المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1428
التاريخ 1428/09/26
التوضيح
كيف تختلف عبادات الأولياء عن عباداتنا رغم تشابه الظاهر؟ وما هو خطر الشيطان حتى على المخلصين؟ ما هو السرّ الذي أدركه الشيطان في خلق آدم عليه السلام ولم تدركه الملائكة؟ ما معنى أن المخلصين في خطر عظيم؟ وكيف يمكن للشيطان أن يتسلّط على الإنسان حتى في حال توجهه وعبادته؟ تتناول هذه المحاضرة لسماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره الفارق بين المعرفة القلبية للأولياء والاكتفاء بالظواهر. وتجيب عن أسئلة حول أهمية الارتباط الروحي، وشروط الهداية، وخطر الانقطاع عن الولاية، مؤكدة على ضرورة الارتباط بالولي الخبير أو الرفقة الصالحة للحفاظ على المسير الروحي السليم
هو العليم
تفاوت أولياء الله وأصحاب الأئمة الخاصّين مع سائر الأفراد في مراتب القرب الإلهيّ
خطر انقطاع الارتباط الروحي وفقدان "الارتباط" الإيماني
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۸ هـ - الجلسة السادسة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحیم
و صلَّی اللَه عَلَی سیّدنا و نبیّنا أبیالقاسم مُحَمّدٍ
و علی آله الطّیبین الطّاهرین
و اللعنة عَلَی أعدائِهِم أجمَعینَ
«أَدْعُوكَ يَا سَيِّدِي بِلِسَانٍ قَدْ أَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ رَبِّ أُنَاجِيكَ بِقَلْبٍ قَدْ أَوْبَقَهُ جُرْمُه»۱.
يا مولاي، أدعوك وأتوجه إليك وأخاطبك، بأيّ لسان؟ بلسانٍ أعجزه ذنبه، وأناجيك بقلبٍ أهلكه جرمه.
النظرة التوحيدية: خاصية الأولياء والعرفاء
ذُكر ليلة البارحة للرفقاء أنّ تلك النظرة التوحيديّة تجاه حقائق الأشياء وعالم الوجود بأسره تختصّ بفئة معيّنة من الأولياء والعرفاء الإلهيّين، الذين شاهدوا جمال الحقّ بقلوبهم الملكوتيّة. وهذه الأمور لا تُنال بالدرس والعلم الظاهري ولا تتحقّق بالعلوم الظاهريّة، فضلًا عن علوم الفقه والأصول وعلوم اللغة والتاريخ! حتّى الفلسفة والعرفان النظري، فهذه العلوم تساعد وترشد إلى الطريق، وتفتح للإنسان نافذة إلى تلك العوالم إلى حدّ ما، وتصحّح مدركاته في المسار الذي يسلكه؛ فهذا مسلّم.
حدود الفقه الظاهري
وهذه المسألة ليست من شأن الفقه الظاهريّ، لأنّ الفقه يُعنى فقط ببيان كيفّية أحكام الجوارح، ولا علاقة له البتّة بالمسائل الجوانحيّة والقلبيّة والاعتقاديّة. فكم ركعة في الصلاة؟ صلاة الصبح ركعتان، وصلاة المغرب ثلاث ركعات. وما هي الشكوك التي تعرض في الصلاة؟ وما هو سبيل الخروج من تلك الشكوك؟ وما هي أركان الصلاة؟ وما هي مبطلات الصلاة؟ فهذه مسائل يتناولها الفقه.
الحج بين ظاهر العمل وباطنه
الحجّ عبارة عن أعمال وسلوكيّات يجب على الحاجّ أداؤها في وقت الإحرام وبعده مع مراعاتها ليُتم حجّه. وله مبطلات ومسائل يجب مراعاتها. أما ما النيّة التي يجب أن تكون في ذلك الحجّ؟ وأيّ وجهة يجب أن يتّخذ الإنسان في هذا الحجّ؟ وبأيّة كيفيّة يجب أن يواجه هذه الأعمال؟ ما هي فلسفة وضع كلّ من هذه الأعمال والأحكام؟ وما التفكّر والاتجاه القلبيّ والنفسيّ الذي يجب أن يتحلّى به الإنسان عند أداء كلّ عمل؟ هذا لا علاقة له بالفقه، لا علاقة له البتّة. أنت في وقت رمي الجِمار، يكفي أن تنوي رمي سبع حصيّات على هذا العمود قربةً إلى الله تعالى، هذا كلّ ما في الأمر. أمّا لماذا ترمي هذه الحصاة؟ لا يلزم البحث في ذلك، وليس له أيّ دخل في صحّة العمل. لماذا ترميها؟ ومن قال لك ارمِها؟ أي نيّة وراء هذا يجب أن تعقدها؟ هل هناك أمرٌ خفيٌّ وراء هذه القضيّة أم لا؟ قال الله ارمِ، ونحن نرمي. لا حاجة لأن يفكّر الإنسان في شيء آخر ويبحث عن أمر آخر. فلو قال الله ارمِ عشرًا، لرمينا عشرًا. ولو قال الله لا ترمِ هذا العمود وارمِ اللِبنة، لرمينا اللِبنة. لا شأن لنا بما إذا كان وراء هذا العمل هدف أم لا. قالوا افعل هذا العمل، ونحن نفعله، ونعتزّ بأنّنا أدّينا أعمالنا بشكل صحيح. وصلّينا أيضًا خلف مقام إبراهيم عليه السلام، بدقّة تامّة كأنها قِيست بالمسطرة! وأدّينا الحروف من مخارجها، ولم نترك مجالًا لأيّ إشكال. فيقول: أدينا العمل بشكل صحيح ولنا حقّ عليك أيضًا! يا إلهي، أدّينا الحج ولا يوجد أي إشكال. فهذا نوع من الحجّ.
خشية الإمامين الحسن والسجّاد عليهما السلام عند الإحرام
وهناك نوع آخر من الحجِّ هو عندما يريد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أن يُحرم، فيتغيّر لون وجهه ويصفرّ! وقد ورد هذا الأمر أيضًا بخصوص الإمام السجّاد عليه السلام. ورد هذا الأمر بخصوص هذين الإمامين عليهما السلام سواء في الصلاة أو في الحجّ. يُسأَل الإمام: لماذا أصبحت هكذا؟ لماذا أصبحت في هذه الحال؟ كان الإمام يقول: «أخشى أن أقول "لبيك" فيُقال لي في الجواب: "لا لبّيك لك ولا سعديك!»۱. لا! ليس هناك لبيك. لن يُستجاب لك مع هذه الأعمال التي قمت بها.
هل لدينا مثل هذه المسائل في الفقه أصلًا؟ أبدًا. نرتدي منشفتين، واحدة على الكتف والأخرى على الوسط، ثم نقول: «لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»، أو أن تُضاف «لبيك» لاحقًا. وقولها مرّة واحدة كافٍ وصحيح، ثمّ يتحرّك الإنسان ويذهب لأداء بقيّة الأعمال.
رمي الجمار: بين الفعل الظاهر والتوجّه القلبي
أهذا وضعٌ أو ذاك الذي يريد أن يرمي الجمار على العمود، ليعلم أيّ عمل يقوم به، وفي أيّ مكانة يشعر بنفسه أمام الله ونظام الوجود، ويتذكّر وضعه تجاه مقام العبوديّة، وإلى أيّ حد تقدّم في ذلك المقام، واعتبر نفسه ذليلًا وحقيرًا، وبنفس الكيفيّة يحدّد دينه واتجاهه القلبيّ في هذا المسار؟ كيف يتعامل مع النفس قبال مقام مشيئة وإرادة الله؟ كيف يجب أن يتعامل مع الدين الذي عبد الله به طوال حياته؟ كيف يجب أن يتعامل مع تلك الاعتقادات التي كان يتوجّه بها إلى حضرة الربوبيّة حتّى الآن؟ هل هي نفسها؟ أليس هناك أمر أعلى منها؟
الفرق الهائل: أين نحن من سلمان وأويس وحبيب؟
هل تلك الاعتقادات التي كان عليها حتّى الآن هي نهاية المطاف؟ إذن ما الفرق بيننا وبين سلمان؟ حسنًا، يجب أن نقول إنّ سلمان كان لديه ما لدينا بعينه. ما نفكّر به بعينه، هذه الصلاة التي نصليها بعينها، ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ التي نقولها بعينها، ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ التي نقولها بعينها، الركوع والسجود اللذين نقوم بهما بعينهما، فسلمان كان يفعل الشيء نفسه. أصحاب الأئمة الخواصّ كانوا يفعلون الشيء نفسه، فإذن لا فرق بينهم وبيننا! بينما نرى أن الفرق كبير جدًّا، ليس فرقًا بسيطًا. أين سلمان وأين نحن وأمثالنا؟! أين أولئك الأصحاب المقرّبون من الأئمة؟ أمثال حبيب بن مظاهر والمقداد وأويس القرني؟ هل مقام المعرفة والشهود والمدركات القلبيّة والوجدانيّة لأويس هي عندنا؟
حديث "لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان..."
لو كانت بعينها عندنا ، فلماذا يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لكفّره أو قتله»۱؟ فلو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لفعل أحد أمرين: إمّا أن يكفّره ويقول إنّه كافر أصلاً وليس موحّدًا وليس مسلمًا، أو إذا استحى أن يكفّره، لسعى لإزالة نسل سلمان من على وجه الأرض حتّى لا ينحرف الناس!
خطورة إفشاء الأسرار: قصّة منصور الحلاج
ماذا يقول؟ قال منصور الحلاج كلمتين فصلبوه وأحرقوا جسده، وألقوا رماده في دجلة! قال جملتين، عبارتين، ثمّ رفضه جميع العرفاء وقالوا ما كان ينبغي له أن يقول. فماذا يعني هذا؟ هل كلّ شيء يمكن قوله؟
قال الشاعر:
گفت آن یار کزو گشت سر دار بلند | *** | جرمش این بود که اسرار هویدا می کرد |
يقول:
قال: إنّ ذاك الصاحب الذي بسببه علا رأس المشنقة *** كان جرمه أنّه كشف الأسرار.
قلت للرفقاء، لم يكن يكذب، لم يكن يقول باطلًا، كانت حقيقة ما كان ينبغي له أن يقولها. كان جرمه كشف الأسرار، لا جرم الكذب. وهذان أمران مختلفان. فمرّة نقول: إنّه يقول كلامًا باطلًا وتافهًا وسخيفًا، ويقول خلافًا وكفرًا. فماذا يعني الكفر؟ يعني خلاف الواقع. أما ما كان يقوله الحلاّج فكان صحيحًا وحقًّا، ولكنّه كان كفرًا في مرتبة علوم العوام، كان كفرًا في هذه المرتبة، لا في الأصل. في الأصل كان عين التوحيد. قالوا: حسنًا، بما أنك تفشي سرّنا، فيجب أن ترحل. أولئك الذين أعطيناهم هذا السر، أغلقوا أفواههم وخاطوها٢.
قصّة السرّ المكنون: الملك والمعماري والكنز (رواية السيّد الحداد)
تذكّرت قصّة لا أعرف أأقولها أم لا؟ نقولها على الله! كنا جالسين يومًا ما في خدمة المرحوم السيّد الحداد رضوان الله عليه، في ذاك السفر الذي عدنا فيه من مكّة، وكان عمري حينها حوالي ۱۷ عامًا، فدار الحديث عن إفشاء السرّ، وتذكّرت الآن بالصدفة أنّ سماحته كان يتحدث أيضًا عن هذه القضيّة نفسها. كان يقول: الملوك السابقون كان لديهم كنوز، وكانوا يحتفظون بالجواهر والذهب. وعندما كان يحدث أمر ما، أو يشعرون بخطر، أو يصبحون في أواخر عمرهم، أو يواجهون تهديدًا من بعض الدول، كانوا يستدعون معماريًّا بمفرده، ويأخذونه معهم خارج المدينة، إلى مكان ما تحت جبل أو شجرة أو مكان خاص، ويقولون له: احفر هنا مكانًا، ولكن إذا علم أي أحد بذلك فستُقطع رقبتك. وكان يأخذ معه بعض العمال والبنائين سيئي الحظ، وينشغلون بحفر الأرض، ويُبنى بناء تحت الأرض. والكثير من هذه الكنوز التي تُكتشف اليوم هي على الأرجح من ذلك الوقت. وهناك أشياء يخترعونها ويقولون إنها تصدر صوتًا وتدلّ على الذهب، فالناس الفارغون الذين ليس لديهم عمل يتّبعون هذه الأمور! ثمّ كانوا يذهبون ويجهّزون ذلك المكان، وعندما يجهز، يأتي ليخبر الملك بأنّ المكان جاهز. وفي منتصف الليل، يأتي الملك مع هؤلاء البنّائين والعمال، وينقل كلّ هذه الكنوز دون أن يعلم أحد إلى ذلك المكان. وفي اليوم التالي، يستدعي ذلك المعماريّ والبنائين والعمال ويقطع رقابهم، ولا يعلم بذلك في الدنيا سواه. لماذا؟ لأنّهم يعرفون السرّ. ربما لم يكن العمّال يلتفتون ولم يكونوا منتبهين، ولكن المعماريّ على الأقل كان يعلم. ولأنّه كان مطّلعًا على السر، والسرّ يجب أن لا يعلمه أحد، كانوا يقطعون رقابهم. إنّهم ملوك، هكذا الأمر دائمًا، كلّ من لديه القوّة يفعل ما يريد!
هر که را اسرار حق آموختند | *** | مهر کردند و دهانش دوختند |
قصّة سرّ الخلافة: إدراك الشيطان وحسده
وصلت القضيّة إلى الشيطان. كان الشيطان يعبد الله في عالم الملكوت وكان له مقام وقرب كبير، حتّى تعلّقت إرادة ومشيئة الله بخلق آدم. فخلق آدم ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾۱، كلّ الكلام في كلمة ﴿خليفة﴾. كان للّه مخلوقات كثيرة قبل آدم، كان لديه الملائكة والجنّ، وكانت هناك مخلوقات شبيهة بالإنسان قبل آدم عليه السلام أيضًا، لكنّها لم تصل إلى مرتبة الإنسان الذي يصل إلى الاستعدادات وتجلّي مظاهر جميع الأسماء والصفات، ولكنّهم كانوا مثل الإنسان أيضًا. والكثير من هذه الاكتشافات التي يقومون بها الآن ترجع إلى هؤلاء، وقد قرأت أنّهم أخرجوا جثّة من مكان ما قبل بضع سنوات، وقالوا إنّها تعود إلى حوالي مليوني سنة مضت، وكانت شبيهة جدًّا بالإنسان. فقد كانوا موجودين. وخلقُ آدم هذا، كما تذكر التواريخ، مضى عليه حوالي ستة أو سبعة آلاف سنة، في هذه الحدود. ولكن مسألة الخلافة الإلهيّة هذه مرتبطة بآدم عليه السلام. ما يُستفاد من الروايات والأخبار هو أنّ الإنسان، هذا النسل المعروف والموجود، هو أفضل وأشرف الخلائق. ومن بين الملائكة، أدرك الشيطان هذه المسألة، وهذا عجيب جدًّا! من بين جميع الملائكة، أدرك الشيطان هذا السرّ، وأن الله قد أودع هذا السرّ في الإنسان. هنا حسده، وإلا فإنّ جبرائيل وعزرائيل والملائكة المقرّبين لم يحسدوه. هنا يتّضح أن له سيطرة على جميع مراتب الوجود، بسبب هذا الأمر. تلك القوّة وتلك الحدّة وتلك السعة الوجوديّة لديه اقتضت أن يدرك هذا السرّ وهذا الأمر. وعندما أدركه، قال الله: يجب أن ترحل! لقد انتشر السرّ، ولا ينبغي لأحد أن يطّلع عليه. فقال للّه: يا إلهي، أنا حافظ للسرّ، أبقني. فقبل الله منه. فالشيطان كائن كهذا، اطّلع على حقيقة آدم وتلك المراتب لآدم.
"والمخلصون في خطر عظيم": حتى الأعاظم ليسوا بمأمن!
هنا يقول الحديث: «والمخلصون في خطر عظيم»٢. كلّ من يرتقي في أيّ مرتبة كان، فإنّ له شيطانًا، إنّ له شيطانًا، حتّى يصل إلى مقام الإخلاص، وحتّى مع ذلك «والمخلصون في خطر عظيم»، طالما لم يستقرّوا في مقام الفناء، ولم يتحوّل حالهم إلى مقام ثابت، ولم يصبح ملكةً لديهم، فإنّ هذه المسألة تلاحقهم. لذا، لم يسلم الأعاظم من هذه المسألة، ومن هذه القضيّة، ولم يكونوا في مأمن منها. لقد واجهوا الخطر. كان المرحوم العلامة على صلة بأُناس لم يكن لديهم أي نقصٍ من الناحية الظاهريّة، ولكن لأنهم لم يستقرّوا في مرتبة الفناء، تحوّلوا في أواخر عمرهم إلى جحيم يحرقون به أنفسهم والآخرين، ويظلمون محيطهم والآخرين بظلمتهم! ومن كان هؤلاء؟ كانوا أفرادًا غَفلوا عن هذا الأمر. بعض هؤلاء عمل المرحوم العلامة ببعض مطالبهم.
الخطر الخفي: كيف يتسلط الشيطان حتى أثناء العبادة؟
ولكن الخطر يكمن هنا، في أن الإنسان يجب أن لا يكتفي بمدركاته. أيّها الرفقاء، إنّ ما أقوله لكم دقيق جدًا! يجب أن لا يكتفي الإنسان بحاله، لأنّه في نفس الحال الذي هو فيه، يكون الشيطان مسلطًا عليه! فماذا تفعلون به؟ في نفس الحال الذي هو فيه، حال التوجّه، الشيطان مسلّط. يصلّي صلاة الليل ويبكي، ولا يرى في وجوده أيّ شيء يصرفه عن التوجّه إلى الذات، ولكن في نفس تلك الحال، الشيطان مسلّط عليه! في نفس ذلك التوجّه، الشيطان حاكم عليه! حينئذٍ، من يريد أن يعالج هذا الألم وهذا المرض؟ إلا من كانت يده في يد أستاذ ووليّ وخبير، فهو عندئذٍ متعهّد، ولا سبيل للشيطان إليه. يصلّي وقد بسط سجّادته، والجميع نائمون، وهو قام يمشي بهدوء حتّى لا يستيقظ الآخرون، إلى هذا الحدّ، أي أنّه يبعد الرياء عن نفسه، لا يصدر ضجيجًا، لا يشعل الأنوار، لا ينشد الشعر، لماذا؟حتّى لا يقال إنّ الحاجّ فلان قد قام ليصلّي ركعتين تقصم ظهره! لا! بل يمشي بهدوء حتّى لا يستيقظ الآخرون. ولكن كلّ هذه الحركات، هي حركات مصحوبة بالشيطان. فكلّ هذه التوجّهات مصحوبة بالشيطان. هو لا يعلم أنّ هناك حقيقة فوق تصوّره وفي باطن مدركاته القلبيّة، وهو غافل عن تلك الحقيقة، وهي ليست غافلة عنه. هو لا يدرك تلك الحقيقة، ولكنّها تراقبه، ولا تمسّ تركيبته أبدًا، لا تمسّ إخلاصه، ولا سلوكه وتصرّفاته، ولا مدركاته، لا تمسّ أيّ شيء، ولكنها تسيطر عليه، وبنفس هذه الأعمال، تبقيه بعيدًا عن القرب من الحقّ وآثاره، وبعيدًا عن الوصول إلى رضا الله وعنايته.
الارتباط الروحي: سرّ الثبات والاستمرار
حتّى تلاميذ المرحوم العلامة، فلا تظنوا أنّ الكثيرين ممّن ارتبطوا به ثمّ فارقوه كانوا يفعلون المحرّمات، فهل كانوا يرتكبون الحرام؟ لا! لم يكن الأمر كذلك. كانوا من أهل صلاة الليل، وأهل الذكر والورد، وأهل التوجّه، وأهل المشاهدة والمكاشفة. وكنتُ على علم بهم وعلى صلة بهم، كنت أرى وأسمع، أسمع منهم المسائل. ولكن في الوقت نفسه، ومع كلّ هذه الخصوصيّات الظاهريّة، ومع كلّ هذه المراعاة الظاهريّة، ومع كلّ هذا الإخلاص الظاهريّ ـ الإخلاص الظاهريّ لا الإخلاص الحقيقيّ والواقعيّ ـ مع كلّ هذا الإخلاص الظاهريّ، كانوا في باطنهم منفصلين، فلم يكن هناك اتّصال. وعلى حدّ تعبير المرحوم العلامة، كانوا قد فقدوا الاتصال والارتباط.
مثل التفاحة الملتوي غصنها : كيف يؤدي فقدان "الارتباط" إلى التلف؟
وعندما يُفقد الارتباط، يصبح الحال كحال التفّاحة المقطوفة والتي التوى عنق الغصن الصغير الذي يوصلها بالشجرة والذي تتغذّى منه. فالتفاحة لم تسقط من الشجرة، ولكنها لم تعد تتغذّى، وأصبحت معرّضة لكلّ الأخطار. الشمس تسطع عليها؛ حتّى اليوم، كانت أشعّة الشمس تسبّب نموّها وحلاوتها لأنّ السوائل والموادّ كانت تصلها من المصدر. ومن اليوم فصاعدًا، ستؤدّي نفس أشعّة الشمس هذه إلى تعفّنها. يبدأ العدّ التنازلي لتلفها وفنائها. والريح حتّى الأمس ـ دقّقوا جيدًا فيما أقول ـ لم تكن غير ضارّة لها فحسب، بل كانت نافعة لها. يقولون إن الشجرة إذا بقيت ثابتة دائمًا، فإنّها تموت. يجب أن تتحرّك الشجرة. هذه الحركة تقوّي الجذر وتسبّب النمو والازدهار. فهذه الرياح المعاكسة من كلّ جانب لم تكن تؤثّر فيها. كانت تتحرّك من هذا الجانب إلى ذاك، ثمّ عندما تتوقّف الريح، تتوقّف التفّاحة أيضًا. كانت متّصلة بالمصدر، متّصلة بالشجرة. لم تكن الرياح قادرة على إزاحتها عن مكانها. وبمجرّد أن انقطع هذا الاتّصال والارتباط، أحدثت كلّ ريح تأثيرًا سلبيًا في سلامة التفّاحة وصحتها. الضربات التي كانت تأتي لم تكن مؤثّرة فيها إلى ذلك الحدّ، ولكن بمجرّد أن تصيبها ضربة في الغد، فستبقى تلك الضربة وتبدأ في الانتشار وتبدأ في التلف. لماذا؟ لأنّها انقطعت عن الأصل. التفّاحة موجودة، وحمراء وجميلة أيضًا، ولكنها لم تعد متّصلة بالأصل، إنها فقط معلّقة بالشجرة. لا فرق بين أن تكون معلّقة أم لا. كان سماحته يقول: الذين ينقطعون، لم يعد لديهم ذلك الارتباط. يشاركون في المجالس، ولكن ليس لديهم ذلك الاتّصال، هم منقطعون. يأتون ويذهبون ويقومون بالأعمال ويصلّون ويصومون وينصحون ويُستمع لنصائحهم، ولكنّهم غير متّصلين. تلك الجهة الرابطة التي يجب أن تكون موجودة، والتي تضمن سلامتهم من أشعّة الشمس الزائدة، الأشعة فوق البنفسجيّة للشمس، تلك الجهة الرابطة التي تضمن سلامتهم من الرياح والحوادث، لم تعد موجودة.
آثار فقدان "الارتباط": الانحراف التدريجي
ونتيجة لذلك، يبدأون في الباطن بالتوجّه نحو اتجاهات مختلفة. صلاة ليله كما هي، لا تُترك، ولكن لم يعد فيها روح تحافظ عليه في اليوم التالي. حتّى الأمس كانت لها روح. الصلاة التي كان يصلّيها كانت لها روح وتحافظ عليه. ولكنّ هذه لم يعد لها روح. غدًا يأتي رجل ويقدّم له اقتراحًا؛ لو قدّم نفس الاقتراح بالأمس لرفضه، ولكنّه غدًا يقبله. حسنًا، الاقتراح هو نفسه، لا فرق فيه. كيف رفضته بالأمس وقبلته اليوم؟ فكرك هو نفسه، لم يتغيّر فكرك. لا يتغيّر الإنسان فجأة من حال إلى حال. التغيير يستغرق وقتًا. ولكن لا، ترى أنّه مرّت بضعة أيّام، ويُقترح عليه أن يفعل كذا. يفكّر قليلًا ويقول: لا بأس! يا إلهي! أنت من كنت تعارض هذه القضيّة بشدّة الأسبوع الماضي وتقول: هل يمكن لمن يتّصل بالولاية أن يصدر منه مثل هذا العمل؟ الآن أنت نفسك تقوم بهذا العمل بسهولة! لماذا هذا؟ لأنّ ذلك الارتباط لم يعد موجودًا. الآن، قد يُظهر لك احترامًا في الظاهر، يتأدّب بأدب ما، يراعي المعايير، هذا في محلّه، ولكن كلّ الأمور تدور حول الولاية، وهذه القاعدة تحكم كأصل في منطومة السلوك بأكمله. إنّها أصل إداري، ولا يختصّ بولي الله.
أهمية الرفقة الصالحة في السلوك
صديقان تربطهما صداقة، أصل الصداقة هذا القائم على أساس نظرة التوحيد، هذه الصداقة تستجلب الفيوضات. ليس من الضروريّ أن يكون هذا الرفيق أستاذًا، بل هما صديقان دخلا حقًّا في علاقة صداقة! لا أن يخدعا أنفسهما ويغشّ بعضهما البعض، لا أن يقولا: هيا نذهب إلى هنا وإلى هناك، إذا لم نذهب إلى هنا فأين نذهب؟ ليس لدينا مكان نذهب إليه! كلاّ! فهذا لا فائدة منه. حقًّا، إذا كانت هذه المسألة قائمة على الاشتراك في المسار، يتألّم أحدهما لألم الآخر، ويفرح لصلاحه وسعادته، وإن كان هناك انحراف سيحدث، يعتبره انحرافًا لنفسه، وإن رأى استقامة رفيقه في الطريق، يفرح قلبه وينشرح صدره لوجود رفيقه في مثل هذا الحال، فإن كان صديقان هكذا، فإنّ ذلك الفيض سيأتي لهدايتهما وإرشادهما ولن ينقطع. بلا فرق بينهما أبدًا. فإذا انقطع هذا، وزال ذلك الرابط، فإنّ الآفات تأتي الواحدة تلو الأخرى. تتغيّر الأفكار وتتبدّل المسائل. لقد رأيت بنفسي طوال حياتي وجرّبت، رأيت بعينيّ هاتين أفرادًا زالت رابطة صداقتهم، ثمّ ابتُلوا بأنواع المسائل، في حين أنّه لو كانت علاقة الصداقة تلك، وتلك الوحدة في الطريق موجودة، لما كان ممكنًا أبدًا أن تحدث مثل هذه القضايا.
"الارتباط" والحساسيّة تجاه الانحراف
إنّ مجرّد وجود هذا الارتباط يحافظ عليه. فبمجرد أن يُقترح هذا الأمر، أو تُقال هذه المسألة، مثلًا أن يكتب مقالة حول هذا الموضوع، عندما يكون ذلك الارتباط موجودًا، فإنّه لا يسمح للقلم أصلًا بأن يتّجه إلى غير ما يرضي الحقّ. هذا الطريق يقتضي هذه التعابير، هذا الطريق يقتضي حذف هذه التعابير يا عزيزي! هذا الطريق يقتضي استخدام هذه الكلمات والعبارات. فبمجرّد أن ينقطع ذلك الارتباط، تزول تلك الحساسيّة تجاه هذه التعابير، وتصبح كلّ الاحتمالات واردة. لأنّ تلك الحساسيّة هي التي تحافظ على الإنسان في طريقه، وتجعله يستمرّ بثبات، وتثبّته بقوّة. فعندما تزول تلك الحساسيّة، تفقد المسائل شكلها الأوّل لديه، تفقد تلك الخصوصيّة. كلّ هذا الاهتمام الذي أولاه المرحوم العلامة والأعاظم والأولياء والأساتذة لارتباط الرفقاء والأصدقاء ببعضهم البعض، سببه المهمّ هو هذه القضيّة. لأنّه عندما يكون الرفيق مرتبطًا بالرفيق الآخر، فبقدر ما يقوى ذلك الارتباط، يثبّته في الطريق ويصرفه عن الموانع.
التبرير التدريجيّ للانحرافات بعد فقدان "الارتباط"
اليوم يُقترح عليه هذا الأمر: يا سيد، لنفعل هذا العمل اليوم.
ـ لا، لا يمكن.
ـ لنغيّر اليوم الديكور هكذا.
ـ كلا يا عزيزي ، لا يمكن.
ـ لنأتِ غدًا ونشتري الشيء الفلاني.
ـ كلا! هذا غير مناسب. ولكن عندما ينقطع ذلك الارتباط، يُقال: لنأتِ اليوم ونكتب هذا الموضوع.
يفكر ويقول: نزن الأمور قليلًا. ثمّ يقول: لا! لا مشكلة الآن، ربّما تكون له بعض المنافع. فلنقبل اليوم بهذا المنصب. حسنًا، جيّد، له منافع أيضًا. يبدأ الإنسان بالتراجع خطوة خطوة، ثمّ يأتي بأدلّة لكلّ هذه الأمور، ولا يفعلها بدون دليل، ويقول: بالمناسبة، إنّه جيّد جدًّا، لهذا السبب وذاك السبب.
أنت كنت تقول سابقًا إنّ هذا العمل سيّئ وقبيح ويجب أن لا يفعل، والآن أصبح جيّدًا ولا مشكلة فيه وليس مهمًّا؟ دعنا الآن من أنّ بعض الأعمال الحرام واضحة الحرمة تصبح مبرّرة. لمَ هذا؟ بسبب تلك الحيثيّة الارتباطيّة التي فُقدت بسبب هذا الأمر.
شروط طلب الهداية الحقيقيّة: هل أنت صادق في طلبك؟
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: إن الذين وصلوا إلى مرتبة التوحيد تلك، وأصبحت أبصارهم أبصار الحقّ، لهم مثل هذه الخصوصيّة. «وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم...» ۱هكذا كان الأمر دائمًا، كان الوضع دائمًا بهذه الكيفيّة. لم تخلُ الأرض من حجّة. ولكن نحن لا نريد أن نبحث عنه، أليس الأمر كذلك؟ أليس يقال: يا سيّد، أين نجده؟ أين نجده؟! هل لديك صدق حتّى أقول لك أين تذهب! أم لا! هل ستتّخذ موقفًا ضدّ أول جملة تُقال؟ فإذن لا تقل: أين نجده؟ أنت تقول: أين نجده؟ أنا أقول لك أين نجده. ألا تقول أين نجد مثل هذا الإنسان؟! حسنًا، هل تبحث حقًا عنه؟! هل تقبل كلّ ما يقوله لك؟!
قصّة الوافد المشترط: تجربة الوالد (العلامة الطهراني) مع طالب العلم
جاء أحد فضلاء قم ـ وقد توفّي الآنـ في الزمان السابق، في زمان الشاه، إلى المرحوم الوالد، وكان مهتمًا ببعض هذه المسائل. رأيته يأتي مرّتين أو ثلاثًا، لم أكن قد رأيته من قبل، لم تكن له صلة سابقًا أصلًا، لم يكن هناك ارتباط، فكيف ظهر هنا في هذا المنزل؟! رأيته جاء ثلاث جلسات في صيف واحد، ثمّ لم يأتِ بعد ذلك. لم يكن لي شأن به، لم يكن لي شأن بالذين يأتون ويذهبون. ولكنّ المرحوم الوالد كان يتحدّث أحيانًا، فيقول: هذا الذي جاء هو السيّد فلان، وهو في قم، وجاء يطلب منّا برنامجًا سلوكيًّا. ربّما سمع من أحدهم! أو كان على صلة بالمرحوم العلامة الطباطبائيّ والمرحوم مطهّري رحمهما الله ـ وإن كان من المستبعد أن يكون المرحوم مطهري قد أرشده، فهذا مستبعد ـ وحتّى كان على صلة بآخرين. جاء بخصوص هذه القضيّة. الأمر الذي قاله له المرحوم العلاّمة هو: إلى أي حدّ بذلت جهدًا في هذه المسألة؟ نحن لسنا هنا فارغين لنأتي ونذهب وكذا ونقضي الوقت، كلاّ! نحن نطلب عائدًا مقابل الوقت الذي نقضيه. يجب أن نرى كم بذلت جهدًا في هذه المسألة وكم تهتمّ بها؟ حسنًا، من الطبيعيّ عندما يختار إنسان أحدًا كعظيم وخبير، يجب أن يجعل أعماله وسلوكه متوافقة معه. ونحن بهذا الوضع جئنا إلى هنا، وإلا لما جئنا. قال العلامة: هل ستعمل بكلّ ما أقوله لك؟ قال: نعم. فالتفت إليه وقال: بخصوص هذه المسائل، يجب أن لا تتدخّل. فقال الزائر: قل ما تشاء، ولكن لا تتحدّث عن هذه المسائل! قال والدي: في أمان الله! أنا أول ما أضع يدي على هذا الأمر. فأنت الذي جئت إلى هنا وتريد أن تصلح نفسك، هل تريد أن تصلحها على أساس وصفتك أم وصفتي؟ إن كانت على أساس وصفتك، فماذا تفعل هنا؟! تضيّع وقتك ووقتنا، خصّصنا لك ثلاث جلسات...٢
قصّة طالب العلم من قم: الجهد الضائع بسبب عدم الاستعداد
قبل سنتين أو ثلاث كان هناك أحد الطلاّب في قم، فأراد أن يتحدّث معي بخصوص بعض المسائل. فقلت لذلك الواسطة: هذا لا ينفع، ولا داعي لنضيّع وقتنا عبثًا. فقال: لا! خصّص له وقتًا وتحدّث معه فقلت: أنا أقول لك الآن: هذا لا ينفع. هو رجل جيّد جدًّا ويصلي ومؤمن ويراعي الأحكام، ولكن في النهاية، كلّ شيء يحتاج إلى جوّ وحال معين، وهذا يأخذ وقتًا لهذه المسائل. فأصرّ، فقلت: حسنًا جدًّا! لم أخصّص في حيّاتي لأحد وقتًا بالقدر الذي خصّصته له. فتحدّثت معه عشر ساعات كاملة، وتحسّنت حاله، وحدثت تغييرات وبعض الأمور. ثمّ سافر وعاد، فذهب كل ما قلناه أدراج الرياح! جلست معه امرأتان، فنسفتا كلّ ما بنيناه! فصار يقول: ما هذا الكلام؟! هذه طريقة الدراويش، وهؤلاء أناس كذا وكذا، هؤلاء على هامش الحياة، وعلى الإنسان أن تكون له حياة، فأمير المؤمنين عليه السلام كان يزرع، والأئمة عليهم السلام كانت لهم أشجار وبساتين!
ـ هل قلنا نحن لك أن تنام في الشارع بلا سروال؟! متى قلنا مثل هذا الكلام؟! قلنا إنّ على الإنسان في سلوكه أن يأخذ بعين الاعتبار جانب الله والآخرة، ومال الدنيا يجب أن يكون بقدره في هذا الاتجاه. فكلّ تلك العشر ساعات ذهبت هباءً! فذهبتُ إلى ذلك الواسطة وقلت له: تفضّل، هل ارتحت الآن؟ يا عزيزي، قلت لك إنّ لكلّ إنسان حالاً وسعة ووضعًا. بعض الناس إذا تكلّمت معهم عشر دقائق يفهمون الأمر. وبعضهم يتحدّثون مع الإنسان باستمرار، يقتلونه بقولهم: يا سيّد، ما هذا؟! يا سيّد، ما ذاك؟! رأيت حلمًا، رأيت كذا، قرأت في الكتاب! يا عزيزي، حسنًا، كن مثل الآخرين، فكثرة الكلام لا توصل أحدًا إلى أيّ مكان. أخرجوا أنفسكم قليلًا من حالة الجمود، أعطوا مجالًا قليلاً، أعطوها بعض الفهم.
لماذا تطلب الهداية وأنت متمسّك برأيك؟
كان المرحوم العلامة يقول: لا حاجة لكلّ هذا الكلام. فالقواعد والأصول قد قيلت. فيا عزيزي، خذها واذهب، لا حاجة لكلّ هذه الجلسات والكلام. يا عزيزي، لدينا كلام، لدينا عمل. كلّ كلامك حتّى الآن كان هو نفسه. لو سجّلت كلّ هذا الكلام على شريط، لأصبح الآن مائة شريط، وكلّه كلام واحد. هناك أحد هؤلاء الذين يكثرون الكلام، يحلق لحيته بالموسى تمامًا، ولو جمعت كلّ كلامه لما ملأ شريطًا مدّته ساعة، يدور ويلفّ باستمرار. كان المرحوم العلامة يقول: إن كنت تريد أن تعمل بوصفتك، فلماذا جئت إلى هنا؟ فاذهب واعمل إذن. أنت جئت إلى هنا لتخرج من النفس. أنت جئت إلى هنا لتقول بلسان الحال، بل لا بلسان الحال بل صراحةً: رغم أنّ لديّ علمًا، رغم أنّ لدي معلومات وثقافة، رغم أنّي درست، ولكن بعد مرور ستين عامًا، لم يأخذ هذا التحصيل وهذه المعلومات وهذه الثقافة بيدي. جئت إليك لتدخل أنت من طريق آخر. لو كان من نفس هذا الطريق، ففي مكتبتي يوجد أصول الكافي وفروعه، ومن لا يحضره الفقيه ووسائل الشيعة وكتب الأحاديث، وكتب الفقه أيضًا فكتاب الجواهر موجود من أول الصلاة إلى آخر الديات. ولو كان الأمر سيصلح بهذا، لكان قد صلح حتى الآن وانتهى الأمر، ولا حاجة للمجيء إلى هنا. بقية الأفراد أيضًا هكذا، المسألة شيء آخر. في المجلد الثاني [من أسرار الملكوت] ذكرت بعض الملاحظات حول أحوال هؤلاء للرفقاء.
مشكلة "إلا هذا!": عندما يرفض المريض الدواء الأساسي
عندما تأتي إلى هنا، فعلى أي أساس تقول إنني أقبل المطالب ما عدا هذا؟ يعني أنك لا تريد. هذا هو نفس الداء الذي ابتلي به الآخرون. هذا هو نفس الداء الذي ابتلي به فلان السيّد والشيخ والتاجر وذهبوا. هذا المقدار ما عدا هذا، هذا المقدار ما عدا هذا، هذا المقدار ما عدا هذا، يعني "لا" منذ البداية! اذهب إلى الطبيب، فيقول لك: تناول هذه الأدوية. فتقول: أتناول هذه الأدوية ما عدا هذا. يعني أنك جئت إلى هنا عبثًا. أتناول هذه الأقراص الأربعة ولا أتناول الخامس. فيقول: بالمناسبة، أنا أرى أنّ الخامس هو المهمّ وهذه الأربعة طلبتها منك لرفع أعراضه الجانبيّة، وإلا فإنّ دواء مرضك الأصليّ هو الخامس. دواء مرضك هو ذاك، وأنت تقول: ما تقوله أنت لن أتناوله، وسأفعل هذا بدلًا منه.
عودة إلى قصة الوافد المشترط مع المرحوم العلامة
قال له المرحوم العلامة: وداعًا. فذهب، وبعد فترة توفّي. والمثير للاهتمام هنا أنّه حدثت مسألة ربّما لا يجوز ذكرها، كيف أن هذا الرجل الذي يأتي بهذه الخصوصيّة ويؤمن بهذه المطالب ويقرّ لسماحته بالعظمة، وبأنّ لديه مقامات ليست لديه هو ـ فعلى الأقل هذا هو معنى قبوله ومراجعته ومجيئه ـ ثم يصل إلى درجة يبدأ فيها بالطعن والاستهزاء قائلًا: نعم! هناك فئة تجلس في البيوت، والآخرون يخرجون ويقدّمون أرواحهم ودماءهم، وهؤلاء فقط يتكلّمون. يا إلهي! ما شاء الله! هذه هي عاقبة الأمر ونتيجة العمل.
المناجاة في الفكر، طريق الأولياء
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: هؤلاء أفراد وعباد يناجون الله في فكرهم. المناجاة في الفكر، ليست مناجاة بالعمل واللسان. مناجاة في القلب ومناجاة في عالم العقل والتجرّد. هذه مناجاة من نوع تلك الحقائق التي يوجّهنا إليها الإمام السجّاد عليه السلام.
إن شاء الله تتمّة الموضوع للجلسة القادمة إذا وفقنا الله، لعلّنا نستطيع إنهاء المسائل المتعلّقة بهذه الفقرة في الجلسة القادمة إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.