يقول إنّه للّه، ولا يقول إنّه لي، ويقول إنّ ما لديّ من لطف وعناية وخصوصيّة، فهو متعلّق به، ولا يقول إنّه لي. لا ينخدع بمدح الناس ولا يشتبه عليه الأمر، ويكون منتبهًا، ويدقّ هذا الجرس في دماغه باستمرار بأنّ هذه الأمور ليست منك بل هي من جهة أخرى.
كان هؤلاء يفعلون هذا، يجلسون عند المرحوم السيّد الحدّاد ويتعلّمون منه المعارف، ثمّ يذهبون إلى الجلسات التي هي ضدّ السيّد الحدّاد ويتحدّثون بها! كنت حاضرًا بنفسي ورأيت رجلاً يأتي إلى المرحوم السيّد الحدّاد ويتعلّم كلامه. حسنًا، هو وليّ من أولياء الله، وكلّ موضوع وكلام يقوله هو حكمة، وهذا الرجل يدرك ويميّز.
علماء السوء في كلام الإمام العسكري عليه السلام
هذا الأمر هو عين ما في الحديث الذي قاله الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «...هُمْ أَضَرُّ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ...»۱ . فبعض هؤلاء العلماء يأخذون الكلام منّا ثمّ بأذهانهم الخربة يحرّفونه ويسلّمونه إلى شيعتنا ضدّنا! لأنّه عالم، فهو يعرف ويُحرّف ويتلاعب به!
يتعلّمون كلامنا لأنّهم إذا قالوا هذا الكلام للشيعي، فإنّ الشيعي سيتوجّه إلى الإمام العسكري وتنهار مكانتهم! يتعلّم منطق الإمام ثمّ يبدأ بصياغة منطق ضدّ ذلك المنطق، ويشوّه كلام الإمام، ثمّ بهذا الفكر المشوّش يُنفّر الشيعة من الإمام ويُنزِل من مرتبة الإمام ويرفع من مرتبة نفسه! طبعًا هو نفسه لا يستطيع الوصول إلى الإمام، فيُنزِل من قدر الإمام عند الناس، ويصوّره كإنسان مثله، وبهذه الوسيلة يجذب الناس إليه! يقول الإمام عليه السلام: «...هُمْ أَضَرُّ عَلَى أُمَّتِي مِنْ جَيْشِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ...»؛ خطر هؤلاء على أمّتنا أكبر من خطر جيش يزيد على الحسين بن علي وأصحابه!
فعلى الإنسان هنا أن يلجأ إلى الله حتّى لا يبتلى بهذه الشباك. هذه الطرق هي طرق الدنيا.
الإخلاص والصفاء والوحدة من لوازم طريق الله
طريق الله هو طريق الباطن والتعلّق الذي للإنسان بالله، ولوازم هذا الطريق هي الإخلاص والصفاء والصدق والانسجام والوحدة والتوحيد، ولا مكان في هذا الطريق للكثرة والأمر والنهي، و"أنت" و"أنا"، و"هذا الطرف" و"ذاك الطرف".
ألا نشاهد أنا وأنت الآن؟! فلننظر قليلًا حولنا، ماذا يحدث حقًّا؟! في هؤلاء الذين يدّعون خلافة رسول الله، ويدّعون نشر دين النبيّ في كلّ الدنيا، ماذا يجري في داخلهم؟! أيّة أفكار توجد فيهم؟!
يقول محيي الدين بن عربي في إحدى عباراته: «ولولا أنّه بيده السيف لأفتى الفقهاء بقتلهِ». هل تظنّون لماذا يجب أن يُفتي فقيه وعالم بقتل الإمام المهدي عندما يأتي؟! لأنّه يرى أنّ الطريق الذي سلكه حتّى الآن هو ضدّ الإمام المهدي، وأنّه دعا جميع الناس ضدّ الإمام المهدي، فكيف يتعامل الآن مع الإمام المهدي؟! والإمام أيضًا يقول له: أوّلًا، قدّم عنقك، لأنّك دعوت الناس ضدّي عمرًا كاملًا! ولهذا السبب، يُنحّيه جانبًا ويقول إنّه لا يوجد إمام مهدي وأنّ هذا كذب!
المنع من هداية الأفراد من أجل عمران دنياهم
اليهود أيضًا عندما جاء النبيّ، كانوا يقولون: إذا قلنا إنّ النبيّ حقّ، فسيُسلم جميع اليهود ولن يبقى أحد حولنا، وسيقولون لنا: عندما كنّا يهودًا، كنتم عظماء جدًّا بالنسبة لنا، أمّا الآن وقد أصبحنا جميعًا مسلمين متساوين وفي مرتبة واحدة، فيجب علينا كلانا أن نذهب إلى النبيّ ونجلس ونتعلّم المسائل الشرعيّة.
رأوا أنّ مقام الأمر والنهي، والحلّ والربط، والباب المفتوح، والديوان، كلّه سيزول، لذا قالوا: «ذلك النبيّ الذي في التوراة ليس هذا! ذلك النبيّ عظيم الجثّة وسيأتي بعد خمسمائة عام!» لقد فعلوا هذا لتبقى دنياهم، وليبقوا في هذه الدنيا ليومين. أي أنّهم منعوا هداية الناس من أجل يومين من دنياهم!
أيّة فاجعة هذه أن يمنع إنسان هداية آخر ويُبقيه ويحرمه من السعادة، لكي لا تفقد حياته ماءها ورونقها! والشيطان يفعل الشيء نفسه، يقول: لا تتكلّموا، لا تتحدّثوا، لا تتّصلوا، لا تتحدّثوا مع هذا وذاك، لا تذهبوا إلى السيّد الفلاني، ولا تفعلوا العمل الفلاني! لأنّه ما إن يُقال الكلام، تنتهي القضيّة ولا يبقى شيء، لذا يجب الحفاظ على هؤلاء!
الدنيا هي الدنيا، سواء تجلّت في قالب اليهود ووقفت في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله، أو تجلّت في قالب النصارى ووقفت في وجهه، أو تجلّت في قالب المخالفين ووقفت أمام أمير المؤمنين عليه السلام، أو تجلّت في قالبنا نحن العلماء لنقف في وجه إمام الزمان. فوالله كلّ هذا هو دنيا. لذا، عندما يأتي يوم القيامة، فجأة ترى أنّهم قد جعلوا صفًّا وقالوا: يا فلان تعالَ أنت في هذا الصف، وأنت اذهب إلى ذاك الصف، وترى أنّ في هذا الصف الممتدّ من المشرق إلى المغرب، يقف اليهوديّ والنصرانيّ والزرادشتيّ وحضرة حجّة الإسلام والمسلمين وثقة الإسلام ومولانا فلان والشيعيّ والمسلم والسنّيّ!
حينها تقول: أنا شيعيّ، فلماذا أنا في صفّ اليهود؟!
فيقولون: «أنت شيعيّ، حسنًا، ولكنّ نفسك كانت دنيويّة، تفضّل وكن في هذا الصف. نحن ننظر بناءً على النفس والقلب». فهناك لا فرق بين اليهوديّة والنصرانيّة والشيعة والإسلام، المهم أين هو قلبك؟! وفي بعض الأحيان يكون العكس أيضًا، فيقف اليهوديّ والنصرانيّ في صفّ شيعة أمير المؤمنين!
المعايير في محكمة العدل الإلهي
كان المرحوم العلامة في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان ـ وهي إحدى ليالي الإحياء ـ يتحدّث في مسجد القائم عن وجهة القلب، وأنّ العمل الظاهر والمجيء والذهاب والحلّ والربط لا مكان لها هناك، وأنّ المعايير تختلف في محكمة العدل الإلهي. فكان يقول: كان غبار الهمدانيّ رجلًا عظيمًا، رحمه الله. ذات مرّة كان غبار الهمداني جالسًا في منزله، وكان عدد من أصدقائه هؤلاء جالسين أيضًا، وجاء من الخارج صوت تشييع جنازة، وكانوا في همدان يشيّعون جنازة يهوديّ، وبينما هم يشيّعون الجنازة، رفع يديه فجأة وقال: «يا أمير المؤمنين، أنا لا أعلم ماذا تريد أن تفعل بهذا الرجل؟! كلّ ما أعلمه أنّه قضى عمرًا يبحث عنك!».
هو يهوديّ ولكنّه يبحث عن أمير المؤمنين ويُوضع في صفّ الشيعة. وعلى الجانب الآخر، يُؤتى بشيعيّ لأمير المؤمنين ولكن يُقال له: «تفضّل وقف في صفّ اليهود والنصارى!» لأنّ الحساب هنا يختلف.
الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق
إذًا، طريق الله هو طريقٌ موجود عند الجميع، وهو بعدد الأفراد، ولكلّ إنسان شكل خاصّ به؛ أي أنّه في عين الكثرة توجد وحدة، وفي عين الوحدة توجد كثرة. وهنا يقول: «الطُرُقُ إلى اللهِ بِعَدَدِ أنفاسِ الخَلائِقِ»۱؛ أي أنّ الطرق إلى الله موجودة بعدد كلّ نفس، ولكلّ نفس طريق إلى الله.
لا مجال في هذا المجلس للحديث أكثر من هذا، وإن شاء الله، سنتحدّث في المجالس القادمة عن كيفيّة اختلاف هذه النفوس، وكيف أنّها رغم اختلافها فيما بينها، طريقها واحد.
اللَهُمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد