المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتدبير والأسرة
التوضيح
ما هي الرؤية التفريطيّة لشخصيّة المرأة؟ ما هي الرؤية الإفراطيّة لشخصيّة المرأة؟ هل تختلف المرأة عن الرجل من حيث العقل النظريّ؟ كيف تتدخّل الغرائز في وظيفة العقل العمليّ؟ هل موضع انحراف الإنسان عقله النظريّ أم العمليّ؟ ما هو الدور الذي تلعبه العواطف في إعاقة العقل العمليّ عن أداء وظيفته؟ ما هي الحالات التي يُعاني فيها رأي النساء من الضعف؟ هل الحُكم بضُعف رأي النساء مُطلق؟ هي تساؤلات سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لإكمال حديثه عن العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة.
هو العليم
وظيفة العقلين النظريّ والعمليّ والمراد الحقيقيّ من ضُعف رأي النساء
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۷٦
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
كان الحديث يدور حول أسلوب المحافظة على العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، ومراعاة حدود التكاليف التي وضعها الله تعالى والشريعة الإسلاميّة على عاتق كلّ واحد منهما، وقلنا بضرورة الالتفات إلى أصل وأساس هذا الحكم الإلهيّ قبل الخوض في هذا الموضوع، حيث كان هذا الأساس محلّ نقاش بين العديد من الأفراد، كما أنّه أثار اهتمام الكثيرين للبحث عنه والتقصّي بشأنه؛ وكما أشرنا إلى ذلك، فإنّه قلّما نُشاهد أنّ أحدهم سلك على ما يبدو طريق الاعتدال في بحثه عن هذه المسألة؛ فانتهج البعض في تعامله مع مسألة العلاقة بين الزوج والزوجة طريق التفريط، إلى درجة أنّه قد يظهر من عباراته نوع من اللامبالاة وعدم الاحترام تجاه شخصيّة المرأة.
النظرة التفريطيّة لشخصيّة المرأة
أذكر أنّني ذهبت ذات يوم مع المرحوم العلاّمة إلى مكان ما، حيث تعود هذه الحكاية إلى ما قبل إحدى أو اثنتين وثلاثين سنة، فكان أحد الأفراد المتواجدين بالسيّارة ينقل كلمات ومسائل مختلفة عن عالم من علماء طهران البارزين، وأنّه حينما كان يجلس مع رفقائه وأصدقائه ومختلف الناس، كان يطرح مثل هذا الكلام: أشكر الله تعالى أنّه خلقني بهذا النحو، وأنّه جعلني من أمّة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّه وهبني كلّ هذه النعم، وأمثال ذلك؛ ثمّ قال فجأة: أشكر الله تعالى أن خلقني رجلاً! فقال المرحوم العلاّمة: مهلاً أيّها السيّد! ما هذا الكلام؟! فـ «أشكر الله تعالى على أن خلقني رجلاً» تعني أنّه: من الجيّد أنّه تعالى لم يخلقني امرأةً؛ أ وهل يوجد إشكال في المرأة؟! إنّ المرأة أحد ركني عالم الخلقة، ولولاها، لما وُجد الخلق؛ وللمرأة دور بارز في هيئة تكوين الإنسان من حيث التأثير والتأثّر، والفعل والانفعال، والجوانب الخُلقيّة والخَلقيّة الإيجابيّة والسلبيّة؛ وفعل الله تعالى غير عبثّي؛ فهذه العبارة لا يجوز أن تصدر من إنسان معتقد وعالم بالمبادئ الإسلاميّة؛ مع أنّ ذلك الشخص كان أيضًا يتمتّع بوجاهة كبيرة، ومن العلماء والزهّاد والعبّاد المشهورين بمعنى من المعاني.
من الأمور التي بدا لي أن أعرضها في هذا المجال على الأحبّة والرفقاء هي أنّ الهدف من بيان المسائل التي نطرحها في هذه الجلسات يتمثّل في عرض المبادئ والعقائد الإسلاميّة الأصيلة من وجهة نظر عظماء أهل المعرفة والأولياء والأشخاص الذي ينظرون إلى الحقائق والأحكام الدينيّة ببصيرة مفتوحة؛ وذلك لأنّ الأحبّة [لهم اطّلاع] إلى حدّ ما على منهج ومسلك العظماء من الفقهاء والعرفاء وعلماء الدين الذين طرحوا في هذا المجال بعض المسائل والكلمات التي يُعدّ كلّ واحد منها مفتاحًا للطريق بالنسبة للإنسان؛ ففي ليلة أمس، كنت أبحث عن شيء في إحدى الخزانات، فوقعت عيني صدفةً على شريط تسجيل كنت غافلاً عن وجوده تمامًا، ويتضمّن كلامًا للمرحوم العلاّمة لا تتجاوز مدّتُه عشرين دقيقة تقريبًا؛ فقد كان هذا الشريط يشتمل على كلمات متفّرقة، وفي ضمنها عشرون دقيقة من الواضح على ما يبدو أنّها تتعلّق بإحدى جلسات ليالي شهر رمضان التي تحدّث فيها المرحوم العلاّمة بمشهد، فانتابني الفضول لكي آخذ هذا الشريط [وأستمع إليه]، فتخطّيت الجزأين الأوّل والثاني منه، إلى أن وصلت إلى كلام المرحوم العلاّمة، فأنصتُّ إلى خمس دقائق منه، ولم أستطع المواصلة لأنّه كان لديّ شغل؛ لكن، مجرّد هذه الدقائق الخمس كانت تتضمّن مسائل قد تكفي بحقّ للتمييز بين الحقّ والباطل.. لاحظوا، فإنّه يوجد بون شاسع بين أسلوب كلام وطريقة بيان أحد العظماء الذين ينظرون ببصيرة وعين مفتوحة، وبين الأشخاص الذين يُطالعون المسائل من الكتب، ويقومون بعرضها على الناس؛ فهناك فارق شاسع بينهما، بل إنّ الفارق بينهما هو كالفارق بين المغرب والمشرق.
فهدفنا هو عرض هذه المسائل؛ وبطبيعة الحال، فإنّ الرفقاء والأحبّة لهم اطّلاع عليها إلى حدّ ما، وهم يتوقّعون أيضًا أن تكون المباحث التي تُطرح متضمّنة لآراء العظماء ووجهات نظرهم؛ ولهذا، فإنّنا لا ننقل المسائل هنا من أيّ أحد كان، ولا يستطيع أيّ واحد أن يُعاتبنا على ذلك؛ إذ هناك كلام كثير ومسائل مختلفة تُطرح في كلّ مكان وزمان، ولا حاجة لنا في تكرارها؛ لأنّ الأفراد الذين يأتون إلى هنا يسعون إلى هدف آخر وغاية مختلفة؛ وإذا كان من المقرّر أن نطرح في هذا المقام كلّ كلام ومسألة، فإنّ الحديث سيطول بنا كثيرًا، ويُؤدّي إلى تضييع الوقت والفرصة؛ ولهذا، فإنّنا سنسعى ـ بقدر المستطاع ـ إلى بيان المسائل بشكل مقتضب جدًّا، وعرض القضايا الأساسيّة من وجهة نظر العرفاء بالله وبأمر الله، حيث يُراد هنا من عبارة «بأمر الله» أهل الشريعة والعلماء بالفقه الذين ينظرون إلى كلّ من الشريعة والفقه من مصدرهما ومنبعهما الحقيقيّ؛ ولهذا، قد ننقل بعض المسائل أحيانًا عند وجود مناسبة معيّنة، وذلك من أجل الاستشهاد بها على موضوعنا، وإماطة اللثام عنه، لكن من دون أن نأتي على ذكر اسم الشخصيّات؛ فالمرجوّ من الرفقاء ألاّ يُصرّوا في السؤال عن أسامي الشخصيّات؛ إذ حينما يكون الأمر ضروريًّا، فإنّني أذكره بنفسي؛ فالمهمّ هو فهم المسائل والتعرّف عليها؛ كيفما كان الشخص الذي صدرت منه؛ وإذا كنت قد طرحت عليكم الآن بعض الخصائص والمميّزات [المتعلّقة بتلك الشخصيّة]، فلأنّه حينما أقول في بعض الأحيان مثلاً: «إنّ فلانًا قال كذا»، فإنّ هذه المسألة ستبدو تافهة جدًّا بالنسبة لي ولأمثالي؛ لكن، حينما أقول: «إنّ العالم الفلانيّ الذي كان من الزهّاد والعبّاد ومن الشخصيّات المعروفة قال كذا»، فإنّ ذلك سيحكي أوّلاً عن حساسيّة هذا المورد باعتبار دلالته على رأي إنسان عالم بشأن تلك القضيّة، وثانيًا عن أنّ ذلك الرأي هل هو صحيح أم لا؛ فعبارة «أشكر الله تعالى على أنّه لم يخلقني امرأة» هي عبارة خاطئة من منظور النظام التشريعيّ؛ وبالمناسبة، فإنّني أمزح أحيانًا مع بعض الرفقاء والأحبّة، وأقول لهم: ليت الله خلقني امرأة، وذلك بسبب كلّ الأتعاب والمصائب التي تقع بحقّ ـ ونحن هنا لا نمزح بل هي حقيقة ـ على الرجال دون النساء؛ وأنتم مطّلعون بأنفسكم على هذه الأمور بأجمعها؛ أجل، يبقى أنّهنّ يتحمّلن مشقّة كبيرة في الحمل، ومن المفروض أنّ الله تعالى سيمنحهنّ أجرًا عظيمًا، حيث لدينا روايات عديدة بهذا المضمون؛ فبسبب تحمّلهنّ لهذا العناء، ثمّ تربية الأولاد بعد ذلك، قال الرسول عن مسألة احترام الأمّ ومراعاة شؤونها: «إنّ اللهَ قد جَعَلَ الجَّنَّةَ تَحتَ أَقدام الأمَّهاتِ»۱؛ فهذا ليس من باب العبث، بل إنّ هذه مسائل [واقعيّة]؛ لكن، بشكل عامّ، فإنّ الرجل يفوق المرأة من ناحية مواجهته للابتلاءات والصراعات والتوتّرات والمصائب؛ وهذا نقوله من دون مجاملة؛ لكن، أن يأتي الإنسان، ويعرض المسألة بتلك الطريقة، فإنّ ذلك يدلّ على امتلاكه لرؤية غير واقعيّة وغير سليمة لعالم التكوين والخلق ولنظام عالم التشريع؛ وهنا لا يهمّنا إلاّ بيان هذه المسألة، وأمّا أن نأتي على ذكر اسم ذلك الرجل، فهذا لا يصحّ، سواءً تمكّن الإنسان من تخمينه أم لا؛ وعلى أيّ تقدير، لا يوجد أيّ داع لتتبّع الناس؛ فإذا كان المراد هو استيعاب المسألة، فإنّ ذلك يتحقّق بتلك الكيفيّة أيضًا.
الرؤية الإفراطيّة لشخصيّة المرأة
فمن المؤسف أنّ العديد من الناس بل حتّى العلماء يمتلكون نظرة خاطئة عن شخصيّة المرأة تتعارض مع نظرة الإسلام والعرفاء، والتي تُعدّ نظرة واقعيّة إلى عالم التكوين، وإلى عالم التشريع تبعًا لذلك. وفي المقابل، انتهج البعض سبيل الإفراط في تعاملهم مع هذه المسألة، بحيث بلغ بهم الحدّ إلى القول بأفضليّة النظام الخَلقيّ للمرأة على الرجل من حيث خصائص عالم التكوين؛ وقد قرأت في بعض الكتب أنّ المصنّف اعتبر بلوغ المرأة في سنّ التاسعة كأحد الأدلّة المحكمة على رجحان عقل المرأة على الرجل؛ فبما أنّ البنت تصير بالغة عند هذا السنّ ـ مع العلم أنّ الدين والتكليف يتعلّقان بالبلوغ العقليّ ـ فإنّ عقل البنت في سنّ التاسعة يكون أكمل من عقل الولد!
أوّلاً، يوجد كلام في أصل مسألة البلوغ، فهي لا تتحقّق في سنّ التاسعة، بل إنّ بلوغ البنات يحصل ما بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة سنة؛ وأمّا البلوغ الوارد هنا [سنّ التاسعة]، فيتعلّق بحالة الإلزام التي يتوفّر عليها الوالدين تجاه أبنائهم فيما يخصّ أداءهم للتكاليف؛ بمعنى أنّه ليس في الحقيقة سنًّا لبلوغ البنت، بل إنّ هذا السنّ والوصول إلى هذه المرتبة يفرضان على الوالدين أن يزيدا قليلاً من مراعاتهم لمسألة أداء أولادهم للتكاليف؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّنا نُشاهد عدم وجود فارق بين البنت ذات التسع سنوات، والولد الذي يبلغ نفس العمر؛ إذ من شأن كلّ واحد منهما أن يعكفا على اللعب بالدمى؛ غاية الأمر أنّ أحدهما يلعب بالكرة، والآخر يتعاطى لتلك الألعاب الصبيانيّة.
فهل لديكم بنت تبلغ من العمر تسع سنوات، أم لا؟ فهل نستطيع القول إنّ بنتًا بهذا العمر، أو حتّى بعمر العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة (فنضيف ثلاث سنوات) إذا ارتكبت جريمة، فإنّ المحكمة ستُصدر في حقّها حكمًا، وتُعاقبها، وتقتصّ منها؟! فهذا العمل سيُعتبر جنونًا من قبل بقّال الحيّ، فضلاً عن الفاعل الحكيم والإله الحكيم على الإطلاق الذي تتكّئ جميع أفعاله والتكاليف التي يُكلّف بها عباده على الحكمة؛ فحتّى المجنون لا يُقدم على هكذا فعل، كأن نفرض أنّ بنتًا ذات تسع سنوات ارتكبت مثلاً جريمة، وصدر منها خطأ معيّن ـ بأن تلقي بحجر، فيُصيب أحد الأشخاص ـ فيُقال: علينا أن نقتصّ منها، ونضربها بالحجر على رأسها! أو أن تضرب أحدهم، فيُقال: علينا أن نفعل لها الشيء ذاته من باب القصاص؛ أو الأهمّ من ذلك: أن تترك صلاتها، وترتحل عن الدنيا بهذه الحالة، فيُقال: إنّها تستحقّ العقاب؛ فيُعاقبها الله تعالى، ويُدخلها جهنّم؛ لأنّها لم تُصلّ أمس! فهل الأمر بهذا النحو؟! وهل تقبلون أنتم بهكذا إله؟!
أ ولا ينبغي علينا التشكيك في أسلوب كلام ونيّة الذين يجعلون هذا الأمر دليلاً على أفضليّة المرأة على الرجل؟ بمعنى أنّه: إذا جاء إنسان عاديّ، وسمعني أحدّثكم بهكذا مسألة، ألن يُثير ذلك ضحكه وتعجّبه؟ ألا تضحكون أنتم في أنفسكم، وتتعجّبون من أنّ بنتًا ذات عشر سنوات أو إحدى عشرة سنة ـ بإضافة سنة أو سنتين ـ ستستحقّ العقاب إذ لم تُصلّ أو تصم؟! ففي أحد أسفاري، كنت موجودًا بمنزل أحد الأصدقاء، وكانت ابنته صائمة، فشاهدتها بنفسي تأكل الشوكولاتة في الخفاء! مع أنّه لا ضير في ذلك؛ ثمّ جاءت، وقالت: إنّي صائمة، وجلست على مائدة الإفطار؛ وأنا بدوري لم أبُدِ لها أيّ شيء، بل شجّعتها، وقلت لها: أحسنت، عليك القيام بهذا الفعل دائمًا! مع أنّني شاهدتها بنفسي تأكل الشوكولاتة، والحلويات.
فهذا هو عين ما ذكرناه؛ لأنّها لا تتوفّر على عقل من الأساس حتّى تستوعب ما هو التكليف، وما هو الصيام، وما هي المسؤوليّة، وما هي هذه الأمور؛ فلا علم لها بكلّ ذلك؛ وحينئذ، إذا حصلت حادثة، وارتحلت عن هذا العالم مع قيامها بذلك الفعل، هل سيُعاقبها الله تعالى؟ إذا عاقبها، فلن نقبل به كإله! فإذا كان هذا الإله يأتي للكبار الذين ارتكبوا الآلاف من [الذنوب]، فيستر عليهم، ويفعل لهم كذا، هل من شأنه أن يُعاقب بنتًا ذات عشر أو إحدى عشرة سنة، مع أنّها لا تمتلك عقلاً من الأساس، ولا تدري ما الذي تفعله، ولا تتمكّن من النظر إلى أبعد من متر أمامها؟! وحينئذ، هل بوسعنا أن نعدّ هذا دليلاً على رجحان عقل المرأة على الرجل؟ هل هذا صحيح؟ لو كان الأمر كذلك، لتوجّب على الإنسان الشكّ في الكثير من المسائل الأخرى!
لقد جاء هؤلاء وانتهجوا سبيل الإفراط بهذا النحو؛ وأمّا البعض الآخر، فقد عمدوا ـ كما بينّا سابقًا ـ إلى إراحة أنفسهم بشكل مطلق من تعب الإجابة عن هذه المسألة؛ وذلك من خلال عبارات مثل: «لا أعلم»، و«ماذا يُمكنني أن أقول؟»، و«هذه المسائل غير مطروحة»، وقالوا: «إنّ نهج البلاغة يفتقر إلى سند! ونحن لا نفهم هذا الكلام»؛ وأمثال ذلك. حسن جدًّا، فنحن لا شغل لنا أيضًا مع هؤلاء؛ لأنّ الكلام يقع في حالة ما إذا اعتبرنا نهج البلاغة صادرًا من أمير المؤمنين، وهذه العبارات مترشّحة منه عليه السلام، وقلنا إنّ ثبوت هذه المسائل يُضاهي ثبوت بقيّة المسائل التي تُنقل وتُنسب إليه عليه السلام بسند أقوى بألف مرّة؛ ففي هذه الحالة، ما الذي ينبغي علينا فعله؟ فكلامنا يقع في هذه الدائرة، وفي هذا المجال.
وظيفة العقل النظريّ وعدم اختلاف النساء عن الرجال فيه
ذكرنا في الجلسة السابقة أنّ الله تعالى جعل في وجود الإنسان عقلين؛ وبعبارة أخرى أنّه وضع فينا قوّة وملكة اسمها العقل، وخلق فينا قدرة وقوّة وطاقة على تمييز الحقّ والباطل، وهذه القوّة والقدرة تُؤدّي فعلين:
الأوّل: الخوض في المسائل الكلّية والقيم باعتبارها معايير في عالم الوجود، والتعرّف على حقائق هذا العالم.
الثاني: الاهتمام بكيفيّة مطابقة الإنسان نفسَه مع هذه المعايير، أو تطبيقه لها.
وقد طُرحت مجموعة من الأمثلة على هذه المسألة؛ ومن باب المثال، فإنّ كلّ إنسان له عقل سليم يُدرك أنّ الصدق يتطابق مع معايير عالم الوجود؛ لماذا؟ لأنّ عالم الوجود ونفس الأمر هو أمر واقعيّ وحقيقيّ، وكلّ ما يحدث ويتحقّق [في هذا العالم] يتوفّر على واقعيّة خارجيّة لا يستطيع الإنسان أن يتحاشاها ويُنكرها؛ فأن يهطل المطر مثلاً، وتتساقط الثلوج، ويقع زلزال، ويولد فلان، وتُقترف المعصية الكذائيّة، ويُرتكب القتل الكذائيّ، ويصدر الكلام الكذائيّ في أحد المجالس.. كلّ هذه مسائل تتحقّق وتحدث، من دون أن نستطيع نحن إنكارها؛ وهنا، بوسعنا أن نتّخذ أحد موقفين تجاه هذا الأمر: الأوّل، أن نواءم أنفسنا في مقام الإثبات والنقل مع ما تحقّق وحدث؛ وبالتالي، سيكون هذا الكلام والنقل متطابقًا مع عالم الواقع ونفس الأمر؛ والموقف الثاني ألاّ نواءم أنفسنا في مقام الإثبات والنقل مع ما حصل وتحقّق؛ فإذا هطلت الأمطار، نقول إنّها لم تهطل، وإذا وقع زلزال، نقول إنّه لم يقع، وإذا قتل أحدهم آخر، نشهد كذبًا بأنّه لم يقتله، وإذا ارتكبت معصية كالرشوة مثلاً في إحدى الإدارات، نشهد بأنّها لم تُرتكب، وإذا حصل ظلم في المنطق الفلانيّة، ننكر هذا الظلم، ونقول إنّ العدل هو الذي تحقّق هناك؛ ففي جميع هذه الموارد، نجد عدم تطابق الموقف في مقام الإثبات مع الواقع، ومع ذلك الأمر المتحقّق في الخارج؛ وهذا يكون كذبًا؛ فذاك يكون صدقًا، وهذا يكون كذبًا، مع أنّ الواقع لم يتغيّر على ما هو عليه.
فالعقل هو قوّة جعلها الله تعالى في الإنسان تحكم ـ من دون الحاجة إلى أيّ نبيّ أو مرشد أو هداية أيّ شخص آخر ـ بلزوم أن يواءم هذا الإنسان نفسَه مع الواقع ونفس الأمر؛ أليس كذلك؟ فمن باب المثال، لا ينبغي على الإنسان أن يكذب؛ فالمسيحيّ يحكم بالشيء ذاته، وكذلك اليهوديّ، والشيوعيّ؛ فجميع الأفراد ـ بالنظر إلى وجودهم وتلك القدرة والقوّة والملكة الأوّلية على تمييز القضايا المكنونة فيهم ـ يصلون إلى مسألة واحدة؛ ألا وهي حقّانية الصدق والاستقامة والصواب؛ وهذا هو العقل النظريّ.
ومن هنا، فإنّ العقل النظريّ يتعلّق بكيفيّة العلم بالقضايا وواقعها؛ خلافًا لمن اعتبره ناظرًا للعلاقة القائمة بين القضايا والمسائل المنطقيّة؛ وهو موجود في الجميع من دون أيّ شكّ؛ وممّا لا ريب فيه عدم وجود أيّ فارق بين الرجل والمرأة من هذه الناحية؛ أي كما أنّ الرجل قادر على استخدام عقله، والوصول إلى الحقائق، والاطّلاع على القيم، والتوصّل إلى المسائل الكلّية، والتعرّف على المعايير، وبلوغ كلّ ما يتمتّع بالواقعيّة في عالم الوجود، فإنّ المرأة قادرة أيضًا على الوصول إلى هذه الأمور من دون أيّ فرق.
أجل، كما أنّه من الممكن وجود اختلاف بين الرجال في القدرة العقليّة، بحيث قد يتوصّل أحدهم إلى مسألة في دقيقة، وآخر في ساعتين من التفكير، فإنّ النساء هنّ أيضًا كذلك. ومن هنا، فإنّنا لا نستطيع القول إنّ الرجال يتفوّقون على النساء بسبب هذه المسألة؛ ونحن نُشاهد الآن أنّ النساء يحتللن موقع الريادة في العديد من العلوم المعاصرة، بل حتّى أنّهنّ يسبقن الرجال في عدّة علوم ومسائل علميّة، كالرياضيّات، والكيمياء، والعلوم التجريبيّة وغير التجريبيّة، وأمثال ذلك؛ فلهنّ عقول وتفكير، ويهتممن بالدراسة، ويبذلن جهودًا بالغة في هذا المجال؛ وبالتالي، قد يتقدّمن على عدّة رجال من هذه الناحية؛ ونحن نُشاهد أنّ البنات قد يتقدّمن في بعض الصفوف الدراسيّة على الأولاد؛ ومن هنا، يتبيّن عدم وجود فارق في هذه المسألة من حيث الفهم، وإدراك الواقع والقيم، وأنّ مراد أمير المؤمنين من قوله: «وَاعلَمُوا أنَّ النِّساء نَواقِصُ الْعُقُول»۱ ليس هذا القسم من العقل؛ أي العقل النظريّ؛ إذ كما أنّ النساء يتوفّرن على مراتب مختلفة من العقل، فإنّ الرجال هم بنفس النحو أيضًا، حيث تجد أحدهم يتوصّل إلى مسألة بسرعة، وآخر يتوصّل إليها متأخّرًا؛ فالحكيم الذي تمرّن عقلُه على المسائل الكلّية يتمكّن من كشف المسائل العويصة ـ وبعبارة أخرى القضايا أو التصوّرات النظريّة ـ بشكل أسهل من الناس العاديّين الذين ليس لديهم اطّلاع كبير على المسائل الكلّية والمباحث الغامضة؛ مع أنّ هؤلاء يستطيعون التوصّل بدورهم إلى هذه المسائل إن خاضوا فيها.
والمسألة الأخرى التي تحدّثنا عنها أنّ هذا العقل الذي يكون ـ من حيث مطابقة ذاته مع الواقع ـ في صدد الوصول إلى هذا الواقع، وكشف المجهولات المتعلّقة بالقضايا والحقائق والمسائل الواقعيّة هو من المواهب الإلهيّة؛ أي أنّ العقل هو الذي يأتي أوّلاً، ويُسلّط الضوء على الواقع باعتباره معيارًا ومبدءًا؛ وبعدما يتّضح هذا الواقع، فإنّه يسوق الإنسان على أساسه؛ وهنا، تكمن النقطة الدقيقة التي ينبغي طرحها، والتركيز عليها، وجعلها كمحور تدور عليها المسألة [التي نبحثها].
الغرائز الإنسانيّة وتأثيرها الواضح والخفيّ في أفعال الإنسان
فالله تعالى خلق البشر من غرائز وصفات وملكات مختلفة؛ وهذا أمر لا ريب فيه؛ إذ يتوفّر الإنسان على غرائز شتّى؛ كغريزة الشهوة، وطلب اللذّة، والغضب، والتفكير، والرحمة، والشفقة، والإيثار، والوحدة مع بني نوعه وجلدته، وله غريزة طلب الكمال والرقيّ وإيصال استعداداته إلى مرحلة الفعليّة، وغريزة الجرأة والشهامة والشجاعة، وله أيضًا غريزة يدفع بها المفاسد ويجلب بها المصالح؛ فهذه غرائز جعلها الله تعالى في وجود الإنسان؛ وهي بأجمعها غرائز وصفات تُشكّل بناءً تترشّح منه مجموعة من الآثار والخصائص التي تتسرّب إلى الخارج؛ فجميع هذه الغرائز المكنونة في نفس الإنسان ـ بمختلف المراتب التي يحتلّها ـ تُؤثّر مباشرةً في فكره ونيّته وعمله؛ فنرى الذي يتمتّع بغريزة الجود والكرم يجود على كلّ من يلقاه ويعرف أنّه محتاج؛ وأمّا الذي يتوفّر على حظّ قليل من هذه الغريزة، فإنّك تراه يتوقّف عند مواجهته للفقراء، ويتجاوز هذه المسألة؛ وحتّى إذا جاد بشيء، فإنّه يجود بالقليل؛ والذي يمتلك غريزة الإيثار وحبّ الإنفاق، فإنّه متى ما التقى بإنسان محتاج، فإنّه يعدّ نفسه شريكًا له في هذه الحاجة؛ بينما تجد الذي ليس بهذا النحو يمرّ على الموضوع [من دون ردّة فعل]؛ فأفعال الإنسان تختلف بحسب اختلاف شدّة وضعف هذه الغرائز والملكات؛ أي أنّ أفعالنا وليدة للغرائز المكنونة في وجودنا؛ ولهذا السبب، يتعيّن علينا الاهتمام بتعديل غرائزنا، وتصحيح أفكارنا ونيّاتنا.
هذا، وللباري تعالى في القرآن الكريم إشارات إلى هذه المسألة، بل وتصريحات بها؛ وذلك حين حديثه عن إغواء الشيطان وانحراف بني آدم، حيث يقول على لسان الشيطان: ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾۱؛ أي أنّ الشيطان يقول: سأكون قرينًا ومرافقًا لجميع الناس، وأصحبهم في جلوسهم وقيامهم؛ ولا شكّ في ذلك؛ فنحن نُشاهد هذه المسألة حقيقةً طوال عمرنا وحياتنا، ونرى بأعيننا، ونشعر بوجودنا أنّ الشيطان لا يتركنا لحالنا أبدًا، بحيث لا يستطيع أيّ أحد الادّعاء بأنّه تجاوز هذه المرحلة، ولم يعد يقلق على نفسه من هذا الأمر، وإلاّ سيكون مخادعًا لنفسه. أذكر أنّ أحد الأشخاص كان يعقد في طهران مجالس من تلك التي يُصطلح عليها بالمجالس الولائيّة! فكان يُقيم مجالس لقراءة دعاء كميل ليلة الجمعة، ومجالس عزاء، ومجالس للاحتفال بالأعياد يحضرها الناس؛ وقد سمعت عنه بعض المسائل والعقائد الباطلة؛ ومن ضمنها أنّه كان يقول: إنّ الأئمّة عليهم السلام لا يُحدِثون، ولا يحتاجون إلى الوضوء؛ وهي مسألة باطلة؛ وكان يقول أيضًا: لا ينبغي على الإنسان أن يتوسّل في ليالي الإحياء بالله تعالى، بل عليه أن يتوسّل بالإمام؛ لأنّ الإنسان هو على درجة من البعد عن المقام الإلهيّ المنيع، بحيث يعجز عن الوصول إليه؛ ولهذا، عليه أن يتوسّل بالأئمّة عليهم السلام الذين يحتلّون مقامًا يتلو مقام الذات؛ وذلك على مستوى التجلّيات العظمى؛ فكان يطرح هذه المسائل على بعض الجهلة من الناس، ويُريد أن يرفع من مكانة الإمام بدافع محبّة كمحبّة الدبّ الأحمق!٢ لكنّه لم يكن يعلم أنّه يُخالف بفعله ذاك جميع مباديء الإمام؛ فتجد هؤلاء يدّعون مقامًا عظيمًا لأمير المؤمنين، لكنّهم يحطّون في الوقت ذاته من مقام النبيّ الأكرم؛ فيقولون: إنّ مكانة أمير المؤمنين هي على درجة من العظمة، بحيث إنّه وضع قدمه على كتف النبيّ الأعظم، وهدّم الأصنام؛ وبالتالي، يتبيّن أنّه أعلى منه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ أو ينظمون بعض الأشعار في هذا المجال، ويقولون عن جهل:
از بس كه خدا عشق به حيدر دارد | *** | انگار نه انگار پيمبر دارد |
[يقول: من شدّة الحبّ الذي أولاه الله لحيدر، صار وكأنّه ليس لديه نبيّ أبدًا]
أيّها الأحمق، إن كنت تُريد نظم الشعر، فاذهب إلى مكان آخر! فنحن لدينا مواضع كثيرة لقراءة الأشعار؛ نظير المقاهي والأمكنة التي تُعقد فيها جلسات الأنس؛ وأمّا مجالس الأئمّة عليهم السلام، فلا مكان فيها لهذه الترّهات، وهذا الهراء، وهذه الأراجيف؛ كما أنّ عليًّا غير راض عنك أبدًا؛ فلا تعتقد بأنّك كسبت قلبه عليه السلام؛ لأنّه بنفسه يقول: «أنَا عَبدٌ مِن عبيدِ مُحَمّد»۱؛ وحينئذ، نأتي نحن، ونكون «ملكيّين أكثر من الملك»٢، ونجعل مقام الرسول الأكرم ومكانته ـ بألفاظنا الخاوية ـ ألعوبة بأيدينا، مع أنّه صاحب مقام الولاية الكبرى، ومنزلة الخاتميّة في الرسالة أيضًا؛ وهذا بحقّ جهل كبير وشطط كثير.
لقد سمعت عن ذلك الشخص مسائل من هذا القبيل، لكنّني قلّما التقيت به، إلى أن جاء إلى مشهد، فأتى به أحد الأصدقاء السابقين عند المرحوم العلاّمة؛ هذا، ولم يكن للعلاّمة رحمة الله تعالى عليه وقت للالتقاء بكلّ أحد كيفما كان، إلاّ أنّه مع ذلك رضي باستقباله، فجاء عنده؛ لكن، عوض أن يجلس في مكانه [صامتًا] ... ففي نهاية المطاف، هو جالس عند أحد العلماء، وعليه الاستفادة من كلامه، غير أنّه بدأ بالحديث؛ فكان من جملة كلامه أنّه قال: «أنا أعتقد بأنّ الإمام لا يحتاج للوضوء أبدًا»؛ فقال له المرحوم العلاّمة: «إنّ قولك هذا باطل، فمن قال إنّه لا يحتاج إلى وضوء؟ وأيّ كتاب تحدّث عن هذا الأمر؟ ولماذا إذن كان عليه السلام يتوضّأ؟ هل كان يتوضّأ لأجل الناس؟ وحينئذ، ما معنى وضوئه في حالة الخلوة؟ فما هذا الكلام الذي تقوله؟»؛ ومن بين الأمور الأخرى التي ذكرها أنّه قال: «أشكر الله تعالى على أنّني وصلت إلى مرتبة لم يعُد فيها يصدر منّي أيّ ذنب»؛ فقال له المرحوم العلاّمة: «هذا بنفسه أكبر ذنب»؛ أي عين أن تشعر في نفسك الآن بهذا الشعور، وتحسّ بأنّه لن يصدر منك بعد الآن أيّ ذنب! فمن تكون أنت؟ وما هو هذا الذنب الذي لن يصدر منك؟ فأنت الآن تبلغ السبعين من العمر؛ وبالتالي، من الواضح أنّه لن تصدر منك الذنوب! هذا، مع أنّ الذنوب لا تنحصر في نوعين أو ثلاثة أو أربعة أنواع؛ فهناك أيضًا نفسك التي تأبى عن القبول ببعض المسائل، وإذا شعرت أنّ مكانتها في خطر ـ وقد رأيت صدور ذلك منه بأمّ عيني ـ، فإنّها تلجأ للمواجهة والتصدّي بشدّة؛ فأين أنت من هذه الأمور؟! فهي التي عليك أن تُصلحها، لكنّك لا تستطيع ذلك!
وعلى حدّ ذلك الكلام الحكيم الذي جرى في مكاشفة حصلت لأحد عظماء الطريقة؛ وهو بايزيد البسطاميّ، حيث كان يمرّ برفقة مجموعة من تلامذته من أحد الطرق، فهطلت الأمطار، وكان هناك كلب ساقط على الأرض، فبدأ يُلملم ثيابه حتّى لا تلمس ذلك الكلب؛ ولا يخفى أنّ هناك أسلوبين للملمة الثياب؛ فأحيانًا، قد يُلملم الإنسان ثيابه، ويكون هدفه من ذلك عدم لمس الكلب؛ لكن، أحيانًا أخرى، قد يترافق ذلك مع حالة من الاشمئزاز والتقزّز؛ وفجأةً، تكلّم الكلب بكلام لم يسمعه التلامذة، بل أدركه هو فقط؛ وهذه أمور واقعيّة وحقيقيّة، وقال له: هل انزعجت من مرورك من أمامي؟! أنت مخلوق لله، وأنا أيضًا مخلوق له تعالى؛ فمن الذي جعلك بايزيدًا، وجعلني كلبًا؟ ماذا؟! فمن أيّ شيء تشمئزّ وتتقزّز؟! هذا أوّلاً، وثانيًا، أشكر الله تعالى على أن جعلني كلبًا، حتّى لا أكون مثلك، فأمرّ من هنا برفقة المريدين، وتحصل لي تلك الحالة بعينها! انظروا، فحينما نقول إنّه كلام حكيم، فإنّ ذلك يعني أنّه على الإنسان أن يتأمّل فيه حينما يسمعه؛ فهذا لم يكن كلام الكلب، بل كلام الله تعالى الذي أُلقي إلى بايزيد من نافذة نفس ذلك الكلب؛ وثالثًا، فإنّ تلك النجاسة نجاسة ظاهريّة؛ وحتّى لو فرضنا أنّها لامست العباءة التي ترتديها، وتنجّست، فإنّها ستطهر بكفّين من الماء الطاهر؛ فاذهب وطهّر قبلك الذي لا تكفي البحار السبع بأجمعها لتطهيره! هل التفتّم؟ فهذه هي المسألة المهمّة؛ هذا، على فرض أنّ الإنسان يتمكّن من الاحتراز عن المعصية في بعض الحالات.
فقال له المرحوم العلاّمة: إنّ عين شعورك بأنّك عاجز عن ارتكاب الذنب هو أكبر ذنب؛ فما معنى قولك: أشكر الله تعالى على أنّني صرت عاجزًا عن اقتراف المعاصي؟!
وظيفة العقل العمليّ وتدخّل الغرائز في هذه الوظيفة
ومن هنا، فإنّ إحدى القدرات والاستعدادات التي يتوفّر عليها العقل العمليّ ـ علاوةً على إدراك حسن أو قبح نفس المورد [الجزئيّ] وليس تلك المسائل الكلّية ـ فإنّه يدفع الإنسان إلى مواءمة نفسه مع الواقعيّات وتطبيقها عليها. فبمقتضى التأثير الذي تمتلكه كلّ غريزة من الغرائز المكنونة في وجودنا، فإنّ كل واحدة من هذه الغرائز والملكات والصفات تسوق النفس إلى الاتّجاه الذي ينسجم معها؛ فنجد الذي يتّصف بالبخل تنساق نفسه نحو التقتير، والذي يتّسم بالجود والكرم تنساق نفسه وعمله وحركاته نحو الإنفاق والبذل، كما نجد الذي يتوفّر على حسّ طلب الكمال وبلوغ الفعليّات لا يسمح لنفسه بأن تغفل لحظة واحدة عن هذا الهدف، فيسعى دائمًا لطرق هذا الباب وذاك، والسفر إلى هذه المدينة وتلك، وحضور هذا المجلس وذاك، والتشرّف بخدمة هذا العظيم وذاك، وتراه في حالة اضطراب وقلق لأجل الوصول إلى ذلك الكمال، ولا يقول: «لأذهب إلى البيت وأنام»، ولا يقول: «لا دخل لي بهذه المسائل، فهي ستحصل من تلقاء ذاتها»، هل انتبهتم؟! بل يُتابع الأمور، وينظر ماذا يقول هذا، وماذا يقول ذاك، ويبحث عن طريقة لتحصيل الحقائق والعثور على الطريق، ويحتفظ على الدوام بهذا الهمّ والهاجس؛ أجل، هذا إلى أن يصل إلى حالة من الاطمئنان، فتأتي من ذلك الحين فصاعدًا مرحلة العمل، حيث إنّ هذا الأمر يخضع لمجموعة من المراحل؛ فهذا هو إذن حسّ طلب الكمال؛ والذي قال ابن سينا عنه: إنّ المزاج النفسانيّ والروحيّ السليم هو الذي لا يغفل أبدًا عن الاهتمام بطلب الكمال؛ فلو مرّت علينا لحظة واحدة فقط لم نشعر فيها بهذه المسألة، وقلنا: لا ضير في أن نقوم بالعمل الكذائيّ، ويوجد لدينا إن شاء الله تعالى عمر طويل، فلنغضّ الطرف الآن عن تلك المسألة، وسنعوّض عنها بعد ذلك، فلنعلم أنّنا في تلك اللحظة لا نتمتّع باعتدال وصحّة في المزاج؛ لكن، إن عادت حالة الانفعال والتأثّر [والاهتمام]، فإنّ المسألة سترجع مرّة أخرى إلى مسارها العاديّ؛ وهذا قد يُعدّ معيارًا بالنسبة للإنسان [يقيس عليه نفسه].
ومن هنا، فإنّ هذه الغرائز تضطلع بدور أساسيّ في أسلوب تفكيرنا وطريقة توجّهنا؛ فمع أنّ الله تعالى وهب الإنسان العقلين العمليّ والنظريّ اللذين يضعان الإنسان في الطريق المستقيم لأجل الوصول إلى الهدف المنشود، لكنّ المسألة المهمّة هنا أنّ ذلك لا يكفي؛ إذ توجد إلى جانب العقل العمليّ بقيّة الغرائز؛ نظير غريزة الشهوة، وغريزة الغضب، وغريزة حبّ المال، وغريزة الرئاسة، وغريزة حبّ الذات التي تُعدّ كافّة تلك الأمور عبارة عن آثارها وتجلّياتها، وغريزة حبّ آثار الذات، وحبّ المرأة، والولد، والمِلك، والعمل، والتجارة، والمكانة، والرئاسة، والمنصب، والعلاقات؛ فنحن مبتلون بكافّة هذه الأمور شئنا أم أبينا؛ وحينئذ، يتعيّن على هذا العقل العمليّ قطع طريق طويل لإزاحة الموانع، وطرد الهواجس التي تصدّه عن الوصول إلى الهدف المنشود.
لقد حصل لعدّة مرّات أن عرضوا مسألة على أحدهم، وقد ذكرنا ذلك في الجلسة السابقة، وضربنا أمثلة على ذلك، فلا حاجة للتكرار، وقالو له: «أيّها السيّد إذا قام أحد بالفعل الكذائيّ بالطريقة الفلانيّة ووفقًا للظروف العلاّنية، فما هو الحكم الذي سيترتّب على ذلك؟»؛ فيقول لهم مثلاً: «حكمه السجن لمدّة سنتين، ودفع غرامة بمقدار معيّن»، حيث يتعيّن على ذلك الشخص أن يتحمّل تبعات أفعاله؛ لكن، إن قيل له: «إنّ هذا الشخص هو ابنك»، فإنّه سيقول: «في هذه الحالة، اتركوا لي مجالاً للتفكير»؛ فما هو سبب طلبه فسحةً للتفكير، مع أنّهم بيّنوا له حقيقة المسألة؟! أو أن يُقال له: «إنّ ذلك الشخص رفيقك»؛ فإنّه سيقول: «توقّفوا قليلاً، لكي أُحقّق بدوري عن الأمر»، فيدّعي ذلك، ويُرسل الملفّ إلى الأرشيف، وتُمحى القضيّة من أساسها! فما هو سبب ذلك؟ سببه أنّ العقل العمليّ واقع في أسر تلك الملكات والصفات؛ ولذلك، لا يستطيع تحمّل مسؤوليّته، وإنجاز التكليف الملقى على عاتقه؛ إذ إنّ جميع المسائل تدور حول هذا المحور.
آيات قرآنيّة تدلّ على سقوط العقل العمليّ في أسر الغرائز والصفات الذميمة
لقد بيّن الباري تعالى هذه المسألة في القرآن الكريم بطرق مختلفة، حيث يقول في موضع منه: ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا ...﴾۱، ويقول في آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾؛ فلا تعتقدوا أنّ جميع الناس الذين خُلقوا في هذه الدنيا من أهل الجنّة، لا، بل إنّ مصير العديد من الجنّ والإنس ومرجعهم هو جهنّم ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها﴾٢، وهذا عجيب جدًّا! فالله تعالى يقول: لقد منحناهم قلوبًا، لكنّهم لا يُدركون بها، فهم يفتقرون إلى الفقه والفهم، حيث لا يُراد من القلب هنا القلب الصنوبريّ، بل يُراد منه القوّة الدرّاكة، والوجدان؛ فالقلب يعني قوّة التمييز بين الحقّ والباطل، ويعني محلّ الإدراكات وتلقيّ الأنوار الإلهيّة؛ فالله عزّ وجلّ وهبهم هذه القلوب، لكنّهم ﴿لا يَفْقَهُونَ بِها﴾، ومنحهم هذه الأعين، غير أنّهم ﴿لا يُبْصِرُونَ بِها﴾؛ والمراد من العين هنا ليست التي يُنظر بها، بل المراد منها التي تتمكّن من رؤية الواقع والحقيقة، والتمييز بين النور والظلام؛ فهؤلاء يفتقدون هذه العين. ﴿وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها﴾؛ فالباري عزّ وجلّ منحهم آذانًا، لكنّهم لا يستمعون بها إلى صوت الحقّ والباطل، بل يضعون فيها القطن، حيث كان يقولون للناس: إذا أردتم الدخول إلى المسجد الحرام، ضعوا القطن في آذانكم، حتّى لا تسمعون صوت القرآن الذي يتلوه محمّد؛ ﴿لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها﴾ فلم تكن آذان قلوبهم تسمح لآذانهم الظاهريّة بالاستماع. وتجدهم الآن يقولون: «أيّها السيّد إذا تحدّث فلان، فلا تُصغ إلى كلامه»؛ لكن، لماذا لا يُصغ إلى كلامه؟ اذهب واستمع إليه! ويقولون أيضًا: «لا تقرأ الكتاب الفلاني، وإلاّ ستسقط في الضلال»! اذهب واقرأه، وإلاّ إذا كنت مفتقرًا إلى الفهم والإدراك إلى هذه الدرجة، فلماذا تسلك طريق [الله تعالى]؟! ويقولون: «أيّها السيّد، لا تجالس فلانًا؛ لأنّه سيُغويك ويُضلّك»؛ لكن، إن كان لديك اطّلاع غير كاف على المسائل، فلماذا تُطلق على نفسك اسم المسلم والمؤمن؟! فهذا العصر أيّها السادة هو عين عصر ما قبل ألف وأربعمائة سنة؛ إذ متى ما طُرحت بيننا مسألة الحبّ والبغض، فإنّ تلك الملاكات والمسائل التي كانت سائدة قبل ألف وأربعمائة سنة هي بعينها التي تأتي، وتتجلّى الآن؛ فنجدهم يقولون: «لا تُصغ للكلام الفلانيّ، لا تستمع إلى الحديث الكذائيّ»؛ لكن، لماذا تُريدهم أن يُصغوا إلى حديثك، ولا يُصغوا إلى كلام الآخرين؟! اتركهم يستمعون إلى الإثنين، ويختارون ما يشاؤون؛ فإمّا ينتخبون هذا، أو ينتخبون ذاك؛ فهل أدركنا الآن أنّ الشيطان موجود على الدوام؟ فحتّى لو مرّت مليون وأربعمائة سنة أخرى، لبقي الشيطان على حاله، والملاكات على حالها؛ فالقرآن الكريم لم ينزل يا عزيزي لكي يحكي عن قصص ويسردها، بل جاء ليقول: يوجد ملاك وحيد حاكم على العالم؛ وهو ملاك الحقّ، وغيره كلّه باطل؛ ففي ذلك الزمان، كان على شكل عدم الاستماع إلى كتاب الله تعالى على لسان الرسول الأكرم، والآن هو على شكل عدم الإصغاء للمسائل المطروحة على لسان العظماء، من دون أن يوجد أيّ فارق؛ لماذا؟ لأنّ تلك الصفات والملكات كانت تتعارض آنذاك مع المصالح الدنيويّة والنفسانيّة لأبي سفيان وأبي جهل وأمثالهما، ممّا أدّى إلى عجز عقلهم العمليّ عن إزاحة تلك الحجب، فقاموا بمواجهة الرسول بتلك الطريقة؛ وأمّا الآن، فتقول الآية القرآنيّة الكريمة: إنّ تلك الملاكات موجودة بعينها بصورة أخرى وشكل مغاير؛ فالملاك واحد؛ لأنّ غرائز الإنسان لم تتبدّل.
موضع انحراف الإنسان غالبًا عقلُه العمليّ وليس النظريّ
يدّعون الآن أنّ الإنسان المعاصر تقدّم، وارتقى عقلُه، وتطوّر عمّا كان عليه الحال قبل ألف وأربعمائة سنة! حسنًا، أعلنوا غدًا في طهران بأنّكم ألغيتم قوانين المرور، وأنّ كلّ من يرتكب مخالفة لن يُعاقب، وسوف ترون أنّ المدينة صارت عبارة عن غابة، ووقعت خمسين ألف حادثة، وقُتل عشرون ألف شخص؛ هل انتبهتم؟! فأعلنوا ليوم واحد فقط عن إلغاء الغرامات على ارتكاب المخالفات، وسترون كم عدد الأفراد الذين يلتزمون بالقانون؛ فهذا هو حال الإنسان المعاصر! حيث إنّه يتوفّر على نفس الوجود بكافّة خصائصه من دون أيّ فارق؛ فلولا أنّ العصا مرفوعة فوق رؤوسنا، لما طبّقنا القانون أبدًا، اللهمّ إلاّ بالنسبة لبعض الأفراد الذين بلغوا إلى درجة الكمال العقليّ؛ فهؤلاء فقط هم الذين لا يحتاجون إلى القانون، بل إنّ الحاكم عليهم هو وجدانهم وفطرتهم وعقلهم، سواءً وُجد قانون، أم لا.
كنت برفقة المرحوم العلاّمة ذاهبًا إلى مكان ما، وكانت الساعة الحادية عشرة ليلاً، وكان الشارع خاليًا من كلّ إنسان، بل ولم يكن هناك حتّى طائر واحد يخفق بجناحيه، وكانت إشارة الضوء حمراء، فأراد السائق أن يمرّ، فقال له المرحوم العلاّمة: «أيّها السيّد، توقّف، فإشارة الضوء حمراء؛ ولهذا، عليك أن تتوقّف، ثمّ تمرّ بعد ذلك [بعدما تصير خضراء]»؛ هذا، مع أنّ الساعة كانت آنذاك الحادية عشرة ليلاً، والفصل هو فصل الشتاء، والحرارة تبلغ الخامسة عشرة درجة تحت الصفر، ولم يكن هناك أيّ أحد، ولو طائر يخفق بجناحيه؛ فما هي علّة ذلك؟ لأنّه بلغ مرتبة الكمال العقليّ، والكمال العقليّ يقول: عليك أن تُطبّق القانون، سواءً كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً، أم الثانية عشرة ظهرًا، من دون أيّ فارق؛ وحينئذ، وبغضّ النظر عن أمثال هؤلاء، إن قلنا: لقد ألغينا الغرامات، هل سيمتثل الناس للقانون؟ فالمتوقّع من هذا الملاك الموضوع للوصول إلى الواقع أن يُحطّم هذه السدود، ويتقدّم إلى الأمام.
فلو كان هؤلاء لا يتوفّرون على ذلك العقل النظريّ، لكان حالهم حال الجدران والأعمدة، ولما وُجد أيّ معنى لذمّ الباري عزّ وجلّ إيّاهم؛ لأنّهم سيقولون بدورهم: نحن لم نكن نُدرك هذه المسائل من الأساس؛ فشأننا كشأن ذلك الطفل الذي له خمس سنوات؛ لكن، لا، ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها﴾؛ فهم يتوفّرون على قلوب، ويعرفون الحقّ كما يعرفون الشمس في رائعة النهار؛ وقد جاء في الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ ...﴾؛ فأولئك النصارى واليهود الذين أعطيناهم الكتاب ﴿يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ﴾؛ فهم يعرفونك [أيّها النبيّ] كما يعرفون أبناءهم؛ وبالتالي، من الواضح أنّ لهم قلوبًا؛ ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾۱؛ لكنّ العديد منهم يكتمون الحقّ؛ هل انتبهتم؟! فهنا تأتي ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾؛ وعليه، فإنّهم يتمتّعون بالفهم والإدراك، وعقلهم النظريّ يقول لهم: إنّه نبيّ، ويُطبّق تلك الملاكات على هذا الشخص، ويعمل على المطابقة بين ما ذُكر في الكتب وبين هذه المعايير؛ وبالتالي، عليهم أن يرضخوا [للحقّ]؛ وهنا تأتي تلك المَلَكات، وتتقدّم إلى الأمام، وتقول: «إنّ لديك مكانتك الخاصّة، وتتوفّر على مريدين وسط الناس، وأنت محلّ لمراجعة الناس وتردّدهم؛ فإذا تقرّر أن تتّبع هذا النبيّ، فإنّ جميع ذلك سيذهب أدراج الرياح؛ لأنّهم سيقولون: لا حاجة لنا بك مع وجود النبيّ؛ وبالتالي، لن يطرق بابك أحد، ولن يأتي عند أيّ واحد»؛ هل انتبهتم؟!
ولنضرب هنا مثالاً بأنفسنا، وليس ذلك من باب المزاح؛ فلو فرضنا أنّ إمام الزمان أتى إلى نفس مدينة قمّ، وعقد مجلسًا، هل ستأتون إلى مجلسي، أم ستذهبون إلى مجلسه عليه السلام؟ فلا يوجد هنا أيّ مجال للشكّ؛ لأنّكم ستقولون في هذه الحالة: من تكون أنت أيّها السيّد؟ فإلى هذا الحين، كان حديثك يدور حول إمام الزمان؛ فلماذا إذن فتحت لنفسك متجرًا؟! فالإمام أتى إلى هنا، وهو يتحدّث الآن بنفسه، مع أنّ الآلاف، بل الملايير من أمثالك ومن هم أعلى منك لا يُساوون ذرّة من تراب عتبة بابه عليه السلام؛ فهل ستأتون حينئذ، لتستمعوا إلى كلامي أنا؟ ولماذا؟ أ فلا تمتلكون عقولاً؟ فهو عليه السلام حاضر بذاته هنا!
فهل أدركنا الآن لماذا تتحدّث الروايات عن أنّ أبرز الناس الذين سيتصدّون للإمام عليه السلام عند ظهوره هم هؤلاء العلماء؟ فذلك الملاك موجود بعينه الآن؛ ألا وهو: حينما سيظهر عليه السلام، لن يأتي أحد إلى منزلنا؛ إذ سيقول الناس: إنّ الإمام يعقد بنفسه مجالس للعزاء، فلنذهب إلى هناك؛ لأنّها أفضل كثيرًا؛ وحينما يحلّ العيد، يحتفل عليه السلام بنفسه، فلماذا نضطرّ للمجيء إلى هنا؟ والحقّ هو هذا؛ وعليّ أن أذهب أنا أيضًا إلى هناك، ولا مزاح في الأمر؛ لكنّ الوصول إلى هذه الحالة مستعص وصعب جدًّا؛ لأنّ هناك أيضًا تلك الورطات التي علق فيها الإنسان؛ كحبّ النفس والمنصب والرئاسة ... فهم ﴿يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ﴾؛ لكن، ماذا بعد ذلك؟!
ما هي العلّة التي دفعت شريحًا القاضي للإفتاء بقتل الإمام الحسين عليه السلام؟
حينما حلّ الليل، أراد شُريح القاضي أن يُفتي بقتل الإمام الحسين؛ لكنّه ماذا فعل في البداية؟ بدأ يقول مع نفسه: يا للعجب، أ فهل هذا ممكن؟! فهذا ابن النبيّ؛ فهل هذا ممكن؟ وما الذي فعله [حتّى يستحقّ القتل]؟ إنّه لم يبايع؛ فليفعل ذلك! ثمّ ذهب [شريح] إلى بيته؛ وهنا، جاءت تلك الملكات، وأتى الشيطان، وجلس إلى جانبه، وبدأ يقول له: السلام عليك أيّها الصديق العزيز، لماذا لا تقبل؟ ومن الذي سيهتمّ لحالك؟ فما هذا الكلام؟ لماذا لا تقبل؟ تعال، روحي لك الفداء، فأنا كنت إلى هذا الحين أنتظر حلول هذه الفرصة! لقد ارتكبتَ المئات من الأفعال السيّئة، ولم يتبقّ لديك إلاّ إصدارك الفتوى بقتل الإمام الحسين! وهذا أيضًا سأوقعك فيه هذه الليلة؛ فأبدأُ بالإكثار من قولي: روحي لك الفداء، والتقرّب إليك، وتمويه المسائل بالنسبة إليك، وتزيين الأمور الدنيويّة وتجميلها في نظرك شيئًا فشيئًا، إلى درجة أنّ أهمّية المسألة، وقبحها، وفظاعة هذا العمل الإجراميّ ستقلّ لديك؛ وانظر بعينك الآن، هل سيُمكنني فعل ذلك أم لا؟ فيبدأ الشيطان في عمله؛ وانتبهوا، فنحن أيضًا على نفس هذه الشاكلة، ولا تظنّوا أنّ شريحًا لوحده كان كذلك، بل إنّ شريحًا مكنون في وجود كلّ واحد منّا! ونفس كلّ فرد منّا تتضمّن هذه المسألة بعينها، بحيث قد نخرج نحن أيضًا لحرب الإمام الحسين! وصدّقوني، فإنّنا قد نفعل ذلك! ولهذا، علينا التدقيق كثيرًا في هذه الأمور؛ فما الذي حصل؟ لقد جاءت تلك الملكات، وقالت له: أنت هو قاضي قضاة الكوفة، وإذا لم تُقدم على هذا الفعل، فإنّهم سيعزلونك غدًا؛ وحينئذ، ماذا سيكون وضعك بين الناس؟ وأنت أيضًا إمام جماعة المسجد، وسيعزلونك عن هذا المنصب أيضًا.. وا ويلاه، يا لها من مصيبة!!
حينما هاجر المرحوم العلاّمة إلى مشهد، قال لي بعض المشايخ: «أيّها السيّد، لقد كان وضعه في المسجد جيّدًا، وكان له مريدين هناك، فكيف ترك كلّ ذلك، ورحل؟!»؛ وحينما رأيت بأنّ حال سؤالهم بهذا النحو، قلت مع نفسي، فليكن جوابي أيضًا بالطريقة التالية، حيث قلت لهم: «هل المريد هو الذي عليه أن يتبع المراد، أم المراد يتبع المريد؟»؛ وقد كان وقعُ جوابي عليهم أسوء من ألف شتيمة! فالمريد هو الذي يتعيّن عليه اتّباع المراد؛ هل انتبهتم؟! فعندما رحل إلى مشهد، جاء البعض، وقالوا له: يا سيّدي، لقد صار المسجد بالنحو الكذائيّ، فقال لهم: «من الآن فصاعدًا، لا أريد سماع أيّ شيء عن مسجد القائم أبدًا»؛ فمن الواضح أنّه تخلّى عن الدنيا، وإلاّ، فإنّ بقيّة الناس يعدّون هذا الكلام هزلاً؛ ولهذا، فإنّ المسألة تفترق كثيرًا.
فهم سيعزلونك حتّى عن منصبك بالمسجد.. حسن جدًّا؛ ومن جهة أخرى، إلى ماذا سيؤول أمر طعامك وشرابك؟ ففي نهاية المطاف، أنت تأخذ راتبًا شهريًّا من الدولة؛ فما هو مصيره؟ وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، من الممكن أن يغضبوا عليك تدريجيًا، فيضعونك في السجن، بل قد يصل الأمر إلى حدّ الإعدام والاغتيال؛ هذا، مع أنّ المسألة لن تتغيّر بسبب مجرّد فتوى واحدة؛ لأنّهم سيلجؤون في الأخير إلى ارتكاب فعلتهم تلك، سواءً أصدرت أنت تلك الفتوى، أم لا؛ لأنّه يوجد من سيُصدرها بدلاً عنك؛ مضافًا إلى أنّ المحافظة على النفس هي من الواجبات أيضًا، حيث يتوجّب على الإنسان أن يُحافظ على روحه؛ وهكذا، شيئًا فشيئًا، تبدأ أهمّية المسألة تنقص تدريجيًا، إلى أن يصل الأمر إلى حدّ أنّه يُمسك القلم، ويبدأ يتردّد في الكتابة، ثمّ يكتب في الأخير؛ وفي نفس ذلك الوقت، يصل كيسان من الذهب؛ وحينما تقع عينه عليهما، يقوم بوضع جميع المباديء والمسائل التي رسمها له العقل النظريّ تحت قدميه؛ ما هو السبب في ذلك؟ الإحساسات، وحبّ الدنيا، وحبّ النفس، وحبّ الذات؛ فيأتي كلّ ذلك، ويقضي على تلك المباديء، بل ويصل الأمر إلى حدّ إعدام طفل ذي ستّة شهور، من دون أن يتحرّك له ساكن.
ذات يوم، كنت أطالع مجلّة أجنبيّة كتب فيها أحد المسيحيّين مقالة جيّدة عن عاشوراء، قال فيها: «يكفيني للاعتقاد بحقّانية الحسين بن عليّ قتلُهم لطفله ذي الستّة أشهر»؛ فما هو الذنب الذي ارتكبه هذا الطفل؟ فحتّى إن كان الإنسان مجوسيًّا، فإنّه سيقول: إنّ هذا العمل باطل؛ بل وكلّ فرد من أفراد الإنسان سيقول ذلك؛ بينما نجد حرملة يأتي، ويُقدم على هذا الفعل، على مرأى من بقيّة المعسكر الذين ظلّوا يتفرّجون من دون تحريك أيّ ساكن؛ وهنا يقول الإمام الحسين: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾۱ لقد جاء الشيطان، وسيطر على قلوبهم؛ وحينئذ، لم يعُد عقلهم العمليّ قادرًا على أداء وظيفته ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها﴾؛ فهم يمتلكون قلوبًا؛ ولهذا، إذا سألته: ما هو الذنب الذي ارتكبه هذا الرضيع ذي الستّة أشهر، هل كان سيقول مع نفسه: لا ضير في ذلك؟! فلو كان ذلك الرضيع ابنك، هل كنت ستتصرّف معه بنفس تلك الطريقة؟! فيا أيّها الذي وضع السهم في القوس، وصوّب على عنق ذلك الرضيع، هل كنت ستتصرّف مع ابنك أيضًا بالنحو ذاته؟! كان سيقول: لا؛ وبالتالي، يتبيّن أنّ لك قلب، وعقل، وفكر، لكن ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾؛ لماذا لا يفهمون؟ لأنّه وضع عليه ستارًا؛ فليس المراد من ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾ أنّهم لا يفهمون؛ لأنّه لن تكون مشكلة من هذه الناحية؛ غاية الأمر أنّ حالهم سيكون حال الحجارة؛ لكنّ المسألة ليست بهذا النحو، فـ ﴿لا يَفْقَهُونَ﴾ تعني أنّهم لا يُريدون أن يفهموا؛ فالمراد من الفقه والرؤية والاستماع في هذه الآية هو ذلك الارتباط الوثيق للنفس بتلك الواقعيّات، حيث لم يسمح هؤلاء بحصول ذلك الارتباط، وقضوا عليه في وجودهم؛ ونحن سنُعبّر عنه هنا بحالة القبول والرضوخ التي تُمكّن النفس من مواجهة مختلف القضايا بهدوء؛ فهؤلاء عمدوا إلى القضاء على حالة القبول والرضوخ هذه؛ ولهذا، فإنّهم يفهمون، لكنّهم لا يعملون.
دور العواطف في إعاقة العقل العمليّ عن أداء وظيفته
ومن هنا، فإنّ وظيفة العقل العمليّ تتجلّى في إيجاد الارتباط بين الملكات الحاصلة للإنسان، وبين قدرته على اختيار الطريق الأفضل حين مواجهته لمختلف القضايا التي تحدث له؛ لكن، من الممكن والطبيعيّ أن يكون للعواطف والإحساسات دور كبير في هذا المجال؛ والله تعالى جعل ـ بمقتضى حكمته البالغة في إيجاد النظام الأحسن ـ عواطف المرأة أكثر من الرجل؛ وذلك لأجل استمراريّة عالم الخلقة، حيث إنّ ذلك الشعور بالحنان والعطف الذي تُكنّه المرأة لطفلها ناشيء من الجانب العاطفيّ فيها. وأنتم ترون المرأة حينما يُصاب ابنها بمكروه، فإنّها لا تتحمّل رؤية ذلك؛ كأن يضطرّ لإجراء عمليّة، أو حقن إبرة؛ فهي تشعر بحالة كبيرة من الرحمة والعطف والحبّ تجاه ولدها، إلى درجة أنّها لا تتحمّل رؤيته يأخذ تلك الحقنة؛ مع أنّه يجب عليه ذلك لكي يُعالج من المرض؛ فتذهب إلى غرفة أخرى؛ فما هي علّة ذلك؟ فهي تعلم أنّ ذلك العمل صحيح، وعليه حقن الإبرة، لكنّها مع ذلك تقول: لا أريد أن أراه. إنّ علّة ذلك هو سيطرة العواطف التي جعلها الله تعالى في وجودها، بل وينبغي عليه تعالى إيجاده فيها؛ لأنّ كمالها يتحقّق بواسطة ذلك.
وفي هذه الحالة، إن وُجد رجل عاطفيّ... حيث شاهدت بنفسي بعض الرجال الذين يُماثلون النساء في هذا الجانب، بل وحتّى أشدّ؛ أي أنّ المستوى العاطفيّ لديهم مرتفع إلى درجة أنّهم لا يتمكّنون من التحمّل أبدًا. وعليه، فإنّ المسألة التي يُمكننا استنتاجها هنا من هذا الأمر أنّ كلام أمير المؤمنين يتعلّق بالتصدّي للحالات التي يلعب فيها الجانب العاطفيّ دورًا كبيرًا، وليس لكلّ الحالات؛ بمعنى أنّ العواطف والأحاسيس تقوم في كثير من الحالات بتكبيل أيدي وأرجل العقل العمليّ في طريق وصوله للهدف المنشود؛ وذلك في مثل المسائل المرتبطة بالحرب والقضاء؛ فلماذا لدينا في الإسلام أنّ المرأة لا يُمكنها ممارسة القضاء؟ بسبب هذه المسألة بعينها، حيث نجدها في أغلب الحالات تُعاني من بعض نقاط الضعف في أسلوب مواجهتها لأصل القضيّة، وتعاملها مع التيّارات المتعدّدة المرتبطة بهذه القضيّة، ثمّ بعد ذلك في سعيها للخروج بسلام منها؛ بينما يكون الرجل قادرًا على ذلك بسبب إشرافه على مختلف الخصائص.
ولهذا، فإنّكم تُشاهدون أنّ المرأة سرعان ما تنتابها حالة من الرقّة القلبيّة؛ فما إن تسمع أنّ أحدًا تُوفّي، حتّى تُجهش بالبكاء مباشرة؛ مع أنّه قد لا تربطها به أيّة علاقة؛ فهي تتفوّق كثيرًا في مسائل الشفقة والحنان والعواطف؛ ولا يخفى أنّ هذا الأمر جيّد في كثير من الموارد، وليس سيّئًا؛ لكن، لكلّ شيء موضعه الخاصّ؛ ومن باب المثال، فإنّ الذي يُعاني من أمراض المعدة يتعيّن عليه تناول السكّر والحلوى وغيرهما من الأشياء الحلوة؛ لكنّه لا يستطيع تناول الشمندر النيّء بحجّة أنّه حلو؛ لا يا عزيزي؛ إذ لو أكله، لقضى عليه؛ فكلّ شيء جيّد في موضعه الخاصّ، وكلّ دواء مناسب لمرض معيّن، ولكلّ منحة إلهيّة وموهبة ربّانية مكانها المحدّد؛ فإذا تجاوزت هذا المكان، وقع الانحراف عن حدّ الاعتدال؛ ولهذا، رأيتم كيف أنّهم تمكّنوا من إغواء عائشة في حرب الجمل بكلّ سهولة.
فالذي تتحكّم فيه العواطف يكون له أسلوب مختلف في تعامله مع المسائل؛ ولنفرض مثلاً أنّ أحدهم نقل لكم خبرًا غير سارّ، وطلب منكم أن تنقلوه إلى شخص آخر، فإنّكم ستحكونه له من دون زيادة أو نقصان؛ لكن، لو كانت توجد بينكما شحناء، لأضفتم إلى ذلك الخبر بعض المسائل الأخرى، وقلتم في أنفسكم: فلأحزنه أكثر! بينما لو كان هذا الشخص صديقًا لكم، لسعيتم إلى تغيير تلك العبارة، ونقلها إليه بنحو لا يُؤدّي لإحزانه؛ لماذا؟ لأنّه من أصدقائك؛ وأمّا إن كان مثلاً من أعدائك، فإنّك ستُخبره عن ذلك بحزم، بل ستُضيف إليه مسائل أخرى، وتقول: بما أنّه فلان، فلأخبره عن ذلك بهذه الطريقة.
ولهذا، تحصل هنا مسائل مختلفة؛ أي أنّ طبيعة الأحاسيس التي تترافق مع العبارات المستعملة في قضيّة واحدة تكون مختلفة؛ ومن باب المثال، يُقال لك: اذهب، وأخبر فلانًا بمسألة معيّنة، وتكون هذه المسألة صحيحة، لكنّها غير سارّة؛ كأن يُطلب منك إخباره بضرورة عدم القيام بالفعل الكذائيّ؛ فهنا، نرى وجود ثلاثة أنواع من التصرّف، ويوجد لكلّ واحد منها مراتب متعدّدة:
النوع الأوّل: هو التصرّف العاديّ؛ فتقول له: لقد قال لك فلان لا تُقم بهذا الفعل؛ من دون زيادة أو نقصان.
النوع الثاني: هو التصرّف المترافق مع البغض والكراهيّة، حيث تقول له: «لقد قال لك فلان: إن أقدمت على هذا الفعل، فإنّني سألقّنك درسًا لن تنساه»؛ مع أنّه لم يقل له سألقّنك درسًا لن تنساه، بل قال له: قم بالفعل الكذائيّ.
إنّ إحدى المسائل التي كان المرحوم العلاّمة يُبرز حسّاسية شديدة تجاهها هي [مسألة نقل الكلام]، فكان يقول: «انقلوا عنّي عين العبارة التي أتحدّث بها»؛ ولهذا، لكيلا يصدر منّي خطأ في هذا المجال، فإنّني كنت أكتب المسائل التي يذكرها في نفس تلك اللحظة، ثمّ أذهب بعد ذلك، وأنقل العبارات ذاتها من دون زيادة ولا نقصان، ولو بمقدار حرف الواو. وفي بعض الموارد، كان يطلب منّا بيان بعض المسائل بأسلوب معيّن؛ كأن نبيّنها بطريقة هادئة وعبارات لطيفة، حتّى لا تُؤدّي أحيانًا إلى [صدمة الطرف المقابل]؛ وهذا يتوقّف على كيفيّة فهم الإنسان للمسائل.
النوع الثالث: أن يكون الإنسان مكلّفًا ببيان المسألة بنحو صريح، غير أنّه، ولكيلا ينزعج الطرف المقابل، فإنّه يعمد إلى اللفّ والدوران؛ فيُغيّر العبارة، ويُبدّل مواضع الكلمات والألفاظ؛ لكن، أ لم يكون هو عارفًا بأنّ ذلك الكلام سيُزعجه؟! فهو الذي يُريد أن يتمّ الأمر بهذا النحو وهذه الطريقة. ولهذا، فإنّكم تُلاحظون فجأةً بأنّ المسألة قد انقلبت تمامًا من حال إلى حال آخر؛ فيكون الإنسان في صدد إيصال هذه المسألة بطريقة معيّنة؛ فإذا بها قد صارت فجأةً شيئًا آخر؛ وهذا لا يصحّ؛ فهنا يُقال: إنّ العواطف والأحاسيس قد جاءت، وحالت دون تحقّق الواقع كما هو، وبنفس الطريقة التي ينبغي أن يتحقّق بها.
اختصاص ضُعف رأي النساء بالحالات التي تلعب فيها العواطف دورًا أساسيًّا
يقول أمير المؤمنين عليه السلام بخصوص ضعف رأي النساء: «وَأمَّا عائِشَة فَقَد أدرَكَهَا ضَعفُ رَأي النِسَاء»۱؛ أي أنّ عائشة أغواها ضعف فكر النساء ورؤيتهم؛ فما معنى ذلك؟ يعني أنّه: عادةً، حينما يأتي الناس، ويُحيطون بالإنسان، ويسعون لطرح مسائل مختلفة عليه [فإنّ المسألة تظهر لديه بشكل مختلف]؛ وباعتباري على ارتباط إلى حدّ ما بالرفقاء والأحبّة بخصوص هذه القضايا والمسائل المتعلّقة بالعلاقات الأسريّة، ولديّ علاقة في هذا المجال بالعديد من الناس والعوائل، فإنّني أعترف بأنّ الغالبيّة العظمى من الخلافات التي تحصل في الأسر ـ ولعلّ ذلك يبلغ نسبة تسعين أو خمسة وتسعين بالمائة ـ سببُها ضُعف الرؤية، وسوء التفاهم الذي يحصل في هذا المجال، حيث يأتي البعض، ويُحيطون بالإنسان، ويبدؤون بالحديث، وطرح المسائل؛ فتبدو الأمور بشكل آخر.
لقد أحاط بعائشة ضُعف رأي النساء، فأقدمت على ذلك العمل؛ ولا يخفى أنّه ليس بوسعنا القول إنّ جميع الرجال مستثنون من هذا الأمر؛ إذ نرى العديد منهم قد يكونون حتّى أضعف من النساء من هذه الناحية؛ وقد رأيت ذلك بأمّ عينيّ؛ فضعف الرأي لا يختصّ فقط بتلك المسائل، بل كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إياكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاء إلَّا مَن جُرِّبَت عَقلُهَا (أو) جَرَّبتَ عَقلَهَا»٢؛ فلا ينبغي عليك استشارة النساء في الأمور التي يلعب فيها الجانب العاطفيّ دورًا [مهمًّا]، وليس في مسائل من قبيل أن تقول المرأة للرجل: «قم للصلاة»، فيقول لها: «لا، سوق أعارضك، ولن أصلّي»، أو أن تقول المرأة: «أقدم على هذا الفعل الحسن»، فيقول لها الرجل: «لا، بما أنّني أُمرت بعدم مشاورتك، فلن أُقدم عليه»!
ذات يوم من أيّام الخريف، كنت في منزل أحدهم، فقالت له زوجته: «لقد أصبح الجوّ باردًا؛ ولهذا، عليك أن تنقل أواني الزهور من حديقة البيت إلى الطابق السفليّ»؛ فجئت لمساعدته؛ وبالمناسبة، فإنّ أحد تلك المزهريّات كان كبيرًا، فانكسر في وسط الطريق؛ وحينئذ، قال ذلك الرجل: «انظر يا سيّدي! صدق قولهم: لا تصغوا إلى كلام النساء! انظر ماذا حلّ برؤوسنا»؛ فقلت له: «يا عزيزي، حينما قالوا: لا تصغوا إليهنّ، فليس مرادهم: لاتصغوا إليهنّ في جميع الحالات؛ وهذه المرأة لم تتكلّم بأمر سيّء؛ إذ لو بقيت تلك المزهريّة في حديقة المنزل، لتعرّضت للبرد، ويبست؛ وأنت الذي أخطأت في طريقة مشيك، وأسلوب أدائك لهذا العمل؛ كما أنّه لا يكفي أن نقوم أنا وأنت فقط بحمل هذه المزهريّة الكبيرة، بل كان علينا أن نستدعي رجلين أو ثلاثة، لكي ننقلها بطريقة أخرى، حتّى لا تنكسر.
فكلام الإمام عليه السلام يختصّ بتلك الموارد التي يتسلّل إليهنّ فيها الجانب العاطفيّ، وليس بالموارد التي يأمرن فيها بالخير؛ ونحن نجد أنّ العديد من الرجال اهتدوا على يد نساء؛ فمن كان زهير بن القين؟ أ فلم تكن زوجته هي التي أرسلته إلى الإمام الحسين؟ فمن الذي ساهم في سعادة هذا الزوج ونعيمه؟ إنّها زوجته بطبيعة الحال؛ وهنا سأغلق باب هذا البحث؛ لأنّه بدأ يتّسع؛ وسنسعى في الجلسة اللاحقة إلى الحديث عن مسألة الوظائف والتكاليف.
إذن، علينا التركيز هنا على مسألتين:
الأولى: أنّه علينا العلم بأنّ مراد الإمام عليه السلام من ضُعف عقل المرأة ليس هو العقل النظريّ؛ إذ لا يوجد فارق بين الرجل والمرأة من ناحية هذا العقل، ومن جهة التوصّل إلى مختلف المسائل، حيث يتمتّع كلّ كلّ منهما بقوّة [نظريّة] واحدة؛ وكما أنّه يوجد بين النساء اختلاف في مراتب الوجود، فإنّ الرجال أيضًا يوجد بينهم اختلاف في هذه المراتب؛ هذا أوّلاً.
وعليه، فإنّ المراد من العقل هو العقل العمليّ، حيث قال الإمام عليه السلام: في تلك الموارد التي تلعب فيها العواطف دورًا أساسيًّا، فإنّ استعداد الرجل [من ناحية هذا العقل] وقدرته على الخوض في هذه الموارد يفوق المرأة؛ وهذه مسألة يُمكن لمسها وإدراكها، كما أنّ هناك شواهد لا تُحصى عليها؛ وذلك كمثل ما جاء في باب القضاء، والجهاد، وكذلك في العديد من حالات الإنفاق، حيث إنّ هذا المورد الثالث هو من الموارد التي يُمكن فيها لتجاربنا ومشاهداتنا أن تُصدر أحكامًا قطعيّة؛ فنلاحظ هنا أنّ الكثير من الإنفاقات التي يقوم بها الإنسان [الرجل] قد لا تقوم بها المرأة إذا كُلّفت بها هي، وأنّه يستطيع بقوّته العاقلة أن يُزيح تلك الموانع التي قد تضعها في طريقه لبلوغ هذه المرتبة؛ ومن هنا، فإنّ المسألة الأولى هي أنّ قول الإمام: لا تستشر [المرأة] يتعلّق بمجموعة من الموارد، وليس كلّها؛ وهي الموارد التي من شأن العواطف أن تتدخّل فيها.
الحكم بضُعف رأي النساء مأخوذ على نحو الأغلب
والمسألة الثانية: باعتبار أنّ بيان هذه المسألة يتّسم بطابع عامّ؛ ولهذا، توجد لدينا هنا بعض الحالات الاستثنائيّة؛ كما هو الحال في بقيّة المسائل، حيث نجد العديد من النساء اللواتي يتفوّقن ـ من دون أدنى شكّ ـ على أزواجهنّ حتّى في هذه المسألة؛ فقول أمير المؤمنين عليه السلام «وَأمَّا عائِشَة فَقَد أدرَكَهَا ضَعفُ رَأي النِسَاء» هو حكم مأخوذ على نحو العموم؛ إذ نرى أنّ الرجل يتغلّب على المرأة من هذه الناحية؛ ولهذا، فإنّ الحكم الإلهيّ قد وُضع على هذا الأساس؛ لكن، في بعض الموارد، يرى الإنسان أنّ المرأة تفضل الرجل في قوّة التفكير، والقدرة على التدبير، وعلى تشخيص الواقع مع مراعاة المباديء؛ وقد واجهتُ هذه المسألة بنفسي في عدّة حالات حين ارتباطي بالعديد من الأسر، حيث نلاحظ هنا أنّ المرأة تتّخذ قرارات أفضل، وتُفكّر بشكل أحسن، وتسعى لمراعاة المعايير المرتبطة بهذا المجال؛ ومن هنا، علينا أن نضع في اعتبارنا هاتين المسألتين: الأولى أنّ الموارد التي خصّها الإمام بهذا الأمر هي الموارد التي يلعب فيها الجانب العاطفيّ دورًا [أساسيًّا]؛ والثانية أنّ هذا الأمر مأخوذ على نحو الأغلب؛ وبهذه الطريقة تنحلّ تلك المسألة.
دور تنوّع الشاكلة الوجوديّة للرجل والمرأة في تربية الأبناء
فالعواطف والأحاسيس منحة إلهيّة وهبها الله تعالى للمرأة لأجل تربية الأولاد؛ ولولاها لما ساد الدفء أجواء الأسرة، ولما تمتّعت العائلة بذلك الدفء، وتلك المحبّة والألفة، وذلك الأنس؛ فأحوال الرجل مختلفة عن المرأة؛ فهو ينسجم مع الذهاب خارج البيت، ومع الاجتماع بالناس، ومع الإدارة والتدبير، وبقيّة المسائل التي ترتبط بالخارج، حيث تقتضي قدراته هذا الأمر؛ وحينما يرجع للمنزل، فإنّنا نجده يفتقد تلك الفطنة، وذلك الاستعداد، وذلك الشعور الخاصّ، وذلك الجانب من اللطافة الذي من شأنه أن يجمع بين أعضاء الأسرة؛ لا سيّما الأطفال والأبناء الصغار؛ أو حتّى إذا كان يتوفّر على ذلك، فإنّ حظّه منه يكون قليلاً. لقد كان المرحوم العلاّمة يقول مرارًا وتكرارًا: «الهجوم حسن من الأسد، والفرار حسن من الغزالة»؛ ومن المهمّ جدًّا في التربية الأسريّة ألاّ يستبدل الرجل مكانه في البيت بمكان المرأة؛ فالمرأة عليها أن تتعامل بلطف ومحبّة ودفء وحنان؛ لكن، هذا لا يعني أنّ الرجل عليه أن يكون حاملاً بيده العصا فقط منذ أن يدخل إلى المنزل، لا! بل عليه أن يُحافظ أيضًا في أسلوب تعامله على الصبغة الأبويّة؛ وبوسع الإنسان تطبيق تلك اللطافة على هذا الطابع الأبويّ، ولا ينبغي بالضرورة اللجوء إلى العصا والسوط؛ لكن، أن يأتي الرجل ويُغيّر أحواله إلى أحوال أنثويّة، فإنّ هذا سيُساهم في معاناة النظام التربويّ من الضعف والنقص. «الهجوم حسن من الأسد، والفرار حسن من الغزالة»؛ فالرجل مطالب بالتمتّع بطابع تربويّ، والمرأة مكلّفة من ناحية أخرى بإبراز المحبّة والمواساة؛ لكي يتسنّى للطفل التوفّر على كلتي الحالتين: الأولى محبّة الأمّ، وجاذبيّتها، والارتباط بها؛ والثاني حالة الخضوع للتربية؛ فإذا تقرّر أن يصير الرجل امرأة، مع أنّ المرأة تظلّ على ما هي عليه، فمن الواضح إلى ماذا سيؤول إليه حال هذا الصبيّ!
ولهذا السبب، فقد جرى في النظام التربويّ الإسلاميّ تعيين مجال التربية لكلّ واحد من هذين الطرفين؛ وما هو المجال الذي يخضع لتربية الأمّ، وما هو المجال الذي يخضع لتربية الأب؛ وبهذه الطريقة، يصير كلام أمير المؤمنين عليه السلام واضحًا، ولا يبقى فيه أيّ إشكال؛ وهو يرتبط بنظام الخلقة الذي يتطابق مع مشاهدات الإنسان، وما يُواجهه من قضايا ومسائل؛ ولذلك، لم يُعط الإسلام الحقّ للمرأة في عدّة مسائل؛ فالمرأة لا دخل لها في القضاء، كما أنّ شهادة امرأتين تُعادل شهادة رجل واحد، حيث أشارت الآية القرآنيّة الشريفة إلى هذا الأمر: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ...﴾۱؛ فإذا وقعت إحداهما في الضلال (وليس النسيان)، فإنّ الأخرى تأتي، وتُذكّرها، وتقول لها: «لا، لقد كان الأمر بهذا النحو، وكانت المسألة بهذه الطريقة، لقد قال فلان ذلك الكلام، لكنّكِ لا تتذكّرين ذلك»؛ فالآية الكريمة لا تقول: «شهادة المرأة مرفوضة تمامًا، شأنها في ذلك شأن الحائط»! لا؛ إذ باعتبارها إنسان له عقل وفكر، فإنّ شهادتها مقبولة، غاية الأمر أنّها تُعاني هنا من نقطة ضعف مخفيّة؛ فإذا حلّت ـ لا قدّر الله ـ الأمور العاطفيّة، وعدم الرؤية الكافية، وساهمت في إسقاط مكانة تلك المسألة [مورد الشهادة] وصورتها عن شكلها الواقعيّ والحقيقيّ، فإنّ انضمام المرأة الأخرى قد يُساعد في إصلاح الأمر؛ هذا فيما يخصّ هذه الموارد، وأمّا بالنسبة لبعض الموارد الخاصّة الأخرى، فإنّ الأمر لا يكون بهذا النحو، حيث نرى أنّ شهادة المرأة تُعادل في هذه الموارد الخاصّة ـ وهي من المسائل التي يُبحث عنها في الفقه ـ رجلاً واحدًا، وأنّ شهادتها [لوحدها] تكون مقبولة؛ وذلك في المسائل المختصّة بالنساء؛ فهذا هو حاصل كلام الإمام عليه السلام.
ومن هنا، فإنّنا لم نتدخّل أو نُغيّر في كلامه عليه السلام، ولم نقل أيضًا كما يقول العديد من الناس: «إنّ نهج البلاغة مفتقر إلى السند، وعلينا تنحية هذه المسائل جانبًا، ولم نتخلّ عن تلك الأمور بنحو مطلق، حيث ذكر بعض شرّاح نهج البلاغة عكس ما ذكرناه، وقالوا: «إنّ الفارق بين الرجل والمرأة يكمن في العقل النظريّ المختصّ بالقضايا والعلاقات المنطقيّة؛ وهو لا يمتلك أيّة قيمة، سواءً كانت تلك القضايا والحقائق التي يبحث عنها صحيحة أم خاطئة؛ وأمّا بالنسبة للعقل العمليّ، فهو واحد فيهما الإثنين»؛ لكن، في هذه الحالة، إلى ماذا سيؤول كلام أمير المؤمنين؟ ففيما يخصّ العقل النظريّ، فلا فائدة منه؛ وفيما يرتبط بالعقل الذي فيه فائدة [أي العمليّ]، فإنّهما متساويان فيه؛ وحينئذ، إلى ماذا سيؤول كلام أمير المؤمنين الذي قال فيه: «وَأمَّا عائِشَة فَقَد أدرَكَهَا ضَعفُ رَأي النِسَاء»؟ وهنا، نُدرك بأنّ أمير المؤمنين تعرّض للجفاء من قبلي أنا وأمثالي.. نعم، تعرّض للجفاء من قبلنا نحن! أ ولم يكن بوسعه عليه السلام أن يُبيّن ذلك بنفسه؟! فالذين يسعون لإظهار عالم الخلق والتكوين بشكل مقلوب سيتحمّلون مسؤوليّة عظيمة، وذنبًا لا يُغتفر؛ فلماذا علينا أن نُقصّر في بيان الحقائق والأمور؟ فلو كان هناك إنسان يقدر على سلوك الطريق ...
وبالمناسبة، إذا وفّقنا الله تعالى في الجلسات القادمة، فإنّنا سنرفع مستوى البحث، لنتحدّث عن الكمالات التي تحصل عليها النساء، والمراتب العلميّة التي تطويها، وعن عدم اختلافهنّ في العوالم العليا [عن الرجال]، حيث لا توجد هناك ذكورة ولا أنوثة؛ وسنكتشف حينئذ أنّ جميع تلك المسائل مرتبطة بنظام العالم في هذه الدنيا؛ وأمّا بالنسبة للحقائق ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِماتِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ والْقانِتِينَ والْقانِتاتِ والصَّادِقِينَ والصَّادِقاتِ والصَّابِرِينَ والصَّابِراتِ والْخاشِعِينَ والْخاشِعاتِ والْمُتَصَدِّقِينَ والْمُتَصَدِّقاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِماتِ والْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحافِظاتِ والذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا والذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْرًا عَظِيمًا﴾۱، حيث نرى أنّ الباري عزّ وجلّ قد جعل المرأة والرجل في هذه الآية الكريمة على وزان واحد؛ غاية الأمر أنّ لكلّ واحد تكليفه الخاصّ.
سنسعى إن شاء الله تعالى لإكمال الحديث عن هذه المسائل، حيث كان جميع ما قلناه مقدّمة للوصول إلى البحث عن مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة، وكيف ينبغي أن تكون هذه العلاقة؛ فنحن مدينون لكم ببيان هذه الأبحاث إن شاء الله تعالى. نرجو من العليّ القدير أن يمنحنا التوفيق، لكي تصير عيوننا بصيرة، وقلوبنا مستعدّة للرضوخ للمسائل الحقّة، والانصياع لطريق الأئمّة عليهم السلام ومنهجهم.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل ومحمّد