المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1428
التاريخ 1428/09/12
التوضيح
كيف نفهم الحقيقة الربطيّة من خلال أمثلة عمليّة نعيشها في أنفسنا؟ كيف تكون حركة اليد دليلاً على ما في النفس؟ وكيف يكون الكلام كاشفًا عن مقدار صدق صاحبه أو كذبه؟
ما هي الآثار التربويّة المترتّبة على مثال الكلام وكشفه عن الصدق والكذب؟ وما هي مخاطر الاكتفاء بظاهر الناس لاتّباعهم والتسليم لهم؟ وكيف يتحوّل الإنسان إلى مجرّد ممثّل حتّى يصدّق هو نفسه دوره الكاذب؟
في سياق شرح فقرة أدعوك يا سيّدي بلسان قد أخرسه ذنبه تعرّض سماحة المحاضر لهذه المواضيع باسطًا الكلام بالأمثلة والشواهد العمليّة.
هو العليم
الحقيقة الربطيّة بيان وتوضيح
خطورة التظاهر والتمثيل
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي – سنة ۱٤٢۸ هـ - الجلسة التاسعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحیم
وصلَّى اللَه عَلَى سیدنا و نبینا أبىالقاسم مُحَمّدٍ
وعلى آله الطّیبین الطّاهرین و اللعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعینَ
«أدعوك یا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه ربّ أناجيك بقلب قد أوبقه جرمه».
أدعوك يا مولاي بلسان لا قدرة لديه على التكلّم بسبب الذنوب التي ارتكبها، وأناجيك بقلب لا قدرة له على مناجاتك بسبب الجرم والجناية التي ارتكبها هذا القلب، يريد أن يتحدّث إليك ويبثّ إليك أسراره فلا يتمكّن.
ذكرنا في الليلة الماضية للرفقاء أنّ جميع أفعال الموجودات وذوات هذه الموجودات في العالم لا تشير إلا إلى الله وذات الباري تعالى وأسمائه وصفاته، لا إلى شيء آخر سواه، وذلك بواسطة تلك الحقيقة الربطيّة التي لديها، وجهة ارتباطها وتعلّقها بأصل الوجود.
أمثلة عمليّة للحيثيّة الربطيّة (حركة اليد ـ الكلام)
فهذه اليد التي تعمل الآن عندما ينظر إليها الإنسان يرى أنّها تظهر قدرة الله، فكيف إذا حرّك إنسان يده ونظر إليكم يخبركم بشيء، فإنّكم من هذا النظر وهذا الاستماع وهذه الحركة تنتقلون إلى أمر آخر، ننتقل إلى أنّ هذا الرجل الذي يحرّك يده الآن حيّ، لأنّ الميّت لا يتحرّك، وعندما نرى أنّه يحرّك يده باتّجاه معيّن ليأخذ كوبًا من الماء نقول: لديه نيّة ولديه إرادة فنحن لم نقرأ نيّته وإرادته، فهما تحقّقتا في نفسه، ولكن إدراككم لذلك هو بواسطة هذه الحركة، فهذه الحركة إذن هي بنفسها مبيّنة وموصّفة ومظهرة وموضّحة، توضّح تلك النيّة المحرّكة وذلك الإنسان، وتلك الإرادة التي يريدها الإنسان بالنسبة إلى عمل من الأعمال.
لذلك فإنّ بعضهم وقبل أن يتحقّق أمر ما يسرعون ويسبقونه، فمثلاً قبل أن يقتل إنسان ما آخر ويمدّ يده إلى البندقيّة ويرميه يسارع الآخر إلى البندقيّة ويرميه، فما علّة ذلك؟ فهو لم يبيّن نيّته وأنّي أريد أن أقوم بهذا العمل، ولسانه لم ينطق، فمن أين أدرك ذلك إذن؟ من أنّ هذه الحالة وبهذه الظروف تشير إلى مراده ونيّته، فهذه الحركات كلّها تبيّن صفات تلك الذات وأسماءها وخصوصيّاتها، تلك الذات التي تدلّى منها هذه الحركة وتعتمد عليها. فما نقوم به نحن في هذه الدنيا هو كلّه مبيّن ومشير يشير إلى نوايانا، وبواسطة كلامنا الذي نتكلّم به، وبواسطة النظرات التي ننظرها وبواسطة الحركات التي نقوم بها، تتّضح للناس إلى حدّ ما تلك النوايا وتعلم.
فإذن هذه الحركة التي تحصل الآن توجّه وتعرّف من خلال ارتباطها بذات الإنسان، وهي تحدّد تلك المسائل الباطنيّة والمسائل الخافية على الجميع. والأعمال التي يقوم بها تفيد هذا المعنى، والكلام الذي يقوله الإنسان يمكنكم من خلاله معرفة مستوى صدقه وكذبه، فمن كيفيّة تركيب العبارات يمكنك أن تعرف كم هو صادق هذا المتكلّم، فمن أراد أن يخدع آخر يعرف من كلامه، وطبعًا إذا كان ذاك المخاطب ذكيًّا وفطنًا، وإلا فإنّه يخدع بشدّة ولا يكتشف إلا بعد سنوات، عشرات السنوات، بعدها يدرك الإنسان أنّه أيّة خدعة خُدع، وأنّه ماذا كان وراء ذاك الكلام الجميل من نوايا لم يكن يعلمها، كان الكلام جميلاً وكان منمّقًا.
ضرورة الحذر من اتّباع المتظاهرين بالأدب والأخلاق
والكلام هنا يطول، وهذا هو السرّ في ما يقال من أنّ علينا أن لا نتوجّه إلى أيّ إنسان، وأن نلتفت جيّدًا عمّن نأخذ كلامنا، فكم يصادف أن يكون وراء كلّ عبارة شيطان لإغواء الإنسان وهو لا يدري فيقع في شراكه، فتلك التنبيهات هي لأجل أنّ للشيطان طرق مختلفة لجذب القلوب، ويختار أساليب مختلفة ويختار أناسًا كقدوة ويستخدم مناهج متعدّدة، فتارة يضحك للإنسان ويتواضع له ويقف له، نعم فهذا كلّه خداع، يحترمك ويدعوك إلى منزله، ويمدحك في المجالس وفي المحاضرات ويثني عليك هنا وهناك، وشيئًا فشيئًا ينجذب هذا القلب، ويقول: يا له من إنسان جيّد! إنّه يمدحني أمام فلان في ذاك المكان. ولكنّه لا يدري ما الخطّة المعدّة، فهذا كلّه مخطّطات، إنّه مخطّطات يا عزيزي مخطّطات يسير وفقها ويعمل على أساسها خطوة خطوة ويحرز تقدّمًا، يطهّر أمامه سجّادة الصلاة ويقوم بألف خطّة وخطّة بما يتناسب وشخصيّته.
جاءني أحدهم وأخذ يمتدح آخر وأنّه رجل متواضع جدًّا وكذا وكذا، ويقول: رغم أنّي طبيب ولا اطّلاع لديّ على هذه الأمور الدينيّة، عندما ذهبت إليه استقبلني بحفاوة وضحك لي وسألني عن أحوالي...
فقلت له: يا عزيزي! هل إذا ذهبتُ إليه أنا وقلت له الكلام الذي قلته أنت أو أدنى منه يستقبلني أيضًا أم أنّه يركلني ركلتين ويرمي بي من تلك المنطقة ومن الأرض إلى السماء؟! كلاّ فلأنّك لست من أهل العلم استقبلك بحفاوة، ولكن لو ذهب إليه من هو مثله وتحدّث معه في موضوع معيّن، لكان يصدّ الكلام بطريقة تجعله ينهي الموضوع في الجملة الأولى ولا يدعه يصل إلى الجملة الثانية! ولكنّه الآن يقول: يا إلهي، هذا لا يفهم، دعنا نحاول أن نلطّف الجوّ معه قليلاً ونضحك، فهو شخص معروف، دعنا نكسب قلبه، وبعدها سيمدحنا ويثني علينا.
كلاّ يا عزيزي فللشيطان طريق لكلّ إنسان ليجذب قلبه، وله خطّة خاصّة به وعلى الإنسان أن يلتفت إلى أنّ ذلك الكلام الذي يطرح ما هو هدفه وماذا وراءه؟ فلماذا كان كلّ هذا التأكيد من الأعاظم أن لا تذهبوا إلى أيّ مكان، ولا تسلّموا لأيّ إنسان؟ لأجل هذا في النهاية يا عزيزي، قالوا لا بدّ أن تصاحبوه وترافقوه في السفر والحضر وفي المرض والصحّة وفي السرّ والعلن وفي الحالات المختلفة فتدرسوا أحواله وتقيّموا وضعه حتّى تعلموا في أيّة حالة هو.
كان هناك فيما سبق من يعتقد أنّ غاية الأمر أن يكون إنسان ما مراعيًا للأخلاق والآداب في كلامه وفي ذهابه ومجيئه. وكنت أعلم أنّ كلّ ذلك تمثيل ومسرحيّة لا أكثر. حتّى كنّا ذات يوم في مكان بعد الظهر وكان ذلك الرجل يريد أن يذهب برفقة عياله إلى مكان معيّن، ومرّ طريقنا صدفة على ذاك الزقاق، فالتفتُّ من بعيد أنّ ذلك الرجل يتقدّم نحونا وهو ذاهب برفقة عياله إلى مكان ما، ولم يكن هناك في الزقاق أحد غيرهم، فكانت حركاته وطريقة كلامه التي كنت أراها منه من بعيد مستبعدة عن عاقل وغريبة عن إنسان وقور، صحيح أنّ من معه هم أبناؤه وعياله ولكنّ الإنسان لا يفعل أمامهم ما يحلو له هكذا، ففي النهاية لكلّ شيء حسابه.
ولكنّ هذا حركاته وطريقة كلامه وتصرّفاته كانت عجيبة جدًّا بالنسبة إليّ وأنّه كيف يتكلّم وكيف يتصرّف، فإذا أراد إنسان ما أن يكون شديد الصلافة ومتدنّيًّا جدًّا عن شأن إنسان في سنّ متقدّمة [فإنّه يصنع ما كان يصنع]، وما إن وقعت عينه عليّ عن بعد خمسين مترًا حتّى تسمّر وتغيّر وصار مستقيمًا كالسيخ وكأنّ السماء وقعت على رأسه وانخطف لونه، لا بدّ أنّه أدرك أنّي رأيته في تلك الحالات، فصار مؤدّبًا وهادئًا جدًّا يخطو خطوات معدودة ويتحرّك حركات منظّمة ومرتّبة تناسب كونه في الملأ العام وكونه أمام المرآة. فلمّا رأينا ذلك لم نرد أن نسبّب له حرجًا فرجعنا على الفور من الطريق الذي أتينا منه كي لا يكون هناك أذى. فهل صار الأمر واضحًا؟
فلو أنّنا قمنا باستفتاء من جميع الناس حوله ـ ولن أذكر اسمه الآن وإن شاء الله لم يعيّن أحد منكم فردًا معيّنًا فالهدف هو بيان الحقائق ببيان كليّ وعام ـ فلو قمنا باستفتاء حوله من الناس الذين كانوا هناك لقالوا: يا له من إنسان مؤدّب! يا له من إنسان منظّم! يا له ويا له...! حسنًا فالناس لم يشاهدوا منه هذا الأمر، وهم يتكلّمون وفق وجهة نظرهم وطبق رؤيتهم وطبق تعاملهم معه من بعيد، وعلى أساس ذلك يقدّمون وجهة نظرهم، ثمّ يرتّبون على هذا أثرًا، فلو أنّ إنسانًا مثلي رأى ذلك المشهد الآن، وكنت أعرف، كنت أعرف من قبل أنّ هذا كلّه أفلام ومسرحيّات، ولم أكن بحاجة إلى رؤية ذلك، الآن إذا رأى شخص ما هذا، ماذا سيحدث؟ فجأة ستتغيّر النظرة، ها! لم يعد بالإمكان قبول أيّ كلام منه، لم يعد بالإمكان قبول أيّ شيء يصدر من هذا، لماذا؟ لأنّ الذي في هذا القالب، في هذا الوضع، في هذا الموقف، يختلف عن ذلك الذي لديه نفس مستقرة ورصينة ووقورة، وعمله على أساس حساب، ونفسه على أساس حساب، وبرنامجه على أساس حساب، ماذا يحدث؟ يختلف الأمر. كثيرون هم هكذا، كثير من الناس، وخاصّة أولئك الذين لديهم جوانب اجتماعيّة أيضًا، ما شاء الله، أولئك الذين هم دائمًا في حال ﴿كل يوم هو في شأن﴾، هؤلاء مظهر اسم تغيّر شأن الله.
حقيقة فنّ التمثيل وابتلاؤنا جميعًا به
فمن هو الممثّل يا عزيزي؟ الممثّل هو الذي ينسى نفسه ويضع شخصية أخرى مكان شخصيّته، فهذا يصبح ممثلًا. طبعًا، هؤلاء الممثّلون، شخصيّتهم أيضًا تقريبًا تشبه تلك الشخصيّات المتقلّبة، فلو لم تشبههم لما أصبحوا ممثلّين، فالوقور الرصين لا يأتي ليمثل حركات حتّى لو كان في فيلم، ولا يقلّد صوت قطة أو صوت دب أو ما شابه. ويلعب أدوارًا من هذه الأمور، فالقيام بهذا ليس بلا سبب، هناك سبب في نهاية الأمر، والله خلق كلّ إنسان لعمل، هذا أيضًا هكذا...! ولكن هل ينهض والدي ليصبح ممثلًا؟ المرحوم العلامة؟ أو مثلًا أفترضوا أنّكم أنتم الذين أتحدّث إليكم، أنتم أنفسكم ومن لديه مقام وخصوصيّة، فهل يقوم أحد منكم ليمثّل وليلعب دور مهرّج؟ طبعًا، هؤلاء من أجل... ففي النهاية الناس يعجبهم هذا، وأحيانًا يقولون إن لهذه جانب تعليميّ أيضًا، في بعض الحالات، حسنًا، لبعضهم، ولكن على كلّ حال، هذا عمل لا يفعله أيّ إنسان، هذا أمر لا يقدر عليه أيّ إنسان.
وبصورة عامّة فإنّ الإنسان...، لأنه إذا أراد أن يمثّل دورًا في شخصيّته، فإنّ التمثيل يخرّب، يخرّب. قرأت ذات مرّة مقالًا، وكان مقالًا ممتعًا جدًّا، كان المقال حول التمثيل وجودته وما إلى ذلك، طبعًا، كان مقصودي هو الأمور النفسيّة وما إلى ذلك، وكنت أحقّق حول مسألة ترتبط بهذا الأمر، وأنّه كيف يمكن للإنسان أن يغيّر شخصيّته من شخصيّة إلى شخصيّة أخرى. وطبعًا، هناك مرض نفسي، في هذا المرض يصبح للإنسان شخصيّات مختلفة، يصبح ذا شخصيّتين، وهو مرض صعب العلاج جدًّا، ويقول البعض إنه لا علاج له إذا اشتد كثيرًا، أي يصبح للإنسان شخصيّة بخصائص روحيّة في ساعة، وفي ساعة أخرى تتغيّر شخصيّته تمامًا، بحيث لا يعلم شيئًا عن تلك الشخصيّة السابقة، ينسى تمامًا ما كان وماذا فعل وما إلى ذلك...! أي يتحوّل الإنسان إلى إنسان آخر بأفعال وأعمال مختلفة. وقد قرأت ذات مرّة قضية في هذا الصدد، وأنّ أحد هؤلاء الممثّلين الأجانب كان مسافرًا في قطار، وكانت هناك امرأة جالسة أمامه، وكانت تعرفه، فبدأت تتحدّث معه عن دوره، وكيف يمكنك أن تمثّل دور إنسان ما بهذه الطريقة، وكيف يمكن للإنسان أن يضع نفسه في ذلك الموقف وما إلى ذلك؟ سألته عن هذه القضية. وعندما كان يشرح لها عن ضرورة إحداث الإنسان تغييرات في نفسه، تغييرات، تغيير وضعه، ويذهب تدريجيًا، حسنًا، هذا الممثل لديه فنون وحيل، لديه دروس، كيف يمكن للإنسان أن يغير طبيعته في أفكاره وفي صفاته وفي أعماله، وكيف يمكنه أن يقدّم ويؤخّر موقعه بما يناسب الحالة التي يجب أن يمثلها. فلم تفهم [المرأة] جيّدًا. فقال [الممثل]: سأعطيك مثالًا لتدركي ما أقول. ثمّ بدأ يخرج من حقيبته من حقيبة سفره منشفة، فقال ما هذه؟ وأراها لها، قالت: هذه منشفة، قال سأحوّل هذه المنشفة إلى طفل، وانظري كيف تتشكّل هذه القضيّة بهذه الجودة، بدأ يجمع المنشفة ويحرّكها يمينًا ويسارًا، وفي عالمه بدأ يتحدّث لكي تفهم هي أيضًا، قال هذا رأسه، وهذه الآن قدمه، كانت المنشفة منشفة، ثم حرّك المنشفة يمينًا ويسارًا، ثم بدأ يخرج أصواتًا! فقال: لماذا تبكين؟ هكذا تمامًا! لعبة لعبة! ما هو المسرح؟ الفيلم هو هذا! مجرّد لعبة.وكلّنا يا سيّدي مشغولون باللعب، أولئك الذين يشاهدون هذه الأفلام لا يعلمون شيئًا، ولا خبر لديهم، جاء أحدهم بصورة في رأسه، أوهام وتخيّلات وما إلى ذلك فركبها وجمعها، وأخرجها على الورق، والآخرون يمثّلونها، جاء عدة أشخاص ليمثّلوا ويأخذوا بعض المال ويحضروا خبزًا لزوجاتهم وأطفالهم، لا يوجد شيء في واقع هذه القضية.
ثمّ يبدأ هذا بالتحدّث معه، كان كذا، وكان كذا وكذا، وليته يفعل هذا الآن،فيحمرّ وجهها، وهؤلاء الجالسون تحمرّ وجوههم، فيبدأون بالتحدّث والصراخ والتحليل... .
وأنا أعرف أحد العلماء وقد توفّي الآن، عالم مهمّ، كان يجلس لمشاهدة الأفلام حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ثمّ يشرح للآخرين أنّ المقصود كان كذا! لا، أنتم مخطئون، لا تفهمون، انظروا ماذا قال، انظروا ماذا فعل، وما إلى ذلك، هكذا هكذا هكذا، مرّت الآن ثمانون عامًا من عمره ولا شيء عنده، وهؤلاء هم الذين كانوا ينتقدون المرحوم الوالد، ويقولون عنه وعن أمثاله: هؤلاء جماعة من الصوفيّة! صوفيّة! نعم، يعتزلون جانبًا ولا يعرفون شيئًا عن المجتمع و...! هل جنابكم أنتم تعرفون الكثير؟ مفسّر أفلام الراقصات الأجنبيّات وما إلى ذلك...! حضرتكم تعرفون شيئًا عن المجتمع؟ حسنًا، الحمد لله أنكم لستم صوفيين وأن طريقكم هو طريق أهل البيت، لا بد أن موسى بن جعفر لو كان مثلكم لكان يجلس بعد عودته من المسجد حتى الساعة الواحدة ليشرح هذه الأمور واحدًا واحدًا، يا أولاد اجلسوا لأخبركم ماذا تفعل الراقصة ذات الرأس المكشوف الآن، وماذا يفعل الرجل! موسى بن جعفر والإمام الرضا لو كانا موجودين لفعلا مثلكم! هؤلاء هم أتباع آل محمد، أي يتبعون...! ثم أمثال والدي صوفيون ومنعزلون عن الدنيا ولا يهتمون بأمور المجتمع و...، لا يهتمون بهذه الأمور ويكتبون أمورًا غير مفيدة للمجتمع! كنت أسمع هذه الأمور في ذلك الوقت! كنت أقرأ الرسائل التي كانت تأتي إليه وأطلع على الأمور.
حوّل هذا الرجل المنشفة إلى طفل، وبدأ يتلاعب بها ويرفعها ويخفضها، ويبدأ الطفل بالبكاء تدريجيًّا، يبدأ بالقول اهـدأ، لماذا لا تهدأ؟ لقد غيّرت ملابسك للتوّ، لماذا تفعل كذا؟ يضع الحليب في فمه، يضع اللهّاية في فمه، ويهدّئه: اهـدأ! وهو يبكي! يغضب، ينزعج، يقول اهـدأ، يرفع المنشفة ليضرب بها الأرض، فجأة تأتي تلك المرأة وتمسك بيده: أرجوك...! يرفع الطفل ليضربه بالقطار، فجأة تقفز وتمسك بيده، ماذا تفعل؟ لا تفعل هذا، ستقتل الطفل! ثمّ يجلس بهدوء ويسترخي، ويقول أين الطفل؟! هذه منشفة، منشفة! هل استمعتم؟!
حالنا نحن كحال تلك السيّدة التي جلست في القطار وتصوّرت المنشفة طفلاً، نحن مثلها تمامًا، نمتلك المشاعر عينها، والتخيّلات عينها، والأجواء عينها و...! ماذا صنع؟ بدّل الشخصيّة، وضع طفلًا بدل المنشفة، وقبل الطرف المقابل، وأظهر ردّة فعل، أظهر ردّة فعل، نهض وأمسك بيده، قال لا تفعل! لا تضرب الطفل بالأرض! هل تعلمون؟ هكذا يأتي الشيطان ليسيطر على أفكارنا، هذه القضيّة ليست مزحة، لقد سمعتم شيئًا عن الدجال الذي يأتي في آخر الزمان، أولئك الذين يتّبعونه يسيطر عليهم، ويوجّه نفوسهم نحوه، ويوجّه أفكارهم في طريقه، عندما نقرأ نقول هل يعقل؟! هل يعقل أن يأتي الناس وتتّجه أفكارهم نحو اتجاه ما؟ فهؤلاء الذين يصلّون ويصومون، ويحضرون المجالس، مجالس المرحوم العلامة، لا المجالس التي فيها باطل، يذهبون إلى مجالس شهر رمضان، ويذهبون إلى مجالس عاشوراء، ويذهبون إلى مجالس الوعظ، ويذهبون إلى هذه المجالس، فكيف ينقلبون؟ كيف يعودون أدراجهم؟ كيف يتحركون نحو تلك الأفكار ويتّجهون نحو ذلك المسار؟ كيف؟!
الأمر بسيط يا سيّدي، المسألة مسألة نشر الدعاية وقلب الحقائق إلى ضدّها، وقلب الباطل إلى حقائق، ولهذه فنونها وحساباتها.
كيف قلبنا قضيّة إلى قضيّة أخرى؟ تحدث جريمة، فنعرضها بطريقة توحي بأنّها صحيحة ويجب أن تحدث، وأنّ القضيّة لم تكن كذلك، بل كانت بشكل آخر. عندما يذهبون إلى القاضي ويشهدون، ماذا يجب أن يفعل القاضي؟ هل يقبل شهادة كلّ من يأتي ويشهد أم لا؟ بل يشهد أحدهم، ثمّ يعزله عن الآخرين ويذهب ليسأله، يقول له ماذا جرى؟ يسأله عن التفاصيل والخصائص، ويسجّل كلّ شيء، ثمّ يستدعي الآخر، ثمّ يحاول أن يخدعه، آه، صاحبك قال غير هذا، ليرى هل المسألة واحدة أم أن هناك تواطؤًا وشهادة زور وظلم وشهادة بالإكراه قد حدثت هنا، هذا إذا لم نقل إن القاضي أغلق القضيّة من البداية دون شهادة ووقّع عليها هكذا! إذا لم نقل ذلك وعثرنا على قاضٍ في النهاية في هذه الكرة الأرضية والمنظومة الشمسية يحكم بالعدل. فهل يمكن أن يكون القضاء هكذا؟ لا يمكن أن يكون هكذا.
يأتي الشاهد وينظر إلى الطرف المقابل، فيرى أنّه يا للروعة! مظهر حسن، مؤمن، أهل عبادة، أهل صدق، من الوجهاء في المجتمع ومن رؤساء البلاد ومن الموثوق بهم، فأيًّا يكن الشاهد سيقبل، سيقبل أيًّا يكن، ولكن كلاّ! عليه أن يحقّق في الأمر ويسأل حتّى تتّضح المسألة تمامًا.
الملاّ قربان علي الزنجاني تبحّره العلميّ وكيفيّة قضائه
وقد تذكّرت الآن قصّة، رحم الله الشيخ بيات، صديق قديم ومن كبار السنّ، كان يروي هذه القصة للمرحوم العلاّمة وكنت جالسًا، فكان يقول: ذهبنا في رحلة إلى زنجان برفقة الشيخ الأنصاري رحمه الله، وذلك لزيارة المرحوم الحاج الملاّ آغا جان الزنجاني الذي كان في زنجان وكان كثير التوسّل والدعاء، ولكنه لم يكن يميل إلى العرفان ومدرسة التوحيد وكان مخالفًا لها. كان الشيخ الأنصاري صديقًا له لفترة، ولكن بعد أن بدأ بمحاربة العرفان ومواجهته، انفصل عنه ولم يعد بينهما أي تواصل حتّى نهاية حياته. فقبل أن يحدث هذا، كان يقول: ذهبنا في رحلة من همدان إلى زنجان برفقة الشيخ الأنصاري، فذهبنا يومًا برفقة الحاج الملا آغا جان لزيارة أحد المنازل في زنجان، ولا أدري إن كان موجودًا الآن أم لا، وهو منزل المرحوم الحاج الملاّ قربان علي الزنجاني الذي كان رجلاً عظيمًا جدًّا وعالمًا جدًّا، ويمكن القول إنّه كان من تلاميذ الشيخ الأنصاري من الدرجة الأولى، وكان رجلاً عظيمًا جدًّا وصاحب نَفَس وروحيّة عالية.
قصّة تكشف عن علم الملا قربان علي
وهذه القصَة التي سأرويها لكم الآن سمعتها من آية الله شبيري الزنجاني حفظه الله وأدام أيّام حياته، السيّد شبيري الزنجاني هذا الموجود الآن، فعندما رويت له قصّة الشيخ بيات رحمه الله، روى هو أيضًا قصّة عن المرحوم الحاج الملا قربان علي الزنجاني تظهر قدرته العلميّة وإحاطته وتبحّره. فقد كان الناس يراجعونه، لأنه كان مرجعًا لأهل زنجان، كان عالم زنجان، وكان يصدر الأحكام، وكان شخصًا بارزًا في تلك البلاد، كان يقول: إنّ عادته كانت عندما يسأله أحد عن مسائل أن يكتب رسالة فيها الأسئلة والأحكام الفقهيّة، فعندما كان يضع القلم في الحبر، لم يكن يقرأ أولاً نصّ المسألة ثمّ يفكّر ثم يضع القلم، بل عندما كان يضع القلم في الحبر، كان يقرأ نصّ المسألة ويكتب الجواب فورًا، ثمّ يضع القلم في الحبر مرّة أخرى، يقرأ نصّ المسألة ويكتب الجواب، لم يكن يفكّر، لم يكن يضع القلم ثمّ يفكّر ويجيب على السؤال. كانت إحاطته العلميّة وتبحّره في الأحكام والفروع قويًّا جدًّا لدرجة أنّه لم يكن يحتاج إلى التفكير، كان يضع القلم، وبمجرّد أن يقرأ نصّ المسألة، كان يكتب الجواب في نفس اللحظة قبل أن يجفّ الحبر.
وعندما سمع المرحوم الميرزا حسن النجم آبادي في طهران بهذا الأمر ـ وكان من أفضل تلاميذ المرحوم الشيخ الأنصاري، وكان من علماء الدرجة الأولى، وفي مستوى الميرزا حسن الآشتياني في طهران وأمثاله، وذلك في زمن الحاج ملا علي الكنّي وبعده، وكان من علماء الصف الأول ـ عندما سمع هذه القصّة قال: لا بدّ أن أمتحنه لأرى كيف هو تبحّره. فطرح عدّة مسائل، وهؤلاء العلماء الكبار والفقهاء يطرحون مسائل صعبة جدًّا، لا أدري في أيّ مجال، ولم يذكروا، فأعطاها لرجل وقال: خذها وأعدها، كان يعتقد أن جواب كلّ سؤال يستغرق عدّة أيّام، كانت عبارته أنّ جواب كلّ سؤال طرحه يستغرق من الفقيه عدّة أيام على الأقلّ ليراجع الكتب والمصادر وما شابه، فذهب الرسول إلى زنجان وعاد بعد يومين أو ثلاثة، قال هل أخذتَها؟ ماذا فعلت؟ ألم تذهب بعد؟!
قال: ذهبتُ.
ـ إلى أين ذهبت؟
قال: ذهبت إلى زنجان.
قال: ذهبت إلى زنجان؟! حسنًا، سلّمته الأسئلة، فلماذا لم تنتظر لتأخذ الجواب؟!
قال: هذا هو الجواب.
قال: هذا جواب أسئلتي؟
قال: نعم! فكّر وقال: هذا الذي أجاب هذه الأجوبة، إما عبقريّ وإمّا مجنون، ولا يوجد احتمال ثالث، إما أن يكون لديه عبقريّة كبيرة جدًّا أو أنّه مجنون تمامًا. وعندما نظر، رأى أنّ جميع الأجوبة صحيحة، جميع الأجوبة صحيحة، فقال: حسنًا، كيف أجاب؟
قال: عندما ذهبت وأريته الأسئلة، وضع قلمه كالعادة، ذلك القلم المصنوع من القصب والذي كان يُغمس في الحبر، وضعه في الحبر، وبمجرّد أن نظر توقّف، فهذا يختلف عن الأسئلة السابقة، فتوقّف وفكّر قليلاً، ثمّ وضع القلم وكتب، وصل إلى السؤال الثاني، وضع القلم مرّة أخرى، قرأ نصّ السؤال والمسألة، ثمّ بدأ يفكّر مرّة أخرى حتّى جفّ الحبر، وبمجرد أن مرّت عدّة ثوانٍ، وضع القلم وكتب جواب الأسئلة الخمسة وأعطاها لي وقال: تفضّل. كان رجلاً بهذا المستوى من حيث العلم والإحاطة العلميّة.
مواقف الملا قربان علي من الحركتين الدستوريّة والمشروطة
كان الشيخ بيات يقول قلنا لهم: دعونا نذهب لنرى هذا المنزل. بالطبع، كان منزلاً محترقًا، لأنه كان في زمن المشروطة، وهناك قصّة أيضًا عن مسألة الدرستوريّة، فقد كان من معارضي المشروطة والمؤيدين للنظام الدستوريّ. فجاؤوا وهدّدوه فلم ينفع ذلك، حتّى جاء ثلاثة من مؤيّدي المشروطة إلى منزله، وكان في جيوبهم أدوات لتخريب المنزل وما شابه. جاؤوا وتحدّثوا معه فلم يقبل، وقال: أنا أسير في طريقي وأقوم بعملي، ولا شأن لي بهذه الأقوال، لا شأن لي بهذا ولا بذاك، لست مع الحركة الدستوريّة ولا مع المستبدّة وأنصار النظام الملكي، لست مع أيّ من هؤلاء، بل أقوم بعملي. فكانوا ينوون قتله هناك إذا لم يقبل، يقتلونه ويخرجون. وعندما رأوا أنّه لا يقبل، نهضوا وخرجوا دون أن يفعلوا شيئًا، ونسوا أنّ في جيوبهم قنابل. وعندما خرجوا، التفت إلى ذلك الذي كان في جيبه عدة قنابل وقال: أحضرتم لنا عدّة برتقالات نسيتم أن تقدّموها لنا! فمدّ يده ورأى أن في جيبه برتقالتين أو ثلاث، فقال: تفضّل يا سيّدي، فأخذها وقال: شكرًا جزيلًا! أخذ البرتقالات ووضعها على الرف وقال تفضلوا الآن انصرفوا! فهذه قصّة أيضًا.
ولكنّهم ألقوا القبض عليه لاحقًا ونفوه إلى النجف، ومكث فترة في النجف، ثمّ سمّموه، ومات بالسم، وأحرقوا منزله.
كان الشيخ بيات رحمه الله يقول: عندما ذهبنا، كان المنزل نصف محترق، وكانت غرفه ظاهرة، كانوا قد هدموها تمامًا. كان يقول: إن آثار النورانيّة كانت لا تزال ظاهرة من المنزل، كنا نرى آثار النورانيّة والصفاء.
استنطاق الملا لطفل رضيع في الشهادة
لقد كان الآخوند الملاّ قربان علي رحمه الله مقصودًا يتردّد عليه الناس، وذات يوم بينما كان جالسًا في المنزل، وقد روى المرحوم الحاج الملا آغا جان هذه القصّة للشيخ الأنصاري، وكان الشيخ بيات أيضًا حاضرًا، كان يقول: إنّ خادم المرحوم الملا قربان علي روى لي هذه القصّة، وكان خادمه من المعروفين جدًّا، وكان من تجّار زنجان المعروفين، ولم يكن إنسانًا بسيطًا، كان رجلاً معروفًا جدًّا ومتديّنًا وثريًّا وجاء إليه ليخدمه، فكان الناس يأتون فيقدم لهم الشاي ويرتّب وينظّف ويقوم بأعماله، ولكنه كان رجلاً معروفًا جدًّا وثريًّا ورجلاً وقورًا.
كان يقول: ذات يوم طُرق باب المنزل، فرأيت عدّة أشخاص قادمين، كانوا جميعًا من المتديّنين، وكانت آثار الصلاح ظاهرة على وجوههم، فدخلوا المنزل وقالوا: نريد أن نأتي ونتحدّث عن قضيّة ما، وكان هو في الداخل، فجاؤوا وقالوا: إن فلانًا قد مات، وهذه هي الوثائق والمستندات لأراضيه وأمواله على حد تعبيرهم، فقد قاموا بتنظيم وثائق تبيّن وصيّته، وهذا المال يعطى لمن وذاك لمن، وما إلى ذلك. وظاهريًا، كانت المسألة بطريقة لا يبدو فيها أن أيّ شيء سيصل إلى ورثة ذلك الرجل، وفق الوثائق التي أحضروها وقدّموها. فنظر إليهم، وطلب شهادتهم فشهدوا جميعًا بأنّه نعم، لقد طرح قضية كهذه أمامنا وشهدوا بأنّ الأرضي الفلانيّة هي لفلان، والأرضي الفلانيّة لفلان، وقسّمت أمواله بين عدّة أشخاص. فحكم هو أيضًا ووقّع على الوثيقة وسلّمها إليهم، فانصرفوا.
وفي صباح اليوم التالي، يرى الخادم أن الباب يُطرق، وعندما ينظر، يرى امرأة قادمة تحمل طفلاً بين ذراعيها، تقول: أريد أن أتحدّث مع الشيخ. يقول لها: تفضّلي. فتأتي وتجلس، ويأتي هو أيضًا ويقول: حسنًا، ما هي مشكلتك؟ تضع المرأة الطفل أمامه، وكان رضيعًا، تضعه وتقول: إنّ الذين جاؤوا إلى هنا بالأمس وشهدوا على القضيّة الفلانية، هذه المسألة التي شهدوا عليها تتعلّق بزوجي الذي مات للتو، وجميعهم شهدوا زورًا وتهمة، والوثيقة التي أحضروها ووقّعتَ عليها كانت مزوّرة، وهذه الأموال هي لهذا الطفل الرضيع، جئتُ إلى هنا لأخبرك وأذهب! يلتفت إلى المرأة ويقول ماذا تقولين؟! هؤلاء الذين جاءوا إلى هنا كانوا جميعًا من وجهاء المؤمنين، كانوا من المعروفين بالإيمان!
قالت: لقد قلت ما عندي، والأمر إليك! وبمجرّد أن تقدّمت لتحمل الطفل، قال يا ضعيفة، انتظري، وقال اخرجوا أنتم، أخرج المرأة من الغرفة.
كانت هناك غرفة لها بابان، من هذه الأبواب المتداخلة، يقول الخادم كنت أنظر من خلف الزجاج، وهو الذي يروي هذه القصة، فكان يقول: وضع الطفل أمامه وقرأ شيئًا لم أفهمه، وضع يده على جبين الطفل، وقال: قل ما هي الحقيقة والقضية التي شهدوا فيها زورًا! فرأيت الطفل يتكلّم وينطق، فقال: نعم، هذه الوثيقة تخصّ والدي، وقد زوّروها، وجميعهم شهدوا زورًا، والوثيقة الأصليّة معهم وقد أخفوها، وهذه الوثيقة في منزل فلان، في الصندوق الفلاني، فافتحوا الصندوق، هناك محفظة داخله، والوثيقة الأصلية فيها، وهذه الوثائق الأخرى مزوّرة. فقال: حسنًا. وقال للمرأة: تعالي وخذي طفلك. ثمّ قال للمرأة: عودي إلى هنا ظهر الغد، لي معك شغل. وفي صباح اليوم التالي، يستدعي أولئك الأشخاص ويتحرّكون نحو منزل فلان، ويقول: نذهب إلى منزل فلان، فيذهبون إليه ويفتح لهم الباب، وفجأة تتغيّر ألوان وجوههم! ما الأمر؟! المسألة كذا! يقول: أريد الصندوق الفلاني الذي في المنزل، فتتغيّر ألوان وجوههم جميعًا، ويذهبون ويفتحون الصندوق، ويفتحون المحفظة ويرون الوثيقة الأصليّة هناك، يأخذ الوثيقة ويحكم، ويأخذ الوثيقة السابقة ويمزّقها، ويقول لهم: اغربوا من وجهي، وباختصار، يقطع علاقته بهم تمامًا. وعندما تأتي المرأة ظهرًا إلى منزله، يسلّمها الوثيقة الأصليّة، الوثيقة التي كتبت فيها الأموال والأرض أو البستان.
حسنًا، انظروا الآن، لو لم تكن لديه، على سبيل المثال، قوة كهذه، ولم تكن لديه إرادة كهذه، ولم تكن لديه همة كهذه [لحكم بالباطل] كانت همته بهذا القدر، وأمره يختلف عن أمر أولياء الله والعرفاء، فهم لا يدخلون من هذه الطرق لمثل هذه الأمور، بل لديهم طرق أخرى، ولكن حسنًا، لديه هذا القدر من الإحاطة... أذكر أنّ المرحوم العلامة أيّد الشيخ بيات في ذلك المجلس وقال: نعم، كان صاحب نفس، كان لديه نفس قدسيّة، استخدم تعبير النفس القدسية. حسنًا، هذه القصة تتعلّق بماذا؟ هذه القصة تتعلق بعالم الدنيا، عالم الكثرة. هذا الطفل الذي يشهد الآن، لماذا يشهد؟ لأنّ الطفل في عالم الوحدة، لأنّ الطفل معصوم، فيعمل العارف قوّته، ويوصل نفسه بنفْس هذا الطفل، لا أن يجعل الطفل يتكلّم، لا! بل يقرّب نفسه من نفس الطفل المعصوم، هذا الطفل، وكما يرى الطفل الحقيقة، هكذا تتلقّى نفسه هذه الحقيقة، ولكن هناك نوعان، إما أن يتبادل الفرد هذه القضيّة في عالم المثال فقط، أو أن تظهر الصورة الخارجيّة ويسمعها هو والآخرون أيضًا، فيمكن أن تظهر هذه القضية بطريقتين، حسب اختلاف مراتب الإنسان أو حسب بعض المصالح، حيث تقتضي المصلحة أحيانًا أن يفهم الآخرون بعض الأمور، وأن الأمر ليس جافًّا وفارغًا، وأنّ المسألة ليست بلا دليل. فلو لم تحدث هذه القصة، لما رويتها للأصدقاء، ولما اتّضحت، ولما ظهرت هذه القصّة بهذه الطريقة. حسنًا، هذه أمور قد يكون لديهم حولها تشخيص خاص في عوالمهم، وعلى أيّ حال، لا شأن لنا بالخصائص والحالات، ولكن يمكن أن تتمّ هذه المسألة بإحدى هاتين الطريقتين.
هذه الشهادة الموجودة في هذه الدنيا، على ماذا تستند؟ تستند إلى الوهم، إلى الخيال، إلى المجاز. شهادة زور! شهادة زور! شهادة زور!
حادثة فيها كذب صريح
بعد وفاة المرحوم العلامة، كنت في مجلس، وكان هناك أحد الحاضرين، وكان قد سمع قضيّة معيّنة، وعندما ذكرت مسألة، التفتّ إليه وقلت: يا فلان! ألم تسمع هذا الأمر؟ قال: لا، لم أسمع! كذب صريح! انظروا! لم يكن شيئًا ينسى، لم يكن أمرًا بسيطًا لينساه. كيف يمكن للإنسان أن يقول بهذه السهولة، بهذه السهولة: لا! لم يكن هناك أمر كهذا وهذا كذب! ماذا أقول؟ ماذا أقول؟! لم نكن نعرف هذه الأمور لنمسح الجبين! جبين هذا لا جبين الطفل الرضيع، لا بل هذا الذي تجاوز الثلاثين من عمره، يكذب صراحة في وجهك، مسح الجبين هذا سهل، فلو مسحت جبینه بحجر تظيف الأرجل، لن يشهد بالصدق ولن يقول الحقيقة، ذلك الطفل المعصوم الرضيع هو الذي قال الحقيقة. أمّا هذا فكذب صريح في وجهك! يا للعجب! عجيب جدًّا!
أنت الذي ترتدي العمامة، وتقرأ هذه الروايات لماذا تكذب؟ حسنًا، المسألة واضحة، عندما يكون المقام مقام النفس، لا يكون لمهنتك ومقامك أيّ تأثير، لا يستطيع ذلك أن يفعل شيئًا، وتتغيّر الأقوال، وتتقدّم وتتأخّر، ويصبح الحقّ باطلاً، والقول الذي يجب أن يقال لا يقال، ويوضع الكذب مكانه، ولإثبات أمر ما، نتوسل بشتى الوسائل، ولإثبات قضية ما، نكذب ونفتري، فنقول إنّ القضية الفلانية كذا، وإن فلانًا مرتبط بفلان! عجيب! عجيب! لقد انتهى الأمر. فلان لديه حالات كذائية! عجيب عجيب عجيب! إذن، الأمر منتهٍ. فلان لديه أشياء من هذا القبيل، يخبر عن المغيبات، عن...! عجيب عجيب! فلان لديه القدرة على الشفاء! يفعل كذا! عجيب عجيب عجيب! هذا كل شيء؟ لماذا؟ لأي سبب؟ لماذا ينبغي أن يكون الدين وسيلة لإرضاء أهوائنا؟ لماذا؟ لماذا لا نستطيع أن نعتبر الصدق أفضل وسيلة وسلمًا لنمونا وتكاملنا؟ ما المنفعة التي نجنيها من هذه المسألة؟ وما الضرر الذي نلحقه من الصدق؟ من الصواب؟ ما لا نعلمه لا نقوله، ما نشك فيه لا نقوله.
لنفترض الآن، على سبيل المثال، أن أحد الحاضرين هنا، من الأصدقاء، مع أنهم أصدقاء، من الأشخاص الذين لنا بهم صلة، هم أصدقاء، لنا معهم سلام وكلام، نعرفهم بالصلاح والتقوى وما إلى ذلك، يأتي أحدهم ويقول يا سيدي! فلان مرتبط بالإمام المهدي، هل يجب أن أقبل هذا هكذا؟ لأنه من أصدقائي ولأنه شخص صالح، من الأصدقاء من الرفاق، فلان، أقول يا سيدي ما الدليل على كلامك هذا؟ من قال؟ أين سمعت؟ هل رأيت بنفسك؟ هل نقله لك أحد؟ هل قاله هو بنفسه؟ من أين علكت أنه صدق في قوله؟ ومن أين علمت أنّه لم يخطئ؟ من أين؟!
ملاحظة حول كتاب النجم الثاقب
كان الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يقول حول كتاب "النجم الثاقب" الذي كتبه الحاج ميرزا حسين النوري عن الذين تشرفوا برؤية الإمام المهدي: إنّ تسعين بالمائة من هذه المطالب كانت في المكاشفة ولم تكن ذات صورة خارجيّة! ولا نقول إنّها مكاشفات كاذبة! كلا! قد تكون مكاشفة صادقة، لا إشكال في ذلك. فهل على الإمام المهدي أن يأتي في الظاهر حتمًا؟ قد يأتي في الظاهر، وقد يأتي في المكاشفة، وقد يأتي في المنام، هذا إذا كان الأمر يتعلّق بالرؤية. أما مسائل الولاية وإلقاء المطالب، فلا تحتاج إلى هذا الكلام، فذاك أمر آخر. أمّا الرؤية الظاهريّة، فكثيرون رأوا الإمام المهدي، رأوه في المنام، كثيرون رأوه في المكاشفة، إلا أنّ الرائي لا يميّز، يعني عندما تحدث مكاشفة لشخص ما، تكون هذه المكاشفة واقعيّة لدرجة أنّ الإنسان لا يستطيع أن يفرّق بين الحقيقة النفسيّة والحقيقة الخارجيّة، يتوهّم أنها حدثت، كما ترون رفاقكم الآن يجلسون بجانبكم، فتحدث للإنسان قضيّة وصورة من هذا القبيل دون أن تكون لها صورة خارجيّة أصلًا، فكيف يستطيع التمييز؟
كيفيّة حصول المكاشفات والفرق بينها وبين الرؤية بالعين الماديّة
الرفقاء والطلاب وأهل العلم يعلمون أن الحقائق العلميّة كلها مرتبطة بالنفس المجرّدة، العلم نفسه مجرّد ومرتبط بالمثال ولا صورة ماديّة له أصلاً، والدماغ مجرّد آلة وواسطة، لا أكثر. أمّا الحقيقة وهذا الذي تدركونه الآن فهو حقيقة مجرّدة، وأذنكم واسطة، ولكنّ كلامنا ليس عن الأذن، الدماغ واسطة ولكنّ كلامنا ليس عن الدماغ، فهذه وسائط بين النفس والأفعال الخارجيّة الماديّة، سواء الموجات التي هي مادية، إلا أنّ مادتها مادّة رقيقة لطيفة، أو الأشياء الخارجيّة كالصوت والنور والمأكولات والمشروبات والغذاء وما إلى ذلك، فذلك الإدراك والتلذّذ النفسي والصورة العلميّة، سواء العلم نفسه أو الانبساط المترتّب على هذه الصورة العلميّة، وتلك الصورة العلمية الحاصلة من الحواس المختلفة من الشم والذوق وسائر اللذات الأخرى هي كلها مجرّدة وليست مادّية، ولتجرّدها مراتب، مراتب برزخيّة وأعلى وإلى ما شاء الله.
حسنًا، أين محلّ إدراك هذا الأمر؟ هو النفس، وكما ترون صور الأشياء الخارجيّة بفتح العين وبواسطة انعكاس النور في العين وانعكاسه على الشبكيّة، ترون هذه الصورة [في المكاشفة أيضًا]، والصورة تعني النور نفسه المرتبط بخلايا الدماغ الماديّة، فيجد مكانه الخاص في الدماغ، وبواسطة تلك الآلة وارتباط الدماغ بالنفس تحدث في النفس صورة علميّة على نحو مجرّد لا نور، بل على نحو مجرّد، أي إنّ هذا النور يحصل في النفس كصورة علميّة، ولا يأتي النور إلى النفس، فالنور مرتبط بالعين، النور مرتبط بالعصب، وعندما يصطدم النور بأشخاص مختلفين، بواسطة الألوان المختلفة، ينعكس من كل موضع انعكاس إلى العين، وبمقدار ما امتصّ ذلك الموضع من النور ومقدار ما انبعث منه، بهذا المقدار تميّزون الأشخاص، وتميزون الأشكال، وتميزون شعر الرأس الأسود، وتميزون شعر الرأس الأبيض، ترون الحاجب هنا. فلو لم يصطدم النور بحاجبكم ولم يمتصّ الحاجب مقدارًا من النور وكان كالجبين، لما استطعتم التمييز بين الجبين والحاجب، لا تستطيعون التمييز بين الذرات التي يسطع فيها النور ثمّ مقدار ما تمتصه ومقدار ما يخرج منها، العين تنظر إلى مقدار الخروج، مقدار الخروج يدخل في العصب في تلك الشبكيّة بواسطة عصب الماكولا يدحل الدماغ، عندها تبقى هذه الصورة النورية في الدماغ، وما تقرؤونه في كتب الطب وأمثالها من أنّ شخصًا بدأ يتكلّم بتحفيز نقطة معيّنة، ليس هو لأنّ الصورة العلمية هنا، وإنّما تلك الوسائط المادية هي الموجودة في الدماغ، نعم هذا مقبول، أمّا الإدراك والفهم والوجدان الذي يحصل للإنسان من هذه الصور العلميّة، فهل يمكن أن يكون مادّيًا؟! لو كان ماديًا، فكيف تبقى الصور العلميّة بعدما يتغيّر الإنسان؟ تبقى معه تلك الصور؟ تبقى معه تلك القضايا؟ وتبقى معه كعلم حصوليّ ثمّ كعلم حضوري متّصل به، ولن نتحدّث عن هذه المسألة أكثر الآن وإن حصلت مناسبة أخرى في الليالي القادمة نتحدّث عنها.
المكاشفة أيضًا لها نفس المسألة، ففي المكاشفة تتّضح للإنسان حقيقة علميّة، ويرى الإنسان واقعة تمامًا كما أنتم جالسون هنا، فعندما تكونون نائمين لا تتوهّمون أنكم نائمون، كلا! بل النائم يرى نفسه حيًا بنفس هذا الجسد، لا يتوهّم أنني نائم الآن، طبعًا أحيانًا يشعر الإنسان بتغيّرات بسبب بعض الأمور، ولكن بشكل عام، يرى رؤيا في المنام، هذه الرؤيا واقعيّة لدرجة أنه عندما يستيقظ فجأة يقول: الحمد لله أنّني كنت نائمًا، فقولكم الحمد لله أنني كنت نائمًا ماذا يعني؟ يعني أنّ ما رآه كان واقعيًّا! يعني أنّ القضية واقعيّة في المنام إلى درجة أنّها تحدث وكأنّها في اليقظة، ثمّ تفزعون وتعرقون وتنزعجون، وعندما يرى البعض كوابيس وما إلى ذلك، في أي وضع يكون؟ يسعى ويحاول في نفسه في ذلك العالم، وعندما يستيقظ يقول فجأة: يا للعجب استرحت، ماذا كنت أرى؟! أي حلم كنت أرى؟!
المكاشفة أيضًا هكذا، عندما تحدث للإنسان مكاشفة، يتوهّم أنّ الصورة الخارجيّة حدثت له، لا يستطيع التمييز، لا يستطيع التمييز، يذهب ويخبر الآخرين أنني رأيت الإمام المهدي، ويتوهّم أنّه رأى، يتوهم أنّه رأى، وعندئذ إذا كان الطرف الآخر ليس من أهل العلم والخبرة، يصدّق، يرى إنسانًا متدينًا وعالمًا ملتزمًا لا يكذب ومن أهل الصلاح يقول كذا وكذا فينقلها، ويأتي ذلك الرجل ويرى هذه القصّة ويكتبها في كتابه، فيصبح كتاب "النجم الثاقب". في حين أنّ تسعين بالمائة من هذه الأمور كانت مكاشفات. كان يقول من جملة المسائل التي لم تكن مكاشفة قصّة الحاج علي البغدادي التي أوردها المرحوم الشيخ عباس أيضًا في "مفاتيح الجنان"، تلك من جملة الحكايات التي كانت خارجيّة ولم تكن مكاشفة، الآن ليس لديكم "النجم الثاقب" إلا أهل العلم والطلاب، ولكن "مفاتيح الجنان" موجود، قضية الحاج علي البغدادي ذكرها الشيخ عباس القمّي في "مفاتيح الجنان"، وهي ترتبط بزيارة موسى بن جعفر وما إلى ذلك على ما أظن، أظنّ أنها في تلك الأقسام، ثم يأتي الناس وينقلون هذا. حسنًا، كيف يدرك الإنسان؟ وكيف يميّز؟
فالشهادة في عالم الدنيا هذا شهادة مقرونة بالكذب مقرونة بالنفاق، والكلام يتغيّر ويتبدّل ويرتفع وينخفض، ثمّ الذي يحكم ما حاله؟ لا اطلاع لديه، يأتي ويحكم بخلاف ما أنزل الله.
حفظنا الله جميعًا. الوقت انتهى ومضى ولم نصل إلى المطلب المراد بعد. كنا نريد أن نقول مطلبًا آخر الليلة ولكن الليلة حكينا لكم قصصًا كثيرة يا رفاق، عندما ينتهي يقول الأولاد الليلة كانت جيّدة البعض يقول لا الليلة كانت فيها قصص قليلة، الليلة رأينا أنها كلها تقريبًا ثلاثة أرباعها قصصا وما إلى ذلك حكيتها لكم.
حسنًا، إن شاء الله نأمل أن يحفظنا الله من شرور آخر الزمان وأن يوصل أنفسنا بالولاية وأن يأخذ هو زمام أمرنا وأن يسعد الله قلوب جميع أولي نعمتنا من بركات هذا الشهر.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.