75

العقل النظريّ والعمليّ

مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

2692
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتدبير والأسرة


التوضيح

في هذه المحاضرة التي عقدها آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للحديث عن ملاك تفضيل الرجال على النساء في الآيات والروايات، تعرّض سماحته بدايةً لنقد الرأي القائل إنّ هذا الملاك هو القوّة الجسميّة، ثمّ استعرض الملاك الوارد في الروايات بخصوص هذه المسألة؛ وهو العقل، فقسّمه إلى عقل نظريّ وعمليّ مبيّنًا المراد الحقيقيّ من كلّ واحد منهما، ثمّ تحدّث عن دور العقل العمليّ في دائرة الأمور الاجتماعيّة، مستعرضًا بعض النماذج على خطورة التخبّط فيه؛ هذا، وتكلّم سماحته في ضمن هذه الأبحاث عن مسائل وقضايا مفيدة أخرى.
/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • العقل النظريّ والعمليّ: مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۷٥

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‌

  • بسم الله الرحمن الرحيم‌

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد

  • وعلى آله الطيّبين الطّاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين‌

  •  

  •  

  • اقتصار وظيفة الإنسان على البلاغ والدين له صاحب

  • بالنظر إلى المسائل التي ذكرناها بنحو إجماليّ في الجلسات السابقة عن كيفيّة طاعة المرأة لزوجها في النصوص الإسلاميّة، تبيّن لنا إلى حدّ ما أنّ هناك آراء مختلفة في هذا المجال؛ فمن جهة، نرى أنّ الثقافة السائدة في العالم المعاصر، وكذلك القوانين المدوّنة بخصوص هذا الموضوع ـ والتي تترشّح من الأفكار الإنسانيّة وتدخّل الأذواق البشريّة ـ تتعارض مع ما هو مطروح في النصوص والعبارات الإسلاميّة الصريحة؛ وهذا لا يُثير الكثير من التعجّب؛ لأنّنا نعتبر أنّ القوانين الإسلاميّة "ما فوق بشريّة"، وتنبع من الوحي، بينما تصدر القوانين المدوّنة في النظم القانونيّة السائدة في العالم من الأفكار والأذواق المختلفة، حيث من الواضح جدًّا أنّه إذا غضضنا النظر عن الجانب الروحيّ والمعنويّ الموجود في نظام الخلقة والتربية، فإنّه لا يُمكن لأيّ أحد في هذا العالم تجاهل مصالحه ومنافعه في القضايا المختلفة، وفي تدوينه للقوانين. فإذا أمعنّا النظر، فإنّنا سنجد أنّ القوانين والمسائل المدوّنة والمصادق عليها في كلّ مؤسّسة أو مجمع تُساق في اتّجاه الرغبات الشخصيّة أكثر من كونها تُساق في اتّجاه الحقائق والمصالح العامّة؛ اللهمّ إلاّ أن يتمكّن الإنسان بواسطة همّته واهتمامه ومراقبته، وبفضل التأييد الإلهيّ من الدفع بالمسألة في اتّجاه آخر؛ وهذه مسألة واضحة، وسائدة هنا وفي كلّ مكان وزمان، وليست مدعاة للتعجّب.

  • وذكرنا أيضًا بشكل مقتضب أنّنا وللأسف نضع أنفسنا خطأً ـ ولأسباب متعدّدة ـ في مكان وليّ الدين والشرع؛ أي أنّ تصوّرنا وتصوّر القائمين على الشؤون الدينيّة مبتنٍ على أنّنا نتحمّل مسؤوليّة الدفاع عن القوانين والأحكام الإلهيّة بأيّ نحو كان، وبأيّة طريقة كانت، وبأيّ تبرير كان؛ وذلك أمام الاعتراضات والأذواق المختلفة، وأمام إعجاب الناس أو عدم إعجابهم؛ في حين أنّ الأمر ليس بهذا النحو؛ إذ إنّ مهمّتنا تتمثّل في بيان المسائل، وإبلاغ الأحكام بمقدار استعدادنا وقدرتنا، بينما تكمن مهمّة القيّم على الشريعة وصاحبها في هذا العصر.. حضرة بقيّة الله عجّل الله تعالى فرجه الشريف وأرواحنا لتراب مقدمه الفداء في الحفاظ عليها وصيانتها وتدبيرها بنحوٍ لا دخل لنا فيه أبدًا، بل هو الذي يعلم المصلحة في كلّ ذلك؛ لأنّنا لسنا هم أصحاب الدين، ولا أصحاب الشريعة، بل صاحب الشريعة شخص آخر، وهو القيّم عليها، والأعلم بالأمور، من دون أن يكون لنا نحن أيّ دخل في ذلك؛ فهو يقول لنا: أدّوا تكاليفكم، وارحلوا؛ والمسألة تنتهي عند هذا الحدّ، ولا يوجد وراءها شيء آخر؛ فلا تُقصّر في أداء مهمّتك، ولا نُريد منك شيئًا آخر؛ فهذا الذي أذكره لكم عبارة عن لسان حال الإمام عليه السلام: فاذهب وأدّ ذلك المقدار من المسؤوليّة التي تتحمّلها، ولا داعي للتطفّل؛ ولا يخفى أنّ هذا الكلام منّي أنا وليس منه، فلا علاقة لي ـ أنا وأمثالي ـ ببقيّة الأمور؛ لكنّنا تصّورنا المسألة بنحو خاطيء، ووضعنا أنفسنا في مكان الإمام، والإمام في مكاننا؛ معتقدين أنّنا المسؤولون عن تطبيق كلّ ما شُرّع في الأحكام الدينيّة والقوانين الإلهيّة، والقيّمين والأوصياء على ذلك، بحيث يتوجّب علينا بيان هذه المسائل للناس بشكل يُثير إعجابهم وسرورهم؛ لكن، إن لم يُعجبهم، ماذا نفعل؟! وإن لم يقبل ذلك أحد، فما العمل؟!

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

3
  • لقد كان الأمر بهذا النحو أيضًا في زمان رسول الله، حيث نجد الباري تعالى يُخاطب نبيّه قائلاً: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ﴾۱؛ أي أنّ مهمّتك تقتصر على إبلاغ المسائل للناس؛ وحينئذ، سيُعجب ذلك أحدهم، ولا يُعجب آخر، ويقبل به أحدهم، ولا يقبل به آخر؛ فمع أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أتى بالعديد من المعاجز، كاليد البيضاء، وإنطاق الشجر والحجر والحصى، وشقّ القمر نصفين، وإحياء الموتى، بحيث لا يُمكن تصوّر ما هو أعلى من ذلك، فإنّ الناس قالوا عنه إنّه ساحر وأمثال ذلك؛ وفي هذه الحالة، ماذا على الإنسان أن يفعل حتّى يُفهِم هؤلاء؟! فهنا، إذا لم يرغب أحد في الإذعان، فهو حرّ، فلماذا على الإنسان أن يُتعب نفسه مع أفراد من هذا القبيل؟

  • إنّ كلام الله تعالى ورسوله والقرآن الكريم موجّه للذين يسعون إلى فهم الحقائق، وليس للذين همّهم الإنكار، والتذمّر، والتهرّب من المسؤوليّة، والاعتراض بأيّ نحوٍ كان، حتّى يتسنّى لهم العيش براحة، وتزيين أنفسهم بأيّة طريقة كانت؛ فباعتقاد هؤلاء، فإنّ الحاكم على الحياة هي قوانين الغابة؛ ونحن لا كلام لنا معهم، بل كلامنا مع الذين يُريدون العيش بعقلانيّة، ويسعون لفهم الحقائق، ويعمدون إلى دراسة الأمور من وجهة نظرهم، والارتقاء بأنفسهم إلى ذلك الكمال؛ فكلّ من يُريد ذلك، فليتقدّم على بركة الله؛ فهذا هو المحور الذي ينبغي أن تدور حوله الأمور؛ لكن، لا يُمكن القبول أبدًا بأن نأتي، ونشذّب أغصان شجرة الدين، بسبب مسألة معيّنة، ولأجل اجتذاب ثلّة من الناس، وبهدف المحافظة على مكانتنا الشخصيّة؛ ونحذف ذلك المقدار الذي لا ينسجم مع الأفكار العاميّة، ونتراجع ـ جهلاً ـ عن المباديء لصالح هؤلاء، مهما بلغ بنا الأمر.

  • مسؤوليّة الإنسان محدودة بدائرة وسعه وإدراكه

  • فما الضير فيما يخصّ بعض المسائل ...؟ أ من المفروض أن نعلم نحن بكلّ شيء؟ أ ومن المقرّر أن يتمكّن الإنسان من فكّ جميع الرموز؟ سنسعى إن شاء الله تعالى في الأبحاث اللاحقة التي سنعقدها في هذا المجال لدراسة هذه المسألة بنحو كلّي، وبغضّ النظر عن رأي الشرع؛ أي من دون أن نلحظ هنا الدين والروايات والنصوص التي وردت بشأن هذه المسألة، بحيث ندرسها خارج هذا المحيط، لكي نرى بعد ذلك ما الذي قيل بخصوصها؛ فهي مسألة في الأساس لا ترتبط بالدين. لكن، بغضّ النظر عن هذه المسألة، هل من المفروض أن نعلم بكلّ شيء، ونفكّ أسرار ورموز كافّة الأشياء؟ فمن الذي يعلم علّة كون عدد ركعات الصبح إثنتين، والظهر أربعة؟ ومن الذي يعرف لماذا جعل الله تعالى إرث الزوجة الثمن إذا كان للميّت ورثة وأبناء، والربع إذا لم يكن له ورثة وأبناء؟ ولماذا لم يقل السدس والنصف؟ فنحن لدينا العديد من هذه التساؤلات، والآلاف من أمثال هذه الأسئلة عن الأحكام الشرعيّة، وليس من وظيفة العبد التوصّل إلى معرفتها؛ وهذا نظير ما يحصل أيضًا على مستوى الأمور الدنيويّة والبثّ فيها وتسييرها، حيث نجد في النظم الإداريّة أحدهم مسؤولاً عن عمل معيّن، وآخر مسؤولاً عن عمل آخر، فيُقال: عليك أن تقف أنت بالباب، وأنت عليك أن تقوم بالعمل الكذائيّ، وليبدأ العمل في الساعة الفلانيّة، وينته في الساعة العلاّنية؛ فيضعون على هذا الأساس مجموعة من القوانين، حتّى تدور عجلة هذه النظم الإداريّة؛ وحينئذ، لو قال أحد [الموظّفين]: «لماذا لا تضعوني بدلاً عن فلان؟ ولماذا تأمرونني بالأوامر الكذائيّة؟»، لما استقرّ حجر على حجر، ولاختلّ كلّ النظام.

    1. سورة الشورى، الآية ٤۸.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

4
  • فكم هو جميل ـ وقد تحدّثت عن هذه المسألة آنفًا على ما يبدو ـ ألاّ يخرج كلامنا عن حدود فهمنا ووسعنا؛ رحمة الله تعالى على أحد الأطبّاء الذين كنت أرجع إليهم سابقًا؛ وهو الدكتور مهدي آذر، والذي كان من المتخصّصين الأكفاء في الأمراض الباطنيّة بطهران، فقد كانت له عادة وسيرة حسنة تتمثّل في أنّه متى لم يستطع تشخيص المرض، فإنّه يقول: «أيّها السيّد، أنا لا أعلم»؛ فلم يكن يلجأ إلى التلاعب بالمريض إلى هذا الحدّ؛ هذا، مع أنّه يوجد العديد من الأطبّاء الذين لا يتمكّنون من التشخيص؛ ففي سفري الأخير إلى مشهد، أصبت بالمرض والحمّى، فقال البعض: إنّها حمّى ألمانيّة، وآخرون: إنّها أفغانيّة، وآخرون: إنّها من مكان ما؛ فجاء إلى بيتنا أحد أصدقائنا في مشهد؛ أي الدكتور بيرجنديّ حفظه الله تعالى؛ وهو جرّاح ومتخصّص في أمراض الدماغ والأعصاب، ورئيس قسم في مستشفى القائم، فقلت له: «أيّها السيّد، ما هي حكاية هذه الحمّى الأفغانيّة؟»، فقال لي: «ما هذا أيّها السيّد؟ تجد أحدهم لا يستطيع التشخيص، فيقول أفغانيّة، وآخر يقول ألمانيّة، وثالث يقول هنديّة، بينما ذلك المريض مصاب بالأنفولانزا، ولا يوجد أمر ذي بال»؛ فترى المريض يذهب إلى مكان، فيُربكونه بمجموعة من المصطلحات؛ أيّها السيّد، قل: «لا أعلم، وعليك الذهاب إلى مكان آخر، وزيارة طبيب آخر». وأمّا الدكتور آذر، فلم يكن بهذا النحو، بل حينما كان يعجز عن الفهم، كان يقول: «أنا لا أعلم»، فكان المريض يقول له: «وماذا عليّ أن أفعل؟»، فكان يجيبه: «وما علمي أنا بما يجب عليك فعله؟! اذهب عند من تُحبّ»؛ هذا، مع أنّه كان أبرز طبيب متخصّص في الأمراض الباطنيّة، حيث أذكر أنّه في ذلك الحين، كان هناك فقط بعض الأطبّاء البارزين في الطبّ الباطنيّ بإيران، ومن بينهم الدكتور آذر، لكنّ تعامله مع المرضى كان على درجة من الصدق، بحيث متى ما ذهب عنده المريض، فإنّه يكون مطمئنًّا إليه، ومعتمدًا على تشخيصه؛ فكم هو جميل أن نكون بأجمعنا كذلك، وأن نكون على علم بقدراتنا في مختلف المجالات، فإذا لم نكن نعلم بمسألة ما، فلا ضير في ذلك؛ وهذا بخلاف أن نأتي، ونقول [مثلاً]: «إنّ هذه الروايات لا سند لها، وهذه الأمور المطروحة في نهج البلاغة مفتقرة إلى السند»؛ وذلك بسبب عجزنا عن فهم إحدى المسائل، أو بسبب أمور أخرى ـ لا سمح الله تعالى ـ مرتبطة بهذه القضيّة؛ وحتّى أنّني سمعت مؤخّرًا أحدهم يقول: «من قال بأنّ [هذه المسائل المطروحة في نهج البلاغة] لها سند؟»؛ حسن جدًّا، أنت الذي تتفوّه بمثل هذا الكلام، كيف تنقل بنفسك بقيّة المسائل الواردة في نهج البلاغة، لكن، حينما تصل إلى هذه المسائل، تدّعي افتقارها إلى السند مع أنّها تُماثلها في العبارة؟ فلنفرض أنّها لا تتوفّر على سند، لكن، ما رأيك بخصوص الروايات التي جاءت في نصوصنا وكتبنا وموسوعاتنا الروائيّة عن بقيّة الأئمّة عليهم السلام؟ فما الذي ستقوله عن الرواية التي جاء فيها: لو كان السجود جائزًا لغير الله تعالى، لأمرت نساء أمّتي أن يسجدوا للرجال۱؟ فصحيح أنّ إغلاق العينين، وتجاوز الأمور بهذا النحو مسألة سهلة، لكنّ هناك آخرة أيضًا.

    1. « ... فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا رَأَيْنَا أُنَاسًا يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»؛ (الكافي، ج ٥، ص ٥۰۸).

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

5
  • إنّ بيان المسائل بشكل صحيح هو أمر ينبغي اللجوء إليه من دون الأخذ بنظر الاعتبار لأيّ شيء، ومن دون ملاحظة إعجاب أو عدم إعجاب أيّ شخص؛ فمهمّتنا تقتصر على البيان؛ وحينئذ، قد يأتي أحد، ويقول: «أيّها السيّد، رأيك خاطيء»؛ حسن جدًّا، إنّه خاطيء، فتعال أنت، وخذ بالرأي الصحيح؛ وقد يأتي آخر، ويقول: «أيّها السيّد، إنّك تتشدّد في هذه المسألة»؛ حسن جدًّا، تساهل فيها أنت؛ لكنّنا لا نستطيع قطع أغصان [الشريعة] الواحد تلو الآخر، طلبًا لحطام هذين اليومين من الدنيا، ولأجل الحصول على بعض المسائل، وحتّى نظهر بشكل مقبول عند الناس، ونكون محطّ أنظار الآخرين؛ فيبقى في الأخير فقط: 

  • شير بى يال و دُم و اشكم كه ديد *** اين چنين شيرى خدا هم نافريد۱
  • [يقول: من رأى أسدًا من دون عنق وذيل وبطن؟! فحتّى الله تعالى لم يخلق هكذا أسد]

  • تطوّر الإنسان المعاصر ليس مسوّغًا لتغيير الأحكام الشرعيّة

  • فشجرة الدين هذه تتوفّر على مسائل في الإرث تتعارض مع القوانين المعاصرة؛ ولهذا علينا أن نقطعها، بحيث يكون إرث المرأة مساويًا لإرث الرجل؛ حسن جدًّا، هذه واحدة! كما أنّ دية المرأة نصف دية الرجل بالنصّ الصريح للأحكام الإسلاميّة والقرآن الكريم؛ لكنّهم لا يقبلون حاليًّا بهذه المسائل، وهي تتعلّق بألف وأربعمائة سنة من قبل؛ فكأنّ الخلايا الدماغيّة للذين عاشوا في ذلك الزمان كانت مصنوعة من شيء آخر، بينما خُلقت الآن أدمغة جديدة بخلايا ذات قابليّة كبيرة، بحيث صارت لها القدرة على التفكير حتّى في ما وراء الطبيعة، وبلغ فكر الناس مرتبةً لم يبلغها جبرائيل ولا ميكائيل الأمينين.. لا يا عزيزي، لا يوجد شيء من ذلك.

  • فمن خلال العادات والتقاليد السائدة بين الشعوب المعاصرة، بوسعنا التعرّف على قيمة ثقافاتهم وعلومهم، ونرجو ألاّ تنكشف فضائح أكثر، ومسائل أكبر؛ فهل إنّ الأعمال القذرة التي تُمارس حاليًّا في جميع أنحاء العالم داخل الأنظمة والجماعات، والقوانين التي يُصادق عليها في البرلمانات بخصوص الانحرافات الجنسيّة كانت موجودة قبل ألف وأربعمائة سنة؟ إنّ النتائج المترشّحة عن الخلايا الدماغيّة لأناس هذا العصر تتمثّل في الجرائم التي يرتكبونها حاليًّا، وتحديدهم للنسل، وفرضهم لاستبدادهم وحيوانيّتهم على جميع العالم تلبيةً لجشعهم وطمعهم؛ فهل كان هذا موجودًا في الزمان السابق؟ علينا أن نترحّم ألف مرّة على الماضين! فهل كان الأمر قديًما بهذا النحو؟ وهل شهدت العصور المتقدّمة الدمار الفكريّ والثقافيّ الموجود حاليًّا في العالم والمعتمد على وسائل وأدوات شيطانيّة؟ وهل إنّ الإجحاف وانعدام الشهامة وفقدان الضمير الحاكم في هذا العصر على البشريّة كان موجودًا أيضًا في الزمن الماضي؟ 

    1. مثنوي معنوي، الكتاب الأوّل.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

6
  • يحكي المرحوم الوالد أنّ التاجر كان يأتي من الهند إلى إيران، فيشتري البضاعة، من دون أن يدفع في مقابلها المال؛ وحينما يرجع إلى الهند، يبعث الأموال متى ما يشاء؛ لكنّهم ماذا يفعلون الآن؟ لم يتبقّ لهم إلاّ أن يلقوا بالحبال إلى الأعلى، ويتسلّقوا جدران المنازل؛ ومن المحتّم أنّهم صاروا يفعلون ذلك الآن! فأين هو التطوّر والرقيّ في هذا العصر؟! لقد حصل فقط ـ كما بينّا أو سنبيّن ـ في السلسلة العرضيّة والوسائل [التكنولوجيّة]، والتي يستعملها الإنسان حاليًّا في تحقيق أهدافه ومطامعه؛ فهل كانت أدوات استراق السمع، وفضح أسرار الناس وحياتهم، والكشف عن شؤونهم الشخصيّة، وعن كيفيّة حديث المرأة مع زوجها في المنزل موجودة في الماضي أيضًا؟ فهل هذا هو معنى التطوّر والرقيّ الإنسانيّ، وكمال الإنسان المعنويّ؟

  • لقد جاء البعض، وقال بعدم جواز أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، فعلينا أن نُكمّل ديتها أيضًا، وينتهي الأمر؛ وبهذا، نحلّ مسألة دية الرجل والمرأة؛ فنقطع بذلك غصنًا [من شجرة الدين]؛ حسن جدًّا، فهذا يتعلقّ بالأحكام الأساسيّة التي قيل عنها: «حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ الى يومِ القِيامَة وَحَرامُ مُحَمَّدٍ حَرامٌ الَى يومِ الْقِيامَة»۱؛ أ فكان رسول الله تعالى عاجزًا عن الكلام، حتّى لا يقول: إنّ هذه الدية ستُصبح متساوية في آخر الزمان؟ أ ولم يكن بوسعه قول ذلك؟! ثمّ يأخذون مسألة أخرى، نظير دية غير المسلم، والتي ينبغي أن تكون واحد على إثني عشر دية المسلم، فيقولون إنّها لا تنسجم مع هذا العصر، وتُثير اعتراضًا على الإسلام؛ ولهذا، علينا أن نُسوّي في الدية بين المسلم والمسيحيّ والنصرانيّ، فنلجأ بذلك إلى قطع غصن آخر؛ وهذه واحدة أخرى أيضًا! فما الذي سيبقى؟ هناك الأحكام المختصّة بالعلاقات الأسريّة؛ إذ ينبغي أن تتحقّق المشاركة في الحياة، والعمل، والاستشارة؛ وعلى الزوجين أن يتشاورا معًا، ويتحمّلا أعباء الحياة معًا، ويُديرا شؤون الحياة معًا؛ وأمّا طاعة الزوجة للرجل، فتتعلّق بمائتي ألف سنة من قبل، وبالعصر الحجريّ؛ فينبغي الآن ... وعلينا هنا أن نترحّم على هؤلاء ألف مرّة؛ لأنّهم لم يقولوا بعدُ إنّ الرجل ملزم بطاعة المرأة؛ مع أنّه سيصل الدور غدًا لهذا الأمر! حسن جدًّا، وعليه، يجب أن نُنحّي كافّة هذه الأحكام جانبًا؛ ثمّ نحذف المسائل المرتبطة بالعقائد والمعارف، الواحدة تلو الأخرى؛ فما الذي سيبقى؟ سيبقى ذلك الأسد المفتقر إلى عنق وذنب وبطن، ويظلّ لدينا مجرّد هيكل فقط معتمد على قوانين مصنوعة ومزيّفة ومختلقة ومنمّقة وشبيهة بالدمى وضعها دماغ الإنسان الفاسد؛ ويصير هذا هو الإسلام!

    1. أصول الكافي، ج ۱، ص ٥۸.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

7
  • فالمسألة في الغرب بهذا النحو، ولا مشكلة عندهم في ذلك، حيث تجتمع ثلّة من الناس، ويذهبون إلى مطعم، أو مؤتمر، أو أيّ مكان آخر يُفضّلونه، ويقولون: «أيّها السادة، نريد وضع دين جديد، فما هو رأيكم؟» فيجمعون الآراء بخصوص هذا الموضوع، ثمّ يظهر في الغد دين جديد مختلف عن المسيحيّة والإسلام والبوديّة، واليهوديّة؛ فلو كان الأمر بهذا النحو، لما كانت هناك أيّة مشكلة!! وتوجد العديد من الجماعات التي تسلك هذا النهج، كما أنّ الأديان المختلقة تظهر في العالم كلّ يوم "مثل الفطريّات"؛ لكن، ينبغي في الأخير أن نكل هؤلاء إلى أنفسهم؛ فالذي يُصادق على هذه القوانين، ويدفع بالحريّة إلى أقصى الحدود عليه أن يقوم بمثل هذه الأفعال، بحيث صار من دواعي الفخر... ولعلّكم مطّلعون أفضل منّي على بقيّة المسائل؛ فبعد مرور ألف وأربعمائة سنة، أصبح يفتخر الإنسان بأنّه يظهر أمام الآخرين كما ولدته أمّه؛ هل التفتّم؟ كما ولدته أمّه! وإذا أراد أحد أن يتصرّف خلاف ذلك، فإنّه يُقال عن [لباسه] إنّه يتسبّب في ظهور الميكروبات والفيروسات، ويتعلّق بالعصر الحجريّ، والفكر الكذائيّ، وكلمات من هذا القبيل. فالتطوّر الذي شهده الإنسان في هذا العصر وصل به ولله الحمد إلى مرحلة الحماريّة! فالحمار بهذا النحو؛ فهل شاهدتم حمارًا يلبس شيئًا، ويتّخذ ستارًا؟!

  • ومن هنا، قلّما نُشاهد ـ وللأسف ـ من بين الذين درسوا هذه المسألة أنّ أحدهم سلك طريق الصواب، وبحث عنها من دون إبراز لذوقه الشخصيّ؛ فقبل عدّة أيّام، كنت أطالع أحد شروح نهج البلاغة، فواجهتني ـ للأسف ـ هذه المسألة مرّة أخرى، حيث رأيت أنّ المؤلّف المحترم ـ رحمة الله تعالى عليه ـ قد بذل كلّ جهده، واستعان بكافّة المعلومات التي جمعها من الغرب والشرق والسماء والأرض؛ ولا أعلم من أين أتى بحساء القطاني۱ هذا، بحيث لم أستطع أنا أيضًا أن أفهم ماذا يقول.. كلّ ذلك لكي يُثبت أنّ لكلام أمير المؤمنين معنى آخر؛ حسنًا، فإمّا أن تقول إنّه كذب، أو بيّن مرادك من هذا الكلام الذي تتفوّه به.

  • هل علّة تفضيل الرجال على النساء في آية القوامة هي القوّة الجسميّة؟

    1. كناية عن أنّ كلامه خليط من عدّة أشياء غير متناسقة. المعرّب

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

8
  • فحينما يقول أمير المؤمنين: «إنَّ النِّسَاء نَواقِصُ الْعُقُول وَنَواقِصُ الحُظُوظ وَنَواقِصُ الإيمَان»۱؛ أي أنّ عقلهنّ ناقص وأقلّ من الرجل من حيث مستوى الكمال، وحظهنّ أقلّ، وإيمانهنّ يُعاني من النقصان، لماذا تأتي أنت، وتُؤوّل هذا الكلام، وتُفسّره بطريقة [عجيبة]، بحيث لا تفهم أنت بنفسك ماذا كتبت؟! أ لم تكن تحتمل أنّه في نهاية المطاف سيُطالع أحدٌ هذه المسائل، ويدرسها، فيُثير ذلك ضحكه؟ حسنًا، لا تخُض في تفسير هذا الكلام، وقم بتفسير كلام آخر؛ وهذا الذي قام به العديد من الناس، حيث مارسوا الرقابة [على كلام أمير المؤمنين]. لقد أرجع ذلك المؤلّف المسألة بأجمعها إلى أنّ قدرة الرجل وقوّته أكبر؛ فهذا هو معنى نواقصُ العقول! وهكذا حينما قال الله تعالى: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ ...﴾٢ (أي أنّ للرجال قوامة وولاية على النساء بسبب تفضيل الله تعالى لهم، وبسبب ما ينفقونه)؛ فإنّ ذلك الشخص قال: «لأنّ قوّتهم أكبر». أ فهل التوفّر على قوّة أكبر دليل على الأفضليّة؟! لقد كان "رستم دستان" قويًّا جدًّا، فهل هذا يعني أنّه كان أفضل من الأفراد الضعفاء جسميًّا؟ أ فهل إنّ معيار التفضيل في عالم القيم يعتمد على القوّة؟! فلكلّ واحد استعداد معيّن وجسم خاصّ؛ وهل لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان محاربًا، وبطلاً، وقوّته أكبر، فإنّه أفضل من الإمام السجّاد من هذه الناحية؟ أجل، بما أنّه صاحب الولاية، وبما أنّ الولاية قد وصلت إلى أبنائه عن طريقه، إلى إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، فإنّه يكون أفضل من هذه الجهة من كافّة الأئمّة عليهم السلام؛ فهو أبوهم، لكنّه لا يكون أفضل منهم عليهم السلام من جهة القوّة؛ إذ ما هو ذنب الإمام السجّاد إذا كانت قوّته الجسميّة لا تُناظر قوّة أمير المؤمنين؟ وما هو ذنب الإمام الجواد أو الإمام الهادي إن كانا وصلا إلى مرتبة الإمامة في سنّ التاسعة أو الحادية عشرة؟ أ فلأنّ أمير المؤمنين وسيّد الشهداء كانا يمتلكان شجاعة كبيرة ومن الأبطال، وكان حضرة سيّد الشهداء وحضرة أبي الفضل يتّصفان بقوّة أكبر، فإنّهم أفضل من الإمام الهادي الذي بلغ الإمامة في سنّ العاشرة، وكان طوله بذلك المقدار الخاصّ؟!

    1. نهج البلاغة ( صبحي صالح)، ص ۱۰٥.
    2. سورة النساء، الآية ٣٤.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

9
  • إنّ الإمامة لا علاقة لها بهذا الكلام، فامتلاك قوّة جسمانيّة بنحو خاصّ، وكذلك التوفّر على وجه وملامح معيّنة لا يُعدّ دليلاً على الأفضليّة والتفوّق على الآخرين؛ لأنّ الله تعالى خلق كلّ واحد بشكل محدّد؛ فلقد كان الإمام المجتبى عليه السلام أجمل من الإمام الحسين عليه السلام؛ وحينئذ، هل يكون ذلك دليلاً على كون الإمام الحسن أفضل؟ كما كان الإمام السجّاد عليه السلام أجمل من عدّة أئمّة، فهل هذا سبب لاعتباره أفضل من هذه الناحية؟ فالله تعالى خلق كلّ واحد بشكل خاصّ، ومن غير المفروض أن يكون الأئمّة بأجمعهم عبارة عن نسخة واحدة من حيث الشكل والوجه، بل كانت أشكالهم وأجسامهم وقوّتهم مختلفة من الناحية الجسميّة والظاهريّة.

  • وأمّا الذي يوجب أفضليّة الإمام، فهو الاطّلاع على حقائق عالم الخلقة الذي منحه الله تعالى له من ناحية الولاية؛ إذ ينبغي أن يكون الإمام عليه السلام مطّلعًا على أسرار عالم الوجود بأجمعها؛ بدءًا من علمه بالله تعالى، وانتهاءً بأدنى العوالم؛ وإلاّ لن يكون إمامًا، ولن نقبل به كإمام. فالإمام عليه السلام هو الذي يكون حاكمًا على جبرائيل، والملائكة، وعالم الملكوت؛ فنحن نعترف بالإمام الذي تكون حركة كلّ شفرة من هذه المروحة التي أمامي بإرادته؛ وأمّا إذا لم يكن يعلم بعدد دورات هذه المروحة في الثانية، فإنّني لن أقبل به كإمام، ولن أؤمن به؛ وعليكم أنتم أيضًا أن تفعلوا الشيء ذاته؛ فهذا هو الذي نقول عنه إمام.

  • فقيمة الإمام بهذا الأمر؛ أي بحكومته على المُلك والملكوت عن طريق إحاطته بالولاية الإلهيّة، لكنّ هذه الولاية ليست مستقلّة، وإلاّ تكون كفرًا وشركًا، بل هي ولاية إلهيّة ممنوحة له [من قبل الله تعالى]؛ فهذا هو الإمام؛ وفي هذه المسألة، لا يوجد فارق بين الإمام الهادي ذي الإحدى عشرة سنة، وأمير المؤمنين حينما بلغ الستّين من العمر؛ أجل، إذا نظرنا إلى السعة الوجوديّة، فالمسألة مختلفة، حيث ذكر المرحوم العلاّمة بدوره أنّ أمير المؤمنين عليه السلام له الأفضليّة من هذه الناحية؛ وأمّا من ناحية أنّه: حينما كان يُطرح أيّ سؤال وإشكال على أمير المؤمنين، فإنّه كان يقول: «سَلُونِي قَبْلَ انْ تَفْقِدُونِي‌»۱؛ أي اسألوني عن كلّ ما يأتي على بالكم من علوم الدنيا بكلّ أبعادها، وعلوم الآخرة بجميع مراتبها؛ مهما كان المستوى العلميّ الذي وصلتم إليه؛ فإنّكم ستحصلون على جواب عنه؛ فإنّه من هذه الناحية، لو طرحتم نفس السؤال على الإمام الهادي حينما كان في العاشرة من عمره، لما اختلف الأمر أبدًا.

    1. نهج البلاغه( صبحى صالح)، صفحه ٢۸۰.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

10
  • فهذا هو الملاك في قيمة الإنسان، وليس القوّة؛ وحينئذ، هل بوسعنا القول: بما أنّ قوّة الرجل أكبر من المرأة، فإنّه يستطيع التسلّط عليها، وتكون المرأة ملزمة بطاعته؟! أ فهل إنّ طاعة المرأة لزوجها مرتبطة بقوّته وعضلاته وبطولته؟! فإن كان الأمر بهذا النحو، وانعكست المسألة، ماذا علينا أن نفعل؟ سيُؤدّي ذلك إلى فساد كبير! فإن فرضنا أنّ المرأة كانت أقوى من الرجل، سيصير الرجل ملزمًا بالطاعة: 

  • متى عليّ أن أخرج من البيت؟ هل تأذنين لي بذلك يا سيّدتي؟ 

  • لا.. لن أأذن لك بالخروج، اجلس مكانك!

  • ولا يخفى أنّ واقع الحال هو هذا؛ سواءً كانت القوّة أكبر أم أقلّ!!!

  • أين ينبغي عليّ الذهاب؟

  • اذهب إلى هنا، ولا تذهب إلى هناك!

  • ما هو المكان الذي لا يجوز لي الذهاب إليه؟

  • قم بهذا العمل، ولا تقم بذلك العمل!

  • أ وليس أمرًا باعثًا على السخريّة والضحك أن يقول الله تعالى [كما يدّعي البعض]: بما أنّ الرجل أقوى من المرأة، وملزم بأداء الأعمال خارج المنزل، فإنّه على المرأة أن تطيعه؟! ففي هذه الحالة، ستقول المرأة أيضًا: أنا بدوري مكلّفة بأداء الأعمال المنزليّة؛ فأنت تقوم بالأعمال خارج البيت وتُدير هذه الأعمال، وأنا أيضًا أقوم بالأعمال داخله، وأسهر على تربية أبنائي، وأدبّر شؤونك المنزليّة؛ فذهابك خارج المنزل، وإتياني بالطعام ليس من الأمور التي من شأنك أن تفتخر بها؛ لأنّني أنا أيضًا أرتّب أمور البيت؛ فنحن شريكان في هذه المسألة. هذا، مع أنّ البعض سعى إلى طرح هذا الموضوع بغاية الجرأة والصراحة، وقال: إن كانت المرأة هي المعيلة للمنزل، فكانت تخرج للعمل، وكان الرجل عاجزًا عن العمل؛ كأن يكون مريضًا، أو طريح الفراش، أو عجوزًا، أو مسافرًا، أو يُعاني من مشكلة ما، فإنّ تلك الحقوق التي تقع على عاتق المرأة تجاه الرجل ستصير بالعكس، بحيث تظهر هذه المسألة بهذا النحو! وعلى كلّ حال، نستجير بالله تعالى!

  • البحث عن العقل الذي جُعل في الروايات ملاكًا للتفضيل

  • فالأمر الذي طرحه البعض هنا يتمثّل في أنّ أساس المسائل المرتبطة بهذا الموضوع يتّكيء على مسألة ينبغي معالجتها؛ وهي: إنّ الملاك الذي جُعل في هذه الروايات والنصوص هو العقل؛ فبما أنّ عقل الرجل هذه الناحية أكمل من عقل المرأة؛ وذلك على مستوى الحياة العائليّة المشتركة، وفي مجال الأمور التي قد يحصل فيها خلاف في الرأي والذوق، وفي دائرة المسائل التي لم يجعل فيها الله تعالى للمرأة سلطة التنفيذ ـ وسيأتينا لاحقًا حديثٌ عن هذه المسائل ـ، فإنّ حقّ الطاعة هنا يرجع للرجل، بحيث تكون المرأة ملزمة بطاعته.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

11
  • ومن هنا، فإنّ مجموعة من المسائل تبرز على بساط البحث، حيث إنّ المسألة المطروحة في هذا الباب تتمثّل في تقسيم وضعه الفلاسفة للعقل، حيث قالوا: إنّ الله تعالى جعل في الإنسان قوّتين؛ أي أنّ النفس الإنسانيّة تتوفّر من حيث مدركاتها والمسائل التي تبحث عنها على قوّتين: الأولى تُسمّى بالعقل النظريّ، والثانية بالعقل العمليّ. فقال البعض: إنّ العقل النظريّ عبارة عن تلك القوّة التي ينحصر عملها في استنتاج القياسات المنطقيّة، والوصول إلى النتيجة من خلال ضمّ قضايا، ولو كانت كاذبة، بحيث لا يكون لهذه القوّة أيّ شأن بصحّة تلك القضايا أو خطئها؛ فهذه القوّة تقول: إنّ المسألة الكذائيّة تُعطينا النتيجة الكذائيّة، وبالتالي، فإنّ حاصل القياس سيكون بالنحو الكذائيّ؛ وأمّا بالنسبة لصحّة هذه المسألة أو عدم صحّتها في عالم نفس الأمر والواقع، فإنّها لا تتدخّل في ذلك أبدًا؛ وهذه القوّة هي التي يُقال لها العقل النظريّ.

  • وما هو العقل العمليّ [بحسب هؤلاء]؟ العقل العمليّ يقع في مقابل العقل النظريّ؛ وهو العقل الذي من شأنه البحث عن صحّة وخطأ نفس القضايا؛ فيبحث من باب المثال عن: هل للإنسان قوّة درّاكة أم لا؟ وهل روح الإنسان مجرّدة، أم أنّها من سنخ البدن والمادّة؟ فهذه مسألة تحتاج إلى التفكير، ولا يُمكن الإجابة عنها بكلّ سهولة؛ فعيلنا التفكير في أنّه: هل إنّ «الأنا» التي تُشكّل هويّتنا أمرٌ مجرّد أم مادّي؟ فإذا كانت مادّية، ما هي النسبة المئويّة التي تُشكّل من وزن البدن؟ فلو فرضنا أنّ هناك رجلاً يزن ثمانين كيلوغرامًا، هل تُمثّل هذه «الأنا» عشرين كيلوغرامًا، بينما تتشكّل خمسين كيلوغرامًا من أشياء أخرى؟ أم أنّ هذه الأنا والروح أمر مجرّد؟ فهذه مسألة نظريّة وفكريّة لا يُمكن حلّها بكلّ سهولة، بل ينبغي التفكير فيها. فهذا هو الذي يُقال له عقل عمليّ؛ لكنّ هذا التعريف خاطيء مائة بالمائة.

  • فالعقل هو القوّة التي تهدف دائمًا إلى الوصول للفهم الصحيح، والتي تسعى فقط لوضع الأقيسة في مقابل بعضها؛ غاية الأمر أنّها قد تُخطيء في بعض الحالات؛ لأنّ عقولنا ناقصة؛ فمن قال إنّ عقولنا مثل عقل النبيّ؟ وهل هناك من يدّعي أنّ عقولنا بلغت من الناحية الكماليّة عين المرتبة من الكمال والفعليّة التامّة والمطلقة التي بلغها عقل وليّ إلهيّ أو إمام معصوم عليه السلام؟ لو كان الأمر كذلك، لما احتجنا إلى كلّ هذا الطريق، ولكنّا في غنىً عن هذه المجاهدات والمتاعب، حيث إنّ كافّة هذه الأمور تهدف إلى سدّ النقص الذي يُعاني منه العقل المستعدّ والهيولانيّ الذي جعله فينا الله تعالى، والوصول به إلى مرتبتي العقل بالفعل والمستفاد، لكي تُكمِّل النفس في ذاتها جميع هذه المراتب؛ وأمّا أن نقول إنّ العقل لا دخل له في كون المقدّمات صحيحة أم لا، وأنّه يهدف فقط إلى ترتيب هذه المقدّمات، فهو كلام واهٍ جدًّا ذكره بعض شرّاح نهج البلاغة في تفسير ذلك الكلام الصادر عن أمير المؤمنين عليه السلام.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

12
  • تعريف العقل النظريّ والعقل العمليّ

  • فالعقل النظريّ عبارة عن العقل الذي يبحث عن التصوّرات والتصديقات التي تعرضه كيفما كانت، لكي يتعرّف على صحّتها أو خطئها؛ فهل إنّ الإنصاف والمروءة أمر حسن أم لا؟ هذه مسألة ترتبط بالعقل النظريّ؛ وهل إنّ الصدق حسن أم لا؟ هذه مسألة ترتبط أيضًا بالعقل النظريّ؛ وهل إنّ الكون يتوفّر على قوّة ووجود مكتنف بالأسرار، أم أنّه أمر عبثيّ ومطلق العنان؟ هذه بدورها مسألة تتعلّق بالعقل النظريّ؛ وهل إنّ عالم الوجود مبتنٍ على أساس قيم مطلقة؟ هذه أيضًا مسألة ترتبط بالعقل النظريّ؛ فكافّة هذه القضايا تختصّ بالعقل النظريّ. إنّ الوصول إلى الكلّيات، والتوصّل إلى القضايا التي يُواجهها الإنسان على مدار الساعة، ويُخضعها لمعيار الواقع ونفس الأمر، لكي يرى هل هي صحيحة أم لا، هو ممّا يرتبط بالعقل النظريّ.

  • وأمّا العقل العمليّ، فما هي حقيقته؟ العقل العمليّ يا أعزّائي هو أمر آخر مختلف عمّا ذكرتموه؛ فهو عبارة عن مطابقة الإنسان لنفسه مع هذه المسائل الكلّية؛ فبعد أن يتوصّل الإنسان إلى مسألة كلّية، يأتي الكلام عن طريقة تكييف نفسه مع هذه المسألة؛ فحينما يُدرك هذا الإنسان أنّ العدل مطروح في نظام عالم الخلقة كقيمة من القيم، فإذا استطاع أن يُخضع نفسه لهذا العدل متى ما حصل نزاع بين ابنه وابن الجيران، ولم يحِد عن الحقّ ويمنحه لابنه، فهنا يحلّ العقل العمليّ.

  • فالعقل العمليّ يتمثّل في أنّه: متى ما توصّل الإنسان بعقله النظريّ إلى ضرورة الالتزام بالصدق والصراحة في كلّ مكان وظرف، سواءً كان ذلك لمصلحته أو لا، فإنّه لا يتعثّر ولا يتزلزل حينما يصل الدور إليه؛ والعقل العمليّ يكمن في ألاّ يضع الإنسان القانون فيما يخدم مصلحته الشخصيّة، بل يضعه وفقًا للمصلحة العامّة؛ والعقل العمليّ هو ألاّ يُفصح الإنسان عن الأحكام بطريقة معيّنة، ما دام ذلك يصبّ في المصلحة؛ لكن، حينما تتغيّر الأمور، يتحدّث عنها بطريقة أخرى؛ فالعقل العمليّ عبارة عن انطباق وتطبيق خصائص الإنسان الوجوديّة على القوانين والقضايا الكلّية التي توصّل إليها هذا الإنسان.

  • حكى لي أحد الأطبّاء البارزين في زراعة القرنيّة، وهو من أصدقائنا بمشهد أنّ أحد المشايخ كان يُشكل على زراعة القرنيّة، ويقول بحرمتها؛ فقال له: «لا يحقّ لك أن تنزع قرنيّة الذين ارتحلوا عن هذا العالم، ثمّ تزرعها في إنسان آخر؛ فهذا عمل محرّم، ويُعدّ تشريحًا للميّت وتمثيلاً بجثّته»؛ ولا يخفى أنّه لا يوجد إشكال في هذا العمل. فكان ذلك الطبيب يقول له: «هذا لا يصحّ؛ لأنّ ذلك المريض صار أعمى، والآخر قد مات، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا، كما أنّه لا يحتاج إلى تلك القرنيّة، ولدينا العديد من الفتاوى [بالحلّية]»؛ فقال ذلك الطبيب: «لكنّه لم يقبل، وأصرّ على كلامه، وطفق يعترض عليّ؛ ثمّ إنّ ابن ذلك الشخص كان يمشي [في الشارع]، فأصابه غصن شجرة في عينه، فتلفت قرنيّته، فجاء عندي بنفسه، وقال لي: ازرع له قرنيّة؛ فقلت له: ما الذي حصل؟ قال لي: قم بها هذه المرّة فقط، ثمّ لا تعُد إلى ذلك».

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

13
  • ولماذا لا ينبغي عليه أن يقوم بها مرّة أخرى؟ إنّه الآن يتعثّر على مستوى عقله العمليّ، وليس النظريّ؛ فلنفرض أنّ ما ذكره صحيح؛ مع أنّه باطل، لكن، يبقى أنّه توصّل إلى هذه المسألة من ناحية فتوائيّة وحكميّة ـ ولا علاقة لنا الآن بصحّة هذه الفتوى أو عدم صحّتها ـ ؛ ففي هذه الحالة، لماذا لا تُطبّق هذه المسألة على ابنك؟ وها نحن الآن نقترب من القضيّة التي يسعى إليها أمير المؤمنين، ولا أعلم هل إنّ الرفقاء بدؤوا يُدركون الاتّجاه الذي يتحرّك نحوه البحث أم لا؛ فأنت الذي تحكم وتُفتي بوجود إشكال في زراعة القرنيّة، لماذا قلت حينما وصل الدور إلى ابنك: ازرعها هذه المرّة، ثمّ لا تعُد إلى ذلك؟! حسنًا، سيأتي آخر ويقول: افعلها هذه المرّة، ولا تعُد إلى ذلك؛ ويأتي ثالث بعد غد، ويقول أيضًا الشيء ذاته؛ وحينئذ، سينتهي الأمر، حيث سيأتي كلّ يوم أحدٌ، ويقول: كلّ ما يخدم مصلحتي افعله، وكلّ ما يرتبط بالآخرين لا تفعله.

  • العقل العمليّ هو الأفيد للمجتمع

  • وعليه، فما هو المفيد بالنسبة للنظام الاجتماعيّ، ولأجل إصلاح المجتمع: العقل النظريّ، أو العقل العمليّ؟ العقل العمليّ؛ فهو الذي يُفسد المجتمع، أو يُعمره؛ وهو الذي يجلب الأمن للمجتمع، أو يسلبه عنه؛ وهو الذي يهدم النظام، أو يُصلحه؛ وأمّا المسائل الكلّية [المرتبطة بالعقل النظريّ]، فالجميع يعلمها.

  • قام أحد علماء البيولوجيا بتأليف كتاب في أضرار التدخين؛ وهو كتاب ضخم يوجد بحوزتي أنا أيضًا؛ فذكر فيه أنّ التدخين يُسبّب سرطان اللثّة، ويفعل كذا بالرئتين، وكذا بالأعصاب، و... ؛ لكنّه مع ذلك كان بنفسه يُدخّن يوميًّا ثلاث أو أربع عُلب من السجائر! فقيل له: أيّها السيّد، لماذا تقوم بهذا العمل؟ فقال: يا عزيزي، نُريد أن نقضي هذين اليومين من عمرنا بطريقة ما! أجل، فهو يعترف بأنّ هذه هي حقيقة التدخين، وهذه هي أضراره، بل ويذكرها بنفسه، لكنّه لا يمتنع عنه؛ لماذا؟ لأنّ عقله العمليّ يتخبّط. فإذا كنت تؤمن بنفسك أنّ هذا الشيء مضرّ وغير مفيد، لماذا لا تواءم وجودك مع هذه الرسالة وهذه القيمة وهذه المسألة؟ ومن هنا، فقد جاء الأنبياء عليهم السلام والأئمّة والأولياء لأجل إصلاح عقلنا العمليّ؛ ولو أنّهم طرحوا بعض المسائل بخصوص العقل النظريّ أيضًا.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

14
  • فالعقل العمليّ هو الذي يصنع المجتمع؛ فقد أصنّف أنا كتابًا، وأضع فيه مجموعة من القوانين، وأتحدّث فيه عن المدينة الفاضلة، وأقول: «ينبغي أن يكون المجتمع بهذا النحو، ويتعيّن أن يسوده العدل والإنصاف والتضحية والإيثار، وتتوفّر فيه الإمكانيات للجميع، لا أن يستحوذ عليها فرد واحد، من دون أن يتمكّن الباقون من فعل أيّ شيء، بل يتعيّن أن يكون الاقتصاد بيد كافّة الناس؛ كما ينبغي أن يُكفل للجميع حقّ إبراز الرأي، وتُحفظ لهم حرّية التفكير»؛ لكن، حينما يصل الأمر إليّ، لا أسمح لأيّ أحد بالتدخّل في الاقتصاد، ولا أجيز الكلام لأيّ واحد، بحيث كلّ من تحدّث بكلمة أخنقه، وأعدمه، وأقضي عليه، ليبقى فقط "لويس الرابع عشر"۱ وأنا! فقد كان لويس الرابع عشر يقول: «فرنسا تعني أنا، وأنا يعني فرنسا»! فهل الأمر بهذا النحو؟! يعني: قبل أن تُصبح لويسًا [أي ملكًا]، كيف كنت تُفكّر في دائرة الإنسانيّة والتفكير؟ وما هي الآراء والقوانين التي كنت تطرحها على الآخرين، وما هي الإرشادات التي كنت توجّهها للبقيّة؟ لكن، ما إن صرت حاكمًا لفرنسا، وأصبحت "لويسًا" تراجعت عن كلّ شيء؟ لماذا؟ لأنّ عقلك العمليّ أصبح يتخبّط؛ وهذا واضح؛ فقبل أن أصير ملكًا، وقبل أن أصبح رئيسًا للجمهوريّة، كنت أمتلك تفكيرًا معيّنًا؛ والآن أنا أيضًا أمتلك التفكير ذاته، لكنّني لا أسمح لهذا التفكير بأن يحلّ بحياتي؛ فلا تظنّوا أنّ هؤلاء يُغيّرون تفكيرهم؛ فالذي يأتي، ويقطع رأس الإمام الحسين، ويقتله يعلم ماذا يفعل، وإلاّ، لما اختلف في شيء عن الحائط؛ فهو يعلم أنّه يقتل مسلمًا، وأنّ يزيدًا يشرب الخمر ويلعب بالقردة والكلاب؛ فهو على علم بكافّة هذه الأمور، لكنّه مع ذلك يقطع رأس الإمام الحسين، ويُمسك بزوجته وأولاده، ويأسرهم؛ فما هو الحدّ الفاصل بين هذين الإدراكين، والذي أدّى به للوصول إلى ما وصل إليه؟ فتعالوا بنا نجلس، ونُفكّر في هذه المسألة طيلة الأسبوع أو الأسبوعين القادمين، إلى أن يُوفّقنا الله تعالى للحديث عنها في الجلسة القادمة. فما هو الأمر المتحقّق في ضمن الفاصلة الواقعة بين هذين الأمرين، والذي لا يسمح للعقل العمليّ بمتابعة مسائله اعتمادًا على العقل النظريّ وتلك المدركات الكلّية؟ وأين يقع هذا الموضع الغامض والمبهم؟ فهذا هو الذي علينا أن نبحث عنه، ونُصلحه، لكي نصل إلى ذلك العقل العمليّ.

    1. لويس الرابع عشر (بالفرنسيّة: Louis XIV de France) كان ملكًا لفرنسا، وعاش من سنة ۱٦٣۸ م إلى سنة ۱۷۱٥ م.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

15
  • خطورة تخبّط الحاكم الشرعيّ على مستوى العقل العمليّ

  • وعليه، فإنّ هناك العديد من المسائل ذات الصلة بهذا الموضوع؛ ومن هنا، فإنّه يُقال: على الوليّ الفقيه والحاكم الإسلاميّ أن يكون ثابت العزم، وصامدًا، بحيث لا يتمكّن الناس من التأثير عليه؛ لا أن يقول اليوم كلامًا، ثمّ يتراجع غدًا عنه نتيجة لقائه بشخصين! فلا ينبغي أن يسمح للناس بأن يُحيطوا به، ويسوقوا فكره ورأيه في اتّجاه مغاير، بل يجب أن يكون لديه رسوخ في الفكر والعقيدة، واستقامة في النفس؛ ولهذا نحتاج إلى العقل العمليّ؛ لا أن يأتي رجلان، ويُحيطان بالإنسان، ويُفعمانه بالمدح والثناء والصلوات، ثمّ يأتي آخران، ويقومان من مكانهما عند مجيئه تعظيمًا، فينسى هذا الإنسان من يكون، وإلى أين يذهب، وما هي حقيقته؛ أو أن يأتي شخصان، فيحكيان له مسألتين محزنتين، فتراه يبدأ بعد مدّة بالبكاء، في حين أنّ تلك الحكاية مجرّد رواية كاذبة. فما هي حقيقة هذه الروايات التي يُؤّلفونها؟ عبارة كلّها عن مخترعات ومختلقات ذهنيّة، حيث تجد المصنّف يمتلك مهارة في التأليف، فيعمد إلى صياغة الرواية منذ بدايتها إلى نهايتها، بنحوٍ يدفعني أنا القاريء للبكاء من دون اختيار عند قراءتها؛ في حين أنّها تكون مفتقرة لأيّ أساس.

  • يقول أحد الخطباء: قرأت رواية اليتيم للدكتور جواد فاضل مرّتين، فأجهشت بالبكاء طويلاً في كلتي المرّتين؛ هذا، مع أنّني قرأتها أيضًا، ولم تُؤثّر فيّ أبدًا! فما هو سبب ذلك؟ في حين أنّها لا تمتلك أيّ أساس. وما هي حقيقة هذه الأفلام التي تُشاهدونها؟ مع أنّكم لا تُشاهدونها أنتم إن شاء الله تعالى، بل كلامي موجّه للناس؛ وما هي حقيقة هذه المسلسلات والأفلام؟ هل حصل معكم لحدّ الآن أن كنتم تُشاهدون التلفزة، فجاء على بالكم في تلك اللحظة أنّ هذه كلّها عبارة عن أفلام؟ أو أنّكم كنتم تنظرون إلى أحد الأفلام، فغُصتم تمامًا في الأحداث، وبدأتم تُشاركون الممثّلين فيها، فأثّر ذلك في حركة أيديكم وكيفيّة تغيّر ملامحكم.. يا عزيزي، إنّ هذا مجرّد فيلم؛ وقد وضعوا هناك آله تصوير، وهم يُمثّلون وحسب؛ فإذا نظرت إلى ما خلف الستار، لكي ترى ما الخبر، ستجدهم يسخرون من بعضهم البعض، أو يسخرون منّا نحن! فهذه عبارة عن أفلام بأجمعها؛ لكن ما سبب ذلك؟ سببه العواطف والإحساسات.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

16
  • فالحاكم الإسلاميّ لا ينبغي عليه أن يكون بهذا النحو، بل عليه أن يكون ثابت العزم، وصامدًا، وله نفس صلبة، بحيث إذا جاءه شخصان أو ثلاثة، لا يكون بوسعهما تغيير رأيه؛ وأنا أعرف أحدهم تسلّم وللأسف منصبًا مهمًّا بعد وفاة أحد الأعاظم، فحدث ما لم يكن ينبغي أن يحدث، حيث وصل إلى علمي أنّه غيّر رأيه أربع مرّات في غضون يوم واحد! ففي الصباح، كان له رأي خاصّ، فالتقى بأحدهم، فغيّر هذا الرأي؛ ثمّ التقى به مرّة أخرى، فغيّر رأيه؛ وفي الليل، بدّل رأيه للمرّة الرابعة؛ ومع كلّ ذلك، نجد هذا الشخص يتقلّد مسؤوليّة [إدارة] مؤسّسة عقائديّة.. ساعدنا الله تعالى! فهو لم يتحمّل مسؤوليّة مؤسّسة تنفيذيّة، بل أعلى من ذلك: مؤسّسة عقائديّة؛ وحينئذ، تعالوا، وانظروا إلى ما الذي سيحصل!

  • رحمة الله تعالى على المرحوم الوالد، فقد كان يقول: «بعد وفاة المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازيّ، لم أُرجع الناس إلى أيّ أحد آخر»؛ فهذا من كلامه عنه، حيث كان يُحدّثنا كثيرًا عن سيرته، وتقواه، وزهده، وأحواله، وأموره المعنويّة؛ فكان يمتاز كثيرًا عن بقيّة أقرانه، وهو رجل قلّ نظيره؛ فجاءه شخصان من أقرب مقرّبيه ـ ولو بيّنت قليلاً قد يتّضح من يكونا ـ، وكانا من علماء النجف يمتّون له بصلة قرابة، فأرادا التدخّل في مسألة معيّنة، فلم يسمح لهما بعد ذلك بالمجيء إلى بيته إلى آخر عمره، [وقال لهما]: اذهبا ولا ترجعا أبدًا؛ هذا، مع أنّهما كانا من أرحامه، وأقرب أقربائه المقرّبين، لكنّه طردهما من المنزل، إلى درجة أنّه لم يسمح لهما بالمجيء إليه حتّى آخر عمره! لماذا تتدخّلون في عملي؟

  • هذا الذي من شأنه أن يكون مرجعًا؛ هل هذا واضح؟ أي ذلك الشخص الذي يتحلّى بالاستقامة النفسيّة، ويكون من شأن عقله العمليّ مساعدته في مواءمة نفسه مع تلك المباديء الكلّية والمسلّمة، لا أن يكون خاضعًا للإحساسات، واللقاءات، والكلمات، والأحداث، ومختلف المسائل، بحيث يصطبغ كلّ يوم بلون، ويُغيّر وجهه كلّ ساعة؛ فهذا لا يُمكنه [أن يكون مرجعًا].

  • لقد انتهى الوقت، وعلى الأرجح أنّ الرفقاء يشعرون تجاهي ببعض الأمور، فأرجو منهم أن يعفوا عنّي؛ إذ كان مقرّرًا أن أشرع في مسألة جديدة؛ ولو كنت أعلم أنّ لديّ فرصة أكبر، لما أطلت الحديث عن تلك المسألة، ولتمكّنت بذلك من التطرّق للمسألة اللاحقة.

العقل النظريّ والعمليّ - مقدّمة في البحث عن ملاك تفضيل الرجل

17
  • فالسؤال الذي سنبحث عنه لاحقًا هو: ما هو العقل الذي تحدّث عنه أمير المؤمنين عليه السلام حينما قال: النّساء نَواقِصُ العُقُول؟ هل هو العقل النظريّ أم العمليّ؟ فهل إنّ النساء متأخّرات عن الرجال من حيث العقل النظريّ، أي أنّهنّ عاجزات عن إدراك الواقع؟ لا، هذا غير صحيح، حيث إنّ النساء ـ بالمناسبة ـ يُفكّرن بنحو جيّد جدًّا، ويُضاهين الرجال في التوصّل إلى الكلّيات، وإدراك تلك المسائل، وحتّى أنّنا سنبيّن أنّ العديد من النساء يتفوّقن من هذه الناحية على العديد من الرجال؛ فلا يوجد اختلاف بين النساء والرجال من حيث الوصول إلى المسائل الكلّية، والتوصّل إلى القيم، وبلوغ الواقعيّات، وإدراك صحّة القضايا الكلّية وسقمها؛ لكن، هل هنّ أدنى من ناحية العقل العمليّ؟ قد يُشكّك البعض في هذه المسألة، ولا يقبل بها؛ والمرجو من الرفقاء والأحبّة أن يُفكّروا في هذه المسائل، ويطرحوها مع الآخرين، ويُقيّموا آراءهم، لكي نرى في الجلسة القادمة ما هو الحلّ الذي يُمكن تقديمه لهذه المسألة.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد