المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير و النظام الاجتماعي
التوضيح
تتابع هذه المحاضرة الحديث حول التدبير الوارد في فقرة ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا، وذلك في خصوص التدبير الاجتماعيّ وبها ينتهي الحديث عنه. وهي تخصّ بالحديث أهم مبدأ من مبادئ الحكومة الإسلاميّة وهو ضرورة تحقيق الأمن الأخلاقيّ، وتعقد مقارنة بين أنواع الأمن المطلوبة في الحكومة الإسلاميّة والأخرى المطلوبة في الحكومات المعاصرة، فهناك أنواع من الأمن مشتركة بين الصنفين وهي: الأمن على الأرواح والأموال والأعراض والاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعيّة بين الناس، ولكنّ الحكومة الإسلاميّة تمتاز بكون ذلك كلّه في خدمة الأمن الأخلاقيّ المتمثّل بالتزكية والوصول إلى التوحيد. مستشهدة لذلك بآيات من القرآن (ليقوم الناس بالقسط) (ويزكّيهم) وبحديث أمير المؤمنين حول الهدف بعثة الأنبياء (ليثيروا فيهم دفائن العقول)، مؤكّدة أنّ قيمة البعد الروحيّ عند الإنسان بالنسبة إلى البعد الجسديّ كقيمة الصفر إلى اللانهاية، ولذلك فإنّ السيّد الحدّاد كان يقول: نحن في مقام لا يتخيّله جبرائيل.
كما عقدت المحاضرة مقارنة بين الديمقراطيّة المطروحة في الحكومات المعاصرة والديمقراطيّة الحقيقيّة المطروحة في حكومة الأنبياء، فالأولى في دائرة المادّة وتتيح للنّاس تيسير الحياة الماديّة لا أكثر وتمنع عنهم الاعتداء الماديّ، في حين أنّ الديمقراطيّة الحقيقيّة تتيح للناس على قدم المساواة البلوغ إلى الكمال والتزكية.
كما تحدّثت حول فرعين من فروع الأمن الأخلاقيّ وهما:
ـ حريّة التعبير فبيّنت حدودها ودائرتها واستشهدت لضرورتها بسيرة أمير المؤمنين وكيفيّة تعاطيه مع الخوارج على الخصوص.
ـ طبيعة الإعلام حيث ينبغي أن يكون في سبيل تنمية العقل والمعرفة والابتعاد عمّا يسبّب التشويش.
كما ختمت المحاضرة بخلاصة لبحث التدبير الاجتماعيّ وأنّ كلّ ما طرح في المحاضرات السابقة من مبدأ الشورى وغيره يتمحور حول التوحيد.
هو العليم
الأمن الأخلاقيّ في الحكومة الإسلاميّة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٦٣
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين
ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا
قال إمامنا الصادق عليه السلام: ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا.
تحدّثنا حول خصوصيّات هذه الفقرة وموارد التدبير، وفي أيّ مورد يجب التدبير وقد بقي الحديث عن المورد الذي لا ينبغي فيه التدبير، ونحن لا نزال نعِدُ به. وإن شاء الله سنتحدّث في القسم الأوّل حتّى نرى إلى أين سننتهي.
وحول مبادئ وقواعد التدبير والتنظيم في الحكومة الإسلاميّة تقدّم الحديث حول مبدأ الشورى كواحد من القواعد الأساسيّة والمهمّة.
ضرورة تأمين الأمن الأخلاقيّ
ومن مبادئ الحكم المهمّة، والتي يمكن أن يقال إنّها من أكثر المبادئ أساسيّة في هذا المجال، موضوع تأمين الأمن الأخلاقي لكافّة طبقات المجتمع. وقد سبق أن تحدّثنا شيئًا ما حو تأمين الأمن الاقتصاديّ والماديّ والعدالة الاجتماعيّة۱، وذكرنا أنّ على الحكومة الإسلاميّة أن تؤمّن الأمن على الأرواح والأموال والحياة لأبناء المجتمع، من كلّ جهة وبأيّ طريقة، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين. ويجب أن يكون هناك أمن على الأرواح وكذلك أمن اقتصادي ومالي بحيث يكون هناك طريق للرقيّ والتكامل لجميع أفراد المجتمع بطريقة واحدة ومستوى واحد. وهذا الأمر أساسيّ في النظرة إلى نظام الحكم في الإسلام من الناحية الماديّة والطبيعيّة.
وفي العهد الذي كتبه أمير المؤمنين لمالك الأشتر ـ وواقعًا يمكن أن يقال إنّه معجزة من أمير المؤمنين في كافّة الشؤون، والتي جعل العالم المعاصر نفسه فيها للأسف في بوتقة الزوال والهلاك ماديًّا ومعنويًّا ـ هناك يخاطب الإمام مالكًا ويقول: وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم... فإنّهم صنفان إما أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق٢ وإنّها لعبارة عجيبة جدًّا، وليتنا نهتمّ بهذا الأمر في طريقنا وسلوكنا!
فالإمام يقول لمالك عليك بالرفق والمداراة للنّاس الذين هم تحت رعايتك، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين؛ لأنّ الناس صنفان: أخ لك في الدين وهنا من الواجب عليك مراعاة حقّه، أو شريك لك في الخلق والإنسانيّة. ففي النهاية هؤلاء بشر، فرغم أنّ الله تعالى لم يمنّ عليهم بعد بنعمة الهداية إلى الإسلام والتوفيق لذلك، ولكنّهم من حيث الاستعدادات الكماليّة ووجود الغرائز الموصلة إلى الكمال والإنسانيّة فإنّهم لا يزالون بشرًا، ولا بدّ من التعامل معهم بالرفق والمداراة لعلّهم يدركون ويلتفتون ويميلون إلى هذا الأمر.
الأمر المهمّ في العالم المعاصر فيما يرتبط بالأمن الأخلاقيّ هو أنّه قد نسي غالبًا في إطار الديمقراطيّة، لأنّ نظرة العالم المعاصر إلى الديمقراطيّة ترتكز إلى الديمقراطيّة الماديّة وإلى الاعتقاد بأصالة المادّة والمدرسة الماديّة. ولا يخفى أنّ القائلين بأصالة المادّة والقائلين بعالم ما وراء المادّة وعالم الغيب والآخرة حسب تعبيرنا ـ كالمسيحيّين واليهود ـ قد سلكوا في تقنين قوانينهم ذلك المنهج الماديّ وطريق القائلين بأصالة المادّة بعينه. ولكن ينبغي أن يكون هناك علامة فارقة تميّز بينهم وبين الإلهيّين المعتقدين بأصالة الغيب أو بعبارة أخرى أصالة العلل المكوّنة والتكوينيّة أو بعبارة معاصرة بأصالة الواقع والتي هي عين المذهب الواقعي في نظام العالم. وتلك العلامة هي الحدّ الدقيق الفاصل بين تقنين القوانين الماديّة والقوانين الإلهيّة قوانين الأنبياء.
الفارق بين الحكومات الماديّة والإلهيّة هو التزكية
إذا تتبّعتم آيات القرآن الكريم واحدة واحدة، فإنّ أقصى أهداف الأنبياء وإرسال الأنبياء هو تزكية النفس وتربيتها: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}۱ ليقوم الناس بالعدالة، وفي أيّة دائرة؟ سنبيّن الآن. فكم هو كبير الفارق بين العدالة التي عند الماديّين والتعريف الذي لدى الواقعيّين! فكم من فارق فاحش بين هذين التعريفين! وكم يوجد من نقاط اختلاف وبعد هنا.
يقول حول النبيّ الأكرم: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ}٢ فقد أُنزل النبيّ لأجل الهداية.
{يسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدّوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة}٣ فالهدف من الخلقة، من بعثة الأنبياء وخصوصًا بعثة الرسول الأكرم هو أمر التزكية، والبعد الأخلاقيّ للإنسان {يزكّيهم} ويطهّرهم.
ففي الآية الأولى تلك يقول: {ليقوم الناس بالقسط}٤ ليقوم الناس بالعدالة. وهنا يجعل الغاية تزكية النفس وتربية النفوس.
غياب عنصر التزكية في الحكومات الماديّة
التفتوا! ليست مسألة تربية النفس مطروحة اليوم في الحكومات الراهنة، الأمر الوحيد المطروح في الحكومات الراهنة في مختلف بقاع الأرض هو محض تيسير الحياة وتشكيل نظام حكوميّ لا يعتدي تحت ظلّه إنسان على آخر. فهذا أقصى أهداف الحكومات المعاصرة وغاية آمالها. أمّا في نظام حكومة الأنبياء فالمهمّ هو التزكية.
يعني إضافة إلى أنّنا نختلف مع القائلين بأصالة المادّة في أصل نظرتنا إلى المادّة، فحيث إنّ اهتمام الإنسان المفتقر إلى مربّ أخلاقيّ والتارك لرعاية الموازين الأخلاقيّة سيكون منحصرًا بعالم المادّة، وحيث إنّ كامل فكره وقواه ستكون منصبّة على التوغّل في الكثرات وستكون حركته متمحورة حول ذلك، فإنّه سيغفل عن هذا المبدأ المهمّ في نظام الحكم والذي هو الهدف من الخلق. وهذه النقطة هي الفارق بين نظام الحكم الرائج في الدنيا وبين نظام الحكم عند الأنبياء، حيث إنّ الهدف من الحكومات في الدنيا هو تيسير الحياة وتأمين راحة الناس وتحقيق الحياة وعدم الاعتداء الظاهريّ والماديّ ـ دقّقوا جيّدًا ـ تأمين حاجاتهم الماديّة وعدم الاعتداء الماديّ في الحياة في ظلّ هذه الحكومات. فمثلاً من الأمور التي يطرحونها تحقيق الأمان، نمنع الاعتداء على الغير، ومن الناحية الاقتصاديّة نؤمّن لكلّ إنسان الوسائل التي يتمكّن من خلالها من تحقيق ما يريد ـ وبالطبع فهذه أمور جيّدة جيّدة ولا بدّ من تحقيقها. ولو لم تتحقّق فستكون هناك غابة، وستكون الشريعة شريعة الغاب. وإلا، إن كان سيتمتّع عدد من الناس بالمواهب الاقتصاديّة للبلاد ويبقى الآخرون محرومين، فهذه شريعة الغاب. إن كان لا بدّ للإنسان أن ينام بغير أمان فلا يدري إن كان سيتعرّض ليلاً للاعتداء أم لا، فهذه ليست دولة بل هي غابة. إن كان الإنسان محرومًا من أبسط حقوق العيش فلا يمكن أن تكون الحكومة مقبولة في أقلّ الإمكانات والتوقّعات. فإذن لا بدّ من الاهتمام بهذا الأمر عند تأسيس الحكومة ـ وليس لنا كلام في هذا، كلامنا هو حول المسؤوليّة التي يحملها مسؤولو الحكومة الإسلاميّة أمام المجتمع بكلّ أبنائه لا أمام طبقة خاصّة منه، والتعهّد الذي يتعهّدونه نحوهم، وحول ذاك التعريف المعاصر المتبنّى الآن، وبعبارة أخرى حول الديمقراطيّة المعتمدة في نظام الحكم في العالم، فما هي تلك العدالة التي تحقّقها وما معنى تلك الديمقراطيّة؟ وهل هي ديمقراطيّة من وجهة نظر ماديّة فقط أم من وجهة نظر واقعيّة؟
قيمة الروح بالنسبة إلى البدن كقيمة الصفر إلى اللانهاية
لا شكّ في أنّا إذا نظرنا إلى الإنسان كجامع بين المادة والمعنى، لا فقط هذا البدن وهذا الظاهر والجسم الفيزيائي، سنرى أنّ هذا البدن والقيمة التي جعلها الله له لا تساوي شيئًا بالقياس إلى القيمة التي يراها لحقيقة الإنسان وروحه ونفسه. فلو فرضنا أنّا أخذنا عددًا معيّنًا بالإضافة إلى اللانهاية، فإنّ حال هذا البدن أمام الروح كحال ذلك العدد أمام اللانهاية. لماذا؟ لأنّ هذا البدن عارية ومؤقّت، ولذلك سبب أيضًا، فهذا البدن الماديّ له مكان ومتحيّز، وهو موجود مرحليّ، معبَر، طريق، ووسيلة. مثل الثوب الذي تلبسه بالنسبة إلى بدنك، إذا أردت أن تقيّم هذا اللباس بالنسبة إلى البدن فلا قيمة له أصلاً، الثوب شيء يأخذه الإنسان ثمّ بعد سنة أو ستّة أشهر يندرس. أو يجعل قريبًا من النار فيحترق كلّه، أو يوضع جانبًا فيبلى. أصلاً لا يُهتمّ بذلك. هل حصل أن قارنت يومًا هذا الثوب الذي تلبسه بجسمك هذا وبجسدك؟ لا معنى لذلك أصلاً. طريقة المقارنة التي يهتمّ بها العالم المعاصر تعني إعطاء الأصالة والواقعيّة للمادة، والغفلة عن تلك الحقيقة الإنسانيّة، عند المقارنة مع الروح التي هي ذات حياة أبديّة، وتشرع حياتها بعد الموت ولا تصل إلى نهاية ما دام الله.
ووفق آيات القرآن {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض}۱، فإنّ هؤلاء الناس مخلّدون في النعم أو في النقم الإلهيّة إلى الأبد، فلن يأتي يوم لا نرى فيه ذواتنا، لن يأتي يوم لن ننظر فيه إلى ذواتنا، لن يأتي يوم لا يكون فيه أثر لوجودنا. فإذن يستحقّ عند المقارنة أن نصفه باللانهاية. والآن نحن نلتفت أنّ الفرق بين حكومة أنبياء الله وبين الحكومات الظاهريّة يختلف اختلاف اللانهاية عن الصفر أو ما تحت الصفر. فهذا هو الفارق بين هذين النوعين من الحكومات. وعلى أساس هاتين النظرتين توضع القوانين أيضًا.
الاكتفاء بعدم الاعتداء المادّي في الحكومات المعاصرة
فمثلاً في قوانين الحكومات المعاصرة يكفي عدم الاعتداء على حقوق الآخرين، عدم الاعتداء، بل حتّى عدم الاعتداء الجسدي، لا سائر أنواع الاعتداء غير الماديّة والتي يمكن أن لا يروا فيها مشكلة. ويعتمدون مختلف الطرق، فمثلاً بعض الملاحقات غير الصحيحة، بعض الطرق التي تؤدّي إلى هتك الاحترام وهتك حرمة إنسان ما، يهتكون حرمة إنسان لكي يراجعهم الناس، يهتكون حرمة إنسان لكي يصبح متاعهم أكثر رواجًا، يهتكون حرمات الناس لكي يصلوا إلى الرئاسة، يهتكون حرمة إنسان لكي يصلوا إلى شيء من متاع الدنيا، فمن حيث القوانين المعاصرة لا مكان لهذا الأمر. يكفي أن لا تحمل بيدك بندقيّة ولا ترمي بها الرصاص، فهذا ما يمنعونه، أمّا بعد ذلك فليكن ما يكون. فلتهتك أنت حرمته، وليهتك هو حرمتك أنتما أحرار. وما أقوله موجود واقعًا، فغايتهم القصوى وفق هذا الأسلوب من العمل هي أن يؤمّنوا على الحياة، وأن لا تكون هناك سرقة، فهناك بعض الدول الآن لا سرقة فيها، أي إنّ التعاطي الصحيح والمنطقيّ والثقافة الموجودة في ذلك المجتمع لا تسمح بوجود السرقة. فتأمين العمل لأبناء ذلك المجتمع، وتلبية الحاجات ومتابعتها والتنظيم والترتيب الدقيقين الموجودين في تلك المجتمعات ترفع بحمد الله السرقة. ونحن نأمل إن شاء الله أن يجعل ذلك من نصيب مجتمعنا فنرى في يوم من الأيّام أن لا سرقة في هذا المجتمع، والأمن متوفّر على الأرواح والأموال.
في حكومة الأنبياء العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في خدمة العدالة الأخلاقيّة
على كلّ حال فهذا الأمر موضع اهتمام المجتمعات المعاصرة، أمّا الأنبياء فإنّهم وإضافة إلى أنّهم يجعلون هذا الأمر أيضًا أساسًا لتشكيل النظام فيما يرتبط بالنظرة الماديّة، يستفيدون منه في النظر إلى الشقّ الآخر الذي هو أمر لا متناه. يعني أنّ العدالة الاجتماعيّة والعدالة الماليّة وصون الأرواح وتأمين الحياة، الحياة السليمة وفق هذا النحو المتعارف والمصطلح، هو مقدّمة لتأمين العدالة الأخلاقيّة والأمن الأخلاقيّ الذي هو هدف حكومة أنبياء الله، والغاية من ذلك الهدف هي تزكية النفوس.
معنى إثارة دفائن العقول في كلام أمير المؤمنين
ووفق الآيات القرآنيّة الشريفة وكلمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ونصّ عبارة أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حيث يقول إنّ النبيّ بعث فينا لأجل ارتقاء الروح، النبيّ هو لأجل تفتّح العقول: ليثيروا لهم دفائن العقول. ۱ انظروا إلى رقيّ هذه الجملة! وأنّ الأنبياء الذين جاؤوا إلى الناس لم يأتوا ليؤمّنوا الماء والخبز فحسب، جاؤوا ليظهروا تلك الاستعدادات التي نعبّر عنها نحن باللانهاية، ويعبّر عنها أمير المؤمنين بدفائن العقول، وليس المراد أن يأتوا إلينا بالمعارف من خارجنا، بل يجعلوننا ـ دقّقوا ـ يجعلوننا في مسير التربية السلوكيّة الصحيح، حتّى نصل إلى حقائقنا، لنصل إلى ما هو في بواطننا، حتّى لا نأتي بشيء من الخارج، ولا تفرض علينا المعارف من الخارج، من الخارج...
وبعبارة أخرى يريد أمير المؤمنين عليه السلام أن يقول: أيّها النّاس لا تتصوّروا أنّكم انفصلتم عن مسير الأنبياء، وأنّ طريقكم مختلف عن طريق أنبياء الله وأوليائه، وأنّ تركيبكم يختلف عن تركيبهم، وأنّ مسيركم ومآلكم يختلف عن مسيرهم ومآلهم، إنّ كلّ واحد منكم نبيّ ولكن لا تشعرون. إنّ كلّ واحد منكم وليّ لله ولكن لا تعلمون، إنّ كلّ واحد منكم رسول، وسينزل عليه جبرائيل الآن، سينزل الملَك، أنتم ستصلون إلى مكان تغدون فيه على ارتباط مع هؤلاء.
نحن في مقام لا يتأتّى لجبرائيل
لقد ذكرت قبل مدّة بعيدة أو بعبارات مختلفة هذه القصّة عن المرحوم الوالد رضوان الله عليه فقد كان يقول: في إحدى رحلاتي التي تشرّفت فيها بالزيارة، وفي إحدى الليالي كنت في الكاظميّة في منزل أحد الأصدقاء، وكان العديد من علماء الكاظميّة والنجف حضورًا في ذلك المجلس، وكان هناك عدد من مريدي السيّد الحدّاد، فيطرح أحدهم رواية ويجري الحديث حول كيفيّة معراج النبيّ وارتباطه مع جبرائيل وكيفيّة صعود جبرائيل ونزوله على قلب رسول الله وعلى قلوب أنبياء الله، وعالم الوحي، فتصوّروا أنّ عالم الوحي... ففي النهاية هذا الأمر يشرّع في نفوس الأنبياء من قبل جبرائيل، وهذه الأحكام تتنزّل فيهم، فكان بين العلماء حديث حول هذا الأمر، وكان لمريدي السيّد الحدّاد أيضًا مداخلات في ذلك. قال: ما إن غدا المجلس متحمّسًا وأخذ الحديث مجراه حول مقامات جبرائيل وكانوا يرتقون درجة درجة وهكذا، فجأة قال السيّد الحدّاد: إلى أين أنتم ماضون؟ إلى أين أنتم ماضون؟! فنحن في مقام لا يتأتّى لجبرائيل أصلاً حتّى أن يتخيّله. ما هذا الكلام الذي تقولونه؟! ـ لقد نفد صبره! ـ ماذا جرى؟! لقد حلّقتم بعيدًا اهبطوا وكونوا لنا جلساء. فلم يكن يقول هذا الكلام عبثًا! دائمًا لم يكن كلامه عبثًا! فما معنى هذا؟!
فبينما أنّ جبرائيل يرسل الوحي إلى أنبياء الله، نجد أنّ هذا الرجل الإلهيّ يقول: لماذا تتحدّثون عن جبرا ئيل؟ وبالطبع فإنّ جبرائيل ملك مقرّب من الله، رئيس وسيّد جميع ملائكة العلم، فالله تعالى لديه ملائكة مختلفون، فملَك للعلم، وملَك للزرق، وملَك للخلق، وملَك للإماتة، وملَك للإحياء، وملَك مصوّر، كلّ هؤلاء ملائكة من أصناف مختلفة وفي جماعات مختلفة. جبرائيل على رأس ملائكة العلم، فكلّ علم في هذه الدنيا حتّى من علومنا الماديّة، حتّى في هذه الومضات التي تومض، في هذه المنافذ، في هذه الأمور، ألا ترون أنّكم أحيانًا تفكّرون في أمر ما، وفجأة تنحلّ عندكم، لقد وقع هذا للجميع، فلتحتفظوا بها، ولتعلموا أنّ جبرائيل قد جاء وتصرّف لا أنتم. ألا ترون أنّكم أحيانًا تتوقّفون في مسألة علميّة معيّنة، تريدون أن تحلّوا مسألة رياضيّة، أو أيّ مسألة أخرى، مسألة علميّة فقهيّة فلسفيّة وسائر المسائل والتي هي أدقّ وأكثر أهميّة، فبمجرّد أن تتّضح عندكم اعلموا حينها أن جبرائيل قد جاء وتصرّف بتصرّف ما، عندها تمامًا في تلك اللحظة. غاية الأمر أنّ الاشتغال بالمسائل العلميّة كالمعارف الإلهيّة يحتاج إلى مزيد من الطاقة، أكثر بكثير من مسائل الجبر والمثلّثات مثلاً ومسائل الرياضيّات والتي هي مسائل عاديّة وماديّة. لماذا تلك أصعب؟ لأنّه كلّما كانت المسألة أكثر أهميّة وأدقّ كان جانب التجرّد والتقرّب فيها أكثر. ولها نصيب أوفر من حيث الحصّة الوجوديّة. فهذا واحد من الأمور المهمّة في نظام الخلقة وهو موضوع العلم، وهكذا سائر الأمور الأخرى، كالإماتة والإحياء وأمثالهما.
إنّ كلّ واحد منّا هو أعلى مقامًا من جبرائيل، لكلّ منّا مقام الإنسان الكامل.
يقول أمير المؤمنين: لقد أودعت دفائن العقول هذه في كلّ واحد منكم، غاية الأمر أنّكم تارة تفكّرون بطريقة ماديّة فتنحصرون في هذه الدنيا. وتارة تجعلون تفكيركم واقعيًّا، وتخوضون في ذلك البعد من المسألة، تلتفتون إلى أنفسكم، فحينها علينا أن لا نضيّع ثانية واحدة. هل التفتّم؟ إذا اتّضحت هذه المسألة لن يمكننا بعدها أن نهدأ. هناك إذا التفتنا إلى الطاقة اللامتناهية التي نخسرها وبماذا نشغل أنفسنا نحن ـ وبالطبع ما أقوله لكم ثابت كلّه بالمشاهدة والوجدان ـ لا فقط أن نطرح أمرًا ما مخالفًا لهم كما يصنع أتباع المذهب المثالي، ويمكن أن لا يتطابق هذا الأمر مع الواقع ومع الواقعيّة. كلاّ ففي المدرسة الإلهيّة المذهب الواقعي هو المطروح في مقابل المذهب المادّي، وليس فقط المذهب المثالي الذي يكتفي ببعض النظريّات التي لا يعلم ما إن كانت تتحقّق في الخارج أم لا؟ لم يعطنا هؤلاء تصوّرات وتخيّلات ذهنيّة. لقد بيّن لنا القائلون بأصالة الواقع وأصالة الروح مسائل واقعيّة. فهذا الأمر مهمّ جدًّا.
بناء على ذلك فإنّ النقطة المهمّة في نظام الحكم لدى الأنبياء هي عبارة عن الاهتمام بهذه الأمور، بأصالة المعنى وأصالة الواقع، فهذا ما ينبغي أن يهتمّ به في نظام الحكم الإسلاميّ. فهذا أمر.
الديمقراطيّة المطروحة في العصر الحاضر ماديّة محضة
المطروح اليوم حول الديمقراطيّة هو تعريف ماديّ، أي أن لا يؤذي أحد أحدًا، وتكون ظروف العيش مهيّأة للجميع، وبالطبع هذا جيّد، ضمن هذه المرتبة ممتاز جدًّا ولا إشكال فيه. ولكنّ الكلام هو أنّ هذه الحدود وهذا التعريف الذي يراه القائلون بالديمراطيّة والحريّة بما هي حريّة تامّة في الحياة الدنيا، تتعارض مع تلك الديمقراطيّة والحريّة والاختيار في نظام الحكم عند الأنبياء. فتلك الديمقراطيّة والحريّة والاختيار ترجع كلّها إلى عنوان الحريّة المصطلح عليه. أي أن يكون الإنسان من الناحية الماديّة والظاهريّة في حال يخوّله أن يتابع عمله، ولا يتعدّى على أحد، ولا يسدّ طريق أحد، لا يأخذ حقّ أحد، ولا يسبّب أذيّة للآخرين. فهذا ما يجعل إنسانًا متحضّرًا ومنطقيًّا في النظام الديمقراطيّ. فمثلاً تخرج امرأة من هذا المنزل بأيّ نحو كانت ولو عارية وبدون أيّ ساتر، تخرج من المنزل ولا تتعدّى على أحد، لا تسدّ طريق أحد، تركب سيّارتها وتمضي إلى عملها، وتمشي في الشارع، ثمّ تأتي إلى المنزل. تذهب إلى الدكّان فتشتري شيئًا ثمّ ترجع إلى المنزل، فمن وجهة نظر النظام الديمقراطيّ الراهن فإنّ هذه المرأة تعتبر مثالية ومتمدّنة ومثقّفة. لماذا؟ لأنّها لا تؤذي أحدًا.
أو يخرج رجل مثلاً من المنزل، لا يغلق الطريق على أحد، لا يعتدي على أحد، لا يسبّ أحدًا، لا يشتم أحدًا، ولكن بأيّ شكل أراد أن يخرج حتّى عريانًا فليخرج، لا إشكال في ذلك. هو أعلم بنفسه، لا نحن نحاسب عنه ولا هو يحاسب عنّا، فهذا أمر رائع ويتحوّل البلد إلى روضة غنّاء. فهذا في شأنه وذاك في شأنه. فهذا النظام من وجهة نظر ساذجة وظاهريّة مقبول لدى المجتمعات الغربيّة والقائلين بالماديّة، ولكن علينا أن نرى ما هو الذي نُسي هنا؟ وما هو الأساس الذي جعل نسيًا منسيًّا؟ هل يمكن في هكذا نظام أن يبلغ جميع أفراد المجتمع من كلّ مستوى ومن كلّ مرتبة ثقافيّة إلى غاياتهم؟ بالالتفات إلى أنّ الله تعالى جعل في الإنسان غرائز وصفات إذا لم تخضع لسيطرة وضبط القوّة العاقلة والغرائز المنطقيّة للنفس فربّما أدّت إلى حدوث مفاسد. فكيف يمكن لنا أن نحقّق الأمن الأخلاقيّ المتوقّع في المجتمع بحيث يستطيع كلّ إنسان في ظلّ ذلك الأمن الأخلاقيّ أن يصل إلى مراتبه الكماليّة؟ في العصر الراهن تطرح هذه القضيّة بقوّة على طاولة البحث. وخصوصًا في هذا العقد الأخير أو العقدين الأخيرين، وخصوصًا في هذه السنوات الأخيرة. وبحمد لله فإنّ كثيرًا من المفكّرين والمعتقدين بهذا الأمر وبالأيديولوجيا يعترفون من حيث لا يشعرون وبالكناية والإشارة وربّما بالتصريح ـ فكثير منهم يصرّحون أيضًا ـ بنقطة الضعف الكبيرة هذه في الحكومات الغربيّة وأنّا لم نقدّم للإنسان إلاّ الرفاهية الماديّة ـ انظروا ـ نحن لم نؤمّن للإنسان إلا حياة عاديّة، أمّا ذاك الجانب وذاك البعد فهو منسيّ. وهذا هو الذي يقود المجتمع شاء أم أبى إلى الاضمحلال والفساد. فلا يمكن أن يتخلّى الإنسان عن كلّ قيد وقانون.
أذكر أنّه بعد الحرب العالميّة الثانية راجت مسألة الحريّة هذه بين الدول كثيرًا، كان يروَّج لها في هيئة الأمم المتّحدة أيضًا بشدّة، ومن هنا تعرّضت كثير من أحكام الإسلام لهجوم، ففي إحدى الدول ويبدو أنّها السويد أو سويسرا عندي شكّ في ذلك، رفعوا القيود والحدود لتحقيق الحريّة للنّاس. أي أنّ البرلمان صوّت، أي بالقوّة لا بدّ أن يكون الناس بلا قيد وشرط. يجب أن يكون كلّ إنسان حرًّا. وقد بلغ الأمر إلى حال لم يستطع معه هذا القانون أن يستمرّ أكثر من ستّ ساعات، ثمّ استدعى الأمر أن يتدخّل الجيش ليحلّ المشكلة. واقرأ بنفسك الحديث مفصّلاً من هذا المجمل، وإلى أين وصلت الأمور حتّى قالوا على الفور: كلاّ! كلاّ! كلا!
انظروا فالناس هم هكذا. للأسف فليس جميع أفراد المجتمع عقلاء ومجرّبون وناضجون، في المجتمع شباب قليلو التأمّل وقليلو التجربة، في المجتمع الكثير من الأفراد بغير فهم وتربية. كثير من أفراد المجتمع لا أباليّون، يُرى كثيرًا في المجتمع أفراد لا يتقيّدون بأيّ قانون. فإذا أردنا أن نعرّف الديمقراطيّة بأنّ كلّ إنسان تحت ظلّها يجب أن ينعم بالحريّة، ففي صالح من ستكون هذه الديمقراطيّة؟ ستكون في صالح شرذمة من المتفلّتين عديمي الفهم والثقافة والحضارة يريدون أن يخرجوا كما يشاؤون، يريدون أن يكونوا أمام الناس بأيّ شكل من الأشكال، يريدون أن يخرجوا إلى المجتمع كيفما كان. حينها ماذا سيكون تكليفي وتكليفك كإنسان مسلم يريد أن يستفيد من أجواء المجتمع، أن يتحرّك في هذا المجتمع، أن يسير في شوارع هذا المجتمع، أن يأتي بزوجته وأطفاله إلى هذه الشوارع، ماذا سيكون التكليف؟! عليهم أن يقبعوا في زاوية البيت إلى الأبد ويغلقوا الباب أمام الجميع. فهل هذا صحيح؟! فهذا الأمر قد سقط من تعريف الديمقراطيّة الراهنة. أي إنّ تأمين الأمن الأخلاقيّ والذي هو أساس مهمّ لتأمين تربية الناس وإيصالهم إلى الكمال [قد أهمل].
العلامة الطهراني: إيران قبل الثورة باريس
يقول المرحوم العلاّمة: في العهد السابق عهد الشاه لم تكن إيران إيران، لقد كانت إيران باريس. لقد كان يردّدها مرارًا: إيران هذه ليست إيران، ليست إيران الإسلام، إيران ليست لديها حكومة إسلاميّة، لها ظاهر من الإسلام، فهذا الظاهر محترم من باب أنّها حكومة مسلمة شيعيّة، ولكن لم يكن فيها من الإسلام إلا اسم، ولم يكن فيها من التشيّع إلى أنّهم كانوا يذكرون اسم أمير المؤمنين في الأذان، وفي المواقع الأخرى. حسنًا، ولكن مع غضّ النظر عن ذلك أين كان في إيران شيء بعنوان نظام إسلاميّ؟ لم يكن الإنسان يتمكّن من الخروج من منزله، لم يكن يتمكّن الإنسان من السير في الشوارع. لم يكن بإمكان الإنسان أن يذهب إلى أيّ مكان. نعم الإنسان اللاأباليّ الذي لا يهتمّ أين تقع عينه وأين ينظر كان بإمكانه. أتذكرون في العهد السابق كيف كان الكثيرون منهم يلفتون أنظار الناس بأشكالهم في كافّة دور السينما، فكيف يتمكّن من العيش في مثل هذا المجتمع من يريد أن يريّي ابنه لا كما عليه المجتمع بل كإنسان يريد أن يطوي مراتب التهذيب والكمال فيه؟! لم يكن من منزلنا إلى مسجد القائم سوى مسافة سبع أو ثمان دقائق سيرًا على الأقدام، من المنزل إلى المسجد، وقد كان فيه اثنا عشر متجرًا لبيع الخمور. سبعة دقائق في الطريق في نصفها وما يقارب كلّ أربعين ثانية كنّا نلتقي بواحد من هذه الموارد. وبالطبع فقد كان بعضهم يأتون ويبدون احترامهم، ويسلّمون. من هؤلاء المسيحيّين وأمثالهم الذين كانوا كثيرين في تلك المنطقة، ومع ذلك كانوا ينظرون إلينا بعين الاحترام إنصافًا، نعم موقعيّة المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه وهيأته كانت تجعلهم يخضعون له، بحيث كنّا نشاهد في سلوكهم تغييرًا بعد مدّة. وبعد أن تشرّف المرحوم العلاّمة بالسكن في مشهد كانوا يبدون التأسّف. وأحيانًا عندما كانوا يلتقون بنا في طهران كانوا يبكون أيضًا لافتقاد هذا الرجل الكبير. فكيفيّة تعاطيه كانت بطريقة تجعل الجميع يتأثّرون به. عندما كان يمشي نحو المسجد كانوا يخرجون من متاجرهم ويتركون أعمالهم ويظهرون احترامهم. أحد أصحاب متاجر الخمر عندما كان يراه كان يأتي خارجًا ويسلّم عليه، وكان هو يشير له برأسه ويجيبه ثمّ يتابع طريقه. ففي النهاية هؤلاء كانوا في عالمهم الخاص، والله يعلم.
على كلّ حال، لقد كان الوضع في العهد السابق هكذا، وضع متاجر الخمر، ووضع دور السينما، ووضع مراكز اللهو الفاسدة، فهل هذه المراكز تنسجم مع الديمقراطيّة التي عرّفت؟ نعم لا إشكال فيها. يقولون: المسجد له مكانه، ومراكز اللهو الأخرى لها مكانها، جماعة اختاروا هذه وجماعة ذاك، هؤلاء إلى هنا، وهؤلاء إلى هناك، ولكنّ الكلام هو في أنّ المجتمع ليس فقط لهؤلاء. المراد من المجتمع هو [الذي يمكن أن يُتكامل فيه] من وجهة نظر عقليّة، ولا كلام لنا الآن في الجانب الديني، فمن وجهة نظر عقليّة إذا أراد إنسان في المجتمع أن يتكامل فهل يمكنه ذلك في مجتمع كهذا؟! هل يمكن ذلك مع آلاف الأمراض والمشكلات العصبيّة والأمور والمفاسد التي كانت لدى الجميع حينها، أم لا بدّ من مواجهة آلاف المشكلات؟!
الديمقراطيّة بمعناها الحقيقيّ عند الأنبياء: الأمن الأخلاقيّ للجميع
فلذلك وبالالتفات إلى هذا الأمر، إنّ ما عمل لأجله الأنبياء وجعلوه محورًا هو الديمقراطيّة بالمعنى الحقيقي للكلمة. أي الديمقراطيّة والحريّة التي يمكن أن تؤمِّن جميع أبناء المجتمع من وجهة نظر عقلانيّة ومن وجهة نظر منطقيّة. فلو فرضنا أنّا أردنا أن نعطي تلك الحريّة للمجتمع بأن يسير بتلك الطريقة، مع وجود تلك الضمائر البريئة والشباب الطاهر، وتلك النفوس المستعدّة للكمال والتي لا يمكنها السير بواسطة هذا النحو الخاطئ والمجازي من الأزياء، فسيكون هذا خيانة في حقّهم وظلمًا.
فلا بدّ إذن من تأمين الأمن الأخلاقيّ في نظام الحكم الإسلاميّ كواحد من الأسس المهمّة بل هو أهمّها، وهو نظام الديمقراطيّة الواقعيّة والحريّة الواقعيّة، الحريّة التي محورها التوحيد، حيث يتمكّن كلّ إنسان من التكامل. وبالطبع فإنّ لتحقيق الأمن الأخلاقي فروع كثيرة وأنا أخاف أن أدخل في هذا الأمر، فسأقتصر على بيانه الإجمالي، حتّى لا يطول الكلام ونقصّر عن المسائل الأخرى.
فروع الأمن الأخلاقي
فلتحقيق الأمن الأخلاقي فروع كثيرة إن شاء الله يتناولها الرفاق والأصدقاء بأنفسهم بالتأمّل والمطالعة.
حريّة التعبير وحدودها
من هذه الفروع حريّة التعبير. لكلّ إنسان في الحكومة الإسلاميّة أن يبيّن آراءه بكلّ حريّة، لا الآراء المخالفة لأصل وأصول نظام الحكم في الإسلام. كلاّ، فتارة يأتي إنسان ويقول: يجب أن يعود هذا النظام إلى النظام اليهوديّ. فهذا لا دليل عليه، هذا مخالف للقاعدة. وتارة يقول دعونا نجعل هذا النظام شيوعيًّا، كلاّ فهذا عبث ولا مكان لأمور كهذه. وتارة نريد مثلاً أن نهدم أصل هذا الكيان، فمثلاً افترضوا أنّ المجلس يريد أن يسنّ قانونًا يجعل فيه إيران تحت سيطرة دولة خارجيّة. فهذا لا معنى له، فهذا يتنافى مع أصل وجود واستقلال الدولة. أو يتنافى مع الاستقلال العقائدي للدولة. كلاّ، في نظام الحكومة الإسلاميّة التي قبل فيها الإسلام كمحور وكأساس ما المشكلة في أن يطرح الناس آراءهم كمصلحين في ضمن حدود هذا الإطار؟ كأن يقولوا مثلاً هذا القانون فيه هذه المشكلة، هناك في ذاك القانون تلك المشكلة.
حريّة التعبير في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام
وقد كنّا نرى ذلك في عهد أمير المؤمنين عليه السلام حيث كانوا يأتون بكلّ حريّة ويعترضون على الأحداث التي كانت كثيرة في زمانه عليه السلام. إمّا كانوا يأتون إلى المنزل أو إلى المسجد. جاء المغيرة بن شعبة إلى أمير المؤمنين ذات يوم وقال: يا عليّ إنّ السبيل الذي سلكته لخاطئ عندي. لماذا تعلن الحرب على معاوية؟ هذا عمل خاطئ عليك أن تصالح معاوية الآن. فإذا استقرّت حكومتك وقبلك الناس خليفة، حينها اعزل معاوية إن شئت، كلّهم يرضون بذلك منك. الآن حكومتك حديثة عهد. ومعاوية مستقرّ هناك منذ حكومة عمر، وأنت تريد أن تحاربهم؟! ستراق الدماء. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا لا يمكنني أن أرى هذا الرجل على رأس السلطة يومًا واحدًا. لا أتحمّله، لا أستطيع يومًا واحدًا أن أرى هذا الشخص المعكوس صاحب حكومة على أعراض الناس وأموالهم. هذا لا يمكن أن أراه. ذهب المغيرة. وفي اليوم التالي رجع وقال: يا عليّ لقد فكّرت في كلامك، رأيت أنّ الحقّ معك. قال له الإمام: كنت بالأمس صادقًا وأنت اليوم كاذب. لقد جئت بالأمس ناصحًا وجئت اليوم غاشًّا متملّقًا.۱ فاليوم كذب.
كانوا يأتون ويبيّنون، كان أمير المؤمنين يقوم بعمل ما فيأتون أمام الناس ويطالبونه، حتّى النساء، حتّى النساء كنّ يقاضينه من وراء ستار، أن أخطأت يا عليّ في عملك ذاك. فكان أمير المؤمنين يقول يا للهول لقد كان الرجال خصمائي والآن عليّ أن أجيب النساء! (ضحك). كان يجيب ويقول إنّ الأمر كان على نحو آخر خلاف تصوّركم. لذلك لم يكن أحد من الناس يشعر في نفسه بالخوف من حكومة أمير المؤمنين وعدم سعة صدرها أن لا سمح الله لو قلت هذا لألقيت في السجن، لا سمح الله لو قلت هذا لقضي عليّ، لا سمح الله لو قلت هذا لحصل كذا...كلاّ بل كان الجميع أحرارًا، لذلك كانوا يشعرون أنّ الحكومة هي لهم. والمهمّ هنا، لأنّ أمير المؤمنين في المقابل كان قد بسط الأمور أمامهم، أتاح لهم المائدة، كان قد أفسح لهم المجال ليعبّروا عن آرائهم، لم يقل لهم أبدًا أنا إمامكم وعليكم أن تطيعوني مهما أمرتكم، وإلاّ ضربتكم بهذا السوط. أنا إمامكم عليكم أن تطيعوا كلامي ولا تطرحوا آراءكم، وإلا ألقيت بكم في السجن. لم يكن في حكومة أمير المؤمنين أيّ شيء من ذلك، أبدًا وأبدًا. كان أمير المؤمنين يخوض حربًا، فيسألونه: لماذا حاربت؟ فكان يأتي بالدليل بكلّ وضوح. كان أمير المؤمنين يصالح.
ـ لماذا صالحت يا عليّ؟
فكان يأتي بالدليل ويقنع الناس. فالخوارج الذين كانوا اثني عشر ألفًا متعاقدين على إبادة حكومة أمير المؤمنين ومعاوية، عندما حاورهم أمير المؤمنين عندما مضى إلى النهروان أن لماذا أتيتم؟ لماذا تتعرّضون لأرواح المسلمين وأموالهم وأعراضهم؟ لماذا تقاتلون الخلافة والحكومة؟ لماذا في النهاية؟ قالوا: يا عليّ لقد أخطأت في صلحك. لقد خالفت كتاب الله! فقال الإمام: ألم أقل لكم أنتم أنفسكم عندما رفعوا المصاحف على الرماح: ارموا بالسهام فرفعتم السيف فوق رأسي وقلتم لئن لم يرجع مالك الآن لهوينا بهذا السيف على رأسك؟! ألم تكونوا أنتم من فعل ذلك؟! فطأطؤوا رؤوسهم وتراجع ثمانية آلاف من الاثني عشر ألفًا.۱ فقد كان الإمام يتحدّث ويجعلهم يتراجعون، ولم يكن يرفع عليهم السوط، لم يكن يضربهم، لم يكن يرفع السوط.
ـ لماذا صالحت يا عليّ؟!
ـ لهذا السبب.
ـ لماذا قاتلت يا عليّ؟
ـ لهذا السبب.
في أيّ من تلك الموارد يجب أن لا يكون هناك حقّ في الكلام، حقّ في التعبير، هل كان لدى أمير المؤمنين أمر كهذا؟ تلك الحكومة كانت حكومة إلهيّة.
الانتخاب والاختيار ضمن حدود النظام الإسلاميّ هو حقّ لجميع الناس في الحكومة الإلهيّة، فكلّ من جعل الله في رأسه عقلاً، كلّ من حاز أدنى نصيب من الفهم والإدراك والشعور، ابتداء من الأطفال أبناء السنوات السبع حيث كانوا يأتون قرب عليّ ويعترضون ولدينا في التاريخ لدينا، إلى أبناء السبعين والثمانين. وفي زمان النبيّ كان الأمر كذلك أيضًا. لماذا؟ لأنّ نظرة الرجل الإلهيّ تختلف عن نظرتنا نحن. الرجل الإلهيّ ينظر إلى الناس كعباد لله وأحرار ولا ينظر إلى صفاتهم وأنّه هل هذا الذي يتحدّث معه الآن معمّم أم لا؟ ففي البداية لا بدّ أن نعرف تكليفنا معه، هل هو ملتح أم لا؟ لكي يتّضح تكليفنا. هل هذا الرجل الذي يتكلّم هو ابن خمسة عشر سنة أو سبعين سنة، هل هو ابن سبع سنين أم تسعين سنة؟ هل المتكلّم امرأة أم رجل؟ هل هو مريض أم صحيح؟ لا وجود لهذا الكلام في نظام الحكومة الإسلاميّة. في نظام الحكومة الإنسانيّة المهمّ هو الإنسان بما هو إنسان، وفي جميع المواقع، فكما يحترم كلام إنسان ما لمزاياه العلميّة والاجتماعيّة، كذلك يحترم كلام ذاك أيضًا. فربّما كان لديه كلام ما، ربّما كان لديه فكرة، فمبدأ الحريّة هذا هو واحد من فروع الأمن الأخلاقيّ في نظام حكومة الأنبياء. وهذا المبدأ مهمّ إلى جانب المبادئ الأخرى في هذا المجال.
من فروع الأمن الأخلاقي: مادّة وسائل الإعلام في الحكومة الإسلاميّة
ومن الأمور المهمّة هنا ـ والأمور كثيرة ـ وسائل الإعلام في الحكومة، فسأتحدّث عن هذا المورد وإن شاء الله في الأسبوع القادم أعتقد أنّا سنترك بحث التدبير السياسي، وسنصل إلى سائر الأمور التي على الإنسان أن يهتمّ بتدبيرها.
فمن الأمور المهمّة الشأن الإعلاميّ. ووظيفة الدولة والحكومة الإسلاميّة في هذا الشأن هي أن تتيح ما يحقّق الرقيّ الروحي للناس. فالكتب التي تنتشر في البلاد يجب أن تكون في سبيل ترقّي الإنسان لا انحطاطه. علينا أن لا نقول: بعض الناس يريدون هذا. إن كانوا يريدونه فليذهبوا هم بأنفسهم وليهيّئوه، والإعلانات التي تطرح في الملأ العامّ في منظومة حكومة الأنبياء والإسلام يجب أن تكون سببًا لارتقاء الروح، وتدعو إلى تنمية العلم، فيجب أن تنشر العلوم في المنظومة الإعلاميّة، وينبغي الابتعاد عن كلّ ما يسبب التشويش وإتلاف الأعصاب والاختلال في نظام الحياة.
حاصل الكلام في التدبير السياسيّ والاجتماعيّ
الكلام كثير، وقد كان كلامنا اليوم حول أنّ ما يشكّل محور النظام الإسلاميّ هو موضوع التوحيد. وسأحاول تلخيص الموضوع، فكلّ ما طرح سابقًا من خصوصيّات السياسة، سياسة المدن وتدبير الحكومة وفروع ذلك من مسألة الشورى والحريّة والأمن الأخلاقيّ والاقتصاديّ والعدالة الاجتماعيّة، ما يشكّل محور كلّ هذه الأمور هو عبارة عن التوحيد. يعني إثبات الله ونفي ما سواه، نفيي أنا وأنت. أنا قمت بهذا العمل فيجب أن أكون أنا، أنت قمت بذاك العمل فيجب أن تكون أنت. أنت لم تقم بهذا العمل فيجب أن لا تكون، وأنا قمت به فيجب أن أكون. لا موضع لهذا في نظام الحكومة الإسلاميّة. المحور والنظام هو فقط وفقط على أساس القابليّة والقدرة المناسبة وعلى أساس العقل والمنطق وعلى أساس التوحيد. هذا هو المهمّ. وكلّ ما نصنعه على هذا الأساس فهو جيّد. فلا بدّ من الاهتمام بكلّ ما هناك من قيم وحقائق في هذا المجال قدر المستطاع.
نأمل أن يوفّق الله تعالى المجتمع الإسلاميّ لبلوغ هذه المرتبة إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد