المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1428
التاريخ 1428/09/18
التوضيح
كيف تشهد الجمادات وأعضاء الإنسان يوم القيامة؟ ما المعنى العميق لدعاء «اللهم أرنا الأشياء كما هي»؟ ما هو السلوك الحقيقي إلى الله، وهل يقتصر على الأذكار والأوراد؟ كيف كان تواضع الأولياء وابتعادهم عن حبّ الظهور والمقامات الدنيويّة؟ تجيبك هذه المحاضرة لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه عن هذه الأسئلة وتكشف عن دقائق مهمّة في مسير السالكين.
هو العليم
شهادة الأشياء وحقيقتها التكوينية في ميزان العرفان
كيف نرى الأشياء كما هي؟ ومضات من سلوك الأولياء وتواضعهم
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۸ هـ - الجلسة الرابعة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ
بِسمِ اللَهِ الرَّحمَٰنِ الرَّحِيمِ
وصلَّى اللَهُ عَلَى سيِّدنا ونبيِّنا أبِيالقاسِمِ مُحَمَّدٍ
وعلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
واللَّعنةُ عَلَى أعدَائِهِم أجمَعِينَ
«أَدْعُوك يَا سَيِّدِي بِلِسَانٍ قَدْ أَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ رَبِّ أُنَاجِيك بِقَلْبٍ قَدْ أَوْبَقَهُ جُرْمُهُ» يا سيِّدي ومولاي أدعوك بلسانٍ قد أخرسه ذنبه وألجمه، وأناجيك بقلبٍ قد أهلكه جرمه ودفعه إلى الهلاك والدَّمار.
هل ينطبق حال الإمام السجاد عليه السلام علينا جميعًا؟
تقدّم أنَّ هذا لسانُ حالِ الإمامِ السَّجَّادِ عليه السلام، وهو أمرٌ ينطبق على كلِّ واحدٍ منّا. فالإمام عليه السلام في مقام بيانِ حُكمٍ كلِّي وقضيَّةٍ كلِّيةٍ تشمل جميع بني آدم بحسب الطَّبيعة الأوَّليَّة، إلَّا ما شَذَّ ونَدَر، وهم أفرادٌ خواصّ سيأتي الحديث عنهم لاحقًا، وعن مقام الإمام عليه السلام، والحال والوضع الذي يبيِّن فيه هذه الأمور. فالحُكم والأصل الأوَّلي فينا جميعًا هو ما ورد في هذه الفقرات عن الإمام السَّجَّادِ عليه السلام. أي أنَّ الأصل الأوَّلي فينا هو الأمر الذي يقوله الإمام: أنَّ ألسنتنا قد فقدت بذنوبها أهليَّة التَّخاطب مع الله تعالى، وأنَّ قلوبنا قد فقدت بسبب الجُرم تلك الحياة التي يمكننا بها مناجاة الله. هذا هو الأمر الأوَّل والقضيَّة الأولى.
أمّا ما يجب فعله، فهذا أمرٌ آخر سنتناوله لاحقًا. علينا الآن أن نحدِّد موقفنا من هذا الأمر ونرى إلى أيِّ مدى تنطبق قضيَّة الإمام السَّجَّادِ عليه السلام علينا. ثمَّ نبحث عن الطَّريق للوصول إلى تلك المرتبة والمكانة، وهل يجب أن يظلَّ اللِّسان ألْكَنَ والقلب ميِّتًا إلى آخر العمر، أم أنَّ هناك سبيلًا قد وُضِعَ لنا؟ لا بُدَّ من إيجادِ حلٍّ لهذا الأمر بطريقةٍ ما. وشواهد الحال والأمور التي يشاهدها الإنسان في مشاهداته أو يقرؤها في الكتب والتَّواريخ وأمثال ذلك، ربَّما تثبت خلاف هذا. يجب أن نرى مَن هم مصاديق هذا الكلام، ومَن هم الذين لا ينطبق عليهم كلام الإمام السَّجَّادِ عليه السلام كقاعدةٍ كلِّية، بل هم في مرحلةٍ أخرى. ومَن هم أولئك؟ وأيٌّ من هذين الأمرين يشمل الإمام السَّجَّادَ عليه السلام؟ وكيف يمكن الجمع بينهما؟ إنَّ كيفيَّة الجمع تحتاج إلى بعض التَّفصيل.
كيف تشهد الأشياء بالحقّ؟ وهل جهاز التسجيل مُوحِّد؟
ذكرنا أنَّه في تلك الحقيقة الأوَّليَّة للتَّوحيد، تحكي جميع الأشياء عن حقيقة الوجود وحقَّانيَّته وحقَّانيَّة الأفعال التي وقعت، بغضِّ النَّظر عن قبحها أو حسنها. فلو وضعتَ جهاز تسجيلٍ هنا، كهذه الأجهزة التي لديَّ تسجِّل صوتي، فإنَّ وظيفته التَّسجيل. سيسجِّل إن قرأتُ آيةً قرآنيَّةً أو شتمتُ. سيسجِّل الكلام الصَّادق والخبر الكاذب الذي أقوله. هو يقول: وظيفتي التَّسجيل. فالأصل في الأمر، كحقٍّ - والحقُّ هو ما وقع في العالم - هو حقٌّ. حتَّى الكلام الكاذب الذي أقوله هو أيضًا حقٌّ من حيث إنَّ هذا الكلام قد تحقَّق تحقُّقًا خارجيًّا فهو حقٌّ. فلو افترضنا أنَّ أحدًا كذب، فماذا يجب أن أقول في مقام الشَّهادة؟ هل يجب أن أقول إنَّه كذب، أم إنَّه لم يكذب؟ إذا قلتُ إنَّه كذب، فهذا هو الحقُّ والصِّدق.
شهادة الكلام على وقوعه: حقٌّ حتى لو كان كذبًا
هذا الكلام يصبح كلام صدق؛ لأنَّ نفس هذه الجُملة لها مُطابَق خارجيٌّ، وإن كان مُطابَقها الخارجيُّ كذبًا. لكنَّنا نهتمُّ بالوجود الخارجيِّ للكلام، بالصَّوت الذي خرج من فم المتكلِّم، باللَّفظ الذي تحقَّق من المتكلِّم. ذلك اللَّفظ نفسه حقٌّ، وإن كان كذبًا وبهتانًا وغِيبةً. فللبهتان والغِيبة والكذب والسّباب والشَّتيمة والافتراء جانبٌ آخر لا علاقة له بأصل الكلام. المقصود بالكلام هو ذلك الصَّوت الذي يخرج من الفم، وتتركَّب الألفاظ المترادفة بجانب بعضها لتُحقِّق كلامًا. فهذا حقٌّ وله واقعيَّة.
إخلاص الآلات وصدقها في نقل الواقع
آلة التَّسجيل وهذه الأجهزة وظيفتها تسجيل وضبط كلِّ ما يقع في الخارج من الألفاظ والأصوات. كلُّ ما يتحقَّق من صوتٍ ولفظٍ في الخارج، وظيفة التَّسجيل هي ضبطه. لا علاقة له بالكذب والصِّدق. فلو قلتَ لا إله إلّا الله يسجِّل. ولو سبَّ أحدٌ الأئمَّة ـ نعوذ بالله ـ يسجِّل. ثمَّ هذا التَّسجيل ينقل ما سُجِّل بصدقٍ وإخلاصٍ. هذه المسجِّلات مُخلِصةٌ جدًّا، إخلاصها مائة بالمائة، فلا غشَّ فيها أبدًا. خالصةٌ ومُخلِصةٌ وبصفاءٍ وصدقٍ. كلُّ ما فيها تنقله بصفاء. فلو تحدَّث أحدٌ في مكانٍ ما، وضغطتَ على الزِّرِّ، ينطق بما قاله ولا يحذف منه شيئًا أو يخلط فيه أو يمحو أو يفرض رقابةً. إلَّا إذا أعطيته برنامجًا ليصبح حاسوبًا فيحذف ألفاظًا معيَّنةً وينطق بأخرى، فهذا يصبح خِداعًا. ولكن حتَّى في هذه الحالة يكون الجهاز المسكين صادقًا؛ لأنَّه يعمل وفق البرنامج المُعطَى له. كلُّ الخِداع فينا نحن. هذه الأجهزة لا خِداع فيها ولا مكر، ولا تزيد ولا تنقص. هي لا تختلق عباراتٍ لمصلحتها. ما هو موجودٌ تحتفظ به كما هو. تحتفظ به سنةً وسنتين وثلاثًا وعشرًا. هذه الأجهزة المسكينة هذا هو عملها، والله خلقها لهذا: لتحتفظ بالأصوات والألفاظ حتَّى تقوم للشَّهادة في وقتها. عندما يُشغَّل التَّسجيل، يتغيَّر لون الإنسان فجأةً ويقول: يا للعجب! لقد قلتُ هذا الكلام قبل عشر سنواتٍ أو خمسٍ، وظننتُ أنَّه قد مُحِيَ وزال، وظننتُ أنَّ الجميع قد نسوه وأصابهم النِّسيان.
فهذا هو الجانب الذي يلي الحقَّ والجانب التَّوحيديُّ الموجود في هذه الأجهزة. فهذه الأجهزة موحِّدةٌ وتحكي عن التَّوحيد. هذه حقيقةٌ واقعيَّة. لو انفتحت عين بصيرة الإنسان ونظر إليها، لأدرك أنَّها تنطق بهذه الوقائع من مُنطلَق جانبها التَّوحيديِّ. وهذا الكلام الذي أقوله ليس مزاحًا، بل هو حقيقةٌ واقعيَّة تنطبق على جهاز التَّسجيل، وتنطبق على سائر الأشياء أيضًا. ولو انفتحت عين قلب الإنسان، لرأى أنَّ هذا الجهاز في عالمه لم يعرض شيئًا غير الشَّهادة بالصِّدق. لقد قال: أنا هكذا، وأُظهِر الواقع، هذا هو عملي. المرآة تقول الشَّيء نفسه: إن كانت الصُّورة جميلةً أعكسها جميلةً، وإن كانت قبيحةً أعكسها كما هي، فأنا لا أفعل شيئًا من عندي ولا أتدخَّل فيها.
شهادة الأعضاء يوم القيامة: كيف تتكشّف الحقائق التكوينيّة؟
في يوم القيامة، هذه الأعمال وهذا السُّلوك الذي قمنا به في الدُّنيا، كحقائقَ واقعيَّةٍ من حيث حيثيَّتها التَّكوينيَّة ـ لا من حيث حيثيَّتها التَّشريعيَّة ـ من حيث أصل وجودها وأصل تحقُّقها الخارجيِّ في أعضائنا وجوارحنا، كلُّها موجودة. هذه وقائع خارجيَّة، وهذه حقائق تكوينيَّة. عندما يرفع الله تعالى السِّتار: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}۱.عندما يزيل الله هذا الغِطاء عن أبصارنا، يواجه الإنسان هذه الأمور الحقَّة. الكَذِب الذي قاله كان حقًّا، ألم يقع هذا الكَذِب في العالم الخارجيِّ أم لا؟ فهو يرى هذا الكَذِب. والعمل الصَّالح الذي قام به كان حقًّا. نفس العمل الذي قام به ولا شأن لنا بحسنه أو قبحه، هذا العمل الذي قام به له وجودٌ خارجيٌّ. العمل الذي قامت به اليد له وجودٌ خارجيٌّ.
كاشف الكذب: كيف يكشف الدماغ عن اضطرابه عند مخالفة الحقّ؟
الآن لا توجد مثل هذه الأجهزة، ولكن قد تظهر في المستقبل. لكن الآن توجد على الأقلِّ أجهزة كشف الكَذِب، وهذا هو الحدُّ الأدنى. يوصلون بضعة أسلاكٍ ومجسّات بالدِّماغ، والجهاز والشَّريط يسجِّلان كلَّ شيءٍ. يسألون الإنسان، وبمجرَّد أن يحاول الانحراف عن مسارٍ إلى آخر، يبدأ الدِّماغ بإرسال تردُّداتٍ ويتخبَّط وتتغيَّر أمواجه. أمرٌ عجيبٌ جدًّا! لقد جعل الله هذا الدِّماغ للاستقامة، وجعل الأعضاء للصِّدق، طالما لم تمسَّها يد التَّغيير. وبمجرَّد أن تفكِّر في فعل خلاف ذلك، يبدأ ويرى أنَّه يُستخدَم على خلاف خلقته، ويُوظَّف على خلاف عالم التكوين، فيبدأ بالاضطراب والقلق.
لماذا خُلِقت الأعضاء والقلب؟ وهل نستخدمها وفق غايتها؟
لماذا عندما يقول الإنسان كلامًا صادقًا لا يحدث أيُّ اضطرابٍ؟ يكون الجميع مسترخين تمامًا وجاهزين ومرتاحين وبدون اضطرابٍ أو قلقٍ أو تردُّدٍ أو إبهامٍ أو توتُّرٍ. لماذا؟ لأنَّه يبيِّن جهته المُطابِقة نفسها، ويُستخدَم بالكيفيَّة التي خُلِقَ لها.
لقد خلق الله الدِّماغ ليستخدمه الإنسان في الصِّدق، لا في الشَّيطنة والاحتيال والمكر! كلا، بل ليستخدم هذا الدِّماغ في الصِّدق. وجعل الله اليد ليأخذ بها القلم في المسار الصَّحيح ويكتب، لا ليوقِّع بها على أمرٍ غير صحيحٍ، على ملفٍّ باطلٍ وظالمٍ وكاذبٍ. ليس لديه مالٌ ويُصدِر صكًّا ويوقِّع. أنت تعلم أنَّك لا تستطيع الدَّفع، فلماذا توقِّع؟ يقول: لا! سأدفع، وليكن ما يكون. لأيِّ شيءٍ هذه اليد؟ هي لتُستخدَم في مسار ما هو واقعٌ وحقٌّ وصدقٌ. والرِّجل كذلك، والقلب كذلك، والخطرات كذلك. لقد أعطى الله الإنسان قلبًا ليحسن الظنَّ دائمًا بأخيه المؤمن، وليكون دائمًا حسن النيَّة والظنِّ بأخيه المؤمن. لا ليجلس وينسج في ذهنه وفكره ألف خيالٍ لا وجود خارجيًّا لواحدٍ منها، ثمَّ يرتِّب الأثر عليها، فيا ويلتاه! هنا تنشأ جهنَّم. لقد جعل الله القلب لهذا: لنضع الأمور في جانب الخير. نحن نفكِّر، فلنفكِّر في الخير.
حُسن الظنّ حتّى بالمخالف: كيف ننتفع سلوكيًّا؟
ذات مرَّةٍ كنَّا في مكانٍ ما، وكان أحدهم قد قال كلامًا، ولم يكن مرتاحًا لي كثيرًا حينها. جاء أحدٌ إلينا وقال: فلان قال كذا وكذا هناك. جلستُ ففكَّرتُ وقلتُ: ربَّما لم يكن يقصد هذا. التفتُّ إلى هذا الرجل وقلتُ: لكلامه مَحْمَلٌ حسن، وهو قابلٌ للتَّأويل، فربَّما كان قصده من هذا الكلام كذا. نعم، هذا الرجل مُخالِفٌ، وأموره وطريقته مُختلفة، أصلًا برنامجه برنامج مواجهة ومُخالَفةٍ، فهذا من جهة لا شكّ فيه. ولكن لماذا لا يأتي الإنسان ويحمل الكلام على الصِّحَّة حتَّى مع مَن يُخالِفه، طالما أنَّ ذلك ممكنٌ؟ فلماذا لا؟ في الموضع الذي لديه يقينٌ ـ مثل هذا المِصباح الذي لا شكَّ في وجوده الخارجيِّ، فهذا يقينٌ ـ عندها يصبح غضُّ الطَّرْفِ غباءً وحيرةً. ولكن عندما لا يكون لدى الإنسان يقينٌ وهناك مجالٌ للتَّوجيه والتبرير، فحينها على الإنسان أن يبرّر. حسنًا، هذا الرجل قال خمسين كلمةً في غياب الإنسان. فلو أضاف الإنسان هذه الكلمة أيضًا فوق الخمسين لأصبحت إحدى وخمسين، وإن لم يُضِفها بقيت خمسين كما هي. فلماذا لا يتركها كما هي، فهذا قال هذه الخمسين كلمةً فأيُّ إشكالٍ في ذلك؟
تقليل العداوات أم زيادتها: أيُّهما أنفع للسالك؟
هذا الرجل بيننا وبينه حسابٌ صغيرٌ، ولم يتكلَّم في غيابنا بإحدى وخمسين كلمةً، بل بخمسين؟ أليس الأفضل أن لا نزيد في كلامه؟! أم لا بل نزيد؟! لقد تكلَّم بخمسين كلمة، ونحن نضيف عليها مائةً من عندنا فتصبح مائةً وخمسين! أيُّهما أفضل؟ هو عدوٌّ، لا بأس. ولكن ماذا نفعل نحن؟ ما العمل الذي نقوم به لننتفع نحن ونستفيد في هذه الحالة؟ ما شأننا بالآخرين؟ لقد تكلَّم في غياب الإنسان بألف كلمةٍ، وذاك شأنه. ولكن ما هو ردُّ فعلنا في هذه القضيَّة؟ هل نضيف إلى تلك الألف خمسمائةً من تخيُّلاتنا فتصبح ألفًا وخمسمائة؟ أم أنَّ تلك الألف التي سمعناها، نحذف منها قدر المستطاع ونقصُّ أغصانها وفروعها، فيبقى منها في النِّهاية سبعون، أي نحذف تسعمائةٍ وثلاثين؟ نقول: هذا لا أصل له ولا أساس. أليس من الأفضل بكثيرٍ أن يتكلَّم عدوُّ الإنسان في غيابه بسبعين كلمةً بدلًا من ألفٍ؟ أيُّهما أفضل؟ لقد رددنا تسعمئةً وثلاثين كلمةً وسامحناه بها. ثمَّ نشعر ببعض الزهو ونقول: مع أنَّنا كنَّا نستطيع حمله على الموقف المُخالِف، إلَّا أنَّنا كنَّا نملك هذه الشَّجاعة. حسنًا، فهذا أيضًا توفيقٌ من الله للإنسان. أيُّها الرُّفقاء، أنتم لا تدرون، أو ربَّما تدرون، أنَّ الناس يخلقون من لا شيءٍ ألف شيءٍ لا وجود خارجيًّا لها أصلًا، ويفعلون ويفعلون ويتقاتلون من لا شيءٍ.
ما هو السلوك الحقيقي؟ هل هو الأوراد أم الأخلاق العمليّة؟
هذه الأمور التي أذكرها للرُّفقاء هي دقائق السُّلوك، ومراعاة هذه الأمور تسمَّى سلوكًا، لا السَّجدة اليونسيَّة، ولا ذكر «لا هو إلَّا هو» أو «يا هو» وأمثال هذه الأعمال. فلو أنَّ أحدًا كرّر الوِرد مائة ألف مرَّةٍ في اليوم ولكنَّه لم يعمل بهذه الأمور، فلن يترقَّى بمقدار جناح بعوضةٍ. جرِّبوا! بل لا، لا تجرِّبوا! أخطأت! فعلى الإنسان دائمًا أن يجرِّب الأعمال الصَّالحة، واتركوا هذه التَّجربة للآخرين، وليكرّروا الذِّكر حتَّى تتصلَّب جباههم كالسِّندان. فتجربتنا مع الأعاظم وأولياء الله كانت أنّهم يهتمّون بتلك الدقائق. كنَّا نرى هذا منهم.
قصّة استغلال اسم المرحوم العلامة و تعامله مع الموقف
ذات يوم ـ ولا أدري إن كان هذا الأخ يتذكّر ذلك أم لا؟ أنا أتذكَّر، إن كان في أيِّ موضعٍ من كلامي خطأٌ فلينبّهني ـ وبعد أن أصيب المرحوم العلَّامة بمرض في القلب وخرج من المستشفى ومضت مُدَّةٌ، اتّصل بهذا الأخ رجل وقال له: أنا الطبيب فلان. وكان أحد الأطبَّاء المعالجين لقلبه، وهو رجلٌ طيِّبٌ أيضًا، حفظه الله، وكان قد أبدى الكثير من المحبَّة والإخلاص و... وقد ذهبنا مرَّةً معه إلى منزل المرحوم العلَّامة، اتَّصل قائلًا: هل مرض السَّيِّد الطَّهرانيُّ وأُصيب بمشكلةٍ في القلب؟
فقال له هذا الصديق: لِمَ تسأل؟
قال: هناك مريض عرَّف عن نفسه باسم آية الله الطَّهرانيِّ وأُصيب بمشكلةٍ في القلب. أو أنّه لم يعرّف هو عن نفسه، بل يبدو أنَّ الآخرين نقلوه إلى المستشفى وأُدخِل للعلاج، ثمَّ تبيَّن أنَّه لم يكن السيِّد الطَّهرانيَّ أصلًا. فقال له صاحبي: ليس هذا دأب العلَّامة، فهو حتَّى لو كان مريضًا لا يقول: تعالوا وخذوني وأدخلوني المستشفى. أصلاً مثل هذه القضيَّة لا صحَّة لها. ثمَّ جاء إلى المرحوم العلَّامة، وكنتُ أنا حاضرًا.
فلو كنَّا نحن مكانه لقلنا: مَن هو هذا؟! يا له من رجلٍ جاء واستغلَّ اسمي! أحضروه واربطوه وعاقبوه وانشروا اسمه في الصُّحف وشهِّروا به وأعلنوا اسمه في الإذاعة والتلفاز! انظروا إلى أخلاق أولياء الله، ثمَّ انظروا أيَّ مدرسةٍ وضعوا أمامكم.
قال المرحوم العلاّمة: حسنًا، أيُّ إشكالٍ في ذلك؟ عبدٌ من عباد الله جاء واستفاد من اسمي ونال خيرًا. لم ينقص منّي شيءٌ. لم ينقص منّي شيءٌ، فلماذا نذهب ونتابع الأمر ونلاحق القضيَّة؟ نعم، كونكم ذهبتم ونبَّهتموه بهذا المقدار لرفع الشُّبهة، فهذا كافٍ. ثمَّ لم يتابع الأمر، وأنا أيضًا لم أتابع لأعرف مَن هو أصلًا، ولم أسأله عنه أصلًا. وحتَّى كان بإمكاني أن أسأل ذلك الطَّبيب، وقد التقيتُ به بالمناسبة، وكان يُبدي لي المحبَّة أيضًا، ومنذ مُدَّةٍ لم نوفَّق لذلك مرّة أخرى، فالمسافة الطَّويلة وبُعد الطَّريق قلَّما يتيحان لنا المجال لهذه الأمور، فأنا أيضًا لم أتابع. ومتابعة الأمر لمعرفة مَن كان هذا هي أمرٌ خاطئٌ أيضًا. هكذا، انتهى الأمر وأُغلِق وانتهى.
"الحمد لله الذي جعل اسمي سببًا لشفاء المرضى"
جاء رجل واستغلَّ اسمًا ولنقُل إنّه استغلّه استغلالًا سيِّئًا، بل لنقُل: استغلالاً حسنًا، أُخِذَ إلى هناك وخضعَ للعلاج ثمَّ ذهب. حسنًا، الحمدُ للّه. هو قال هذه العبارة فقط: الحمدُ للّه الذي جعل اسمي سببًا لشفاء المرضى. ولم يكن يكذب في هذا، لم يقُله ليُظهر الورع أمامنا. عندما قال: الحمدُ للّه الذي جعل اسمي سببًا لشفاء المرضى، قالها من صميم قلبه. يعني كان يقول: ليأتِ الثَّاني والثَّالث والرَّابع أيضًا، إذا كان الأمر يتعلَّق بمريضٍ يأتي ويُشفى من مرضه وينال خيرًا، فليكن. عندما يعلم النَّاس أنَّ دأبي ليس بهذه الكيفيَّة وطريقتي ليست هكذا، فلماذا لا يُستفاد من اسمي؟! لم يكن الاستغلال في أمرٍ حرامٍ، فلو أراد أحدٌ القيام بأمرٍ حرامٍ أو مُخالِفٍ للشَّريعة، فيجب على الإنسان منعه. ولكن لا! ربَّما كان مسكينًا قد مرض، وقال: لو قلتُ أنا حسن علي السبزواري مثلاً فلن يعتني بي أحدٌ، فقال: أنا السيِّد الطَّهرانيُّ. يا للعجب! السيِّد الطَّهرانيُّ! أرسلوا سيَّارة إسعافٍ وأحضروه. في النِّهاية، ذلك المسكين في المستشفى لم يرَ صورة المرحوم العلَّامة ليطابقها، فيقول: حسنًا، هو السيِّد الطَّهرانيُّ إذًا، فلنسهِّل أمره ونعالجه.
هذه طريقة الأعاظم وأولياء الله. أولياء الله لا يبحثون عن القيود والاسم والرَّسم. لا يبحثون عن مراعاة الشَّخصيَّة. لا يهدفون إلى حفظ حدود أنفسهم وثُّغورها. لم يُسدِلوا ستارًا حول أنفسهم ولم يخلقوا حريمًا لأنفسهم بحيث لا يدخل أحدٌ ذلك الحريم ولا يتجاوزه ولا يُكسَر ذلك الحريم ويبقى المقام والمكانة محفوظين.
الفارق بين الممتلئ والفارغ: الحاجة إلى المظاهر الزائفة
هل رأيتم أنّ بعض النَّاس عندما يريدون الذَّهاب إلى مكانٍ ما، لا بدّ أن يكون حولهم حريمٌ شُعاعه متران فيكون قطره أربعة أمتارٍ؟! يجب أن يكون هناك حريمٌ ويتحرَّك هو وينظر الآخرون إليه وينتبهون. كنتُ مرَّةً في النَّجف وكنتُ صغيرًا أمشي وكان عمري حوالي ثلاث عشرة سنةً، وكنتُ متَّجهًا نحو حرم أمير المؤمنين عليه السلام، فرأيتُ فجأةً عالمًا قادمًا وحوله حريمٌ بمسافة مترين، وكانوا حريصين على ألاّ تقلَّ عن مترٍ وثمانين سنتيمترًا. فبمجرَّد أن رأيتُ ذلك أدرتُ رأسي وذهبتُ في طريقٍ آخر. ومنذ صغري كرهتُ ذلك. فما معنى هذا؟! وهل كان أمير المؤمنين عليه السلام هكذا أيضًا؟! هل كان يتحرَّك في سوق الكوفة بهذه الطَّريقة؟! هل كان المرحوم السيِّد جمال الدين الكلبايكاني ووالدي والعلَّامة الطَّباطبائيُّ هكذا؟! لقد رأيتُ العلَّامة الطَّباطبائيَّ في الشَّارع، وسألته سؤالًا. وبمجرَّد أن أردتُ الذَّهاب معه قال: أنا أذهب إلى المنزل وحدي. حسنًا، هو كان يعرفني. قال: إن كان لديك سؤالٌ فائتِ لاحقًا. هذا يقال له رجلٌ عظيمٌ، هذا يقال له رجلٌ إلهيٌّ ورجل الله. مشيته متواضعةٌ. لا يحتاج إلى حرسٍ له، ولا إلى أوامر التَّراجع والاستدارة يمينًا ويسارًا. لا يحتاج. هو ممتلئٌ. والممتلئون لا يحتاجون. نحن الفارغون نحتاج إلى خلق حيثيَّةٍ وشخصيَّةٍ زائفةٍ لأنفسنا بأعمالٍ جوفاءٍ. هؤلاء الرِّجال الإلهيُّون لا حاجة لهم إلى هذا الكلام.
نماذج من تواضع الأعاظم في سيرهم وتواصلهم
عندما كان السيّد القاضي رحمه الله يمشي في النَّجف، أحيانًا كان يمشي معه واحدٌ، فإذا أصبح المرافقون اثنين كان يقول لهم: اذهبوا وابتعدوا. ولم يكن يمزح. السيِّد جمال الدين الكلبايكانيُّ رحمه الله، عندما كان يمشي في النَّجف رحمه الله ورضوان الله عليهم أجمعين، كان إذا أراد أحدٌ التَّحدُّث معه يقف حتَّى ينهي كلامه ثمَّ يقول: أنا أذهب وحدي. كان يقف في مكانه ويستمع للكلام؛ لأنَّه لو جاء هو لجاء الثَّاني والثَّالث والرَّابع ويصبح المجموع كالحرس والحاشية وتصبح حاله كتلك الحال. والمرحوم العلَّامة كان كلَّما مشى من المسجد ينظر يمينًا ويسارًا ليرى هل هناك أحدٌ أم لا. كان هناك واحد من الناس ذات يوم يريد أن يرافقه، فقال له: هل لديك عملٌ؟! ثمَّ أجابه وقال له: أنت من هذا الطَّريق وأنا من ذاك الطَّريق و.... نعم إن كان هو نفسه لديه عملٌ مع أحدٍهم فكان يقول له: تعال لنتحدَّث حتَّى نصل إلى المنزل. هؤلاء كانوا هكذا، لم يكونوا من أهل هذه الأمور. كانوا يتحرَّكون منفردين وحدهم، وكانوا وحدهم وحدهم.
كيف تكون شهادة الجوارح يوم القيامة؟
في يوم القيامة، تحضر أعمال الإنسان وسلوكه كما وقعت، لا تُمسُّ بسوءٍ أبدًا. لا تقول: هذا العمل الذي قمتَ به كان جيِّدًا أو سيِّئًا. الحُكم لك. تقول اليد: أنا فعلتُ العمل الفلانيَّ، أمّا هل كان هذا العمل سيِّئًا أم جيِّدًا، فانظر أنت بنفسك. أنا لا أحكم. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}۱. لا أنَّها تشهد بأنَّك عصت. كلاّ! إنَّها شهادة العلم الحُضوريِّ وشهادة التَّحقُّق الخارجيِّ للحقائق، تلك هي الشَّهادة. هذه هي المسألة. لا أنَّها تقول: أنت سرقت. الحُكم ليس لليد، الحُكم لي أنا. عندما أنظر أنا وأرى نفسي في هذه الواقعة، وأنَّ يدي قد ارتكبت هذه السَّرقة، فهذا هو الحُكم بنفسه. فاليد تشهد وتأخذ الإنسان إلى تلك الواقعة، وبعد ذلك يرى الإنسان، فماذا يُنكِر؟!
الرِّجل، العين، الدِّماغ، القلب، النَّفس، الذِّهن. المقصود بالقلب هو عالم الذِّهن هذا، لا هذا القلب الصَّنوبريُّ. كلُّ الخطرات والتَّخيُّلات والأفكار التي نفكِّر فيها ليلًا وقلنا: ليأتِ الصَّباح وسأقوم بالفعل الفلانيَّ تسجّل. فما هذا؟ هذا ما يُعبَّر عنه بالقلب، وهو الذِّهن نفسه. سُجِّل وانتهى. فليحدث كذا غدًا وسأفعل به كذا وكذا. ليحدث كذا وسأنتقم! فهذه تصبح شهادةً.
رؤية الحقائق كما هي: معنى دعاء "اللهم أرنا الأشياء كما هي"
بمَن تختصُّ رؤية هذه الحقيقة والإحساس بها وأن يشاهد الإنسان ـ وهو يعيش في هذا العالم ـ هذا الواقع والجانب الربطيّ للأشياء؟ فنحن الآن لا نشاهد الجانب الربطيَّ، بل نشاهد جانب التعلُّق بالمادة وجانب الكَثرَة، والعمل الذي نقوم به، والفِكر الذي نفكِّر به.
إنّه يختصّ بهؤلاء الذين اخترق نور باطنهم وبصيرتهم حُجُبَ كثرات عوالم الحُجُب، وتجاوزوا هذه العوالم، واتَّصلت أعينهم وقلوبهم بعالم الملكوت. هؤلاء هم الذين يشاهدون هذه الحقائق التَّوحيديَّة.
ونحن نقرأ في دعاء القنوت: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ كَمَا هِيَ». يا الله، أرِنا الأشياء، الحقائق، كما هي. كما هي، لا أنَّه إذا كانت قضيَّةٌ كاذبةً فنفهم كذبها. «اللَّهُمَّ اجعَل فِي قَلبِي نُورًا... وَفِي جَمِيعِ جَوَارِحِي نُورًا».۱ بعد هذا الأمر يقول: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ كَمَا هِيَ»٢. يا الله، اجعل في عيني نورًا. فماذا يعني ذلك؟! هل هي هذه العين نفسها؟! هذه فيها نورٌ. اجعل في أذني نورًا. النُّور في الأذن لا معنى له. فلماذا يقول اجعل لي في الأذن نورًا لماذا؟! «وَفِي سَمعِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا». اجعل في لساني نورًا. فماذا يعني ذلك؟! يعني أن ينطق لساني بالتَّوحيد فقط، أن يقول التَّوحيد فقط، ولا تكون فيه أيُّة شائبةٍ من الكثرة، ولا يلتفت لحظةً إلى غير الوحدة، ولا يتكلَّم بغير الوحدة، ولا يتلوَّث بألفاظ عالم الكثرة وعباراته. وليكن كلامه كلام صدقٍ، وليكن مطابقًا للحقِّ ومطابقًا لتلك الحقيقة الرَّبطيَّة التَّوحيديَّة. فالعين عندما ترى، تراه هو فقط.
به دريا بنگرم دريا تو بینم | *** | به صحرا بنگرم صحرا تو بینم |
به هر جا بنگرم کوه و در و دشت | *** | نشان از قدِّ رعنای تو بینم |
يقول: أنظر إلى البحر فأراك أنت البحر *** أنظر إلى الصَّحراء فأراك أنت الصَّحراء
أينما أنظر، إلى الجبل والباب والسَّهل *** أرى علامةً من قامتك الرَّشيقة
العين عندما تنظر، تراه هو. هنا يقول الإمام عليه السلام للّه تعالى: أَجْرِ تلك الحقيقة التَّوحيديَّة في كلِّ شراشر وجودي. يا الله، لِتَرَاك أنت وحدك عيني ولا تنظر إلى غيرك، ولِتَسمع أذني صوتك أنت وحدك، وليكن ما تسمعه تجلِّيات مقام تكلُّمك. وليكن ما يشعر به قلبي هو نفس الإحساس بحقائقك الربطيَّة. لا أن يشعر بالكثرة، لا أن يشعر بالتَّعلُّقات الباطلة، لا أن تأتي موانع الدُّنيا وتحجب ذلك القلب. لا أن تأتي التعلُّقات وتأخذ منِّي الحقائق أو تجعلها باهتةً.
ثبات القلب ونوره في مواجهة الإغراءات الدنيويّة
لِيبقَ قلبي دائمًا صُلبًا ومستقيمًا وثابتًا ومستمرًّا في طريق الحقِّ، راسخًا ومُتقَنًا. لا تُزلزله شُبهةٌ، ولا تحرفه غِوايةٌ، ولا يُزلزله تشجيعٌ، ولا يجعله متردِّدًا ترغيبٌ. «وَفِي قَلبِي نُورًا». عندما يتحقّق نور القلب هذا، لا تستطيع هذه الأشياء الخارجيَّة التَّأثير فيه. فليأتوا بألف تشجيعٍ وليقولوا: إن قَبِلتَ هذا سنكتب اسمك في الصُّحف، إن قَبِلتَ هذا سنعطيك الامتياز الفلانيَّ، إن قَبِلتَ هذا سنمنحك راتبًا مستمرًّا قدره كذا وكذا، إن قَبِلتَ هذا سيأتيك التَّشجيع الفلانيُّ. أبدًا! بل يضحك بسُخريةٍ من كلِّ هذا الكلام. يراه كلَّه باطلًا باطلًا، ويهرب فراسخ من هذه الأمور التَّافهة والأمور المُقزِّزة والمُثيرة للغثيان. "مُثيرة للغثيان" عبارةٌ جميلةٌ. حقًّا، يشعر الإنسان بالغثيان من هذه الأمور. تعالَ اقبل هذا حتَّى نعطيك الامتياز الفلانيَّ. لأيِّ شيءٍ؟! لتستطيع الذَّهاب إلى كلِّ مكانٍ وتفعل العمل الفلانيَّ. حسنًا، وإن لم أفعله، فهل أموت؟ عجيبٌ حقًّا! لا ينبغي للإنسان أن يدخل في هذا الكلام. إن دخل فيه أصابته الكُدورة. ولكن لا بأس بمعرفة بعض الأشياء. من أجل الدُّنيا والاعتبار فيها، وكم هو واسعٌ نطاق اعتبار هذه الدُّنيا! يشمل الكافر والمسلم، السنيَّ والشيعيَّ، العالم والجاهل، الكاسب والتَّاجر. يشمل الجميع، كلاًّ بحسب دوره وحصَّته، فهو يشملهم جميعًا.
يا الله، اجعل النُّور في شراشر أعضائي وجوارحي. «اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ كَمَا هِيَ». يا الله، أرِني حقائق الأشياء تلك، حقيقتها الرَّبطيَّة. أرِنيها، حتَّى لا يعود قلبي يهوى هذا وذاك.
كيف تُغني رؤية الله كمسبّب الأسباب عن الحاجة إلى الخلق؟
أرِني أنَّك أنت مسبِّب الأسباب، حتَّى لا أذهب من جديد إلى زيدٍ وعمروٍ. أرِني أنَّك أنت علَّة العِلل، حتَّى لا ألتفت من جديد إلى هؤلاء الوضيعين الذين يُستخسَر فيهم ردُّ السَّلام ـ ردُّ السَّلام الواجب يُستخسَر فيهم ـ لا ألتفت إليهم. لا ألتفت إليهم. أرِني كيف أنَّ إرادتك ومشيئتك ساريةٌ وجاريةٌ في عالم الوجود كلِّ، حتَّى لا أرتكب من جديد ألف نوعٍ من التَّملُّق والذُّلَّة والاستخفاف والدَّناءة والرَّذالة لأجل الوصول، ولا أمُدَّ يدي إلى هذا وذاك، إلى أُناسٍ هم من وجهة نظر الإنسانيَّة في أسوأ مراتب الحيوانيَّة، لا أذهب إليهم. أرِني أنت بنفسك أنَّك أنت الكلُّ في الكلِّ. أرِني حقيقة الأشياء، وأنَّها كلَّها مستندةٌ إليك، وأنَّ لا أحد بدون إرادتك يمكن أن يكون مريدًا، ولا أحد بدون مشيئتك يمكن أن تكون له مشيئة، ولا أحد بدون إرادتك يمكن أن يكون مختارًا، ولا أحد بدون عنايتك وقدرتك يمكن أن يرفع جناح بعوضةٍ عن الأرض. {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}۱. فلولا قدرتك لكان العالم كلُّه باطلًا وعدمًا، ولأحاط غُبار العدم بالجميع. أوجِد لي هذا الأمر وهذه الحقيقة.
هل فهمنا حقيقة "اللهم أرنا الأشياء كما هي"؟ قصة مع أحد المراجع
في الزَّمن السَّابق، زمن الثَّورة، قبل أن تنتصر الثَّورة، كان أحد هؤلاء السَّادة المراجع الذين توفُّوا - وكان في قُمَّ أيضًا - قد ألقى خطابًا. أحضرتُ شريط خطابه إلى المرحوم العلَّامة، وكان يتحدَّث طوال خطابه عن أنَّ هذه القضايا التي حدثت يجب أن تُعكَس بشكلٍ صحيحٍ في الصُّحف، ولا ينبغي لهم أن يقولوا خلاف الواقع ويكذبوا. ألا تعلمون أنَّنا نقول في الدُّعاء: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ كَمَا هِيَ»؟ يعني لا تكذبوا، قولوا ما هو واقعٌ. وعندما كان المرحوم العلَّامة يستمع في غُرفته في منزله بطهران، قال: هل هذا هو معنى «اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ»؟ سبعون عامًا! كم فَهِمَ؟! كم فَهِمَ من المعرفة والحقيقة؟! كم فَهِمَ من التَّوحيد؟! يا عزيزي! هذا الدُّعاء «اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ كَمَا هِيَ» يأتي بعد سلسلةٍ من العبارات: «اللَّهُمَّ اجعَل فِي سَمعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا». «فِي سَمعِي نُورًا»، فماذا يعني ذلك؟ لا بُدَّ أنَّه يقول: يا الله، أشعل مِصباحًا يدويًّا في أذني! مَن يفسِّر هذا هكذا، يجب أن يقول ذلك أيضًا هكذا. فماذا يفهم هو؟ فقط هذا! مجموعةٌ من مسائل الدِّماء الثَّلاثة والأحكام الظَّاهريَّة، هذا فقط. هذه أصبحت معرفتنا بما جاء به رسول الله الأكرم صلّى الله عليه وآله من عند الله تعالى لأجل سعادتنا.
"اذهب واطلب عينًا أخرى": لماذا لا يكفي العقل وحده؟
يجب الوصول إلى هذه النُّقطة: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشيَاءَ كَمَا هِيَ». هذه هي النُّقطة التي يريدها الإمام عليه السلام. لذلك يقول الشَّيخ محمود الشَّبستريُّ أعلى الله مقامه - والذي كانت أشعاره حقًّا أشعارًا مُحييةً ومُنعِشةً، وهو رجلٌ امتزجت فيه التَّعاليم الفلسفيَّة مع مشرب الشُّهود والوجدان والعرفان والتَّوحيد، فكلاهما امتزجا واختلطا وقدّما شيئًا جيِّدًا - يقول:
خِرَد را نیست تابِ نورِ آن روی | *** | برو از بهرِ او چشمی دگر جوی |
يقول: العقل لا يطيق نور ذلك الوجه *** اذهب واطلب عينًا أخرى من أجله
العلم يرشد ولكن العمل يوصل: دور المجاهدة والرياضة
لا يمكن للعقل الوصول إلى هذا الأمر، لا بدّ من السَّير، لا بدّ من الرِّياضة، لا بدّ من الذِّكر، لا بدّ من الوِرد، لا بدّ من إحياء اللَّيالي، لا بدّ من المراقبة. نعم، فالعلم مفيدٌ ويفتح الطَّريق، العلم يبيِّن الطَّريق. ولكن ما الذي يوصل الإنسان إلى الهدف المقصود؟ "الأسفار" لصدر المتألِّهين و"الفتوحات" لمحيي الدِّين أعلى الله مقاميهما، فيهما كلُّ شيءٍ. تعالَ واقرأ كلَّ "الفتوحات" من أوَّلها إلى آخرها، مفيدةٌ جدًّا وتشعر بالبهجة كثيرًا. ولكن حسنًا، هل عرفتَ الله وشعرتَ به في وجودك بقراءتها؟! كلا! بل فهمنا أمورًا كثيرةً، ولكن هل تغيَّرت عيناك الاثنتان؟! هل تغيَّرت رؤيتك المزدوجة؟ هل تغيَّر ما كان يراه قلبك أم لا؟! كلاّ! فالعلم مُساعِدٌ ومُحرِّكٌ، ويبيِّن الاتِّجاه، ويزيل الموانع، ويبيِّن المُعِدَّات للإنسان. ولكنَّه لا يستطيع أن يجعل الحقيقة ملموسةً في قلب الإنسان. جعلها ملموسة يحتاج إلى عملٍ، يحتاج إلى تغييرٍ وتحوُّلٍ جوهريٍّ للنَّفس حتَّى يصل الإنسان إليه.
خِرَد را نیست تابِ نورِ آن روی | *** | برو از بهرِ او چشمی دگر جوی |
دو چشمِ فلسفی چون بود احول | *** | زِ وحدت دیدنِ حق شد مُعطَّل |
يقول: العقل لا يطيق نور ذلك الوجه *** اذهب واطلب عينًا أخرى من أجله
لمَّا كانت عينا الفيلسوف حولاوين *** تعطَّلت عن رؤية الحقِّ واحدًا
لماذا يعجز الفيلسوف عن رؤية الوحدة؟
عين الفيلسوف تجعل الله أمامها وتحكم عليه: الله كذا وكذا، الله مجرَّدٌ، الله ليس مادَّةً، الوجود مُنغمِس في ذات الحقِّ، ذات الحقِّ بسيطةٌ، ذات الحقِّ صرفةٌ، ذات الحقِّ لها أوصافٌ ولها أسماءٌ، الأسماء والصِّفات اللَّازمة والمُتَرشّحة، وهكذا يرى الله أمامه ويغفل عن نفسه: أين أنت في هذه القضيَّة؟ أين وقعتَ أنت في هذه المجموعة؟ هل استطعتَ ألَّا ترى حقيقة نفسك؟ يقول: لا، لا أستطيع. هل استطعتَ كالعارفٍ أن تشاهد حقيقةً واحدةً فقط ولا ترى نفسك؟ يقول: لا، أنا أرتّب هذه المقدّمة الصُّغرى والكُبرى، وهذه هي النَّتيجة. وأرتّبها بشكلٍ صحيحٍ، وكلُّها صحيحةٌ من وجهة نظر عقليَّة ومنطقيَّة. ولكن هل وصلتَ إلى حقيقة تلك الصُّغرى والكُبرى أيضًا؟ أنت الذي تصف هذه الحلوى بشكلٍ جيِّدٍ، حلوى الزَّعفران! ما شاء الله! هذه الحلوى الحُلوة المُعطَّرة بالزَّعفران، الحُلوة المتماسكة. عندما تصفها، هل يصبح فمك حُلوًا أيضًا أم لا؟ يقول: لا، لم يصبح. نعم، هذا الوصف يدفع المُخاطَب للذَّهاب وتحضير اللَّوازم والمُعِدَّات وطبخ حلوى ممتازةٍ ودعوتي أنا وحضرتك أيضًا ليُثيبه الله. هذا المقدار نقبله، هذا المقدار صحيحٌ. هذا المقدار الذي يهدي ويُرشِد صحيحٌ. ولكن الرُّوح لا تصبح حُلوةً. الإحساس الذي يأتي من أكل الحلوى لا يحدث ولو بعد مائة عامٍ. قُل دائمًا: الحلوى حُلوةٌ، واستخدم المِسبحة. عندما تتناول ملعقةً واحدةً من تلك الحلوى تقول: هذا شيءٌ آخر. تلك الحالة التي تنتابك لم تكن لتحصل قبل مائة عامٍ. هذا يحتاج إلى أكلٍ. هذه الحقيقة تحتاج إلى عملٍ، تحتاج إلى مراقبةٍ. هذه المرتبة تحتاج إلى مُجاهَدةٍ. والوصول إلى هذه المرتبة يحتاج إلى رياضةٍ، يحتاج إلى عملٍ.
دو چشمِ فلسفی چون بود احول | *** | زِ وحدت دیدنِ حق شد مُعطَّل |
يقول: لمَّا كانت عينا الفيلسوف حَولاوين *** تعطَّلت عن رؤية الحقِّ واحدًا
لم يَعُد يستطيع رؤية الحقِّ واحدًا.
خطر الكلام الخالي من التوحيد والانشغال بالمقامات الدنيوية
کلامی کو ندارد ذوقِ توحید | *** | به تاریکی دَر است از غَیمِ تقلید |
يقول: الكلام الذي ليس فيه ذوق التَّوحيد *** هو في الظُّلمة من سَحاب التَّقليد
كلُّ كلامٍ ليس فيه رائحة التَّوحيد، وفيه «أنا أنا»، هذا هو علمي، هذا هو مقامي، كم لديك أنت؟ كم لديك من رصيدٍ؟ كم لديك من مالٍ؟ أيُّ شخصيَّةٍ أنت؟ [فهو في ظلمة]
البارحة كنَّا واقفين عند هذا الباب، فجاء سيِّدٌ يبدو أنَّ له منصبًا ومسؤوليّة أيضًا. فالتفتوا إليه وقالوا له: هذا هو السَّيِّد فلان فجاء إليّ وقال: يا سيِّد، كان له [المرحوم العلاّمة] مريدون كُثُرٌ. ولم يُذكَر في المنبر أنَّه كان له مريدون. فقلتُ: مَن كان الملائكة مريديه في تلك الدّار، فلا يحتاج إلى مريدي هذه الدُّنيا، وذلك كافٍ. فطأطأ رأسه ومضى. هو له مريدون! من هم مريدوه؟ لقد ذهب إلى تلك الدّار، وهذا العبد الصَّالح يُحاسَب! فعلتَ هذا العمل ولم تفعل ذاك. والآن نحن نقول: هذا السيِّد له مريدون، وهذا السيِّد ليس له. فما هذا الكلام؟! ما هذه الأمور؟!
مظاهر التكريم الدنيويّة في المآتم: هل تنفع الميت؟
هكذا هي الدُّنيا! تمَّ تكريم الشَّخصيَّة! كم كان هناك من تقوى؟ كم كان هناك من توجُّهٍ إلى الله؟ كان رجلًا عظيمًا جدًّا. كان وضعه يختلف كثيرًا عن أوضاع سائر الذين كنَّا نراهم والذين نراهم الآن. ولكن ما هي حقيقة القضيَّة؟ لديه كذا من المريدين، وكذا من فلانٍ، وكذا من كذا، و... عالم الكثرات لا حدَّ له ولا نهاية.
يجب أن يكون الحديث عن الله. ما يصل إلينا في هذه المجالس هو قراءة الحمد والسُّورة. لا أحد ينتبه لهذا، وإلَّا فالوضع هو نفسه. أتذكَّر مسجد القائم هذا، في زمن الشَّاه كانوا يأتون بجنائز العسكريِّين وكبار الضُّبَّاط ويضعونها في المسجد ليأتوا غدًا ويأخذوها. فجأةً ترى موكبًا قد انطلق، طبولٌ وأبواقٌ وضجيجٌ، أنَّه مثلًا اللِّواء فلان و... والآن الأمر نفسه يحصل. فانظروا إلى البُلدان، الأشكال مختلفةٌ، الشَّكل قد تغيَّر. فلانٌ قد مات، كم حضروا في تشييعه؟ هل كانوا كثيرين أم قِلَّةً؟ كم شارك في مجلس تأبينه؟ كم طبعوا له إعلانات نعيٍ؟ كم قدَّموا له تعازي؟ صفحةٌ كاملةٌ من الصَّحيفة كانت مليئةً بإعلانات النَّعي. كنتُ في مجالس كانوا يتحدَّثون فيها عن هذا: كان كذا وكذا. نفس أُبَّهة وعظمة لواء الشَّاه السَّابق والضابط الفلانيّ وكذا وكذا، والدِّعاية والمظاهر والألاعيب التي كانوا يقومون بها في ذلك الوقت! هي موجودةٌ دائمًا، فقط شكلها وألفاظها تتغيَّر! فمَن الذي يقول هنا: كم فاتحةً قرأنا؟ كم طلبتم له المغفرة؟ كم كانت أعماله مفيدةً لآخرته؟ أصلًا وأبدًا!
من الدعاء بالرحمة إلى التكريم: كيف ابتعدنا عن الهدف؟
مجلس الدعاء بالرحمة أصبح مجلس تكريمٍ! سابقًا كانوا يقولون مجلس دعاء بالرحمة، وطلب للمغفرة. والآن أصبح احتفالاً تكريميًّا، ثمَّ أصبح تأبينًا وأمثال ذلك. فهذه الأمور تُبعِدنا. فمع كلّ اختلاق لعبارةٍ ومع كلّ واحدةٍ من هذه العبارات السَّخيفة ـ تكريمٌ وتأبين ـ نحن نبتعِد. يجب أن يُقال: مجلس دعاء بالرحمة. يجب أن يُقال: مجلس فاتحة. يجب أن يُقال: مجلس دعاء بالمغفرة. يجب أن يُقال هذا اللَّفظ ليعلم النَّاس ماذا يفعلون. فما هو التَّكريم؟! وما هذه الأمور؟!
لو أردنا أن نفعل في مثل هذه الأمور ما كان يفعله الآخرون، لتفوَّقنا عليهم أيضًا. نعرف طُرقًا كثيرةً لا يعرفها أحدٌ! ولكن لأيِّ شيءٍ نفعلها؟! كلُّ هذا يصبح دنيا واعتباراتٍ والتظاهر أمام هذا وذاك. أذلك خيرٌ أم أن لا يفعل الإنسان ذلك بل يجلس ويقرأ القرآن ويقرأ الحمد والسُّورة، ويكون لسانه مترنِّمًا بذكر الله. كلُّ هذه تصبح أطباقًا من النُّور تصل إلى روح ذلك المتوفَّى، ذلك الذي انتقل حديثًا، إنّه وهو في ذلك العالم يتوسَّل بإلحاحٍ أن افعلوا لي من هذه الأعمال. ماذا تقولون أنَّه بنى كذا مسجدًا وحُسينيَّةً ومستشفى! إن كان بنى فقد بنى.
قصّة الساعات الأخيرة للسيد البروجردي رحمه الله: "يدي خالية"
كان السيِّد البروجرديُّ رحمه الله رجلًا طيِّبًا، رحمة الله عليه. وبينما كان يحتضر، وقد نقل أحد هؤلاء الذين كانوا عنده في تلك الحالة للوالد رحمه الله وكنتُ أنا أيضًا في مشهد فقال: كنتُ عند رأسه، فبدأ بالبكاء، والدُّموع تنهمر من عينيه. فقلتُ: سيِّدنا لِمَ تبكي؟ قال: أنا ذاهبٌ ويدي خاليةٌ. السيِّد البروجرديُّ الذي لا يوجد مثله الآن، مثل ذلك الصَّفاء والواقعيَّة و...! كان يقول: يدي خاليةٌ. بدأتُ أقول: يا سيِّد، أنت بنيتَ المسجد الفلانيَّ هنا. وكان يقول: لا! يا سيِّد، أنت بنيتَ المكان الفلانيَّ، بنيتَ المسجد الفلانيَّ في ألمانيا. يا سيِّد، أنت في هذا الطَّرف وذاك الطَّرف... كم بنى من مضافات للزُّوَّار هنا وهناك، في العراق وفي أماكن أخرى. كان يقول: لا. كم درَّستَ؟! لا! لا! لا! قال: قلتُ له كلمةً واحدةً: فهل تقبل أنَّ هذا الكتاب الذي كتبته والتَّأليف الذي قمت به كان خدمةً لأهل البيت عليهم السلام؟ فهزَّ رأسه وقال: ربَّما يقبلون منّا هذا. بحالةٍ من شِبه الأمل. فهو ذاهبٌ ويفهم أنَّ يده خاليةٌ.
حال الأولياء مع الموت: شوق للرحيل أم تمسك بالبقاء؟
تعالوا واذهبوا وأحضروا العربة وأركبوا سماحة آية الله في العربة ليذهب إلى المسجد الأعظم! التفُّوا حوله! انتهى! عندما يأتي عزرائيل يقول: السَّلام عليكم ورحمة الله! ذلك الملفُّ أُغلِق، أريد أن أفتح لك ملفًّا جديدًا. يا سيِّد، الطلاب ينتظرون! دعهم وشأنهم، الطُّلَّاب لهم ربٌّ أيضًا! يا سيِّد، كذا وكذا! تعالَ لنذهب. وطوبى لمَن يذهب وقت الرَّحيل خفيفًا ومتقدِّمًا. بمجرَّد أن يقول: لنذهب، يقول: إلى أين؟ من أيِّ طريقٍ نذهب؟
تعب المرحوم العلامة من البقاء ورغبته في إتمام المهمّة
المرحوم العلَّامة وأولياء الله كانوا يذهبون متقدِّمين. تلك الحالات التي كنتُ أراها في السَّنوات الأخيرة من المرحوم العلَّامة كانت حالاتٍ كأنَّه يطالب عزرائيل: لِمَ لا تأتي؟! كانت هذه الحالات. كفردٍ قد ملَّ من الحياة في هذه الدُّنيا ولم يَعُد يستطيع تحمُّل البقاء فيها أكثر من هذا. هؤلاء كانوا يتحمَّلون البقاء يومين في الدُّنيا، كانوا يضغطون على أنفسهم. آه، اليوم أيضًا مضى ولم نمُت! يجب أن يأتي الغد أيضًا، فكيف سنقضي الغد؟! هؤلاء كانوا هكذا. كانوا يعذَّبون. مرَّاتٍ كثيرةً عندما كنتُ أتحدَّث معه، خاصَّةً في تلك الأشهر الأخيرة، كان يبدو مستاءً من بقائه. كان يقول: لقد قُمت بعملي، ما كان يجب أن أقوله قلته. يعني ما كان على عاتقي قد تمَّ؛ فلماذا يجب أن يبقى الإنسان؟! يأتي أفرادٌ آخرون ويواصلون المسير. هذه الأوضاع باقيةٌ على حالها. مُدَّتنا وزماننا ووقتنا قد انتهى، ولكلٍّ وقتٌ.
دعاء ختامي: اللهم افتح بصيرتنا للحقائق
إن شاء الله نأمل أن يفتح الله تعالى أعيننا ويفتح قلوبنا، ويجعل في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وجوارحنا، ذلك النُّور الذي يجذبنا باتِّجاهٍ واحدٍ ومستقيمٍ نحوه. حقًّا، في هذه الأمور التي يراها الإنسان، يُدرِك أيَّ جُهدٍ بذله هؤلاء الأعاظم من أجلنا، وكيف بيَّنوا لنا هذه الأمور، وكيف فرَّقوا لنا بين المجاز والحقيقة، حتَّى نفهم على الأقلِّ من النَّاحية العلميَّة والنَّظريَّة في أيِّ وضعٍ نحن، وأيَّ طريقٍ أمامنا، وفي أيِّ مُستنقَعٍ يتخبَّط الآخرون.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ