12

هل نستحقّ من الله شيئًا؟

خطر الغيبة

15
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1423

التاريخ 1423/09/24


التوضيح

ما هو الفرق بين السمع الإلهيّ والاستماع الإلهيّ؟ ولماذا تعدّ الغيبة أشدّ من الزنا؟ وكيف نميّز بين حريم الملائكة وحريم الشيطان في حياتنا اليوميّة؟ وما هو خطر الاستماع إلى الحقائق بمفاهيم مسبقة؟ تجيبك هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة وغيرها، وتكشف عن أسباب التوقّف في السير والسلوك إلى الله.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • هل نستحقّ من الله شيئًا؟

  • خطر الغيبة

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٣ هـ - الجلسة الثانية عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  • وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أَبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ

  • وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ

  • وَاللَّعْنَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ

  •  

  •  

  • «وَقَدْ قَصَدْتُ إِلَيْكَ بِطَلِبَتِي، وَتَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِحَاجَتِي، وَجَعَلْتُ بِكَ اسْتِغَاثَتِي، وَبِدُعَائِكَ تَوَسُّلِي، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي، وَلَا اسْتِيجَابٍ لِعَفْوِكَ عَنِّي، بَلْ لِثِقَتِي بِكَرَمِكَ، وَسُكُونِي إِلَى صِدْقِ وَعْدِكَ».

  • لقد قصدتُك بطلبي ومسألتي، وتوجّهت إليك بحاجتي، وجعلت استغاثتي ببابك، وجعلت توسّلي بدعائك ومناجاتك، دون أن أكون مستحقًّا لأن تسمع كلامي، ودون أن أكون مستوجبًا لأن أنال عفوك، بل كان كلّ ذلك بسبب وثوقي بكرمك، وسكوني واطمئناني إلى صدق وعدك. 

  • عدم استحقاق العبد لإجابة الله 

  • هنا وكما أشرنا سابقًا، يلفت الإمام السجّاد عليه السلام انتباهنا إلى جهتين: 

  • جهة العبوديّة

  • و جهة الربوبيّة

  • وحول العبوديّة، يقول الإمام عليه السلام إنّ هذا الطلب والتوجّه والاستغاثة والتوسّل الذي قمت به إليك، لا يوجب لك أيّ التزام تجاهي، فليس معنى أنّي أتيت إليك أنّك ملزمٌ بالاستجابة لي. 

  • ما الفرق بين «السَّماع» و«الاستماع»؟

  • يختلف «الاستماع» عن «السَّمْع» فالسَّمْع يعني مجرّد السماع ووصول الصوت. ﴿وهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ هو يسمع، وسماعه يختلف عن سماعنا. فكما أنّ السَّمْع فينا يعني السماع، فقد نسمع أمرًا ما، كأن يتحدّث شخصٌ في زاويةٍ ما، فيصل صوته إلى آذاننا شئنا أم أبينا، وهذا يسمّى سَمْعًا. أمّا حين نوجّه انتباهنا لنفهم ما يقول، فهذا يسمّى استماعًا. 

  • قد تكون جالسًا في مكانٍ ما، في حافلةٍ أو سيّارة أجرة، فيصل إلى مسمعك صوت موسيقى، ولا حيلة لك في الأمر، فلا تستطيع أن تقول: أطفئه، فقد يقولون لك: عزيزي، هذه هي الجمهوريّة الإسلاميّة، وهذا راديو الإسلام، فلا نملك إلّا أن نلزم الصمت. قد نقول: عزيزي رأسي يؤلمني. وهذا صحيح، فرأسي يؤلمني فعلاً، ولا شأن لنا بحلاله أو حرامه، ولكن ما إن نتفوّه بكلمة حتّى يقولوا: يا رجل، هذا هو الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة، فاسكت. فنصمت. فهذا هو السَّمْع، أي أن يصل الصوت إلى أذن الإنسان. 

  • أمّا الاستماع فهو أن يرغب الإنسان في الإصغاء، فيقول: لنسمع كيف يعزف، إنّه يعزف بشكلٍ جميل، فيعجبه ذلك. السَّمْع في حدّ ذاته لا إثم فيه، فإن كان الإنسان في مكانٍ لا يستطيع فيه منع الحرام، ولم يكن الأمر باختياره، فلا بأس أن يصل الصوت إلى سمعه، بشرط ألّا يُصغي هو بنفسه، فيقول: لنسمع ما يقول، وكيف هو. فإذا أراد أن يصغي، حينها يُكتب ذلك في صحيفة أعماله: لقد أصغيت في ذلك اليوم وأعجبك الأمر. وهذا هو الاستماع. 

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

3
  • حرمة المؤمن وخطورة الغيبة

  • قد يجلس شخصان و يغتابان، فيصل إلى سمعك أنّهما يغتابان فلانةً أو فلانًا. قد لا تنتبه، مع أنّ كلامهما يصل إلى أذنيك. ولكن، قد تُصغي لتعرف ما يقولان، وهذا الإصغاء حرام. فاغتياب الأخ المؤمن حرامٌ شرعًا، والاستماع إليه حرامٌ شرعًا أيضًا، كلاهما. إذا كان الإنسان في مكانٍ ورأى أحدهم يغتاب، فعليه أن يمنعه، فإن لم يفعل، كُتب في صحيفة أعماله إثم المغتاب بتمامه۱. وكما تعلمون، فإنّ إثم الغيبة أشدّ من الزنا٢، ولكنّنا لا نلتفت إلى هذه المسألة أصلاً. 

  • يقول المرحوم الشهيد الثاني في كتابه «منية المريد»: إنّي لأعجب من أناسٍ يستوحشون إذا قيل لهم شرب الخمر، ويفزعون إذا ذكرت السرقة، ويرتعبون إذا ذكر الربا والزنا، ولكنّهم ليسوا كذلك تجاه الغيبة، فيجلسون ساعةً يغتابون ويكشفون أسرار المؤمن.٣ 

  • غيرة الله على حرمات المؤمنين

  • واعلموا أنّ الله تعالى غيورٌ جدًّا. قد يرتكب الإنسان ذنبًا شخصيًّا، فيتوب، والله غفورٌ رحيم. ولكن، حين يتعلّق الذنب بالآخرين، فهنا لا يتسامح الله، ويحاسبه حسابًا عسيرًا، حسابًا يجعله لا يدري من أين أتته الضربة. 

  • إنّ مسألة الغيبة من الأمور التي نتساهل فيها كثيرًا، فما بالك بالبهتان الذي هو أعظم وأطمّ. نجلس ونتحدّث عن هذا وذاك، وأنّ فلانًا فعل كذا وفلانًا فعل كذا، ولا نعلم أنّنا نلعب بغيرة الله. هذه المسائل التي أذكرها لكم هي أمورٌ ثبتت في عالم التجربة والعيان. 

  • وقد ورد أنّ من أفشى سرّ أخيه المؤمن، أفشى الله سرّه٤. فهناك فرقٌ بين الأمور، فقد يكون أمرٌ ما واضحًا وجليًّا، كشخصٍ يرتكب حرامًا والجميع يعلم به، كمن يحلق لحيته مثلاً، فالكلّ يعلم أنّ حلق اللحية حرام، وهو يمشي في الشارع والجميع يراه. فلو قيل: فلانٌ يحلق لحيته، فلا إشكال في ذلك، فهو نفسه من يفعل ذلك ويظهر به، ويقول: أنا هكذا. 

  • أمّا حين يفعل الإنسان فعلاً لا يعلم به أحد، سواء كان مخالفًا للشرع أو غير لائق، فلا يجوز أن يأتي آخر ويكشفه للناس، فيقول: فلانٌ هكذا، رأيته يومًا يمشي في الشارع وفعل كذا، أو رأيته في منزله وفعل كذا. فهذا عملٌ شخصيّ، والله سيفعل بالناقل الشيء نفسه. ستُهيّأ المقدّمات وتُرتّب الأسباب بطريقةٍ لا يدري معها الإنسان ماذا حدث، ومن أين أتاه الأمر. قضيةٌ لا علاقة لها به أصلاً، تتوافق فيها الظروف، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا. 

    1. عيون الحكم و المواعظ (لليثى)، ص ٢٨٣: قال‌ علي عليه السّلام: «سَامِعُ الْغِيبَةِ أَحَدُ الْمُغْتَابَيْنِ».
    2. الخصال، ج ١، ص ٦٣: «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا».
    3. تحدّث الشهيد الثاني بهذا المضمون في مقدّمة كتابه كشف الريبة في أحكام الغيبة ص ٤ ـ ٥ فقال: فلمّا رأيت أكثر أهل هذا العصر ممَّن يتَّسم بالعلم ويتّصف بالفضل ويُنسب إلى العدالة ويترشَّح للرِّياسة، يحافظون على أداءِ الصلوات والدؤوب في الصيام وكثير من العبادات والقربات ويجتنبون جملة من المحرَّمات كالزِّنا وشرب الخمر ونحوهما من القبائح الظاهرات، ثمَّ هم مع ذلك يصرفون كثيراً من أوقاتهم ويتفكَّهون في مجالسهم ومحاوراتهم ويغذُّون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنين ونظرائهم من المسلمين ولا يعدُّونه من السيِّئات ولا يحذرون معه من مؤاخذة جبَّار السماوات، والسبب المقدَّم لهم على ذلك دون غيره من المعاصي الواضحة، إمَّا الغفلة عن تحريمه وما ورد فيه من الوعيد والمناقشة في الآيات والروايات وهذا هو السبب الأقل لأهل الغفلات، وإمَّا لأنَّ مثل ذلك في المعاصي لا يخلّ عُرفاً بمراتبهم ومنازلهم من الرياسات لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من أهل الجهالات، ولو وسوس إليهم الشيطان أن اشربوا الخمر أو أزنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة وسقوط محلّهم به لديهم بل عند متعاطي الرذائل الواضحات.
      ولو راجعوا عقولهم واستضاؤوا بأنوار بصائرهم لوجدوا بين المعصيتين فرقاً بعيداً وتفاوتاً شديداً، بل لا نسبة بين المعاصي المستلزمة للإخلال بحقّ الله سبحانه على الخصوص وبين ما يتعلَّق مع ذلك بحقّ العبيد خصوصاً أعراضهم.فإنَّها أجلّ من أموالهم وأشرف، ومتى شَرُف الشّيء عظم الذنب في انتهاكه مع ما يستلزمه من الفساد الكلّي كما ستقف عليه إن شاء الله، أحببت أن أضع في هذه الرسالة جملة من الكلام على الغيبة وبما ورد فيها من النهي في الكتاب والسنَّة والأثر ودلالة العقل عليه وسمّيتها (كشف الريبة عن أحكام الغيبة)
    4. منية المريد، ص ٣٢۷: قَالَ الْبَرَاءُ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ص حَتَّى أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي بُيُوتِهَا فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَ لَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَ مَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ‌». وروي في «إحياء علوم الدين» ج ٣/ ۱٢٣؛ «تنبيه الخواطر» ج ۱/ ۱۱٥؛ و انظر «سنن أبي داود» ج ٤/ ٢۷۰، كتاب الأدب، باب في الغيبة، الحديث ٤۸۸۰؛ «كنز العمّال» ج ٣/ ٥۸٥، الحديث ۸۰٢۱.

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

4
  • فلماذا كلّ هذا؟ لأنّك في ذلك اليوم فعلت كذا، وتفوّهت بكذا، وهتكت ستر أخيك المؤمن أمام الناس، فيأتي الله ويهتك سترك، وهو يجيد ذلك جيّدًا. لأنّ سلسلة العلل والأسباب كلّها بيده، ويعرف تمامًا كيف يهيّئ الأمر ليحصل على النتيجة المرجوّة. 

  • لذا، فإنّ من أقبح العادات التي نبتلى بها نحن الشرقيّين ـ فالغربيّون ليسوا كذلك ـ الفضوليّة. طبعًا، هم جيّدون من هذه الناحية، ولكنّهم ليسوا كذلك من نواحٍ أخرى. عاداتهم جيّدة من حيث أنّهم إذا رأوا شخصًا في الشارع يتحدّث مع آخر، أو يحمل شيئًا، ويتكلّم مع آخر فإنّهم لا يعيرونه اهتمامًا، بل يكملون طريقهم.فهناك اثنان على جانب الطريق يتحدّثان لا يعتنون بهما، فعلى سبيل المثال، افترض أن شخصًا يريد أن يشتري شيئًا، وهناك آخرون أيضًا في الصفّ ينتظرون، فلا أحد يقول: الآن، ما الذي يقوله ذاك لهذا؟ وما هو الجواب الذي يجيب به ذاك؟ لا! بل كل إنسان مشغول بشأنه الخاص.

  • أو افترض أن شخصًا يريد أن يدخل منزله؛ فلا أحد يهتمّ بأنّه ماذا يُدخل إلى المنزل؟ وماذا يُخرج منه؟ وبأيّ سيّارة يأتي؟ وما لون ثيابه؟ لا أحد يهتم بهذه الأمور أبدًا.

  • من هذه الناحية هذه عادة جيّدة. ولكن من ناحية أخرى، فهي ليست كذلك! كأن يكون الأمر بحيث يُصبح الناس غير مكترثين للمسائل الاجتماعية أو الأخلاقيّة أبدًا؛ فمن وجهة النظر هذه، فالأمر غير صحيح.

  • أمّا نحن الشرقيّين، فلا نترك المارّ حتّى نفحصه من رأسه إلى أخمص قدميه. فما شأنك به؟! لقد جاء وذهب، من كان معه؟ ماذا فعل؟ ما لون ملابسه؟ عمّ يتحدّث؟ ماذا يجيبه الآخر؟ ما الذي في الورقة التي بيده؟ 

  • هذا قبيحٌ جدًّا ومضرٌّ بحال الإنسان. لقد رأيت كثيرًا من الناس، تحدث قضيّة لا علاقة لهم بها أصلاً، فيريدون أن يعرفوا تفاصيلها الدقيقة. يا أخي، اترك الأمر واذهب في سبيلك، فما شأنك أنت؟! أو أن القضية الفلانية قد وقعت، والزفاف الفلاني قد حدث، والشجار الفلاني وقع، والانفصال الفلاني حدث، الموت الفلاني وقع، ولكن الكثير من الناس ليسوا هكذا.

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

5
  • إذا قام شخص ما بعمل، يجب علينا أن نذهب ونرى: ما هو هذا العمل؟ كيف هو؟ مع أنّه لا علاقة له بنا، لكننا نريد أن نُوجِد رابطًا بين أنفسنا وبين تلك القضيّة، في الواقع، لا يوجد رابط. وأمثال هؤلاء، لو صلّوا مائة عام، وصلّوا صلاة الليل، فلن يتقدّموا خطوةً واحدة، بل سيراوحون أماكنهم. فهذه حالةٌ توجب التوقّف للإنسان. 

  • يا عزيزي، لدينا من المصائب والمشاكل ما يكفي، فلا يصل الدور أصلاً للتدخّل في شؤون الآخرين. أحيانًا، يحدث للكثيرين، وقد حدث لنا أيضًا، أن يتحدّث إنسان ما عبر الهاتف، ويتّضح من طريقة كلامه أنّ هناك أمرًا ما، فأُطأطئ رأسي وأمضي في طريقي. فلماذا يجلس الإنسان ليعرف ما الذي حدث؟! قد يكون الأمر متعلّقًا بالإنسان نفسه، أمّا أن تحدث مشاجرةٌ في عائلةٍ فلان، فأذهب لأرى ما سببها، فما علاقتي أنا بذلك؟ 

  • أمثال هؤلاء لا يتقدّمون أبدًا، ولا يتكاملون في سيرهم، يدورون حول أنفسهم مائة عام، وحول أهوائهم. فلنفترض أنّ إنسانًا ما يأتي ليتحدّث معي، فينظرون إليه وهم يحاولون أن يعرفوا ما يقول لي. يا أخي، إنّه يخبرني بمسألةٍ خاصّة. لقد قرأت مرّةً أنّ من أساليب أجهزة المخابرات في العالم، تعليم عملائها فهم كلام الإنسان من خلال حركة وجهه وفمه. فلنفترض أنّ إنسانًا يجلس على بعد ثلاثين مترًا ويتحدّث مع آخر، فصوته لا يصل، لكنّهم يعلّمونهم كيفيّة فهم ما يقول من خلال حركة الشفاه. ونحن الآن نفعل نفس الشيء. 

  • كان المرحوم العلاّمة يقول إنّ على الإنسان أن يهتمّ بشؤونه فقط. نعم، هناك مسألةٌ تتعلّق به شخصيًّا، ولكن حتّى في هذه الحالة، لماذا يستقبلها قبل أوانها؟ ستأتيه في وقتها. لماذا أذهب لأسمع الآن لأكون مستعدًّا؟ لا يا عزيزي! كلّ ما يتعلّق بالإنسان يأتيه في وقته ويتّضح له. يجب أن نفكّر قليلاً بالجانب الآخر، وأن ننسب الأمر إلى ذلك الجانب. فإذا أردنا دائمًا أن نبحث القضايا بانتظام في المسائل الجزئية، وفي عالم الاعتبارات وعالم التخيّلات، فلن نصل في النهاية إلى نتيجة.

  • ما هي صفات أهل حريم الشيطان؟

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

6
  • هذا طريقٌ جرّبه السالكون وأخبروا عنه، فمن أصغى انتفع، ومن لم يُصغِ لم ينتفع. علينا أن نهتمّ بأنفسنا وحساباتنا، ولا شأن لنا بالآخرين. فلانٌ يفعل كذا، ما علاقتي أنا؟ أما أن نذهب ونبحث ونتجسّس ونجمع معلوماتٍ عن خصومنا ليوم الحاجة، فكلّ هذا من الشيطان، ودورانٌ حول حريم الشيطان.۱ 

  • فللملائكة حريم، وللشياطين حريم. فحريم الملائكة هو العفو، والصفح، والتجاوز، وغضّ الطرف، والنظر إلى الأمور بنظرة التوحيد والوحدة، وعدم التدخّل في شؤون الآخرين، والانشغال بالنفس. هذا هو حريم الملائكة. 

  • أمّا حريم الشيطان فهو الفضوليّة، والتدخّل في شؤون الآخرين، والتطفّل هنا وهناك، والتساؤل عمّا يفعل هذا وذاك، والمكائد والمؤامرات. فهذا هو حريم الشيطان، وكلا الحريمين واضحٌ ومميّز. 

  • وأقول لكم ـ وهذا أمرٌ مجرّبٌ رآه الجميع ورأيناه بأنفسنا ـ كلّما دخلتَ حريم الشيطان، لن تجني إلّا الشقاء والبؤس والضياع. وكلّما دخلتَ حريم الملائكة، لن تجني إلّا الانبساط والراحة والسكينة والنشوة وراحة البال. 

  • ما هي صفات أهل حريم الملائكة؟ (قصة الشيخ الخرقاني)

  • جاءوا وقالوا لي: سيّدنا، إنّهم يتحدّثون عنك في المكان الفلانيّ. 

  • قلت: ما يقولونه هو قليلٌ من كثير. كانوا يريدونني أن أقول: إذن، ما دمت هناك، فانتبه لما يقولون وتعالَ وأخبرني.ولكنّي قلت: لا يا عزيزي، ما يقولونه عنّي هناك هو قليلٌ من كثير. لا شيء. ومضى ذلك الأمر، ومضت عليه سنوات. 

  • لو أنّني ذهبت وقلت: بما أنّك في تلك المؤسّسة أو الشركة، فاذهب من حينٍ لآخر وخذ معك مسجّلاً وانظر ماذا يقولون، فماذا كان سيحدث؟ لكانت قد اشتعلت جهنّم، وأصبح الأمر خليطًا من المشاكل والمتاعب والضياع. 

  • جاءوا إليّ وقالوا إنّ فلانًا يكتب كتيّبًا يجمع فيه خمسين موضعًا كذبتَ فيه أو قلتَ خلاف الواقع. فقلت: سأضيف عليها خمسمئة موضعٍ من عندي، أعطوها له ليكتبها. 

  • قيل للشيخ أبي الحسن الخرقاني رضوان الله عليه، ونحن أين من أن نقيس أنفسنا بهؤلاء الكبار، أستغفر الله ألف مرّة: إنّ فلانًا قال في المكان الفلانيّ: إن كان الشيخ أبو الحسن قطرةً فنحن بحر، وإن كان حبّةً فنحن حمل بعير. فقال: قولوا له: تلك القطرة والحبّة لك أيضًا، فأبو الحسن ليس بقطرةٍ ولا حبّة!. لقد أراح نفسه. انظروا، حريم الملائكة واضح، فيه السكينة والرَّوح. 

    1. الكافي ج ٢، ص ٣٥٤، كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين و عوراتهم، الحديث ۱: زُرَارَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليهما السلام قَالَ: قَالا: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ أَنْ يُؤَاخِيَ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ فَيُحْصِيَ عَلَيْهِ عَثَرَاتِهِ وَ زَلَّاتِهِ‌.»

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

7
  • إنّي لأعجب من أناسٍ قضوا شهرًا واحدًا عند المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه ولم يدركوا شيئًا من هذه المعاني. كان يكفي شهرٌ واحدٌ عند هذا العظيم للوصول إلى هذه الحقائق، فما بالك بسنةٍ أو عشرين سنة! إنّه لأمرٌ عجيب، ويجب أن نلجأ إلى الله ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾۱النور هو ميزان التمييز، ووسيلة الإدراك. 

  • الإنسان يمارس تجارته، ويدير مصنعه، وينتج بضاعته، فيأتي من يقول له: فلانٌ ينافسك ويفعل كذا. فيقول: لا شأن لي به، فليفعل ما يشاء. أمّا أن يسعى ليسبقه، ويضرّ بتجارته ليربح هو، فكلّ هذا من حريم الشيطان، وللشيطان حريمٌ وقدرة. فنحن شخصيّة مهمّة أيضًا: ﴿فَبِعِزَّتِك لَأُغْوِينَّهُمْ﴾٢ ﴿فَأَنْظِرْني‌ إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُون‌﴾٣ لأدبّر أمر بني آدم هؤلاء الذين خلقتهم. فيقول الله اذهب ودبّر أمرهم، ولكنّك أرحتنا، فلا تظنّ أنّك آذيتنا كلاّ يا عزيزي! فأولئك الذين لا يصلحون لهذا المقام، بدلاً من أن نطردهم نحن، نسلّمهم إليك أنت لتطردهم، فتريحنا منهم. فكلّ من لا يصلح، قفْ في وجهه، وطوّق قلبه، وأدخله حريمك. فيا أيّها الداخلون في حريم الشيطان، اعلموا أنّكم تُحرمون وتُضربون من حيث لا تشعرون. 

  • إنّ كلّ الأمور واضحة ومحدّدة. و في اللحظة التي نجلس فيها ونخطّط، لو فتحنا المصحف وقرأنا منه صفحتين بدلاً من ذلك، فهل سيبقى لدينا ذاك الحال السابق؟! سنجد أنّنا نقول: دعْ عنك هذا الأمر. فلماذا نقول ذلك؟ لأنّك قرأت صفحتين من القرآن. فإمّا هذا صحيحٌ وذاك خطأ، أو العكس. 

  • المعيار هو: كلّما تحسّن حالنا، قلّ اهتمامنا وارتباطنا بحريم الشيطان. وكلّما تغيّر حالنا الروحانيّ، وجدنا أنفسنا نميل إلى حريم الشيطان وما فيه من أمور. 

  • لِمَ هذا؟ لأنّ للنفس تعلّقًا وهي تسير نحو هذا الاتجاه، نحو هذا الجانب.

  • لقد جاؤوا إلى المرحوم العلاّمة فقالوا: سيّدنا، فلان في المدينة الفلانية ينسب إليكم في مجلسه نسبًا شديدة القبح، إنّه يتحدّث ضدّكم كثيرًا، ويتكلّم بكذا وكذا. فهل تأذنون لنا أن نذهب إلى ذلك المجلس فنقوم بكذا وكذا من الردّ أو المواجهة؟

  • فقال: في النهاية لا بدّ يا عزيزي أن يكون لكِلا الطريقين أهله! فلمَ تريدون أن تأخذوا أهل ذاك الطريق؟! لا بد أن يكون لكِلا الطريقين أهله، لِمَ تذهبون وتأخذون أهل طريقهم؟ فأهل طريقنا هم هؤلاء، وذاك الطريق الآخر لا بدّ أن يكون له أهله في نهاية المطاف. فدعوا الأمر وشأنه.

    1. سورة النور (٢٤)الآية ٤۰
    2. سوره ص (٣۸) آيه ٨٢.
    3. سورة الحجر (۱٥) مقطع من الآية ٣٦.

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

8
  • انظروا كم كان تعامله بسعة صدر وكم كان عقلانيًّا! والآن، رحل العلاّمة عن الدنيا، ورحل أيضاً ذاك الشيخ الذي كان يتكلّم، فكلاهما رحلا عن الدنيا. والآن يجب على ذاك الناقد أن يُحاسَب هناك. الآن يذهب إلى هناك، والحال هناك ليس كالحال في هذه الدنيا، حتّى يجلس ويجمع المريدين ويقول ما يشاء! هناك يجب عليك أن تجيب عن كلّ كلمة قلتها وتخرج عن عهدتها! وبعد ذلك، كلّ شيء جاهز! هذه المجموعة تذهب وتأتي مجموعة أخرى، هذه المجموعة تذهب وتأتي مجموعة أخرى، وكلّ شيء جاهز؛ فحالُ العلاّمة معلوم، وحالته الروحيّة معلومة، وكلّ شيء واضح.

  • انظروا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ألم يكن سلوكه كذلك طوال حياته؟ ألم يكن كذلك؟ كان بعضهم يقف أمام الملأ ويُطلِقُ كلاماً قبيحاً في حقّ الإمام، أن "يا علي، هذا الكلام الذي تقوله أتقوله من عند نفسك أم من القرآن ومن كتاب الله؟!" أبهذا يخاطب أمير المؤمنين وحاكم المسلمين؟! ولكن كيف كان تعامل أمير المؤمنين؟ "اتركوه! إما أن يكون قوله صحيحًا أو باطلاً، فإن كان صحيحاً فعلينا أن نطيعه، وإن كان باطلاً فعليه هو أن يحمل مسؤوليّة كلامه." فكم هو هيّن، وكم هو سهل الأمر!

  • فمن الذي يقول هذا الكلام؟ إنما يقوله من وصل إلى المطلوب، ووصل إلى الواقع، ووصل إلى حقيقة الأمر، فلم يَعُد يبالي. فليأتِ أيّ إنسان وليقل ما يشاء، فهو لا يبالي. أما الضعيف، فهو في قلق واضطراب دائم. الناقص دائماً في تذبذب وتغيّر. ذلك الذي ليست يده ممدودة إلى مكان ثابت، يسعى باستمرار ليمدّ يده إلى مكان ثابت حتّى لا يضيع منه شيء. أما من لم يكن كذلك بل كان قلبه موصولاً بالبحر، وقلبه موصولاً بالله، فإن لم يتحقّق الأمر بهذه الصورة، يتحقّق بصورة أخرى. فهذا الحريم هو حريم الملائكة. وإن دخل الإنسان فيه فإنّ الملائكة تؤيّده باستمرار. وإن دخل الإنسان في الجانب الآخر، تأتي تلك الموجودات الأخرى وتؤيّده باستمرار، تؤيّده باستمرار، تؤيّده. وفجأة يرى أن يا لهول ما حدث! لقد اختلطت الأوضاع إلى درجة لا يمكن إصلاحها! لقد فسدت الأوضاع هكذا، واكتسبت الكدورة هكذا... لماذا؟

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

9
  • لأنه استمرّ ودخل باستمرار في الاعتبارات، دخل باستمرار في الكثرات، يستمع باستمرار إلى الأقاويل والأخبار، باستمرار، باستمرار... يا هذا، لو كان قلبك حديدًا لكان قد قضى عليه المِبْرَد حتى الآن!

  • إنّه قلب! فماذا تفعل بهذا القلب؟! هذا القلب الذي يجب أن يكون محلّ الرحمن، هذا القلب الذي يجب أن يكون مكان الله، ما الذي تضع فيه؟ التهمة، الغيبة، السباب، النميمة، سماع هذا، وسماع ذاك، واللغو، والحرام، والتدخّل في شؤون الآخرين، وتقصّي أسرار الآخرين، وكذا وكذا. كلّ شيء في كلّ شيء!

  • أي إذا أراد الإنسان حقًّا أن يحقّق في الأمر، يجد أن هذه المسألة موجودة في كلّ أجزاء كيانه وفي مفاصل حياته. كانت هناك الجلسة الفلانية، فمن كان في تلك الجلسة؟ 

  • ـ نحن لم نكن هناك لنرى من كان؟ ما شأنك بمن كان؟ 

  • جرى هناك الحديث الفلاني، من ذهب إلى هناك ومن لم يذهب؟ كانت هناك سفر إلى مكان ما، فمن ذهب ومن لم يذهب؟ تمّ إنجاز عمل ما، فمن شارك فيه؟! كلّ هذا اعتبارات، كلّ هذا تخيّلات، كلّ هذا لا قيمة له... فمن عليه أن يراقب نفسه، لا يترك مجالاً للانشغال بغيره.

  • هذه رواية عجيبة. فإن كان المرحوم العلاّمة يقول: اقرؤوا حديث عنوان البصري مرّة في الأسبوع، فأنا أقول: اقرؤوا هذه الرواية كلّ يوم.

  • قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «كَفَى لِلْمَرْءِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعُيُوبِهِ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ.»۱

  • يكفي للرجل أن ينشغل بعيوبه عن عيوب الناس. حقًّا، الآن، نحن هنا، كلّنا معًا، كلّنا معًا، فلنجلس ونفكّر في أنفسنا: كم عيباً لدينا؟ كم عيباً لدينا؟ لا يمكن أن نقول إنّه ليس لدينا عيوب. فلنجعل ضمائرنا قاضيًا بيننا وبين الله، لا يمكننا أن نخدع الله، نحن أنفسنا هنا، المجلس خاصٌّ بنا، لا نتحفّظ كثيراً على بعضنا البعض، هل حقًّا ليس لدينا عيوب؟ لا عيب لدينا أبدًا؟ والذي لا عيب فيه هو الله وحده، يقولون: "الجميل الذي هو بلا عيب هو الله وحده." فهل حقًّا ليس لدينا أيّ عيب؟ ألم تُظهِر لنا الامتحانات التي واجهناها في حياتنا نقاط ضعفنا؟ إن لم نكتشف نقاط ضعفنا خلال هذه الحياة، فعلينا أن نيأس من أنفسنا كثيرًا. أستبعد ذلك. الأمر ليس كذلك. أنا أعرف عيوبي، وأنت تعرف عيوبك، كلّنا نعرف. كلّ إنسان لديه عيبه الخاصّ به. فالإنسان لديه عيوب، وإلا لكان كاملاً. إذن، هذا الطريق، طريق السير والسلوك، لِمَن هو؟ إنه لكي تتحوّل جميع العيوب إلى كمالات، لكي تزول جميع العيوب. والطريق والمنهج الذي جاء به الأعاظم واقترحوه، إنما كان لهذ ه الغاية!

    1.  تحف العقول، ص ٢٨٢: «وَ كَفَى بِالْمَرْءِ شُغُلًا بِعَيْبِهِ لِنَفْسِهِ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ».

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

10
  • كان المرحوم العلامة الطهراني يقول: هذا الكلام الذي قلناه طوال عشرين سنة إنما هو لأجل أن يصل الواحد منكم إلى أموره وعيوبه الخاصة، وإلا لو كان الأمر يتعلق بالتصرّف المعجز، لكان النبيّ صلّى الله عليه وآله قد تصرّف، لكان النبيّ قد أتى بالمعجزة.

  • كان المرحوم العلاّمة يقول: كانت هذه المجالس التي عقدناها ليالي الثلاثاء وأيام الجمع، كلّها من أجل أن نصل إلى عيوبنا، ولكنّنا لم نكن نلتقط الإشارة والمغزى! كان يقول إنّ الذكيّ هو الذي إذا تحدّث وليٌّ من أولياء الله، ركّز كلّ انتباهه إليه ليرى إن كان الكلام موجّهًا له. وكنت أرى هذا الأمر في المرحوم العلاّمة نفسه في الجلسات التي كنّا نحضرها مع سماحة السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، فقد كان يركّز انتباهه كلّه إليه، وكأنّ كلّ حواسه متوجّهةٌ إليه، لا يلتفت يمينًا ولا شمالاً، "كان تمام الانتباه مُركّزًا على مصدر نشأة المسألة وإلى أين تهدف (أين تريد أن تصل). بهذه الكيفية كان اهتمام هذا الشخص (المتحدث عنه) في أحاديثه وفي مطالبه (المواضيع التي يطرحها). لقد حدثنا هذا السيد (بشكل متكرر) كثيرًا... .

  • (يستطرد المتحدث): كنا على هذا الحال، هذا السيد (المقصود) كان بين أيدينا الصباح، كان يتكلم مراراً وتكراراً في الصباح.

  • كنتُ أنا نفسي في مجلس كان هذا السيد يعبّر فيه عن رأيه تجاه قضايا معينة، ولكنه لم يكن يستطيع أن يصرح بذلك (بشكل مباشر) .بمجرد انتهاء ذلك المجلس، رأيتُ عددًا من الناس يقتربون، يا سيدي، كالخراف! (انظر إليهم/في ذلتهم). [يقولون]: "أرأيت؟ هذا السيد قال هذا! أرأيت؟ لقد أيّد فلانًا! يا له من أسف! أسف، أسف على ذلك الخبز، أسف على ذلك الشعير (تعبير عن الحسرة على الجهد الضائع والجهل). حقًا، هذا السيد أتعب نفسه (بذل جهدًا جهيدًا) لمدة ساعة حتى قال كلمة...، وبمجرد أن خرج هذا السيد (من المجلس/تكلم)، [قالوا]أرأيت؟ أرأيت أنه قال؟ أرأيت أنه أيّد؟ أرأيت أنه قال كلامنا؟ أرأيت أنكم أنتم (الطرف الآخر) كذا وكذا؟ عجب! إنه لأمر عجيب حقًا."

  • لماذا يتحدّث شخصٌ ساعةً كاملة، ثم يخرج آخر بهذه النتيجة؟ لأنّه يستمع إليه بفرضيّاتٍ مسبقة. لقد احتفظ بفكرةٍ في ذهنه، ويريد أن يجرّ المتكلّم إليها، لا أن يجرّ نفسه إلى أفكار المتكلّم. 

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

11
  • كأن يتشاجر اثنان ويذهبان إلى المحكمة، فيكون كلّ همّ هذا أن يُسقِطَ الآخر ويُدينه أمام القاضي، وذاك أيضًا كلّ همّه أن يُسقِطَ هذا. فإذا لم يحكم القاضي بحكم صريح، بل قال أمورًا عامة، يقول أحدهما: "أرأيت؟ أرأيت؟ لقد أعطاني الحق!" والآخر يقول: "أرأيت؟ لقد أعطاني الحق!" لكن إن كان هناك حكم حقيقي، وهذا يتطلب عملًا؛ فعندما يذهب شخصان، لدينا آية في القرآن: عندما تذهبون إلى النبي، كيف تذهبون؟ هل بفرض مُسبَق؟ لا! لا تذهبوا بأفكار مُسبَقة۱.

  • جاء إليّ جماعة منذ حوالي خمس سنوات، عندما كنت في مشهد ليناقشوني في مسألة ما. حسنًا، دعونا نتجاوز الأمور الهامشية والقضايا الجانبيّة، فهؤلاء لم يكونوا أصلاً بمستوى أن يتحدّثوا.

  • كان أول سؤال طرحته عليهم: هل جئتم إليّ بأفكار مُسبَقة، أم أنكم جئتم لتدركوا الحقيقة؟ فرأيتهم جميعًا صامتين. فقلت: "إذًا الأمر واضح؛ هل جئتم لتفرضوا عليّ أم جئتم لتدركوا حقّ المسألة؟"

  • فقال أحدهم: "لا! بل جئنا لنعرف الحق". 

  • قلت: "إذًا اعترفتم؟" 

  • قال: "نعم".

  • قلت: "الآن، سأسألكم أنا. أنتم تريدون سؤالي، وأنا سأسألكم".

  • فطرحت سؤالًا، فأجاب بجواب. فرددت على جوابه فاحتار ة وقال: "لا، الأمر ليس كذلك". قلت: "أرأيت؟ لقد جئت الآن بفكرة مُسبَقة! أنا أقول إن هذا الاعتراض يَرِدُ على جوابك، وهذا الاعتراض يقبله أي شخص تخبره به. فلماذا لا تقبله؟ لماذا أنت لا تقبل؟"

  • قلت: "لو كان هنا مائة لقبلوا اعتراضي فهل أدركت الآن لماذا لا تريد أن تقبل؟ لأنك جئت بفكرة مُسبَقة، وفي البداية قلت لي: لا، لم آت بفكرة مُسبَقة. فاذهب. ومتى أردت أن تطلب الفهم، فتعال إلى هنا. أمّا بفكرة مسبَقة فليس لدي وقت لأتحدّث مع أفكارك المسبَقة هذه، فاذهب وشأنك."

  • نحن في تعاملنا مع القضايا الواقعيّة والحقيقيّة يجب أن نكون هكذا، لا أن نضع لأنفسنا أفكارًا مُسبَقة، وبعد ذلك ماذا؟ نريد كلّ شيء: أن يكون الكون والزمان والعالم كله لصالحنا. كلّ من تحدّث ضدنا، نقول: "لا! هذا لا يفهم كلامنا، هذا لا قيمة له، هذا أصلاً من أنصار فلان، هذا كذا وكذا...". وكل من قبلنا، نقول: "نعم! أرأيتم أنّنا نقول الكلام الصواب؟ نحن كذا وكذا نحن على حق."

    1. سورة النساء (٤) آية ٦٥: ﴿فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

12
  • هذا لا يُجدي! يا سيدي العزيز، هذا لا يستقيم.

  • نحن في تعاملنا مع الحقائق، يجب أن نكون كذلك، لا أن نضع لأنفسنا أفكارًا مسبقة، ثمّ نهاجم كلّ من يخالفنا. هذا لا يجدي نفعًا. فلو بقينا على هذه الحال مائة عام، وختمنا القرآن مائة ختمة في شهر رمضان وأنا أضمن أنّه لن يجدي نفعًا يوم القيامة ما دام فينا هذا الحال من التمسّك بالأفكار المسبقة ورفض الحقّ. 

  • نعم، أنا أقرّ بأنّ سماع الحقّ صعبٌ وليس سهلاً، ولكن يجب تقبّل كلّ صعب. فالقوّة ليست في قبول السهل، بل في قبول الحقائق التي هي ضدّ الإنسان، فهذا هو الإسلام، وهذا هو السلوك. السلوك هو مخالفة هوى النفس، وضربها في تعلّقاتها، وهذا ليس بالأمر السهل. 

  • ما هو الطلب الحقيقيّ الذي يريده الإمام السجّاد؟

  • يقول الإمام السجاد عليه السلام ـ ومن أين ذهبنا إلى أين ـ إنّنا لا نملك أهليّة استماعك لنا. 

  • فتارة الله يسمع كلامنا... والله يسمع كلّ الكلام وكلّ الأصوات، ولو لم يسمع لما كان إلهًا. وفي الدعاء: «یَعْلَمُ عَجِیجَ الْوُحُوشِ فِی الْفَلَوَاتِ»۱ يسمع تلك الأصوات من تلك الحيوانات الصغيرة بين التلال، والتي على الإنسان أن ينصت جيّدًا ليسمعها وليعرف أيّ صوت من الصرصور قد صدر وأيّ صوت من الطائر وأيّ صوت من الحشرة. ولكنّ الله يسمعها واحدة واحدة ويميّز بينها جميعًا، نحن نسمع ضجيجًا، ولكن التمييز بينها ومعرفة أنّ كلّ صوت يرجع إلى من فهذا ما لا يفعله إلّا حاسوب الله الذي يحلّل هذه الأصوات ويفصلها. هو يسمع كلّ شيء، سواء قلنا خيرًا أم شرًّا، فإن مدحناه سم وإن ذممناه سمع. 

  • فالسَّمْع صفةٌ تختصّ بذات الله تعالى، بسبب إحاطته بكلّ الموجودات وآثارها الوجوديّة وذلك بالإحاطة العليّة أو حسب بعض التعبيرات الإحاطة التي هي أرفع من العليّة. 

  • فهذا معنى.فالسمع يعني أنّه يسمع، فتارة يسمع ويمرّ، كما نسمع نحن صوتًا ونمرّ. وتارة يسمع ويقف، وهذا الوقوف هو «الاستماع»، أي أنّه لا يسمع فحسب، بل يرتّب أثرًا.فمتى يرتّب الله أثرًا؟ 

  • الاستماع يعني الاهتمام بما يقول هذا القائل، فمتى يستمع الله؟ يستمع حين يكون هناك طلبٌ حقيقيّ. أمّا أن يقول الإنسان من باب المجاملة وهو في طريقه هكذا: «نسألكم الدعاء»، عندما يريد الإنسان أن يذهب إلى الحرم يقولون له: نسألك الدعاء، فهذا ليس طلبًا، وهذا لا يسمّى استماعًا، بل سماعًا وسمعًا. وإذا أراد الإنسان أن يسافر إلى الحجّ فكلّ من يأتيه يقول له نسألك الدعاء، وإذا دخل المسجد يقال له: نسألك الدعاء، يخرج من المسجد فيقال له: نسألك الدعاء، يقرأ مجلس عزاء فيقال له نسألك الدعاء.

    1. نهج البلاغة الخطبة ۱٩۸: «یَعْلَمُ عَجِیجَ الْوُحُوشِ فِی الْفَلَوَاتِ وَ مَعَاصِیَ الْعِبَادِ فِی الْخَلَوَاتِ وَ اخْتِلاَفَ النِّینَانِ فِی الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ وَ تَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّیَاحِ الْعَاصِفَاتِ»

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

13
  • في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، كان المرحوم العلامة يتحدّث، وعندما حان وقت دعاء "بِكَ يا الله" ونحوه من التوسّل والدعاء، فجأةً بدأت من هذا الجانب مجموعة من الأشخاص عديمي الأدب وسيّئي التربية بالصياح: "سيدنا نسألك الدعاء، الجميع نسألك الدعاء!

  • فجأةً، قال المرحوم العلاّمة: اصمتوا! ما هذا؟ لماذا جاء هؤلاء إلى هنا أساسًا؟ ما هذا الطلب للدعاء؟ سيّدنا، نسألك الدعاء! كلّه كذب يا عزيزي! كلّه فارغ، مجرّد لقلقة لسان: نسألك الدعاء، نسألك الدعاء. لماذا تكذب وتقول نسألك الدعاء؟! هل خطوت خطوة واحدة لأجل تلك الأدعية التي تطلبها؟ والآن تقول نسألك الدعاء؟ إنه كلام فارغ يا عزيزي!

  • قال: لماذا جاء هؤلاء إلى هنا يقولون نسألك الدعاء، نسألك الدعاء؟ إنّهم يفسدون أجواء المجلس. كلّ هذا...، نعم لن نقول إنهم جميعًا كذلك؛ ربما يكون في ذلك شيء من المبالغة، ولكن تسعين بالمائة من عبارات «نسألكم الدعاء» هذه فارغةٌ من المحتوى. الدعاء الجادّ هو الذي يكون صاحبه قد سعى في طلبه بنفسه، ثمّ يقول: أنا أسعى في الأمر وأحتاج إلى مساعدة، فادعُ لي. فإذا ذهبت إلى تلك الأماكن المقدسة فادع لي، تقول: سيدنا، إذا ذهبت تحت الميزاب فنسألك الدعاء. سيّدنا، عندما تذهب إلى هناك، فادعُ لنا أيضًا. سيدنا، عندما تذهب إلى هناك، ادعُ هناك، ادعُ هناك. [فيقول:] لا يا عزيزي، لن أدعو لأيّ منكم، فلا تضيعوا وقتي عبثًا. فأي دعاء هذا؟!

  • أو قد يذهب المرء إلى هناك ويقول: "يا الله، كلّ من أوصاني بالدعاء، فاقضِ حاجته" هذا هو، وليس أكثر من هذا!

  • أما طلب الدعاء الذي يستقرّ في الروح فهو رغبة وتعلّق لا يزولان أبدًا، بل يبقيان، نحن، في طلبنا للدعاء وإخبارنا للّه به، نكذب، لا أجامل في هذا الأمر، نحن نكذب، نقول: «يا ربّ، أدخلنا الجنّة، وطهّرنا من الرذائل»، ونحن لم نخطُ خطوةً واحدة، ولم نجاهد أنفسنا، ولم نراقب أعمالنا، فإنّ الله يقول: قلْ هذا الكلام حتّى تزهق روحك ويجفّ لسانك، فماذا فعلت أنت؟!هل خطوت خطويتين؟! هل جاهدت مجاهدتين؟! هل راقبت مراقبتين؟ أنت لا تراقب نفسك خلال نهارك، ثمّ بعد ذلك تقول مرارًا نسألكم الدعاء! نسألكم الدعاء! اللهم إنّا ندعوك اللهمّ إنّا ندعوك، اجعلنا كذا واجعلنا كذا! 

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

14
  • هذا يسمّى «سَمْعًا»، أمّا الاستماع فلا خبر عنه. متى يكون الاستماع؟ حين ينهض العبد بنفسه، ويثبت في مقام الطلب، حينها يتعلّق به الاستماع من الله. يقول الله ماذا؟! ما الخبر؟! ما الذي جرى؟! ما صراخك وضجيجك هذا؟ ماذا تقول؟! تعال واجلس لِنَرَ ما الذي تريد قوله. وإلا فأن يجلس المرء هكذا على سبيل لقلقة اللسان ويقول: "يا الله اغفر لي، يا الله وفقني، يا الله خُذ منّي النفس الأمّارة بالسوء".

  • فيقول الله: ابْقَ مشغولاً بهذا هكذا حتى ينتهي وقتك وينقضي عمرك هنا. عندها، هناك في الآخرة، سنضرب على رؤوسنا قائلين: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾۱ يا ليت بين نفسي وبين تلك الأماني وتلك الأعمال وما كان لديّ ما بين المشرق والمغرب، ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ.﴾

  • هؤلاء لا يتركوننا، هؤلاء هم رفاقنا، لا يستطيع الإنسان أن يبتعد عنهم.

  • هذا الاستماع من الله يظهر عند الطلب الحقيقي، أي الاستماع من ناحية الله.

  • يقول الإمام السجاد عليه السلام إنّ طلبي هذا لا يوجب استماعك، فليس معنى أنّي طلبت، أنّك ملزمٌ بالاستجابة. كما قلنا، لا منّة لنا على الله. لأنّ كلّ عمل خيرٍ يصدر منّا، وكلّ نيّةٍ خالصة، أصلها وحقيقتها نازلةٌ من ذلك المنبع. فهل يمكن أن نمنّ على شخصٍ بشيءٍ هو ملكه أصلاً؟ فلو أنّي مثلاً أعطيك مالاً، وأقول: خُذ هذه المائة تومان. ثمّ تذهب أنت على سبيل المثال، فتعطيها لفقير، أو أن تشتري بها كيلو من العنب، وكيلو من التفاح، وتأتي بهما إليّ. ثم تأتي وتَمُنّ عليّ فتقول: أنا اشتريت لك كيلو من التفاح.

  • حسنًا، أنت أخذت ثمنه منّي!

  • وافترض أنّ خادمًا يأخذ مالاً من صاحب المنزل، ثمّ يذهب ويشتري كمية من الأغراض ويأتي بها، ثمّ يأتي ويمتنّ فيقول: "أنا اشتريت لكم هذه الأشياء".

  • أنت أخذت المال من صاحب المنزل نفسه. والمال الذي يؤخذ من صاحب المنزل لا يستوجب تفضّلاً منّة بعد ذلك."

  • كلّ عمل خيرٍ يصدر منّا يعود في أصله إلى لطفه وعنايته ومشيئته، فكيف نأتي بعد ذلك ونمنّ على الله: يا ربّ، قمنا وصلّينا لك ركعتين، وصمنا لك، وأخلصنا نيّتنا؟ فيقول الله: من الذي أعطاك هذا؟ أنا الذي أعطيتك، ولولاي لكنت في حريم الشيطان، والآن تمنّ عليّ؟! 

    1. سورة الزخرف (٤٣) آية ٣۸.

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

15
  • إذًا، لا ينبغي أن نتوقّع شيئًا في مقابل أعمالنا الخيّرة. هو يأتي من تلقاء نفسه بكرمه وعزّته، وهذا أمرٌ آخر. وكما قال عيسى عليه السلام: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾۱ 

  • إذًا، إيّانا أن نظنّ هذا ونحن في مقام الطاعة! إيانا أن نذكر الله هكذا ونحن نتوقّع أن يقوم الله في المقابل بمنحنا عناية ما!

  • لقد قلت هذا مرارًا: يجب أن تكون فينا دائمًا مسألة الافتقار، وفي جانبه تعالى يجب أن تكون دائمًا مسألة العظمة والعزّة والدلال. لا ينبغي أن نقول: لقد قمنا وصلّينا، فبالتالي لماذا تعسّر أمرنا هنا؟!

  • ـ ما علاقة هذا بذاك؟ هذا العسر ربّما يكون خيرًا! فلا ينبغي أن نقول: "بما أنّنا نملك حالاً روحيًّا، وهمّة، ومراقبة، وعبادة، فلماذا تلك المسألة عالقة؟!

  • ـ عجيب! هل هذا الحال وهذه الهمّة والمراقبة هي لأجل حلّ تلك العُقد أم لا؟! بل ملفّ كل واحدة من هذه الأمور منفصل، وكلّ منها يسير في مساره الخاص. سواء كانت هناك عُقد أم لا، عسر أم لا، وكنّا في سعة أم لا، يجب على الإنسان أن يسعى لأجل نفسه، ولأجل حاجته، ولأجل قضيته الوجودية.

  • فالذي أصيب بمرض خبيث وخطير، إذا قالوا له: "مزرعتك الفلانية لم تُعطِ محصولًا"، فإنّه لن يفكّر في الأمر مطلقًا. سيقول: "أنا نفسي في خطر الزوال، ومزرعتي لم تُعطِ محصولًا! أنتم تتحدّثون عن مزرعتي؟! هل تقولون إنّ مبيعات مصنعي كانت قليلة؟ المحرّك الفلاني تعطّل؟ تلك الأرض أصابها الجفاف؟ حدث كذا وكذا في المكان الفلاني؟! أنا نفسي الآن في طريق الزوال، وهو يتحدّث عن مصنعي!" ألا يضحك من سذاجة الأمر؟!

  • وجودنا في هذه الدنيا هو لأجل هذا، لأجل هذا: ما هي مشكلتنا؟ ما مشكلة هذه النفس؟ ما هو دواؤها؟ ما هو نقصها؟ وما هو كمالها؟ ما هو طريقها؟ وكيف يجري تهذيبها؟ في حين أنّا تركنا هذا الجوهر، وتبعنا المزرعة، ومحرّك المصنع، والشيء الفلاني...، فنحن مشغولون بتلك المسائل ونوجّه اهتمامنا إليها.

  • إذًا، عبادتنا، مناجاتنا، قرآننا، مراقبتنا، لأجل ماذا؟! هل هي لأجل أن يصل هذا الوجود إلى الكمال، أم لأجل أن تجد المزرعة الماء؟! هل هي لأجل أن يستقيم هذا الوجود، أم لأجل أن تُباع ثمار البستان؟ هل هي لأجل أن تخرج هذه النفس من الأنانيّة والتعلّق بهذه الدنيا، أم لأجل أن يعمل محرّك المصنع وتُصنع البضائع؟ لأجل أيّ منهما؟!

    1. سورة المائدة (٥) الاية ۱۱۸

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

16
  • لقد ضللنا الطريق كثيرًا، وسرنا في سُبل خاطئة كثيرة. غفلنا عن الذات وانشغلنا بغيرها. غفلنا عن الذات، التي هي إكسير الحياة، أي النفس والوجود ذاته، ومددنا أيدينا إلى الخرز والخزف فلم هذا؟! هذا ناتج عن الغفلة، هذا هو ستار الغفلة.

  • هنا نصل إلى النقطة المهمّة في كلام الإمام السجاد عليه السلام عندما يقول: «وَقَدْ قَصَدْتُكَ بِطَلِبَتِي»، فما هو هذا الطلب؟ هل هو طلب صحّة البدن، أو عمارة المزرعة والبيت، أو زيادة المال والولد والجاه؟ أم أنّ الطلب الذي يريده الإمام السجاد هو شيءٌ آخر؟ والحاجة التي يذكرها «وتَوَجَّهْتُ الَیک بحاجَتي»، هي حاجةٌ تتجاوز هذه الأمور. والاستغاثة «وجَعَلتُ بِک اسْتغاثَتتى» فهل يستغيث الإمام السجاد من أجل أمور الدنيا؟ حاشاه! الاستغاثة من أجل الدنيا هي شأن أولئك الذين غرقوا في دنياهم ولا يفقهون شيئًا سواها. إنّ طلب الإمام وحاجته واستغاثته، كلّها تعود إلى ذاته، إلى مسألته الوجوديّة، بمعزلٍ عن كلّ المطالب والحاجات الأخرى. هذا رغم أنّنا نعتقد بوجوب طلب كلّ شيء من الله، فقد خاطب الله النبيّ موسى عليه السلام أن ادعني في ملح طعامك.۱ ولكنّ هذا الطلب هو عين تلك الحاجة إلى الذات، فالاستغاثة مرتبطة بالذات، ولا فرق في ذلك.

  • فمن يتوجّه إليه تعالى عليه ألاّ يرى غيره بعد ذلك، عليه ألاّ يرى غيره.

  • قصّة في التوكّل: لا تعتمد على غير الله حتّى في فعل الخير

  • ذات ليلة، وكنت في ذاك المنزل السابق، اتّصل بي أحدهم يطلب مساعدةً في أمرٍ ما ولحلّ مشكلة ورفع حاجة، وهذا أمر يحصل للجميع، وحيث إنّه كان من المقرّر أن يأتي أحدهم بمبلغ فقد وعدته بالمساعدة في اليوم التالي. وبعد أن أغلقت الهاتف، قلت في نفسي: لماذا وعدته؟! على أساس أنّ فلانًا سيأتي بالمبلغ، فماذا لو لم يفعل؟! يا للعجب، لقد أخطأت! فقلت: يا ربّ، تبت إليك. وفي اليوم التالي، لم يأتِ ذلك الرجل الذي كان من المقرّر أن يأتي، ولم يأتِ حتّى يومنا هذا. وفجأةً، طُرق الباب، وإذا به شخصٌ لم أره منذ سنوات طويلة يقول: كان لوالدك عندي هذا المبلغ، تفضّل خذه. فنظرت وإذا به بمقدار المبلغ الذي وعدت به الرجل في الليلة السابقة، لا ينقص ريالاً ولا يزيد. ألا يُظهر هذا الارتباط بين المظاهر في عالم الوجود؟ فأخذته منه كما هو ووضعته على الرفّ، وما إن جاء ذاك الرجل قلت له تفضّل، لا ينقص قرانًا واحدًا ولا حتّى ريالاً واحدًا. 

    1. بحار الأنوار ج٩٣، ص ٣۰٣، الجواهر السنية فى الأحاديث القدسية (كليات حديث قدسى)، ص ١٤٦: " يا موسى، سلني كل ما تحتاج إليه، حتّى علف شاتك وملح عجينك "

هل نستحقّ من الله شيئًا؟ - خطر الغيبة

17
  • لماذا نعتمد على غير الله بهذا المقدار حتّى في فعل الخير؟ لقد كان أمرًا خيّرًا ولم يكن شرًّا. فيقول الله: هل تعتمد على غيري في هذا الأمر؟ حسنًا، فهو حتّى هذه اللحظة التي أتكلّم فيها لم يأت بعد، ذاك الذي وعدني قاطعًا بأنّه سيأتي لا شكّ، وفجأة جاء المال من مكان آخر، وهذا يحصل للجميع ولا يختصّ بي، لذلك يقول: اطلب منّي حتّى ملح طعامك، لا من غيري. أنا أستطيع أن أهيّئ الأسباب، ولكن إذا طلبت من غيري، سأعقّد لك الأمور. 

  • نعم، صحيحٌ أنّ الإنسان يجب أن يطلب كلّ حاجاته من الله، وما يقدّره له فهو الخير. ولكن هناك طلباتٌ خاصّة، وهي الطلبات الاختصاصيّة. 

  • إن شاء الله، بقيّة الكلام لليلة أخرى، فقد تعبتم. نسأل الله أن يجعل عيوننا بصيرة، وقلوبنا يقظة، ويديم علينا لطفه وعنايته. 

  •  

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ