المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالملكية الحقيقية والاعتبارية
التوضيح
تتابع هذه المحاضرة شرح فقرة أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا، وفي سياق بيانها لمعنى العبوديّة ـ والشيء يعرف بضدّه ـ تبيّن معنيين للحريّة:
الحريّة الدنيويّة وهي تعني الطغيان والعصيان والتمرّد على القانون.
والحريّة الإلهيّة وهي تعني التسليم والانقياد والعبوديّة لله.
وفي بيان كلّ منهما توضّح ضرورة التفات الإنسان في عالم الدنيا إلى حقيقته وفقره وكون الأموال والمقامات والوجاهات سجنًا له. وكذلك ضرورة الالتفات إلى ملكيّة الله الحقيقيّة لكلّ العوالم.
كما تعرّضت أثناء ذلك إلى نبذة من سيرة الميرزا الشيرازي وحكمته في التصرّف بالأموال ورعاية شؤون من يعطيه وأحواله وارتباطه بصاحب الزمان في قضيّة المشروطة.
هو العليم
الحريّة الدنيويّة والحريّة الإلهيّة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٤٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين
الطاهرين المعصومين المكرّمين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
ما حقيقة العبوديّة؟
قلت: يا أبا عبد الله! ما حقيقة العبوديّة؟ قال: ثلاثة أشياء، أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله.
يقول عنوان للإمام الصادق عليه السلام بأيّ شيء وفي أيّ وضع يصل الإنسان إلى مرتبة العبوديّة؟ أي ما هو التحوّل الذي يحصل فيه؟ لا العبوديّة الاسميّة، العبوديّة الواقعيّة، العبوديّة التي تخلّصه من مرتبة الحريّة الدنيويّة، لا الحريّة الإلهيّة، لأنّ لدينا نوعين من الحريّة:
الحريّة الدنيويّة والحريّة الإلهيّة
الحريّة الدنيويّة
إحداهما حريّة دنيويّة وعصيان، حيث لا يدخل الإنسان نفسه تحت القانون وتحت الطاعة، هذه الحريّة حريّة دنيويّة. مهما كان هذا القانون، سواء كان في محلّ عمل الإنسان، أو القوانين الإلهيّة، فلا فرق في ذلك. طغيان النفس وعصيان الروح تتنافى مع انكسار النفس وتواضع الروح. هذه الحريّة هي الحريّة الدنيويّة.
وأحيانًا تشتبه مع تلك الحريّة الإلهيّة والروحيّة، ويبدّل الإنسان مواضعهما. فهذا نوع من الحريّة؛ وهي الحريّة التي تحدّث عنها الإمام الكاظم عليه السلام في رواية بشر الحافي من أنّه حرّ أم عبد؟ فقالت له تلك الجاريّة: بل حرّ. فقال: صدقتِ لو كان عبدًا خاف من مولاه۱.
هذه الحريّة هي حريّة الطغيان، حريّة الكثرات. أن يرى الإنسان نفسه حرًّا من كلّ قانون، وأن يتخلّص من كلّ قانون، وما دام الإنسان في هذه المرتبة فإنّه لا يتقدّم خطوة واحدة، كلّ عباداته تجعله متوقّفًا في مرتبة معيّنة، عباداته لا تبعث فيه روحًا، لا تخرجه من مرتبة النفس، لا تخرجه من مرتبة الكثرات. هذا إذا لم تزد هذه العبادات في وزره، فهذا أمر آخر. ليتها تجعله متوقّفًا في مرتبة واحدة فحسب، ولكن يمكن من خلال هذه الحريّة والوضعيّة الخاصّة للإنسان وصبغ الفعل بالصبغة الإلهيّة أن يصبح الإنسان في حالة معيّنة. لأنّ اللون صار ذا صبغة إلهيّة، اللون الإلهيّ تعلّق بالكثرات.
أهميّة الشعور بالتقصير وباللوم
التفتوا جيّدًا، تارة يذنب الإنسان، وهو نفسه يعلم أنّه يذنب، وهو خجل من نفسه، آسف، دائمًا يلوم نفسه، وإذا ما التقى بإنسان عظيم ينشأ عنده شعور بالخجل. هؤلاء الناس لديهم طريق إلى النجاة، تلك النفس اللوامة تنبّههم دائمًا، تراقب أمورهم على الدوام، رغم أنّ العمل معصية، إلا أنّ النفس لا تزال على فطرتها الأولى، تدرك المعصية، وتدرك الطغيان أمام الله، وتلوم نفسها في ذلك، هذه هي النفس اللوامة، الموضع هنا هو موضع فلاح وهداية، موضع توبة وموضع استغفار. من الذي يتوب؟ من الذي يستغفر؟ هو الذي يستحي من عمل ما فيلوم نفسه، وباب التوبة دائمًا مفتوح لهذا الإنسان ولمن كان في هذه المرتبة. فلا نُضِع هذه الحالة، فإنّ مفتاح حركة الإنسان إلى الكمال وإلى التكامل هو هذه النقطة فحسب، وهي أن يجد الإنسان نفسه دائمًا مقصّرًا مدينًا لا متفضّلاً، دائمًا يشعر أمام أعماله وأفعاله، في أفعاله الشخصيّة والاجتماعيّة والأمور الداخليّة والخارجيّة أنّه مقصّر، على الإنسان أن يحافظ على حالة اللوم والخجل والشعور بأنّه مدين في نفسه. فمع هذا القلب لله عمل، ومع هذا القلب للملائكة عمل، مع الإنسان الذي لا يجعل على قلبه حجابًا، ولا يجعل قلبه محبوسًا ومحصورًا في التمنّيات والتوقّعات والتخيّلات والكثرات، لا يبني حول نفسه جدارًا، ولا يجعل نفسه منفصلاً عن الآخرين، وبعبارة أخرى لا يعدّ نفسه متميّزًا. فهذا الإنسان محروم من الرحمة الإلهيّة، والتوبة محالة بالنسبة إليه. فهذا هو الحرّ.
أمّا الحرّ الدنيويّ فهو من كان في مقام الطغيان، لا يريد أن يكون في مقام الطاعة، لا يريد أن يكون في مقام الانقياد، لا يريد أن يكون في مقام المتابعة. لقد قال لي المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يومًا: إنّ درجات بعد وقرب أصدقائنا منّا هي بمقدار تسليمهم وطاعتهم لنا. بهذا المقدار، يعني لا معنى في هذا الطريق للمجيء اليوم وغدا والسنة الماضية وقبل عشر سنوات. لو أنّ إنسانًا جاء قبل عشرين سنة ولكن بقي في نفسه، فإنّه لم يأت إلى هنا، بدنه جاء إلى هنا، جسمه جاء إلى هنا، أمّا روحه ونفسه فهي تنفع تلك المرتبة، إنّه لم يحضر تلك المرتبة. وهو لا شأن له بالجسم والبدن، هو لا شأن له بآثاره وعوارضه، ما له شأن به لم يأت به، وما جاء به لا ينفعه، لذلك لو بقي عشر سنوات أيضًا فإنّه يبقى في مكانه، ولو بقي مائة عام فإنّه لا يتكامل سانيمترًا واحدًا، يبقى في حدود تخيّلاته، أما لو جاء إنسان وصنع ما ينفع هنا، فلو كان له مال فهو لا ينفع هنا، ولو كانت له إمكانات ومقام فإنّه لا ينفع هنا، فليأخذ إمكاناته ومقامه وليستعملهما في مكان آخر، ليتصرّف بمقدار الضرورة لنفسه، وليصرفه في ذلك الطريق الذي عيّنه الله، فإنّه لا ينفع هنا، إن كانت لديه مكانة اجتماعيّة فإنّها لا تنفع هنا.
تذكّر حقيقة النفس في المواقع المختلفة
وبصورة عامّة من الأمور التي تحوز على أهميّة كبيرة أن لا ينسى الإنسان نفسه في المواقع المختلفة، في المواقع المختلفة. ومن المسائل المتداولة بين الموظّفين في الدوائر وأمثالها أتدرون ماذا؟ يقال: إن كان لهم عمل مع أحد فإنّهم لا يتّصلون به من منزلهم، بل يذهبون إلى المكتب ويتّصلون به من هناك. فمكتب العمل هو مكان طرح الأمور والسؤال والجواب والرسالة وأمثال ذلك، الاتّصال من المنزل هو لأجل المنزل، أمّا الاتّصال من المكتب والرئاسة والموقع المعيّن فإنّهم يقولون اتّصلنا من المكتب. وحقيقة الأمر هي كذلك، حقيقة المسألة هي هذه، ولكن لا أدري من منّا أنا أم أنتم [يقوم بذلك]؟ أنا شخصيًّا مبتلى، أنا شخصيًّا مبتلى بهذه المسألة، فلنقارن أنفسنا في الحالة التي نحن فيها دون هذه الشؤون، ثمّ في الحالة التي نكون فيها مع هذه الشؤون، فنحن ممتزجون، نحن متشأنون بهذه الشؤون، لنقارن الحالة السابقة والحالة اللاحقة، ولننظر هل اختلفنا أم لا؟ لا شكّ أنّا اختلفنا، وهذا هو الأمر الذي ينبغي أن نقلق عليه.
كان لي ذات يوم عمل مع إنسان، كنت أودّ أن أقول له بعض الأمور. فاتّفقنا على وقت وذهبنا، وعندما أردت أن أتكلّم معه، رأيت أنّ الذين في ذلك المجلس يفوق عددهم العشرين، كان فيه ثلاثون. وبالطبع كان الجميع في حالة احترام وتواضع و...، ولم يكن المقام غير لائق. جلست وتحدّثت. ثمّ قال لي: ماذا تقولون في خصوص إحدى القضايا؟
قلت: نعم، لديّ كلام معكم حول تلك المسألة، ولكن ليس هنا. قل للسادة أن يخرجوا لأقوله لكم. فأخرجنا السادة من المجلس، واحدًا واثنين وثلاثة فخرج الجميع من المجلس، وبقينا وحدنا معه. قلت له: والآن اخلع عمامتك. فخلع عمامته، ووضعنا عباءته جانبًا أيضًا، ووضعنا جبّته جانبًا أيضًا، فصار في قميص وسروال. قلت: الآن صار وقت الكلام. وأنا مثلك. فأنا وضعت عمامتي جانبًا، وخلعت جبّتي وثوبي. وبالطبع العمامة والجبّة وأمثالها هي لباس النبيّ ولا ينبغي أن تخلع، غاية الأمر أنّي تعمّدت ذلك هناك. قلت: سيّدي العزيز! تفضّل أخبرني لأرى ماذا كان العمل الذي قمت به؟
إنّني أؤكد على هذا الأمر: تلك الحالة التي كانت حينها والإحساس الذي أحسستُ به وتلك الحالة من الارتباط التي كانت قبل ذلك مع عشرين شخصًا وثلاثين تختلف اختلاف ما بين المشرق والمغرب. الآن بعد وجود هذه الحالة يمكن أن يُتكلّم، صار الأمر قابلاً لأن يفهم، صار ما يقال يمكن أن يقع في مكانه. أليس كذلك؟ إذا أردتم أن تتحدّثوا مع أحد في أمر ما، حديثًا ما، طلبًا ما، وكان ذلك الإنسان في موقعه الخاص وأنانيّته الخاصّة أو أنّه كان قد تلوّث بهذه الزينة، فهل إدراك الأمر والمسألة سيكون واحدًا؟ لا شكّ أنّه يختلف. وهذه بعينها هي النقطة التي ينبغي التدقيق فيها دقّة كاملة. وقد قلت مرارًا إنّه سيأتي يوم نلقي كامل هذه الزينة جانبًا، فمن الآن علينا أن نفكّر، لماذا نتركها إلى ذلك الوقت؟ حينها سيكون الأوان قد فات، أم أنّهم حينها أيضًا سيدفنوننا في التراب برفقة الطاولة والمكتب والسجلّ؟ كلاّ يا سيّدي العزيز! إنّ ذلك المكتب ومقام الوزارة والرئاسة لا تزال الآن في غرفتها الخاصّة، نحن نذهب ويأتي رجل آخر، يجلس هناك بكلّ إتقان، على نفس الكرسيّ، على نفس الطاولة ويختم الأوراق، عن تلك الطاولة والكرسي ويتحاور مع الناس بنفس ذلك الهاتف، كلّ ذلك، كلّ تلك الوجاهات، الناس، الأوامر، تقديم الشاي، الرسائل، الإجابات، الواسطات، كلّ ذلك... جيّد أنّا نشاهد ذلك في النهاية، لا حاجة لذلك، نحن نشاهد من الصباح حتّى المساء ولا نعتبر. لنلاحظ علاقة الناس معنا عندما نصل إلى مركز معيّن، وعلاقتهم بنا عندما نفارق هذا المركز، هل هي واحدة؟ إنّها تختلف كثيرًا. لا بدّ أن نترك كافّة هذه العلاقات جانبًا، ونبقى وحدنا، حتّى هذا القميص والسروال أيضًا ينزعونهما عنّا، لا يبقون شيئًا في النهاية، يلفّون حول الإنسان مترين من القماش وفي أمان الله. الآن نحن عين ذاك، ولكنّا أخطأنا. المسألة لم تختلف، والروح في مكانها.
علاقة الروح بالبدن علاقة تعلّق لا حلول
عندما يغادر الإنسان هذه الدنيا ففي أيّ عالم تكون الروح؟ في عالمها الخاص، وكأنّها الآن هي في عالمها، لا تتصوّروا أنّ أمرًا ما سيقع إذا ما انفصلت الروح عن البدن، فليست كخروجها من إناء ما، فالروح لا تخرج من إناء، الآن حيث أنّي أتكلّم فإنّ مكانتي لا تختلف عنها حينما أفارق الدنيا مقدار رأس إبرة، وإنّه تعبير مجازيّ حين يقولون تخرج الروح من البدن. الروح لا تخرج من البدن، أفهل المجرّد يكون ظرفه مادّة؟ يستحيل أن يكون مظروف المادّة مجرّدًا. فالآن الروح متحقّقة في مكانتها الخاصّة في عالم البرزخ وعالم المثال وعالم الملكوت وسائر العوالم، في كلّ واحد من تلك العوالم، وفق مرتبتها الوجوديّة الخاصّة، وما ترونه الآن من أنّ هذا البدن يتكلّم وأنتم تستمعون هو لأجل التعلّق، لا لأنّها دخلت في البدن، كلاّ، لم يدخل شيء إلى البدن، وما في البدن هو اللحم والعروق والأعصاب والعظام وأمثال ذلك، ولا شيء آخر، فالروح لم تدخل إلى البدن، بل لها تعلّق به، كما لو تصوّرنا أنّ بدنًا مثلاً سقط جانبًا وخرجت الروح منه وقطعت تعلّقها به، فإنّها لو تعلّقت به يمكنها أن تديره في الوقت نفسه الذي تحافظ فيه على بدنها المثالي في هذه النقطة، فلا فرق، هذا هو التعلّق. وحالتنا عندما نفارق الدنيا أنّ روحنا لا تزال كما كانت والبدن لم يتغيّر، لا يزال على الحال التي كان عليها.
الاعتبارات الدنيويّة سجن للروح
فتلك الروح وتلك الحال لا تزال الآن كما هي لم تختلف شيئًا، نحن جئنا وألبسنا هذه الروح الألبسة، وأضفنا إليها ما لا يرتبط بها، وهذه الروح تقول: أنا أتأذّى من هذه الأمور، أنا وحيدة، لماذا تعملون على حبسي؟ تلك الوحدة هي من جهة تعلّقي بالله، تلك الوحدة التي لديّ ـ وما أقوله هو حديث الروح مع نفسها من زوايا وجوديّة مختلفة، تلك الحقيقة الواقعيّة والباطنيّة للروح يمكن أن تتعارض مع التجليّات الظاهريّة المختلفة وتتنازع معها وتجادلها ـ هي دائمًا تقول: أنت تعمل على سجني دائمًا في سجن الكثرات، عليّ أن أخرج، يجب أن يكون تعلّقي بمبدئي، فكما أنّ مبدئي مجرّد لا بدّ أن أكون أنا مجرّدة حتّى يمكنني أن أحصل على سنخيّة. فلأنّ ذلك المبدأ خال من الكثرات وخال من الأهواء وخال من الآراء وخال من الشوائب الدنيويّة، فعليّ أنا للوصول إليه أن أبرّئ نفسي وأطهّرها من هذه المسائل، أنت أسرتني، أنت سجنتني في هذا اللباس وحصرتني به، أنت ألبستني لباس الدنيا، أريد أن أفرّ وأنت تحبسني. هذا هو حديث النفس الذي نحدّث به أنفسنا، غاية الأمر أنّا غير ملتفتين. أحيانًا تلمع بوارق، أحيانًا تظهر توجّهات، وهذه التوجّهات تحكي عن هذا الحديث والحوار الذي يجري في باطننا بين روحنا وبعدنا الظاهري الذي هو التعلّق بالدنيا والتعلّق بالكثرات.أحيانًا تلمع بوارق، أحيانًا تحصل للإنسان حالة من التنبّه، أحيانًا تحصل للإنسان حالة من التوجّه أن ما هذا العمل الذي أقوم به؟ هل هو عمل صالح؟ هل كان مخالفًا لرضا الله؟ هل كان منافيًا لحريّتي؟ هل أسرني؟ هل أذهب هذا العمل الذي قمت به مكانتي بين الناس؟ هل طحن هذا العمل الذي قمت به شخصيّتي؟ هذه الحالات التي تحصل للإنسان هي منبّهات تنبّه تلك الروح لكي نكون ملتفتين، وأن نجعلها دائمًا في مكانة مناسبة. ذلك الالتفات الذي يحصل يوم القيامة، بل لماذا نتحدّث عن يوم القيامة؟ منذ ظهور حالة الاحتضار يشعر الإنسان حينها أنّ كلّ شيء قد انتهى، حينها يشعر أنّ الحالة قد تغيّرت، في حين أنّ هذه الغرفة لا تزال كما هي، فإنّ الأفراد الذين يقفون حولي لم يكونوا قبل ذلك.
أليس لدينا في الرواية أنّ كلّ إنسان يموت يحضر أمير المؤمنين عند فراشه، سواء كان مؤمنًا أو فاسقًا، هو لا بدّ أن يأتي، لماذا؟ لأنّه هو الصلة، والميزان بين الحقّ والباطل، ولا بدّ أن ينظّم هو المرتبة. يرى أنّه في الغرفة نفسها، ولكنّه يرى صورًا جديدة، نفس الصور التي هي حوله يراها حتّى ولو أغمض عينه، لأنّه ـ كما ذكرنا سابقًا ـ إذا احتضر الإنسان تترك هذه الوسائط المادّية مواقعها، تخسر العلاقات الفيزيائيّة ذاتها، وتنفتح عينه البرزخيّة.
فعندما ينظر الإنسان المحتضر ويرى أقاربه مع أنّ عينه مغمضة فإنّه يرى صورهم البرزخيّة لا أجسامهم هذه. هل التفتّم؟ الجسم لا يقبل الرؤية، فالعين مغمضة. ولكن في الوقت نفسه لو كان له وعي في تلك الحال وتمكّن من الإشارة فإنّه لو قيل له: إنّ فلانًا مثلاً حسن أين جلس؟ يقول: لقد جلس حسن هناك، ويقول صوابًا. فعينه مغمضة، ولكن صورته المثاليّة منطبقة على هذه الصورة الماديّة، تلك الصورة المثاليّة إلى جانب حسين وإلى جانب عليّ مثلاً. تلك هي الصورة المثاليّة في تلك الحالة. لذلك فإنّه يشاهد ذلك البعد في عالم المادّة أيضًا. فبالنظر إلى الإشراف الذي لعالم المثال على هذا العالم، إضافة إلى الأشياء الأخرى التي لا نراها. نحن نرى هذا ولا نرى شيئًا آخر، من هو هذا الذي يراه هو ولا نراه نحن؟ مثلاً الملائكة يراهم هو ولا نراهم نحن، يحسّ بصور الخمسة ونحن لا نحسّ بهم، أعماله وأموره والأعمال التي قام بها كلّ ذلك له حضور، هو يراها ونحن لا نراها.
فإذن بناء على ذلك عندما يلتفت إلى تلك المسائل التي كان ينبّه عليها في هذه الدنيا، يقول: يا للعجب! لقد كنت أنا هذا ونأيت بنفسي عن الحقائق، لا يقول: كان هناك إنسان آخر، لقد كنت أنا، أنا من خدعت نفسي أنا، أنا بنفسي، أنا هذا الذي هو في مقابل الملائكة، في مقابل الأئمّة، أنا في مواجهة كلّ هؤلاء، لقد كنت أنا الذي التفت الآن كم كان سجنًا عجيبًا جعلته حول نفسي وحول الحقائق، فهذه المسألة تنكشف هناك للإنسان. لماذا ننتظر حتّى يفوت الأوان؟ حينها سيكون الأمر قد انتهى، أفبعد أن وقعت في نهر النيل مع جنودك وهو آخذ بإغراقك (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)۱ الآن رجعت إلينا؟ الآن التفت إلينا؟ فأين كنت إلى الآن؟ (فاليوم ننجّيك ببدنك)٢ الخطاب إلى فرعون.
عدم اختلاف حالنا عن حال فرعون
ففرعون المسكين هذا لم يكن في البداية ذا قرون وذنب، وربّما حتّى النهاية لم يكن لديه قرون وذنَب، لم يكن له ذنَب هذا المسكين. نحن نلعنه إلى درجة ونفعل ما نفعل. كلاّ يا عزيزي! لقد كان فرعون هذا مثلنا، ونحن مثله، لا فرق بيننا، جسمنا لا يختلف، من الناحية الماديّة لا فرق بيننا وبينه، هل التفتّم؟ عندما ولد فرعون هذا من أمّه كان بريئًا. عندما ولد من أمّه لم يكن له تعلّق بالدنيا، ونحن لم يكن لنا تعلّق بالدنيا. هل كان هناك اختلاف؟ كلاّ، فقد كان إنسانًا ونحن أيضًا أناس، غاية الأمر أنّ الكلام هو في أنّه استكبر بين الناس، فالله هيّأ له مقدّمات الهداية، فإن سلكت هذا الطريق فالدنيا والكثرات والتفرعن والتوغّل في الكثرة، وكذلك الاستكبار حتّى يصل الأمر إلى ادّعاء أنا الحقّ وادّعاء الألوهيّة والربوبيّة وأمثالها. وفي المقابل ما يخالف ذلك ذلّة ومسكنة وعبوديّة وتواضع ووصول إلى مراتب الكمال والتجرّد. الآن الكلام هو في هذا، الإنسان إذا سار من هذه الجهة فهناك ما هو أكبر من الإنسان من حيث الظاهر حتّى من حيث الظاهر، ولا عمل لنا بالباطن. هل كان فرعون يستطيع أن يشقّ القمر؟ أن يجعل القمر نصفين؟ ألم يفعل النبيّ ذلك؟ هل كان فرعون قادرًا أن يردّ الشمس؟! كلا فهو لم يفعل ذلك. رغم أنّ هذه الأمور كلّها لا تستحقّ الاهتمام ولكن من حيث الظاهر هذه التدخّلات والتصرّفات وأمثالها يختلف الأمر معها. لقد جاء هذا الرجل وجاء الناس، أوّلاً جاء واحد ـ فلم يكن الأمر هكذا ـ بل عظّمه واحد، عظّمه اثنان، وجاء الثالث والرابع وهذا المسكين لا يدري كم هي الجناية التي قاموا بها في حقّه، لا علم له، فهذه القلنسوة التي وضعوها على رأسه صارت تكبر شيئًا فشيئًا وتتحوّل إلى قبّعة، ثمّ تكبر القبّعة، وتنزل وتنزل حتّى تغطّي على عينيه، فلا تتمكّن هذه العين من التواصل مع الواقع. لماذا؟ هو لأجل هذه الأمور، لأجل الأمور التي جعلها الله، لأجل هذه المكانات التي جعلها الله. ولكنّه لم يجعلها لنغرق فيها، جعلها لنتجاوز عنها. ولكنّ هذا المسكين جاء وغرق فيها، اعتقد أنّ هذه حقائق، تلك النفس اللوامة التي فينا، تلك النفس اللوامة كانت في فرعون ونمرود. والنماردة والفراعنة السابقون منهم والآتون والحاضرون كلّهم سواء، لا يختلفون أبدًا.
خوش بود گر محک تجربه آید به میان | *** | تا سیه روی شود هر چه در او غش باشد |
يقول: حبّذا لو جاء محكّ التجربة إلى الميدان *** حتّى يسودّ وجه كلّ غشّاش.
في يوم القيامة يصنع صفّ للفراعنة. ننظر: إلهي! عجيب! كم فرعونًا لدينا؟! ليس هناك إلا بلد واحد وهو مصر. يجعلون الفراعنة صفًّا من شرق العالم إلى غربه، فكلّ هؤلاء فراعنة. أين كان هذا؟ كلاّ يا عزيزي! لقد كان اسمه فرعون، أمّا الآن فهناك فراعنة أقوى بكثير وأفضل ما شاء الله لديهم خبرة أكثر، فراعنة يمتلكون البرهان، فراعنة يمتلكون العلم، فراعنة يمتلكون الحجّة والدليل، فراعنة متوغّلون في العلوم، فراعنة متوغّلون في النفوس والكثرات، فلتقفوا إذن ضمن صفّ واحد. لا قدّر الله أن يجعلونا في هذا الصفّ، نعوذ بالله، وإلاّ فيوم القيامة ليست المسألة مسألة فرعون ونمرود، كلّا يا عزيزي! كلّ من جلس مجلس الإطاعة والانقياد وطهّر قلبه مع الله، طهّر نفسه وأفعاله فإنّه يكون في صفّ المتّقين، وكلّ من لم يفعل ذلك يكون في صفّ فرعون، يقف بشكل جيّد ومنظّم وبالترتيب. وهؤلاء لهم مراتب، مراتب متقدّمة، ومراتب متأخّرة، وكذلك بالنسبة إلى درجات الجنّة ودركات الجحيم والنار، فلهؤلاء مراتب مختلفة فيما بينهم. فماذا يكون هذا؟ هذا هو الحريّة الدنيويّة.
الحريّة الإلهيّة
ولدينا حريّة أخرى أيضًا هي الحريّة الإلهيّة. فاسألوا الله تلك الحريّة ليجعلها من نصيبكم، تلك الحريّة التي تحرّر الإنسان من الدنيا، من المال، من المسند، من الشؤون، من الأمر والنهي، من نظر الناس وعدم نظرهم، أن يتحرّر من التعظيم وغير التعظيم. وهذا ما لا يحصل بسهولة يا سيّدي! للمرحوم القاضي رضوان الله عليه وصيّة كتبها قبل وفاته بخمس أو أربع سنوات بخطّ يده. قبل بضع ليال كنت أطالعها، فقد وصلت إلى يدي عبر أحدهم، وفيها نقاط جيّدة منها: وأمّا من حيث التوحيد فلست أعرف أحدًا أوكلك إليه ـ هذه عين عبارة المرحوم القاضي ـ أوكلك ... وهذه المسألة لا تنال بسهولة، هذه المسألة لا تنال بسهولة... ولكن مع غضّ النظر عن ذلك قم بهذه الأعمال، وأمر ببعض الأعمال على سبيل المثال. لا تنال بسهولة. مسألة التوحيد، هكذا توحيد إلهيّ وعبوديّة وصلاة؟ كلاّ يا عزيزي! لا قدّر الله أن يأتي يوم يفتحون فيه صحيفة أعمالنا فنجد أنّ كافّة صلواتنا قد أضافت من تفرعننا، الصلوات التي نصلّيها صلاة الجماعة التي نصلّيها، وكافّة عباداتنا قرّبتنا أكثر إلى فرعون. كيف يصبح كذلك؟ الصلاة المصحوبة بالنفس، الصلاة المصحوبة بالدنيا. عندما أصلّي جماعة أتوقّع أن يصلّي الناس خلفي، أمّا إذا جاء هو وصلّى فإنّي أجلس في داري. هل هذه الصلاة لله؟! كلاّ، ليس هناك إله في البين. لو كان هناك شوق بنفس المقدار لا في مقام المعاوضة والمعاملة والعبادة التجاريّة ـ على حدّ تعبير المرحوم القاضي: العبادة، العبادة التجاريّة ـ لا العبادة التجاريّة والمعاملة ، فلو كان هناك شوق ومحبّة للحضور كما في صلاتي وموقعيّتي واجتماعي، بهذا النحو، فمع ذلك هناك كلام في هذا، وإن كان أصله خطأ واشتباهًا، فما معنى الشوق؟ أدّ واجبك، من جاء إلى صلاتك فأهلاً وسهلاً ومن لم يأت فلا فرق، ينبغي أن لا يختلف الأمر أبدًا، أبدًا ينبغي أن لا يختلف. ولكن المسألة ليست كذلك، فجأة يضعون أمام الإنسان رسالة: يا سيّد لقد صلّيت تلك الصلاة بهذه الخواطر؛ فهذه الصلاة هي لك. هذا العمل الذي قمت به قمت به لأجل كذا.
حُرّ من كلّ شيء سوى المبدأ، حُرّ من كلّ التخيّلات سوى المبدأ. هذه هي الحريّة الإلهيّة. هذه الحريّة هي حريّة إلهيّة. هذه حريّة وتلك عبوديّة، وهنا يقول الإمام الصادق [عندما يسأل]: ما حقيقة العبوديّة؟ "أن لا يرى" أي أن لا يرى في وجدانه وفي سرّه، أي لا يحسّ أصلاً أنّ له تعلّقًا بمال. "أن لا يرى العبد لنفسه ملكًا". أصلاً لا يحسّ فيما أعطاه الله تعلّقًا لنفسه.
ماذا لو قيل لنا: لن تعيش أكثر من أسبوع؟
أطرح سؤالاً: لو فرضنا أنّ صادقًا مصدّقًا أو إلهامًا أو ملاكًا من الغيب قال لنا: يا سيّد أنت لن تعيش أكثر من أسبوع، أسبوع. ألا تتغيّر حالنا بالنسبة إلى تعلّقات الدنيا؟ هذا يقول: لماذا بعد أسبوع؟ انتهى الأمر. كلاّ، نعلم أي نعلم قطعًا.
قال لي رجل: لقد كنت بالنسبة إلى حالي مع الموت في مدّ وجزر. كنت أتصوّر أنّي عندما أواجه الموت يمكن أن أتعامل معه بانبساط وبطيب خاطر ورضا كامل وليس لديّ أيّة مشكلة، لا تعلّق عندي، لا تعلّق لي بالدنيا. كان لديّ هذا الإحساس. كان يقول: إلى أن كنّا في سَفرة ـ وهو كان يقول لي ـ فوقع أمر عجيب جدًّا، كان يقول: لقد تورّمت الغدد اللنفاويّة التي وراء الأذن شيئًا ما بسبب المرض الذي أصابني، فعندما كنت أضع يدي عليها كنت أشعر بذلك. نعم هو طبيب وكان يقول: ما إن حصلت هذه المسألة لديّ كان ذهني يذهب إلى بعض المسائل الأخرى، ولم أنم من الليل حتّى الصباح وقلت: يا ويلتي انتهى الأمر، لقد انتهى الأمر في النهاية. كان يقول: لم أنم من الليل حتّى الصباح وشرعت... وقلت في نفس: إلهي! ماذا... اضطربت و... وكنت مسافرًا. كان يقول: أيقظت رفيقي في منتصف الليل وقلت: لا أدري لم أنا قلق. قال: ما الأمر؟ اذهب ونم. قلت: كلا هناك أمر قد حصل، لقد تورّم هذا الموضع. قال: له: نم. هناك ألف موضع من بدن الإنسان يتورّم من الصباح حتّى المساء والآن تورّم خلف أذنك ـ وقد كنت أنا من قال له ذلك حيث كنت أنا رفيقه ـ قلت: اذهب ونم يا عزيزي! أيقظتنا. في النهاية رأينا أن لا فائدة. فقلت: سيدي أنت لن تسلم روحك لعزرائيل في هذه الأيّام القريبة فاذهب ونم. قلت: ليطمئنّ بالك لن تموت قبل أن نموت نحن، أنا أعدك بهذا، لقد كانت لهذا الرجل محبّة لي وأمثال ذلك فهدأ ونام وانتهت المسألة. وبعد يوم أو يومين ...
انظروا! بكلّ بساطة لا يحتاج الأمر إلى منام ولا إلى مكاشفة ولا إلى أن يخبرنا النبيّ وإمام الزمان، يشيرون إلى الإنسان بعلامة، بعلامة واحدة، فماذا يحصل؟ فيلتفت الإنسان إلى نفسه أن يا للعجب! لقد كنت إلى الآن تقول أنّ موقفي بالنسبة إلى الموت هو كذا، أنا سأتفاعل بشكل جيّد، لا مشكلة لديّ، لا فرق عندي. ولكن أنت أيقظتني من النوم ولم تنتظر حتّى يأتي الصباح وتخبرني بهذا الخبر السارّ. هذه أمور يأتي بها الله لنا جميعًا أيضًا بلا استثناء. لماذا؟ لأنّ الله رحيم بنا، الله عطوف بنا، فالله يأتي بهذه الأمور للجميع، (وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون)۱ هذه المسألة هي للجميع. تأتي إشارات وتذهب، ولكنّ المهمّ هو أن يأخذ الإنسان هذه الإشارات بشكل جادّ، أن يلتفت، أن يصل إلى تلك الحقيقة ويستفيد من ذلك كمال الاستفادة للوصول إلى تلك المسألة.
ما هو هذا؟ هذه هي العبوديّة. العبوديّة التي يقال معها للإنسان: يا فلان ستموت غدًا. يقول: جيّد ما شاء الله كم هو جميل. ماذا يقول أمير المؤمنين؟ ولولا الأجل الذي كُتِب لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقًا إلى الثواب ، وخوفًا من العقاب.٢ نحن لا نقول يجب أن نكون مثل هؤلاء فهؤلاء من نوع آخر. عندما يصفهم الإمام يقول: هؤلاء مشتاقون إلى الموت إلى حدّ لا ينتظرون في أبدانهم ـ فهؤلاء مختلفون ـ أصلاً لا ينتظرون. لو لم يكن ذلك التقدير الإلهيّ والمشيئة الإلهيّة لأنّه (وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأيّ أرض تموت) ٣ لولا تلك المشيئة والتقدير الإلهيّان لما بقوا في هذه الدنيا لحظة واحدة، لحظة واحدة. نحن لا نقول ذلك، بل يكفينا أن لا يختلف الأمر عندنا، فهذا عبوديّة.
الطريق إلى العبوديّة الحقيقيّة: إدراك الفقر الذاتي للإنسان والملكيّة الحقّة لله
فإذن يريد الإمام الصادق عليه السلام أن يقول لعنوان: هذه الأمور التي أقولها لك لا تحفظها في حافظتك فحسب، لا بدّ أن تصبح كذلك، لا بدّ أن تصبح بحيث لا ترى لنفسك شيئًا، أن لا تحسّ بتعلّق بنفسك وآثارك الوجوديّة. هكذا ينبغي أن تكون وإلا جميعنا نعلم هذه الأمور. جميعنا نعلم أنّا لسنا شيئًا، والكفّار والفسقة أيضًا يعلمون. ألا يعلمون أنّ هناك موتًا؟! ألا يعلمون أنّ عليهم أن يغادروا يومًا؟ ألا يعلمون أنّ عليهم أن يقطعوا التعلّقات يومًا؟ هم يعلمون ونحن نعلم أيضًا. فما الفارق بيننا وبينهم؟
لذلك هناك أمور حول هذه الفقرة لا بدّ أن تلاحظ:
الأمر الأوّل: هو أنّ على الإنسان أن يعلم أنّ منشأ كلّ ذلك، كلّ عدم التعلّقات، منشأ كافّة هذه العبارات، هذه الكلمات، عدم التعلّق بالمال، عدم التعلّق بالشخصيّة، عدم التعلّق بالشؤون، عدم التعلّق... منشؤه الفقر الذاتي للإنسان، حيث إنّ الإنسان في وجوده فضلاً عن آثاره متدلّ بالله ومتّكئ على ذلك المبدأ الأعلى، وليس هناك أيّ وجود للإنسان ذلك الوجود الذي هو عبارة عن الوجود المستقلّ، الوجود الشخصيّ والوجود بالفعل، فذلك الوجود لا معنى له بالنسبة إلى الإنسان. هذا هو المنشأ لجميع هذه المسائل. وبواسطة هذه المسألة ـ وبالطبع تعرّضنا فيما سبق لهذه المسألة ـ فبواسطة هذه المسألة لا يمكن للإنسان أن يشعر بالغنى والوجود الاستقلالي بشكل أولى بالآثار الوجوديّة والمقارنات والظروف التي يرتبط بها الإنسان، فكلّ ذلك ما هو؟ خارج عن مرتبة وجود الإنسان. فما دام الإنسان غير مالك لوجوده، ومالكه هو غيره فكيف يمكن أن يشعر بالتعلّق والتملّك في الآثار الخارجيّة وفيما هو جليسه وله عمل معه وينشأ من آثاره وشوائبه الوجوديّة (يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد)۱ فمن نحن؟
"ما عدمهائيم هستيها نما"
نحن أعدام مظاهر للوجود.
لنا مظهر من الوجود، لو كان هذا المظهر واقعيًّا فلماذا ليس باختيارنا الموت والحياة ؟ لماذا مسألة الموت والحياة خارجة عن وجودنا؟ وهذا ما نعلمه جميعًا. فمن المعلوم إذن أنّنا في وجودنا لا نملك وجود أنفسنا.
ما عدمهائيم هستى ها نما | *** | تو جود مطلق وهستى ما |
نحن أعدام مظاهر للوجود *** أنت الوجود المطلق ووجودنا
أي: الوجود المطلق مختصّ بذات الله. أنت الوجود المطلق ووجودنا.
ما نبوديم وتقاضامان نبود | *** | لطف تو ناگفته ما مى شنود |
أي: لم نكن ولم يكن لنا طلب *** لطفك يسمع ما لم نقل
فهذا ما يرتبط بأصل الوجود. وما دام الأمر كذلك، ونحن في أصل الوجود عدم، ففي الآثار الخارجيّة والملكيّة الشخصيّة والشؤون والأوامر والنواهي التي نقوم بها كيف يمكن أن ندّعي المكليّة؟ كيف ندّعي الاستقلال؟ هذه هي المسألة الأولى.
الأمر الثاني الذي أشير إليه في هذه العبارة ضمن الجلسات السابقة هو أنّ الإنسان إذا علم أنّ الملكيّة والتعلّق مختصّان بالله (ولله ملك السموات والأرض)۱ كلّ ما في السموات، في السموات السبع وفي الأرض، سماوات المادّة والجنّ، كلّ ما هو موجود مختصّ به. أي هو له، ملك له، الولاية والتصرّف له، يأخذ ويعطي، يبقي ويفني، مستولٍ على الخلائق. ما دام كذلك، فلا بدّ أن يصحّح الإنسان علاقته وارتباطه مع كلّ ما في وجوده في الخارج. فلا يمكنه أن يقوم بأيّ عمل يحلو له، لا يمكنه أن يتصرّف بأيّ تصرّف يريده، لا يمكنه أن يأمر وينهى كيفما شاء. لا بدّ أن تكون هذه الأمور ضمن نطاق التكليف، ضمن نطاق الرضا.
وما معنى التكليف؟ أي أن يرى الإنسان نفسه خارج القضيّة، يقولون: قم بهذا العمل. فيقوم به. إلهي! لقد قالوا لي قم بذلك. لا بأس. لا تفعل ذلك! لا بأس. لا ندخل أنفسنا في هذا التكليف، لا نشركها، لا نفتح لأنفسنا حسابًا في هذا التكليف، أن نحافظ على أنفسنا بعيدة عن هذا الأمر. فماذا يكون ذلك؟ يكون تصرّفًا في ملك الله. الإنسان يعلم أنّه يتصرّف في ملك الله. ليس هنا إلا واسطة واحدة، ليس هنا إلا جسر واحد للعبور، لا شيء أكثر من ذلك. لذلك لا بدّ من الدقّة في نوع التصرّفات، لا بدّ من الامتناع عن الإفراط في مكان ما، وعن التفريط في مكان، وينبغي أن لا يقصّر، أن لا يعرض، كلّ شيء يطبّقه على العقل وعلى الشرع وعلى العرف، لا بدّ أن يلاحظ الظروف في كلّ موضع. لقد أرسل أمير المؤمنين عليه السلام لرجل مقدارًا كبيرًا من التمر، فاعترض عليه رجل. فقال: أتعلم أنت وضعه لكي تعترض عليّ؟٢ لو أراد الإنسان أن يتعامل مع بعض الناس بنحو فلا بدّ أن يكون ملتفتًا إلى أنّ هذا التصرّف قد يؤدّي إلى حدوث توقّع بلا مبرّر من قبلهم. هذه المسألة مهمّة جدًّا. الخصوصيّات النفسيّة للناس في علاقتهم معه لا بدّ أن تلاحظ بشكل أكيد. فلملاحظة شخصيّة الناس وشؤونهم في علاقتهم مع الإنسان دور أساسيّ. فكلّ فرد هو في نفسه إنسان له صفاته وله أخلاقه.
قصّة آية الله مشكوري مع الميرزا الشيرازي حول الحكمة في التصرّف في الأموال
لقد تذكّرت الآن هذه القصّة رغم أنّ الوقت ينقضي، ولكن سننقل هذه القصّة ثمّ نختم الكلام حول هذه الفقرة. ينقل أحد العلماء والأعاظم في زمان المرحوم العلاّمة، فعندما ذهبنا لزيارته برفقة المرحوم العلامة كان يقول: كان في النجف أحد العلماء الزهّاد والعبّاد وكان رجلاً عظيمًا وهو المرحوم آية الله مشكوري والذي كان يقيم صلاة الجماعة في الصحن، وكان كبار أهل العلم يصطفّون للصلاة خلفه، وناقل القصّة نفسه كان يحبّه كثيرًا لأنّه كان على علاقة نسبيّة به وينقل عنه حكايات مفيدة جدًّا، ومنها هذه القصّة: قال: في أحد الأسفار في زمان المرحوم الميرزا الشيرازي خرج من النجف إلى سامرّاء للّقاء به، وكانت رئاسة الشيعة كلّهم في يده آنذاك، ونظرًا إلى بعض المصالح المفصّلة اختار الإقامة في سامرّاء.
نبذة حول شخصيّة الميزرا الشيرازي وارتباطه بصاحب الزمان في قضية التنبكاك
لقد كان الميرزا رحمة الله عليه رجلاً عظيمًا وذكيًّا وبصيرًا جدًّا. وكان مطّلعًا جدًّا على أمور العصر وأحوال الدنيا، والخلاصة لم يكن بالرجل الذي يمكن خداعه. أذكر أنّي كنت أقرأ في مكان أنّه في ذلك الزمان الذي كان فيه في سامرّاء حدث إشكال بين طائفة من أهل السنّة ـ حيث كان في سامرّاء سنّة أيضًا ـ مع الشيعة ولم تكن تلك الطائفة جيّدة، بل كان عندها عناد في مقابل الشيعة، فحدثت مشكلة بينهما وقتلوا رجلاً من الشيعة المقيمين في سامرّاء. وكانت دولة بريطانيا حينها تسيطر على بلاد المسلمين من العراق والحجاز واليمن وغيرها، وهؤلاء الإنكليز دائمًا كانوا ولا يزالون يجعلون أنفسهم قيّمين على سائر الشعوب، وكان العراق حينها تحت نظر المفوّض البريطانيّ ويدار تحت حكومته. وعندما وقعت تلك الحادثة جاء كبير القنصليّة البريطانيّة إلى المرحوم الميرزا الشيرازي وقال له: سيّدنا لقد حدث أمر كهذا، فاسمح لنا أن نلقي القبض على المجرمين ونسلّمهم إليك ونعاقبهم. انظروا إلى الدراية والذكاء. لقد حدثت حادثة الآن هنا، ولكنّ هذا الرجل مع هذه الرؤية التي لديه والبصيرة التي لديه لا يسمح للأجانب بالتدخّل في أمور المسلمين. يقول: أهل السنّة إخواننا، ونحن نحلّ هذه الأمور فيما بيننا، ولسنا في حاجة إلى ما تظهره السلطة "العالية العليّة المتعالية!!" لكي يبدوا العطف ويريدوا أن يساعدونا. لم يكن يخضع للتأثير، لقد كان رجلاً عظيمًا جدًّا، كان رجلاً ذكيًّا، وكان مطّلعًا بشكل كامل على خدعهم وحيلهم. فهذا هو المرجع، هذا هو الذي ينفع أن يكون حاكمًا إسلاميًّا، هذا الرجل الذي تعجز سياسات الدول الأخرى عن التأثير في عقيدته وفكره والرؤية التي يمتلكها. يلتفت فجأة إلى أنّه يا للعجب لقد خدع خدعة كبيرة، كلّ ذلك لكي يتحقّق أمر معيّن. لقد كان رجلاً عظيمًا جدًّا، والأهمّ من كلّ ذلك هو ارتباطه بصاحب الولاية. أنا لا أشكّ أنّ المرحوم الميرزا لم يكن بغير ارتباط. وشبيه ذلك أيضًا حدث في مسألة التنباك المعروفة، عندما اشتدّت الأحوال في حادثة التنباك، يأتي أحد تلامذته ويدعى السيّد محمّد الفشاركي رحمة الله عليه، وكان من الأعاظم وكان أستاذًا ماهرًا جدًّا، ومجتهدًا قويًّا، فدخل يومًا على الميرزا الشيرازي، وعندما جلس ـ الميرزا أستاذه وهو تلميذ ـ نظر إليه وكان متأذّيًا جدًّا وقال: لديّ سؤال يا ميرزا، سؤال خاصّ. يخرج الحاضرون من المجلس فيقول: اسمحوا لي لدقيقتين أن أكلّمكم بدون مراعاة كونكم أستاذًا وكوني تلميذًا، أريد أن أكلّمكم بصراحة.
فيقول له: تفضّل، قل ما يريده قلبك المنزعج. فيبدأ بالنزاع مع الميرزا: أنت جالس هنا وهم يصنعون كذا وكذا، فالإنكليز يقومون بكذا، وفي إيران يحدث كذا، أليس هذا مهمًّا، ممّ تخافون؟ تخافون على روحكم؟ هل روحكم أولى، هل دمكم أغلى من دم سيّد الشهداء الذي أريق لأجل الإسلام؟! وكلامًا من هذا القبيل. وهو يصبر هكذا بحلم ورزانة وهدوء، وعندما ينهي كلامه يذهب إلى زاوية الغرفة ويأتي بورقة، ويقول: سيديّ العزيز! إنّ هذه الأمور التي تذكرها حدثت معي أيضًا، فأنا أيضًا كنت أفكّر في هذه الأمور، وكان فكري...، فلست بعيدًا، أنا مطّلع على الأوضاع والأحوال... ثمّ يقول: لقد صمتُ ثلاثة أيّام، وكنت منزعجًا جدًّا، فصمت ثلاثة أيّام واليوم تشرّفت بالذهاب إلى السرداب ـ إن شاء الله رزق الله الجميع إذا ذهبوا لزيارة العتبات أن لا ينسوا زيارة السرداب فهو مكان عجيب جدًّا، وقد شوهدت له آثار. ذلك السرداب الذي غاب منه إمام الزمان عليه السلام، وبالطبع ليس هو ذلك المكان الذي حفروه الآن وأخرجوا منه التراب، كلّا، يقولون: لقد دخل إمام الزمان داخل الأرض. بل هو السرداب الذي دخل إليه الإمام عندما جاؤوا في طلبه فلم يُرَ بعد ذلك، والآن له باب ونافذة ـ كان الميرزا يقول: لقد ذهبت إلى السرداب وهذه هي نتيجة عملي. ولم يقل بعد ذلك شيئًا، قال نتيجة ذلك هو ما تراه الآن: اليوم استعمال التنباك والتتن حرام بأيّ نحو كان، وكلّ من ارتكب ذلك فهو في حكم محاربة إمام الزمان عليه السلام. الميرزا لم يكن يتكلّم من نفسه، وكان من الواضح أنّ يد الولاية كانت خلف الميرزا في حادثة التنباك، حتّى بلغ الأمر أنّ ناصر الدين شاه الذي كان يستعمل النارجيلة جاء خدّامه ورموا بها في الأرض أمام عينيه وكسروها. عجيب جدًّا أنّ ملكًا مع كامل سلطانه... فما هذا النفوذ الذي يكمن خلف هذه المسألة، وما هي الإرادة التي نفذت إلى داخل قصر السلطان، فتكسر نارجيلته أمام عينيه.
تتمّة قصّة آية الله مشكوري مع الميرزا
كان المرحوم الميرزا في سامرّاء، وكان رجلاً عظيمًا. يأتي آية الله مشكوري لزيارة الميرزا، يصل إلى الكاظميّة، وكان هناك وكيله والذي يدعى السيّد إسماعيل الصدر وكان هو الآخر من الأعاظم، فقد كان وكلاؤهم أيضًا مثلهم، فلا تتصوّروا أنّه وكيل... ماذا أقول؟! كلاّ، لقد كان وكلاؤهم في المدن وفي البلاد لا يقصرون عنهم، فالسيّد إسماعيل الصدر رحمه الله كان من المراجع، ومن المشار إليهم في التقوى والروحيّة وظهور خوارق العادات. كان في الكاظميّة، وكان وكيلاً.
فعندما أراد [مشكوري] أن ينطلق من الكاظميّة إلى سامرّاء يأتي م+عه رجل غير مناسب، يلتفت إلى أنّه يريد أن يأتي للقاء الميرزا فيأتي معه، يصلان إلى سامرّاء فيستريحون في الليل، ويأتون عند الصباح إلى منزل الميرزا ليستأذنوا. عندما يطرَق الباب يأتي هذا الرجل أيضًا مع آية الله مشكوري ويدخلون... يقول الخادم: من؟ فيقول: قل له جاء مشكوري، ويقول ذلك الرجل: قل له أنّ فلانًا أيضًا موجود. فيمضي الخادم ثمّ يقول: يقول السيّد: ادخل أنت وحدك. فيريد ذلك الرجل أن يدخل وينزعج حيث لم يؤذن له. فالميرزا لم يسمح له ولماذا لم يسمح؟! فقد جاء لزيارته. يدخل مشكوري رحمه الله ويشرع الميرزا بتمجيده والثناء عليه، وبالطبع لم يكن بعد قد بلغ رتبة آية الله، بل كان واحدًا من الطلاب، وكان طالبًا فاضلاً في النجف، وكانت عائلة مشكوري مشهورة في النجف. وعندما يريد الخروج يعطيه الميرزا كيسًا من النقود المعروفة بالأشرفيّة، بل المجيديّة على ما يبدو والتي كانت للعثمانيّين سابقًا، يعطيه كيسًا ويقول: لتكن هذه عندك. كانت قيمتها مرتفعة جدًّا وكانت مبلغًا كبيرًا جدًّا. فيشكره. ثمّ يقول له: تعال غدًا أيضًا. فيأتي إلى تلك الغرفة، فيرى رفيقه أنّه... ـ بالطبع لم يكن رفيقه بل كان مصاحبًا له علّق نفسه به عسى أن يصل إلى الميرزا ـ ينظر فيرى أنّه لم يرجع خالي اليدين، فيقول: لعلّنا غدًا نقوم بعمل. في اليوم التالي يأتيان من جديد معًا إلى منزل الميرزا الشيرازي رحمه الله، يطرقان الباب، فيأتي الخادم ويقول: قال الميرزا ادخل أنت وحدك. يا للعجب! لماذا يصنع الميرزا ذلك؟ فيدخل ومن جديد يتأذّى ذاك الرجل. فما هذا العمل؟ هذه هي المرّة الثانية التي آتي فيها إلى هنا، هذا شيخ وأنا سيّد، فلماذا لا يسمح لي بالدخول؟! هذا ليس صحيحًا. على كلّ حال، انزعج هذا الرجل من جديد، فما هذا التصرّف؟ فيدخل مرّة ثانية ويستقبله المرحوم الميرزا بحفاوة ويعطيه كيسًا آخر، فيصبح معه كيسان. فيتعجّب ذاك الرجل، لماذا يعطيه المال هكذا؟ بالطبع كان الشيخ من عائلة محترمة جدًّا فالميرزا لا يعطي بدون سبب، بل له غاية وراء ذلك. فيأتي من جديد ويلتفت ذاك الرجل أنّه من جديد ذهب ورجع بيد ملأى، فيقول: هل لديك لقاء آخر؟ يقول: نعم قال الميرزا تعال غدًا أيضًا. فقال في نفسه: غدًا سأدخل بأيّ نحو. يبدو أنّه لا ينفع الحديث بكلام هادئ مع الميرزا. في اليوم التالي يأتيان إلى الميرزا ويأتي الخادم من جديد ويقول: يقول الميرزا ادخل أنت وحدك. لقد كان الخادم رجلاً قويّ البنية ولم ينتخبه الميرزا عبثًا. كان الميرزا نفسه نحيفًا ويحتاج إلى رجل كهذا. وعندما يريد أن يدخل ويغلق الخادم الباب، يجعل ذلك الرجل رجله بين دفّتي الباب ولا يدعه يغلقه ويختلف مع الخادم، فيضربه الخادم ويبعده ويغلق الباب ويدخل المنزل. ومن جديد يشرع الميرزا بالحديث مع ذلك الشيخ لنصف ساعة أو أكثر ومن جديد أيضًا يعطيه كيسًا آخر كما يعطيه مبلغًا من المال لأجل الطريق وتتمّة السفر ليرجع إلى النجف. فيأتي ويكون ذاك منزعجًا جدًّا، لقد كان منزعجًا بشكل كامل، قال: لا يمكن هكذا، لا بدّ أن أصل بنفسي إلى الميرزا بأي نحو. والحاصل أنّه يتّفق مع حارس المحلّة ويعطي مالاً لصاحب المتجر الذي هناك ويقول لهم: أريد أن أدخل إلى دار الميرزا، سواء بالسلّم أو بالحبل أو الزنجير، بأي وسيلة أريد أن أدخل إلى داه. فيقول له: لا بأس. فيأخذ منه المال، ويقول له: كيف تريد أن تدخل؟ يقول: أنا أقدر على الدخول من أعلى الجدار ـ وكأنّه رجل خبير بهذه الأمور ـ يقول: أتسلّق الجدار. قال: لا بأس. أنا أعطي المال لذلك الحارس الليلي وأقول له: لا تتردّد في ذلك الوقت من الليل إلى هذا المكان. وأنت اصنع ما شئت. والحاصل أنّ التاجر يرى ذلك الحارس الليلي ويقول له: لا تتردّد في الساعة كذا، هناك رجل يريد أن يتشرّف بمحضر الميرزا. فلا يأتي ذلك الحارس في تلك الليلة. لقد كان ذلك الرجل وحده عبارة من مجموعة كاملة منظمة. فلم يقل شيئًا. والحاصل أنّه تسلّق عبر شريط الكهرباء إلى الأعلى، فقد كان قد مدّ الكهرباء لأجل التلغراف ونحوه، ولم يكن آنذاك كهرباء. فتسلّق الرجل عبره ووصل إلى جدار المنزل، و منه ألقى بنفسه إلى باحة الدار. نظر فإذا الطابق الذي فيه الميرزا مضاء، فمثلاً كان في أواسط الليل، ولا يزال يتابع أعماله. فيأتي فجأة ويفتح الباب، والميرزا النحيف جالس بعمامة خضراء يتابع أعماله والأموال التي أحضرت له أمامه، يريد أن يوزّعها على مستحقّيها ويقول للخادم في اليوم التالي أن يقسّمها حصصًا، ويعيّن لكلّ حصّته. فما إن يرى هذا الرجل ذلك حتّى يقول: ما شاء الله كم هو نصيب عظيم! يا لسعادة حظّي! ينظر فيرى تلّة من الدنانير التي أعطى منها ثلاثة أكياس لذلك الرجل، وهي الآن بهذا الارتفاع إلى جانب الميرزا. والحاصل أنّه لم يسلّم بل يشرع بتعبئتها في عباءته وجيوبه وكلّ ما كان معه، فيملؤها، والميرزا ينظر إليه هكذا. فعندما يعبّئها جميعًا يلتفت إلى الميرزا ويقول: سلام عليكم! فيجيب الميرزا سلامه ثمّ يقول ذلك الرجل: أهذا وضع يا سيّد؟ يقول الميرزا: ماذا صنعنا يا سيّد؟ ماذا صنعنا؟
ـ منذ ثلاثة أيّام وأنا آتي و...
فيقول الميرزا: لقد وصلت في النهاية، وصلت إلى ما تريد. والحاصل أنّ الميرزا يشرع بملاطفته والحديث معه. ثمّ يقول: أنا لا أدري ماذا كانت المسألة، في النهاية لا بدّ أن نطّلع، لم أكن أعلم، اعف عنّي، أنت جئت وقمت بذلك وأنا لا أعلم، أعتذر منك، وعلى أيّ حال حصل اشتباه. ثمّ يقوم هذا الرجل بحمل الكيس ليذهب به فيقول: أنا أريد أن أقول لك أمرًا، أنت الآن تريد أن تأخذ هذا المال، وفي الطريق الأوضاع ليست آمنة ـ وواقعًا الأوضاع كانت كذلك فلا أمان وأمثال ذلك ـ في النهاية أنت أخذت هذا المال فهو لك، فأنت في النهاية سيّد ولا بدّ أنّ جدّك حوّله إليك، ولكن على أيّ حال مع هذه الأحوال من انعدام الأمن وما شابه...
فقال: فماذا نصنع؟ قال: أنا أعطيك ورقة إلى وكيلي السيّد إسماعيل الصدر في الكاظميّة، فعدّ هذا المبلغ وأنا هنا أكتب لك فاذهب أنت وخذه من هناك. فقال: لا بأس. فترك تلك الأموال، وشرع بعدّها، فقام بالكتابة للوكيل: جناب وكيلنا، سيأتي فلان المحترم ويأخذ منك هذا المبلغ. فقد كان يكتب وكان لديه سندات قبض كان يكتبها. فأخذها وذهب إلى السيّد إسماعيل الصدر في الكاظميّة مسرورًا يقول: لا شكّ أنّ هنا ثلاثة أضعاف ما هناك. أعطى الورقة للسيّد الصدر، فنظر إليها نظرة وقال: أهلاً وسهلاً. يقول: ما معنى أهلاً وسهلاً؟ لقد كتب أن تعطيني. قال: لا أنت تشتبه، لقد كتب لا تعطه شيئًا، هذا الرجل كاذب مخادع وكذا. قال: أنا رأيته. قال: نعم الميرزا لديه أوراق مختلفة، بعض الأوراق يكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم وهذه تعني أن أعط، وبعضها يكتب فيها هو القهّار، يعني هذا لا تعطه. وقد كتب لك من هذه. وطبعًا لقد أرسل بعد ذلك إلى الميرزا شيئًا رسالة كتب فيها ما يحلو له. فكتب الميرزا تحتها ـ لدينا آية في القرآن: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا۱ ـ فكتب تحت رسالته: سلام عليكم وأعادها إليه. ولكنّه أرسل لاحقًا إلى وكيله في النجف أن يعطيه شيئًا ويرضيه.
فما حقيقة هذه المسألة؟ إنّها عين ما يصنعه أمير المؤمنين عليه السلام. كلّ إنسان بمقتضى حاله. ثمّ عُلم أنّ هذا الرجل لم يكن إنسانًا صالحًا، وكان ذا فساد أخلاقيّ، واتّضح أنّ الميرزا لم يكن مخطئًا، وقد رأى ذلك بنور الباطن فلم يسمح له بالدخول وأنّه كان فاسد الأخلاق. إنّه مبدأ ومنهج أمير المؤمنين عليه السلام أن يعطى كلاًّ حسب وضعه، فإن كان يعطي هذا المقدار لهذا الرجل فلأنّه يعلم أنّه صاحب عائلة وعشيرة ويعلم بوضعه، يعلم أنّه هو نفسه من أهل الخير، وبأيّ الناس له ارتباط، هذا كلّه أمور ولطائف على الإنسان أن يراعيها في إنفاقه وتصرّفاته.
لقد تأخّر الوقت كثيرًا فنأمل من الله أن يجعلنا متحقّقين بما أوصى به الأعاظم ودعونا إليه فقد دعونا إلى الحقّ وبيّنوا لنا الحقيقة والواقع.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد