المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1430
التاريخ 1430/09/25
التوضيح
هو العليم
آثار أصالة النيّة
كيف نكون في عاشوراء؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ - الجلسة الثانية عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سره.
.
أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم
بسم اللَه الرحمن الرحيم
«إذَا رَأيتُ مَولاي ذُنُوبِي فَزِعتُ، وَ إذَا رَأيتُ كرَمَك طَمِعتُ فَإن عَفَوتَ فَخَير راحِم وَ إن عَذَّبتَ فَغَيرٌ ظالِم».
عندما أنظر يا مولاي إلى ذنوبي تسيطر عليّ الوحشة ممّا جنيت على نفسي، وعندما أنظر إلى كرمك وجودك وعفوك وكرمك وعظمتك أطمع ويتولّد لديّ الأمر وأرغب بلطفك.
تلخيص ما سبق
سبق أن ذُكر للرفقاء بعض الأبحاث حول كيفيّة تحقّق الذنب، وقلنا إنّ الذنب ليس هو هذا العمل الخارجيّ الذي نقوم به بواسطة الأعضاء والجوارح، فهذا العمل الفيزيائي الذي يتحقّق في الخارج لا يسمّى ذنبًا. إنّه عمل كسائر الأعمال، وفعل خارجيّ مثل سائر الأفعال الخارجيّة، فلا يسمّى ذنبًا ولا طاعة يثاب عليها، وإنّما يعود الذنب إلى نوايانا تلك وما يجري في قلوبنا والغاية التي لأجلها يتحقّق العمل، فالأمر يرجع إلى بواطننا لا إلى هذا العمل الظاهريّ. ولا شأن لله بهذا العمل الظاهريّ أبدًا، فلو قضيتم على مائة ألف إنسان وفي نيّتكم أنّهم أعداء الله حقًّا فلن يحاسبكم، مائة ألف إنسان، ومائة ألف ليس بالقليل، فلو كنتم حقًّا بينكم وبين الله قد وصلتم إلى هذه النتيجة استنادًا إلى أدلّة عقليّة وشرعيّة وبدون أيّ نوع من التساهل والتسامح والمجاملة والتقصير، ورأيتم أنّ هؤلاء أعداء الله كما لو كنتم في معركة صفّين، فقد كان معاوية محاربًا في النهاية، وقد خرج على حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، فمن كان في جيش أمير المؤمنين عليه السلام عندما يقاتل هؤلاء فهو يقاتلهم بعنوان أنّهم أعداء الله وأعداء الإسلام، وعلى هذا الأساس يتقدّم ويحاربهم، وعلى هذا الأساس وهذه النيّة يمشي ويحاربهم ويقضي عليهم، فهذا ليس فقط لا يكتب عليه ذنب، بل تكتب له حسنة، ولو قتل في إحدى هذه المعارك فهو شهيد، ويقال: لقد استشهد، فما نقوله هو أمر محرز له.
آثار أصالة النيّة
اختلاف مراتب الأعداء باختلاف نواياهم ومعرفتهم
أتدرون ما معنى ذلك؟ معناه أنّ هؤلاء الذين جاؤوا الآن ضمن جيش معاوية ليقاتلوا أمير المؤمنين عليه السلام هل كانوا سواء وفي مستوى واحد من قبح السريرة وخبث الباطن؟! دقّقوا جيّدًا فهل الجميع يكنّون في قلوبهم مستوى واحدًا من العداوة لله والرسول الإسلام والأحكام الإلهيّة؟! هل الجميع وقفوا في الصفّ المقابل لأمير المؤمنين عليه السلام بمستوى واحد؟! هل الجميع يعادون أمير المؤمنين بمستوى واحد؟
كلاّ لم يكن الأمر هكذا؛ فبين أصحاب معاوية وبين معاوية نفسه وبين أصحابه بدءًا بعمرو بن العاص ومروان وأصحاب الدرجة الأولى من الحرب ضدّ الإسلام والحرب ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام، فهذا نوع، وهؤلاء لا كلام فيهم وأمرهم سهل وليس فيهم إشكال، ولكن هل معاوية ومروان والخبثاء الذين لا شكّ في خبثهم ولا شكّ في فساد طينتهم وسريرتهم هم مساوون لذلك الشابّ ابن العشرين عامًا والاثنتين والعشرين عامًا الموجود في جيش معاوية ويقاتل أمير المؤمنين عليه السلام من حيث البعد عن رحمة الله والطرد من حريم الله ومن حيث السخط الإلهيّ والغضب؟! حاشا وكلاّ! ما هذا الكلام؟!
هل عمرو بن العاص المخطّط لواقعة صفّين والمخطّط للمعاندين والمستكبرين والمحاربين لأمير المؤمنين واليد اليمنى لمعاوية والمدبّر لجميع أموره والذي لا كلام فيه من حيث خبث الباطن ولا يحتاج إلى بحث أساسًا ولا تأمّل هل هو مساو لذلك الشيخ العاجز المخدوع الذي جاء معهم إلى صفّين وانطلت عليه دعايات معاوية ودعايات عمرو بن العاص؟! فقد كان هؤلاء أقوياء في الدعاية إلى درجة عالية، وكان الناس في المقابل حمقى إلى درجة عالية وجهلاء بحيث إنّ معاوية يشارط عمرًا بن العاص أنّي أصلّي صلاة الجمعة يوم الأربعاء فيقول له: أيعقل ذلك؟! فيقول له: نعم، إن لم يمكن فلك ما تريد. فيعلن أنّ صلاة الجمعة يوم الأربعاء. وكنت أظنّ أنّ هذا الأمر كان مزاحًا ومبالغة ولكنّي رأيته في كتاب، وكان كتابًا موثّقًا إلى درجة ما لحسن الحظّ، رأيت أنّ ذلك قد حدث وله نظائر، فلم يكن فقط أنّه صلّى الجمعة يوم الأربعاء، فالناس يقولون: ما المشكلة في أن يصلّيها قبل وقتها؟! فقد أراد أن ينال الثواب أسرع، أو يحتمل أنّه لا يبلغها ولا يكفيه عمره لأدائها يوم الجمعة، فيصلّيها قبل ذلك بيومين، ويصلّيها يوم الجمعة، فجاء خلق الله هؤلاء.
أو تلك القصّة المعروفة ولا أدري إن كانت صحيحة أم كاذبة ولكنّها مذكورة فلو لم تكن لما نقلت، اذهب وقل لعليّ إنّي أقاتلك بجيش لا يميّزون بين الناقة والجمل، فهذه أمور قد حصلت.
أو تلك الحادثة التي يأتي فيها أحدهم إلى موسى بن جعفر عليه السلام من الشام ويبدأ بالسباب، فيسمع ويرى ذلك الأسلوب الطيّب من موسى بن جعفر عليه السلام ونهجه وطريقته ومعاملته الحسنة وشيمه الطيّبة الرساليّة فيبكي ويهوي على رجلي الإمام ويديه يقبّلها ويعتذر منه ويقول له إنّي خدعت وهكذا أخبرت، وقد جئت من الشام. أو ذلك الذي يتجرّأ على الإمام الحسن عليه السلام ثمّ يتراجع بسبب أخلاقه الرفيعة. فهذا كلّه عن أيّ شيء يحكي؟! يحكي عن أنّ هؤلاء كانوا جماعة من الحمقى في النهاية، ولم يكن هذا معاندًا، فهؤلاء الناس كانوا في مستوى معيّن وفي حدّ معيّن، فلو أعطونا سيفًا أو بندقيّة لو كان في ذلك الزمان بنادق وقالوا لنا قاتلوا جيش معاوية هذا وهذا السلاح ورأينا رجلاً عجوزًا مخدوعًا وهو بينهم لا أنّه يرمي الآن ولكنّه معهم، فتارة تراه يرمي ويضرب فحينها سيكون ضربه من باب الدفاع ولا بدّ منه، وهذه مواجهة، ولكن تارة أخرى يكون جالسًا جانبًا أو يمشي وحده، هو من الجيش ولكنّه الآن متنحّ، فهل يقول وجداننا: امض إليه واقتله لأنّه ضمن جيش معاوية فلا بدّ أن تقتله؟! أي عدّهم جميعًا سواسية كأسنان المشط ولا فرق أبدًا بين عمرو بن العاص وبين هذا الشابّ ابن العشرين أو الخمس وعشرين سنة وذلك العجوز المخدوعين وتأثّر بتلك الحملات الإعلاميّة، فلا فرق بينهما وبين أولئك الذين هم أئمّة الكفر {فقاتلوا أئمّة الكفر}.
فالأئمّة تعني من بأيديهم أزمّة الأمور، الذين تقوم على أكتافهم خيمة الكفر، فهؤلاء هم أئمّة الكفر، العقول المفكّرة لهم، المنظّرون العقائديّون لهم، الذين يستطيعون التلاعب بأفكار الناس، ويسخّرونها لأنفسهم تارة نحو هذا الجانب وتارة نحو ذاك، والناس يصدّقونهم أيضًا يصدّقونهم، فليس جميع الناس يسعون إلى التحقيق. يقولون: يا عزيزي هذا هو الأمر في النهاية، إنّه ما يقال، بمجرّد أن يذكر شيء في كتاب فقد انتهى الأمر، وقد سار البعض وراءه يظنّون أنّه يكفي أن يكون الأمر قد طبع في كتاب فلا شيء بعد ذلك وينتهي الأمر.
أو أنّه قيل كلام ما فرأى أنّه هو المطلوب، لا يستعمل هذا العقل ويحقّق، ما هو دليل هذا الكلام الذي يقال؟ ما هو دليله؟! لعلّه طرح كلام باطل هنا، بيّن الأمر بشكل باطل، أنا عندما أطالع الكثير من الكتب، عندما أطالع كتب التاريخ، التاريخ المعاصر، وحيث إنّي كنت معاصرًا لكثير من تلك الأحداث، أرى أنّ رأي مؤلّف هذا الكتاب إلى أيّ حدّ كان محافظًا على الأمانة، وفي بعضها يُرى أنّ الشيء الوحيد الذي لم يُعمل به هو الأمانة في النقل والأمانة في بيان التاريخ، وذلك رعاية لأمور، رعاية لعلاقات الحبّ والبغض، رعاية لبعض النوايا، فيبيّن الأمر بنحو ما، فالمؤلّف يعرف كيف يبيّن الأمر، فيبدأ قبل صفحة أو صفحتين بالتمهيد له وتقديم المقدّمات، يحتاج إلى نوع من الحيل يحتاج إلى تقنيّات لكيفيّة إخراج الأمر، يمرّون على موضع فيتغاضون وكأنّ شيئًا لم يكن، ما إن يشرع فيه حتّى يدرك إلى أين ينتهي فيختم الكلام عنه، ونحن نرى أنّه انتهى إلى ذلك الموضع.
فعندما أرى ذلك عليّ أن لا أقتصر عليه، عليّ أن أرى كتابًا ثانيًا وكتابًا ثالثًا وكلامًا آخر. أم أنّه بمجرّد أن أرى أنّه صدر كتاب وانتشرت فكرة معيّنة فقد انتهى الأمر؟!
عدم جواز قتل أيّ واحد لمجرّد وجوده في جيش الأعداء
لو كنّا نحن في زمان أمير المؤمنين عليه السلام وتعاطينا مع جيش معاوية وأثناء ذلك اكتشفنا أنّ كثيرًا منهم قد خدعوا وهم لم يقدموا بعد على أيّ فعل بل هم سواد الجيش فلا يجوز أن نضربهم بالسيف، كلاّ لا يجوز وليس الأمر هكذا.
لا يكفي أن يكون إنسان ما داخلًا في جيش معاوية حتّى يكون دمه مباحًا، كلاّ لو كان الأمر هكذا فلماذا لم يفعل ذلك أمير المؤمنين؟! كان يقتل واحدًا ويتجاوز عن آخر، ثمّ يمشي فيقتل واحدًا ويتجاوز عن آخر، فلم يكن أمير المؤمنين يقتل هكذا، ولدينا في الروايات أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يضرب الجميع ويقضي عليهم، بل كان ينظر إلى وضعه ونسبه وخلفه فإن كان بينهم من يمكن أن يكون صالحًا لم يقتله وصرف النظر عنه.
وقصّة عمرو بن العاص واضحة فبماذا نمثّل بعد ذلك، نحن نمثّل بالبسطاء الأبرياء الخاضعين للإعلام وربّما تراجعوا بكلمة واحدة، وليسوا هم معاوية حتّى لا يتراجعوا بكلمة، ولا هم عمرو بن العاص حتّى لا يتراجعوا، ولا هم مروان كذلك، ولا بسر بن أرطأة وأمثاله فهؤلاء جماعة من السفّاكين والمحاربين والمنحرفين وأئمّة الكفر. بل لو فرضنا أنّ هناك رجلاً يسير جانبًا وينتحي ويجلس ولم يقاتلنا فهل أذهب فجأة فوق رأسه فأقتله؟! كلاّ لا حقّ لي أن أضربه، كلاّ. بحجّة أنّي أريد أن أنقص منهم واحدًا، كلاّ ليس لدينا أنّه بما أنّه مع معاوية فاقتله بأيّ نحو، لا شيء من ذلك عندنا، والله يحاسب الإنسان حسابًا عسيرًا على ذلك حسابًا عسيرًا.
وفي معركة الجمل عندما تنحّى الزبير جانبًا وجلس أو نام فتبعه رجل فاغتاله غيلة قال له أمير المؤمنين عليه السلام: بأيّ حجّة قتلت الزبير؟ من الذي أذن لك؟! من الذي أذن لك؟! لقد جلس جانبًا وليس في حرب معنا، نعم لو أنّ هذا الزبير أمسك بسيف في يده وكان يقاتلنا فعلينا أن نواجهه مهما كانت النتيجة إمّا بقتله أو بقتلنا، فإن قتله فله ثواب، وإن قتِل على يد الزبير فهو شهيد، لأنّه في ركاب أمير المؤمنين عليه السلام فهو شهيد إذن .
ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: رغم أنّ الزبير من أعدائنا ولكنّه الآن تنحّى جانبًا وهو هناك وليس لك الحقّ أن تقتله فلماذا قتلته بغير إذن؟! لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يبتدئهم بقتال قبل أن يرموه هم ويهاجموه، وكان يقول: إنّهم لم يبدأوا. وكان أصحاب أمير المؤمنين مكلّفين بطاعته، ففي الإقدام والإحجام والوقوف والحركة لم يكن الأمر حسب أهوائهم، فلو كان هناك رجل عجوز يجلس جانبًا يأكل الخبز والجبن عند الظهر هل يحقّ لك بمجرّد أن رأيته أن تمسك بالقوس والسهم وترميه في عينه؟ كلاّ ليس الأمر هكذا، ولا وجود لذلك. إذا أراد أن يواجه ويحارب وأمسك بالسلاح فعلى الإنسان أن يواجهه ويحاربه، وإلاّ فهو إنسان. وإذا علمت أنّه لا يقاتل أصلاً وإنّما جاء فقط هكذا أو لديه عمل ما، كأن يهتمّ بالخيول ويحمل الأثقال لهم من مكان إلى آخر وأمثال ذلك وليس من أهل القتال، وقد خدع لا أنّه هو منهم وقد نزل إلى الميدان، فهذا لا يحقّ للإنسان أن يقتله، ولا يكفي أنّه في جيش معاوية.
فإذن حتّى في الزمان السابق العلاقة التي كانت للمسلمين مع الناس كانت على أساس وضع العدوّ وحالته، فما هي حالة هؤلاء الذين هم في الطرف المقابل؟ فإن كان هناك من هو مؤذ في كلّ حال ما إن تصل إليه حتّى يلقي عليك سمّه، فينبغي للإنسان أن يقتله ولو كان متوقّفًا عن القتال، لأنّه إنسان لا هدوء له ولا يمكنه أن يجلس هادئًا مرتاحًا، حتّى لو جلس هناك فإنّه يجلس ليجدّد قوّته ويشرع من جديد. ولكنّ أغلبهم لم يكونوا هكذا، أغلبهم كانوا بسطاء مخدوعين فجاؤوا وواجهوا هؤلاء، فلو جاء إنسان وقتل منهم مائة ألف رجل من الذين هو على يقين واطمئنان من أنّهم يقاتلون فقضى عليهم فلا إشكال، سواء قتل منهم واحدًا أم قتل مائة ألف، فالأمر لا يختلف والعدوّ عدوّ، والمعاند معاند، ومن كان ضدّ الله فهو ضدّ الله، ومن كان ضدّ الشرع فهو ضدّ الشرع.
من كان يقاتل الإمام عليه السلام فلا بدّ من قتاله، سواء كان واحدًا أو اثنين أو عشرة أو عشرة آلاف أو مائة ألف أو مائة مليار، فكم عدد سكّان العالم الآن؟ ست مليارات أو سبع، فلنفترض أنّهم مائة مليار، مائة مليار معاند ومقاتل ومصرّ، الذين وقفوا في وجه الإمام بهذا الشرط، لا مجرّد أنّهم مخالفون للإمام، بل الذين وقفوا عن إصرار ويشعلون النار ويؤجّجونها، فعلى الإنسان أن يقاتل هؤلاء، أمّا من خدع وحصل ما حصل حتّى وقف في صفّ المخالفين فليس الأمر هكذا، ولو قتله إنسان من الطرف المقابل بغير حقّ فهو مخلّد في النار، سواء قتل هذا الواحد أو ألف واحد لا يختلف الأمر، فليس المعيار بالقلّة والكثرة، المعيار هو ذلك العمل الناشئ من الداخل من النيّة ومن القلب، فهذا هو المعيار وهذا ما ينظر إليه الله.
وضوح معنى آية: {من قتل نفسًا بغير نفس… فكأنّما قتل الناس جميعًا}
لذلك يقول: {مِنْ أَجْلِ ذلِك كتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكأَنَّما أَحْيا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيناتِ ثُمَّ إِنَّ كثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِك فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}۱ فمعنى ذلك أنّه أنت إذ تقتل نفسًا مؤمنة، إنسانًا يصلّي ويصوم تقتله على أساس خيالاتك وتصوّراتك الواهية فأنت لديك الآن استعداد في قلبك لقتل اثنين، وذلك لأنّ هذا المعيار بعينه موجود فيهما أليس كذلك؟! موجود في النهاية، لأنّك تخالفني فلا بدّ أن تموت، حسنًا فهذا أيضًا كذلك، أنت أيضًا لأنّك تخالفني لا بدّ أن تموت، وأنت أيضًا لأنّك تخالفني… ولا حدّ لذلك يقف عنده، حسنًا أنت تخالفني فلتمت، أمّا الآخرون فليبقوا أحياء! هذا الشيء لم يتحقّق في الخارج، ولكن لأنّ المعيار هو المخالفة والمعيار هو العمل الشخصيّ والحالة الشخصيّة مع غضّ النظر عن تكرّر الفعل، فلأنّك مخالف لي لا بدّ أن تحرم من الحياة الإلهيّة، ولا بدّ أن تحرم من هذه الحياة التي وهبها لك الله لا أنا وأمثالي، ولا بدّ أن أرسلك إلى ذاك العالم لأنّك تقف في وجهي.
لذلك فإنّه يقول هنا: من قتل إنسانًا واحدًا فكأنّما قتل جميع الناس، لأنّ الجميع مشتركون في تحقّق هذا المعيار عندهم، وقتل النفس المحترمة عند الجميع واحد وهذا المعيار موجود. لذلك يكتب له في صحيفته يوم القيامة أنّه قتل جميع الناس على الكرة الأرضيّة.
ـ آه! أنا لم أقتل الجميع وإنّما قتلت واحدًا فقط.
هذا المعنى هو معنى العدل، والآية القرآنيّة لم تأتِ بتمثيل ولم تأت لتحكي لنا قصّة، ولم تأت لتخبرنا عن أهميّة قتل النفس، فنحن نعلم كم هو قتل النفس خطير، نحن نعلم أنّه لم يخلق الله تحت السماء الزرقاء ذنبًا أشدّ من قتل الإنسان البريء، قتل الإنسان البريء قتل الإنسان البريء، لم يخلق الله أعظم منه. فهذا كلّه نحن نعرفه، ولكنّ الله لم يأت ليقصّ علينا قصّة ويمثّل مثالاً ويقول: حال القاتل مثل حال من قتل الناس جميعًا، لم يأت ليقرأ علينا شعرًا، فالشعراء لديهم في هذا المجال الكثير من الكلام وأحيانًا يبالغون: {وَ الشُّعَراءُ يتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ٢٢٤ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كلِّ وادٍ يهِيمُونَ ٢٢٥ وَ أَنَّهُمْ يقُولُونَ ما لا يفْعَلُونَ}٢ فهم يتوجّهون نحو أيّة جماعة، إنّهم يجرّون الناس إلى الغواية، يجرّون إلى الضلال، يتّبعونهم وهم يسيرون في كلّ واد يجعلون من الحبّة قبّة، ويجعلون من القبّة حبّة ثمّ يبدّلونها إلى قبّة وهكذا، ويسوقون الخلق لتحقيق ذلك. فالله هنا لم يقل شعرًا في القرآن، القرآن ليس كتاب شعر، القرآن كتاب منطق وعقل، القرآن كتاب تشريع على أساس التكوين، فما معنى ذلك؟! يعني أنّ النظام الذي خلقته أنا الله هو على أساس المنطق والحقّ، وليس في ذلك النظام مزاح، وليس فيه مجاملة وليس فيه تقصير، وليس فيه تعصّب وتحزّب وأمثال ذلك، نظام على أساس المنطق وعلى أساس الحقّ وعلى أساس اثنان زائد اثنين يساوي أربعة والقواعد الفلسفيّة.
عندما تقتل إنسانًا بغير حقّ وتحرمه من نعمة الدنيا ومن نعمة الوصول إلى الكمالات في هذه الدنيا فإنّ عملك هذا وإن كان من حيث النظرة الخارجيّة هو عمل يقع في ثانيتين أو خمس ثوان ولكنّه في نظري هو عمل شامل يمتدّ من بدء الخليقة إلى نهايتها. عملك الخارجيّ هذا استغرق من الوقت خمس ثوان ولكنّه عندي وعند ملائكتي على طول التاريخ منذ أن خلق الإنسان ووطأت رجله الأرض إلى أن يغلق الله سجلّ خلق الإنسان، لماذا؟ لأنّك قمت بهذا العمل على أساس عقيدتك وتلك العقيدة بماذا تختلف في قتل هذا وقتل ذاك؟ وفي قتل زيد وفي قتل عمر؟! فقد جاء زيد بدلاً من عمرو، فلو كان عمرو لقُتل أيضًا، فأنا أمسك بهذه البندقيّة وأطلق النار فمن كان أمامها فليقتل، فلا تكن أنت أمامها! اذهب وليأت غيرك فلا يهمّني من كان أمام هذه الرصاصة ومن تصيب، كان بإمكانك أن لا تكون أنت، لقد كان لذاك حظّ جيّد إذ صرخ ومضى وجاء هذا مكانه فأصيب ووقع، أنا لا شأن لي عليّ أن أطلق النار وأفرغ هذا المخزن بأيّ نحو كان. وفي يوم القيامة يقولون له: في سجلّك قتل جميع الناس على مرّ التاريخ! جميع الذين كانوا في هذه الدنيا وليس فقط أثناء ستّين سنة التي هي عمرك! دقّق جيّدًا فأنا إذ أقول هذا الكلام ولا أقول شعرًا، فليس لأنّ عمرك الآن ستّون سنة يكتب لك قتل للنّاس مدّة ستّين سنة، كلاّ بل مدّة التاريخ كلّه أنت قتلت الناس، لماذا؟ لأنّ هذه الستين سنة لو كانت قبل هذا الزمان لفعلت عين فعلك هذا، وهذه الستون سنة التي أعطيناكها الآن لو كانت بعد هذا الزمان لفعلت عين فعلك هذا أيضًا، فإذن أنت كنت حيًّا على طول التاريخ وأنت قتلت الناس وقتلتهم على طول التاريخ! أهكذا أطلقِ النار وامضِ وينتهي الأمر؟! كلاّ يا عزيزي، سيدقّقون جيّدًا في الحساب غدًا سيدقّقون! {فكأنّما قتل الناس جميعًا} الله يقول الناس جميعًا، فهو لم يأت بشعر في القرآن، بل هو أمر حقيقيّ وقضيّة تكوينيّة بيّنها الله هنا، لماذا؟
لأنّ الذنب لا يتعلّق بذلك الفعل الخارجيّ، الذنب يتعلّق بتلك النيّة التي نشأ عنها الفعل الخارجيّ، وهذه النيّة تسري إلى ماذا؟ إلى هذا وذاك وذاك وذاك، إلى هذا الإنسان الذي يسكن في مدينة قم، وإلى ذاك الذي يسكن في طهران، وإلى ذاك الذي يسكن في مشهد، وإلى ذاك الذي في أميركا، وإلى ذاك الذي في أستراليا، وإلى ذاك الذي في أفريقيا، وإلى جميع الناس، ولا تميّز بين فرد وآخر. فالنيّة التي أدّت إلى أن يقضي على هذا تقبل السراية إلى آخر، وهي قابلة للسراية إلى ثالث أيضًا.
فمن يقف أمام الأمر الإلهيّ والنهي الإلهيّ ويواجههما ويريد أن يحارب ما حظره الله ونهى عنه فيقوم به، فهو يقف بهذه النيّة أمام جميع الناس، وهو يوصل الجميع بيده إلى الهلاك، والعدل الإلهيّ أيضًا يقتضي حسابه على ذلك.
لو وجد الشمر بعد الإمام الحسين فهل كان سيحاسب على قتله؟
العدل الإلهيّ يقتضي محاسبة الشمر الذي قتل سيّد الشهداء عام ستّين للهجرة في تلك الأحداث والغوغاء، والذي لم يكن سنة سبع وستّين للهجرة، هذا الشمر نفسه الرجل الخبيث الفاسد الجريء على الله والمنحرف لو وجد بعد مائة سنة أي سنة ۱۰۰ للهجرة وعاش حياته في ذلك الزمان فهل كان الإمام الحسين موجودًا ليقتله؟! لم يكن الإمام الحسين حينها، لم يكن. إنّه الشمر عينه بالخصوصيّات نفسها والأخلاق نفسها والتجاسر نفسه والقسوة نفسها والفسق نفسه والجرأة نفسها، غاية الأمر أنّ زمانه قد تغيّر. فهذا ولد في هذا الزمان، بعد عشرين سنة من أحداث سيّد الشهداء، فلا حرب ولا شيء آخر، بل كان يصلّي صلاته في وقتها وكان إمام جماعة الكوفة والناس يصلّون خلفه، فإذن هو يدخل الجنّة مباشرة، لأنّه لم يقتل أحدًا ولا قتل الإمام الحسين عليه السلام ولا أسر ذريّة النبيّ ولا سبّب تلك البلايا، أبدًا لا شيء من ذلك، يصلّي صلاته بانتظام ويصوم صيامه بانتظام، فالصلاة والصيام لا يحتاجان إلى مؤونة، نؤدّي لك ما تريد ونزيد عليه أيضًا، فهو يصلّي ويصوم ويحجّ، فماذا يريد الله بعد ذلك؟! لقد أدّينا التكاليف كلّها ولم نقتل ابن النبيّ فماذا تريدون منّا؟! هل لكم علينا شيء؟! لقد أدّينا كلّ طلباتكم، صلّينا وصمنا وحججنا ولم نرتكب المعاصي. في أمان الله تفضّل وعلى الله أن ينصب لك قوس نصر هناك أيّها الشمر ويذبح لك بضع خراف وجِمال أن تفضّل: لقد زيّنت جنّتنا!
ولكنّ الأمر ليس هكذا، فلو أنّ هذا الشمر ولد بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام أو بعد وفاته لأنّا نفترض أنّه لم يستشهد، ولكنّه كان على تلك الخصائص وبتلك القسوة ثمّ مات، فوفق قانون العدل الإلهيّ لا بدّ أن يدخل إلى جهنّم بقتل الإمام الحسين عليه السلام وأن يعطى إلى خازن جهنّم، ويكتب في صحيفته أنّك قتلت سيّد الشهداء، فينظر فيها فيرى أنّ ذلك حقّ كما ذكرت لكم سابقًا، فعندما ينظر الإنسان في صحيفة أعماله لا يمكنه أن يعترض على الله وأنّه لماذا كتب فيها كذا؟ كلاّ فإنّ تلك الصحيفة توضّح له قلبه وباطن ضميره وسرّه وسويداءه وتوضّح له حقيقته وموقعه، فهذا أنا هكذا، وإنّما أخّرني الزمان، وإلا لو كنت في زمان ابن النبيّ لكنت أنا من يقتله، فلو جاء رجل مماثل للشمر بعد خمسين سنة وقال: أنا لم أكن في كربلاء ولو كنت فيها لما تركت الشمر يتقدّم، ولتقدّمت أنا وقطعت رأس الحسين! وهؤلاء كثيرون وليسوا معدومين، والآن هم متوفّرون إلى ما شاء الله.
هل هناك نُسَخ من الإمام الحسين عليه السلام ومن أعدائه في زماننا؟
وقد قلت لكم قبل مدّة إنّ الإمام الحسين غير موجود في زماننا بكثرة، ولكن يزيد موجود إلى ما شاء الله، وابن زياد موجود إلى ما شاء الله، والإمام الحسين عليه السلام واحد وهو إمام الزمان عليه السلام وفقط وفي أمان الله. فإن كان هناك إمام حسين فهو واحد وهو ابنه إمام العصر أرواحنا فداه فقط لا غير، ولكن هناك عدّة نسخ من الشمر، فهؤلاء الحكّام الذين جاؤوا على مرّ التاريخ وأمثال هتلر ونيرون وصدّام هم حقًّا حيوانات ليس فيهم رائحة الإنسانيّة أصلاً، وحقًّا لا يدري الإنسان هل يمكن أن يطلق عليهم لفظ إنسان؟ هل يمكن حقًّا؟! هؤلاء الذين جاؤوا ثمّ مضوا والآن أيضًا هم موجودون وبحمد الله هم كثيرون أيضًا، فأيّ نوع من الناس هؤلاء؟! إنّهم الذين لو كانوا في عاشوراء لما سمحوا للشمر أن يتقدّم، ولقالوا له: نحن نذهب، فإن كان لا بدّ أن يقطع أحد ما رأس الإمام الحسين عليه السلام ويأخذ تلك الجائزة فدعونا نحن لتكون من نصيبنا، والآن هم أيضًا موجودون.
كيف يحاسب من يحبّ أن يكون قاتلاً للإمام الحسين عليه السلام؟
حسنًا فالله يقول: هذا ما أريده، فأنا إله عادل ولا مجال لديّ للعلاقات الشخصيّة، بل الحاكم عندي هو الضوابط، ليس لديّ محسوبيّات وقرابات وابن خالة وابن عمّة، وإنّما أتعامل مع العباد على أساس العدل، ولذلك فبما أنّك تحبّ أن تدرك ذلك الزمان وأن يقتل ابن رسول الله على يدك فإنّي أكتب لك تلك الآثار في سجلّك، تفضّل! فيجدّ يوم القيامة أنّه يا عجبًا! قاتل الحسين بن عليّ جناب زيد بن فلان! ينظر إلى نفسه أنا قتلته؟! فيرى أنّه حقًّا قتله، وتلك الحقيقة الظلمانيّة والكدورة المكدّرة وتلك الحقيقة المشوّهة وحقيقة الابتعاد عن رحمة الله موجودة فيه، يرى تلك الحقيقة. ألم يكن في يوم عاشوراء أفراد مختلفون ألم تكن قلوب بعضهم تحترق يوم عاشوراء على الإمام الحسين عليه السلام وهم في جيش عمر بن سعد، كانوا يقولون: أريحوه لماذا تعذّبونه إلى هذا الحدّ؟! يعني يقولون اقتلوا الإمام الحسين عليه السلام لكي يرتاح ولا يواجه كلّ هذا العذاب، فبعضهم كان متعطّشًا للدماء، وبعض الذين جاؤوا لقتله ارتجفوا ولم يتمكّنوا، وحده الشمر كان على ذلك المستوى من القسوة، فكم يجب أن يمتلك من القسوة! وكم يجب أن يكون من أولئك المتزمّتين أصحاب اللحى التي طولها شبر، فهؤلاء هم الذين يوصلون الخبث من باطنهم إلى الملايين ممزوجًا بالتعاليم الدينيّة، فهذا غير أولئك الذين لا يقتنعون بدين ولا بحكم ولا اطّلاع لهم على شيء، وما إن تقول لهم شيئًا حتّى يتأثّروا ويقولوا: يا له من خطأ أخطأناه! أمّا هؤلاء فإنّهم يأتون يقطعون الرأس وكأنّهم يقطعون رأس طائر ثمّ بعد ذلك يستدلّون لك بألف دليل ودليل مستفيدين من التعاليم الدينيّة. هذه الكدورة والقسوة التي في قلوبهم يوصلونها إلى الملايين وهؤلاء وحدهم هم الذين يتمكّنون من مواجهة الإمام الحسين عليه السلام وليس عامّة الناس، فمتى يستطيع عامّة الناس أن يقطعوا رأس الإمام عليه السلام؟!
ما هي درجة القسوة المطلوبة لقتل الإمام عليه السلام؟
أفتظنّون أنّ قطع رأس الإمام عليه السلام أمر بهذه السهولة؟! وضرب رأس أمير المؤمنين بالسيف هي بهذه السهولة؟! أتظنّون أنّ أيّ إنسان يمكنه أن يفعل ذلك، إنّ قدرة الولاية لا تسمح لذلك الذي لم تصل الكدورة عنده إلى نهايتها أن يقترب، بل ترمي به إلى الوراء، إنّ القوّة الجاذبة والقوّة الدافعة للولاية والتي من لوازمها التمييز بين الحقّ والباطل لا تسمح لمن كان فيه أمل للهداية أن يقوم بهكذا عمل، تلقي في بدنه رعشة تضربه بالجدار، تقول له: اذهب أنت، فأنت لا تستطيع أن تدخل إلى هنا، لا بدّ أن يأتي الشمر وابن ملجم! هؤلاء يجب أن يأتوا، لا بدّ أن تأتي جعدة وأمثالها من الذين لديهم القدرة على القيام بهذه المسؤوليّة، لقد صاروا أقوياء إلى درجة كبيرة ما شاء الله ما شاء الله ما شاء الله! لقد وصلوا إلى النهاية في الكدورة وفي الظلمة وفي الفسق وفي الفجور وفي الشهوة وفي الغضب وفي الوحشيّة بحيث لو أنّك وضعت الإمام الحسين وإلى جانبه أبناءه الاثنا عشر أو الأحد عشر أو العشرة لقتلهم بكل سهولة وكأنّه يذبح طائرًا، ثمّ يضحك متهاونًا بكلّ شيء، يضحك بسهولة وكأنّ شيئًا لم يكن، فعندما قطع الشمر رأس الحسين عليه السلام أراد أن يتوجّه إلى الإمام السجّاد أيضًا ويقتله، ولكنّ السيّدة زينب سلام الله عليها ذهبت إليه ولم تدعه، كان يريد دائمًا أن يذهب إلى الإمام السجّاد عليه السلام ويقتله وكان يقول: ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟! فإذن من الواضح أنّك ستكون أنت بعد الحسين عليه السلام؟! ماذا تفعل هنا؟! فأخرج خنجره أو شهر سيفه فألقت السيّدة زينب عليها السلام بنفسها عليه وقالت: لا أدعك تقتل هذا الباقي، وجاء الناس وأزاحوه وأخذوه فذهب وأحرق الخيام وقام بجرائم أخرى، وإلا فقد كان يريد أن يقتل الإمام السجاد عليه السلام.
لا شيء مهمًّا عنده وكأنّ شيئًا لم يكن، لقد قتل الأب الآن وبعد ذلك يقتل الابن، فلا شيء مهمًّا عنده. ولماذا وبأيّة نيّة يفعل ذلك؟ بنيّة أنّه يعاقبه على خروجه ضدّ الحكومة، فبهذه النيّة يذبح الإمام الحسين عليه السلام ويفتخر بأنّي أنا فعلت ذلك.
فإذن لا يتعلّق العدل الإلهيّ بالعمل الخارجيّ، ولو تعلّق به فهو ظلم، والشمر الذي جاء في هذه البرهة من الزمان هل كان الأمر بيده هو؟ لم يكن الأمر بيده أن يكون في هذا الزمان. فكيف يعذّب الإنسان على أمر ليس في يده؟! فلو كان هو بهذه الخصوصيّات وبهذا النحو من التفكير وبهذه النيّة وبهذا العزم القلبيّ وبهذه الخصوصيّات لخمسين سنة لاحقة لضرب يدًا على أخرى متأسّفًا وقال: آه ليتني كنت في زمان يزيد ونالني توفيق أن أقتل الحسين بن عليّ عليه السلام، وا أسفاه وا أسفاه على تأخيرهم إيّاي. ألنسا نحن نقول: يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزًا عظيمًا؟ لقد أخّرني الزمان! وإن شاء الله نكون صادقين في قولنا هذا إن شاء الله نكون صادقين، ونسأل الله تعالى أن يجعل نيّتنا مطابقة لما على لساننا، فهذا ما يتأتّى منّا، هذا المقدار، ألسنا نقول: يا ليتنا كنّا في ذلك الزمان؟! يا ليتنا يا ليتنا! حسنًا هذا صحيح، والكون في ذلك الزمان لم يكن باختيارنا وقد أتينا بعد ۱٤۰۰ سنة.
كيف تكون مع الإمام الحسين عليه السلام في زمانك أنت؟
حسنًا فمن هو الإمام الحسين عليه السلام؟ وماذا يقول الله؟! يقول: أنا إله عادل فتفضّل، هذه كربلاء بسم الله، ألم تكن تريد أن تكون في كربلاء؟! تفضّل! وقد ذكرت الليالي الماضية أنّ إمام الزمان عليه السلام موجود وتعاليمه موجودة ونواهيه موجودة، وأوامره موجودة، افعل ولا تفعل! قم بهذا ولا تقم بذاك، هل لا بدّ أن يكون الإمام الحسين عليه السلام بتلك اللحية وبتلك الهيئة وبتلك العمامة وبتلك العينين والحاجبين والخال والشمائل؟! كلاّ فالإمام الحسين عليه السلام يعني الإمام، فتفضّل ذلك الإمام بعينه موجود الآن وهو حيّ أيضًا ونحن نقبل بذلك ونحن نعتقد به، أفهل يجب أن يكون جالسًا عند باب الدار؟! هل يجب أن يكون حاضرًا في هذا المجلس؟! فنحن نعتقد به، ألم نسمع نحن أوامر الإمام ونواهيه؟! ألم نسمع قوله افعل ولا تفعل؟! فنحن لا نشكّ في وجوده، وحقًّا أقول: لو أنّ الإمام كان في بيتنا، لو كان إمام الزمان عليه السلام هذا في بيتنا في الطابق العلويّ فهل كنّا سنفعل ما نفعله الآن؟! حسنًا فنحن نعلم الآن أنّه يرى. ولكنّهم الآن يقولون: لا الإمام لا يرى، يقال إنّه يرى، يقال إنّ لديه علمًا، علمًا من الغيب، ولكن لم يكن ذلك ملموسًا! ولكن لو جاء إمام الزمان وقال: أريد أن أستأجر لسنة هذا الطابق الأعلى لبيتك.
ـ تفضّل يا ابن رسول الله! البيت بيتك.
يقول: لا دع هذا الكلام جانبًا دع المجاملة جانبًا. ويا مكتب العقارات كم هي أجرته حتّى يرتاح بالنا ولا يأتي الشيطان لاحقًا ويقول لك: لقد جاء إمام الزمان يومًا وأعطاني القليل وذهب، فتعال من البداية، تعال من البداية نكون واضحين وصريحين.
وأنا إمام الزمان أستأجر مع دفع أجرة سنة كاملة سلفًا، أعطيك أجرة سنة حتّى لا يخدعك الشيطان يومًا وبعد مغادرتي يقول لك: لقد أعطاك القليل.
ـ أنت ابن رسول الله نخفّض لك الأجرة.
ـ كلاّ فأنا لا أحتمل المنّة.
فجاء إمام الزمان وجلس في الطابق الأعلى، فبينكم وبين الله هل نكون كما نحن الآن أم لا بل نجلس مؤدّبين فإمام الزمان عليه السلام موجود، إنّه في الطابق الأعلى فهو مشرف علينا في النهاية؟!
ذات يوم جاء أحد الرفقاء إلى طهران لزيارة العلاّمة حين كان في طهران، وهو لا يزال على قيد الحياة الآن، فجئت أنا لأقدّم الشاي، وكان الوقت بعد الظهر فأحضرت الشاي وفي هذه الأثناء سمعت هذا السؤال والجواب، ولا أدري ماذا كان قبله ولا بعده، ولكنّه سمعت أنّه سأل هذا: ما هو موقعك الآن بالنسبة إلى الإمام عليه السلام؟ وكان يريد أن يسأل أسئلة أخرى ويريد أن يكون طريقه واضحًا، فقال: موقعي بالنسبة إلى الإمام مثل موقعي بالنسبة إلى هؤلاء الأولاد ـ وأشار إليّ ـ فكما أنّي الآن مشرف على الطابق الأسفل الذي فيه العيال الآن، فالإمام عليه السلام مشرف عليّ هكذا أيضًا، فأنا معه ولست منفصلاً عنه. فهل نحن حينها سنكون كما نحن الآن أم أنّ الأمر سيختلف عندنا قليلاً وسيختلف سلوكنا وسيكون لدينا المزيد من التحفّظ على سلوكنا؟! فهل نحن لا نقبل إمام الزمان عليه السلام بهذا المستوى؟! نحن نقبله، ولكنّا لا نعمل ولا نتّبع! فإذن علينا أن لا نتصوّر أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يعد موجودًا الآن، كلاّ بل هو موجود وهو عين ذلك الإمام الحسين دون زيادة ولا نقصان، دون أن يختلف عنه قيد أنملة زيادة أو نقصانًا، فالإمام الحسين بعينه موجود الآن في إمام الزمان عليه السلام وقد تجلّى فيه بشكل كامل فهو مرآة تامّة له، وهو ينظر إلى جميع أمورنا وأعمالنا وتصرّفاتنا ويشرف عليها. فماذا يعني ذلك؟
إنّه يعني أنّ هذه هي عاشوراء، فماذا نريد خيرًا من ذلك؟! فليتصوّر الإنسان أنّ الناس الذين جاؤوا إلى الإمام يوم عاشوراء موجودون الآن من هذا الجانب ومن ذاك، وقد نالوا درجة الشهادة وفازوا بمقام الفيض الأعظم ذاك والذي هو عبارة عن مقام ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر هؤلاء الذين كانوا في ذلك الزمان بتلك النيّة الخالصة وبذلك الوله والحيرة في إمامهم بحيث لم يكونوا يرون غيره وعندما كانوا يقولون: لو أنّا نقتل سبعين مرّة ونحرق ونذرّى في الهواء ثمّ نحيا فنحن هكذا! وقد كانوا صادقين في كلامهم وقد أثبتوا ذلك في مقام العمل وأظهروا أنّا صادقين وثابتين.
ضرورة أن يكون الثواب والعقاب على أمر اختياريّ
فلو لم يكن هؤلاء في ذلك الزمان هل كانوا سينالون هذا التوفيق؟! ما كانوا سينالونه، فإذن هؤلاء نالوا تلك الدرجة بواسطة أمر بغير اختيارهم إذن، وهو وجودهم في تلك البرهة من الزمان لأنّ وجودنا خاضع لقوانين الطبيعة، ومحكوم لقوانينها، وهذا ليس باختيارنا ولا بإرادتنا، بل هو أمر يرتبط بالمقدَّرات والمشيئة الإلهيّة. فالذين جاؤوا والتحقوا بركب الإمام الحسين عليه السلام ووصلوا إلى ذلك المقام إنّما وصلوا إليه هكذا صدفة، وهذا الأمر يرتبط بحادثة لم تكن باختيارهم هم أصلاً، ولو كانوا بدلاً منّا نحن وكنّا نحن بدلاً منهم لوصلنا نحن إلى تلك المقامات، ولبلغنا تلك الخصوصيّات. والإنسان المجبور وتلك العجوز التي أفنت عمرها ناوية الحجّ ولكنّ الله لم يقسمه لها، لم تتمكّن وكان لديها مانع وعذر ومرض منعها من الذهاب، فبأيّ قانون منطقيّ وعدالة يحرم الله هذه العجوز أو ذاك العجوز من نعمة فيوضات الحجّ؟! لا نريد أن نتحدّث عن كرم الله، الله سيعطيهما بكرمه ولطفه ثواب الحجّ، ولكن لا نريد الحديث عن هذا، ولم نصل بعد إلى مرحلة الكرم واللطف، نحن نقول الله عادل، ونحن الآن نسير في الموضوع على أساس العدالة. كرم الله ولطفه لهما حسابهما، وأمرهما يختلف ولم نصل بعد إلى الحديث حولهما، فنحن نريد أن نبحث في الدرجة الأولى وأنّه كيف ينسجم مع العدالة الإلهيّة أن يحجّ إنسان بمال لم يحصّله هو بل أعطاه إيّاه غيره وقال له: حجّ به. ألا يجب عليه الحجّ؟ حسنًا هل كان ذلك باختياره؟! إنّه يقول: أنا لم أسع خطوة واحدة لتحصيل هذا المال، لم يخط خطوة واحدة لتحصيله، فهو أصلاً لم يتحرّك، فلو كان تاجرًا في السوق لذهب إلى السوق وفتح دكّانه، ولو كان طبيبًا لذهب وفتح عيادته، ولو كان مهندسًا لفتح مكتبه ولو كان في أيّ مجال لسعى ضمنه، ولكنّه لم يفعل شيئًا لتحصيل هذا المال، بل قال له صديقه: نريد هذه السنة أن نحجّ فتعال معنا، فصار الحجّ واجبًا عليه. ومن جهة أخرى فهو مسلم ومن أهل الصلاة ولا يؤخّرها. فأيّ سعي يعى لتحصيل ماله؟ لم يسع أبدًا، لم يسع. وأحد موارد الاستطاعة للحجّ بذل المال والراحلة، أي أن يبذل المركب ومؤونة السفر للإنسان من قبل أحد، فبذل المال والراحلة يسبّب استطاعة الحجّ، وحرام شرعًا على من يبذل له المال والراحلة أن يردّهما ويرفضهما، فلو لم يقبل فقد ارتكب حرامًا شرعًا، وإن لم يحجّ فإنّه يعدّ تاركًا للحجّ، يعدّ تاركًا للحجّ. فذهب هذا إلى الحجّ وحجّ، فلو أنّه ينال ثواب زيارة مكّة واتّباع النبيّ إبراهيم والدخول في تلك الشريعة وما لا يحصى من الفيوضات التي تنزل عليه والبركات بواسطة هذا الحجّ إلى ما شاء الله، أمّا ذلك الرجل العجوز أو المرأة العجوز التي لا ملجأ لها وفقيرة والتي قضت عمرًا على أمل الحجّ ولكنّها لم تحصل على شيء ومرضت وضعفت وصارت على حافّة القبر محرومة من تلك النعم من البداية حتّى النهاية، فأين عدالة الله؟ أين هي؟!
ونحن الآن لا نتكلّم عن كرم الله، أين هذا من العدالة؟ البحث هو عن العدالة. فأين هذا منها؟! فلو أنّهم أعطوا هذه العجوز حينها هذا المال لقفزت عشر قفزات بدلاً من أن تقبل فحسب، ولقالت لو كنت مكانك لحججت كلّ عام، ولو أعطيتني كلّ عام لحججت، ولألقيت نفسي بآلاف المتاعب والمشقّات، غاية الأمر أنّ الزمان والظروف والأحداث التي جرت منعتني عن ذلك. فأين هذا من عدالة الله هذا الإله العادل الذي وصف نفسه في القرآن بالعدل كثيرًا؟! ونحن نعدّ الأصل الثالث من أصول الدين العدل، فكيف ينسجم هذا مع العدل؟! فأن يصل إنسان إلى كلّ هذه الفيوضات دون اختيار منه ودون جهد ودون أن يخطو خطوة واحدة لتحصيل المال أمّا ذاك المسكين الذي لا ملجأ له والذي يفني عمره بالحسرة على تلك الفريضة الإلهيّة التي هي الحجّ، فإنّه لا ينال تلك الفيوضات ولا يمكنه أن يحجّ، فهذا الإله ليس عادلاً، ليس عادلاً أصلاً. فلو أنّ الله لم يكتب في صحيفة هذين العاجزين حجًّا مقبولاً وعمرة مقبولة ولم يكتب هذه الفيوضات والبركات فهو إله ظالم، ولا نريد أن نتحدّث عن كرم الله، إنّه ظالم، نقولها له بصراحة، ونقف بوضوح ونستدلّ وليس لله جواب أيضًا، ليس له أيّ جواب يجيب به، لأنّنا نحن نستدلّ عليه بحسب كلامه هو، ألست عادلاً؟!
يقول: بلى.
هل أنت ظالم؟
يقول: لا. ألا تستحي؟! أأنا ظالم؟!
حسنًا لقد اتّفقنا إذن. فتخبرني إذن لماذا أعطيت الفيوضات والبركات لذلك الذي حجّ من دون اختيار منه، أمّا هذا الذي كان يريد أن يحجّ لم تعطه ذلك.
يقول الله: الحقّ معك وإن كنت عبدًا وتناقشني ولكنّي هنا أسلّم لك وسأكتب لذينك العجوزين وكلّ من لم يتمكّن من الحجّ ولكنّه نوى وقصد وعزم وجزم على ذلك من دون أيّة زيادة أو نقصان، بل حتّى سأعطيهم أكثر من الذي حجّ بالفعل، فذاك ذهب إلى الحجّ وركب السيّارة وطوى مئات الفراسخ وذهب إلى عرفات وطاف وقام بأعمال خارجيّة ماديّة، ولكنّ هذا لم يفعل شيئًا وسأعطيه كلّ الثواب بمقتضى العدالة، أمّا بمقتضى الكرم فسأعطي أشياء أخرى، إنّه لأمور أخرى، والآن البحث هو عن العدالة فقط.
فإذن العمل الذي يقوم به الإنسان هذا العمل الخارجيّ في حدّ نفسه، وهذا العمل الماديّ لا هو طاعة يثاب عليها ولا هو معصية، الطاعة هي عبارة عن تلك النيّة التي على أساسها يقوم الإنسان بالفعل، وهنا البحث مهمّ جدًّا وهنا ترتّب الكثير من الآثار، وذلك السلوك العقلانيّ الذي كنّا نتحدّث عنه مع الرفقاء منذ سنوات، والكلام الذي يقوله الأعاظم وقالوه في هذا المجال إنّما يتشكّل تحت هذه المجموعة وهذا العنوان.
من آثار أصالة النيّة: كيف يكون الإنسان أستاذ نفسه؟
ومن الأمور التي سمعتها مرّتين أو ثلاث مرّات من المرحوم العلاّمة بشكل مرموز وبشيء يسير من الصراحة هو أنّ الإنسان يمكنه أن يكون أستاذ نفسه، وهذا الكلام عميق جدًّا، وهذا الكلام دقيق وعميق، وهو أن يكون الإنسان أستاذ نفسه، أفتعلمون ما معنى ذلك؟ يعني أنّ عليك أن لا تنظر إلى فم الأستاذ وتنتظر متى يخرج هذا الأمر منه ثمّ تفكّر هل تعمل به أم لا، عليك أن لا تنظر إلى أنّه متى يأمرك بهذا الأمر ثمّ بعد ذلك تتوجّه نحو هذا الأمر وتؤدّيه فهذا ما يبقيك متأخّرًا، يبقيك بعيدًا، عليك أن تنظر ما هي نيّة أستاذك ونيّة وليّ الله ذاك بماذا تعلّقت فلا تنتظر كلامه، فلماذا أنت منتظر أن يقول لك بعد أسبوع مثلاً فلتتفضّل الآن بسم الله ما دمت تعلم، فلا نخدع أنفسنا، ولا ندسّ رؤوسنا في الرمال، كلاّ بل نعلم حقًّا أنّه يسرّ لهذا العمل، فنحن في زمان المرحوم العلاّمة كنّا نستنبط أمثال هذه الأمور، فمثلاً كنّا نستنبط أنّ المرحوم العلاّمة الآن يسرّ من هذا العمل ولكن هناك نوع من العجب والحياء يمنع من يقول لنا ذلك، فكنّا نذهب بأنفسنا إليه ونقول: سيّدنا أليس لديكم أمر حول هذا الموضوع؟ فكان يقول: بلى حقًّا يا فلان لو أنّك تفعل كذا أو لو أنّ فلانًا يفعل كذا فهو جيّد. فما إن كانوا يشعرون حتّى يقدمون، وقد كان هناك عدد يسير لا يتجاوز عدد أصابع اليد في ذلك الزمان من الأذكياء والفطنين فهذا هو الفطن، وهؤلاء هم الذين وصلوا إلى سرّ السلوك، ما إن كانوا يرون أنّه يبحث عن أمر ما ويفكّر في أمر ما وينوي أمرًا ما ويريد أن يقول شيئًا ولكنّ الظروف لا تسمح له بقولها، فقد كان يراعي ولم يكن هكذا، فرغم أنّه يعلم أنّ كلّ ذلك هو في صالحهم ولكن على كلّ حال هناك محاذير لديه وهناك موانع، خصوصًا وأنّه كان يحذر من أن تنسب إليه هذه القضايا. فقد كان هناك أناس آنذاك يأتون إليّ ويقولون: يبدو أنّ للعلاّمة رأي كهذا وأمر كهذا ولكن لا يجد له أهلاً، فكنت أقول: اذهب واسأله، اذهب واطرح الأمر عليه، وكان يتّضح أنّه صحيح، وحيث إنّ هذا قد طرح عليه الأمر فقد انفرجت أساريره ليخبره عنه، فهؤلاء في النهاية لديهم محاذير، ولديّ في هذا الموضوع أمثلة كثيرة مئات الأمثلة وكيف كان يبيّن الأمور بأيّ لطف وبأيّ دقّة، وكان لهم حسابات دقيقة وحسابات ظريفة، فكان يقول: يجب أن يكون الإنسان أستاذ نفسه، فعندما تصل إلى مباني الأستاذ، وعندما تصل إلى الأمور التي نقلها لك، وعندما تدرك ما هو مرادك فلماذا تنتظر بعد ذلك؟! أتنتظر أمرًا لفظيًّا؟ أتنتظر إشارة؟! افعل ما تعلم، ولو كان هناك اشتباه فليكن فإنّ نيّتك نيّة خير، فيكتبون لك عين ما يكتبونه لو لم تكن مشتبهًا، فلتكن مطمئنًّا دون أيّ قلق، فهنا لا بدّ أن تكون مطمئنًّا، لأنّ النيّة نيّة خير، لأنّ النيّة نيّة صدق، فلن ينظر الله بعد ذلك إلى العمل الخارجيّ الذي هو اشتباه لن ينظر إليه بعد ذلك، وإنّما ينظر إلى الباطن. وعندما ينظر إلى الباطن فلنفترض أنّه حصل اشتباه أحيانًا فلا إشكال، فإنّه يكتب في حقّ ذاك الإنسان، وهنا يصبح سير الإنسان سريعًا، ويقلّ اعتماد الإنسان على هذا وذاك، واهتمامه بالأمور الظاهريّة ينقطع، يرجع الإنسان إلى نفسه، وذلك الارتباط بينه وبين الله وبينه بين الولاية يسير به إلى الأمام ويسير به إلى الأمام، وهذا كما قلت عندما تكون النيّة خالصة لوجه الله.
لذلك كنت ألاحظ هذا الأمر في سلوكه هو وفي حالاته وفي خصوصيّاته بحيث كان يتقدّم. حتّى أنّي سمعت السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يومًا يقول لأحدهم إنّ السيّد محمّد حسين يسير أمامي! فمعنى أنّه يسير أمامي هو أنّه لا ينتظر ماذا أريد وماذا أقول، بل هو بنفسه يفعل ويتقدّم بحيث أنّ علينا أن نركض ونلحق به، إنّه يتقدّم ويتقدّم ونحن نريد أن نستبقيه، خفّف السرعة قليلاً يا عزيزي! انتظر قليلاً لا يمكن هذا! والحاصل أنّ هذه الأمور كانت موجودة وأهل المعنى يدركون ذلك ويعملون به ويحصلون على النتيجة، يحصلون على النتيجة.
كيف لحق محمّد بن مسلم بعاشوراء؟
لقد قال الإمام الصادق عليه السلام لمحمّد بن مسلم عندما سأله: يا ابن رسول الله ماذا أصنع كي يفتح الله لي الباب ويزيح الحجب؟ فقال له الإمام: «تواضع لله»۱. اكسر نفسك لأجل الله، ففهم الأمر جيّدًا، وكان محمّد بن مسلم رئيس أشراف الكوفة، كان رئيسًا لطائفة كبيرة فأخذ طبقًا كبيرًا من التمر وراح يبيعه عند السوق، صار يبيع التمر، لم يكن غلام غلام غلامه يفعل ذلك، غلام غلام غلامه لم يكن يفعل ذلك. جاء الناس فرأوه جالسًا يبيع التمر، نحن نضحك على هذه الأمور ولكن ربّما تحدث لنا، غاية الأمر أنّ نوعها يختلف، وصورتها تختلف. فجاء هذا وقال له: ماذا تفعل يا محمّد بن مسلم؟! لماذا جلست؟!
ـ لا شيء، جلست لأبيع تمري.
ـ تعال يا عزيزي! إن كنت تريد مالاً أنا أعطيك، اذهب إلى بيتك ولا ترق ماء وجهك بالله عليك!
جاء آخر فرأى أنّه جازم وعازم وانتهى الأمر عنده فقد قال له الإمام الصادق عليه السلام إذا أردت أن ينتهي أمرك فعليك أن تقوم بذلك، تواضع لله. وحقًّا إنّني إذ أنقل هذا الكلام يترجف بدني هل الله يوفّقني بهذا التوفيق لو قمت بعمل كهذا وليس من الضروريّ أن يكون بيع التمر وأمثاله، كلا بل أمورًا أخرى، فليس الأمر مقتصرًا على ذلك، وله صور أخرى، فالمسألة هكذا كانت وهو فهم منها ذلك ولا يشترط أن يؤخذ هذا العمل أو ذاك من الله. وهنا يدرك الإنسان كلام الإمام السجّاد عليه السلام أنّه «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت» فحقًّا عندما ينظر الإنسان إلى نفسه يرى أنّه لا يمكنه، فهذا هو معناه، فهذا الابتعاد لا يسمح له أن يتقدّم إلى الأمام {وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}٢ إلا أن تمتدّ يد ويشمله لطف، فذلك اللطف شمل محمّد بن مسلم عندما قام بذلك وكانت يد الولاية يد الإمام الصادق عليه السلام وراءه، فعندما رأى الإمام صدق حديثه، وعندما مشى هو في ذلك أعانه الإمام، فقد كان هو مهتمًّا بالأمر، وإلا فلولا أنّ الإمام الصادق اعتنى به لحظة واحدة لما استطاع أن يفعل ذلك، لكان ما إن يريد أن يبيع التمر ينظر إلى لحيته ويقول: الويل لي في أيّة ساعة سآتي؟ الآن هناك ازدحام! والآن كذا دع الأمر الآن! ألا يمكن أن آتي عند الساعة العاشرة بينما الناس راجعون إلى بيوتهم فأعطيهم التمر مجّانًا، أعطيهم وعاءًا كاملاً وينتهي الأمر؟! ثمّ كلّما جاء مشتر أطأطئ رأسي، فيسألني بكم التمر؟ فأقول الكيلو بألفين، تعال وخذ كيلويّن أو ثلاث كيلوّات فينتهي الأمر بسرعة. هذا لا يكفي، بل عليك أن تنظر في وجه المشتري وتقول: السلام عليكم كيف حالكم؟ أنا محمّد بن مسلم نعم لا تظنّ أنّك أخطأت أنا هو نفسه ولست نسخة أخرى عنه، محمّد بن مسلم.
ـ حسنًا، لماذا تبيع التمر؟!
ـ أحبّ ذلك، فماذا تريد؟ لماذا تتدخّل في عملي؟! دعني أتابع عملي.
ـ لماذا تبيع التمر؟!
ـ أحبّ ذلك، فهل هو ذنب؟! هل هناك إشكال في الرزق الحلال؟! لا إشكال فيه، ما الإشكال فيه؟ أريد اليوم أن أحصل على رزق حلال، ينظر إلى الرجل ويقول له: إلى أين أنت ذاهب تعال واشتر منّي التمر، هل أتيت لتناقشني فقط، تعال فقد استدلّيت لك كلّ هذا الاستدلال فاشتر كيلو من التمر فإنّه مفيد لك، فهذا التمر له بركة خاصّة، لأنّه يباع على أساس نيّة خاصّة، كلّ من تعطيه منه سيؤثّر عليه أثرًا وله أسرار. والخلاصة أنّه يأتي ويبيعه بهذه الطريقة.
وقد كانت عبارة المرحوم العلاّمة: عندما وصل إلى آخر حبّة تمر وصل إلى مقصوده وانتهى الأمر، فتح له الباب وانتهى الأمر بحركة واحدة. إنّ محمّد بن مسلم لم يكن يوم عاشوراء ولكنّ الإمام الحسين بالنسبة إليه موجود وهو الإمام الصادق عليه السلام، الإمام الحسين عليه السلام الذي كان يوم عاشوراء موجود الآن أيضًا، إنّه الإمام الصادق عليه السلام الذي يقول: إن أردت أن تستشهد فتفضّل فبأيّ شيء هي شهادتك؟ بواسطة سطل من التمر، لا تحتاج إلى سهم، لقد سهّلنا عليك ذلك، فبدون دم ونزف نلقي بك بكلّ سهولة، فأنت الآن تفعل ذلك وتأخذ طبقًا من التمر وتبيعه فلا سهم ولا رمح ولا نزف دماء ولا قتال وجراح وسيوف ولا شيء آخر أبدًا، أنت لم تكن يوم عاشوراء ولكنّي أنا الآن موجود فخذ هذه الوصفة، فهؤلاء الذين كانوا يوم عاشوراء كانت وصفتهم بشكل آخر، لقد كانت وصفتهم عبارة عن السيف والسهم والرمح والقتال وأمثال ذلك، ووصفتك أنت هي هذه، فجاء وفعل ما أمر به وانتهى الأمر. قال المرحوم العلاّمة: ما انتهى التمر حتّى انتهى معه الأمر. ثمّ قال بعبارة أخرى أعجب من تلك: لو أنّ محمّد بن مسلم كان أذكى من ذلك وأعمق وكان فهمه وإدراكه ومعرفته أرفع لقام بذلك في نفسه في مجلس الإمام الصادق عليه السلام ذاك ودون أن يقوم بالفعل في الخارج ويحمل طبق التمر وأمثال ذلك، لأنجز ذلك العمل في نفسه في مكانه، ولحصل على النتيجة هناك! لماذا؟ لأنّ الإمام الصادق عليه السلام عندما قال تواضع لله تواضع لله فإنّه يقول إنشاء لا إخبارًا، أي كن الآن متواضعًا كن متواضعًا وصر متواضعًا الآن، ولكنّ محمّد بن مسلم لم يدرك ذلك جيّدًا فتأخّر قليلاً واضطرّ أن يذهب إلى السوق ويقف هناك ويستدلّ لهذا ولذاك ويناقش ويضحك وأمثال ذلك حتّى ينتهي أمره. أي أريد أن أقول نحن لدينا ذلك أيضًا، لدينا معبر ولدينا مسائل تقرّب الإنسان من المقصود، فهذا الميدان أمامنا فكلّ من أراد ذلك فليتفضّل بسم الله فكلّ ذلك جيّد، وكلّه يوصل الإنسان إلى المطلوب، ففي النهاية يصل الإنسان وهذا جيّد، وكما يقول الحاجّ هادي الأبهري: ديارك عامرة يا الله، إن أوصلتنا إليك فديارك عامرة، وإلا فماذا سنصنع؟! ماذا يتأتّى منّا لنفعله؟!
نأمل من الله إن شاء الله أن يشملنا بعنايته، وأن يمطر علينا في هذه الليالي والأيّام الباقية من هذا الشهر المبارك كرمه ولطفه، وأن يخرجنا من هذا الجهل وهذه المشاكل، فإذا ما أزيح الستار قليلاً من أمام الإنسان فإنّه يضحك على كلّ هذه الدنيا وأحوالها وأجوائها! يضحك على كلّ هذه الأحداث وكلّ هذه الأوضاع وكلّ هذه الجدالات والصراعات، فعلى ماذا يهلك الناس هكذا أعمارهم؟! على أمور بسيطة هي بمتناول أيدي الجميع، على أمور لم نخلق من أجلها، فنحن لدينا أمور أهمّ عملنا أهمّ، فعلى الإنسان أن يطلب من الله أن يرزق الجميع الفهم وأن يرزقنا نحن أيضًا والذين أعطانا إلى حدّ ما وببركة هذا الطريق وببركة أنفاس الأعاظم شيئًا من الشعور، وشيئًا من البصيرة، أن يرزقنا بنفسه الهمّة والتوفيق.